ﰡ
كتاب خبر مبتدأ محذوف، أي هذا كتاب، والكتاب، فعال بمعنى مفعول، أي مكتوب.
وإنما قيل له كتاب، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى ﴿ بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ في لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ [ البروج : ٢١-٢٢ ].
ومكتوب أيضاً في صحف عند الملائكة كما قال تعالى :﴿ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ في صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بأيدي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [ عبس : ١١-١٦ ].
وقال تعالى في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، لما تضمنته الصحف المكتوب فيها القرآن :﴿ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَة ًفِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾ [ البينة : ٢-٣ ].
وقوله تعالى : في هذه الآية الكريمة :﴿ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ ﴾.
التفصيل ضد الإجمال، أي فصل الله آيات هذا القرآن، أي بينها وأوضح فيها ما يحتاج إليه الخلق، من أمور دينهم ودنياهم.
والمسوغ لحذف الفاعل في قوله تعالى :﴿ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ ﴾ هو العلم بأن تفصيل آيات هذا القرآن، لا يكون إلا من الله وحده.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تفصيل آيات هذا الكتاب، جاء موضحاً في آيات أخر، مبيناً فيها أن الله فصله على علم منه وأن الذي فصله حكيم خبير، وأنه فصله ليهدي به الناس ويرحمهم، وأن تفصيله شامل لكل شيء، وأنه لا شك أنه منزل من الله كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأعراف : ٥٢ ] وقوله تعالى :﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [ هود : ١ ]. وقوله تعالى ﴿ وَمَا كَانَ هذا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ يونس : ٣٧ ] وقوله تعالى ﴿ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شيء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يوسف : ١١١ ] وقوله تعالى :﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ﴾ [ الأنعام : ١١٤ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
قوله تعالى :﴿ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون َبَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ [ ٣ -٤ ].
قوله : قرآناً عربياً قد تكلمنا عليه وعلى الآيات التي بمعناه في القرآن في سورة الزمر، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذي عِوَجٍ ﴾ [ الزمر : ٢٨ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾، أي فصلت آياته، في حال كونه قرآناً عربياً لقوم يعلمون.
وإنما خصهم بذلك، لأنهم هم المنتفعون بتفصيله، كما خصهم بتفصيل الآيات في سورة يونس في قوله تعالى :﴿ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [ يونس : ٥ ]، وفي سورة الأنعام في قوله تعالى ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩٧-٩٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا وجه تخصيص المنتفعين بالأمر المشترك دون غيرهم في سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصلاة ﴾ [ فاطر : ١٨ ] وبينا هناك أن تخصيصهم بالإنذار دون غيرهم، في آية فاطر هذه، وفي قوله تعالى في يس ﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وخشي الرَّحْمانَ بِالْغَيْبِ ﴾ [ يس : ١١ ] وقوله في النازعات :﴿ إنما أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٥ ] وقوله في الأنعام ﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ﴾ [ الأنعام : ٥١ ] الآية. مع أن أصل الإنذار عام شامل للمذكورين وغيرهم كما يدل عليه قوله تعالى ﴿ تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ].
وإنما خص المذكورين بالإنذار، لأنهم هم المنتفعون به، لأن من لم ينتفع بالإنذار، ومن لم ينذر أصلاً سواء في عدم الانتفاع، كما قال الله تعالى ﴿ وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ﴾ [ يس : ١٠ ].
وقوله تعالى، في هذه الآية الكريمة ﴿ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾ حال بعد حال. وقد قدمنا الكلام عليه وبعض شواهده العربية، في أول سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى ﴿ لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الكهف : ٢ ] الآية. وبسطنا الكلام عليه في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى ﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأعراف : ٢ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس في الكلام على قوله تعالى ﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ﴾ [ يس : ٧ ] وفي سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن في الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ أي لا يسمعون سماع قبول وانتفاع.
وقد أوضحنا ذلك بالآيات القرآنية في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى ﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ ﴾ [ النمل : ٨٠ ] الآية.
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الكفار صرحوا للنبي صلى الله عليه وسلم، بأنهم لا يستجيبون له ولا يؤمنون به، ولا يقبلون منه ما جاءهم به فقالوا له قلوبنا التي نعقل بها، ونفهم في أكنة، أي أغطية.
والأكنة، جمع كنان، وهو الغطاء والغلاف الذي يغطي الشيء ويمنعه من الوصول إليه.
ويعنون أن تلك الأغطية، مانعة لهم من فهم ما يدعوهم إليه صلى الله عليه وسلم، وقالوا إن في آذانهم التي يسمعون بها وقراً أي : ثقلاً وهو الصمم. وأن ذلك الصمم مانع لهم من أن يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ومما يقول، كما قال تعالى عنهم :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ].
وأن من بينهم وبينه حجاباً، مانعاً لهم من الاتصال والاتفاق، لأن ذلك الحجاب يحجب كلا منهما عن الآخر، ويحول بينهم وبين رؤية ما يبديه صلى الله عليه وسلم من الحق.
والله جل وعلا، ذكر عنهم هذا الكلام في معرض الذم، مع أنه تعالى صرح بأنه جعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وجعل بينهم وبين رسوله حجاباً، عند قراءته القرآن، قال تعالى في سورة بني إسرائيل :﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ [ الإسراء : ٤٥-٤٦ ]. وقال تعالى في الأنعام ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ [ الأنعام : ٢٥ ]، وقال تعالى في الكهف :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً ﴾ [ الكهف : ٥٧ ].
وهذا الإشكال الذي أشرنا إليه في هذه الآيات قوي، ووجه كونه مشكلاً ظاهر، لأنه تعالى ذمهم على دعواهم الأكنة والوقر والحجاب في هذه الآية الكريمة من فصلت، وبين في الآيات الأخرى أن ما ذمهم على ادعائه واقع بهم فعلاً، وأنه تعالى هو الذي جعله فيهم.
فيقال : فكيف يذمون على قول شيء، هو حق في نفس الأمر.
والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال، هو ما ذكرناه مراراً، من أن الله إنما جعل على قلوبهم الأكنة، وطبع عليها وختم عليها، وجعل الوقر في آذانهم، ونحو ذلك من الموانع من الهدى، بسبب أنهم بادروا إلى الكفر، وتكذيب الرسل طائعين مختارين، فجزاهم الله على ذلك الذنب الأعظم، طمس البصيرة، والعمى عن الهدى، جزاء وفاقاً.
فالأكنة والوقر والحجاب المذكورة إنما جعلها الله عليهم، مجازاة لكفرهم الأول.
ومن جزاء السيئة، تمادي صاحبها في الضلال، ولله الحكمة البالغة في ذلك.
والآيات المصرحة بمعنى هذا كثيرة في القرآن، كقوله تعالى :﴿ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [ النساء : ١٥٥ ].
فقول اليهود في هذه الآية ﴿ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ كقول كفار مكة :﴿ قُلُوبُنَا ﴾ ﴿ في أَكِنَّةٍ ﴾ لأن الغلف، جمع أغلف وهو الذي عليه غلاف، والأكنة جمع كنان، والغلاف والكنان كلاهما بمعنى الغطاء الساتر.
وقد رد الله على اليهود دعواهم ببل التي هي للإضراب الإبطالي، في قوله ﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [ النساء : ١٥٥ ].
فالباء في قوله : بكفرهم سببية، وهي دالة على أن سبب الطبع على قلوبهم هو كفرهم، والأكنة والوقر والطبع كلها من باب واحد.
وكقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ [ المنافقون : ٣ ]، والفاء في قوله : فطبع سببية أي ثم كفروا، فطبع على قلوبهم بسبب ذلك الكفر.
وقد قدمنا مراراً أنه تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل، ومن المعلوم أن العلة الشرعية سبب شرعي.
وكذلك الفاء في قوله :﴿ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ [ المنافقون : ٣ ] فهي سببية أيضاً، أي فطبع على قلوبهم، فهم بسبب ذلك الطبع لا يفقهون أي لا يفهمون من براهين الله وحججه شيئاً.
وذلك مما يبين أن الطبع والأكنة يؤول معناهما إلى شيء واحد، وهو ما ينشأ عن كل منهما من عدم الفهم.
لأنه قال في الطبع ﴿ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ [ المنافقون : ٣ ].
وقال في الأكنة :﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ [ الأنعام : ٢٥ ] أي كراهة أن يفقهوه، أو لأجل ألا يفقهوه، كما قدمنا إيضاحه.
وكقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [ الصف : ٥ ] فبين أن زيغهم الأول، كان سبباً لإزاغة الله قلوبهم، وتلك الإزاغة قد تكون بالأكنة والطبع والختم على القلوب.
وكقوله تعالى :﴿ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [ البقرة : ١٠ ] وقوله تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٥ ] الآية.
وإيضاح هذا الجواب : أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفي ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت : ٥ ] يقصدون بذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يؤمنون به بوجه، ولا يتبعونه بحال، ولا يقرون بالحق الذي هو كون كفرهم هذا هو الجريمة، والذنب الذي كان سبباً في الأكنة، والوقر والحجاب.
فدعواهم كاذبة، لأن الله جعل لهم قلوباً يفهمون بها، وآذاناً يسمعون بها، خلافاً لما زعموا، ولكنه، سبب لهم الأكنة، والوقر والحجاب، بسبب مبادرتهم إلى الكفر، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى أوضحه رده تعالى على اليهود في قوله عنهم :﴿ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [ النساء : ١٥٥ ].
وقد حاول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة، الجواب على الإشكال المذكور فقال : فإن قيل إنه تعالى حكى هذا المعنى عن الكفار فقال في معرض الذم، وذكر أيضاً ما يقرب منه في معرض الذم، فقال :﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾ [ البقرة : ٨٨ ] ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معنى التقدير والإثبات في سورة الأنعام، فقال :﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ [ الأنعام : ٢٥ ] فكيف الجمع بينهما ؟
قلنا : إنه لم يقل ها هنا إنهم كذبوا في ذلك، إنما الذي ذمهم عليه، أنهم قالوا إذا إنا كنا كذلك، لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا، وهذا الثاني باطل.
أما الأول : فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه. ا ه منه. والأظهر : هو ما ذكرنا.
قال صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى :﴿ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت : ٥ ].
فإن قلت : هل لزيادة : من في قوله : ومن بيننا وبينك حجاب فائدة ؟ قلت : نعم.
لأنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب، لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين.
وأما بزيادة «مِنْ » فالمعنى : أن حجاباً ابتدأ منا وابتدأ منك. فالمسافة المتوسطة لجهتنا، وجهتك مستوعبة بالحجاب، لا فراغ فيها. انتهى منه.
واستحسن كلامه هذا الفخر الرازي وتعقبه ابن المنير على الزمخشري، فأوضح سقوطه والحق معه في تعقبه عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت : ٥ ]، وقد قدمنا تفسيره وإيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا ﴾ [ الإسراء : ٤٥ ].
أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقول للناس :﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إلهكم إِلٌَه وَاحِدٌ ﴾.
والقصر في قوله :﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ ﴾ إضافي أي لا أقول لكم إني ملك، وإنما أنا رجل من البشر.
وقوله :﴿ مِّثْلُكُمْ ﴾ في الصفات البشرية، ولكن الله فضلني بما أوحى إليَّ من توحيده.
كما قال تعالى عن الرسل في سورة إبراهيم :﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ إبراهيم : ١١ ] أي كان منَّ علينا بالوحي والرسالة.
وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكره في آخر سورة الكهف في قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إلهكم إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ [ الكهف : ١١٠ ] الآية.
وقد أوضحنا وجه حصر ما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم، في مضمون لا إله إلا الله، في قوله تعالى ﴿ قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إلهكم إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٨ ] في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى ﴿ إِنَّ هذا الْقُرْءَانَ يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ].
وبينا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك إنكار المشركين كون الرسل من البشر، وأنهم ينبغي أن يكونوا من الملائكة، وما رد الله عليهم به ذلك من الآيات القرآنية، أوضحنا ذلك في سورة ص، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾ [ ص : ٤ ] وفي سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ ﴾ إلى قوله :﴿ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٤ -٩٥ ].
قوله تعالى :﴿ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَـافِرُونَ ﴾ [ ٦ -٧ ].
قد استدل بعض علماء الأصول بهذه الآية الكريمة، على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لأنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة، بأنهم مشركون، وأنهم كافرون بالآخرة، وقد توعدهم بالويل على شركهم وكفرهم بالآخرة، وعدم إيتائهم الزكاة، سواء قلنا إن الزكاة في الآية هي زكاة المال المعروفة، أو زكاة الأبدان بفعل الطاعات واجتناب المعاصي.
ورجح بعضهم القول الأخير لأن سورة فصلت هذه، من القرآن النازل بمكة قبل الهجرة، وزكاة المال المعروفة إنما فرضت بعد الهجرة سنة اثنتين، كما قدمناه في سورة الأنعام، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ].
وعلى كل حال، فالآية تدل على خطاب الكفار بفروع الإسلام.
أعني امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، من كونهم مخاطبين بذلك وأنهم يعذبون على الكفر، وَيعذبون على المعاصي، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى عنهم مقرراً له :﴿ مَا سَلَكَكُمْ في سَقَر َقَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِين َوَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين ِحَتَّى أَتَـانَا الْيَقِينُ ﴾ [ المدثر : ٤٢-٤٧ ].
فصرح تعالى عنهم، مقرراً له أن من الأسباب التي سلكتهم في سقر، أي أدخلتهم النار، عدم الصلاة، وعدم إطعام المسكين، وعد ذلك مع الكفر بسبب التكذيب بيوم الدين.
ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ ﴾ ثم بين سبب ذلك فقال :﴿ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَـاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ﴾ ـ إلى غير ذلك من الآيات.
الأجر جزاء العمل، وجزاء عمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هو نعيم الجنة وذلك الجزاء غير ممنون، أي غير مقطوع، فالممنون اسم مفعول منه بمعنى قطعه، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته :
لمعفر فهدٍ تنازع شِلْوَة | غُبْسٌ كواسِبُ ما يمن طعامها |
إني لعمرك ما بابي بذي غلق | على الصديق ولا خيري بممْنونِ |
فقوله : غير مجذوذ أي غير مقطوع، وبه تعلم أن غير مجذوذ وغير ممنون، معناهما واحد.
وقوله تعالى في ص ﴿ إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴾ أي ماله من انتهاء ولا انقطاع. وقوله في النحل ﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [ النحل : ٩٦ ].
وهذا الذي ذكرنا هو الذي عليه الجمهور خلافاً لمن قال : إن معنى غير ممنون، غير ممنون عليهم به.
وعليه، فالمن في الآية من جنس المن المذكور، في قوله تعالى :﴿ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ والأذى ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ].
ومن قال : إن معنى غير ممنون، غير منقوص، محتجاً بأن العرب تطلق الممنون على المنقوص، قالوا : ومنه قول زهير :
فضل الجياد على الخيل البطاءِ فلا | يعطي بذلك مَمْنوناً ولا نَزَقَا |
وهذا وإن صح لغة، فالأظهر أنه ليس معنى الآية.
بل معناها : هو ما قدمنا. والعلم عند الله تعالى.
الظاهر أن معنى قوله هنا في أربعة أيام : أي في تتمة أربعة أيام.
وتتمة الأربعة حاصلة بيومين فقط، لأنه تعالى قال :﴿ قُلْ أَءِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ ﴾ ثم قال في أربعة أيام، أي في تتمة أربعة أيام.
ثم قال :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ في يَوْمَيْنِ ﴾ [ فصلت : ١٢ ] فتضم اليومين إلى الأربعة السابقة، فيكون مجموع الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض وما بينهما، ستة أيام.
وهذا التفسير الذي ذكرنا في الآية لا يصح غيره بحال، لأن الله تعالى صرح في آيات متعددة من كتابه بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله في الفرقان :﴿ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾ [ الفرقان : ٥٩ ]. وقوله تعالى في السجدة ﴿ اللَّهُ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ ﴾ [ السجدة : ٤ ] الآية.
وقوله تعالى في ق. ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴾ [ ق : ٣٨ ] وقوله تعالى في الأعراف ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الذي خَلَقَ السَمَاوَاتِ والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
فلو لم يفسر قوله تعالى ﴿ في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ﴾ بأن معناه في تتمة أربعة أيام، لكان المعنى أنه تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ثمانية أيام، لأن قوله تعالى :﴿ في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ﴾ إذا فسر بأنها أربعة كاملة ثم جمعت مع اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض المذكورين في قوله ﴿ قُلْ أَءِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ ﴾ [ فصلت : ٩ ]، واليومين اللذين خلقت فيهما السماوات المذكورين في قوله تعالى :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ في يَوْمَيْنِ ﴾ [ فصلت : ١٢ ] لكان المجموع ثمانية أيام.
وذلك لم يقل به أحد من المسلمين.
والنصوص القرآنية مصرحة بأنها ستة أيام، فعلم بذلك صحة التفسير الذي ذكرنا وصحة دلالة الآيات القرآنية عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رواسي مِن فَوْقِهَا ﴾ قد قدمنا الكلام على أمثاله من الآيات، في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَلْقَى في الأرض رواسي أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [ النحل : ١٥ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَبَارَكَ فِيهَا ﴾ أي أكثر فيها البركات، والبركة الخير، وقوله تعالى ﴿ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا ﴾.
التقدير والخلق في لغة العرب معناهما واحد.
والأقوات جمع قوت، والمراد بالأقوات أرزاق أهل الأرض ومعايشهم وما يصلحهم.
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب :
إن آية فصلت هذه، أعني قوله تعالى :﴿ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا ﴾ يفهم منها الجمع بين الآيات الدالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كقوله هنا ﴿ قُلْ أَءِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ ﴾ ثم رتب على ذلك بثم، قوله ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ ﴾ إلى قوله ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ في يَوْمَيْنِ ﴾ [ فصلت : ١١-١٢ ] مع بعض الآيات الدالة على أن السماء خلقت قبل الأرض، كقوله تعالى في النازعات :﴿ أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا ﴾ إلى قوله :﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٢٧ -٣٠ ].
فقلنا في كتابنا المذكور ما نصه :
قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ ﴾ [ البقرة : ٢٩ ] الآية، هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء، بدليل لفظة التي هي للترتيب والانفصال.
وكذلك آية حم السجدة، تدل أيضاً على خلق الأرض قبل السماء، لأنه قال فيها :﴿ قُلْ أَءِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ ﴾ [ فصلت : ٩ ] إلى أن قال ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ ﴾ [ فصلت : ١١ ] الآية.
مع أن آية النازعات تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء، لأنه قال فيها ﴿ أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا ﴾ [ النازعات : ٢٧ ]، ثم قال :﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣٠ ].
اعلم أولاً أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية السجدة وآية النازعات، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولاً قبل السماء غير مدحوة، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعاً في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك.
فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك، بعد خلق السماء.
ويدل لهذا أنه قال :﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣٠ ] ولم يقل خلقها ثم فسر دحوه إياها بقوله :﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣١ ] وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه. مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يرد عليه إشكال من آية البقرة هذه.
وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء.
وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها ﴿ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ ﴾ [ البقرة : ٢٩ ] الآية.
وقد مكثت زمناً طويلاً أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرآن العظيم.
وإيضاحه : أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين، كل منهما تدل عليه آية من القرآن.
الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعاً قبل خلق السماء : الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل، الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود، والعرب تسمي التقدير خلقاً. ومنه قول زهير :
ولأنت تَفْري ما خلقت | وبعض القوم يخلُقُ ثم لا يَفْري |
الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مدحوة وهي أصل لكل، ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلاً.
والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع، وإن لم يكن موجوداً بالفعل، قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ ﴾ [ الأعراف : ١١ ] الآية، فقوله ﴿ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾ [ الأعراف : ١١ ] أي بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم.
وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله ﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣٠ ] أي مع ذلك، فلفظة بعد، بمعنى مع.
ونظيره قوله تعالى :﴿ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾ [ القلم : ١٣ ] وعليه فلا إشكال في الآية.
ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة وبها قرأ مجاهد، والأرض مع لك دحاها.
وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة. لأنها مبينة على أن خلق السماء قبل الأرض وهو خلاف التحقيق.
منها أن ثم : بمعنى الواو.
ومنها : أنها للترتيب الذكري كقوله تعالى ﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ [ البلد : ١٧ ] الآية.
المصابيح : النجوم.
وما تضمنته هذه الآية من تزيين السماء الدنيا بالنجوم، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة الأنعام، في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا ﴾ [ الأنعام : ٩٧ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَحِفْظاً ﴾ قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الحجر، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ [ الحجر : ١٧ ] الآية.
قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة ص، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾.
الصرصر : وزنه بالميزان الصرفي فعفل، وفي معنى الصرصر لعلماء التفسير وجهان معروفان.
أحدهما : أن الريح الصرصر هي الريح العاصفة الشديدة الهبوب، التي يسمع لهبوبها صوت شديد، وعلى هذا فالصرصر من الصرة، التي هي الصيحة المزعجة.
ومنه قوله تعالى ﴿ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ في صَرَّةٍ ﴾ [ الذاريات : ٢٩ ] أي في صيحة، ومن هذا المعنى صرير الباب والقلم، أي صوتهما.
الوجه الثاني : أن الصرصر من الصر الذي هو البرد الشديد المحرق، ومنه على أصح التفسيرين قوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ﴾ [ آل عمران : ١١٧ ] الآية. أي فيها برد شديد محرق، ومنه قول حاتم الطائي :
أوقد فإن الليل ليل قر*** والريح يا واقد ريح صرُّ
علَّ يرى نارك من يمر*** إن جلبت ضيفاً فأنت حرُّ
فقوله : ريح صر، أي باردة شديدة البرد.
والأظهر أن كلا القولين صحيح، وأن الريح المذكورة. جامعة بين الأمرين، فهي عاصفة شديدة الهبوب، باردة شديد البرد.
وما ذكره جل وعلا من إهلاكه عاداً بهذه الريح الصرصر، في تلك الأيام النحسات، أي المشؤومات النكدات، لأن النحس ضد السعد، وهو الشؤم جاء موضحاً في آيات من كتاب الله.
وقد بين تعالى في بعضها عدد الأيام والليالي التي أرسل عليهم الريح فيها، كقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٦ -٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَفي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شيء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [ الذاريات : ٤١ -٤٢ ] : وقوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً في يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ [ القمر : ١٩-٢٠ ] وقوله تعالى :﴿ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شيء بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ [ الأحقاف : ٢٤- ٢٥ ] الآية.
وهذه الريح الصرصر هي المراد بصاعقة عاد في قوله تعالى :﴿ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ ﴾ [ فصلت : ١٣ ] الآية.
وقرأ هذا الحرف نافع، وابن كثير، وأبو عمر، نَحْسات، بسكون الحاء، وعليه فالنحس، وصف أو مصدر، نزل منزلة الوصف.
وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، نَحِسات بكسر الحاء ووجهه ظاهر.
قد قدمنا أن معنى النحسات : المشؤومات النكدات.
وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نافع بن الأزرق قال له أخبرني عن قوله عز وجل :﴿ في يَوْمِ نَحْسٍ ﴾ [ القمر : ١٩ ]. قال : النحس، البلاء والشدة، قال وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم، أما سمعت زهير بن أبي سلمى يقول :
سواء عليه أي يوم أتيته | أساعة نحس تتقي أم بأسعد |
ويزعم بعض أهل العلم، أنها من آخر شوال، وأن أولها يوم الأربعاء وآخرها يوم الأربعاء، ولا دليل على شيء من ذلك.
وما يذكره بعض أهل العلم من أن يوم النحس المستمر، هو يوم الأربعاء الأخير من الشهر، أو يوم الأربعاء مطلقاً، حتى إن بعض المنتسبين لطلب العلم وكثيراً من العوام صاروا يتشاءمون بيوم الأربعاء الأخير من كل شهر، حتى إنهم لا يقدمون على السفر، والتزويج ونحو ذلك فيه، ظانين أنه يوم نحس وشؤم، وأن نحسه مستمر على جميع الخلق في جميع الزمن، لا أصل له ولا معول عليه، ولا يلتفت إليه، من عنده علم، لأن نحس ذلك اليوم مستمر على عاد فقط الذين أهلكهم الله فيه، فاتصل لهم عذاب البرزخ والآخرة، بعذاب الدنيا، فصار ذلك الشؤم مستمراً عليهم استمراراً لا انقطاع له.
أما غير عاد فليس مؤاخذاً بذنب عاد، لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
وقد أردنا هنا أن نذكر بعض الروايات التي اغتر بها، من ظن استمرار نحس ذلك اليوم، لنبين أنها لا معول عليها.
قال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش ﴿ في يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ﴾ [ القمر : ١٩ ] «قال : يوم الأربعاء ».
وأخرج ابن المنذر وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال لي جبريل أقض باليمين مع الشاهد. وقال : يوم الأربعاء يوم نحس مستمر ».
وأخرج ابن مردويه عن علي قال :«نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد والحجامة ويوم الأربعاء يوم نحس مستمر ».
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«يوم نحس يوم الأربعاء ».
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال :«سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأيام، وسئل عن يوم الأربعاء قال : يوم نحس، قالوا كيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : أغرق فيه الله فرعون وقومه، وأهلك عاداً وثمود ».
وأخرج وكيع في الغرر وابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر ».
فهذه الروايات وأمثالها لا تدل على شؤم يوم الأربعاء على من لم يكفر بالله ولم يعصه لأن أغلبها ضعيف وما صح معناه منها، فالمراد بنحسه شؤمه على أولئك الكفرة العصاة الذين أهلكهم الله فيه بسبب كفرهم ومعاصيهم.
فالحاصل أن النحس والشؤم إنما منشأة وسببه الكفر والمعاصي.
أما من كان متقياً لله مطيعاً له، في يوم الأربعاء المذكور فلا نحس، ولا شؤم فيه عليه. فمن أراد أن يعرف النحس والشؤم والنكد، والبلاء والشقاء على الحقيقة، فليتحقق أن ذلك كله في معصية الله وعدم امتثال أمره، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾ المراد بالهدى فيه هدى الدلالة والبيان، والإرشاد، لا هدى التوفيق والاصطفاء.
والدليل على ذلك قوله تعالى بعده ﴿ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾، لأنها لو كانت هداية توفيق لما انتقل صاحبها عن الهدى إلى العمى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ أي اختاروا الكفر على الإيمان، وآثروه عليه، وتعوضوه منه.
وهذا المعنى الذي ذكرنا يوضحه قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ ﴾ [ التوبة : ٢٣ ] فقوله في آية التوبة هذه :﴿ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ ﴾ موافق في المعنى لقوله هنا : فاستحبوا العمى على الهدى.
ونظير ذلك في المعنى قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدُّنْيَا عَلَى الآخرة وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ إبراهيم : ٣ ] الآية.
فلفظة استحب في القرآن كثيراً ما تتعدى بعلى، لأنها في معنى اختار وآثر.
وقد قدمنا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كالأعمى ﴾ [ هود : ٢٤ ]. أن العمى الكفر، وأن المراد بالأعمى في آيات عديدة الكافر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الهدى يأتي في القرآن بمعناه العام، الذي هو البيان، والدلالة، والإرشاد، لا ينافي أن الهدى قد يطلق في القرآن في بعض المواضع، على الهدى الخاص الذي هو التوفيق، والاصطفاء، كقوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ].
فمن إطلاق القرآن الهدى على معناه العام قوله هنا :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾ أي بينا لهم طريق الحق وأمرناهم بسلوكها، وطرق الشر ونهيناهم عن سلوكها على لسان نبينا صالح، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ﴿ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ أي اختاروا الكفر على الإيمان بعد إيضاح الحق لهم.
ومن إطلاقه على معناه العام قوله تعالى :﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ﴾ بدليل قوله بعده ﴿ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٣ ]، لأنه لو كان هدى توفيق لما قال :﴿ وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٣ ].
ومن إطلاقه على معناه الخاص قوله تعالى :﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ]. وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ﴾ [ محمد صلى الله عليه وسلم : ١٧ ]. وقوله :﴿ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ﴾ [ الكهف : ١٧ ].
وبمعرفة هذين الإطلاقين تتيسر إزالة إشكال قرآني : وهو أنه تعالى : أثبت الهدى لنبينا صلى الله عليه وسلم في آية، وهي قوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] ونفاه عنه في آية أخرى وهي قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [ القصص : ٥٦ ].
فيعلم مما ذكرنا : أن الهدى المثبت له صلى الله عليه وسلم، هو الهدى العام الذي هو البيان، والدلالة والإرشاد، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم فبين لمحجة البيضاء، حتى تركها ليلها كنهارها لا يزيغ عنها هالك.
والهدى المنفي عنه في آية :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [ القصص : ٥٦ ] هو الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق، لأن ذلك بيد الله وحده، وليس بيده صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى :﴿ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ﴾ [ المائدة : ٤١ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ ﴾ [ النحل : ٣٧ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وكذلك قوله تعالى :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ]، لا منافاة فيه بين عموم الناس في هذه الآية. وخصوص المتقين في قوله تعالى :﴿ ذَالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ] لأن الهدى العام للناس هو الهدى العام، والهدى الخاص بالمتقين، هو الهدى الخاص كما لا يخفى.
وقد بينا هذا في غير هذا الموضع، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ ﴾ الآية.
الفاء في قوله : فأخذتهم سببية، أي فاستحبوا العمى على الهدى، وبسبب ذلك، أخذتهم صاعقة العذاب الهون.
واعلم أن الله جل وعلا عبر عن الهلاك الذي به ثمود، بعبارات مختلفة، فذكره هنا باسم الصاعقة في قوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ ﴾ وقوله :﴿ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [ فصلت : ١٣ ].
وعبر عنه أيضاً كالصاعقة في سورة الذاريات في قوله تعالى :﴿ وَفي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِين ٍفَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ [ الذاريات : ٤٣-٤٤ ].
وعبر عنه بالصيحة في آيات من كتابه، كقوله تعالى في سورة هود، في إهلاكه ثمود :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ ﴾ [ هود : ٦٧ -٦٨ ] وقوله تعالى في الحجر :
﴿ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ﴾ [ الحجر : ٨٢ -٨٣ ] وقوله تعالى في القمر :﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴾. وقوله تعالى في العنكبوت ﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ﴾ [ العنكبوت : ٤٠ ] يعني به ثمودَا المذكورين في قوله قبله :﴿ وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٣٨ ] الآية.
وعبر عنه بالرجفة، في سورة الأعراف في قوله تعالى :﴿ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَاحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِين َفَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾ [ الأعراف : ٧٧-٧٨ ] الآية.
وعبر عنه بالتدمير في سورة النمل، في قوله تعالى :﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ النمل : ٥١ ].
وعبر عنه بالطاغية في الحاقة في قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ ﴾ [ الحاقة : ٥ ].
وعبر عنه بالدمدمة في الشمس في قوله تعالى :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا ﴾ [ الشمس : ١٤ ].
وعبر عنه بالعذاب، في سورة الشعراء، في قوله تعالى :﴿ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَةً ﴾ [ الشعراء : ١٥٧ -١٥٨ ] الآية.
ومعنى هذه العبارات كلها راجع إلى شيء واحد، وهو أن الله أرسل عليهم صيحة أهلكتهم، والصيحة الصوت المزعج المهلك.
والصاعقة تطلق أيضاً على الصوت المزعج المهلك، وعلى النار المحرقة، وعليهما معاً، ولشدة عظم الصيحة وهو لها من فوقهم، رجفت بهم الأرض من تحتهم، أي تحركت حركة قوية، فاجتمع فيها أنها صيحة وصاعقة ورجفة، وكون ذلك تدميراً واضح. وقيل لها طاغية، لأنها واقعة مجاوزة للحد في القوة وشدة الإهلاك.
والطغيان في لغة العرب : مجاوزة الحد.
ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ ﴾ [ الحاقة : ١١ ] الآية. أي جاوز الحدود التي يبلغها الماء عادة.
واعلم أن التحقيق، أن المراد بالطاغية في قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ ﴾ [ الحاقة : ٥ ] أنها الصيحة التي أهلكهم الله بها، كما يوضحه قوله بعده :﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٦ ].
خلافاً لمن زعم أن الطاغية، مصدر كالعاقبة، والعافية، وأن المعنى أنهم أهلكوا بطغيانهم، أي بكفرهم، وتكذيبهم نبيهم، كقوله :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ ﴾ [ الشمس : ١١ ].
وخلافاً لمن زعم أن الطاغية هي أشقاهم، الذي انبعث فعقر الناقة، وأنهم أهلكوا بسبب فعله وهو عقره الناقة، وكل هذا خلاف التحقيق.
والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا، والسياق يدل عليه واختاره غير واحد.
وأما قوله تعالى :﴿ فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ ﴾ [ الشمس : ١٤ ] فإنه لا يخالف ما ذكرنا، لأن معنى دمدم عليهم ربهم بذنبهم، أي أطلق عليهم العذاب وألبسهم إياه، بسبب ذنبهم.
قال الزمخشري في معنى دمدم : وهو من تكرير قولهم ناقة مدمومة، إذا ألبسها الشحم.
وأما إطلاق العذاب عليه في سورة الشعراء فواضح، فاتضح رجوع معنى الآيات المذكورة إلى شيء واحد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ ﴾ من النعت بالمصدر،
لأن الهون مصدر بمعنى الهوان، والنعت بالمصدر أسلوب عربي معروف، أشار إليه في الخلاصة بقوله :
ونعتوا بمصدر كثيرا *** فالتزموا الإفراد والتذكيرا
وهو موجه بأحد أمرين :
أحدهما : أن يكون على حذف مضاف. أي العذاب ذي الهون.
والثاني : أنه على سبيل المبالغة، فكأن العذاب لشدة اتصافه بالهوان اللاحق بمن وقع عليه، صار كأنه نفس الهوان، كما هو معروف في محله.
وقوله تعالى :﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ فصلت : ١٧ ] كالتوكيد في المعنى لقوله ﴿ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ [ فصلت : ١٧ ] لأن كلا منهما سبب لأخذ الصاعقة إياهم، فالفاء في قوله : فأخذتهم سببية، والباء في قوله بما كانوا سببية، والعلم عند الله تعالى.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه أهلك ثمود بالصاعقة، ونجى من ذلك إهلاك الذين آمنوا وكانوا يتقون الله، والمراد بهم صالح ومن آمن معه من قومه.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء مبيناً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في سورة هود ﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خزي يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾ [ هود : ٦٦- ٦٧ ] الآية، وقوله تعالى في النمل :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [ النمل : ٤٥ ] إلى قوله تعالى في ثمود ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ في ذلِكَ لآية لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ [ النمل : ٥٢ -٥٣ ] أي وهم صالح ومن آمن معه.
قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع ( يحشر ) بضم الياء وفتح الشين مبنياً للمفعول ( أعداء الله ) بالرفع على أنه نائب الفاعل.
وقرأه نافع وحمزة، من السبعة ( نحشر أعداء الله ) بالنون المفتوحة الدالة على العظمة، وضم الشين مبنياً للفاعل، ( أعداء الله ) بالنصب على أنه مفعول به، أي واذكر ﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ ﴾ أي يجمعون إلى النار.
وما دلت عليه هذه الآية، من أن لله أعداء، وأنهم يحشرون يوم القيامة إلى النار. جاء مذكوراً في آيات أخر.
فبين في بعضها أن له أعداء وأن أعداءه هم أعداء المؤمنين وأن جزاءهم النار كقوله تعالى ﴿ مَن كَانَ عَدُوًّا لّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ] وقوله تعالى ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [ الممتحنة : ١ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لي وَعَدُوٌّ لَّهُ ﴾ [ طه : ٣٩ ] وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ ﴾ [ فصلت : ٢٨ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ أي يرد أولهم إلى آخرهم،
ويلحق آخرهم بأولهم، حتى يجتمعوا جميعاً، ثم يدفعون في النار، وهو من قول العرب : وزعت الجيش، إذا حبست أوله على آخره حتى يجتمع.
وأصل الوزع الكف، تقول العرب وزعه، يزعه وزعاً، فهو وازع له، إذا كفه عن الأمر، ومنه قول نابغة ذبيان :
على حين عاتبت المشيب على الصبا | فقلت ألماً أصح والشيب وازع |
ولن يزع النفس اللجوج عن الهوى | من الناس إلا وافر العقل كامله |
وذلك يدل على أنهم يساقون سوقاً عنيفاً، يجمع به أولهم مع آخرهم.
وقد بين تعالى أنهم يساقون إلى النار في حال كونهم عطاشاً في قوله تعالى :﴿ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ﴾ [ مريم : ٨٦ ]، ولعل الوزع المذكور في الآية يكون في الزمرة الواحدة من زمر أهل النار، لأنهم يساقون إلى النار زمراً زمراً كما قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ﴾ [ الزمر : ٧١ ] الآية.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس في الكلام على قوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ يس : ٦٥ ] الآية، وفي سورة النساء في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ﴾ [ النساء : ٤٢ ].
وبينا هناك وجه الجمع بين قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ﴾ [ النساء : ٤٢ ] مع قوله ﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ].
قد قدمنا الكلام عليه في سورة ص في الكلام على قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ﴾ [ ص : ٢٧ ].
قد بينا معناه مع شواهده العربية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ [ النحل : ٨٤ ].
لعلماء التفسير في تفسير قوله :﴿ وَقَيَّضْنَا ﴾ عبارات يرجع بعضها، في المعنى إلى بعض.
كقول بعضهم :﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ ﴾ أي جئناهم بهم : وأتحناهم لهم.
وكقوله بعضهم :﴿ وَقَيَّضْنَا ﴾ أي هيأنا.
وقول بعضهم :﴿ وَقَيَّضْنَا ﴾ أي سلطنا.
وقول بعضهم : أي بعثنا ووكلنا.
وقول بعضهم :﴿ وَقَيَّضْنَا ﴾ أي سببنا.
وقول بعضهم : قدرنا ونحو ذلك من العبارات، فإن جميع تلك العبارات راجع إلى شيء واحد، وهو أن الله تبارك وتعالى هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى ويزينون لهم الكفر والمعاصي وقدرهم عليهم.
والقرناء : جمع قرين وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق.
وقوله ﴿ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ أي من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة :﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ أي من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به، وإنكار البعث.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، أنه تعالى قيض للكفار قرناء من الشياطين، يضلونهم عن الهدى، بينه في مواضع أخر من كتابه.
وزاد في بعضها سبب تقييضهم لهم، وأنهم مع إضلالهم لهم، يظنون أنهم مهتدون، وأن الكافر يوم القيامة يتمنى أن يكون بينه وبين قرينه من الشياطين بعد عظيم، وأنه يذمه ذلك اليوم كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾ [ الزخرف : ٣٦ -٣٨ ].
فترتيبه قوله : نقيض له شيطاناً، على قوله ومن يعش عن ذكر الرحمان، ترتيب الجزاء على الشرط يدل على أن سبب تقييضه له، هو غفلته عن ذكر الرحمان.
ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾ [ الناس : ٤ ] لأن الوسواس هو كثير الوسوسة ليضل بها الناس، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس، من قولهم : خنس بالفتح يخنس بالضم إذا تأخر.
فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن، خناس عند ذكر الرحمان، كما دلت عليه آية الزخرف المذكورة، ودل عليه قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [ النحل : ٩٩ -١٠٠ ] لأن الذين يتولونه، والذين هم به مشركون، غافلون عن ذكر الرحمن، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم.
ومن الآيات الدالة على تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم، قوله تعالى ﴿ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ﴾ [ مريم : ٨٣ ]، وقد أوضحنا الآيات الدالة على ذلك في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ الآية. وبينا هناك أقوال أهل العلم في معنى ﴿ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ﴾.
وبينا أيضاً هناك أن من الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٨ ] أي استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا، وقوله :﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الغي ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٢٠٢ ].
ومنها أيضاً قوله تعالى :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِى ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ ﴾ إلى قوله :﴿ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً ﴾ [ يس : ٦٠ -٦٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد دل قوله في آية الزخرف :﴿ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾ [ الزخرف : ٣٨ ] على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية فصلت، وآية الزخرف وغيرهما، جديرين بالذم الشديد، وقد صرح تعالى بذلك في سورة النساء في قوله :﴿ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً ﴾ [ النساء : ٣٨ ] لأن قوله :﴿ فَسَآءَ قِرِيناً ﴾ بمعنى ﴿ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾، لأن كلا من ساء وبئس فعل جامد لإنشاء الذم كما ذكره في الخلاصة بقوله :
واجعل كبئس ساء واجعل فعلا | من ذي ثلاثة كنعم مسجلا |
وبين تعالى أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد هم أخسر الناس أعمالاً في قوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحياة الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [ الكهف : ١٠٣ -١٠٤ ].
وقوله تعالى في سورة الزخرف :﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ ﴾ [ الزخرف : ٣٦ ] من قولهم عشا بالفتح عن الشيء، يعشو بالضم إذا ضعف بصره عن إدراكه، لأن الكافر أعمى القلب.
فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن، وبسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين.
قوله تعالى :﴿ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ الآية.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس في الكلام على قوله تعالى :﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ ﴾ [ يس : ٧ ] الآية.
وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى ﴿ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ ﴾ [ البقرة : ٩٣ ].
ما تضمنته هذه الآية الكريمة مما أعده الله في الآخرة للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، ذكره الله تعالى في الجملة، في قوله في الأحقاف ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأحقاف : ١٣ -١٤ ] لأن انتفاء الخوف والحزن والوعد الصادق، بالخلود في الجنة المذكور في آية الأحقاف هذه، يستلزم جميع ما ذكر في هذه الآية الكريمة، من سورة فصلت.
قد أوضحنا مع الآيات التي بمعناه في آخر سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ إلى قوله ﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [ الأعراف : ١٩٩- ٢٠٠ ].
وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا الليل وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ ﴾ [ الإسراء : ١٢ ] الآية، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى :﴿ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ ﴾ الآية.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة النمل، في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ [ النمل : ٢٥ ] الآية.
قوله تعالى ﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ ﴾ أي فإن تكبر الكفار عن توحيد الله، والسجود له وحده، وإخلاص العبادة له، فالذين عند ربك وهم الملائكة، يسبحون له بالليل، أي يعبدونه وينزهونه دائماً ليلاً ونهاراً وهم لا يسأمون، أي لا يملون من عبادة ربهم، لاستلذاذهم لها وحلاوتها عندهم، مع خوفهم منه جل وعلا كما قال تعالى :﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ [ الرعد : ١٣ ].
وقد دلت هذه الآية الكريمة من سورة فصلت على أمرين.
أحدهما : أن الله جل وعلا إن كفر به بعض خلقه، فإن بعضاً آخر من خلقه يؤمنون به، ويطيعونه كما ينبغي، ويلازمون طاعته دائماً بالليل والنهار.
والثاني منهما : أن الملائكة يسبحون الله ويطيعونه دائماً لا يفترون عن ذلك.
وهذان الأمران اللذان دلت عليهما هذه الآية الكريمة، قد جاء كل منهما موضحاً في غير هذا الموضع.
أما الأول منهما : فقد ذكره جل وعلا في قوله :﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [ الأنعام : ٨٩ ].
وأما الثاني منهما : فقد أوضحه تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى في الأنبياء :﴿ وَلَهُ مَن في السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٩ – ٢٠ ] وقوله تعالى في آخر الأعراف ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ [ الأعراف : ٢٠٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَهُمْ لاَ يَسْأمُونَ ﴾ أي لا يملون.
والسآمة الملل ومنه قول زهير :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش | ثمانين حولاً، لا أبا لك، يسأم |
هذه الآية الكريمة قد أوضحنا الكلام عليها، مع ما في معناها من الآيات، وبينا أن تلك الآيات فيها البرهان القاطع على البعث بعد الموت، وذكرنا معها الآيات التي يكثر الاستدلال بها في القرآن، على البعث بعد الموت، وهي أربعة براهين قرآنية.
ذكرنا ذلك في سورة البقرة وفي سورة النحل وغيرهما وأحلنا عليه مراراً.
قد قدمنا الكلام عليه، مع ما يماثله من الآيات، في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى ﴿ قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ﴾ [ الفرقان : ١٥ ] الآية.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾، وفي سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ] الآية.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفسكم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ [ الإسراء : ٧ ] وفي سورة النمل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ [ النمل : ٤٠ ].
قوله تعالى :﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾.
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كونه ليس بظلام للعبيد، ذكره في مواضع أخر، كقوله تعالى في سورة آل عمران ﴿ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا ﴾ [ آل عمران : ١٨٢ -١٨٣ ] الآية. وقوله في الأنفال ﴿ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ ﴾ [ الأنفال : ٥١ -٥٢ ]. وقوله في الحج :﴿ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلعَبِيد ِوَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ ﴾ [ الحج : ١٠ -١١ ] الآية. وقوله في سورة ق :﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [ ق : ٢٩ ].
وفي هذه الآيات سؤال معروف، وهو أن لفظة ظلام فيها صيغة مبالغة.
ومعلوم أن نفي المبالغة، لا يستلزم نفي الفعل من أصله.
فقولك مثلاً : زيد ليس بقتال للرجال لا ينفي إلا مبالغته في قتلهم، فلا ينافي أنه ربما قتل بعض الرجال.
ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة، في الآيات المذكورة هو نفي الظلم من أصله.
والجواب عن هذا الإشكال من أربعة أوجه :
الأول : أن نفي صيغة المبالغة في الآيات المذكورة، قد بينت آيات كثيرة، أن المراد به نفي الظلم من أصله.
ونفي صيغة المبالغة، إذا دلت أدلة منفصلة على أن يراد به نفي أصل الفعل، فلا إشكال لقيام الدليل على المراد.
والآيات الدالة على ذلك كثيرة معروفة، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ﴾ [ النساء : ٤٠ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [ يونس : ٤٤ ]. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]. وقوله تعالى :﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات كما قدمنا إيضاحه في سورة الكهف والأنبياء. الوجه الثاني : أن الله جل وعلا نفى ظلمه للعبيد، والعبيد في غاية الكثرة.
والظلم المنفي عنهم تستلزم كثرتهم كثرته، فناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة المنفي التابعة لكثرة العبيد، المنفي عنهم الظلم، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ولو قليلاً، كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة، كما ترى.
وبذلك تعلم اتجاه التعبير بصيغة المبالغة، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم، عن كل عبد من أولئك العبيد، الذين هم في غاية الكثرة، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحداً شيئاً، كما بينته الآيات القرآنية المذكورة.
وفي الحديث :«يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي » الحديث.
الوجه الثالث : أن المسوغ لصيغة المبالغة، أن عذابه تعالى بالغ من العظم والشدة، أنه لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم، ومعاصيهم لكان معذبهم به ظلاماً بليغ الظلم متفاقمه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وهذا الوجه والذي قبله أشار لهما الزمخشري في سورة الأنفال.
الوجه الرابع : ما ذكره بعض علماء العربية وبعض المفسرين، من أن المراد بالنفي في قوله ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [ فصلت : ٤٦ ] نفي نسبة الظلم إليه، لأن صيغة فعال تستعمل مراداً بها النسبة فتغني عن ياء النسب كما أشار له في الخلاصة بقوله :
ومع فاعل وفعَّال فعِل *** في نَسَب أغنى عَنِ اليَا فقبِلْ
ومعنى البيت المذكور، أن الصيغ الثلاثة المذكورة فيه التي هي فاعل كظالم وفعَّال كظالم، وفعِل كفرح، كل منها قد تستعمل مراداً بها النسبة، فيستغنى بها عن ياء النسب، ومثاله في فاعل قول الخطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فالمراد بقوله الطاعم الكاسي النسبة، أي ذو طعام وكسوة، وقول الآخر وهو من شواهد سيبويه :
وغررتني وزعمت أنك *** لابن في الصيف تأمر
أي ذو لبن وذو تمر، وقول نابغة ذبيان :
كليني لهم يا أميمة ناصب *** وليل أقاسيه بطيء الكواكبي
فقوله : ناصب أي ذو نصب، ومثاله في فعال قول امرئ القيس :
وليس بذي رمح فيطعنني به *** وليس بذي سيف وليس بنبال
فقوله : وليس بنبال أي ليس بذي نبل، ويدل عليه قوله قبله :
وليس بذي رمح وليس بذي سيف ***...
وقال الأشموني بعد الاستشهاد بالبيت المذكور : قال المصنف يعني ابن مالك : وعلى هذا حمل المحققون قوله تعالى :﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [ فصلت : ٤٦ ] أي بذي ظلم ا ه.
وما عزاه لابن مالك جزم به غير واحد من النحويين والمفسرين، ومثاله في فعل قول الراجز وهو من شواهد سيبويه :
ليس بليلى ولكني نهر *** لا أدلج الليل ولكن أبتكر
فقوله نهر بمعنى نهاري، وقد قدمنا إيضاحه معنى الظلم بشواهده العربية، في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، والعلم عند الله تعالى.
تقدم الكلام على نحوه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] وفي الأنعام عند قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ].
قوله تعالى :﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ﴾.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى :﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ ﴾ [ الرعد : ٨ ] الآية.
الظن هنا بمعنى اليقين، لأن الكفار يوم القيامة إذا عاينوا العذاب، وشاهدوا الحقائق، علموا في ذلك الوقت أنهم ليس لهم من محيص، أي ليس لهم مفر ولا ملجأ.
والظاهر أن المحيص مصدر ميمي، من حاص يحيص بمعنى حاد وعدل وهرب.
وما ذكرنا من أن الظن في هذه الآية الكريمة بمعنى اليقين والعلم، هو التحقيق إن شاء الله، لأن يوم القيامة تنكشف فيه الحقائق، فيحصل للكفار العلم بها لا يخالجهم في ذلك شك، كما قال تعالى عنهم، إنهم يقولون يوم القيامة ﴿ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ١٢ ]. وقال تعالى :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ [ مريم : ٣٨ ]. وقال تعالى :﴿ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ ق : ٢٢ ]. وقال تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا ﴾ [ الأنعام : ٣٠ ] الآية.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى :﴿ بَلِ ادَارَكَ عِلْمُهُمْ في الآخرة ﴾ [ النمل : ٦٦ ].
ومعلوم أن الظن يطلق في لغة العرب، التي نزل بها القرآن على معنيين :
أحدهما : الشك كقوله ﴿ إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ [ يونس : ٣٦ ]، وقوله تعالى عن الكفار :﴿ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ [ الجاثية : ٣٢ ].
والثاني : هو إطلاق الظن مراداً به العلم واليقين، ومنه قوله تعالى هنا :﴿ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ﴾ أي أيقنوا، أنهم ليس لهم يوم القيامة محيص، أي لا مفر ولا مهرب لهم من عذاب ربهم، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا ﴾ [ الكهف : ٥٣ ] أي أيقنوا ذلك وعلموه، وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [ البقرة : ٤٦ ] وقوله تعالى :﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ] وقوله تعالى :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إني ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ [ الحاقة : ١٩ -٢٠ ]، فالظن في الآيات المذكورة كلها بمعنى اليقين.
ونظير ذلك من كلام العرب قول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج | سراتهم في الفارسي المسرد |
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم | وأجعل مني الظن غيباً مرجما |
*والتزم التعليق قبل نفي «ما » *
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ [ الكهف : ٣٦ ].
قد قدمنا الآيات الموضحة له، وبعض الأحاديث الصحيحة، الموافقة لها في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ﴾ [ يونس : ١٢ ].
قد قدمنا الكلام عليه في سورة المؤمن في الكلام على قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً ﴾ [ غافر : ١٣ ] الآية.
المرية : الشك.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من شك الكفار في البعث والجزاء، قد قدمنا الآيات الموضحة له، ولما يترتب عليه من الخلود في النار، في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ﴾ [ الفرقان : ١١ ].