تفسير سورة يس

فتح البيان
تفسير سورة سورة يس من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة يس
هي ثلاث أو ثنتان وثمانون آية
والأول أولى :
وهي مكية. قال القرطبي بالإجماع إلا أن فرقة قالت :﴿ ونكتب ما قدموا وآثارهم ﴾ نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيأتي بيان ذلك١.
وعن ابن عباس قال : نزلت بمكة وعن عائشة مثله.
وأخرج الدارمي والترمذي ومحمد بن نصر والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس. من قرأ يس كتب له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات ٢ قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد بن عبد الرحمن. وفي إسناده هرون أبو محمد. وهو شيخ مجهول.
وفي الباب عن أبي بكر ولا يصح لضعف إسناده. أخرج الدارمي وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة ). ٣ قال ابن كثير إسناده جيد.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والطبراني وابن حبان والحاكم والبيهقي عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يس قلب القرآن لا يقرؤها عبد يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له ما تقدم من ذنبه. فاقرؤوها على موتاكم ) ٤. وقد ذكر له أحمد إسنادين أحدهما فيه مجهول والآخر ذكر فيه عن أبي عثمان وقال ليس بالنهدي عن أبيه عن معقل.
وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي : بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من داوم على قراءة يس كل ليلة ثم مات مات شهيدا ).
١ قد ذكر أبو سليمان الدمشقي أنها مدينة وقال: ليس بالمشهور..
٢ اتفق المحدثون على أن من علامات وضع الحديث أن يكون فيه أجر كبير جدا على عمل قليل، فكيف يصح أن من قرأ يس كان له أجر من قرأ القرآن عشر مرات. وهو حديث موضوع أخرجه الترمذي ٤ / ٤٦ والدارمي ٢/ ٤٥٦ وابن كثير في تفسير ٣/ ٥٦٣..
٣ ضعيف الجامع ٥٧٩٧ و ٥٧٩٨ و٥٧٦٦ و٥٨٠٠ و ٥٨٠١..
٤ قال العلماء: معنى (على موتاكم) أي حضره الموت، وذلك لكي يسمع ما فيها من آيات التوحيد والبعث والجزاء – عند مفارقته للدنيا.
أما من مات فعلا فلا يقرأ عليه يس ولا غيرها.
وفي النية أن ننشر في آخر تفسير هذه السورة به ملحق به أبحاث طويلة للمنار وغيره ويظهر به الحق في هذه المسألة وموقف ابن تيمية وابن القيم منها فليراجع. قد نقل عن أحمد قوله: (كانت المشيخة يقولون: إذا قرئت عند الميت خففت الله عنه بها..

(يس) قرأ الجمهور بسكون النون وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش بإدغام النون في الواو التي بعدها، وقرىء بفتح النون وبكسرها، فالفتح على البناء أو على أنه مفعول فعل مقدر تقديره: اتل يس والكسر على البناء أيضاًً كجير، وقيل الفتح والكسر للفرار من التقاء الساكنين، وأما وجه قراءة الجمهور فلكونها مسرودة على نمط التعديد فلا حظ لها من الإعراب، وقرىء بضم النون على البناء كمذ وحيث، وقط.
وقيل على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه يس، ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث، واختلف في معنى هذه اللفظة فقيل: معناها يا رجل، أو يا إنسان. قال ابن الأنباري: الوقف على يس حسن لمن قال: هو افتتاح السورة.
ومن قال: معناه يا رجل لم يقف عليه، وقال سعيد بن جبير وغيره: هو اسم من أسماء محمد ﷺ دليله إنك لمن المرسلين، ومنه قوله تعالى: (سلام على آل ياسين) أي آل محمد ومنه قول الشاعر:
يا نفس لا تمحضي بالنصح جاحدة على المودة إلا آل ياسينا
وسيأتي في الصافات ما المراد بآل ياسين، قال الواحدي قال ابن عباس والمفسرون: يريد يا إنسان يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بكر الوراق: معناه يا سيد البشر، وقال مالك: هو اسم من أسماء الله تعالى. روي ذلك عنه أشهب، وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق أن معناه يا سيد وقال كعب: هو قسم أقسم الله به ورجح الزجاج أن معناه يا محمد.
269
واختلفوا هل هو عربي أو غير عربي؟ فقال سعيد بن جبير وعكرمة حبشي، وقال الكلبي: سرياني، تكلمت به العرب فصار من لغتهم، وقال الشعبي: هو بلغة طي، وقال الحسن: هو بلغة كلب وقد تقدم في طه وفي مفتتح سورة البقرة ما يغني عن التطويل ههنا، والأولى أن يقال: الله أعلم بمراده به.
270
(والقرآن الحكيم) بالجر على أنه مقسم به ابتداء، وقيل هو معطوف على يس على تقدير كونه مجروراً بإضمار القسم، قال النقاش لم يقسم الله لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا لمحمد ﷺ تعظيماً له وتمجيداً. والحكيم المحكم الذي لا يتناقض ولا يتخالف، أو الحكيم قائله أو ذي الحكمة، أو لأنه دليل ناطق بالحكمة بطريق الاستعارة أو متصف بها، والمتصف على الإسناد المجازي، وجواب القسم.
(إنك لمن المرسلين) الذين أرسلوا على طريقه مستقيمة، وهذا رد على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم: (لست مرسلاً)، وقوله:
(على صراط مستقيم) خبر آخر لإن، أي: إنك على الطريق القيم الموصل إلى المطلوب. قال الزجاج: على طريقة الأنبياء الذين تقدموك ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال.
(تنزيل العزيز الرحيم) قرأ نافع وغيره برفع تنزيل على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو تنزيل، ويجوز أن يكون خبراً لقوله " يس " إن جعل اسماً للسورة، وقرىء بالنصب على المصدرية أي نزل الله ذلك تنزيل العزيز، والمعنى: أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم، وقيل: المعنى إنك يا محمد تنزيل العزيز والأول أولى، وقيل: هو منصوب على المدح على قراءة النصب، وعبر سبحانه عن المنزل بالمصدر مبالغة، حتى كأنه نفس التنزيل، وقرىء بالجر على المنعت للقرآن أو البدل منه واللام في قوله:
270
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠)
271
(لتنذر) يجوز أن يتعلق بتنزيل أو بفعل مضمر يدل عليه لمن المرسلين أي أرسلناك لتنذر (قوماً) أي العرب وغيرهم.
(ما أنذر) ما: هي النافية أي لم تنذر (آباؤهم) ويجوز أن تكون ما موصولة أو موصوفة أي: لتنذر قوماً الذي أنذر آباؤهم، أو لتنذرهم عذاباً أنذره آباؤهم، أو مصدرية أي إنذار آبائهم، وعلى القول بأنها نافية المعنى ما أنذر آباؤهم برسول من أنفسهم، ويجوز أن يراد ما أنذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة، وإلا فآباؤهم الأبعدون قد أنذروا بإسماعيل وبعيسى ومن قبلهما.
(فهم غافلون) أي فهم بسبب ذلك غافلون أو فهم غافلون عما أنذرنا به آباءهم، قال أبو السعود: الضمير للفريقين أي فهم جميعاً غافلون وقد ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن المعنى على النفي، وهو الظاهر من النظم القرآني لترتيب فهم غافلون على ما قبله.
(لقد حق القول) اللام هي الموطئة للقسم، أي والله لقد ثبت وتحقق ووجب القول أي: الحكم والقضاء الأزلي أو العذاب (على أكثرهم) أي أكثر أهل مكة أو أكثر الكفار على الإطلاق أو أكثر كفار العرب، وهم من مات على الكفر وأصر عليه طول حياته، فيتفرع قوله:
(فهم لا يؤمنون) على ما قبله بهذا الاعتبار، أي لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه، وقيل: المراد
271
بالقول المذكور هنا قوله سبحانه: (فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك)، وقيل نزلت هذه الآية في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين وجملة
272
(إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً) تقرير لما قبلها مثلت حالهم بحال الذين غلت أعناقهم.
(فهي) أي الأغلال منتهية (إلى الأذقان) جمع ذقن. وهو أسفل اللحيين لأن الغل يجمع اليد إلى العنق فلا يقدرون عند ذلك على الالتفات، ولا يتمكنون من عطفها لأن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن، حلقة فيها رأس العمود، خارجاً من الحلقة إلى الذقن، فلا يخليه يطأطىء رأسه فلا يزال مقمحاً وهو معنى قوله:
(فهم مقمحون) أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم، قال الفراء والزجاج: المقمح الغاض بصره بعد رفع رأسه ومعنى الإقماح: رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمح البعير رأسه وقمح: إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء.
قال الأزهري: أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال إلى أذقانهم ورؤوسهم صعداء فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها، وقال قتادة: معنى مقمحون مغلولون والأول أولى.
وقال أبو عبيدة: قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب، وعنه أيضاًً: هو مثل ضربه الله لهم في امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول، كما يقال: فلان حمار أي لا يبصر الهدى، قال الفراء: هذا ضرب مثل أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله، وهو كقوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) وبه قال الضحاك.
وقيل: الآية إشارة إلى ما يفعل بقوم في النار من وضع الأغلال في أعناقهم كما قال تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم) وقرأ ابن عباس: (إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً) قال الزجاج أي في أيديهم، قال النحاس: وهذه القراءة تفسير، ولا يقرأ بما خالف المصحف، قال: وفي الكلام حذف على
272
قراءة الجماعة أي: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالاً فهي إلى الأذقان.
فلفظ (هي) كناية عن الأيدي لا عن الأعناق والعرب تحذف مثل هذا ونظير (سرابيل تقيكم الحر) أي وسرابيل تقيكم البرد لأن ما وقى من الحر وقى من البرد لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال الله: (فهي إلى الأذقان) فقد علم أنه يراد به الأيدي فهم مقمحون، أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق لأن من غلت يداه إلى ذقنه ارتفع رأسه.
وروي عن ابن عباس أنه قرأ (إنا جعلنا في أيديهم أغلالاً) وعن ابن مسعود أنه قرأ (إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً) كما روي سابقاً عن ابن عباس، وعنه قال: الأغلال ما بين الصدر إلى الذقن فهم مقمحون كما تقمح الدابة باللجام (١).
_________
(١) زاد المسير ٧/ ٦.
273
(وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً) أي منعناهم عن الإيمان بموانع فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد، والسد: بضم السين وفتحها لغتان. قال الضحاك: سداً أي الدنيا وسداً أي الآخرة، قيل: بالعكس (فأغشيناهم) بالغين المعجمة أي غطينا أبصارهم على حذف مضاف، وقرىء: بالعين المهملة من العشا، وهو ضعف البصر، ومنه: (ومن يعش عن ذكر الرحمن) فهم بسبب ذلك.
(لا يبصرون) أي لا يقدرون على إبصار شيء، قال الفراء: فألبسنا أبصارهم غشاوة أي عمى، فهم لا يبصرون سبيل الهدى، وكذا قال قتادة إن المعنى لا يبصرون الهدى، وقال السدي: لا يبصرون محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حين ائتمروا على قتله.
وعن ابن عباس قال: في السد كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يرونه، وعنه أيضاًً قال: " اجتمعت قريش بباب النبي صلى
273
الله عليه وسلم ينتظرون خروجه ليؤذوه فشق ذلك عليه، فأتاه جبريل بسورة يس وأمره بالخروج عليهم، فأخذ كفاً من تراب وخرج وهو يقرؤها ويذر التراب على رؤوسهم، فما رأوه حتى جاز فجعل أحدهم يلمس رأسه فيجد التراب، وجاء بعضهم فقال: ما يجلسكم؟ قالوا ننتظر محمداً فقال: لقد رأيته داخل المسجد، قال: قوموا فقد سحركم " (١).
قال الضحاك في الآية أي عموا عن البعث، وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا، قال تعالى: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، قال البيضاوي، هذا تمثيل آخر بمن أحاط بهم سدان فغطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة، ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل.
_________
(١) وتمام القصة في سيرة ابن هشام ١/ ٤٨٤.
274
(وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) أي إنذارك إياهم وعدمه سواء، وهذا بيان لشأنهم بطريق التوبيخ بعد بيانه بطريق التمثيل، وجملة: (لا يؤمنون) مستأنفة مبينة لما قبلها من الاستواء أو حال مؤكدة أو بدل منه.
وروي أن عمر بن عبد العزيز قرأ هذه الآية على غيلان القدري. فقال: كأني لم أقرأها أشهدك أني تائب عن قولي في القدر. فقال عمر: " اللهم إن صدق فتب عليه، وإن كذب فسلط عليه من لا يرحمه "، فأخذه هشام ابن عبد الملك من عنده فقطع يديه ورجليه وصلبه على باب دمشق.
وعن ابن عباس في الآية قال: " كان النبي ﷺ يقرأ في المسجد فجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه وإذا أيديهم مجموعة بأعناقهم، وإذا هم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي ﷺ فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، قال: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي ﷺ فيهم قرابة، فدعا النبي ﷺ حتى ذهب ذلك عنهم، فنزلت: " يس إلى قوله: لا يؤمنون "، قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد وفي الباب روايات في سبب نزول ذلك هذه الرواية أحسنها وأقربها إلى الصحة.
274
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤)
وقال الزجاج في الآية: أي من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار، وإنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله:
275
(إنما تنذر من اتبع الذكر) أي القرآن (وخشى الرحمن بالغيب) أي في الدنيا.
(فبشره) الفاء لترتيب البشارة أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية أي بشر هذا الذي اتبع الذكر (بمغفرة) عظيمة (وأجر كريم) أي حسن، وهو الجنة، ثم أخبر سبحانه بإحيائه الموتى فقال:
(إنا نحن نحيي الموتى) أي نبعثهم بعد الموت، وقال الحسن والضحاك: أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل، والأول أولى، وهو بيان لشأن عظيم، ينطوي على الإنذار والتبشير انطواء إجمالياً ثم توعدهم بكتب آثارهم فقال: (ونكتب) في صحف الملائكة.
(ما قدموا) أي أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة (وآثارهم) أي ما أبقوه من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت كمن سن سنة حسنة كعلم علموه أو كتاب صنفوه، أو حبس حبسوه، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط، أو قنطرة، أو نحو ذلك، أو السيئات التي تبقى بعد موت فاعلها، كمن سن سُنة سيئة كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاهٍ ونحو ذلك (١). قال مجاهد وابن
_________
(١) من قال معنى آثارهم، خطاهم بأرجلهم استدلوا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم منازلكم فإنما تكتب آثاركم " رواه الترمذي ٢/ ١٥٥ ومن قال إنه الخطا إلى الجمعة ومن قال: إنه من سنه سنة حسنة أو سيئة.
275
زيد: نظيره قوله: (علمت نفس ما قدمت وأخرت)، وقوله (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ)، وقيل: المراد بالآية آثار المشائين إلى المساجد، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين، قال النحاس: وهو أولى ما قيل في الآية لأنها نزلت في ذلك، ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية لا بخصوص سببها، وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشر، والإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره، فلهذا قدم الإحياء.
وقرى: نكتب على البناء للفاعل وللمفعول.
عن أبي سعيد الخدري قال: " كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) فدعاهم رسول الله ﷺ فقال: " إنه يكتب آثارهم ثم قرأ عليهم الآية فتركوا " أخرجه الترمذي وحسنه، والبزار والحاكم وصححه، وغيرهم.
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر قال: " إن بني سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم ويتحولوا قريباً من المسجد فقال لهم رسول الله ﷺ يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم " (١).
(وكل شيء) من أعمال العباد وغيرها كائناً ما كان، وقرأ الجمهور بنصب كل على الاشتغال، وقرىء بالرفع على الابتداء (أحصيناه في إمام) أي كتاب مقتدى به (مبين) موضح لكل شيء، قال مجاهد وقتادة وابن زيد: أراد اللوح المحفوظ، وقالت فرقه: أراد صحائف الأعمال.
_________
(١) رواه الطبري ٢٢/ ١٥٤ والحاكم ٢/ ٤٢٨ والواحدي/٢٠٩ ومسلم ١/ ٤٦٢.
276
(واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية) قد تقدم الكلام على نظير هذا في البقرة والنمل، والمعنى اضرب لأجلهم مثلاً أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلاً، أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية؛ فعلى الأول: لما قال
276
تعالى: (إنك لمن المرسلين) وقال: (لتنذر قوماً) قال قل لهم: ما أنا بدعاً من الرسل، فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية المرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار المقامة، وعلى الثاني لما قال: إن الإنذار لا ينفع من أضله الله: وكتب عليه أنه لا يؤمن قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اضرب لنفسك ولقومك مثلاً، أي مثل لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية، حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا وصبر الرسل على الإيذاء وأنت جئت إليهم واحداً، وقومك أكثر من قوم الثلاثة فإنهم جاؤوا إلى أهل قرية وأنت بعثتك إلى الناس كافة:
والمعنى: واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية، أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية فترك المثل وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب. وقيل لا حاجة إلى الإضمار، بل العنى اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً على أن يكون مثلاً.
وأصحاب القرية مفعولين لـ (اضرب) أو يكون أصحاب القرية بدلاً من (مثلاً) وقد قدمنا الكلام على المفعول الأول من هذين المفعولين؛ هل هو (مثلاً) و (أصحاب القرية) وقد قيل: إن ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها، كما في قوله: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط) ويستعمل أخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيرة لها كما في قوله: (وضربنا لكم الأمثال) أي بينا لكم أحوالاً بديعة غريبة هي في الغرابة كالأمثال.
فقوله سبحانه هنا (واضرب لهم مثلاً) يصح اعتبار الأمرين فيه. قال القرطبي: هذه القرية هي انطاكية في قول جميع المفسرين، وبه قال ابن عباس وبريدة، وهي ذات أعين وسور عظيم من صخر داخله خمسة أجبل، دورها اثني عشر ميلاً، والعواصم بلاد قصبتها انطاكية، وهي بأرض الروم.
(إذ جاءها المرسلون) بدل اشتمال من أصحاب القرية، والمرسلون
277
هم أصحاب عيسى بعثهم إلى أهل انطاكية للدعاء إلى الله وكانوا عبدة أوثان، وإنما أضاف سبحانه الإرسال إلى نفسه في قوله:
278
(إذ أرسلنا إليهم اثنين) لأن عيسى أرسلهم بأمر الله سبحانه ويجوز أن يكون أرسلهم الله بعد رفع عيسى إلى السماء من غير واسطة (فكذبوهما) في الرسالة، وقيل ضربوهما وسجنوهما، وقيل: واسم الاثنين: يوحنا وشمعون، وقيل: أسماء الثلاثة صادق ومصدوق وشلوم، قاله ابن جرير وغيره. وقيل: شمعان ويوحنا وبولس، وقال وهب: اسمهما يحيى وبولس، وقال كعب: صادق وصدوق.
(فعززنا بثالث) قرىء بتشديد الزاي وتخفيفها. قال الجوهري: فعززنا يخفف ويشدد أي قوينا وشددنا فالقراءتان على هذا بمعنى، وقيل: التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا، ومنه (وعزني في الخطاب)، والتشديد بمعنى قوَّينا وكثرنا، قيل: وهذا الثالث هو شمعون، وقيل غيره - وعن ابن عباس قال: " كان بين موسى بن عمران وبين عيسى بن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم تكن بينهما فترة وإنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبي ﷺ خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء.
وهو قوله: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) والذي عزز به شمعون، وكان من الحواريين وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربعاً وثلاثين سنة (١) أخرجه ابن سعد وابن عساكر.
(فقالوا إنا إليكم مرسلون) أي قال الثلاثة جميعاً؛ وجاؤوا بكلامهم هذا مؤكداً لسبق التكذيب للاثنين والتكذيب بهما تكذيب للثالث لأنهم أرسلوا جميعاً بشيء واحد وهو الدعاء إلى الله عز وجل، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما قال هؤلاء الرسل بعد التعزيز لهم بثالث؟ وكذلك جملة:
_________
(١) زاد المسير ٧/ ١١.
278
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (١٥) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٧) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
279
(قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا) فإنها مستأنفة، كأنه قيل: فما قال لهم أهل أنطاكية؟ فقيل: (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا) أي مشاركون لنا في البشرية فليس لكم مزية علينا تختصون بها، والخطاب للثلاثة، ثم صرحوا بجحود إنزال الكتب السماوية فقالوا: (وما أنزل الرحمن من شيء) مما تدعونه أنتم ويدعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم (إن أنتم إلا تكذبون) في دعوى ما تدعون من ذلك.
(قالوا) أي فأجابوهم بإثبات رسالتهم بكلام مؤكد تأكيداً بليغاً لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية، وهو قولهم: (ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) فأكدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم ربنا يعلم وبإن وباللام.
قال الزمخشري: ووجه التكرار أن الأول ابتداء إخبار، والثاني جواب عن إنكار انتهى، وهذا مخالف لما في المفتاح من أنهم أكدوا في المرة الأولى لأن تكذيب الاثنين تكذيب للثالث لاتحاد المقالة، فلما بالغوا في تكذيبهم زادوا التأكيد، وما ذهب إليه الزمخشري نظراً إلى أن مجموع الثلاثة لم يسبق منهم إخبار ولا تكذيب لهم في المرة الأولى، فالتأكيد فيها للاعتناء والاهتمام بالخبر. انتهى، قاله الشهاب.
(وما علينا إلا البلاغ المبين) أي ما يجب علينا من جهة ربنا إلا تبليغ رسالته على وجه الظهور والوضوح بالأدلة الواضحة. وهي إبراء الأكمه والأبرص والمريض، وإحياء الميت، وليس علينا غير ذلك، وهذه جملة
279
مستأنفة كالتي قبلها، وكذلك جملة:
280
(قالوا إنا تطيرنا بكم) فإنها مستأنفة جواباً عن سؤال مقدر، أي إنا تشاءمنا بكم لانقطاع المطر عنا بسببكم. لم يجدوا جواباً يجيبون به على الرسل إلا هذا الجواب، المبني على الجهل، المنبىء عن الغباوة العظيمة وعدم وجود حجة يدفعون الرسل بها، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم بلاء أو نعمة قالوا بشؤم هذا وبركة هذا.
قال مقاتل: حبس عنهم المطر ثلاث سنين فقالوا: هذا بشؤمكم. قيل: إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين، وقيل: إنما تطيروا لما بلغهم من أن كل نبي إذا دعا قومه فلم يجيبوه كان عاقبتهم الهلاك، وأصل التطير التفاؤل بالطير، فإنهم كانوا يزعمون أن الطائر السانح سبب للخير، والبارح سبب للشر، ثم استعمل في كل ما يتشاءم به.
وفي المختار: وطائر الإنسان عمله الذي قلده، والطير أيضاًً الاسم من التطير ومنه قولهم: لا طير إلا طير الله وتطير من الشيء وبالشيء والاسم الطيرة بوزن عنبة، وهو ما يتشاءم به من الفأل الرديء.
وفي الحديث: " أنه كان يحب الفأل ويكره الطيرة "، وقوله تعالى: (قالوا اطيرنا بك) أصله تطيرنا فأدغم، ثم رجعوا إلى التجبر والتكبر لما ضاقت صدورهم، وأعيتهم العلل فقالوا:
(لئن لم تنتهوا) اللام للقسم، أي والله لئن لم تتركوا هذه الدعوى وتعرضوا عن هذه المقالة: (لنرجمنكم) بالحجارة، قال الفراء: عامة ما في القرآن من الرجم المراد به القتل، وقال قتادة: هو على بابه من الرجم بالحجارة.
(وليمسنَّكم منا عذاب أليم) أي شديد فظيع، وقيل: معناه التحريق بالنار أو القتل، وقيل: الشتم، وقيل: هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع
280
خاص، وهذا هو الظاهر لكنهم حنثوا في هذا القسم لأنهم لم يتمكنوا من بره لإهلاك الله لهم.
ثم أجاب عليهم الرسل دفعاً لما زعموه من التطير بهم و
281
(قالوا طائركم معكم) أي شؤمكم معكم من جهة أنفسكم لازم في أعناقكم، وليس هو من شؤمنا. قال الفراء: طائركم أي رزقكم وقدركم وعملكم، وبه قال قتادة، وقرأ الجمهور: طائركم اسم فاعل. أي ما طار لكم من الخير والشر، وقرأ الحسن: اطيركم أي تطيركم.
(أئن ذكرتم) قرىء بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية على الخلاف بينهم في التسهيل والتخفيف وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه، وقرىء بهمزتين مفتوحتين وقرىء أين على صيغة الظرف.
واختلف سيبويه ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب؟ فذهب سيبويه إلى أنه يجاب بالاستفهام، وذهب يونس إلى أنه يجاب بالشرط، وعلى القولين فالجواب هنا محذوف، أي أئن ذكرتم ووعظتم وخوفتم فتطيرتم لدلالة ما تقدم عليه وقرىء: أن ذكرتم بهمزة مفتوحة أي لأن ذكرتم، والقراآت كلها سبعية، ثم أضربوا عما يقتضيه الاستفهام والشرط من كون التذكير سبباً للشؤم أو مصححاً للتوعد فقالوا:
(بل أنتم قوم مسرفون) أي ليس الأمر كذلك، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعصية، فمن ثم أتاكم الشؤم من قبلكم. لا من قبل رسل الله وتذكيرهم، أو بل أنتم مسرفون في تطيركم، قاله قتادة. وقال يحيى بن سلام مسرفون في كفركم، وقال ابن بحر: السرف هنا الفساد، والإسراف في الأصل مجاوزة الحد في مخالفة الحق، أي متجاوزون الحد بشرككم، وهذا لا ينافي كون أهل أنطاكية أول المؤمنين برسل عيسى، فإن الملك وقومه آمنوا وهلاك قاتلي حبيب لا يستلزم هلاك أهل أنطاكية.
281
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤)
282
(وجاء من أقصى المدينة) وهي القرية السابق ذكرها وعبر عنها هنا بالمدينة إشارة لكبرها واتساعها (رجل يسعى) هو حبيب بن مري وكان نجاراً، وقيل: إسكافاً، وقيل قصاراً، وقال مجاهد ومقاتل: هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام، وقال وهب: كان يعمل الحرير.
وقال قتادة: كان يعبد الله في غار فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى، أي يشتد عدواً.
وقال ابن عباس: اسم صاحب يس حبيب وكان الجذام قد أسرع فيه قال القرطبي: وهو ممن آمن بالنبي ﷺ وبينهما ستمائة سنة كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن أحد بنبي غير نبينا، ﷺ إلا بعد ظهوره وأما نبينا فآمن به قبل ظهوره كثير، انتهى. وفيه من البعد والضعف ما لا يخفى ويدفعه قوله سبحانه:
(قال يا قوم اتبعوا المرسلين) أي رسل عيسى عليه السلام، ولم يذكر نبينا ﷺ ولا دلت الآية عليه والجملة مستأنفة كأنه قيل فماذا قال لهم عند مجيئه؟ فقيل: قال إلخ، أي اتبعوا هؤلاء الذين أرسلوا إليكم فإنهم جاؤوا بحق، ثم أكد ذلك وكرره فقال:
(اتبعوا من لا يسألكم) بدل من المرسلين بإعادة العامل أو تابع له (أجراً) على ما جاؤوكم به من الهدى (وهم) أي الرسل (مهتدون) ولو
282
كانوا متهمين بعدم الصدق لسألوكم المال، فاهتدوا أنتم أيضاًً تبعاً لهم، ثم أبرز الكلام في معرض النصيحة لنفسه، وهو يريد مناصحة قومه فقال:
283
(وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي أَيُّ مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني، ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه بل أرادهم بكلامه فقال:
(وإليه ترجعون) أضاف الفطرة إلى نفسه، والرجوع إليهم لأن الفطرة أثر النعمة وكانت عليه أظهر والرجوع فيه معنى الزجر، فكان بهم أليق، ولذلك لم يقل: إليه أرجع، وفيه مبالغة في التهديد وهذه الطريقة أحسن من ادعاء الالتفات ثم عاد إلى المساق الأول وهو التلطف في الإرشاد والنصيحة لقصد التأكيد ومزيد الإيضاح فقال:
(أأتخذ من دونه) أي غيره (آلهة) فجعل الإنكار متوجهاً إلى نفسه، وهم المرادون به أي لا أتخذ من دون الله آلهة وأعبدها، وأترك عبادة من يستحقها وهو الذي فطرني. ثم بين حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكاراً عليهم وبياناً لضلال عقولهم وقصور إدراكهم فقال:
(إن يردن الرحمن بضر) أي بسوء ومكروه شرط وجوابه (لا تغن عني شفاعتهم شيئاًً) من النفع كائناً ما كان أي لا شفاعة لها فتغني عني (ولا ينقذون) من ذلك الضر الذي أرادني الرحمن به وهذه الجملة صفة لآلهة أو مستأنفة لبيان حالها في عدم النفع والدفع.
(إني إذاً) أي إني إذاً اتخذت من دونه آلهة وعبدت غير الله (لفي ضلال مبين) ظاهر واضح لأن إيثار ما لا ينفع ولا يدفع ضراً بوجه ما على الخالق المقتدر على النفع والضر وإشراكه به ضلال بيِّن لا يخفى على عاقل، وهذا تعريض بهم كما سبق، والضلال الخسران.
283
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (٢٩)
ثم صرح بإيمانه تصريحاً لا يبقى بعده شك فقال:
284
(إني آمنت بربكم فاسمعون) وكسر النون، وهي نون الوقاية، وهي اللغة العالية وقرىء بفتحها، وهي غلط. قال المفسرون: أراد القوم قتله فأقبل هو على المرسلين فقال: إني آمنت بربكم أيها الرسل فاسمعوا إيماني، واشهدوا لي به.
وقيل: إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلباً في الدين، وتشدداً في الحق وعدم المبالاة بالقتل، فلما قال هذا القول وصرح بالإيمان وثبوا عليه فقتلوه، وقيل وطؤوه بأرجلهم.
وقال الحسن: حرقوه حرقاً وعلقوه في سور المدينة، وقبره في سور أنطاكية حكاه الثعلبي. وقيل: حفروا له حفيرة وألقوه فيها، وقيل: إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء وهو في الجنة، وبه قال الحسن. وقال السدي: رموه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي، حتى قتلوه. وقيل نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه، فوالله ما خرجت روحه إلا في الجنة فدخلها فذلك قوله تعالى:
(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) أي قيل له ذلك عند موته تكريماً له بدخولها بعد قتله كما هي سنة الله في شهداء عباده ولم يذكر لفظ (له) في نظم الآية لأن الغرض بيان القول دون المقول له فإنه معلوم، وعلى قول من قال إنه رفع إلى السماء ولم يقتل يكون المعنى: إنهم أرادوا قتله فنجاه الله من القتل وقيل له: ادخل الجنة وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة الآن، وعليه فالأمر أمر تكوين لا أمر امتثال على حد قوله: أن يقول له كن فيكون، فالمعنى أدخله الله الجنة سريعاً
284
فلما دخلها ورأى نعيمها وشاهدها.
(قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، أي فماذا قال بعد أن قيل له: ادخل الجنة فدخلها؟ فقال يا ليت قومي.. الخ. وهم الذين قتلوه فنصحهم حياً وميتاً.
قال ابن أبي ليلى: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب، وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يس وهم الصديقون. ذكره الزمخشري و (ما) في
285
(بما) هي المصدرية، وقيل موصولة أي بالذي غفر لي ربي، والباء صلة يعلمون، والعائد محذوف، أي غفره لي ربي، واستضعف هذا لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة وليس المراد إلا التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له، وإليه أشار في التقرير، وقال الفراء: إنها استفهامية جاءت على الأصل بمعنى التعجب.
والباء صلة غفر كأنه قال بأي شيء غفر لي ربي يريد به المهاجرة عن دينهم، والمصابرة على أذيتهم، قال الكسائي: لو صح هذا لقال: بم من غير ألف، ويجاب عنه بأنه قد ورد في لغة العرب إثباتها وإن كان مكثوراً بالنسبة إلى حذفها وفي معنى تمنيه قولان: أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته إرغاماً لهم، وقيل: إنه تمنى أن يعلموا بذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله، ولما وقع ما وقع منهم مع حبيب النجار غضب الله له وعجل لهم النقمة، وأهلكهم بالصيحة فقال:
(وما أنزلنا على قومه من بعده) أي على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له أو من بعد رفع الله له إلى السموات على الاختلاف السابق.
(من جند من السماء) لإهلاكهم وللانتقام منهم، أي لم نحتج إلى إرسال جنود من السماء لإهلاكهم كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: " يوم بدر من إرسال الملائكة لنصرته وحرب أعدائه " (١)، وذلك لأن الله
_________
(١) راجع ما ذكرناه في سورة الأنفال حول نزول الملائكة.
285
أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض لحكمة اقتضت ذلك، وعن ابن مسعود في الآية قال: يقول ما كابدناهم بالجموع، أي الأمر أيسر علينا من ذلك.
(وما كنا منزلين) أي وما صح في قضائنا وحكمتنا أن ننزل لإهلاكهم جنداً لسبق قضائنا وقدرنا بأن إهلاكهم بالصيحة لا بإنزال الجند، وقال قتادة ومجاهد والحسن: أي ما أنزلنا عليهم من رسالة من السمماء ولا نبي بعد قتله، وروي عن الحسن أنه قال: هم الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء والظاهر أن معنى النظم القرآني تحقير شأنهم، وتصغير أمرهم، أي ليسوا بأحقاء بأن ننزل لإهلاكهم جنداً من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحدة كما يفيده قوله:
286
(إن كانت) أي العقوبة أو النقمة أو الأخذة.
(إلا صيحة واحدة) صاح بها جبريل فأهلكهم قرىء: صيحة بالنصب على أن كان ناقصة، واسمها ضمير يعود إلى ما يفهم من السياق كما قدمنا، وقرىء برفعها على أن كان تامة، أي وقع وحدث، وأنكرها أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث في قوله: إن كانت، وقيل: غير ذلك.
وقرأ ابن مسعود إن كانت إلا زقية واحدة والزقية الصيحة، قال النحاس: وهذا مخالف للمصحف، وأيضاًً فإن اللغة المعروفة زقا يزقو إذا صاح ومنه المثل: أثقل من الزواقي فكان يجب على هذا أن يكون زقوة، ويجاب عنه بما ذكره الجوهري. قال: الزقو والزقى مصدر، وقد زقا الصدى يزق زقاً أي صاح، وكل صائح زاق، والزقية الصيحة.
قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حس كالنار إذا طفئت، وهو معنى قوله: (فإذا هم خامدون) ميتون شبههم بالنار إذا طفئت لأن الحياة كالنار الساطعة في الحركة، والالتهاب. والموت: كخمودها.
286
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤)
287
(يا حسرة على العباد) النصب على أنها منادى منكر، كأنه نادى الحسرة وقال لها: هذا أوانك فاحضري، وقيل: إنها منصوبة على المصدرية، والمنادى محذوف والتقدير: يا هؤلاء تحسروا حسرة، وقرىء: بالضم على النداء، قال الفراء في توجيه هذه القراءة: إن الاختيار النصب، وأنها لو رفعت النكرة لكان صواباً. واستشهد بأشياء نقلها عن العرب منها أنه سمع منهم: يا مهتم، بأمرنا لا تهتم.
قال النحاس: وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره، قال: وتقدير ما ذكره: يا أيها المهتم لا تهتم بأمرنا وحقيقة الحسرة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيراً، قال ابن جرير: المعنى يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندماً وتلهفاً في استهزائهم برسل الله، وقرىء: يا حسرة العباد على الإضافة، ورويت هذه القراءة عن أبيّ. وقال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل، وقيل: هي من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة.
وقيل: إن القائل يا (حسرة على العباد) هم الكفار المكذبون، والعباد الرسل، وذلك أنهم لما رأوا العذاب تحسروا على قتلهم وتمنوا الإيمان قاله أبو العالية ومجاهد. وقيل: إن التحسر عليهم هو من الله عز وجل بطريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه، وقرىء: يا حسره بسكون الهاء إجراء للوصل مجرى الوقف، وقرىء يا حسرتا كما قرىء بذلك في سورة الزمر، قال
287
ابن عباس: أي يا ويلاً للعباد، وعنه قال: الندامة على العباد يوم القيامة وأل في العباد للجنس.
(ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) مستأنفة مسوقة لبيان ما كانوا عليه من تكذيب الرسل والاستهزاء بهم، وأن ذلك هو سبب التحسر عليهم، ثم عجب سبحانه من حالهم حيث لم يعتبروا بأمثالهم من الأمم الخالية فقال:
288
(ألم يروا كم أهلكنا) أي ألم يعلموا كثرة من أهلكنا (قبلهم من القرون) التي أهلكناها من الأمم الخالية، والاستفهام للتقرير على حد قوله: (ألم نشرح لك صدرك).
(أنهم إليهم لا يرجعون) بدل من أهلكنا على المعنى، قال سيبويه: إنه بدل من كم وهي الخبرية فلذلك جاز أن يبدل منها ما ليس باستفهام، والمعنى: ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون.
وقال الفراء: كم في موضع نصب من وجهين أحدهما بـ (يروا) والوجه الآخر (بأهلكنا) قال النحاس: القول الأول محال لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها لأنها استفهام ومحال أن يدخل الاستفهام في حيز ما قبله، وكذا حكمها إذا كانت خبراً وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل أنهم بدلاً من كم، وقد رد ذلك المبرّد أشد رد، ثم بين سبحانه رجوع الكل إلى الحشر بعد بيان عدم الرجوع إلى الدنيا فقال:
(وإن كل لما جميع لدينا محضرون) قرىء لما مشدداً ومخففاً، قال: الفراء من شدد جعل لما بمعنى إلا وإن بمعنى ما أي ما كل إلا جميع، ومعنى جميع مجموعون، فهو فعيل بمعنى مفعول، ولدينا ظرف له وأما على قراءة التخفيف فإن هي المخففة من الثقيلة، وما بعدها مرفوع بالابتداء، واللام هي الفارقة بين المخففة والنافية.
قال أبو عبيدة: وما على هذه القراءة زائدة، والتقدير عنده: وإن كل لجميع، والحاصل أن (كل) أشير بها لاستغراق الأفراد وشمولهم، (وجميع) أشير
288
بها لاجتماع الكل في مكان واحد وهو المحشر (١)، وقيل: معنى محضرون معذبون، والأولى أنه على معناه الحقيقي من الإحضار للحساب والجزاء ثم ذكر سبحانه البرهان على التوحيد والحشر مع تعداد النعم وتذكيرها فقال:
_________
(١) قال ابن كثير: وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله عز وجل فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها.
289
(وآية لهم) على البعث والتوحيد (الأرض الميتة) فآية خبر مقدم وتنكيرها للتفخيم، ولهم صفتها أو متعلقة بآية، لأنها بمعنى علامة، والأرض مبتدأ ويجوز أن يكون آية مبتدأ لكونها قد تخصصت بالصفة، وما بعدها الخبر. قرىء ميتة بالتشديد والتخفيف.
(أحييناها) مستأنفة مبينة لكيفية كونها آية، وقيل: هي صفة للأرض فنبههم الله بهذا على إحياء الموتى، وذكرهم نعمه، وكمال قدرته فإنه سبحانه أحيى الأرض بالنبات، وأخرج منها الحبوب التي يأكلونها ويتغذون بها، وهو معنى قوله:
(وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون) وهو ما يقتاتونه من الحبوب وتقديم منه للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل وأكثر ما يقوم به المعاش.
(وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب) أي جعلنا في الأرض جنات من أنواع النخل والعقب وخصهما بالذكر لأنهما أعلى الثمار وأنفعها للعباد والنخل والنخيل بمعنى، والواحدة نخلة، وفي المصباح: النخل اسم جمع، والواحدة نخلة وكل جمع يفرق بينه وبين واحده بالتاء، فأهل الحجاز يؤنثونه وأهل نجد وتميم يذكرونه، وأما النخيل بالياء فمؤنثة. قال ابن أبي حاتم: لا اختلاف في ذلك، والأعناب جمع عنب. والعنب: الواحدة من العنب.
(وفجرنا فيها من العيون) أي فجرنا في الأرض بعضاً من العيون فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، أو المفعول العيون، ومن مزيدة على رأي من جوز زيادتها في الإثبات والمراد بالعيون عيون الماء وقرأ الجمهور بالتشديد، وقرىء: بالتخفيف، والفجر والتفجير كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى واللام في قوله:
289
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧)
290
(ليأكلوا من ثمره) متعلقة بجعلنا والضمير المجرور يعود إلى المذكور من الجنات والنخيل، وقيل هو راجع إلى ماء العيون لأن الثمر منه، قاله الجرجاني، وقرىء ثمره بضمتين وبفتحتين وهما سبعيتان وقرأ الأعمش بضم الثاء وإسكان الميم، وقد تقدم الكلام على هذا في الأنعام.
(وما عملته أيديهم) أي ليأكلوا من ثمره ويأكلوا مما عملته أيديهم كالعصير والدبس ونحوهما وكذلك ما غرسوه وحفروه وعالجوه على أن (ما) موصولة. وفيه تجوز على هذا. وصل: هي نافية، والمعنى لم يعملوه بل العامل له هو الله عز وجل أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها وهو قول الضحاك ومقاتل. وقيل: إنها نكرة موصوفة والكلام فيها كالذي في الموصولة، وقيل إنها مصدرية أي ومن عمل أيديهم والمصدر واقع موقع المفعول به فيعود المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة.
وعن ابن عباس في الآية قال: " وجدوها معمولة لم تعملها أيديهم " يعني الفرات ودجلة ونهر بلخ وأشباهها (أفلا يشكرون) الاستفهام للتقريع والتوبيخ لهم بعدم شكرهم للنعم المعدودة والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي: أيرون هذه النعم؟ أو أيتنعمون بها فلا يشكرونها؟.
(سبحان الذي خلق الأزواج كلها) مستأنفة مسوقة لتنزيهه سبحانه عما وقع منهم من ترك الشكر لنعمه المذكورة والتعجب من إخلالهم بذلك وقد تقدم الكلام مستوفى في معنى سبحان؛ وهو في تقدير الأمر للعباد بأن ينزهوه عما لا يليق به؛ والأزواج الأنواع والأصناف فكل زوج صنف لأنه مختلف في
290
الألوان والطعوم والأشكال والصغر والكبر فاختلافها هو ازدواجها قال قتادة يعني الذكر والأنثى (مما تنبت الأرض) بيان للأزواج والمراد كل ما نبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها لأنه أصناف.
(ومن أنفسهم) أي خلق الأزواج من أنفسهم وهم الذكور والإناث (ومما لا يعلمون) من أصناف خلقه في البر والبحر والسماء والأرض ففي الأودية والبحار أشياء لا يعلمها الناس؛ ولم يطلعهم الله عليها، ولا توصلوا إلى معرفتها ووجه الاستدلال في هذه الآية أنه إذا انفرد بالخلق فلا ينبغي أن يشرك به.
291
(وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) الكلام في هذا كما قدمنا في قوله (وآية لهم الأرض) الخ والمعنى أن ذلك علامة دالة على توحيد الله وقدرته، ووجوب إلهيته. والسلخ الكشط والنزع، يقال: سلخه الله من بدنه، ثم يستعمل بمعنى الإخراج فجعل سبحانه ذهاب الضوء ومجيء الظلمة كالسلخ من الشيء وهو استعارة بليغة.
(فإذا هم مظلمون) أي داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة. يقال: أظلمنا أي دخلنا في ظلام الليل، وأظهرنا دخلنا في وقت الظهر، وكذلك أصبحنا وأمسينا، وقيل منه بمعنى عنه. والمعنى نسلخ عنه ضوء النهار فإذا هم في ظلمة لأن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء، فإذا خرج منه أظلم.
قال الفراء: يرمي بالنهار على الليل فيأتي بالظلمة، وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليه، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل أي كشط وأزيل فتظهر الظلمة، وظاهره يشعر بأن النهار طارىء على الليل، قال المرزوقي في الآية: دلت على أن الليل قبل النهار لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ كما أن المغطى قبل الغطاء، لكن كلامه في سورة الرعد مؤذن بأن بين الليل والنهار توالجاً وتداخلاً، قال تعالى: (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل).
291
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
292
(والشمس تجري لمستقر لها) يحتمل أن تكون الواو للعطف على الليل والتقدير: وآية لهم الشمس، ويجوز أن تكون ابتدائية، والشمس مبتدأ وما بعدها الخبر، ويكون الكلام مستأنفاً مشتملاً على ذكر آية مستقلة. قيل: وفي الكلام حذف، والتقدير تجري لمجرى مستقرٍ لها أي تنتهي في سيرها لأجل مستقر لها.
وقيل: اللام بمعنى إلى، قيل: والمراد بالمستقر يوم القيامة فعنده تستقر فلا تبقى لها حركة، وقيل: مستقرها هو أبعد ما تنتهي إليه ولا تجاوزه، وقيل: نهاية ارتفاعها في الصيف، ونهاية هبوطها في الشتاء، وقيل: مستقرها تحت العرش لأنها تذهب إلى هنالك فتسجد فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، وهذا هو الراجح.
وقال الحسن: إن للشمس في السنة ثلثمائة وستين مطلعاً تنزل في كل يوم مطلعاً، ثم لا تنزل إلى الحول، فهي تجري في تلك المنازل وهو مستقرها.
وقيل: إن الشمس في الليل تسير وتشرق على عالم آخر من أهل الأرض، وإن كنا لا نعرفه (١)، ويؤيد هذا القول ما قاله الفقهاء في باب المواقيت.
كالشمس الرملي من أن الأوقات الخمسة تختلف باختلاف الجهات والنواحي فقد يكون المغرب عندنا عصراً عند آخرين، ويكون الظهر صبحاً عند آخرين، وهكذا، وقيل غير ذلك، وقرىء لا مستقر لها بلا التي لنفي الجنس، وبناء مستقر على الفتح وقرىء لا مستقر، بلا التي بمعنى ليس،
_________
(١) ينبغي التعليق على قوله: وقيل: إن الشمس في الليل تسير وتشرق على عالم آخر من أهل الأرض وإن كنا لا نعرفه.. الخ.. بالقول: إن الشمس تشرق على عالم آخر حينما تغيب عنا، ولكن لا تسير الشمس بل بسير ودوران الأرض نفسها، كما أثبت العلم حديثاً.
292
ومستقر اسمها ولها خبرها.
(ذلك) أي ذلك الجري على ذلك الحساب الذي يكل النظر عن استخراجه وتتحير الأفهام عن استنباطه (تقدير العزيز) أي الغالب القاهر بقدرته على كل مقدور (العليم) أي المحيط علمه بكل شيء، ويحتمل أن تكون الإشارة راجعة إلى المستقر أي ذلك المستقر تقدير الله.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال: سألت رسول الله ﷺ عن قوله: (والشمس تجري لمستقر لها) قال: مستقرها تحت العرش (١).
وفي لفظ للبخاري وغيره من حديثه قال: كنت مع النبي ﷺ في المسجد عند غروب الشمس فقال: يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله: والشمس تجري لمستقر لها.
وفي لفظ من حديثه أيضاًً عند أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم، قال: " يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه؟ قلت الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها فتستأذن في الرجوع فيأذن لها، وكأنها قد قيل لها: اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، ثم قرأ ذلك مستقر لها، وذلك قراءة عبد الله وأخرج الترمذي والنسائي وغيرهما من قول ابن عمر نحوه.
قال النووي: اختلف المفسرون فيه، فقال جماعة بظاهر الحديث، قال الواحدي: فعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع، وقيل: تجري إلى مستقر لها وأصل لا تتعداه وعلى هذا فمستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا، وأما سجود الشمس فهو تمييز
_________
(١) رواه البخاري في صحيحه ٦/ ٢١٤ و٨/ ٤١٦ و١٣/ ٣٥٠ ومسلم ١/ ١٣٩ والترمذي ٢/ ١٥٥ وقال: هذا حديث حسن صحيح والسيوطي في الدر ٥/ ٢٦٣ وللنووي في شرح مسلم ٢/ ١٩٥ كلام فليراجع هناك.
293
وإدراك يخلقه الله تعالى فيها والله أعلم (١).
_________
(١) زاد المسير ٧/ ١٨.
294
(والقمر قدرناه منازل) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو برفع القمر على الابتداء، وقرأ الباقون بالنصب على الاشتغال، وانتصاب منازل على أنه مفعول لأن قدرنا بمعنى صيرنا، ويجوز أن يكون منتصباً على الحال. أي قدرنا سيره حال كونه ذا منازل، ويجوز أن يكون منتصباً على الظرفية أي في منازل، واختار أبو عبيد النصب في القمر، قال: لأن قبله فعلاً وهو، نسلخ وبعده فعلاً وهو: قدرنا.
قال النحاس: أهل العربية جميعاً فيما علمت على خلاف ما قال، منهم الفراء قال الرفع أعجب إليّ. قال: وإنما كان الرفع عندهم أولى لأنه معطوف على ما قبله، ومعناه: وآية لهم القمر، قال أبو حاتم: الرفع أولى لأنك شغلت الفعل عنه بالضمير فرفعته بالابتداء.
والمنازل هي الثمانية والعشرون التي ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين، ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر وهي معروفة، وسيأتي ذكرها، فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة ثم يستتر ليلتين ثم يطلع هلالاً فيعود في قطع تلك المنازل في الفلك كالعرجون.
أخرج الخطيب عن ابن عباس في الآية قال: " هي ثمانية وعشرون منزلاً ينزلها القمر في كل شهر، أربعة عشر منها شامية وأربعة عشر منها يمانية، فأولها الشرطين والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك. وهو آخر الشامية،
294
والغفر والزباني والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية ومقدم الدلو ومؤخر الدلو والحوت وهو آخر اليمانية ".
سئل الرملي: هل القمر الموجود في كل شهر هو الموجود في الآخر أو غيره؟ فأجاب بأن في كل شهر قمراً جديداً (١)، انتهى، وهذا يدل على صحة تجدد الأمثال إن ثبت بالنص من الشارع. ويمكن بمثله القول في الشمس لكن لا دليل على ذلك كله.
(حتى عاد) في آخر منازله في رأى العين (كالعرجون القديم) هو عود الشمراخ بالضم إذا يبس واعوج والقديم الذي أتى عليه الحول فإذا قدم عتق ويبس وتقوس واصفر فشبه القمر به من ثلاثة أوجه. فإذا سار هذه الثمانية وعشرين منزلاً عاد كالعرجون القديم كما كان في أول الشهر، وهذا يدفع ما ذكره الرملي فليتأمل.
وقال ابن عباس: العرجون القديم أصل العذق العتيق، قال الزجاج العرجون هو عود العذق الذي فيه الشماريخ، وهو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف، أي سار في منازله حتى إذا كان في آخرها دق واستقوس وصغر حتى صار كالعرجون القديم، وعلى هذا فالنون زائدة.
قال قتادة: هو العذق اليابس المنحني من النخلة، قال ثعلب: العرجون الذي يبقى في النخلة إذا قطعت، والقديم البالي. وقال الخليل: العرجون أصل العذق، وهو أصفر عريض يشبه به الهلال إذا انحنى، وكذا قال الجوهري: إنه أصل العذق الذي يعوج ويقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابساً، وعرجنه ضربه بالعرجون وعلى هذا فالنون أصلية قرأ الجمهور:
بضم العين والجيم وقرىء: بكسر العين وفتح الجيم وهما لغتان.
_________
(١) لا صحة لما قاله الرملي. فقد ثبت بالدليل العلمي أن القمر واحد.
295
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (٤٢)
296
(لا الشمس ينبغي لها) مرفوعة بالابتداء أي لا يصح ولا يمكن للشمس ولا يستقيم ولا يتسهل (أن تدرك القمر) في سرعة السير وتنزل في المنزل الذي فيه القمر وتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه فتطمس نوره لأن ذلك يخل بتكوين النبات وتعييش الحيوان، ولأن لكل واحد منهما سلطاناً على انفراده فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر فيذهب سلطانه إلى أن يأذن الله بالقيامة فتطلع الشمس من مغربها، ويفهم من الآية أن حركتها بالتسخير لا بإرادتها.
ونفى الله تعالى الإدراك عن الشمس دون عكسه، لأن مسير القمر أسرع، لأنه يقطع فلكه في شهر، والشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، فكانت جديرة بأن توصف بنفي الإدراك لبطء سيرها، وكان القمر خليقاً بأن يوصف بنفي السبق لسرعة سيره كما سيأتي (١)، وقال الضحاك: معناه إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء، وقال مجاهد: أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر، وقال الحسن إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة، وكذا قال يحيى بن سلام.
وقيل: معناه إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منزل لا يشتركان فيه، وقيل: القمر في سماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة ذكره النحاس والمهدوي، قال النحاس وأحسن ما قيل في معناه وأبينه أن سير القمر سريع والشمس لا تدركه في السير (٢)، وأما قوله تعالى: وجمع الشمس والقمر
_________
(١) للقمر مداره، كما أن للأرض مدارها، والقمر كما هو معروف يدور حول الأرض والأرض تدور حول الشمس، والقمر يتبع الأرض بدورانها أيضاًً، كما ثبت علمياً. فالكلام المذكور غير صحيح.
(٢) للقمر مداره، كما أن للأرض مدارها، والقمر كما هو معروف يدور حول الأرض والأرض تدور حول الشمس، والقمر يتبع الأرض بدورانها أيضاًً، كما ثبت علمياً. فالكلام المذكور غير صحيح.
296
فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على ما تقدم بيانه في الأنعام، ويأتي في سورة القيامة أيضاًً، وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا وقيام الساعة.
(ولا الليل سابق النهار) أي لا يسبقه فيفوته، ولكن يعاقبه ويجيء كل واحد منهما في وقته، ولا يسبق صاحبه. وقيل: المراد من الليل والنهار آيتاهما وهما الشمس والقمر، فيكون عكس قوله: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر أي ولا القمر سابق الشمس، وإيراد السبق مكان الإدراك لسرعة سير القمر وهما نيران لا يزال أمرهما على هذا الترتيب إلى أن تقوم الساعة، فيجمع الله بين الشمس والقمر، وتطلع الشمس من مغربها. وهذا لا ينافي أن الليل برمته سابق في الوجود على النهار برمته، وهو أحد قولين.
واستدل بعضهم بهذه الآية على أن النهار مخلوق قبل الليل وأن الليل لم يسبقه بالخلق ووجه الاستدلال: أن المعنى ليس الليل سابق النهار، يعني بل النهار هو السابق وهذا ينظر إلى مقابلة جملة الليل بجملة النهار، والآية محتملة لكل من القولين.
(وكل في فلك يسبحون) التنوين في كل عوض من المضاف إليه أي وكل واحد منهما والفلك هو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة، قال العماد بن كثير في البداية والنهاية: حكى ابن حزم وابن الجوزي وغير واحد الإجماع على أن السموات كرية مستديرة واستدل عليه بهذه الآية. قال الحسن: يدورون.
وقال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل قالوا: ويدل على ذلك أن الشمس تغرب كل ليلة من المغرب ثم تطلع في آخرها من الشرق. قال: ابن حجر حكى الإجماع على أن السموات مستديرة جمع وأقاموا عليه الأدلة وخالف في ذلك فرق يسيرة من أهل الجدل وقال ابن العربي: السموات
297
ساكنة لا حركة فيها جعلها الله ثابتة مستقرة هي لنا كالسقف للبيت، ولهذا سماها السقف المرفوع.
واستخرج أهل البديع من لفظ كل في فلك صنعة القلب، ونحوه قوله تعالى: (وربك فكبر) والسبح السير بانبساط وسهولة، والجمع باعتبار اختلاف مطالعهما فكأنهما متعددان بتعددها أو المراد الشمس والقمر والكواكب، ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعاً آخر مما امتن به على عباده من النعم فقال:
298
(وآية لهم) ارتفاع آية على أنها خبر مقدم والمبتدأ أنا حملنا أو العكس، أي علامة ودلالة، وقيل: معنى آية هنا العبرة، وقيل: النعمة، وقيل: النذارة، وقد اختلف في معنى.
(أنا حملنا ذريتهم) وإلى من يرجع الضمير لأن الضمير الأول وهو قوله: وآية لهم لأهل مكة أو لكفار العرب أو للكفار على الإطلاق الكائنين في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل: الضمير يرجع إلى القرون الماضية، والمعنى: أن الله حمل ذرية القرون الماضية.
(في الفلك المشحون) فالضميران مختلفان، وهذا حكاه النحاس عن الأخفش، وقيل: الضميران لكفار مكة ونحوهم، والمعنى: أن الله حمل ذرياتهم من أولادهم وضعفائهم على الفلك فامتن الله عليهم بذلك، أي أنهم يحملونهم معهم في السفن إذا سافروا أو يبعثون أولادهم للتجارة لهم فيها، وإنما ذكر ذريتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليه، وأبلغ في التعجب من قدرته، وقيل: الذرية الآباء والأجداد، والفلك: هو سفينة نوح أي أن الله حمل آباء هؤلاء وأجدادهم في سفينة نوح.
قال الواحدي: والذرية تقع على الآباء كما تقع على الأولاد، قال أبو
298
عثمان: وسمى الآباء ذرية لأن منهم ذرء الأبناء وقيل الذرية النطف الكائنة في بطون النساء، وشبه البطون بالفلك المشحون. قاله علي بن أبي طالب ذكره الماوردي والراجح القول الثاني ثم الأول ثم الثالث، وأما الرابع: ففي غاية البعد والنكارة وقد تقدم الكلام في الذرية واشتقاقها في سورة البقرة مستوفى.
وقيل: إن الضمير في قوله (لهم) يرجع إلى العباد المذكورين في قوله يا حسرة على العباد، لأنه قال بعد ذلك: (وآية لهم الأرض الميتة)، وقال: (وآية لهم الليل)، ثم قال: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ)، فكأنه قال: وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد، ولا يلزم أن يكون المراد بأحد الضميرين البعض منهم، وبالضمير الآخر البعض الآخر وهذا قول حسن. والمشحون: المملوء الموقر، والفلك يطلق على الواحد والجمع كما تقدم في يونس.
عن أبي مالك في الآية قال في سفينة نوح: حمل فيها من كل زوجين اثنين، وعن أبي صالح نحوه، وعنه في الآية قال: يعني الإبل خلقها الله كما رأيت فهي سفن البر يحملون عليها ويركبونها، ومثله عن الحسن وعكرمة وعبد الله بن شداد ومجاهد.
299
(وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) أي وخلقنا لهم مما يماثل الفلك ما يركبونه على أن (ما) هي الموصولة ومن زائدة وقال مجاهد وقتادة وجماعة من أهل العلم من المفسرين وهي الإبل خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر، والعرب تسمي الإبل سفائن البر، وقيل: المعنى وخلقنا لهم سفناً أمثال تلك السفن يركبونها، قاله الحسن والضحاك وأبو مالك، وقال النحاس: وهذا أصح لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس، وقيل: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح. قلت: والعموم أولى ولا وجه للتخصيص، فيشمل كل ما يركب حيواناً كان أو جماداً دخاناً كان أو ريحاً، كالعجلات الحادثة في هذا الزمان، وما سيحدث في المستقبل بتلاحق الأفكار وتعامل الأيدي والأنظار.
299
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٤٤) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٤٧)
300
(وإن نشأ نغرقهم) هذا من تمام الآية التي امتن الله بها عليهم ووجه الامتنان أنه لم يغرقهم في لجج البحار مع قدرته على ذلك، أولم يحرقهم بنار العجلات الدخانية الحادثة الآن، والضمير يرجع إلى أصحاب الذرية أو إلى الذرية أو إلى الجميع على اختلاف الأقوال.
(فلا صريخ لهم) الصريخ: بمعنى المصرخ والمصرخ هو المغيث أي فلا مغيث لهم يغيثهم إن شئنا إغراقهم أو إحراقهم، وقيل هو المنعة وكما يطلق الصريخ على المغيث يطلق على الصارخ وهو المستغيث، فهو من الأضداد كما صرح به أهل اللغة، ويكون مصدراً بمعنى الإغاثة لأنه في الأصل بمعنى الصراخ، وهو صوت مخصوص وكل منهما صحيح هنا قاله الشهاب.
(ولا هم ينقذون) أي لا يخلصون ولا ينجون. يقال: أنقذه واستنقذه إذا خلصه من مكروه
(إلا رحمة منا) استثناء مفرغ من أعم العلل، أي لا صريخ لهم ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة منا، كذا قال الكسائي والزجاج وغيرهما، وقيل: هو استثناء منقطع أي لكن لرحمة منا.
(ومتاعاً) أي نمتعهم بالحياة الدنيا (إلى حين) وهو الموت، قاله قتادة، وقال يحيى بن سلام إلى القيامة.
(وإذا قيل لهم) بيان لإعراضهم عن الآيات التنزيلية بعد بيان إعراضهم عن الآيات الآفاقية التي كانوا يشاهدونها وعدم تأملهم فيها (اتقوا ما بين أيديكم) من الآفات والنوازل فإنها محيطة بكم.
300
(وما خلفكم) منها قال قتادة: أي اتقوا ما بين أيديكم من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم، وما خلفكم في الآخرة. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: ما بين أيديكم ما مضى من الذنوب وما خلفكم ما بقي منها، وقيل: ما بين أيديكم الدنيا وما خلفكم الآخرة، قاله سفيان وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس، وقيل: ما بين أيديكم ما ظهر لكم وما خلفكم ما خفي عنكم وجواب إذا محذوف، والتقدير إذا قيل لهم ذلك أعرضوا كما يدل عليه إلا كانوا عنها معرضين.
(لعلكم ترحمون) أي رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا أو راجين أن ترحموا.
301
(وما تأتيهم من آية من آيات ربهم) ما هي النافية وصيغة المضارع للدلالة على التجدد ومن الأولى مزيدة للتوكيد والثانية للتبعيض والمعنى: ما تأتيهم من آية دالة على نبوة محمد ﷺ وعلى صحة ما دعا إليه من التوحيد في حال من الأحوال.
(إلا كانوا عنها معرضين) وظاهره يشمل الآيات التنزيلية والتكوينية، والمراد بالإعراض عدم الالتفات إليها وترك النظر الصحيح فيها، وهذه الآية متعلقة بقوله: يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون إذا جاءتهم الرسل كذبوا، وإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها.
(وإذا قيل لهم) إشارة إلى أنهم أخلوا بجميع التكاليف لأن جملتها ترجع إلى أمرين: التعظيم لجانب الله والشفقة على خلق الله.
(أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أي تصدقوا على الفقراء مما أعطاكم الله وأنعم به عليكم من الأموال، قال الحسن: يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء، وقال مقاتل: إن المؤمنين قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله سبحانه: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً) فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله:
301
(قال الذين كفروا للذين آمنوا) استهزاء بهم وتهكماً بقولهم.
(أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)؟ أي من لو يشاء الله رزقه؟ وقد كانوا سمعوا المسلمين يقولون: إن الرازق هو الله، وإنه يغني من يشاء ويفقر من يشاء، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمسلمين، وقالوا: نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله وهذا غلط منهم ومكابرة ومجادلة بالباطل فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه وأفقر بعضاً ابتلاء، فمنع الدنيا من الفقير لا بخلاً، وأعطى الدنيا للغني لا استحقاقاً وأمر الغني أن يطعم الفقير وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة ولا اعتراض لأحد في مشيئة الله وحكمته في خلقه. والمؤمن يوافق أمر الله.
وقولهم: من لو يشاء الله أطعمه هو وإن كان كلاماً صحيحاً في نفسه ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله وإنكار جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلاً.
(إن أنتم) في قولكم لنا ذلك مع معتقدكم هذا (إلا في ضلال مبين) أي بين وهذا من تمام كلام الكفار، والمعنى أنكم أيها المسلمون في سؤال المال وأمرنا بإطعام الفقراء لفي ضلال في غاية الوضوح والظهور، وقيل: هو من كلام الله سبحانه جواباً على هذه المقالة التي قالها الكفار، وقيل: هو من قول أصحاب النبي ﷺ لهم:
وقال القشيري والماوردي: إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة وقد كان في كفار قريش وغيرهم من سائر العرب قوم يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع فقالوا هذه المقالة استهزاء بالمسلمين ومناقضة لهم، وحكى نحو هذا القرطبي عن ابن عباس ولهذا أظهر في مقام الإضمار قيل: كان العاص بن وائل السهمي إذا سأله المسكين قال له: اذهب إلى ربك فهو أولى مني بك، ويقول: قد منعه الله أفأطعمه أنا (١).
_________
(١) ذكر هذا المعنى الخازن في تفسيره.
302
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
303
(ويقولون متى هذا الوعد) الذي تعدوننا به من البعث والعذاب والقيامة والمصير إلى الجنة والنار، وهذا رجوع للكلام مع الكفار من قريش المعترفين بوجود الله تعالى.
(إن كنتم صادقين) فيما تقولونه وتعدوننا به. قالوا ذلك استهزاء منهم، وسخرية بالمؤمنين، ومقصودهم إنكار ذلك بالمرة ونفي تحققه وجحد وقوعه، فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله:
(ما ينظرون) أي ما ينتظرون.
(إلا صيحة واحدة) وهي نفخة إسرافيل في الصور، وهذه النفخة هي الأولى وهي نفخة الصعق التي يموت بها من كان موجوداً على وجه الأرض، وجعلوا منتظرين نظراً إلى قولهم متى تقع لأن من قال: متى يقع الشيء الفلاني يفهم من كلامه أنه ينتظر وقوعه.
(تأخذهم وهم يخصمون) أي يختصمون في ذات بينهم في البيع والشراء ونحوهما من أمور الدنيا، ويتكلمون في الأسواق والمجالس وفي متصرفاتهم فتأتيهم الساعة أغفل ما كانوا عنها، وقد صح هذا في الأحاديث الصحيحة وهي معروفة في كتب السنة (١)، وقرىء يخصمون بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصم يخصم والمعنى يخصم بعضهم بعضاً وقرىء بإخفاء فتحة
_________
(١) مسلم/٢٩٥٤.
303
الخاء وتشديد الصاد وبإظهار فتحة الخاء وتشديد الصاد وبكسر الخاء وتشديد الصاد والأصل في القراآت الثلاث يختصمون وقرأ أبي على الأصل والقراآت كلها سبعية.
304
(فلا يستطيعون توصية) أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما له وما عليه، أو لا يستطيع أن يوصيه بالتوبة والإقلاع عن المعاصي، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم. قال أبو هريرة: " تقوم الساعة والناس في أسواقهم يتبايعون ويذرعون الثياب ويحلبون اللقاح، وفي حوائجهم فلا يستطيعون توصية " الآية.
وعن الزبير بن العوام قال: " إن الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب، والرجل يحلب الناقة " ثم قرأ الآية.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله ﷺ لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه. ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته ولا يطعمه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها ".
(ولا إلى أهلهم يرجعون) أي إلى منازلهم التي ماتوا خارجين عنها بل يموتون حيث يسمعون الصيحة لأن الساعة لا تمهلهم بشيء، وقيل: المعنى لا يرجعون إلى أهلهم قولاً، وهذا إخبار عما ينزل بهم عند النفخة الأولى ثم أخبر سبحانه عما ينزل بهم عند النفخة الثانية فقال:
(ونفخ في الصور) وهي النفخة التي يبعثون بها من قبورهم وما بين النفختين أربعون سنة.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة أربعين يوماً قال أبيت قالوا: أربعين شهراً؟ قال: أبيت. قالوا: أربعين سنة. قال: أبيت، ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا
304
عظماً واحداً وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة " (١). وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي حيث قال:
(ونفخ) تنبيهاً على تحقق وقوعه كما ذكره أهل البيان، وجعلوا هذه الآية مثالاً له، والصور بإسكان الواو: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل كما وردت بذلك السنة وإطلاق هذه الاسم على القرن معروف في لغة العرب وقد مضى هذا مستوفى في سورة الأنعام، وقال قتادة: الصور جمع صورة أي نفخ في الصور الأرواح.
(فإذا هم من الأجداث) أي القبور جمع جدث وهو القبر وقرىء الأجداف بالفاء وهي لغة واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة.
(إلى ربهم ينسلون) أي يسرعون ويعدون ويخرجون منها أحياء بسرعة بطريق الجبر والقهر، لا بطريق الاختيار، فالنسل والنسلان الإسراع في السير يقال: نسل الذئب ينسل كضرب يضرب، ويقال: ينسل بالضم أيضاًً وهو الإسراع في المشي.
_________
(١) وهذا اللفظ لمسلم.
305
(قالوا) عند بعثهم من القبور بالنفخة.
(يا ويلنا) نادوا ويلهم كأنهم قالوا له: احضر فهذا أوان حضورك، وهو مصدر لا فعل له من لفظه، بل من معناه وهو هلك، وهؤلاء القائلون هم الكفار. قال ابن الأنباري: الوقف على يا ويلنا وقف حسن، ثم يبتدىء الكلام بقوله:
(من بعثنا من مرقدنا) أي مضجعنا ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياماً. قرىء: من بعثنا على الاستفهام وبكسر الميم على أنها حرف جر وفي قراءة أبيّ: من أهبنا من هب من نومه إذا انتبه، وقيل: إنهم يقولون ذلك إذا عاينوا جهنم.
وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وعن أبيّ بن كعب في الآية قال: " ينامون
305
قبل البعث نومة "، وعن مجاهد: أنهم يستريحون من العذاب قبيل النفخة الثانية ويذوقون طعم النوم، انتهى. فعليه يكون قولهم من مرقدنا حقيقة لأن المرقد حقيقة هو مكان النوم وقيل: إن الله يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون. فإذا بعثوا في الثانية عاينوا أهوال القيامة ودعوا بالويل.
(هذا ما وعد الرحمن) جواب عليهم من جهة الملائكة أو من جهة المؤمنين المتقين وقيل: هو من كلام الكفرة يجيب به بعضهم على بعض. قال بالأول الفراء وبالثاني مجاهد، وقال قتادة: هي من قول الله سبحانه و (ما) في (ما وعد) موصولة وعائدها محذوف، أي هذا الذي وعده الرحمن.
(وصدق) فيه (المرسلون) قد حق عليكم ونزل بكم، ومفعولا الوعد والصدق محذوفان، أي وعدكموه الرحمن وصدقكموه المرسلون، والأصل وعدكم به وصدقكم فيه أو وعدناه الرحمن وصدقناه المرسلون، على أن هذا من قول المؤمنين أو من قول الكفار أقروا حين لا ينفعهم الإقرار.
306
(إن) أي ما (كانت) تلك النفخة الثانية التي حكيت عنهم آنفاً (إلا صيحة واحدة) صاحها إسرافيل بنفخه في الصور (فإذا هم جميع لدينا محضرون) أي فإذا هم مجموعون محضرون لدينا بسرعة للحساب والعقاب.
(فاليوم لا تظلم نفس) من النفوس (شيئاًً) مما تستحقه أي لا ينقص من ثواب عملها شيئاًً من النقص، ولا تظلم فيه بنوع من أنواع الظلم، وهذا حكاية لما سيقال لهم حين يرون العذاب المعد لهم تحقيقاً للحق وتقريعاً لهم.
(ولا تجزون إلا) جزاء (ما كنتم تعملون) في الدنيا أو إلا بما كنتم تعملونه أي بسببه أو في مقابلته، ولما ذكر الله سبحانه حال الكافرين أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين، وجعله من جملة ما يقال للكفار يومئذ زيادة لحسرتهم، وتكميلاً لجزعهم، وتتميماً لما نزل بهم من البلاء. وما شاهدوه من الشقاء، فإذا رأوا ما أعد الله لهم من العذاب وما أعده لأوليائه من أنواع النعيم بلغ ذلك من قلوبهم مبلغاً عظيماً، وزاد في ضيق صدورهم زيادة لا يقادر قدرها فقال:
306
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (٥٦)
307
(إن أصحاب الجنة اليوم في شغل) لما هم فيه من اللذات التي هي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، عن الاهتمام بأمر الكفار ومصيرهم إلى النار، وإن كانوا من قراباتهم، والأولى عدم تخصيص الشغل بشيء معين والشغل هو الشأن الذي يصد المرء ويشغله عما سواه من شؤونه، لكونه أهم عنده من الكل، إما لإيجابه كمال المسرة والبهجة، أو كمال المساءة والغم، والمراد هنا هو الأول وما فيه من التنكير والإبهام للإيذان بارتفاعه عن رتبة البيان.
وقال قتادة ومجاهد: شغلهم ذلك اليوم بافتضاض العذارى وبه قال ابن عباس وابن مسعود وعكرمة، وعن ابن عمر: " أن المؤمن كلما أراد زوجة وجدها عذراء " وقد روي نحوه مرفوعاً (١)، وعن ابن عباس أيضاًً قال في ضرب الأوتار، وقال أبو حاتم: هذا لعله خطأ من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار على شط الأنهار تحت الأشجار.
ْوقال وكيع: شغلهم بالسماع، وقال ابن كيسان بزيارة بعضهم بعضاً، وقيل: شغلهم كونهم ذلك اليوم في ضيافة الله الجبار، وقيل: شغلهم عما فيه أهل النار على الإطلاق أو عن أهاليهم في النار، لا يهمهم أمرهم، ولا يبالون بهم كيلا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم، والمراد به ما هم فيه من فنون الملاذ التي تلهيهم عما عداها بالكلية.
وأما أن المراد به افتضاض الأبكار أو السماع أو ضرب الأوتار أو
_________
(١) رواه ابن الجوزي في تفسيره ٧/ ٢٧.
307
التزاور أو ضيافة الجبار كما روي كل واحد منها عن واحد من أكابر السلف فليس مرادهم بذلك حصر شغلهم فيما ذكروه فقط، بل بيان أنه من جملة أشغالهم وتخصيص كل منهم من تلك الأمور بالذكر محمول على اقتضاء مقام البيان إياه. قرىء: شغل بضمتين وبضم الشين وسكون الغين وهما لغتان كما قال الفراء، وقرىء: بفتحتين وبفتح الشين وسكون الغين.
(فاكهون) وقرىء فاكهين وفكهون قال الفراء: هما لغتان كالفارة والفرة والحاذر والحذر، وقال الكسائي وأبو عبيدة: الفاكه والفاكهة مثل تامر، ولابن، والفكه والمتفكه المتنعم.
وقال قتادة: الفكهون المعجبون، وقال أبو زيد: يقال: رجل فكه إذا كان طيب النفس ضحوكاً، وقال مجاهد والضحاك كما قال قتادة، وقال السدي كما قال الكسائي، وقال ابن عباس: فاكهون فرحون. وقيل: ناعمون متلذذون في النعمة من الفكاهة وهي التمتع والتلذذ مأخوذ من الفاكهة وفسرها زاده بطيب العيش والنشاط.
308
(هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون) مستأنفة مسوقة لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم سروراً وبهجة من كون أزواجهم معهم على هذه الصفة من الاتكاء على الأرائك تحت تلك الظلال والظلال جمع ظل وقرىء ظل بضم الظاء جمع ظلة والظل هو الموضع الذي لا تقع عليه الشمس، والظلة ما سترك عن الشمس، وعلى القراءتين: فالمراد الفرش والستور التي تظللهم كالخيام والحجال، والأرائك جمع أريكة، كسفائن جمع سفينة، والمراد بها السرر التي في الحجال. قال أحمد بن يحيى: ثعلب الأريكة لا تكون إلا سريراً في قبة، وقال مقاتل: إن المراد بالظلال أكنان القصور. وجملة:
308
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (٥٧) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
309
(لهم فيها فاكهة) مبينة لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب ونحوها ويتلذذون به من الملاذ الجسمانية والروحانية بعد بيان ما لهم فيها من مجالس الأنس ومحافل القدس. أي ولهم فيها فاكهة كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه.
(ولهم ما يدعون) ما هذه هي الموصولة، والعائد محذوف أو موصوفة أو مصدرية، ويدعون مضارع ادعى. قال أبو عبيد: يدعون يتمنون والعرب تقول ادع على ما شئت أي تمن وفلان في خير ما يدعى أي يتمنى. قال الزجاج: هو من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم من دعوت غلامي فيكون الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل، والارتحال بمعنى الرحل. قيل: افتعل بمعنى تفاعل أي ما يتداعونه كقولهم: ارتموا وتراموا.
وقيل: المعنى أن من ادعى منهم شيئاًً فهو له لأن الله قد طبعهم على أن لا يدعي أحد منهم شيئاًً إلا وهو يحسن ويجمل به أن يدعيه، وقرىء يدعون بالتخفيف ومعناه واضح، قال ابن الأنباري: والوقف على (يدعون) وقف حسن، ثم يبتدىء.
(سلام) على معنى لهم سلام: وقيل: إن سلام هو خبر (ما) أي: مسلم خالص أو ذو سلامة، وقال الزجاج: سلام بدل من (ما) أي: ولهم أن يسلم الله عليهم وهذا مُنى أهل الجنة، والأولى أن يحمل قوله: (ولهم ما يدعون) على العموم وهذا السلام يدخل تحته دخولاً أولياً، ولا وجه لقصره على نوع خاص، وإن كان أشرف أنواعه تحقيقاً لمعنى العموم، ورعاية لما يقتضيه النظم
309
القرآني.
وقيل: إن سلام مبتدأ وخبره الناصب لـ (قولاً) أي سلام يقال لهم (قولاً) وقيل: التقدير سلام عليكم، وقرىء سلاماً على المصدرية أو على الحالية بمعنى خالصاً، والسلام إما من التحية أو من السلامة، وقرىء: يسلم كأنه قال: يسلم لهم لا يتنازعون فيه وانتصاب (قولاً) على أنه مصدر لفعل محذوف أي قال الله لهم ذلك قولاً أو يقوله لهم قولاً.
(من رب رحيم) أي من جهته قيل: يرسل الله سبحانه إليهم بالسلام وقال مقاتل: إن الملائكة تدخل على أهل الجنة من كل باب يقولون: سلام عليكم يا أهل الجنة من رب رحيم.
وأخرج ابن ماجة وابن أبي الدنيا في صفة الجنة، والبزار وابن أبي حاتم والآجري في الرؤية، وابن مردويه عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول الله (سلام قولاً من رب رحيم) قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم ". قال ابن كثير في إسناده نظر.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: إن الله هو يسلم عليهم.
310
(وامتازوا اليوم أيها المجرمون) هو على إضمار القول مقابل ما قيل للمؤمنين، أي ويقال للمجرمين: امتازوا أي اعتزلوا من مازه يميزه، يقال مزت الشيء من الشيء إذا عزلته عنه ونحيته، قال مقاتل: معناه اعتزلوا اليوم يعني في الآخرة من الصالحين، وقال السدي: كونوا على حدة، وقال الزجاج: انفردوا عن المؤمنين، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة، وقيل: إن لكل كافر في النار بيتاً فيدخل ذلك البيت ويردم بابه فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى
310
ولا يرى، فعلى هذا القول يمتاز بعضهم عن بعض. وقال قتادة: عزلوا عن كل خير.
وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة. والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة.
وقال داود بن الجراح: يمتاز المسلمون من المجرمين إلا أصحاب الأهواء فإنهم يكونون مع المجرمين. ثم وبخهم سبحانه وقرعهم بقوله:
311
(ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان)؟ وهذا من جملة ما يقال لهم، والعهد الوصية والتقدم بأمر فيه خير ومنفعة، والمراد هنا: ما كلفهم الله به على ألسنة الرسل من الأوامر والنواهي، أي ألم أوصكم وأبلغكم على ألسن رسلي أن لا تطيعوا الشيطان.
قال الزجاج: المعنى ألم أتقدم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم، وقال مقاتل: يعني الذين أمروا بالاعتزال، وقيل: المراد بالعهد هنا الميثاق المأخوذ عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم، وقيل: هو ما نصبه الله لهم وركزه فيهم من الدلائل العقلية التي في سمواته وأرضه وما أنزل عليهم من أدلة السمع.
وعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم وإنما عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها ولوقوعها في مقابلة عبادة الله.
وجملة: (إنه لكم عدو مبين) تعليل لما قبلها من النهي عن طاعة الشيطان وقبول وسوسته
(وأن اعبدوني) أن في الموضعين هي المفسرة للعهد، الذي فيه معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية فيهما أي: ألم أعهد إليكم بأن لا تعبدوا الشيطان وبأن اعبدوني، أو ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان وفي عبادتي؟ وتقديم النهي على الأمر لما أن حق التخلية التقديم على التحلية كما في كلمة التوحيد وليتصف به قوله:
(هذا) أي عبادة الله وتوحيده أو دين الإسلام (صراط مستقيم) بليغ في الاستقامة ولا صراط أقوم منه.
311
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (٦٧)
ثم ذكر سبحانه عداوة الشيطان لبني آدم فقال:
312
(ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً) اللام هي الموطئة للقسم، والجملة مستأنفة لتشديد التقريع وتأكيد التوبيخ، أي والله لقد أضل، قرىء: جبلاً بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وبضم الجيم وسكون الباء وبضمتين مع تخفيف اللام، وبضمتين مع تشديد اللام، وقرىء بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام.
قال النحاس: وأبينها القراءة الأولى، والدليل على ذلك أنهم قد قرأوا جميعاً: والجبلة الأولين بكسر الجيم والباء وتشديد اللام فيكون جبلاً جمع جبلة واشتقاق الكل من جبل الله الخلق أي خلقهم ومعنى الآية: أن الشيطان قد أغوى خلقاً كثيراً، كما قال مجاهد، وقال قتادة جموعاً كثيرة وقال الكلبي أمماً كثيرة، قال الثعلبي: والقراآت كلها بمعنى الخلق، وقرىء جيلاً بالجيم والياء التحتية، وقال الضحاك: الجيل الواحد عشرة آلاف، والكثير ما يحصيه إلا الله عز وجل.
(أفلم تكونوا تعقلون)؟ الهمزة للتوبيخ والتقريع والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام كما تقدم في نظائره، أي أتشاهدون آثار العقوبات؟ فلم تكونوا تعقلون أو أفلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكم؟ أو أفلم تكونوا تعقلون شيئاًً أصلاً؟ قرىء الفعلان بالخطاب وبالغيبة.
(هذه جهنم التي كنتم توعدون) بها في الدنيا على ألسنة الرسل،
312
والقائل لهم الملائكة، وهو استئناف خوطبوا به بعد تمام التوبيخ عند إشرافهم على شفير جهنم، ثم يقولون لهم:
313
(اصلوها) أمر تبكيت وإهانة كقوله: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) أي قاسوا حرها وادخلوها (اليوم) وذوقوا أنواع العذاب فيها (بما كنتم تكفرون) أي بسبب كفركم بالله في الدنيا وطاعتكم للشيطان وعبادتكم للأوثان.
(اليوم نختم على أفواههم) قال المفسرون إنهم ينكرون الشرك وتكذيب الرسل كما في قولهم: (والله ربنا ما كنا مشركين) فيختم الله على أفواههم ختماً لا يقدرون معه على الكلام وفي هذا ألتفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم ثم قال:
(وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) أي تكلمت أيديهم بما كانوا يفعلونه وشهدت أرجلهم عليهم بما كانوا يعملون باختيارها بعد إقدار الله تعالى لها على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم. وقرى: لتكلمنا ولتشهد بلام.
كما قيل: سبب الختم على أفواههم ليعرفهم أهل الموقف، وقيل: ختم على أفواههم لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق لخروجه مخرج الإعجاز، وقيل: ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعواناً لهم في معاصي الله صارت شهوداً عليهم.
وجعل ما تنطق به الأيدي كلاماً وإقراراً لأنها كانت المباشرة لغالب المعاصي وجعل نطق الأرجل شهادة لأنها حاضرة عند كل معصية، وكلام الفاعل إقرار وكلام الحاضر شهادة، وهذا اعتبار الغالب وإلا فالأرجل قد تكون مباشرة للمعصية كما تكون الأيدي مباشرة لها.
313
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس في الآية قال: كنا عند النبي ﷺ فضحك حتى بدت نواجذه قال: " أتدرون مم ضحكت؟ قلنا لا يا رسول الله قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم. فيقول: بلى. فيقول: إني لا أجيز عليّ إلا شاهداً مني فيقول: (كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً) بالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه، ويقال لأركانه: أنطقي فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل " (١).
وأخرج مسلم والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يلقى العبد ربه فيقول الله له ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول مثل ذلك، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول: ألا نبعث شاهدنا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه. ويقال لفخذه: انطقي فتنطق فخذه وفمه وعظامه بعمله ما كان، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط عليه "، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث أبي موسى نحوه (٢).
_________
(١) أحمد ٢/ ٤٨.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ورواه مسلم والنسائي بنحوه.
314
(ولو نشاء) أن نطمس (لطمسنا على أعينهم) أي أذهبنا أعينهم وجعلناها بحيث لا يبدو لها شق ولا جفن، قال الكسائي: طمس يطمس ويطمس والطميس والمطموس عند أهل اللغة الذي ليس في عينيه شق كما في
314
قوله: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم)، قال السدي والحسن: المعنى لتركناهم عمياً يترددون لا يبصرون طريق الهدى، واختار هذا ابن جرير، قال ابن عباس في الآية: أعميناهم وأضللناهم عن الهدى، وقال عطاء ومقاتل وقتادة: المعنى لو نشاء لفقأنا أعينهم وأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم واهتدوا، وتبادروا إلى طريق الآخرة.
(فاستبقوا الصراط) معطوف على لطمسنا أي تبادروا إلى الطريق ليجوزوه ويمضوا فيه والصراط منصوب بنزع الخافض أي فاستبقوا إليه وقرىء: فاستبقوا على صيغة الأمر. أي فيقال لهم: استبقوا وفي هذا تهديد لهم.
(فأنى) أي فكيف (يبصرون) الطريق ويحسنون سلوكه ولا أبصار لهم ثم كرر التهديد لهم فقال:
315
(ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم) المسخ تبديل الخلقة أي تغيير الصورة وإبطال القوى إلى حجر أو غيره من الجماد أو بهيمة والمكانة المكان أي: لو شئنا لبدلنا خلقهم على المكان الذي هم فيه، قيل: والمكانة أخص من المكان كالمقامة والمقام، قال الحسن: أي لأقعدناهم، وقيل: لمسخناهم في المكان الذي فعلوا فيه المعصية، وقيل: المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم قاله ابن عباس، وقال يحيى بن سلام: هذا كله يوم القيامة قرأ الجمهور: على مكانتهم بالإفراد وقرىء: على مكاناتهم بالجمع.
(فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون) أي لا يقدرون على ذهاب ولا مجيء. قال الحسن: فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم، وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر، وقرىء: مضياً بضم الميم وبفتحها وبكسرها، قيل: والمعنى لا يستطيعون رجوعا، يقال: مضى يمضي مضياً إذا ذهب في الأرض ورجع يرجع رجوعاً إذا عاد من حيث جاء.
315
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩)
316
(ومن نعمره ننكسه في الخلق) قرأ الجمهور: ننكسه بفتح النون الأولى وسكون الثانية وضم الكاف مخففة، وقرىء: بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة والتنكيس جعل الشيء أعلاه أسفله، والمعنى: من نطل عمره نغير خلقه، ونجعله على عكس ما كان عليه أولاً من القوة والطراوة قال الزجاج المعنى من أطلنا عمره نكسنا خلقه فصار بدل القوة الضعف، وبدل الشباب الهرم، ومثل هذه الآية قوله سبحانه (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاًً). وقوله: (ثم رددناه أسفل سافلين.
(أفلا يعقلون)؟ قرأ الجمهور بالتحتية وقرىء بالفوقية على الخطاب أي أفلا يعلمون بعقولهم أن من قدر على ذلك قدر على البعث والنشور؟ ولما قال كفار مكة إن القرآن شعر، وإن محمداً شاعر، رد الله عليهم بقوله:
(وما علمناه الشعر) والمعنى نفي كون القرآن شعراً، لأن الشعر كلام متكلف موضوع، ومقال مزخرف مصنوع، منسوج على منوال الوزن والقافية، مبني على خيالات وأوهام واهية، فأين ذلك من التنزيل الجليل المنزه عن مماثلة كلام البشر؟ المشحون بفنون الحكم والأحكام الباهرة. الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، ثم نفى أن يكون النبي شاعراً فقال:
(وما ينبغي له) أي لا يصح له الشعر ولا يتأتى منه، ولا يتسهل عليه لو طلبه، وأراد أن يقوله بالطبع والسجية، كما جعلناه أمياً لا يهتدي إلى الخط لتكون الحجة أثبت، والشبهة أدحض، بل كان ﷺ إذا أراد أن ينشد بيتاً قد قاله شاعر متمثلاً به كسر وزنه، فإنه لما أنشد بيت طرفة بن العبد المشهور وهو قوله.
316
قال ويأتيك من لم تزود بالأخبار، وأنشد مرة أخرى قول العباس ابن مرداس السلمي:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع
فقال: بين الأقرع وعيينة، وأنشد أيضاًً:
كفى بالإسلام والشيب ناهياً
فقال أبو بكر: يا رسول الله إنما قال الشاعر:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عز وجل: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له).
وقد وقع منه ﷺ كثير من مثل هذا، قال الخليل: كان الشعر أحب إلى رسول الله ﷺ من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى منه. انتهى ووجه عدم تعليمه الشعر وعدم قدرته عليه التكميل للحجة، والدحض للشبهة كما جعله الله أمياً لا يقرأ، ولا يكتب وأما ما روي عنه من قوله صلى الله عليه وسلم.
" هل أنت إلا أصبع دميت... وفي سبيل الله ما لقيت "
وقوله:
" أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب " (١)
ونحو ذلك فمن الاتفاق الوارد من غير قصد كما يأتي ذلك في بعض آيات القرآن وليس بشعر ولا مراد به الشعر، بل اتفق ذلك اتفاقاً كما يقع في كثير من كلام الناس فإنهم قد يتكلمون بما لو اعتبره معتبر لكان على وزن الشعر، ولا يعدونه شعراً، وذلك كقوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وقوله (وجفان كالجواب وقدور راسيات) على أنه قد قال الأخفش: إن قوله: أنا النبي لا كذب ليس بشعر.
_________
(١) ولابن كثير كلام طويل حول هذه النقطة فليراجع هناك.
317
وقال الخليل في كتاب العين: إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعراً، قال ابن العربي: والأظهر من حاله أنه قال: لا كذب برفع الباء من كذب وبخفضها من عبد المطلب، قال النحاس قال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعراً لأنه إذا فتح الباء من الأول أو ضمها أو نونها وكسر الباء من الثاني خرج عن وزن الشعر، وقيل: إن الضمير في (له) عائد إلى القرآن أي: وما ينبغي للقرآن أن يكون شعراً.
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال: " بلغني أنه قيل لعائشة هل كان رسول الله ﷺ يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل أوله آخره، يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار، فقال أبو بكر ليس هكذا. فقال رسول الله ﷺ إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي " (١)، وهذا يرد ما نقلناه عن الخليل سابقاً أن الشعر كان أحب إلى رسول الله ﷺ من كثير من الكلام.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عنها قالت: كان رسول الله ﷺ إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة.
ويأتيك بالأخبار من لم تزود (١)
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: " كان رسول الله ﷺ يتمثل من الأشعار. ويأتيك الخ "، وأخرج البيهقي في سننه عن عائشة: " قالت ما جمع رسول الله ﷺ بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما يقال لشيء كان إلا تحقق
قالت عائشة: ولم يقل تحققا لئلا يعربه فيصير شعراً، وإسناده هكذا. قال أخبرنا أبو عبد الله الحافظ يعني الحاكم حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم
_________
(١) رواه أحمد في المسند وذكره السيوطي في الدر ٥/ ٢٦٨ والطبري في التفسير ٢٣/ ٢٧.
318
حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير حدثنا علي بن عمرو الأنصاري حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة فذكره وقد سئل المزي عن هذا الحديث فقال: هو منكر ولم يعرف شيخ الحاكم ولا الضرير في إسناده.
قال البيضاوي والخازن قال العلماء: ما كان يتزن له بيت شعر وإن تمثل ببيت شعر جرى على لسانه الشريف مكسراً، ولو كان ممن يقول الشعر لتطرقت التهمة عقلاً في أن ما جاء به من عند نفسه، ولهذا قال: ويحق القول الخ كما يأتي لأنه لم يبق إلا العناد الموجب للهلاك وقال القرطبي: إصابة الوزن منه ﷺ في بعض الأحيان لا توجب أنه يعلم الشعر كقوله: أنا النبي لا كذب الخ والمعول عليه في الانفصال على تسليم أن هذا شعر، إذ التمثل بالبيت لا يوجب أن يكون قائله عالماً بالشعر ولا أن يسمى شاعراً باتفاق العلماء كما أن من خاط خيطاً على سبيل الاتفاق لا يكون خياطاً.
قال الزجاج: أي ما جعلناه شاعراً وهذا لا ينافي أن ينشىء شيئاًً من الشعر من غير قصد كونه شعراً. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل في هذا، وقد قيل: إنما أخبر الله عز وجل أنه ما علمه الشعر، وإن لم يخبر أنه لا ينشىء الشعر، وقد قالوا: كل من قال قولاً موزوناً لا يقصد به إلى شعر فليس بشاعر، وإنما وافق الشعر، فما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يعد شعراً وإنما يعد منه ما يجري على وزن الشعر مع القصد إليه، ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال:
(إن هو) أي ما القرآن (إلا ذكر) من الأذكار وموعظة من المواعظ يوعظ بها الإنس والجن.
(وقرآن مبين) أي كتاب من كتب الله السماوية مشتمل على الأحكام الشرعية يقرأ في المحاريب، ويتلى في المتعبدات، وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين والدرجات، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين، وأقاويل الشعراء الكاذبين.
319
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٦)
320
(لينذر) قرىء بالتحتية وبالفوقية وعلى الأولى: المراد القرآن وعلى الثانية: المراد النبي ﷺ (من كان حياً) يعقل ما يخاطب به أي مؤمناً قلبه صحيح يقبل الحق ويأبى الباطل لأن الكافر كالميت لا يتدبر ولا يتفكر.
(ويحق القول على الكافرين) أي وتجب كلمة العذاب على المصرين على الكفر، الممتنعين من الإيمان بالله وبرسوله، وإيرادهم في مقابلة من كان حياً فيه إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة التي هي المعرفة أموات في الحقيقة ثم ذكر سبحانه قدرته العظيمة وإنعامه على عبيده. وجحْدَ الكفار لنعمة فقال:
(أولم يروا) الهمزة للإنكار والتعجيب من حالهم، والواو للعطف على مقدر كما في نظائره، والرؤية هي القلبية أي: أولم يعلموا بالتفكر والاعتبار (أنا خلقنا لهم) أي لأجلهم. انتفاعهم (مما عملت أيدينا) أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا شركة.
وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص والتفرد بالخلق، كما يقول الواحد منا: عملته بيدي للدلالة على تفرده بعمله، وما: بمعنى الذي وحذف العائد لطول الصلة ويجوز أن تكون مصدرية وأتى بهذه الجملة بعد
320
قوله: خلقنا للإشارة إلى حصر الخلق لهذه النعم فيه تعالى، واستقلاله بها، فهو كناية عرفية، وقيل: تمثيلية، أي مما تولينا إحداثه، ولم يقدر على إحداثه غيرنا وقوله:
(أنعاماً) مفعول خلقنا، وهي جمع نعم، وهي: البقر والغنم والإبل وإنما خصها بالذكر -وإن كانت الأشياء كلها من خلق الله وإيجاده- لأن النعم أكثر أموال العرب والنفع بها أعم، وقد سبق تحقيق الكلام فيها، ثم ذكر سبحانه المنافع المترتبة على خلق الأنعام فقال:
(فهم لها مالكون) أي ضابطون قاهرون، يتصرفون بها كيف شاؤوا، ولو خلقناها وحشية لنفرت عنهم ولم يقدروا على ضبطها، أو المراد أنها صارت في أملاكهم ومعدودة في جملة أموالهم المنسوبة إليهم نسبة الملك، وهذا أظهر ليكون قوله:
321
(وذللناها لهم) تأسيساً لنعمه على حيالها لا تتمة لما قبلها. أي: جعلناها لهم مسخرة لا تمتنع مما يريدون منها من منافعهم حتى الذبح، ويقودها الصبي فتنقاد له، ويزجرها فتنزجر.
(فمنها ركوبهم) الفاء لتفريع أحكام التذليل عليه. أي: فمنها مركوبهم الذي يركبونه كما يقال: ناقة حلوب أي محلوبة يعني: معظم منافعها الركوب، وعدم التعرض للحمل لكونه من تتمة الركوب. قرأ الجمهور: ركوبهم بفتح الراء وقرىء: بضمها على المصدر، وقرأ أبي وعائشة: ركوبتهم. والركوب والركوبة واحد مثل الحلوب والحلوبة والحمول والحمولة. وقال أبو عبيدة: الركوبة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة، وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز فمنها ركوبهم بضم الراء لأنه مصدر، والركوب ما يركب وأجاز ذلك الفراء. كما يقال: فمنها أكلهم ومنها شربهم.
(ومنها يأكلون) أي يأكلونه من لحمها ومن للتبعيض، وإنما غير الأسلوب هنا لأن الأكل يعم الأنعام كلها بخلاف الركوب فهو خاص بالإبل
321
منها.
322
(ولهم فيها) أي لهم في الأنعام بقسميها (منافع) غير الركوب لها والأكل منها، وهي ما ينتفعون به من أصوافها وأوبارها وأشعارها وما يتخذونه من الأدهان من شحومها، وكذلك الحمل عليها والحراثة بها وجلودها ونسلها.
(و) لهم فيها (مشارب) مما يحصل من ألبانها جمع مشرب وهو موضع الشرب أو الشراب والظاهر أن المراد به ضروعها.
(أفلا يشكرون) الله على هذه النعم ويوحدونه ويخصونه بالعبادة، ثم ذكر سبحانه: جهلهم واغترارهم ووضعهم كفران النعم موضع شكرها فقال:
(واتخذوا من دون الله آلهة) من الأصنام ونحوها يعبدونها ولا قدرة لها على شيء، ولم يحصل لهم منها فائدة، ولا عاد عليهم من عبادتها عائدة.
(لعلهم ينصرون) أي رجاء أن ينصروا من جهتهم إن نزل بهم عذاب، أو دهمهم أمر من الأمور.
(لا يستطيعون نصرهم) مستأنفة لبيان بطلان ما رجوه منها وأملوه من نفعها، وانعكاس تدبيرهم وجمعهم بالواو والنون جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون ويضرون ويعقلون.
(وهم لهم جند محضرون) أي والكفار جند للأصنام يحضرونهم في الدنيا، قال الحسن: يمنعون منهم، ويدفعون عنهم، وقال قتادة: أي يغضبون لهم في الدنيا، قال الزجاج: ينتصرون للأصنام وهي لا تستطيع نصرهم، وقيل: المعنى يعبدون الآلهة ويقومون بها فهم لهم بمنزلة الجند، هذه الأقوال على جعل ضمير (هم) للمشركين وضمير (لهم) للآلهة.
وقيل: (وهم) أي الآلهة (لهم) أي للمشركين جند معدون ومحضرون معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض، وقيل: معناه، وهذه الأصنام لهؤلاء
322
الكفار جند الله عليهم في جهنم، لأنهم يلعنونهم ويتبرأون منهم، وقيل: المعنى إن الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم يحضرون يوم القيامة لإعانتهم، ثم سلى سبحانه نبيه ﷺ فقال:
323
(فلا يحزنك قولهم) الفاء لترتيب النهي على ما قبله فلا بد أن يكون عبارة عن خسرانهم وحرمانهم عما علقوا به أطماعهم الفارغة، وانعكاس الأمر عليهم بترتيب الشر على ما رتبوه لرجاء الخير، فإن ذلك مما يهون الخطر، ويورث السلوة، والنهي وإن توجه بحسب الظاهر إلى قولهم لكنه في الحقيقة متوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا القول هو ما يفيده قوله: (واتخذوا من دون الله آلهة) فإنهم لا بد أن يقولوا: هؤلاء آلهتنا وإنها شركاء لله في المعبودية، ونحو ذلك.
وهو نهي للرسول ﷺ عن التأثر لذلك بطريق الكناية على أبلغ وجه وآكده، وقيل: إنه نهي لهم عن الأسباب التي تحزن رسول الله ﷺ وإن النهي لرسول الله ﷺ عن التأثر لما يصدر منهم هو من باب: لا أرينك ههنا، فإنه يراد به نهي من خاطبه عن الحضور لديه لا نهي نفسه عن الرؤية، وهذا بعيد، والأول أولى، والكلام من باب التسلية كما ذكرنا، ويجوز أن يكون المراد بالقول المذكور هو قولهم: إنه ساحر وشاعر ومجنون.
(إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون) تعليل لما تقدم من النهي، فإن علمه سبحانه بما يظهرون وما يضمرون مستلزم للمجازاة لهم بذلك، وإن جميع ما صدر منهم لا يعزب عنه سواء كان خافياً أو بادياً سراً أو جهراً مظهراً أو مضمراً، وتقديم السر على الجهر للمبالغة في شمول علمه بجميع المعلومات، وقرىء: إنا بالكسر وبالفتح على حذف لام التعليل وهو كثير في القرآن والشعر، وفي كل كلام؛ وكسرها أبو حنيفة وفتح الشافعي وكلاهما تعليل كما تقدم.
323
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
324
(أولم ير الإنسان) مستأنفة مسوقة لبيان إقامة الحجة على من أنكر البعث وللتعجيب من جهله، فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم على هذه الصفة من البداية إلى النهاية مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم، على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام وردها، كما كانت، والإنسان المذكور في الآية المراد به جنس الإنسان كما في قوله (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاًً).
ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين؛ كما قيل: إنه عبد الله بن أبيّ وإنه قيل له ذلك لما أنكر البعث. وقال الحسن: هو أمية بن خلف، وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي، وقال قتادة ومجاهد: هو أبيّ بن خلف الجمحي، فإن أحد هؤلاء وإن كان سبباً للنزول فمعنى الآية خطاب للإنسان من حيث هو، لا إنسان معين، ويدخل من كان سبباً للنزول تحت جنس الإنسان دخولاً أولياً.
(إنا خلقناه من نطفة) قذرة خسيسة مدرة خارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة، والنطفة هي اليسير من الماء، وقد تقدم تحقيق معناها.
324
(فإذا هو خصيم مبين) هذه الجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها داخلة معها في حيز الإنكار، المفهوم من الاستفهام؛ وإذا هي الفجائية أي. ألم ير الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء وأخسها وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله وبراهينه؛ وشهدت بصحته وتحققه مبدأ فطرته شهادة بينة. والمعنى: العجب من جهل هذا المخاصم -مع مهانة أصله ودناءة أوله- كيف يتصدى. لمخاصمة الجبار؟ ويبرز لمجادلته في إنكار البعث؟ ولا يتفكر في بدء خلقه وأنه من نطفة قذرة وهو غاية المكابرة، والخصيم الشديد الخصومة الكثير الجدال، ومعنى المبين: المظهر لما يقوله الموضح له بقوة عارضته وطلاقة لسانه.
قال ابن عباس: " جاء العاص بن وائل إلى رسول الله ﷺ بعظم حائل ففتّه بيده فقال: يا محمد أيحيى الله هذا بعد ما أرى؟ قال: نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم فنزلت الآيات من آخر يس: أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة الخ (١) " أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في معجمه.
وعنه قال: جاء عبد الله بن أبيّ في يده عظم حائل إلى النبي ﷺ وذكر مثل ما تقدم. قال ابن كثير: وهذا منكر لأن السورة مكية وابن أبيّ إنما كان بالمدينة، وعنه قال: جاء أبيّ بن خلف الجمحي وذكر نحو ما تقدم؛ وعنه أيضاًً قال: نزلت في أبي جهل وذكر نحو ما تقدم.
_________
(١) رواه الطبري ٢٣/ ٣٠ والسيوطي في الدرر ٥/ ٢٦٩.
325
(وضرب لنا مثلاً) بفته العظم والجملة معطوفة على الجملة المنفية داخلة في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، فهي تكميل للتعجيب من حال الإنسان، وبيان جهله بالحقائق، وإهماله للتفكر في نفسه فضلاً عن التفكر في سائر مخلوقات الله.
ويجوز أن تكون جملة: (فإذا هو خصيم مبين) معطوفة على خلقنا،
325
وهذه معطوفة عليها، أي أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر كالمثل في الغرابة، وهي إنكاره إحياءنا للعظام، أو قصة عجيبة في زعمه واستبعدها وعدها من قبيل المثل، وأنكرها أشد الإنكار، وهي إحياؤنا إياها، أو جعل لنا مثلاً ونظيراً من الخلق، وقاس قدرتنا على قدرتهم، ونفى الكل على العموم فالمثل على الأول هو إنكار إحيائه للعظام، وعلى الثاني هو إحياؤه لها، وأما على الثالث فلا فرق بين أن يكون المثل هو الإنكار أو المنكر.
(ونسي خلقة) أي خلقنا إياه من المني الدال على بطلان ما ضربه من المثل وذهل عنه، وترك ذكره على طريقة اللداد والمكابرة، فهو أغرب من إحياء العظم.
(قال من يحيي العظام وهي رميم) بالية استئناف جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل: ما هذا المثل الذي ضربه؟ فقيل: قال من يحيي العظام وهي رميم؟ وهذا الاستفهام للإنكار لأنه قاس قدرة الله على قدرة العبد فأنكر أن الله يحيي العظام البالية حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر. يقال: رم العظم يرم رماً إذا بلي، فهو رميم ورمام، وإنما قال: رميم ولم يقل: رميمة مع كونه خبراً للمؤنث لأنه اسم لما بلي من العظام غير صفة، كالرمة والرفات، وقيل: لكونه معدولاً عن فاعله، وكل معدول عن وجهه يكون مصروفاً عن إعرابه كما في قوله: (وما كانت أمك بغياً) لأنه مصروف عن باغية. كذا قال البغوي والقرطبي، وقال بالأول صاحب الكشاف.
والأولى أن يقال: إنه فعيل بمعنى فاعل. من رم الشيء صار اسماً بالغلبة أو مفعول، وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث كما قيل في جريح وصبور.
ومن يثبت الحياة في العظام ويقول: إن عظام الميتة نجسة لأن الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها يتشبت بهذه الآية، وهي عند الحنفية طاهرة، وكذا الشعر والعصب لأن الحياة لا تحلها فلا يؤثر فيها الموت.
326
والمراد بإحياء العظام في الآية ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس، وقد استدل أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة، وقال الشافعي: لا تحلها الحياة، وأن المراد بقوله: من يحيي العظام؟ من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف، ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر، ثم أجاب سبحانه عن الضارب لهذا المثل فقال
327
(قل) أي على سبيل تبكيته وتذكيره بما نسيه من فطرته الدالة على حقيقة الحال.
(يحييها الذي أنشأها) أي ابتدأها وخلقها (أول مرة) من غير شيء ومن قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الثانية.
(وهو بكل خلق عليم) لا تخفى عليه خافية ولا يخرج عن علمه خارج كائناً ما كان، أي يعلم تفاصيل المخلوقات بعلمه وكيفية خلقها فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتتة المتبددة أصولها وفصولها، ومواقعها وطريق تمييزها، وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وإعادة الأعراض والقوى التي كانت فيها أو إحداث مثلها.
وقال الكرخي: يعلمه مجملاً ومفصلاً، أي قبل خلقه وبعد خلقه، والآية حجة على من ينكر علمه سبحانه بالجزئيات ونظيره قوله سبحانه: (إن الله قد أحاط بكل شيء علماً).
(الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً) هذا رجوع منه سبحانه إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم فنبه سبحانه على وحدانيته، ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه من إخراج النار المحرقة من العود الندي الرطب.
وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ والشجر المعروف بالعفار إذا قطع منهما عودان مثل السِواكين وضرب أحدهما على الآخر انقدحت منهما النار وهما أخضران، قيل المرخ هو الذكر والعفار هو الأنثى ويسمى الأول الزند والثاني
327
الزندة، تقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، أي استكثر منهما وذلك أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر ناراً، وقال الحكماء: في كل شجر نار إلا العناب لمصلحة الدق للثياب، ولذلك تتخذ منه مطارق القصارين.
وبالجملة فمن بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر مع مضادة النار الماء وانطفائها به، فمن قدر على جمع الماء والنار في الشجر قدر على المعاقبة بين الموت والحياة في البشر، وإجراء أحد الضدين على الآخر بالتعقيب أسهل في العقل من الجمع معاً بلا ترتيب، وقال الأخضر، ولم يقل الخضر اعتباراً باللفظ، وقرىء الخضر اعتباراً بالمعنى.
وقد تقرر: أنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه، كما في قوله: (نخل منقعر) وقوله: (نخل خاوية) فبنو تميم ونجد يذكرونه، وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادراً، والموصول بدل من الموصول الأول.
(فإذا أنتم منه توقدون) أي تقدحون منه النار وتوقدونها من ذلك الشجر الأخضر ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم من الإنسان خلقاً فقال:
328
(أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم)؟
والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر كنظائره، ومعنى الآية: أن من قدر على خلق السموات والأرض وهما في غاية العظم وكبر الأجزاء يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير الشكل ضعيف القوة، كما قال سبحانه: (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) قال الشهاب: أي مثل هؤلاء الأناس الذين ماتوا، والمراد هم وأمثالهم على سبيل التقديم والتأخير، أو المراد هم على طريق الكناية في نحو مثلك يفعل كذا، قرأ الجمهور: بقادر بصيغة اسم الفاعل، وقرىء: يقدر بصيغة المضارع، ثم أجاب سبحانه عما أفاده الاستفهام من الإنكار التقريري بقوله:
328
(بلى وهو الخلاق العليم) أي بلى هو قادر على ذلك، وهو المبالغ في الخلق والعلم على أكمل وجه وأتمه، وقرى: وهو الخالق، ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته وتيسير المبدأ والإعادة عليها فقال:
329
(إنما أمره إذا أراد شيئاًً أن يقول له كن فيكون) أي إنما شأنه سبحانه إذا تعلقت إرادته بشيء من الأشياء أن يقول له: احدث فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلاً، وقد تقدم تفسير هذا في سورة النحل، وفي البقرة، قرأ الجمهور: فيكون بالرفع على الاستئناف، وقرأ الكسائي: بالنصب عطفاً على يقول، ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يوصف بغير القدرة فقال:
(فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء) هذا تنزيه له تعالى عما وصفوه به وتعجيب مما قالوا في شأنه، والملكوت في كلام العرب لفظ مبالغة في الملك كالجبروت والرحموت كأنه قال: فسبحان من بيده مالكية الأشياء الكلية. قال قتادة: ملكوت كل شيء مفاتح كل شيء. وقرىء: ملكة بزنة شجرة، وقرىء: مملكة بزنة مفعلة. والملك والملكوت أبلغ من الجميع.
(وإليه ترجعون) قرأ الجهور بالفوقية على الخطاب مبنياً للمفعول وقرىء: بالتحتية على الغيبة مبنياً للمفعول أيضاًً، وقرأ زيد بن علي: على البناء للفاعل أي ترجعون إليه لا إلى غيره، وتردون وتعادون بعد الموت بلا فوت.
وذلك في الدار الآخرة بعد البعث.
329
ملحق لتفسير سورة يس
ذكر المؤلف في صدر تفسيره لهذه السورة حديث: " اقرأوا يس عند موتاكم " وقلنا: في التعليق على ذلك إننا سننشر في آخر تفسير السورة ملحق يفصل موضوع القراءة على الأموات ننقله من المنار وغيره، وبناء عليه نقول: قال ابن القيم: وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر، والأول أظهر لوجوه:
أحدها: أنه نظير قوله: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله.
الثاني: انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) فيستبشر الروح بذلك فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه.
الثالث: إن هذا عمل الناس وعادتهم قديماً وحديثاً يقرأون يس عند المحتضر.
الرابع: أن الصحابة لم يكونوا يقرأونها عند القبور ولو فهموا من قوله ﷺ اقرأوا يس عند موتاكم قراءتها عند القبر لما أخلوا به، وكان ذلك أمراً معتاداً مشهوراً بينهم.
الخامس: إن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره لا يثاب على ذلك لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل، وقد انقطع عمل الميت.. أهـ.
وكتب صاحب المنار رحمه الله في آخر سورة الأنعام استدراكاً على تفسير قوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) بدأه بتمهيد مهم ثم قال:
330
أقول هذا تمهيداً لتذكيرك بعدم الاغترار بما لعلك اطلعت أو تطلع عليه من الوجوه التي حمل عليها بعض المتفقهة والمصنفين في تفسير قوله تعالى في سورة النجم: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) فحرفوا الكلم عن مواضعه تارة بالتأويلات السخيفة، وتارة بدعوى النسخ الباطلة، وتارة بدعوى أن هاتين الآيتين من شريعة إبراهيم وموسى لا من شرعنا، وتارة بتخصيصها بالكفار دون المسلمين.
وقد غفل هؤلاء عن كون مضمون الآيتين من قواعد الدين وأصول الإسلام، الثابتة على ألسنة جميع الرسل ومؤيداً بآيات كثيرة بلفظها ومعناها كآية: (ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه) وغيرها مما يعلق الفلاح والخسر بالأعمال.
أما هؤلاء المقلدون من المتأخرين فسبب غفلهم وتأويلهم أنهم يحاولون تصحيح كل ما فشا من البدع بين أقوالهم والمنسوبين إلى مذاهبهم وليسوا من أهل الدليل، ولكنهم لا يتركون ضلالة التأويل، وأما أهل النظر في أدلة المذاهب منهم فلا هم من النظر في الكتاب والسنة إلا أخذ ما يرونه مؤيداً لمذاهبهم وترك ما سواه بضرب من التأويل، أو دعوى النسخ أو احتماله بغير دليل.
ولو كان هؤلاء المقلدون العميان هم الذين جوزوا وحدهم للناس إهداء عباداتهم للموتى لهان الخطب ولكن تابعهم على ذلك بعض علماء السنة من أهل الأثر والنظر (كابن تيمية وابن القيم) إذ ظنوا أن الأحاديث الواردة في الدعاء للموتى والإذن للأولاد بأن يقضوا ما على والديهم من صيام أو صدقة أو حج، تدل على انتفاع الموتى بعبادات الأحياء مطلقاً، غافلين عن حصر ما صح من ذلك في الأولاد فقط، وحديث " صام عنه وليه " يتعين أن يراد بالولي هنا الولد ليوافق سائر النصوص، وولد المرء من عمله، فانتفاع الميت بعمل ولده الحي يدخل في القاعدة ولا يناقضها.
331
كلام ابن القيم ورد المنار عليه
قال ابن القيم فإن قيل: فهذا لم يكن معروفاً في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير ولا أرشدهم النبي ﷺ إليه وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار بالصدقة والحج والصيام، فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم ولكانوا يفعلونه:
وأجاب ابن القيم عن هذا الاعتراض فقال:
إن مورد هذا السؤال إن كان معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام و.. و.. قيل له: ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال؟ وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات، وإن لم يعترف بوصول تلك الأعمال إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع.
رد المنار على ابن القيم
أقول وبالله التوفيق: عفا الله عن شيخنا وأستاذنا أما قوله لمورد السؤال إذا كان معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام: ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن.. الخ فنجيب عنه بأن المانع لذلك نصوص القرآن التي جاءت في أن عمل كل عامل له دون غيره والسائل يعترف بأن النبي ﷺ أذن للأولاد أن يقضوا عن والديهم حقوقاً ثبتت عليهم كما يقضون ديون الناس عنهم، فهي ليست كقراءة القرآن التي ليست مفروضة على الأعيان في غير الصلاة.
وبهذا كان أداء الحقوق غير معارض للآيات الواردة، وبهذا بطل قوله وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات.
كلام ابن القيم
فإن قيل: فرسول الله ﷺ أرشدهم إلى الصوم و..
332
و.. دون القراءة.
ثم أجاب ابن القيم: هو رسول الله ﷺ لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك.
رد المنار عليه
إن عدم ابتداء الرسول ﷺ إياهم بذلك على إطلاقه دليل على أنه ليس من دينه، وإلا لم يكن مبينا لما أُنزل إليه كما أمر به وهذا محال.
وسؤال أولئك الأفراد إياه دليل على أنهم لم يكونوا يعلمون من نصوص الدين ولا من السنة العملية ما يدل على شرعيته، فلذلك استفتوه فيه، ولم يستفتوه في العمل عن غير الوالدين لنص القرآن في منعه... اهـ.
...
وقد يستدل بعضهم على انتفاع الموتى بعمل الأحياء بحديث: " وضع النبي ﷺ الجريدتين على القبرين "، (١) والجواب على ذلك أن هذا واقعة حال في أمر غيبي غير معقول المعنى والظاهر أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك حديث شبرمة وفيه أنه أخ لي أو قريب أحج عنه، والجواب: أنه حديث موقوف كما هو الراجح عند أحمد، وقال ابن المنذر لا يثبت رفعه.
...
وجاء في كتابنا مشكلات القرآن ما نصه:
_________
(١) انظر مسند أحمد ٤/ ١٧٢ وقد روي نحوه.
333
المشكلة العاشرة
هل ينتفع الأموات بعمل الأحياء؟
قال الله تعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) وقال (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه).
القرآن الكريم مملوء بالآيات في هذا المعنى، وتقرير هذه القاعدة، وهي أن الإنسان في الآخرة مجزى بعمله لا بعمل غيره (كل نفس بما كسبت رهينة) (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).
غير أن المسلمين اليوم وقبل اليوم درجوا على الانصراف عن هذه القاعدة فتراهم يقرأون القرآن على الموتى ويتصدقون عنهم ويدعون لهم سواء في ذلك الولد على الوالد أو الوالد على الولد، أو الزوجة على زوجها: أو الزوج على زوجته أو الأقارب والأصهار. وإذا صارحناهم بأن هذا خطأ لا يقره دين ولا شريعة قالوا: كيف هذا والناس عليه من قديم، والشيوخ في هذا العصر لا ينكرون.
فإذا قلنا لهم إن الحجة في كلام الله ورسوله فقط لا في عمل الجماهير وسكوت الشيوخ قالوا: إن شيخ الإسلام ابن تيمية قد جوز هذا في بعض كتبه وهو عالم كبير وله شهرة واسعة في الدفاع عن السنة ومحاربة البدع.
ونحن نورد هنا ما قاله ابن تيمية وما رد به عليه أستاذ جليل محقق يحب ابن تيمية ولكن حبه للحق أكبر، قال الأستاذ (١):
قال ابن تيمية: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بما عمله فقوله باطل من وجوه:
أحدها أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره، وهذا انتفاع بعمل الغير.
_________
(١) هو الأستاذ الكبير الشيخ أبو الوفا محمد درويش رحمه الله.
334
والجواب إن الداعي للإنسان إما أن يكون ولده وإما أن يكون غير ولده أما الولد فقد بينت السنة أن عمله استمرار لعمل الوالد: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.. أو ولد صالح يدعو له " فدعوة الولد من سعي الوالد وعمله.
وأما إذا كان الداعي غير ولده فقد أثبت الواقع المشاهد الذي لا ينكره إلا معاند أن أحداً لا يدعو لأحد إلا لإحسان أو بر نال الداعي من المدعو له وما رأينا أحداً يدعو لأحد اعتباطاً أو مجاناً.
ولا شك أن البر والإحسان إلى المسلمين من الطاعات. وهي من كسب الشخص وسعيه وعمله، فإذا استجاب الله دعاء الداعي للبار المحسن، كان ذلك ثواباً لإحسانه وبره، وبذلك يكون الشخص قد انتفع بكسبه وسعيه وعمله، إذ لولا الإحسان والبر ما دعا الداعي.
فقد انتفع الشخص بكسبه وسعيه وعمله لا بعمل غيره.
وإذا فرضنا أن الداعي لم ينله من المدعو له إحسان ولا بر، أفلا يدعو له بالخير لأنه من إخوانه المسلمين المؤمنين، والإيمان رحم بين المؤمنين؛ ولولا إسلامه وإيمانه ما دعا له، لأن المسلم يعتبر المسلمين إخوة ويعتبر الدعاء لهم من البر بهم، والإسلام والإيمان من كسب العبد وسعيه وعمله، فإذا انتفع المسلم باستجابة الله تعالى لدعاء مسلم من إخوانه، كان انتفاعه بسبب إسلامه وإيمانه، أي بسبب كسبه وعمله قبل كل شيء.
والله تعالى جعل الدعاء للمؤمن من ثواب إيمانه، قال تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).
فلولا صبرهم ما سلمت عليهم الملائكة، وتسليم الملائكة دعاء بالسلامة وهو ثواب صبرهم، وصبرهم من كسبهم وسعيهم وعملهم، وهذا شيء من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى إقامة دليل ولا برهان، فهو في حكم البدهيات التي لا تفتقر إلى نظر ولا استدلال.
335
فثبت بذلك أن انتفاع المؤمن بدعاء المؤمنين، سواء عليه، أكانوا من ولده أم من غيرهم: إنما هو انتفاع بكسبه وسعيه وعمله لا بكسب غيره ولا بسعي سواه ولا بعمل الناس.
قال ابن تيمية:
ثانيها: أن النبي ﷺ يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها، ثم لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بعمل الغير.
ونقول وبالله نعتصم وبقوله الحق نتأيد: أما في الموقف فالشفاعة لا تنفع الكفار، ولا هي بمغنية عنهم شيئاًً، فهم منتقلون من كربة إلى كربات، ومن شدة إلى شدات وحسبنا دليل على ذلك قول الله تعالى في سورة البقرة: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)).
والآيات في معناها كثير.
فكيف يقال مع هذه النصوص الصريحة: إنهم انتفعوا بشفاعة الرسول ﷺ أو إنهم انتفعوا بعمل غيرهم؟ وهم أعداء الله وأعداء رسوله الذين حبطت أعمالهم، وضل سعيهم، ولا يقام لهم يوم القيامة وزن، ولا تنالهم من الرسول ﷺ شفاعة ولا من الله تعالى رحمة.
وأما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر فتكون شفاعة الرسول ﷺ ثواباً لإيمانهم. ولولا إيمانهم لم ينالوا هذه الشفاعة، فهم في واقع الأمر وحقيقته قد انتفعوا بكسبهم واستفادوا بسعيهم، وقطفوا ثمرة عملهم فكيف يقال إنهم انتفعوا بعمل غيرهم، وما انتفاعهم بعد فضل الله ورحمته إلا بمحض عملهم.
وأما شفاعته ﷺ لأهل الجنة في دخولها فهي كذلك ثواب أعمالهم لقوله تعالى (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) فلولا إنهم آمنوا
336
وعملوا الصالحات ما دخلوا الجنة ولا وجدوا ريحها ولا نالتهم شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم في حقيقة الأمر وواقعه ينتفعون بسعيهم وكسبهم وعملهم، ولولا أعمالهم ما استحقوا شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فكيف يقال إنهم انتفعوا بعمل غيرهم؟
وأما شفاعة الرسول ﷺ لأهل الكبائر في الخروج من النار؛ فإنها لن تكون إلا بعد أن تمسهم النار بذنوبهم ويصيروا حمماً أو فحماً كما جاء في حديث مسلم ولولا أنهم مؤمنون ما أذن الله في الشفاعة لهم، فالشفاعة لهم وخروجهم من النار من ثواب إيمانهم، وإيمانهم من كسبهم وسعيهم وعملهم فكيف يقال: إنهم انتفعوا بعمل غيرهم.
ثم قال ابن تيمية:
ثالثها: إن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير.
ونقول: إن هذه الشفاعات لا تنفع (إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً) لقوله تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) [النجم: ٢٦]. والآيات في معناها كثيرة.
فالشفاعة مشروط فيها بحسب نصوص القرآن الكريم الإذن والرضا، والله لا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأذن في الشفاعة لهم، ولا يأذن للنبي ﷺ في الشفاعة لأهل الكبائر لخروجهم من النار إلا بعد أن تمسهم النار بذنوبهم وتطهرهم من أوزارهم ويبقى إيمانهم وهو موضع رضا الكريم سبحانه.
فشفاعة الأنبياء والصالحين لا تكون إلا بعد الإذن والرضا وإذاً فتكون للمؤمنين لا لغيرهم، والله تعالى قد جعل هذه الشفاعات ثواباً للإيمان وصالح العمل فهؤلاء الذين يشفع لهم الأنبياء والصالحون في حقيقة الأمر وواقعه منتفعون بإيمانهم وأعمالهم وسعيهم وكسبهم، ولولا ذلك ما شفع لهم شافع
337
ولا نفعتهم شفاعة الشافعين.
فكيف يقال: إنهم انتفعوا بعمل غيرهم؟
ثم قال ابن تيمية:
رابعها: إن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير.
ونقول: إن الله تعالى بين لنا في كتابه العزيز دعاء الملائكة واستغفارهم وبين لنا كذلك من مِن أهل الأرض تستغفر لهم الملائكة، فقال تعالى في سورة غافر: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)).
ألم تر كيف وقف الملائكة عند حدهم ولم يطلبوا من ربهم إلا ما يقتضيه عدله وحكمته؟
ليس هذا الدعاء والاستغفار إلا تسبيحاً لله وتنزيهاً له بذكر صفات فضله وعدله ورحمته، فحين أخبر الله تعالى عن ملائكته الكرام أنهم يستغفرون لم يذكر أنهم يستغفرون لكل من دب ودرج على وجه الأرض ولكن ذكر أنهم يستغفرون للذين آمنوا، فدل على أن استغفار الملائكة للمؤمنين من ثواب إيمانهم.
وحين حكى سبحانه قوله بين أنهم لم يقولوا: اغفر لكل مصر على ذنبه، أو مجاهر بمعصية ربه. بل بين أنهم يقولون: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ).
فقد أثنوا على الله تعالى بسعة الرحمة والعلم، وسألوه أن يغفر للذين تابوا واتبعوا سبيله: أي سلكوا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله
338
عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين:
ولا جرم أن الله تعالى وعد أن يغفر لهؤلاء جميعاً.
فالملائكة الكرام لا يسألون ربهم إلا تصديق وعده، بدليل قوله تعالى: (ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم)
وحين طلبوا ذلك لمن يتصل بهم من أولي قرباهم، لم يطلبوه لكل قريب ولو خب في الإثم ووضع، ولو تمرغ في حمأة الفساد بل طلبوه لمن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. فهم لم يطلبوا المغفرة إلا لأهل الصلاح.
فلولا أنهم مؤمنون، وأنهم تابوا واتبعوا سبيل الله، ولولا أن آباءهم وأزواجهم وذرياتهم صالحون ما استغفرت لهم الملائكة.
إذاً لا يكون استغفار الملائكة إلا ثواباً لإيمانهم وتوبتهم واتباعهم سبيل الله.
وإذاً فهم ينتفعون بإيمانهم وتوبتهم واتباعهم سبيل الله أي أنهم منتفعون بسعيهم وكسبهم وعملهم.
فكيف يقال: إن هؤلاء منتفعون بعمل غيرهم؟
ثم قال رحمه الله:
ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه والحج والصوم وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهو من عمل الغير.
ونقول: إن الصدقة التي وردت السنة بانتفاع الميت بها هي ما يقوم بأدائها ولده من بعده ومثلها العتق والحج والصوم، وقد أسلفنا أن ولد الميت من كسبه بنص الحديث الشريف وقد بينا أن كل ما يعمله الولد نيابة عن والديه من الصدقة والحج فإنه لهما وينتفعان به، وذلك من فضل الله ورحمته فليس للوالدين إلا ما سعيا بنفسهما أو بولدهما الذي ينوب عنهما وهو كسبهما.
339
قال ابن تيمية: إن المدين الذي امتنع الرسول ﷺ من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب، وانتفع بصلاة النبي ﷺ وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير.
ونقول: إن المدين الذي مات وعليه دين يقضي دينه مما ترك، إذ لا تركة إلا بعد وفاء الديون، فإن لم يكن له مال أصبح دينه في ذمة ورثته يجب عليهم أداؤه وهذا المدين إن كان قد استدان وفي نيته أداء الدين ولكن الموت أعجله عن الوفاء فلم يتح له الوفاء حتى مات، فلا إثم عليه. إذ لم يكن عدم الوفاء بتقصير منه، ولا بسبق نية وإصرار.
وإن كان قد استدان وهو عازم على ألا يوفي، فإن نية السوء هذه تلازمه منذ وصل مال الدائن إلى يده حتى لقي حتفه، وهو مؤاخذ بها ومسؤول عنها ولا يخليه من تبعتها أن الدين قد أداه عنه غيره، لأنه ليس مسؤولاً عن الدين فقط، بل عن نية الغدر والإتلاف أيضاًً، فلا يغني عنه أن غيره أدى عنه الدين.
ولكن الله تعالى لا يرضى أن تضيع الحقوق، فجعل الدين في ذمة الورثة يدفعونها إلى الدائن إن كانوا موسرين، فإن كانوا معسرين (فنظرة إلى ميسرة) وقد شدد الرسول الأمين ﷺ في أداء الدين، حتى لقد كان لا يصلي على المدين إذا مات ولم يخلف ما يقضي به دينه ليحمل جماعة المسلمين على أن يتضامنوا في أداء دينه حتى يظفر بصلاة النبي ﷺ على جنازته.
والشريعة الإسلامية سنت مبدأ التضامن الاجتماعي، والتكافل القومي وجعلت مال الشخص في يده يتصرف فيه بالمعروف كيف يشاء، ما لم تكن بجماعة المسلمين حاجة ماسة إليه فإذا مست إليه حاجتهم فهو مالهم جميعاً قال تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) أي لا يأكل بعضكم مال بعض
340
بالباطل.
ولكنه أضاف الأموال إليهم جميعاً ليعلم كل فرد أن المال الذي في يده هو مال الأمة، وأن أموال الأفراد تكون الثروة العامة للأمة، فأبو قتادة حين دفع دين الميت المدين لم يزد على أن تصدق على ورثته بما يؤدي دينه، فإن كان هناك ثواب يرجى، وأجر يمنح، فهو لهذا المتصدق ولا شيء منه للميت إذ لا سعي له ولا عمل، وإن كان الميت سيء القصد، فاسد النية مات وهو مصر على عدم الوفاء، فإنّ وفاء أبي قتادة لا يغني عنه شيئاًً.
فبطل القول بأن في هذا انتفاع الميت بعمل غيره وثبت أن ليس للإنسان إلا ما سعى ولا يظلم ربك أحداً.
قال ابن تيمية: أن النبي ﷺ قال لمن صلى وحده؛ ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ قد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير.
نقول: بل حصل له فضل الجماعة بنيته إذ لو بقي على نية الصلاة فإذاً لم يحصل له فضل الجماعة، والرسول ﷺ يقول: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى " ولو خرج من بيته يريد أن يصلي في المسجد في جماعة، فلم يجد أحداً واضطر أن يصلي منفرداً لكان له أجر نيته، ولو اكتظ المسجد بالمسلمين وصلوا كلهم أفذاذاً لم يكن لأحد منهم فضل الجماعة.
وإذاً لا يكسب فضل الجماعة إلا بالنية، ونية الرجل من كسبه وسعيه وعمله فلا يصح أن يقال: أن هذا حصل له فضل الجماعة بعمل غيره (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل).
ثم قال ابن تيمية: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه، وهو عمل غيره.
ونقول: كلا بل انتفاعه بعمل نفسه، فلولا أنه من زمرة المسلمين ما
341
فرض الله على المسلمين الصلاة عليه، فصلاة المسلمين عليه ودعاؤهم له من ثواب إيمانه، وإيمانه من كسبه كما تقدم، فلو لم يكن مؤمناً ما صلى عليه المؤمنون، ولا دعوا له.
...
ويظهر أن الإمام ابن تيمية قد رجع عن كل ما قاله هنا، فقد قال في بعض فتاويه (فلم يكن من عادة السلف إذا صلوا أو صاموا أو حجوا تطوعاً أو قرأوا القرآن أن يهدوا ثواب ذلك للموتى) انظر مختصر الفتاوى لابن تيمية ص (١٧١).
ويقول: لم يكن من عادة السلف إهداء ذلك إلى موتى المسلمين بل كانوا يدعون لهم فلا ينبغي الخروج عنهم - انظر تفسير المنار (ص ٢٦ جـ ٨).
342

فصل


في قراءة القرآن على الموتى
إذا كان العلامة (أبو الوفاء محمد درويش) قد قوم الخطأ الذي سقط فيه الإمام ابن تيمية في البحث السابق فقد سبقه المرحوم صاحب المنار إلى تقويم الخطأ الذي تورط فيه العلامة ابن القيم، فقد أطال ابن القيم في جواز قراءة القرآن للموتى قياساً على الصدقة والدعاء.. الخ.
وكان هذا التقويم من هذين الشيخين آية جديدة على ما أوتيا من شجاعة أدبية؛ وأن حبهما للإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم لم يمنعهما من الرد عليهما وآية جديدة على أن العصمة لله وحده.
وقد أطال صاحب المنار في تفنيد أدلة جواز قراءة القرآن للموتى (وقد تقدم هنا) وختم هذا البحث القيم بقوله:
وإذ قد علمت أن حديث قراءة سورة يس على الموتى غير صحيح وإن أريد به من حضرهم الموت، وأنه لم يصح في هذا الباب حديث قط، كما قال المحقق الدارقطني فاعلم أن ما اشتهر وعم البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية، ولكنه صار بسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو الفرائض المحتمة.
وخلاصة القول: أن المسألة من الأمور التعبدية التي يجب فيها الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة وعمل الصدر الأول من السلف الصالح؛ وقد علمنا أن القاعدة المقررة في نصوص القرآن الصريحة والأحاديث الصحيحة أن الناس لا يجزون في الآخرة إلا بأعمالهم (٨٢: ١٩) (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاًً) (٣١ - ٢٢) (واخشوا يوماً لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاًً) وأن النبي ﷺ بلغ أقرب أهل
343
عشيرته إليه بأمر ربه أن: " اعملوا لا أغنى عنكم من الله شيئاًً " فقال ذلك لعمه وعمته ولابنته سيدة النساء وأن مدار النجاة في الآخرة على تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح.
والثواب ما يثوب ويرجع إلى العامل من تأثير عمله في نفسه - الخ ما تقدم شرحه مع التذكير بالآيات الكثيرة والأحاديث فيه، وكل ذلك من الأخبار وقواعد العقائد فلا يدخلها النسخ.
وورد مع ذلك الأمر بالدعاء لأحياء المؤمنين وأمواتهم في صلاة الجنازة وفي غيرها، فالدعاء عبادة ثوابها لفاعلها سواء أستجيب أم لا، ويستحيل شرعاً وعقلاً استجابة كل دعاء لتناقض الأدعية ولاقتضاء الاستجابة ألا يعاقب فاسق ولا مجرم إلا إذا اتفق وجود أحد لا يدعو له أحد برحمة ولا مغفرة في صلاة ولا غيرها، ولا يترتب على ذلك من تعطيل كثير من النصوص أو عدم صدقها.
وورد في الأخبار جواز صدقة الأولاد عن الوالدين ودعائهم لهما وقضاء ما وجب عليهما من صيام أو صدقة أو نسك، وقد بينا حكمته مع النصوص فيه، والظاهر من هذا أن الوالدين ينتفعان ببعض عمل أولادهما لأن الشارع ألحقهم بهما، فيسقط عنهما ما ينوبان عنهما فيه من أداء دين الله تعالى كديون الناس.
فمن أراد أن يتبع الهدى، ويتقي جعل الدين تابعاً للهوى، فليقف عند النصوص الصحيحة؛ ويتبع فيها سيرة السلف الصالح ويعرض عن أقيسة بعض الخلف المروجة للبدع؛ وإذا زين لك الشيطان أنه يمكنك أن تكون أهدى وأكمل عملاً بالدين من الصحابة والتابعين فحاسب نفسك على الفرائض والفضائل المجمع عليها والصحيحة التي يضعف الخلاف فيها.
وانظر أين مكانك منها فإن رأيت ولو بعين العجب والغرور أنك بلغت مد أحدهم أو نصيفه من الكمال فيها، فعند ذلك تعذر في الزيادة عليها،
344
وهيهات هيهات لا يدعي ذلك إلا جهول مفتون، أو من به مس من الجنون وأن أكثر المتعبدين بالبدع؛ مقصرون في أداء الفرائض أو في المواظبة على السنن، ومنهم المصرون على الفواحش والمنكرات؛ كإصرارهم على ما التزموا في المقابر من العادات، كاتخاذها أعياداً تشد إليها الرحال، ويجتمع لديها النساء والرجال والأطفال؛ ولا سيما في ليلتي العيدين وأول جمعة من رجب، وتذبح عندها الذبائح؛ وتطبخ أنواع المآكل؛ فيأكلون ثم يشربون، ويبولون ويغوطون ويلغون ويصخبون ويقرأ لهم القرآن من يستأجرون لذلك من العميان، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون. (١)
_________
(١) والحمد لله فقد تم بفضل الله ثم بجهود المخلصين بمنع بعض البدع في بعض الأقطار الإسلامية ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكلل هذه الخطوات لإنهاء هذه الشواذات إنه سميع مجيب.
345

فصل


هل يتأذى الأموات بعمل الأحياء
قدمنا لك الأدلة الكافية في عدم انتفاع الأموات بعمل الخير من الأحياء، فما القول في الموضوع إذا انعكس الأمر؟ هل يتأذى الميت إذا صدر من الحي ما حرمه الله ورسوله؟ ليس في هذا إلا قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه " رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر والمراد به النياحة كما صرح به في بعض الروايات عنه وعن أبيه وورد التصريح بعدم المؤاخذة بالبكاء المجرد وقد أوله بعضهم بأنه يعذب بما نيح عليه إذا أوصى أهله به وكان ممن يرضى به، ويحتمل أن يكون المراد بتعذيب الميت بنواح الحي عليه أنه يشعر ببكائه فيؤلمه ذلك لا أن الله تعالى يعذبه به ويؤاخذه عليه والله أعلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال: توفيت أم عمرو بنت أبان بن عثمان فحضرت الجنازة فسمع ابن عمر بكاء فقال: ألا تنهى هؤلاء عن البكاء فإن النبي ﷺ قال: " إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه " فأتيت عائشة فذكرت لها ذلك. فقالت: " والله إنك لتخبرني عن غير كاذب ولا متهم ولكن السمع يخطىء وفي القرآن ما يكفيكم: (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
وقال الشيخ محمد عبد السلام في رسالته: (القراءة للأموات) ما نصه:
وبعد فقد سألنا أخ لنا في الله تعالى عن قراءة القرآن: هل يصل ثوابها للموتى؟ فأجبناه بما يأتي:
أخرج أبو داود في سننه: أنه ﷺ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: " استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت فإنه الآن
346
يسأل " (١) حديث حسن وأخرج أيضاًً أبو داود وغيره بإسناد حسن: أنه ﷺ كان إذا وضع الميت في لحده قال: " بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله ".
فليس في هذه الأحاديث أنه قرأ سورة لا هو ولا أحد أصحابه على القبر كما يفعل ذلك القراء الآن.
وكذا رواية مسلم عن أبي هريرة قال زار النبي ﷺ قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: " استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت -وفي رواية- فإن فيها عبرة، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة " (٢).
فظهر أن المعروف عنه ﷺ إنما هو الاستغفار لا تلاوة القرآن. وهذا هو المنقول والمعقول أما تلاوة القرآن التي هي أحكام الدين وآدابه وحلاله وحرامه، فلا يمكن أن يفيد الميت شيئاًً قط. والقرآن والسنة الثابتة معنا على ذلك.
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي أن بريدة الأسلمي قال كان رسول الله ﷺ يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، إنا إن شاء الله بكم لاحقون أنتم فرطنا (٣) ونحن لكم تبع، ونسأل الله لنا ولكم العافية " (٤) وليس في هذا الحديث أيضاًً سوى التسليم على أهل المقابر وطلب العافية لهم من الله، وليس فيه ما يشم منه رائحة إباحة تلاوة القرآن للأموات.
وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله
_________
(١) صحيح الجامع/٩٥٦.
(٢) أحمد ٢/ ٤٤١.
(٣) فرطنا أي سبقتمونا.
(٤) صحيح الجامع/٣٥٩٢ بطولة.
347
عليه وسلم كلما كانت ليلتها من رسول الله ﷺ يخرج من آخر الليل إلى البقع فيقول: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد " (١) وهذا ليس فيه سوى طلب المغفرة لأهل الجبانة فلم يقرأ قرآنا.
_________
(١) مقبرة بالمدينة.
348

فصل


(فيما ينتفع به الإنسان بعد موته)
نعم ينتفع الميت بكل ما قررته شريعة الإسلام في كتاب الله وهدي رسوله فقد ورد في الصحيح أنه ﷺ قال: " إذ مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (١) ".
وينتفع الميت بما ورد في حديث: " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه بعد موته " رواه ابن ماجة وابن خزيمة.
وينتفع الميت بعد موته بسنة حسنة سنها فعمل بها من بعده كما روى مسلم في صحيحه أنه ﷺ قال: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء -وفي رواية- من سن سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك " (٢).
وينتفع الميت بالصدقة عنه كما روى البخاري: " أن رجلاً قال لرسول الله ﷺ إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال نعم " (٣).
وفي المسند والسنن عن سعد بن عبادة (رض) أنه قال: " يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل؟ قال " الماء " فحفر بئرا وقال: هذا لأم سعد؛ فسقي الماء من الصدقات التي ينتفع بها الميت من ولده ".
_________
(١) صحيح الجامع/٦١٨١ و٦١٨٢.
(٢) صحيح الجامع/٨٠٥.
(٣) صحيح الجامع/٦٨٢.
349
وأخرج مسلم أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " إن أبي ترك مالاً ولم يوص فهل يكفي أن أتصدق عنه؟ قال نعم ".
وينتفع الميت بدعاء المسلمين واستغفارهم له لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) وفي السنن مرفوعاً: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ".
هذا هو الوارد في هذا الباب مما ينفع الأموات بسعي الأحياء وليس فيها دليل واحد يستأنس به أو يشم منه رائحة جواز قراءة القرآن للموتى أو سورة مخصوصة كسورة (يس) أو غيرها أو عمل عتاقة بسورة الإخلاص مائة ألف مرة أو سبحه بلا إله إلا الله ألف مرة وسنسرد عليك هنا إن شاء الله أقوال المفسرين والمحدثين والأصوليين وأئمة المذاهب المعروفة مما يدلك دلالة واضحة على أن كل ما عليه الناس في مآتمهم وعلى قبورهم لا يتفق وشرائع الإسلام وهدي الرسول عليه السلام.
350
أقوال المفسرين
تفسير الإمام ابن كثير:
قال رحمه الله عند قوله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد كما قال: (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى) (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) أي كما لا يحمل عليه وزر غيره كذلك لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه.
قال: ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله ﷺ أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولو كان خيراً لسبقوا إليه وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء: فأما الدعاء والصدقة فذلك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية من بعده أو علم ينتفع به ". فهذه الثلاثة في الحقيقة من سعيه وكده وعمله كما جاء في الحديث: " أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وأن ولده من كسبه " (١) والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وقد قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس هو أيضاًً من سعيه
_________
(١) أحمد ١/ ٣٦.
351
وعمله. وثبت في الصحيح: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاًً " (١). أهـ.
تفسير الإمام الشوكاني:
قال رحمه الله عند قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) والمعنى ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله ولا ينفع أحداً عمل أحد وهذا العموم مخصص بمثل قوله سبحانه (ألحقنا بهم ذرياتهم) وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد ومشروعية دعاء الأحياء للأموات ونحو ذلك.
ولم يصب من قال: أن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور، فإن الخاص لا ينسخ العام بل يخصصه فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه كان مخصصاً لما في هذه الآية من العموم أهـ.
تفسير الإمام الخازن:
قال رحمه الله عند هذه الآية: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) بعد أن قدم النصوص الدالة على جواز الدعاء والصدقة والحج عن الميت: والمشهور من مذهب الشافعي أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها، وقال جماعة من أصحابه: يصله ثوابها، وبه قال أحمد. وأما الصلوات فلا يصله عند الشافعي والجمهور أهـ.
تفسير المنار:
قال رحمه الله في تفسيره عند آية: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) في آخر سورة الأنعام بعد بحث طويل قال ما حاصله: إن كل ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها إلى الأموات واستئجار القُراء وحبس الأوقاف على ذلك بدع غير مشروعة، ومثلها ما يسمونه إسقاط الصلاة ولو كان لها أصل في الدين لما جهلها السلف ولو
_________
(١) صحيح الجامع/٦١١٠.
352
علموها لما أهملوا العمل بها.
وقال أيضاًً: وإن حديث قراءة سورة يس على الموتى غير صحيح وإن أريد به من حضرهم الموت. وأنه لم يصح في هذا الباب حديث قط كما قال بذلك المحدث الدارقطني.
واعلم أن ما اشتهر وعم البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف، فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية ولكنه صار بسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له، ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو الفرائض المحتمة.
قال: وخلاصة القول أن المسألة من الأمور التعبدية التي يجب فيها الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة وعمل الصدر الأول من السلف الصالح.
قد علمنا أن القاعدة المقررة في نصوص القرآن الصريحة والأحاديث الصحيحة أن الناس لا يجزون في الآخرة إلا بأعمالهم: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاًً) وقال تعالى: (واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاًً) وإن النبي ﷺ بلغ أقرب أهل عشيرته إليه بأمر ربه: " أن اعملوا لا أغني عنكم من الله شيئاًً " وإن مدار النجاة في الآخرة على تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح أهـ.
ونقل السيد رشيد رضا عن الحافظ بن حجر أنه سئل عمن قرأ شيئاًً من القرآن وقال في دعائه: اللهم اجعل ثواب ما قرأته، زيادة في شرف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فأجاب بقوله: هذا مخترع من متأخري القراء لا أعرف لهم سلفاً أهـ.
" نقول " إن كثيراً من المتمشيخين الذين لم يفهموا معنى آية من الكتاب العزيز ولم يفهموا معنى الآية (وما آتاكم الرسول فخذوه) ولا معنى الحديث
353
الصحيح: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (١) وحديث: " وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " (٢) هؤلاء هم الذين يتأكلون بالقرآن فحسابهم على الله.
_________
(١) أحمد ٦/ ١٤٦.
(٢) أحمد ٤/ ١٢٦.
354
أقوال أئمة الحديث
قال الإمام النووي في شرح مسلم في باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه: عند حديث عائشة أن رجلاً أتى النبي ﷺ فقال: " يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال نعم " وفي هذا الحديث أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصل ثوابها. وهو كذلك بإجماع العلماء وكذا أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين بالنصوص الواردة في الجميع، ويصح الحج عن الميت والصوم للأحاديث الصحيحة فيه والمشهور من مذهبنا أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها أهـ.
وقال الإمام الصنعاني في كتاب سبل السلام عند حديث ابن عباس قال: " مر رسول الله ﷺ بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: " السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر " (١) رواه الترمذي بإسناد حسن.
قال: في الحديث دليل على أن الإنسان إذا دعا لأحد أو استغفر يبدأ بالدعاء لنفسه والاستغفار لها، وعليه وردت الأدعية القرآنية (ربنا اغفر لنا ولإخواننا) (فاستغفر لذنبك وللمؤمنين) وفيه أن هذه الأدعية ونحوها نافعة للميت بلا خلاف. وأما غيرها من قراءة القرآن له: فالشافعي يقول: لا يصل ذلك إليه.
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في شرح المنتقى:
والمشهور من مذهب الشافعي وجماعة من أصحابه أنه لا يصل إلى الميت ثواب قراءة القرآن.
ونقول: أن مما يدل دلالة واضحة على أن القرآن لا ينفع الموتى ولا يتلى
_________
(١) ضعيف الجامع/١١٦٧.
355
على قبورهم قول رسول الله ﷺ فيما رواه البيهقي بلفظ: " اقرؤا سورة البقرة في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً " وأيضاًً " صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً " (١) رواه الترمذي والنسائي وأبو يعلي والضياء المقدسي، وصححه السيوطي في الصغير فلو كان القرآن يتلى لنفع الأموات ويقرأ على قبورهم لما قال النبي -الذي هو (بالمؤمنين رؤوف رحيم) - اقرأوا وصلوا في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً. وإنما قال هذا لأن القبور ليست محلاً لقراءة القرآن ولا للصلاة، ولهذا لم يرد حديث واحد بسند صحيح ولا ضعيف مقبول أنه ﷺ قرأ القرآن ولا شيئاًً منه مرة واحدة في حياته كلها مع كثرة زيارته للقبور وتعليمه للناس كيفية زيارتها.
_________
(١) صحيح الجامع/٣٦٧٨.
356
أقوال أئمة المذاهب الأربعة
مذهب أبي حنيفة:
قال في كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان للإمام ملا على القارىء الحنفي (ص ١١٠): ثم القراءة عند القبور مكروهة عند أبي حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله في رواية لأنه محدث لم ترد به السنة. أهـ.
وكذلك قال شارح الإحياء (ج ٣ ص ٢٨٠).
مذهب الشافعي:
استدل الإمام الشافعي على عدم وصول ثواب القراءة بآية: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) وبحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله، الخ " وقال النووي في شرح هذا الحديث: وأما قراءة القرآن وجعل ثوابها للميت والصلاة عنه ونحوها فذهب الشافعي والجمهور أنها لا تلحق الميت. أهـ، وكرر ذلك في عدة مواضع من شرح مسلم.
وقال: وفي شرح المنهاج لابن النحوي: لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور أهـ.
وسئل العز بن عبد السلام عن ثواب القراءة المهدى للميت هل يصل أو لا؟ فأجاب بقوله: ثواب القراءة مقصور على القارىء ولا يصل إلى غيره قال: والعجب من الناس من يثبت ذلك بالمنامات وليست المنامات من الحجج.
مذهب المالكية:
قال الشيخ ابن أبي جمرة: إن القراءة عند المقابر بدعة وليست بسنة.
كذا في المدخل وقال الشيخ الدردير في كتابه الشرح الصغير (ج ١ ص ١٨٠) وكره قراءة شيء من القرآن عند الموت وبعده وعلى القبور لأنه ليس من عمل
357
السلف وإنما كان من شأنهم الدعاء بالمغفرة والرحمة والاتعاظ أهـ. وكذلك في حاشية العلامة العدوي على شرح أبي الحسن.
مذهب الحنابلة:
قال الإمام أحمد لمن يراه يقرأ على القبر: يا هذا إن قراءة القرآن على القبر بدعة. وقال الإمام ابن تيمية. ونقل الجماعة عن أحمد كراهة القرآن على القبور، وهو قول جمهور السلف وعليه قدماء أصحابه وقال أيضاًً: والقراءة على الميت بعد موته بدعة بخلاف قراءة (يس) على المحتضر فإنها تستحب.
وقال: ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً أو صاموا تطوعاً أو حجوا تطوعاً أو قرأوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى موتى المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف.
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد (ج ١ ص ١٤٦): ولم يكن من هديه ﷺ أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن لا عند قبره ولا غيره. وكل هذا بدعة حادثة مكروهة.
وأما حديث: (اقرأوا على موتاكم يس) فهو حديث معلول مضطرب الإسناد مجهول السند. وعلى فرض صحته فلا دلالة فيه قطعاً، فإن المراد من قوله (موتاكم) أي من حضره مقدمات الموت حيث يكون ضعيف البنية ساقط الأعضاء، قد أقبل على الله بكلية فيقرأ عليه ما يزداد به قوة قلب، فهذا قطعاً من عمله في حياته. وخصت (يس) بهذه الحالة لما فيها من ذكر الله وتوحيده وتبشيره بما أعده لعباده الصالحين. فهذه المعاني كلها تجدها في سورة يس. وهذا ملخص ما قاله الفخر الرازي. والعلامة العزيزي على الجامع الصغير في شرحه لهذا الحديث.
وقال الفيروزبادي: قراءة القرآن بدعة ومكروه.
358
كلام علماء الأصول:
قال صاحب كتاب طريق الوصول إلى إبطال البدع بعلم الأصول بعد ما ذكر قاعدة أصولية نفيسة ما نصه: من هذه القاعدة الجليلة تعلم أن أكثر ما تفعله العامة من البدع المذمومة ولنذكر لك أمثلة:
الأول: قراءة القرآن على القبور رحمة بالميت، تركه النبي ﷺ وتركه الصحابة مع قيام المقتضى للفعل، والشفقة للميت وعدم المانع منه، فبمقتضى القاعدة المذكورة يكون تركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة، وكيف يعقل أن يترك الرسول ﷺ شيئاًً نافعاً لأمته يعود عليها بالرحمة ويتركه الرسول ﷺ طول حياته ولا يقرأه على ميت مرة واحدة؟
الثاني: قراءة الصمدية بعدد معلوم أو الجلالة بعدد معلوم. القرآن في ذاته عبادة لقارئه يتقرب بقراءته وبسماعه إلى الله تعالى ولا ينازع في ذلك أحد، إنما النزاع في قراءته للميت ليكون عتقاً لرقبته من النار.
مع العلم بأن القرآن ما نزل للأموات وإنما نزل للأحياء نزل ليكون تبشيراً للمطيع وإنذاراً للعاصي، نزل لنهذب به نفوسنا ونصلح به شؤوننا، أنزل الله القرآن كغيره من الكتب السماوية ليعمل على طريقه العاملون، ويهتدي بهديه المهتدون، قال جل شأنه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
فهل سمعتم أن كتاباً من الكتب السماوية قرىء على الأموات أو أخذت عليه الأجور والصدقات؟ ويقول الله خطابا لنبيه (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).
أكان النبي ﷺ يقرأ على أصحابه عدداً معلوماً من
359
الصمدية أو عدداً معلوماً من الجلالة ليكون ذلك عتقاً لرقبتهم، وإنقاذاً لهم من النار؟ مع العلم بأن من ليس بمعصوم في حاجة إلى تكفير السيئات ورفع الدرجات، أم كانت سنته أن يدفن الرجل من أصحابه ويذهب كل إلى عمله ليس له إلا ما قدم؟ هذه كانت سنته وهذه طريقته والله تعالى يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) فلنتأس به في الفعل، كما نتأسى به في الترك أهـ. كلام صاحب طريق الوصول.
360

فصل في أشياء تتعلق بذلك


وأما ما يروى عن ابن عمر أنه أوصى بقراءة الفاتحة وخواتيم البقرة على قبره، فهو أثر شاذ لم يصح سنده، ولم يوافقه عليه أحد من الصحابة، وكذلك ما يروى من قراءة الفاتحة والصمدية والمعوذتين وألهاكم والكافرون وإهدائها لأهل المقابر فباطل لمخالفتها لأقوال النبي وأفعاله وأقوال وأفعال أصحابه.
- ومن البدع: قراءة القرآن في الشوارع والطرقات وعلى أبواب الأضرحة للتعيش والارتزاق، إذ في ذلك تسول فاحش بالقرآن فهو امتهان للقرآن، والتسول يحرمه الدين الإسلامي تحريماً باتاً، وهو بالقرآن أشد تحريماً ولكن يجب على العلماء أن يفهموا الحكومة والأغنياء أنه فرض عليهم أن ينفقوا على هؤلاء العميان وأن يستخدموهم في أي عمل كصناعة الزنابيل وخيزران الكراسي وما يليق بهم من الصناعات.
- ومن البدع: نصب السرادقات (الصواوين) يوم وفاة الميت وعمل السبحة التي هي عبارة عن التهليل ألف مرة من المعزين، ويهبون ثوابها للميت وأصلها منام رآه بعض المتمشيخين فأذاعه بين إخوانه الجهلاء فاتخذوها سنة ثم حديث من قرأ: قل هو الله أحد ألف مرة فقد اشترى نفسه من النار، موضوع وفيه مجاشع الكذاب.
- ومن البدع: والمنكر أنهم يجددون الحزن كل خميس بعد وفاة الميت إلى يوم الأربعين أو إلى أول عيد له، ويعملون السرادقات ويحضرون القراء وينتظرون مجيء الناس إليهم للتعزية، وقد روى الإمام أحمد وابن ماجة بإسناد صحيح عن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة " وقال الشافعي: يكره الجلوس للتعزية. وقال الأوزاعي مثله. وقال الإمام أحمد: وهو من فعل الجاهلية وأنكره.
361
- ومن البدع: ذهاب النساء والرجال إلى المقابر في الأعياد والجمع ومعهم القرص والبلح لتوزيعها على القراء وغيرهم، ومن عيوب القراء أنهم يقولون للجالسات على القبر: أقرأ سورة هنا يا ست ثم يتشاجر معها بعد القراءة لقلة ما تعطيه، وهذا قبيح جداً يحط من كرامة القراء ورجولتهم.
وعلاج ذلك أن تمنع الحكومة في شدة وحزم هذه المهازل قبل وقوعها فلا تسمح للنساء بالخروج إلى المقابر وتجري على هؤلاء القراء ما يغنيهم عن ذلك، كما يجب على العلماء أن يذكروا وينكروا ذلك العمل عند كل مناسبة.
- ومن البدع: تسهير القراء في شهر رمضان إذ لم يكن هذا من فعل السلف الصالح ولا هو من تعليم الرسول ﷺ وليس في الكتب الصحيحة بل ولا غيرها ما يدل على جواز ذلك. وإنما المطلوب شرعاً أن نتدارس القرآن كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم: " كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله " (١) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
- ومن البدع: قراءة سورة ياسين ٤٠ مرة بقصد إهلاك شخص أو إضرار طائفة وغاب عن هؤلاء أن الله أنزل القرآن شفاء ورحمة وأرسل الرسول رحمة للعالمين، وما أنزل الله علينا القرآن لنشقى، وهذا من الجهلاء شنيع، لكنه من أهل العلم أشنع وأفظع، ولكن ضللهم هؤلاء بقولهم خذ من القرآن ما شئت لما شئت " ويس " لما قرأت له. وكلاهما باطل لا أصل له.
- ومن البدع: قراءة سورة الكهف بالمساجد على الهيئة المعروفة، والسنة أن يقرأها يوم الجمعة كل مسلم ومسلمة لحديث: " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين " وفي رواية: " أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق " وهذان الحديثان ضعيفان وهما يفيدان أن الكل مطلوب منه قراءة سورة الكهف ولكن التشويش بها من
_________
(١) صحيح الجامع ٦٣٤٦ و٦٣٤٧.
362
قارىء واحد ممنوع شرعاً وعقلاً وفي الحديث: " لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن " رواه مالك في الموطأ وأبو داود في سننه.
وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي مرفوعاً: " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ".
- ومن البدع: قراءة سورة تبارك جماعة على صوت واحد كما يفعل ذلك جماعة الخلوتية وغيرهم، أما السورة نفسها فقراءتها سنة: " إن سورة من القرآن ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك " (١) رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان.
- ومن البدع: قراءة سورة الفاتحة لروح النبي ﷺ بعد صلاة الظهر وقراءتها بعد صلاة العصر لروح عمر وبعد صلاة المغرب لروح عثمان وبعد صلاة العشاء لروح علي ويعتقدون أنهم بهذا يحضرونهم عند تغسيلهم بعد الموت أو عند سؤال القبر، وتلك بدع وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان.
- ومن البدع: قول بعض المصلين عقب التسليم من صلاة الجمعة فوراً (الفاتحة لسيدي الحسين) أو يقول: (للسيد البدوي) أو (الفاتحة على هذه النية) وهذا جهل قبيح، ولكن لماذا يقره العلماء ويسكتون عليه؟ الحق أن الكل أجمع على ترك أوامر الدين ولا قوة إلا بالله.
- ومن البدع: تعليق المصحف على الصغير أو الكبير كحجاب أو للنظرة. وكذا من البدع كتابة شيء من القرآن لهذا الغرض والمشروع قراءة آية الكرسي عند النوم أو المعوذتين أو قراءة الأدعية الواردة في السنة لهذا فليعلم.
- ومن البدع: تعليق سورة (ألم نشرح) في ورقة على الدكاكين لجلب
_________
(١) صحيح الجامع ٦٢٧٧.
363
الزبون، والمطلوب حسن المعاملة وحسن الخلق والصدق وعدم رفع الأسعار فإن هذا حقاً يجلب الزبون، وقد نهى الإسلام عن التعليق حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من علق فقد أشرك " (١).
- ومن البدع: أنهم عندما يمرون بقبر أو تابوت أو قبة يتجهون إلى القبلة رافعين أيديهم إلى السماء قائلين: الفاتحة لصاحب هذا المقام ويكثرون من الدعاء ثم يمسحون وجوههم بأيديهم قائلين: راعنا يا سيدي راعنا سقت عليك النبي، وهذا منهم بدعة وجهل وضلال، وهذه كبدعة زائري القبور فإنهم أيضاًً يقولون: الفاتحة لروح أمواتنا وأموات المسلمين كافة عامة، ثم يقول يا حي يا قيوم ويقرأ الفاتحة.
(تم الملحق)
_________
(١) روى بمعناه ضعيف الجامع ٥٧١٥ وصحيح الجامع ٦٥٧٠.
364

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة الصافات
(هي مائة واثنتان وثمانون آية وهي مكية)
قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بمكة وعن ابن عمر قال: كان رسول الله - ﷺ - " يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات " أخرجه النسائي والبيهقي في سننه.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من قرأ يس والصافات يوم الجمعة ثم سأل الله أعطاه سؤاله "، أخرجه ابن أبي داود في فضائل القرآن وابن النجار في تاريخه.
وعنه: " أن النبي - ﷺ - لما سأله ملوك حضرموت عند قدومهم عليه أن يقرأ عليهم شيئاً مما أنزل إليه قرأ: والصافات صفاً، حتى بلغ رب المشارق والمغارب " الحديث أخرجه أبو نعيم في الدلائل والسلفي في الطيوريات.
365

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (٢) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (٣) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (٦) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (٧)
367
Icon