تفسير سورة فصّلت

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ
مكية في قول الجميع، وهي أربع وخمسون، وقيل : ثلاث وخمسون آية.

[تفسير سورة فصلت]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ فُصِّلَتْ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ وَهِيَ أربع وخمسون، وقيل: ثلاث وخمسون آية.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" قَالَ الزَّجَّاجُ:" تَنْزِيلٌ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ" كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ" وَهَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ عَلَى إِضْمَارِ هَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:" كِتَابٌ" بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ:" تَنْزِيلٌ". وَقِيلَ: نَعْتٌ لِقَوْلِهِ:" تَنْزِيلٌ". وَقِيلَ:" حم" أَيْ هَذِهِ" حم" كما تقول با ب كَذَا، أَيْ هُوَ بَابُ كَذَا فَ" حم" خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ أَيْ هُوَ" حم"، وَقَوْلُهُ:" تَنْزِيلٌ" مبتدأ آخر، وقوله:" كِتابٌ" خبر." فُصِّلَتْ آياتُهُ" أَيْ بُيِّنَتْ وَفُسِّرَتْ. قَالَ قَتَادَةُ: بِبَيَانِ حَلَالِهِ مِنْ حَرَامِهِ، وَطَاعَتِهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ. الحسن: بالوعد والوعيد. سفيان: بالثواب والعقاب. وقرى" فُصِّلَتْ" أَيْ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوْ فُصِلَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بِاخْتِلَافِ مَعَانِيهَا، مِنْ قَوْلِكَ فُصِلَ أَيْ تَبَاعَدَ مِنَ الْبَلَدِ." قُرْآناً عَرَبِيًّا" فِي نَصْبِهِ وُجُوهٌ، قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَقِيلَ: عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيِ اذْكُرْ" قُرْآناً عَرَبِيًّا". وَقِيلَ: عَلَى إِعَادَةِ الْفِعْلِ، أَيْ فَصَّلْنَا" قُرْآناً عَرَبِيًّا". وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ أَيْ" فُصِّلَتْ آياتُهُ" فِي حَالِ كَوْنِهِ" قُرْآناً عَرَبِيًّا". وَقِيلَ: لَمَّا شُغِلَ" فُصِّلَتْ" بِالْآيَاتِ حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ انْتَصَبَ." قُرْآناً" لِوُقُوعِ الْبَيَانِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَطْعِ." لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ إِنَّ
337
الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقِيلَ: يَعْلَمُونَ الْعَرَبِيَّةَ فَيَعْجِزُونَ عَنْ مِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَرَبِيٍّ لَمَا عَلِمُوهُ. قُلْتُ: هَذَا أَصَحُّ، وَالسُّورَةُ نَزَلَتْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا لِقُرَيْشٍ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ." بَشِيراً وَنَذِيراً" حَالَانِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعَامِلُ فِيهِ" فُصِّلَتْ". وَقِيلَ: هُمَا نَعْتَانِ للقرآن" بَشِيراً" لأولياء الله" نَذِيراً" لأعدائه. وقرى" بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ" صِفَةٌ لِلْكِتَابِ. أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ" فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ" يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ" فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ" سَمَاعًا يَنْتَفِعُونَ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ الرَّيَّانَ بْنَ حَرْمَلَةَ قَالَ: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَبُو جَهْلٍ قَدِ الْتَبَسَ عَلَيْنَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ، فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ رَجُلًا عَالِمًا بِالشِّعْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالسِّحْرِ فَكَلَّمَهُ ثُمَّ آتَانَا بِبَيَانٍ مِنْ أَمْرِهِ، فقال عتبة ابن رَبِيعَةَ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ الْكِهَانَةَ وَالشِّعْرَ وَالسِّحْرَ، وَعَلِمْتُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا لَا يَخْفَى عَلَيَّ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ. فَقَالُوا: إِيَتِهِ فَحَدِّثْهُ. فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ هَاشِمٌ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّه؟ فَبِمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا، وَتُضَلِّلُ آبَاءَنَا، وَتُسَفِّهُ أَحْلَامَنَا، وَتَذُمُّ دِينَنَا؟ فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ الرِّيَاسَةَ عَقَدْنَا إِلَيْكَ أَلْوِيَتَنَا فَكُنْتَ رَئِيسَنَا مَا بَقِيتَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْبَاءَةَ زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نِسَاءٍ مِنْ أَيِّ بَنَاتِ قُرَيْشٍ شِئْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ جَمَعْنَا لَكَ مَا تَسْتَغْنِي بِهِ أَنْتَ وَعَقِبُكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رِئْيًا مِنَ الْجِنِّ قَدْ غَلَبَ عَلَيْكَ بَذَلْنَا لَكَ أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ مَا تَتَدَاوَى بِهِ أَوْ نُغْلَبُ فِيكَ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ:" قَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ" قَالَ: نعم. (قال فاسمع منى) «١» قال يا بن أخى أَسْمَعُ. قَالَ" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" إلى قول:" فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ" [فصلت: ١٣] فَوَثَبَ عُتْبَةُ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَاشَدَهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ لَيَسْكُتَنَّ، وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى قريش فجاءه أبو جهل، فقال:
(١). الزيادة من سيرة ابن هشام.
338
أَصَبَوْتَ إِلَى مُحَمَّدٍ؟ أَمْ أَعْجَبَكَ طَعَامُهُ؟ فَغَضِبَ عُتْبَةُ وَأَقْسَمَ أَلَّا يُكَلِّمَ مُحَمَّدًا أَبَدًا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، وَلَكِنِّي لَمَّا قَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ أَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا سِحْرٍ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ مَا سَمِعَ مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ:" مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ" [فصلت: ١٣] وَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ وَنَاشَدْتُهُ بِالرَّحِمِ أَنْ يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ، يَعْنِي الصَّاعِقَةَ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ لَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ" حم. فُصِّلَتْ" حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَدَ وَعُتْبَةُ مُصْغٍ يَسْتَمِعُ، قَدِ اعْتَمَدَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. فَلَمَّا قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِرَاءَةَ قَالَ لَهُ:" يَا أَبَا الْوَلِيدِ قَدْ سَمِعْتَ الَّذِي قَرَأْتُ عَلَيْكَ فَأَنْتَ وَذَاكَ" فَانْصَرَفَ عُتْبَةُ إِلَى قُرَيْشٍ فِي نَادِيهَا فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي مَضَى بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ. ثُمَّ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ كَلَامًا مِنْ مُحَمَّدٍ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا بِالْكِهَانَةِ، فَأَطِيعُونِي فِي هَذِهِ وَأَنْزِلُوهَا بِي، خَلُّوا مُحَمَّدًا وَشَأْنَهُ وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِمَا سَمِعْتُ مِنْ كَلَامِهِ نَبَأٌ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ الْعَرَبُ كُفِيتُمُوهُ بِأَيْدِي غَيْرِكُمْ، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا كُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، لِأَنَّ مُلْكَهُ مُلْكُكُمْ وَشَرَفَهُ شَرَفُكُمْ. فَقَالُوا: هَيْهَاتَ سَحَرَكَ مُحَمَّدٌ يَا أَبَا الْوَلِيدِ. وَقَالَ: هَذَا رَأْيِي لَكُمْ فَاصْنَعُوا مَا شِئْتُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ" الْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ وَهُوَ الْغِطَاءُ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «١». قَالَ مُجَاهِدٌ: الْكِنَانُ لِلْقَلْبِ كَالْجُنَّةِ لِلنَّبْلِ." وَفِي آذانِنا وَقْرٌ" أَيْ صَمَمٌ، فَكَلَامُكَ لَا يَدْخُلُ أَسْمَاعَنَا، وَقُلُوبُنَا مَسْتُورَةٌ مِنْ فَهْمِهِ." وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ" أَيْ خِلَافٌ فِي الدِّينِ، لِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ مَعْنَاهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرَهُ. وَقِيلَ: سَتْرُ مَانِعٌ عَنِ الْإِجَابَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا جَهْلٍ اسْتَغْشَى عَلَى رَأْسِهِ ثَوْبًا وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ. اسْتِهْزَاءٌ مِنْهُ. حَكَاهُ النَّقَّاشُ وَذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. فالحجاب هنا (!)
(١). راجع ج ٢ ص ٢٥ طبعه ثانيه.
339
الثَّوْبُ." فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ" أَيِ اعْمَلْ فِي هَلَاكِنَا فَإِنَّا عَامِلُونَ فِي هَلَاكِكَ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اعْمَلْ لِإِلَهِكَ الَّذِي أَرْسَلَكَ، فَإِنَّا نَعْمَلُ لِآلِهَتِنَا الَّتِي نَعْبُدُهَا. وَقِيلَ: اعْمَلْ بِمَا يَقْتَضِيهِ دِينُكَ، فَإِنَّا عَامِلُونَ بِمَا يَقْتَضِيهِ دِينُنَا. وَيَحْتَمِلُ خَامِسًا «١»: فَاعْمَلْ لِآخِرَتِكَ فَإِنَّا نَعْمَلُ لِدُنْيَانَا، ذكره الماوردي.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٦ الى ٨]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ" أَيْ لَسْتُ بِمَلَكٍ بَلْ أَنَا مِنْ بَنِي آدَمَ. قَالَ الْحَسَنُ: عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّوَاضُعَ." يُوحى إِلَيَّ" أَيْ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ" أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ"" فَ" آمِنُوا بِهِ وَ" فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ" أَيْ وَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُ وَالْمَسْأَلَةِ إِلَيْهِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: اسْتَقِمْ إِلَى مَنْزِلِكَ، أي لا تعرج على شي غَيْرَ الْقَصْدِ إِلَى مَنْزِلِكَ." وَاسْتَغْفِرُوهُ" أَيْ مِنْ شِرْكِكُمْ." وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ" قال ابن عباس: لَا يَشْهَدُونَ" أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" وَهِيَ زَكَاةُ الْأَنْفُسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُقِرُّونَ بِالزَّكَاةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: لَا يَتَصَدَّقُونَ وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَةِ. قَرَّعَهُمْ بِالشُّحِّ الَّذِي يَأْنَفُ مِنْهُ الْفُضَلَاءُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أن الكافر يعذب بكفر مَعَ مَنْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْفِقُونَ النَّفَقَاتِ، وَيَسْقُونَ الْحَجِيجَ وَيُطْعِمُونَهُمْ، فَحَرَّمُوا ذَلِكَ عَلَى مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ." وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ" فَلِهَذَا لَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَةِ وَلَا يَسْتَقِيمُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ.
(١). لم يذكر المصنف إلا أربعة أقوال ولعل الخامس ما ذكره الكشاف:" فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك."
340
الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ خُصَّ مِنْ بَيْنِ أَوْصَافِ الْمُشْرِكِينَ مَنْعُ الزَّكَاةِ مَقْرُونًا بِالْكُفْرِ بِالْآخِرَةِ؟ قلت: لأن أحب شي إِلَى الْإِنْسَانِ مَالُهُ، وَهُوَ شَقِيقُ رُوحِهِ، فَإِذَا بَذَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَذَلِكَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى ثَبَاتِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ وَصِدْقِ نِيَّتِهِ وَنُصُوعِ طَوِيَّتِهِ «١» أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ" [البقرة: ٢٦٥] أَيْ يُثَبِّتُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيَدُلُّونَ عَلَى ثَبَاتِهَا بِإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ، وَمَا خُدِعَ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ إِلَّا بِلُمْظَةٍ «٢» مِنَ الدُّنْيَا، فَقَوِيَتْ عُصْبَتُهُمْ وَلَانَتْ شَكِيمَتُهُمْ، وَأَهْلُ الرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَظَاهَرُوا إِلَّا بِمَنْعِ الزَّكَاةِ، فَنُصِبَتْ لَهُمُ الْحُرُوبُ وَجُوهِدُوا. وَفِيهِ بَعْثٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَتَخْوِيفٌ شَدِيدٌ مِنْ مَنْعِهَا، حَيْثُ جُعِلَ الْمَنْعُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُشْرِكِينَ، وَقُرِنَ بِالْكُفْرِ بِالْآخِرَةِ. قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ مَنَنْتُ الْحَبْلَ إِذَا قَطَعْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الْإِصْبَعِ:
إِنِّي لَعَمْرُكَ مَا بَابِي بِذِي غَلَقٍ - عَلَى الصَّدِيقِ وَلَا خَيْرِي بِمَمْنُونِ «٣»
وَقَالَ آخَرُ:
فَتَرَى خَلْفَهَا مِنَ الرَّجْعِ وَالْوَقْ - عِ مَنِينًا كَأَنَّهُ أَهْبَاءُ
يَعْنِي بِالْمَنِينِ الْغُبَارَ الْمُنْقَطِعَ الضَّعِيفَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُقَاتِلٍ: غَيْرُ مَنْقُوصٍ. وَمِنْهُ الْمَنُونُ، لأنها تنقص منه الإنسان أي قوته، وقال قُطْرُبٌ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ زُهَيْرٍ:
فَضْلُ الْجِيَادِ عَلَى الْخَيْلِ الْبِطَاءِ فَلَا - يُعْطِي بِذَلِكَ مَمْنُونًا وَلَا نَزِقَا «٤»
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْمَنُّ الْقَطْعُ، وَيُقَالُ النَّقْصُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ". وقال لبيد:
غبس كواسب لا يمن طعامها «٥»
(١). الزيادة من تفسير الزمخشري.
(٢). اللمظة في اللغة: النكتة من بياض أو سواد، والمراد بها هنا الشيء اليسير من حطام الدنيا.
(٣). ويروى: ولا زادي بممنون.
(٤). البيت من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان.
(٥). صدر البيت:
لمعفر قهد تنازع شلوه
وقد وقع هذا البيت غلطا في بعض نسخ الجوهري فراجع تحقيقه في اللسان مادة" من."
341
وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" غَيْرُ مَمْنُونٍ" غَيْرُ مَحْسُوبٍ. وَقِيلَ:" غَيْرُ مَمْنُونٍ" عَلَيْهِمْ بِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الزَّمْنَى وَالْمَرْضَى وَالْهَرْمَى إِذَا ضَعُفُوا عَنِ الطَّاعَةِ كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ كَأَصَحِّ مَا كانوا يعملون فيه.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٩ الى ١٢]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ" أَإِنَّكُمْ" بِهَمْزَتَيْنِ الثَّانِيَةُ بين بين و" أَإِنَّكُمْ" بِأَلِفٍ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ. أَمَرَهُ بِتَوْبِيخِهِمْ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ فِعْلِهِمْ، أَيْ لِمَ تكفرون بالله وهو خالق السموات وَالْأَرْضِ؟! " فِي يَوْمَيْنِ" الْأَحَدُ وَالِاثْنَيْنِ." وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً" أَيْ أَضْدَادًا وَشُرَكَاءَ" ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ."" وَجَعَلَ فِيها" أَيْ فِي الْأَرْضِ" رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها" يَعْنِي الْجِبَالَ. وَقَالَ وَهْبٌ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ مَادَتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَقَالَ لِجِبْرِيلَ ثَبِّتْهَا يَا جِبْرِيلُ. فَنَزَلَ فَأَمْسَكَهَا فَغَلَبَتْهُ الرِّيَاحُ، قَالَ: يَا رَبِّ أَنْتَ أَعْلَمُ لَقَدْ غُلِبْتُ فِيهَا فَثَبَّتَهَا بِالْجِبَالِ وَأَرْسَاهَا" وَبارَكَ فِيها" بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ. قَالَ السُّدِّيُّ: أَنْبَتَ فِيهَا شَجَرَهَا." وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها" قَالَ السُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ: أَرْزَاقُ أَهْلِهَا وَمَصَالِحُهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: خَلَقَ فِيهَا أَنْهَارَهَا وَأَشْجَارَهَا وَدَوَابَّهَا فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَى" قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها" أَيْ أَرْزَاقُ أَهْلِهَا وَمَا يَصْلُحُ لِمَعَايِشِهِمْ مِنَ
342
التِّجَارَاتِ وَالْأَشْجَارِ وَالْمَنَافِعِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي الْأُخْرَى لِيَعِيشَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالتِّجَارَةِ وَالْأَسْفَارِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. قَالَ عِكْرِمَةُ: حَتَّى إِنَّهُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لَيَتَبَايَعُونَ الذَّهَبَ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: السَّابِرِيُّ مِنْ سَابُورَ، وَالطَّيَالِسَةُ مِنَ الرَّيِّ، وَالْحُبُرُ الْيَمَانِيَةُ مِنَ الْيَمَنِ." فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ" يَعْنِي فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَمِثَالُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى بَغْدَادَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَإِلَى الْكُوفَةِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أَيْ فِي تَتِمَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَغَيْرُهُ." سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ" قَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مُسْتَوِيَةٍ تَامَّةٍ. الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا سَوَاءً لِلْمُحْتَاجِينَ. وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، الْبَصْرِيُّ وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ" سَوَاءٍ لِلسَّائِلِينَ" بِالْجَرِّ وَعَنِ ابْنِ الْقَعْقَاعِ" سَوَاءٌ" بِالرَّفْعِ، فَالنَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَ" سَوَاءً" بِمَعْنَى اسْتِوَاءٍ أَيِ اسْتَوَتِ اسْتِوَاءً. وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ وَالْقَطْعِ، وَالْجَرُّ عَلَى النَّعْتِ لِأَيَّامٍ أَوْ لِأَرْبَعَةٍ أَيْ" فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ" مُسْتَوِيَةٍ تَامَّةٍ. وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ" لِلسَّائِلِينَ" أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ هَذِهِ" سَوَاءٌ لِلسَّائِلِينَ". وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: مَعْنَى" سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ" وَلِغَيْرِ السَّائِلِينَ، أَيْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا لِمَنْ سَأَلَ وَلِمَنْ لَمْ يَسْأَلْ، وَيُعْطِي مَنْ سَأَلَ وَمَنْ لَا يَسْأَلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ" أَيْ عَمَدَ إِلَى خَلْقِهَا وَقَصَدَ لِتَسْوِيَتِهَا. وَالِاسْتِوَاءُ مِنْ صِفَةِ الْأَفْعَالِ عَلَى أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ" [البقرة: ٢٩] وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ هُنَاكَ «١». وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ" يَعْنِي صَعِدَ أَمْرُهُ إِلَى السَّمَاءِ، وقال الْحَسَنُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ زَائِدَةٌ قَالَ: اسْتَوَى فِي الْأَزَلِ بِصِفَاتِهِ. وَ" ثُمَّ" تَرْجِعُ إِلَى نَقْلِ السَّمَاءِ مِنْ صِفَةِ الدُّخَانِ إِلَى حَالَةِ الْكَثَافَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ الدُّخَانُ مِنْ تَنَفُّسِ الْمَاءِ حِينَ تَنَفَّسَ، عَلَى مَا مَضَى فِي [الْبَقَرَةِ] عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ." فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً" أَيْ جِيئَا بِمَا خَلَقْتُ فِيكُمَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ وَأَخْرِجَاهَا لِخَلْقِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ اللَّهُ تعالى للسماء: أطلعي شمسك
(١). راجع ج ١ ص ٢٥٤ وما بعدها طبعه ثانية أو ثالثة.
343
وَقَمَرَكِ وَكَوَاكِبَكِ، وَأَجْرِي رِيَاحَكِ وَسَحَابَكِ، وَقَالَ لِلْأَرْضِ: شُقِّي أَنْهَارَكِ وَأَخْرِجِي شَجَرَكِ وَثِمَارَكِ طَائِعَتَيْنِ أَوْ كَارِهَتَيْنِ" قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ" فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ أَتَيْنَا أَمْرَكَ" طَائِعِينَ". وَقِيلَ: مَعْنَى هَذَا الْأَمْرِ التَّسْخِيرُ، أَيْ كُونَا فَكَانَتَا كَمَا قَالَ تعالى:" إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" [النحل: ٤٠] فَعَلَى هَذَا قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِهِمَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِهِمَا. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَوْلٌ تَكَلَّمَ بِهِ. الثَّانِي أَنَّهَا قُدْرَةٌ مِنْهُ ظَهَرَتْ لَهُمَا فَقَامَ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي بُلُوغِ الْمُرَادِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ." قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ" فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ظُهُورُ الطَّاعَةِ مِنْهُمَا حَيْثُ انْقَادَا وَأَجَابَا فَقَامَ مَقَامَ قَوْلِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي - مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْتُ بَطْنِي
يَعْنِي ظَهَرَ ذَلِكَ فِيهِ. وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: بَلْ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِمَا الْكَلَامَ فَتَكَلَّمَتَا كَمَا أَرَادَ تَعَالَى: قَالَ أَبُو نَصْرٍ السَّكْسَكِيُّ: فَنَطَقَ مِنَ الْأَرْضِ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ، وَنَطَقَ مِنَ السَّمَاءِ مَا بِحِيَالِهَا، فَوَضَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ حَرَمَهُ. وَقَالَ:" طَائِعِينَ" وَلَمْ يَقُلْ طَائِعَتَيْنِ عَلَى اللَّفْظِ وَلَا طَائِعَاتٍ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّهُمَا سَمَوَاتٌ وَأَرَضُونَ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمَا وَعَمَّنْ فِيهِمَا، وَقِيلَ: لَمَّا وَصَفَهُنَّ بِالْقَوْلِ وَالْإِجَابَةِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ مَنْ يَعْقِلُ أَجْرَاهُمَا فِي الْكِنَايَةِ مَجْرَى مَنْ يَعْقِلُ، ومثله:" رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ" [يوسف: ٤] وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». وَفِي حَدِيثٍ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ لَوْ أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ حِينَ قُلْتَ لَهُمَا" ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً" عَصَيَاكَ مَا كُنْتَ صَانِعًا بِهِمَا؟ قَالَ كُنْتُ آمُرُ دَابَّةً مِنْ دَوَابِّي فَتَبْتَلِعُهُمَا. قَالَ: يَا رَبِّ وَأَيْنَ تِلْكَ الدَّابَّةُ؟ قَالَ: فِي مَرْجٍ مِنْ مُرُوجِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَأَيْنَ ذَلِكَ الْمَرْجُ؟ قَالَ عِلْمٌ مِنْ عِلْمِي. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ" آتَيَا" بِالْمَدِّ وَالْفَتْحِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:" آتَيْنَا طَائِعِينَ" عَلَى مَعْنَى أَعْطِيَا الطَّاعَةَ مِنْ أَنْفُسِكُمَا" قالَتا" أَعْطَيْنَا" طَائِعِينَ" فَحَذَفَ الْمَفْعُولَيْنِ جَمِيعًا. وَيَجُوزُ وَهُوَ أَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ" آتَيْنَا" فَاعَلْنَا فَحُذِفَ مَفْعُولٌ وَاحِدٌ. وَمَنْ قَرَأَ" آتَيْنَا" فَالْمَعْنَى جِئْنَا بِمَا فِينَا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في غير ما موضع والحمد لله.
(١). راجع ج ٧ ص ٣٤٤ وج ٩ ص ١٢٢ طبعه أولى أو ثانية.
344
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ" أَيْ أَكْمَلَهُنَّ وَفَرَغَ مِنْهُنَّ. وَقِيلَ. أَحْكَمَهُنَّ كَمَا قال «١»:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا - دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ
" فِي يَوْمَيْنِ" سِوَى الْأَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي خلق فيها الأرض، فوقع خلق السموات وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ" [الأعراف: ٥٤] عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [الْأَعْرَافِ «٢»] بَيَانُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَيَوْمٌ مِنَ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَقَدَّرَ فيها أقواتها في يومين، وخلق السموات فِي يَوْمَيْنِ، خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ والاثنين، وقدر فيها أقواتها في يومين، وخلق السموات فِي يَوْمَيْنِ، خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الأربعاء، وخلق السموات فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَآخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ فِي عَجَلٍ، وَهِيَ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا السَّاعَةُ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ تَفْزَعُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَّا الْإِنْسَ وَالْجِنَّ. عَلَى هَذَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ، إِلَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ، فَقَالَ:" خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ" الْحَدِيثُ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى إِسْنَادِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (الْأَنْعَامِ) «٣»." وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها" قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: خَلَقَ فِيهَا شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَنُجُومَهَا وَأَفْلَاكَهَا، وَخَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَلْقِ الَّذِي فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَجِبَالِ الْبَرَدِ وَالثُّلُوجِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَلِلَّهِ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتٌ تَحُجُّ إِلَيْهِ وَتَطُوفُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ بِحِذَاءِ الْكَعْبَةِ، وَالَّذِي فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا هُوَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ. وَقِيلَ: أَوْحَى اللَّهُ فِي كُلِّ سَمَاءٍ، أَيْ أَوْحَى فِيهَا مَا أَرَادَهُ وَمَا أَمَرَ بِهِ فِيهَا. وَالْإِيحَاءُ قَدْ يَكُونُ أَمْرًا، لِقَوْلِهِ:" بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها" [الزلزلة: ٥] وقوله:" وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ" [المائدة: ١١١] أي أمرتهم وهو أمر تكوين." وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ" أَيْ بِكَوَاكِبَ تُضِيءُ وَقِيلَ: إِنَّ فِي كُلِّ سَمَاءٍ كَوَاكِبَ تُضِيءُ. وَقِيلَ: بَلِ الْكَوَاكِبُ مُخْتَصَّةٌ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا." وَحِفْظاً" أَيْ وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا، أَيْ مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يسترقون السمع. وهذا
(١). هو أبو ذؤيب الهذلي. والصنع بفتحتين الحاذق. [..... ]
(٢). راجع ج ٧ ص ٢١٩ طبعه أولى أو ثانية.
(٣). راجع ج ٦ ص ٣٨٤ طبعه أولى أو ثانية.
345
لا لحفظ بِالْكَوَاكِبِ الَّتِي تُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [الْحِجْرِ «١»] بَيَانُهُ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ. وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:" أَمِ السَّماءُ بَناها" [النازعات: ٢٧] ثم قال:" وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها" [النازعات: ٣٠] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ أَوَّلًا. وَقَالَ قَوْمٌ: خُلِقَتِ الْأَرْضُ قَبْلَ السَّمَاءِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ:" وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها" [النازعات: ٣٠] فَالدَّحْوُ غَيْرُ الْخَلْقِ، فَاللَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ أَيْ مَدَّهَا وبسطها، قال ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُجَوَّدًا فِي" الْبَقَرَةِ" «٢» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ." ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ".
[سورة فصلت (٤١): الآيات ١٣ الى ١٦]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ أَعْرَضُوا" يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ عَمَّا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْإِيمَانِ." فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ" أَيْ خَوَّفْتُكُمْ هَلَاكًا مِثْلَ هَلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ." إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ" يَعْنِي مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُمْ" أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ" مَوْضِعُ" أَنْ" نُصِبَ بإسقاط الخافض أي ب" أَلَّا تَعْبُدُوا"" و" قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً" بَدَلَ الرُّسُلِ" فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ" مِنَ الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ. قِيلَ: هَذَا اسْتِهْزَاءٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: اقرا بإرسالهم ثم بعده جحود وعناد.
(١). راجع ج ١٠ ص ١٠ طبعه أولى أو ثانية.
(٢). راجع ج ١ ص ٢٥٥ وما بعدها طبعه ثانية أو ثالثة.
346
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ" عَلَى عِبَادِ اللَّهِ هُودٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ" بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً" اغْتَرُّوا بِأَجْسَامِهِمْ حِينَ تَهَدَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ أَنْفُسِنَا بِفَضْلِ قُوَّتِنَا. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي أَجْسَامٍ طِوَالٍ وَخَلْقٍ عَظِيمٍ. وَقَدْ مَضَى فِي [الْأَعْرَافِ «١»] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَطْوَلَهُمْ كَانَ مِائَةَ ذِرَاعٍ وَأَقْصَرَهُمْ كَانَ سِتِّينَ ذِرَاعًا. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً" وَقُدْرَةً، وَإِنَّمَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ بِإِقْدَارِ اللَّهِ، فَاللَّهُ أَقْدَرُ إِذًا." وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ" أَيْ بِمُعْجِزَاتِنَا يَكْفُرُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى،" فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً" هَذَا تَفْسِيرُ الصَّاعِقَةِ الَّتِي أَرْسَلَهَا عَلَيْهِمْ، أَيْ رِيحًا بَارِدَةً شَدِيدَةَ الْبَرْدِ وَشَدِيدَةَ الصَّوْتِ وَالْهُبُوبِ. وَيُقَالُ: أَصْلُهَا صَرَرٌ مِنَ الصِّرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ «٢» فَأَبْدَلُوا مَكَانَ الرَّاءِ الْوُسْطَى فَاءَ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِمْ كَبْكَبُوا أَصْلُهُ كَبَّبُوا، وَتَجَفْجَفَ الثَّوْبُ أَصْلُهُ تَجَفَّفَ. أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى صَرْصَرٍ: شَدِيدَةٌ عَاصِفَةٌ. عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: شَدِيدُ الْبَرْدِ. وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ قَوْلَ الْحُطَيْئَةِ:
الْمُطْعِمُونَ إِذَا هَبَّتْ بِصَرْصَرَةٍ - وَالْحَامِلُونَ إِذَا اسْتُودُوا عَلَى النَّاسِ
اسْتُودُوا: إِذَا سُئِلُوا الدِّيَةَ. مُجَاهِدٌ: الشَّدِيدَةُ السَّمُومِ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بَارِدَةٌ. وَقَالَهُ عَطَاءٌ، لِأَنَّ" صَرْصَرًا" مَأْخُوذٌ مِنْ صِرٍّ وَالصِّرُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبَرَدُ»
كَمَا قال:
لها عذر كقرون النسا - ء رُكِّبْنَ فِي يَوْمِ رِيحٍ وَصِرْ
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الشَّدِيدَةُ الصَّوْتِ. وَمِنْهُ صَرَّ الْقَلَمُ وَالْبَابُ يَصِرُّ صَرِيرًا أَيْ صَوَّتَ. وَيُقَالُ: دِرْهَمٌ صَرِّيٌّ وَصِرِّيٌّ لِلَّذِي لَهُ صَوْتٌ إِذَا نُقِدَ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: صَرْصَرٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصِّرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَرِيرِ الْبَابِ، وَمِنَ الصَّرَّةِ وَهِيَ الصَّيْحَةُ. وَمِنْهُ" فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ" [الذاريات: ٢٩]. وَصَرْصَرٌ اسْمُ نَهَرٍ بِالْعِرَاقِ." فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ" أي مشئومات،
(١). راجع ج ٧ ص ٢٣٦ طبعه أولى أو ثانية.
(٢). الزيادة من اللسان عن ابن السكيت لأن هذا الكلام له.
(٣). هو امرؤ القيس يصف فرسه.
347
قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةَ. كُنَّ آخِرَ شَوَّالٍ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ إِلَى يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ وَذَلِكَ" سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً" [الحاقة: ٧] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا عُذِّبَ قَوْمٌ إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ. وَقِيلَ:" نَحِساتٍ" بَارِدَاتٍ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ. وَقِيلَ: مُتَتَابِعَاتٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطِيَّةَ. الضَّحَّاكُ: شِدَادٌ. وَقِيلَ: ذَاتُ غُبَارٍ، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى. وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
قَدِ اغْتَدَى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ - لِلصَّيْدِ فِي يَوْمٍ قَلِيلِ النَّحْسِ
قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: أَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَدَرَّتِ الرِّيَاحُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَطَرٍ، وَخَرَجَ مِنْهُمْ قَوْمٌ إِلَى مَكَّةَ يَسْتَسْقُونَ بِهَا لِلْعِبَادِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ بَلَاءٌ أَوْ جَهْدٌ طَلَبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْفَرَجَ مِنْهُ، وَكَانَتْ طُلْبَتُهُمْ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ بَيْتِهِ الْحَرَامِ مَكَّةَ مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، فَيَجْتَمِعُ بِمَكَّةَ نَاسٌ كَثِيرٌ شَتَّى، مُخْتَلِفَةٌ أَدْيَانُهُمْ، وَكُلُّهُمْ مُعْظَمٌ لِمَكَّةَ، عَارِفٌ حُرْمَتَهَا وَمَكَانَهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالتَّيْمِيَّ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا أَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ وَحَبَسَ عَنْهُمْ كَثْرَةَ الرِّيَاحِ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا حَبَسَ عَنْهُمُ الْمَطَرَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ كَثْرَةَ الرِّيَاحِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو" نَحْسَاتٍ" بِإِسْكَانِ الْحَاءِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ نَحْسٍ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ. الْبَاقُونَ:" نَحِساتٍ" بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ ذَوَاتُ نَحْسٍ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّحْسَ مَصْدَرٌ قَوْلُهُ:" فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ" [القمر: ١٩] وَلَوْ كَانَ صِفَةً لَمْ يُضَفِ الْيَوْمَ إِلَيْهِ، وَبِهَذَا كَانَ يَحْتَجُّ أَبُو عَمْرٍو عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ وَقَالَ: لَا تَصِحُّ حُجَّةُ أَبِي عَمْرٍو، لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَوْمَ إِلَى النَّحْسِ فَأَسْكَنَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ حُجَّةً لَوْ نَوَّنَ الْيَوْمَ وَنَعَتَ وأسكن، فقال:" فِي يَوْمِ نَحْسٍ" [القمر: ١٩] وَهَذَا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَلَمْ يُسْمَعْ فِي" نَحْسٍ" إِلَّا الْإِسْكَانُ. قال الجوهري: وقرى في قوله" فِي يَوْمِ نَحْسٍ" [القمر: ١٩] عَلَى الصِّفَةِ، وَالْإِضَافَةُ أَكْثَرُ وَأَجْوَدُ. وَقَدْ نَحِسَ الشَّيْءُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ نَحِسٌ أَيْضًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبْلِغْ جُذَامًا وَلَخْمًا أَنَّ إِخْوَتَهُمْ طَيًّا وَبَهْرَاءَ قَوْمٌ نَصْرُهُمْ نَحِسُ
وَمِنْهُ قِيلَ: أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ." لِنُذِيقَهُمْ" أَيْ لِكَيْ نُذِيقَهُمْ" عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الحياة الدنيا" أي العذاب بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ." وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى " أَيْ أَعْظَمَ وأشد." وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ."
348

[سورة فصلت (٤١): الآيات ١٧ الى ١٨]

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ" أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْهُدَى وَالضَّلَالَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا" وَأَمَّا ثَمُودَ" بِالنَّصْبِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي [الْأَعْرَافِ «١»]." فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى " أَيِ اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: اخْتَارُوا الْعَمَى عَلَى الْبَيَانِ. السُّدِّيُّ: اخْتَارُوا الْمَعْصِيَةَ عَلَى الطَّاعَةِ." فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ"" الْهُونِ" بِالضَّمِّ الْهَوَانُ. وَهَوْنُ بن خزيمة بن مدركة بن إلياس ابن مُضَرَ أَخُو كِنَانَةَ وَأَسَدٍ. وَأَهَانَهُ: اسْتَخَفَّ بِهِ. وَالِاسْمُ الْهَوَانُ وَالْمُهَانَةُ. وَأُضِيفَ الصَّاعِقَةُ إِلَى الْعَذَابِ، لِأَنَّ الصَّاعِقَةَ اسْمٌ لِلْمُبِيدِ الْمُهْلِكِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ مُهْلِكُ الْعَذَابِ، أَيِ الْعَذَابُ الْمُهْلِكُ. وَالْهُونُ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا فَمَعْنَاهُ الْإِهَانَةُ وَالْإِهَانَةِ عَذَابٌ، فَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدَهُمَا وَصْفًا لِلْآخَرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: صَاعِقَةُ الْهُونِ. وَهُوَ كَقَوْلِكَ: عِنْدِي عِلْمُ الْيَقِينِ، وَعِنْدِي الْعِلْمُ الْيَقِينُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْهُونُ اسْمًا مِثْلَ الدُّونِ، يُقَالُ: عَذَابٌ هُونٌ أَيْ مُهِينٌ كَمَا قَالَ:" مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ". [سبأ: ١٤]. وقيل: أي صاعقة العذاب الْهُونِ." بِما كانُوا يَكْسِبُونَ" مِنْ تَكْذِيبِهِمْ صَالِحًا وَعَقْرِهِمُ النَّاقَةَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ." وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا" يَعْنِي صَالِحًا وَمَنْ آمَنَ بِهِ، أَيْ مَيَّزْنَاهُمْ عَنِ الْكُفَّارِ، فَلَمْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْكُفَّارِ، وَهَكَذَا يَا مُحَمَّدُ نَفْعَلُ بِمُؤْمِنِي قَوْمكَ وكفارهم.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ١٩ الى ٢١]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)
(١). راجع ج ٧ ص ٢٣٨ طبعه أولى أو ثانيه.
349
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ" قَرَأَ نَافِعٌ" نَحْشُرُ" بِالنُّونِ" أَعْدَاءَ" بِالنَّصْبِ. الْبَاقُونَ" يُحْشَرُ" بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ" أَعْدَاءُ" بِالرَّفْعِ وَمَعْنَاهُمَا بَيِّنٌ. وَأَعْدَاءُ اللَّهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُ وَخَالَفُوا أَمْرَهُ." فَهُمْ يُوزَعُونَ" يُسَاقُونَ وَيُدْفَعُونَ إِلَى جَهَنَّمَ. قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عل آخِرِهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعُوا، قَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ: فَإِذَا تَكَامَلَتِ الْعِدَّةُ بُدِئَ بِالْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِرِ جُرْمًا. وَقَدْ مضى في" النمل" «١» الكلام في" يُوزَعُونَ" [النمل: ١٧] مستوفى. قوله تعالى:" حَتَّى إِذا ما جاؤُها"" ما" زائدة" شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ" الْجُلُودُ يَعْنِي بِهَا الْجُلُودَ أَعْيَانَهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالَ السُّدِّيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ وَالْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِالْجُلُودِ الْفُرُوجَ، وأنشد بعض الأدباء لعامر بن جوية:
المرء يسعى للسلا... - مه والسلامة حسبه «٢»
أو سالم مَنْ قَدْ تَثَنَّى... - جِلْدُهُ وَابْيَضَّ رَأْسُهْ
وَقَالَ: جِلْدُهُ كِنَايَةً عَنْ فَرْجِهِ." وَقالُوا" يَعْنِي الْكُفَّارَ" لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا" وَإِنَّمَا كُنَّا نُجَادِلُ عَنْكُمْ" قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ" لَمَّا خَاطَبَتْ وَخُوطِبَتْ أُجْرِيَتْ مَجْرَى مَنْ يَعْقِلُ." وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ" أَيْ رَكَّبَ الْحَيَاةَ فِيكُمْ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ نُطَفًا، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُنْطِقَ الْجُلُودَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ. وَقِيلَ:" وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ" ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ." وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله فَضَحِكَ فَقَالَ:" هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ" قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:" مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ ربه يقول يا رب ألم تجزني مِنَ الظُّلْمِ قَالَ: يَقُولُ بَلَى قَالَ فَيَقُولُ فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي قَالَ يَقُولُ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا قَالَ فَيَخْتِمُ عَلَى فِيهِ فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ انْطِقِي فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ قَالَ ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ قَالَ فَيَقُولُ بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ" وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يُقَالُ:" الْآنَ نَبْعَثُ شاهدنا
(١). راجع ج ١٣ ص ١٦٧ وما بعدها طبعه أولى وثانيه.
(٢). كذا في الأصول ولم نعثر على هذين البيتين.
350
عَلَيْكَ وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ (وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ) «١» انْطِقِي فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ «٢» وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِي سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ" خَرَّجَهُ أَيْضًا مسلم.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٢٢ الى ٢٥]
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْجَوَارِحِ لَهُمْ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوِ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ: فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ فَقَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَهُوَ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ" الْآيَةَ، خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ: اخْتَصَمَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَلَاثَةُ نَفَرٌ. ثُمَّ ذَكَرَهُ بِلَفْظِهِ حَرْفًا حَرْفًا وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عمارة ابن عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فجاء ثلاثة
(١). الزيادة من صحيح مسلم.
(٢). ليعذر من نفسه: على بناء الفاعل من الاعذار والمعنى ليزيل الله عذره من قبل نفسه بكثرة ذنوبه، ولشهادة أعضائه عليه، بحيث لم يبق له عذر. (هامش مسلم).
351
نفسر كَثِيرٌ شَحْمِ بُطُونِهِمْ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ قُرَشِيٌّ وَخَتَنَاهُ ثَقَفِيَّانِ أَوْ ثَقَفِيٌّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيَّانِ فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا هَذَا، فَقَالَ الْآخَرُ: إِنَّا إِذَا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا سَمِعَهُ: وَإِذَا لَمْ نَرْفَعْ أَصْوَاتَنَا لَمْ يَسْمَعْهُ، فَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا سَمِعَهُ كُلَّهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ" إِلَى قَوْلِهِ:" فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ" قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَالثَّقَفِيُّ عَبْدُ يَالِيلَ، وَخَتَنَاهُ رَبِيعَةُ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ. وَمَعْنَى" تَسْتَتِرُونَ" تَسْتَخْفُونَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، أَيْ مَا كُنْتُمْ تَسْتَخْفُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ حَذَرًا مِنْ شَهَادَةِ الْجَوَارِحِ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُخْفِيَ مِنْ نَفْسِهِ عَمَلَهُ، فَيَكُونُ الِاسْتِخْفَاءُ بِمَعْنَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: الِاسْتِتَارُ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ، أَيْ مَا كُنْتُمْ تَتَّقُونَ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْكُمْ جَوَارِحُكُمْ فِي الْآخِرَةِ فَتَتْرُكُوا الْمَعَاصِي خَوْفًا مِنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ. وَقَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ:" وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ" أَيْ تَظُنُّونَ" أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ" بِأَنْ يَقُولَ سَمِعْتُ الْحَقَّ وَمَا وَعَيْتُ وَسَمِعْتُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْمَعَاصِي" وَلا أَبْصارُكُمْ" فَتَقُولُ رَأَيْتُ آيَاتِ اللَّهِ وَمَا اعْتَبَرْتُ وَنَظَرْتُ فِيمَا لَا يَجُوزُ" وَلا جُلُودُكُمْ" تَقَدَّمَ." وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ" مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَجَادَلْتُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى شَهِدَتْ عَلَيْكُمْ جَوَارِحُكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. رَوَى بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ:" أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ" قَالَ:" إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفَدَّمَةٌ أَفْوَاهُكُمْ بِفِدَامٍ فَأَوَّلُ مَا يُبَيِّنُ عَنِ الْإِنْسَانِ فَخِذُهُ وَكَفُّهُ" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى «١» الشَّامِيُّ فَأَحْسَنَ.
الْعُمْرُ ينقص والذنوب تزيد - تقال عَثَرَاتُ الْفَتَى فَيَعُودُ
هَلْ يَسْتَطِيعُ جُحُودَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُودُ
وَالْمَرْءُ يَسْأَلُ عَنْ سِنِيهِ فَيَشْتَهِي تَقْلِيلَهَا وَعَنِ الْمَمَاتِ يَحِيدُ
(١). كذا في الأصول وفي كتاب" أدب الدنيا والدين": عبد الأعلى بن عبد الله الشامي.
352
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ يَأْتِي عَلَى ابْنِ آدَمَ إِلَّا يُنَادَى فِيهِ يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا خَلْقٌ جَدِيدٌ وَأَنَا فِيمَا تَعْمَلُ غَدًا عَلَيْكَ شَهِيدٌ فَاعْمَلْ فِيَّ خَيْرًا أَشْهَدْ لَكَ بِهِ غَدًا فَإِنِّي لَوْ قَدْ مَضَيْتُ لَمْ تَرَنِي أَبَدًا وَيَقُولُ اللَّيْلُ مِثْلَ ذَلِكَ" ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ فِي بَابِ شَهَادَةِ الْأَرْضِ وَاللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ وَالْمَالِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ فَأَحْسَنَ:
مَضَى أَمْسُكَ الْأَدْنَى شَهِيدًا مُعَدَّلًا - وَيَوْمُكَ هَذَا بِالْفِعَالِ شَهِيدُ
فَإِنْ تَكُ بِالْأَمْسِ اقْتَرَفْتَ إِسَاءَةً - فَثَنِّ بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ
وَلَا تُرْجِ فِعْلَ الْخَيْرِ مِنْكَ إِلَى غَدٍ - لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ" أَيْ أَهْلَكَكُمْ فَأَوْرَدَكُمُ النَّارَ. قَالَ قَتَادَةُ: الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ فَإِنَّ قَوْمًا أَسَاءُوا الظَّنَّ بِرَبِّهِمْ فَأَهْلَكَهُمْ" فَذَلِكَ قَوْلُهُ:" وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ". وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا لَهُمْ حَسَنَةٌ، وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِنِّي أُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّي وَكَذَبَ، وَلَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ، وَتَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:" وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ". وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ حَسَنُ الظَّنِّ بِرَبِّهِ فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّ الظَّنَّ اثْنَانِ ظَنٌّ يُنْجِي وَظَنٌّ يُرْدِي. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا يُدْمِنُونَ الْمَعَاصِي وَلَا يَتُوبُونَ مِنْهَا وَيَتَكَلَّمُونَ عَلَى الْمَغْفِرَةِ، حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا مَفَالِيسَ، ثُمَّ قَرَأَ:" وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ". قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ" أَيْ فَإِنْ يَصْبِرُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ. نظيره:" فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ" [البقرة: ١٧٥] عَلَى مَا تَقَدَّمَ «١»." وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا" فِي الدُّنْيَا وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ" فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ". وقيل: المعنى" فإن يصبروا"
(١). راجع ج ٢ ص ٢٣٦ طبعه ثانيه. [..... ]
353
فِي النَّارِ أَوْ يَجْزَعُوا" فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ" أَيْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهَا، وَدَلَّ عَلَى الْجَزَعِ قَوْلُهُ:" وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا" لِأَنَّ الْمُسْتَعْتَبَ جَزِعٌ وَالْمُعْتِبُ الْمَقْبُولُ عِتَابُهُ، قَالَ النَّابِغَةُ:
فَإِنْ أَكُ مظلوما فعبد ظلمته - إن تَكُ ذَا عُتْبَى فَمِثْلُكُ يُعْتِبُ
أَيْ مِثْلُكَ مَنْ قَبِلَ الصُّلْحَ وَالْمُرَاجَعَةَ إِذَا سُئِلَ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْعِتَابُ مُخَاطَبَةُ الْإِدْلَالِ وَمُذَاكَرَةُ الْمُوجِدَةِ. تَقُولُ: عَاتَبْتُهُ مُعَاتَبَةً، وَبَيْنَهُمْ أُعْتُوبَةٌ يَتَعَاتَبُونَ بِهَا. يُقَالُ: إِذَا تَعَاتَبُوا أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُمُ الْعِتَابُ. وَأَعْتَبَنِي فُلَانٌ: إِذَا عَادَ إِلَى مَسَرَّتِي رَاجِعًا عَنِ الْإِسَاءَةِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْعُتْبَى، وَهُوَ رُجُوعُ الْمَعْتُوبِ عَلَيْهِ إِلَى مَا يُرْضِي الْعَاتِبَ. وَاسْتَعْتَبَ وَأَعْتَبَ بِمَعْنًى، وَاسْتَعْتَبَ أَيْضًا طَلَبَ أَنْ يُعْتَبَ، تَقُولُ: اسْتَعْتَبْتُهُ فَأَعْتَبَنِي أَيِ اسْتَرْضَيْتُهُ فَأَرْضَانِي. فَمَعْنَى" وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا" أَيْ طَلَبُوا الرِّضَا لَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ بَلْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ النَّارِ. وَفِي التَّفَاسِيرِ: وَإِنْ يَسْتَقِيلُوا رَبَّهُمْ فَمَا هُمْ مِنَ الْمُقَالِينَ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ" وَإِنْ يُسْتَعْتَبُوا" بِفَتْحِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ وَضَمِّ الْيَاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ" فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ" بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ إِنْ أَقَالَهُمُ اللَّهُ وَرَدَّهُمْ إِلَى الدُّنْيَا لَمْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الشَّقَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ" [الأنعام: ٢٨] ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: يُقَالُ أَعْتَبَ إِذَا غَضِبَ وَأَعْتَبَ إِذَا رَضِيَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ" قَالَ النَّقَّاشُ: أَيْ هَيَّأْنَا لَهُمْ شَيَاطِينَ. وَقِيلَ: سَلَّطْنَا عَلَيْهِمْ قُرَنَاءَ يُزَيِّنُونَ عِنْدَهُمُ الْمَعَاصِي، وَهَؤُلَاءِ الْقُرَنَاءُ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَمِنَ الْإِنْسِ أَيْضًا، أَيْ سَبَّبْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ، يُقَالُ: قَيَّضَ اللَّهُ فُلَانًا لِفُلَانٍ أَيْ جَاءَهُ بِهِ وَأَتَاحَهُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ". الْقُشَيْرِيُّ: وَيُقَالُ قَيَّضَ اللَّهُ لِي رِزْقًا أَيْ أَتَاحَهُ كَمَا كُنْتُ أَطْلُبُهُ، وَالتَّقْيِيضُ الْإِبْدَالُ وَمِنْهُ الْمُقَايَضَةُ، قَايَضْتُ الرَّجُلَ مُقَايَضَةً أَيْ عَاوَضْتُهُ بِمَتَاعٍ، وَهُمَا قَيْضَانِ كَمَا تَقُولُ بَيْعَانِ." فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَحَسَّنُوهُ لَهُمْ حَتَّى آثَرُوهُ عَلَى الْآخِرَةِ" وَما خَلْفَهُمْ" حَسَّنُوا لَهُمْ مَا بَعْدَ مَمَاتِهِمْ وَدَعَوْهُمْ إِلَى التَّكْذِيبِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ" فِي النَّارِ" فَزَيَّنُوا لَهُمْ" أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى قَدَّرْنَا عَلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ وَحَكَمْنَا بِهِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَحْوَجْنَاهُمْ إِلَى الْأَقْرَانِ، أَيْ أَحْوَجْنَا
354
الْفَقِيرَ إِلَى الْغَنِيِّ لِيَنَالَ مِنْهُ، وَالْغَنِيَّ إِلَى الْفَقِيرِ لِيَسْتَعِينَ بِهِ فَزَيَّنَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ الْمَعَاصِي. وَلَيْسَ قَوْلُهُ:" وَما خَلْفَهُمْ" عَطْفًا عَلَى" مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" بَلِ الْمَعْنَى وَأَنْسَوْهُمْ مَا خَلْفَهُمْ فَفِيهِ هَذَا الْإِضْمَارُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" تَكْذِيبُهُمْ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ" وَما خَلْفَهُمْ" التَّسْوِيفُ وَالتَّرْغِيبُ فِي الدُّنْيَا. الزَّجَّاجُ:" مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" مَا عَمِلُوهُ" وَما خَلْفَهُمْ" مَا عَزَمُوا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَهُمْ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَعَاصِي" وَما خَلْفَهُمْ" مَا يُعْمَلُ بَعْدَهُمْ." وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ" أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا وَجَبَ عَلَى الْأُمَمِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَكُفْرِهِمْ. وَقِيلَ:" فِي" بِمَعْنَى مَعَ، فَالْمَعْنَى هُمْ دَاخِلُونَ مَعَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ قَبْلَهُمْ فِيمَا دَخَلُوا فِيهِ. وَقِيلَ:" فِي أُمَمٍ" فِي جُمْلَةِ أُمَمٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «١»:
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ فوكا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا
يُرِيدُ فَأَنْتَ فِي جُمْلَةِ آخَرِينَ لَسْتُ فِي ذَلِكَ بِأَوْحَدَ. وَمَحَلٌّ" فِي أُمَمٍ" النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي" عَلَيْهِمُ" أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ كَائِنِينَ فِي جُمْلَةِ أُمَمٍ." إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ" أَعْمَالَهُمْ في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
(١). هو عمرو بن أذينة.
355
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ" لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ قَوْمِ هُودٍ وَصَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ أَخْبَرَ عَنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا الْقُرْآنَ فَقَالُوا:" لَا تَسْمَعُوا". وَقِيلَ: مَعْنَى" لَا تَسْمَعُوا" لَا تُطِيعُوا، يُقَالُ: سَمِعْتُ لَكَ أَيْ أَطَعْتُكَ." وَالْغَوْا فِيهِ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ إِذَا قَرَأَ مُحَمَّدٌ فَصِيحُوا فِي وَجْهِهِ حَتَّى لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمَّا أَعْجَزَهُمُ الْقُرْآنُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى" وَالْغَوْا فِيهِ" بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْفِيقِ وَالتَّخْلِيطِ فِي الْمَنْطِقِ. حَتَّى يَصِيرَ لَغْوًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَكْثِرُوا الْكَلَامَ لِيَخْتَلِطَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: قِعُوا فِيهِ. وَعَيِّبُوهُ." لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ" مُحَمَّدًا عَلَى قِرَاءَتِهِ فَلَا يَظْهَرُ وَلَا يَسْتَمِيلُ الْقُلُوبَ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَبَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ السَّهْمِيُّ" وَالْغُوا" بِضَمِّ الْغَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ مِنْ لَغَا يَلْغُو. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ لَغِيَ يَلْغَى قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَقَوْلُهُ:" وَالْغَوْا فِيهِ" قِيلَ: عَارِضُوهُ بِكَلَامٍ لَا يُفْهَمُ. يُقَالُ: لَغَوْتُ أَلْغُو وَأَلْغَى، وَلَغِيَ يَلْغَى ثَلَاثُ لُغَاتٍ. وَقَدْ مَضَى مَعْنَى اللَّغْوِ فِي" الْبَقَرَةِ" «١» وَهُوَ مَا لَا يُعْلَمُ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا تَحْصِيلٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً" قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الذَّوْقَ يَكُونُ مَحْسُوسًا، وَمَعْنَى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ: ما يتوالى فلا ينقطع. الْعَذَابُ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِمْ." وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ" أَيْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءَ قُبْحِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا. وَأَسْوَأُ الْأَعْمَالِ الشِّرْكُ." قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ" أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ" النَّارُ" وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ" ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ دَارُ الْخُلْدِ" فَتَرْجَمَ بِالدَّارِ عَنِ النَّارِ وَهُوَ مَجَازُ الْآيَةِ. وَ" ذَلِكَ" ابْتِدَاءٌ وَ" جَزَاءُ" الْخَبَرُ وَ" النَّارُ" بَدَلٌ مِنْ" جَزَاءٍ" أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٌ، والجملة في موضع بيان للجملة الأولى.
(١). راجع ج ٣ ص ٩٩ طبعه أولى أو ثانيه.
356
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا" يَعْنِي فِي النَّارِ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَالْمُرَادُ الْمُسْتَقْبَلُ" رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ" يَعْنِي إِبْلِيسَ وَابْنَ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ ذَنْبِهِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْجِنْسِ وبني على التثنية لاختلاف الجنسين." نجعلها تحت أقدامنا ليكونا سَأَلُوا ذَلِكَ حَتَّى يَشْتَفُوا مِنْهُمْ بِأَنْ يَجْعَلُوهُمْ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ" لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ" فِي النَّارِ وَهُوَ الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ سَأَلُوا أَنْ يُضَعِّفَ اللَّهُ عَذَابَ مَنْ كَانَ سَبَبَ ضَلَالَتِهِمْ مِنَ الْجِنِّ والإنس. وقرا ابن محيص وَالسُّوسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ" أَرْنَا بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا بِاخْتِلَاسِهَا. وَأَشْبَعَ الْبَاقُونَ كَسْرَتَهَا وَقَدْ تقدم في" الأعراف" «١».
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٣٠ الى ٣٢]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا" قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا رَبَّنَا اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ بناته وهؤلاء شفعاؤنا عِنْدَ اللَّهِ، فَلَمْ يَسْتَقِيمُوا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَبُّنَا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَاسْتَقَامَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ" إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا" قَالَ:" قَدْ قَالَ النَّاسُ ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَقَامَ ٢ قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَيُرْوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مَعْنَى" اسْتَقامُوا"، فَفِي صَحِيحِ مسلم
(١). هكذا في نسخ الأصل وصوابه في البقرة في ج ٢ ص ١٢٧ طبعه ثانيه.
357
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ- وَفِي رِوَايَةٍ- غَيْرَكَ. قَالَ:" قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ" زَادَ التِّرْمِذِيُّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ وَقَالَ:" هَذَا". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:" ثُمَّ اسْتَقامُوا" لَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا. وَرَوَى عَنْهُ الْأَسْوَدُ بْنُ هِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَقُولُونَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ" إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا" وَ" الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ" فَقَالُوا: اسْتَقَامُوا فَلَمْ يُذْنِبُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِخَطِيئَةٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَقَدْ حَمَلْتُمُوهَا عَلَى غَيْرِ الْمَحْمَلِ" قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا" فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيْرِهِ" وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ" بِشِرْكٍ" أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَخْطُبُ:" إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا" فَقَالَ: اسْتَقَامُوا وَاللَّهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ لِطَاعَتِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْغُوَا رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ. وَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثُمَّ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثُمَّ أَدَّوُا الْفَرَائِضَ. وَأَقْوَالُ التَّابِعِينَ بِمَعْنَاهَا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَقَتَادَةُ: اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّاعَةِ لِلَّهِ. الْحَسَنُ: اسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنَبُوا مَعْصِيَتَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: اسْتَقَامُوا عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى مَاتُوا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَمِلُوا عَلَى وِفَاقِ مَا قَالُوا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: أَعْرَضُوا عَمَّا سِوَى اللَّهِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: زَهِدُوا فِي الْفَانِيَةِ وَرَغِبُوا فِي الْبَاقِيَةِ. وَقِيلَ: اسْتَقَامُوا إِسْرَارًا كَمَا اسْتَقَامُوا إِقْرَارًا. وَقِيلَ: اسْتَقَامُوا فِعْلًا كَمَا اسْتَقَامُوا قَوْلًا. وَقَالَ أَنَسٌ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" هُمْ أُمَّتِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ". وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ فورك: السين سين الطلب مئل اسْتَسْقَى أَيْ سَأَلُوا مِنَ اللَّهِ أَنْ يُثَبِّتَهُمْ عَلَى الدِّينِ. وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا فَارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَةَ. قُلْتُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَإِنْ تَدَاخَلَتْ فَتَلْخِيصُهَا: اعْتَدِلُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَقْدًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا، وَدَامُوا على ذلك. نتنزل عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ" قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ: عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لِلْبَعْثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ بُشْرَى تَكُونُ لَهُمْ مِنَ
358
الْمَلَائِكَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ وَكِيعٌ وَابْنُ زَيْدٍ: الْبُشْرَى فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْقَبْرِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ." أَلَّا تَخافُوا" أَيْ بِ" أَلَّا تَخافُوا" فَحُذِفَ الْجَارُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تخافوا الموت." وَلا تَحْزَنُوا" عَلَى أَوْلَادِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ خَلِيفَتُكُمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لَا تَخَافُوا رَدَّ ثَوَابِكُمْ فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَلَا تَخَافُوا إِمَامَكُمْ، وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى ذُنُوبِكُمْ." وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ". قَوْلُهُ تَعَالَى:" نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
" أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ بالبشارة" نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ"
قال مجاهد: أي نحن قرناؤكم الَّذِينَ كُنَّا مَعَكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا لَا نُفَارِقُكُمْ حَتَّى نُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ نَحْنُ الْحَفَظَةُ لِأَعْمَالِكُمْ في الدنيا وأولياؤكم فِي الْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَمَوْلَاهُمْ." وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
" أَيْ مِنَ الْمَلَاذِ." وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
" تَسْأَلُونَ وَتَتَمَنَّوْنَ." نُزُلًا" أَيْ رِزْقًا وَضِيَافَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [آلِ عِمْرَانَ «١»] وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ أَنْزَلْنَاهُ نُزُلًا. وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ نَازِلٍ، أَيْ لَكُمْ مَا تَدَّعُونَ نَازِلِينَ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي" تَدَّعُونَ" أو من المجرور في" لكم".
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٣٣ الى ٣٦]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
(١). راجع ج ٤ ص ٣٢١ طبعه أولى أو ثانية.
359
قَوْلُهُ تَعَالَى" وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً" هَذَا تَوْبِيخٌ لِلَّذِينَ تَوَاصَوْا بِاللَّغْوِ فِي الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى: أَيُّ كَلَامٍ أَحْسَنُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَنْ أَحْسَنَ قَوْلًا مِنَ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَهُوَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ، هَذَا حَبِيبُ اللَّهِ، هَذَا وَلِيُّ اللَّهِ، هَذَا صَفْوَةُ اللَّهِ، هَذَا خِيرَةُ اللَّهِ، هَذَا وَاللَّهِ أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ، أَجَابَ اللَّهَ فِي دَعْوَتِهِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مَا أَجَابَ إِلَيْهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعِكْرِمَةُ وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ. قَالَ فُضَيْلُ بْنُ رُفَيْدَةَ: كُنْتُ مُؤَذِّنًا لِأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ لِي عَاصِمُ بْنُ هُبَيْرَةَ: إِذَا أَذَّنْتَ فَقُلْتَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقُلْ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، قال ابن العربي: والأول أَصَحُّ، لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَالْأَذَانَ مَدَنِيٌّ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهَا بِالْمَعْنَى، لَا أَنَّهُ كَانَ الْمَقْصُودَ وَقْتَ الْقَوْلِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ قَالَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَنَقَهُ الْمَلْعُونُ:" أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ" [غافر: ٢٨] وَتَتَضَمَّنَ كُلَّ كَلَامٍ حَسَنٍ فِيهِ ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ. قُلْتُ: وَقَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَحْسَنُهَا، قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ. وَكَذَا قَالَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ. قَالَ: وَمَعْنَى" وَعَمِلَ صالِحاً" الصَّلَاةُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. وَقَالَهُ أَبُو أُمَامَةَ، قَالَ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:" وَعَمِلَ صالِحاً" صَلَّى وَصَامَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَدَّى الْفَرَائِضَ. قُلْتُ: وَهَذَا أَحْسَنُهَا مَعَ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ وَكَثْرَةِ الْمَنْدُوبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ." وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ بِالْقَوْلِ وَالسَّيْفِ يَكُونُ لِلِاعْتِقَادِ وَيَكُونُ لِلْحُجَّةِ، وَكَانَ الْعَمَلُ يَكُونُ لِلرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالِاعْتِقَادِ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لِوَجْهِهِ. مَسْأَلَةٌ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" وَلَمْ يَقُلْ لَهُ اشْتَرِطْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، كَانَ فِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ أَنَا مُسْلِمٌ إِنْ شاء الله.
360
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ" قَالَ الْفَرَّاءُ:" لَا" صِلَةٌ أَيْ" وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ" وَأَنْشَدَ:
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُ - وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ
أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، أَيْ لَا يَسْتَوِي مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَمَا الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَسَنَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالسَّيِّئَةُ الشِّرْكُ. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ الطَّاعَةُ، وَالسَّيِّئَةُ الشِّرْكُ. وَهُوَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ الْمُدَارَاةُ، وَالسَّيِّئَةُ الْغِلْظَةُ. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ الْعَفْوُ، وَالسَّيِّئَةُ الِانْتِصَارُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْحَسَنَةُ الْعِلْمُ، وَالسَّيِّئَةُ الْفُحْشُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَسَنَةُ حُبُّ آلِ الرَّسُولِ، وَالسَّيِّئَةُ بُغْضُهُمْ." قَوْلُهُ تَعَالَى:" ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَبَقِيَ الْمُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ: حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَالِاحْتِمَالُ وَالْإِغْضَاءُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ ادْفَعْ بِحِلْمِكَ جَهْلَ مَنْ يَجْهَلُ عَلَيْكَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: هُوَ الرَّجُلُ يَسُبُّ الرَّجُلَ فَيَقُولُ الْآخَرُ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَغَفَرَ اللَّهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ. وَكَذَلِكَ يُرْوَى فِي الْأَثَرِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ نَالَ مِنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" يَعْنِي السَّلَامَ إِذَا لَقِيَ مَنْ يُعَادِيهِ، وَقَالَهُ عَطَاءٌ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ وَهُوَ الْمُصَافَحَةُ. وَفِي الْأَثَرِ:" تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ". وَلَمْ يَرَ مَالِكٌ الْمُصَافَحَةَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ مَعَ سُفْيَانَ فَتَكَلَّمَا فِيهَا فَقَالَ سُفْيَانُ: قَدْ صَافَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: ذَلِكَ خَاصٌّ. فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ: مَا خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخُصُّنَا، وَمَا عَمَّهُ يَعُمُّنَا، وَالْمُصَافَحَةُ ثَابِتَةٌ فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهَا. وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ قَالَ قُلْتُ لِأَنَسٍ: هَلْ كَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِي الْأَثَرِ: (مِنْ تَمَامِ الْمَحَبَّةِ الْأَخْذُ بِالْيَدِ). وَمِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ إِمَامٌ مُقَدَّمٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ
الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ- وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ- فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ.
361
قُلْتُ: قَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُ الْمُصَافَحَةِ وَعَلَيْهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي" يُوسُفَ" «١» وَذَكَرْنَا هُنَاكَ حَدِيثُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ مَوَدَّةً بَيْنِهِمَا وَنَصِيحَةً إِلَّا أُلْقِيَتْ ذُنُوبُهُمَا بَيْنَهُمَا". قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" أَيْ قَرِيبٌ صَدِيقٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، كَانَ مُؤْذِيًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارَ لَهُ وَلِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَدُوًّا بِالْمُصَاهَرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَصَارَ وَلِيًّا فِي الْإِسْلَامِ حَمِيمًا بِالْقَرَابَةِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالصَّفْحِ عَنْهُ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ وَهُوَ أَظْهَرُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ". وَقِيلَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ. وَرُوِيَ أن رجلا شتم قنبرا مولى علي ابن أَبِي طَالِبٍ فَنَادَاهُ عَلِيٌّ يَا قَنْبَرُ دَعْ شَاتِمَكَ، وَالْهَ عَنْهُ تُرْضِي الرَّحْمَنَ وَتُسْخِطِ الشَّيْطَانَ، وَتُعَاقِبْ شَاتِمَكَ، فَمَا عُوقِبَ الْأَحْمَقُ بِمِثْلِ السُّكُوتِ عَنْهُ. وَأَنْشَدُوا:
وَلَلْكَفُّ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمًا - أَضَرُّ لَهُ مِنْ شَتْمِهِ حِينَ يُشْتَمُ
وَقَالَ آخر:
وما شي أَحَبُّ إِلَى سَفِيهٍ - إِذَا سَبَّ الْكَرِيمَ مِنَ الجواب
متاركة السفيه بلا جواب وأشد عَلَى السَّفِيهِ مِنَ السِّبَابِ
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ «٢»:
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب - إن كَثُرَتْ مِنْهُ لَدَيَّ الْجَرَائِمُ
فَمَا النَّاسُ إِلَّا واحد من ثلاثة - شريف ومشرف ومثل مقاوم
(١). راجع ج ٩ ص ٢٦٦ طبعه أولى أو ثانيه.
(٢). الأبيات التالية معزوة ب كتاب" أدب الدنيا والدين" ص ٢٥٢ منبع وزارة المعارف الى الخليل بن أحمد
362
فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ - وَأَتْبَعُ فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لَازِمُ
وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَإِنْ قَالَ صُنْتُ عَنْ - إِجَابَتِهِ عِرْضِي وَإِنْ لَامَ لائم
وأما مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا - تَفَضَّلْتُ إِنَّ الْفَضْلَ بِالْحِلْمِ حَاكِمُ
" وَما يُلَقَّاها" يَعْنِي هَذِهِ الْفَعْلَةَ الْكَرِيمَةَ وَالْخُصْلَةَ الشَّرِيفَةَ" إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا" بِكَظْمِ الْغَيْظِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى." وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" أَيْ نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ الْخَيْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: الْحَظُّ الْعَظِيمُ الْجَنَّةُ. قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا عَظُمَ حَظٌّ قَطُّ دُونَ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ الْكِنَايَةُ فِي" يُلَقَّاها" عَنِ الْجَنَّةِ أَيْ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ" تَقَدَّمَ فِي آخِرِ" الأعراف" «١» مستوفى." فاستعذ بالله" من كيد وَشَرِّهِ" إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ" لِاسْتِعَاذَتِكَ" الْعَلِيمُ" بِأَفْعَالِكَ وأقوالك.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى" وَمِنْ آياتِهِ" عَلَامَاتُهُ الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ" اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" وَقَدْ مَضَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «٢». ثُمَّ نَهَى عَنِ السُّجُودِ لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا خَلْقَيْنِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِفَضِيلَةٍ لَهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا فَيَسْتَحِقَّانِ بِهَا الْعِبَادَةَ مع الله. لان خالقهما هو الله
(١). راجع ج ٧ ص ٣٤٧ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(٢). راجع ج ٢ ص ١٩٢ وما بعدها طبعه ثانيه.
363
لو شَاءَ لَأَعْدَمَهُمَا أَوْ طَمَسَ نُورَهُمَا." وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ" وَصَوَّرَهُنَّ وَسَخَّرَهُنَّ، فَالْكِنَايَةُ تَرْجِعُ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَقِيلَ: لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ خَاصَّةً، لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى الْآيَاتِ" إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" وَإِنَّمَا أَنَّثَ عَلَى جَمْعِ التَّكْثِيرِ وَلَمْ يَجْرِ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ لِأَنَّهُ فِيمَا لَا يَعْقِلُ." فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا" يَعْنِي الْكُفَّارَ عَنِ السُّجُودِ لِلَّهِ" فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ" مِنَ الْمَلَائِكَةِ" يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ" أي لا يملون عبادته. قال زهير
سميت تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ - ثَمَانِينَ حَوْلًا لَا أبالك يَسْأَمُ
مَسْأَلَةٌ- هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ سَجْدَةٍ بِلَا خِلَافٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ مِنْهَا. فَقَالَ مَالِكٌ: مَوْضِعُهُ" إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ"، لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأَمْرِ. وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمْ يَسْجُدُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ:" تَعْبُدُونَ". وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَالشَّافِعِيُّ: مَوْضِعُهُ" وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ" لِأَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ وَغَايَةُ الْعِبَادَةِ وَالِامْتِثَالِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْجُدُ عِنْدَ قَوْلِهِ:" يَسْأَمُونَ". وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: اسْجُدُوا بِالْآخِرَةِ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مَسْرُوقٍ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَبِي صَالِحٍ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ وَطَلْحَةَ وَزُبَيْدٍ الْيَامِيَّيْنِ «١» وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ. وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ وَقَتَادَةُ وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَسْجُدُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ:" يَسْأَمُونَ". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ. مَسْأَلَةٌ: ذَكَرَ ابْنُ خُوَيْزَ مَنْدَادَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ صَلَاةَ كُسُوفِ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَكْسِفَانِ إِلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ، فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ. قُلْتُ: صَلَاةُ الْكُسُوفِ ثَابِتَةٌ فِي الصِّحَاحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ، وَحَسْبُكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْعُمْدَةُ فِي الباب. والله الموفق للصواب.
(١). هذه النسبة الى يامة بطن من همدان.
364
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً" الْخِطَابُ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَيْ" وَمِنْ آياتِهِ" الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى" أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً" أَيْ يَابِسَةً جَدْبَةً، هَذَا وَصْفُ الْأَرْضِ بِالْخُشُوعِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبَيِّنُهُ - نوى كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ «١»
وَالْأَرْضُ الْخَاشِعَةُ، الْغَبْرَاءُ الَّتِي تُنْبِتُ. وَبَلْدَةٌ خَاشِعَةٌ: أَيْ مُغَبَّرَةٌ لَا مَنْزِلَ بِهَا. وَمَكَانٌ خَاشِعٌ." فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ" أي بالنبات، قال مُجَاهِدٌ. يُقَالُ: اهْتَزَّ الْإِنْسَانُ أَيْ تَحَرَّكَ، وَمِنْهُ:
تَرَاهُ كَنَصْلِ السَّيْفِ يَهْتَزُّ لِلنَّدَى - إِذَا لَمْ تَجِدْ عِنْدَ امْرِئِ السَّوْءِ مَطْمَعَا
" وَرَبَتْ" أَيِ انتفخت وعلت قبل أن تنبت، قال مُجَاهِدٌ. أَيْ تَصَعَّدَتْ عَنِ النَّبَاتِ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتَقْدِيرُهُ: رَبَتْ وَاهْتَزَّتْ. وَالِاهْتِزَازُ وَالرَّبْوُ قَدْ يَكُونَانِ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَدْ يَكُونَانِ بَعْدَ خُرُوجِ النَّبَاتِ إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَرُبُوُّهَا ارْتِفَاعُهَا. وَيُقَالُ لِلْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ: رَبْوَةٌ وَرَابِيَةٌ، فَالنَّبَاتُ يَتَحَرَّكُ لِلْبُرُوزِ ثُمَّ يَزْدَادُ فِي جِسْمِهِ بِالْكِبَرِ طُولًا وَعَرْضًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَخَالِدٌ" وَرَبَأَتْ" وَمَعْنَاهُ عَظُمَتْ، مِنَ الرَّبِيئَةِ. وَقِيلَ:" اهْتَزَّتْ" أَيِ اسْتَبْشَرَتْ بِالْمَطَرِ" وَرَبَتْ" أَيِ انْتَفَخَتْ بِالنَّبَاتِ. وَالْأَرْضُ إِذَا انْشَقَّتْ بِالنَّبَاتِ: وُصِفَتْ بِالضَّحِكِ، فَيَجُوزُ وَصْفُهَا بِالِاسْتِبْشَارِ أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الرَّبْوُ وَالِاهْتِزَازُ وَاحِدٌ، وَهِيَ حَالَةُ خُرُوجِ النَّبَاتِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْحَجِّ" «٢» " إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لمحيي الموتى انه على كل شي قدير" تقدم في غير موضع «٣».
(١). شبه أرماد بكحل العين لسواده فانه يسود متى تقادم عهده واصابته الأمطار. والنوى حفير حول الخيمة. والجذم الأصل. وأثلم مهدوم. وخاشع تداعت آثاره واستوى بالأرض. يريد أن ذلك الرماد تغير ولم أتبينه الا بعد لأي أي بعد جهد ومشقة.
(٢). راجع ج ١٣ ص ١٣ طبعه أولى أو ثانيه.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٤٥ طبعه أولى أو ثانيه.
365

[سورة فصلت (٤١): الآيات ٤٠ الى ٤٣]

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) مَا يُقالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا" أَيْ يَمِيلُونَ عَنِ الْحَقِّ فِي أَدِلَّتِنَا. وَالْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ وَالْعُدُولُ. وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ لِأَنَّهُ أُمِيلَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ. يُقَالُ: أَلْحَدَ فِي دِينِ اللَّهِ أَيْ حَادَ عَنْهُ وَعَدَلَ. وَلَحَدَ لُغَةٌ فِيهِ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الَّذِينَ قَالُوا:" لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ" وَهُمُ الَّذِينَ أَلْحَدُوا فِي آيَاتِهِ وَمَالُوا عَنِ الْحَقِّ فَقَالُوا: لَيْسَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ هُوَ شِعْرٌ أَوْ سِحْرٌ، فَالْآيَاتُ آيَاتُ الْقُرْآنِ. قَالَ مُجَاهِدٌ:" يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا" أَيْ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَاللَّغْوِ وَالْغِنَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ تَبْدِيلُ الْكَلَامِ وَوَضْعُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:" يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا" يَكْذِبُونَ فِي آيَاتِنَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُعَانِدُونَ وَيُشَاقُّونَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُشْرِكُونَ وَيَكْذِبُونَ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: الْآيَاتُ الْمُعْجِزَاتُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ." أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ" عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ." خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ" قِيلَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله مقاتل. وقيل: عمار ابن يَاسِرٍ. وَقِيلَ: حَمْزَةُ. وَقِيلَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَقِيلَ: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا عَلَى الْعُمُومِ، فَالَّذِي يُلْقَى فِي النَّارِ الْكَافِرُ، وَالَّذِي يَأْتِي آمِنًا يوم القيامة المؤمن، قال ابْنُ بَحْرٍ." اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ" أَمْرُ تَهْدِيدٍ، أَيْ بَعْدَ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فَلَا بُدَّ لَكُمْ مِنَ الْجَزَاءِ." إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" وَعِيدٌ بِتَهْدِيدٍ وَتَوَعُّدٌ.
366
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ" الذكر ها هنا الْقُرْآنُ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ فِيهِ ذِكْرَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تقديره «١» هالكون أو معذبون. وَقِيلَ: الْخَبَرُ" أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ" [فصلت: ٤٤] وَاعْتَرَضَ قَوْلُهُ:" مَا يُقالُ لَكَ" ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الذِّكْرِ فَقَالَ:" وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا" ثم قال:" أُولئِكَ يُنادَوْنَ" [فصلت: ٤٤] وَالْأَوَّلُ الِاخْتِيَارُ، قَالَ النَّحَّاسُ: عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ جَمِيعًا فِيمَا عَلِمْتُ." وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ" أَيْ عَزِيزٌ عَلَى اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنْهُ: عَزِيزٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ. وَقِيلَ:" عَزِيزٌ" أَيْ أَعَزَّهُ اللَّهُ فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَزَّ وَيُجَلِّ وَأَلَّا يُلْغَى فِيهِ. وَقِيلَ:" عَزِيزٌ" مِنَ الشَّيْطَانِ أَنْ يُبَدِّلَهُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. مُقَاتِلٌ: مُنِعَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالْبَاطِلِ. السُّدِّيُّ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَلَا مِثْلَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا:" عَزِيزٌ" أَيْ مُمْتَنِعٌ عَنِ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهُ." لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ" أي لا يكذبه شي مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ وَلَا يَنْزِلُ من بعده يبطله وينسخه، قال الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ:" لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ" يَعْنِي الشَّيْطَانَ" مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ" لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَ وَلَا يَزِيدَ وَلَا يَنْقُصَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَأْتِيهِ التَّكْذِيبُ" مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ". ابْنُ جُرَيْجٍ:" لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ" فِيمَا أَخْبَرَ عَمَّا مَضَى وَلَا فِيمَا أَخْبَرَ عَمَّا يَكُونُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ" مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:" وَلا مِنْ خَلْفِهِ" يُرِيدُ مِنْ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." تنيل مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" ابْنُ عَبَّاسٍ:" حَكِيمٍ" فِي خَلْقِهِ" حَمِيدٍ" إِلَيْهِمْ. قَتَادَةُ:" حَكِيمٍ" فِي أَمْرِهِ" حَمِيدٍ" إِلَى خَلْقِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَا يُقالُ لَكَ" أَيْ مِنَ الْأَذَى وَالتَّكْذِيبِ" إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ" يُعَزِّي نَبِيَّهُ وَيُسَلِّيهِ" إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ" لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ" وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ" يُرِيدُ لِأَعْدَائِكَ وَجِيعًا. وَقِيلَ أَيْ مَا يُقَالُ لَكَ مِنْ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ إِلَّا مَا قَدْ أُوحِيَ إِلَى مَنْ قَبْلِكَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الشَّرَائِعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بالتوحيد وهو كقوله،"
(١). زيادة يقتضيها السياق.
367
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ" أَيْ لَمْ تَدْعُهُمْ الا الى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهِمْ عَلَيْكَ وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ أَيْ أَيُّ شي يُقَالُ لَكَ" إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ". وَقِيلَ:" إِنَّ رَبَّكَ" كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ وَمَا قَبْلَهُ كَلَامٌ تَامٌّ إِذَا كَانَ الْخَبَرُ مُضْمَرًا. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ بِ" مَا يُقالُ لَكَ"." إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ" أي إنما أمرت بالإنذار والتبشير.
[سورة فصلت (٤١): آية ٤٤]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى" وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ" فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا" أَيْ بِلُغَةِ غَيْرِ العرب" لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ" أَيْ بُيِّنَتْ بِلُغَتِنَا فَإِنَّنَا عَرَبٌ لا نفهم الاعجمية. فبين أمخ أَنْزَلَهُ بِلِسَانِهِمْ لِيَتَقَرَّرَ بِهِ مَعْنَى الْإِعْجَازِ، إِذْ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْوَاعِ الْكَلَامِ نَظْمًا وَنَثْرًا. وَإِذَا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ كَانَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَلَوْ كَانَ بِلِسَانِ الْعَجَمِ لَقَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا بِهَذَا اللِّسَانِ. الثَّانِيَةُ- وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ، وَأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَعْجَمِيًّا، وَأَنَّهُ إِذَا نُقِلَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا. الثالثة- قوله تعالى:" ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ" وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" ااعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ" بِهَمْزَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ، وَالْعَجَمِيُّ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ فَصِيحًا أَوْ غَيْرَ فَصِيحٍ، وَالْأَعْجَمِيُّ الَّذِي لَا يُفْصِحُ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنَ الْعَجَمِ، فَالْأَعْجَمُ ضِدُّ الْفَصِيحِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُبِينُ كَلَامَهُ. وَيُقَالُ لِلْحَيَوَانِ غَيْرِ النَّاطِقِ أَعْجَمُ، وَمِنْهُ" صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ" أَيْ لَا يجهر فيها بالقراء فَكَانَتِ النِّسْبَةُ إِلَى الْأَعْجَمِ آكَدَ، لِأَنَّ الرَّجُلَ الْعَجَمِيَّ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ يَكُونُ
368
فَصِيحًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَالْعَرَبِيَّ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ فَصِيحٍ، فَالنِّسْبَةُ إِلَى الْأَعْجَمِيِّ آكَدُ فِي الْبَيَانِ. وَالْمَعْنَى أَقُرْآنٌ أَعْجَمِيٌّ، وَنَبِيٌّ عَرَبِيٌّ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ والمغيرة وهشام عن ابن عامر" ءَ أَعْجَمِيٌّ" بهمزة واحدة على الخبر. والمعنى" لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ" فَكَانَ مِنْهَا عَرَبِيٌّ يَفْهَمُهُ الْعَرَبُ، وَأَعْجَمِيٌّ يَفْهَمُهُ الْعَجَمُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَوْلَا أُنْزِلَ الْقُرْآنَ أَعْجَمِيًّا وَعَرَبِيًّا فَيَكُونُ بَعْضُ آيَاتِهِ عَجَمِيًّا وَبَعْضُ آيَاتِهِ عَرَبِيًّا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ لُغَةٍ فَمِنْهُ" السِّجِّيلُ" وَهِيَ فَارِسِيَّةٌ وَأَصْلُهَا سِنْكُ كَيْلَ، أَيْ طِينٌ وَحَجَرٌ، وَمِنْهُ" الْفِرْدَوْسُ" رُومِيَّةٌ وَكَذَلِكَ" الْقِسْطَاسُ" وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ ذَكْوَانَ وَحَفْصٌ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَيَّنُوا الْهَمْزَةَ عَلَى أُصُولِهِمْ. وَالْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ قِرَاءَةُ الِاسْتِفْهَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ" أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى وَشِفَاءٌ لِكُلِّ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ وَالْأَوْجَاعِ." وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ" أَيْ صَمَمٌ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ. وَلِهَذَا تَوَاصَوْا بِاللَّغْوِ فِيهِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ:" وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً" [الإسراء: ٨٢] وَقَدْ مَضَى مُسْتَوْفًى «١». وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" عَمًى" عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَمُعَاوِيَةُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَتَّةَ" وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمٍ" بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، لِإِجْمَاعِ النَّاسِ فِيهَا، وَلِقَوْلِهِ أَوَّلًا:" هُدىً وَشِفاءٌ" وَلَوْ كَانَ هَادٍ وَشَافٍ لَكَانَ الْكَسْرُ فِي" عَمًى" أَجْوَدَ، لِيَكُونَ نَعْتًا مِثْلَهُمَا، تَقْدِيرُهُ:" وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ" فِي تَرْكِ قَبُولِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فِي آذَانِهِمْ" وَقْرٌ وَهُو" يَعْنِي الْقُرْآنَ" عَلَيْهِمْ" ذُو عَمًى، لِأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ فَحُذِفَ المضاف وقيل المعل وَالْوَقْرُ عَلَيْهِمْ عَمًى." أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ" يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ مِنَ التَّمْثِيلِ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ لِلَّذِي يَفْهَمُ: أَنْتَ تَسْمَعُ مِنْ قَرِيبٍ. وَيُقَالُ لِلَّذِي لَا يَفْهَمُ: أَنْتَ تُنَادَى مِنْ بَعِيدٍ. أَيْ كَأَنَّهُ يُنَادَى مِنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ مِنْهُ فَهُوَ لا يسمع النداء
(١). راجع ج ١٠ ص ٣١٥ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه. [..... ]
369
وَلَا يَفْهَمُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:" يُنادَوْنَ" يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِمْ" مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ" فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ لِتَوْبِيخِهِمْ وَفَضِيحَتِهِمْ. وَقِيلَ: أَيْ مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرِ الْقُرْآنَ صَارَ كَالْأَعْمَى الْأَصَمِّ، فَهُوَ يُنَادَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَيَنْقَطِعُ صَوْتُ الْمُنَادِي عَنْهُ وَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ بَعِيدٌ مِنْ قُلُوبِهِمْ. وَفِي التَّفْسِيرِ: كَأَنَّمَا يُنَادَوْنَ مِنَ السَّمَاءِ فَلَا يَسْمَعُونَ. وحكى معناه النقاش.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ" فَاخْتُلِفَ فِيهِ" أَيْ آمَنَ بِهِ قَوْمٌ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمٌ. وَالْكِنَايَةُ تَرْجِعُ إِلَى الكتاب، وتسلية لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا يَحْزُنْكَ اخْتِلَافُ قَوْمِكَ فِي كِتَابِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ. وَقِيلَ الْكِنَايَةُ تَرْجِعُ إلى موسى." وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ" أَيْ فِي إِمْهَالِهِمْ." لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ" أَيْ بِتَعْجِيلِ الْعَذَابِ." وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ" مِنَ الْقُرْآنِ" مُرِيبٍ" أَيْ شَدِيدِ الرِّيبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». وَقَالَ الْكَلْبِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ عَذَابَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ كَمَا فُعِلَ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَقِيلَ: تَأْخِيرُ الْعَذَابِ لما يخرج من أصلابهم من المؤمنين. قوله تعالى:" مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ" شَرْطٌ وَجَوَابُهُ" وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها". وَاللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مُسْتَغْنٍ عَنْ طَاعَةِ الْعِبَادِ، فَمَنْ أَطَاعَ فَالثَّوَابُ لَهُ، وَمَنْ أَسَاءَ فَالْعِقَابُ عَلَيْهِ." وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ" نَفَى الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَزَّ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، وَإِذَا انْتَفَتِ الْمُبَالَغَةُ انْتَفَى غَيْرُهَا، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ الْحَقُّ:" إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً" [يونس: ٤٤] وروى العدول الثقات،
(١). راجع ج ٩ ص ٥٩ طبعه أولى أو ثانيه.
وَالْأَئِمَّةُ الْأَثْبَاتُ، عَنِ الزَّاهِدِ الْعَدْلِ، عَنْ أَمِينِ الْأَرْضِ، عَنْ أَمِينِ السَّمَاءِ، عَنِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ:" يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا" الْحَدِيثَ. وَأَيْضًا فَهُوَ الْحَكِيمُ الْمَالِكُ، وَمَا يَفْعَلُهُ الْمَالِكُ فِي مُلْكِهِ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، إِذْ لَهُ التصرف في ملكه بما يريد.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٤٧ الى ٤٨]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ" أَيْ حِينُ وَقْتِهَا. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَخَبِّرْنَا مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ فَنَزَلَتْ:" وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ"" مِنْ" زَائِدَةٌ أَيْ وَمَا تَخْرُجُ ثَمَرَةٌ." مِنْ أَكْمامِها" أَيْ مِنْ أَوْعِيَتِهَا، فَالْأَكْمَامُ أَوْعِيَةُ الثَّمَرَةِ، وَاحِدُهَا كُمَّةٌ وَهِيَ كُلُّ ظَرْفٍ لِمَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ قِشْرُ الطَّلْعِ أَعْنِي كُفُرَّاهُ الَّذِي يَنْشَقُّ عَنِ الثَّمَرَةِ كُمَّةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكُمَّةُ الْكُفُرَّى قَبْلَ أَنْ تَنْشَقَّ، فَإِذَا انْشَقَّتْ فَلَيْسَتْ بِكُمَّةٍ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ [الرَّحْمَنِ «١»]. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ" مِنْ ثَمَراتٍ" عَلَى الْجَمْعِ. الْبَاقُونَ" ثَمَرَةٍ" عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ، لِقَوْلِهِ:" وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى " وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ، يَقُولُ:" إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ" كَمَا يُرَدُّ إِلَيْهِ عِلْمُ الثِّمَارِ وَالنِّتَاجِ." وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ" أَيْ يُنَادِي اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ" أَيْنَ شُرَكائِي" الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهَا آلِهَةٌ تَشْفَعُ." قالُوا" يَعْنِي الْأَصْنَامَ. وَقِيلَ: الْمُشْرِكُونَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَهُمْ جَمِيعًا الْعَابِدَ وَالْمَعْبُودَ" آذَنَّاكَ" أَسْمَعْنَاكَ وَأَعْلَمْنَاكَ. يُقَالُ: آذَنَ يؤذن: إذا أعلم، قال «٢»:
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ - رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثواء
(١). في تفسير قوله تعالى:" وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ" آية ١١.
(٢). هو الحرث بن حلزة، والبيت مطلع معلقته.
" مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ" أَيْ نُعْلِمُكَ مَا مِنَّا أَحَدٌ يَشْهَدُ بِأَنَّ لَكَ شَرِيكًا. لَمَّا عَايَنُوا الْقِيَامَةَ تَبَرَّءُوا مِنَ الْأَصْنَامِ وَتَبَرَّأَتِ الْأَصْنَامُ مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «١». وَضَلَّ عَنْهُمْ" أَيْ بَطَلَ عَنْهُمْ" مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ" فِي الدُّنْيَا" وَظَنُّوا" أَيْ أَيْقَنُوا وَعَلِمُوا" مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ" أَيْ فِرَارٍ عَنِ النَّارِ. وَ" مَا" هُنَا حَرْفٌ وَلَيْسَ بِاسْمٍ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ الظَّنُّ وَجَعَلَ الفعل ملغى، تقديره: وظنوا أنهم مالهم مَحِيصٌ وَلَا مَهْرَبٌ. يُقَالُ: حَاصَ يَحِيصُ. حَيْصًا وَمَحِيصًا إِذَا هَرَبَ. وَقِيلَ: إِنَّ الظَّنَّ هُنَا الَّذِي هُوَ أَغْلَبُ الرَّأْيِ، لَا يَشُكُّونَ فِي أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ وَلَكِنْ يَطْمَعُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا. وَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ ظَنٌّ ورجاء إلى أن يؤيسوا.
[سورة فصلت (٤١): الآيات ٤٩ الى ٥١]
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ" أَيْ لَا يَمَلُّ مِنْ دُعَائِهِ بِالْخَيْرِ. وَالْخَيْرُ هُنَا الْمَالُ والصحة والسلطان والعز. قال السدى: والإنسان ها هنا يُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ. وَقِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْمَالِ"." وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ" لا لفقر والمرض" فَيَؤُسٌ" مِنْ رَوْحِ اللَّهِ" قَنُوطٌ" مِنْ رَحْمَتِهِ. وَقِيلَ:" يَئُوسٌ" مِنْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ" قُنُوطٌ" بِسُوءِ الظَّنِّ بِرَبِّهِ. وَقِيلَ:" يَئُوسٌ" أَيْ يَئِسَ مِنْ زَوَالِ مَا بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ" قَنُوطٌ" أَيْ يَظُنُّ أنه يدوم، والمعنى متقارب.
(١). راجع ج ١٣ ص ٣٠٣ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
372
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا" عَاقِبَةً وَرَخَاءً وَغِنًى" مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ" ضُرٍّ وَسَقَمٍ وَشِدَّةٍ وَفَقْرٍ." لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي" أَيْ هذا شي أَسْتَحِقُّهُ عَلَى اللَّهِ لِرِضَاهُ بِعَمَلِي، فَيَرَى النِّعْمَةَ حتما واجب عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ابْتَلَاهُ بِالنِّعْمَةِ وَالْمِحْنَةِ، لِيَتَبَيَّنَ شُكْرَهُ وَصَبْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" هَذَا لِي" أَيْ هَذَا مِنْ عِنْدِي." وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى " أَيِ الْجَنَّةُ، وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ. يَتَمَنَّى الْأَمَانِيَّ بِلَا عَمَلٍ. قَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: لِلْكَافِرِ أُمْنِيَّتَانِ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَقُولُ:" لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى "، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَقُولُ:" يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" [الأنعام: ٢٧] وا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
" [النبأ: ٤ ٠ [." فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا" أَيْ لَنَجْزِيَنَّهُمْ. قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ." وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ" شَدِيدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ" يُرِيدُ الْكَافِرَ" أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَبَاعَدُوا عَنْهُ. وَمَعْنَى" نَأى بِجانِبِهِ" أَيْ تَرَفَّعَ عَنِ الِانْقِيَادِ إِلَى الْحَقِّ وَتَكَبَّرَ عَلَى أنبياء الله. وقيل:" نأى" تباعد. يقال: نائتة وَنَأَيْتُ عَنْهُ نَأْيًا بِمَعْنَى تَبَاعَدْتُ عَنْهُ، وَأَنْأَيْتُهُ فَانْتَأَى أَبْعَدْتُهُ فَبَعُدَ، وَتَنَاءَوْا تَبَاعَدُوا، وَالْمُنْتَأَى الْمَوْضِعُ الْبَعِيدُ، قَالَ النَّابِغَةُ
فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي - إن خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ
وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَ" نَاءَ بِجَانِبِهِ" بِالْأَلِفِ قَبْلَ الْهَمْزَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ" نَاءَ" إِذَا نَهَضَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَلْبِ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ." وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ" أَيْ أَصَابَهُ المكروه" فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ" كَثِيرٍ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الطُّولَ وَالْعَرْضَ فِي الْكَثْرَةِ. يُقَالُ: أَطَالَ فُلَانٌ فِي الْكَلَامِ وَأَعْرَضَ فِي الدُّعَاءِ إِذَا أَكْثَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ" فَذُو تَضَرُّعٍ وَاسْتِغَاثَةٍ. وَالْكَافِرُ يَعْرِفُ رَبَّهُ فِي الْبَلَاءِ وَلَا يَعْرِفُهُ فِي الرَّخَاءِ.
373

[سورة فصلت (٤١): الآيات ٥٢ الى ٥٤]

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ" أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ" أَرَأَيْتُمْ" يَا مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ." إِنْ كانَ" هَذَا الْقُرْآنُ" مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ" أَيْ فَأَيُّ النَّاسِ أَضَلُّ، أَيْ لَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْكُمْ لِفَرْطِ شِقَاقِكُمْ وَعَدَاوَتِكُمْ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ:" إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ" يَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ:" آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ" [البقرة: ٥٣] وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَوْلُهُ تعالى:" سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ" أَيْ عَلَامَاتِ وَحْدَانِيَّتِنَا وَقُدْرَتِنَا" فِي الْآفاقِ" يَعْنِي خَرَابَ مَنَازِلِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ" وَفِي أَنْفُسِهِمْ" بِالْبَلَايَا وَالْأَمْرَاضِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:" فِي الْآفاقِ" آيَاتُ السَّمَاءِ" وَفِي أَنْفُسِهِمْ" حَوَادِثُ الْأَرْضِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" فِي الْآفاقِ" فَتْحُ الْقُرَى، فَيَسَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْصَارِ دِينِهِ فِي آفَاقِ الدُّنْيَا وَبِلَادِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ عُمُومًا، وَفِي نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ خُصُوصًا مِنَ الْفُتُوحِ الَّتِي لَمْ يَتَيَسَّرْ أَمْثَالُهَا لِأَحَدٍ مِنْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ قَبْلَهُمْ، وَمِنَ الْإِظْهَارِ عَلَى الْجَبَابِرَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ وَتَغْلِيبِ قَلِيلِهِمْ عَلَى كَثِيرِهِمْ، وَتَسْلِيطِ ضُعَفَائِهِمْ عَلَى أَقْوِيَائِهِمْ، وَإِجْرَائِهِ عَلَى أَيْدِيهِمْ أُمُورًا خَارِجَةً عَنِ الْمَعْهُودِ خَارِقَةً لِلْعَادَاتِ" وَفِي أَنْفُسِهِمْ" فتح مكة. وهذا اختيار الطبري. وقال الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ:" فِي الْآفاقِ" وَقَائِعُ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ" وَفِي أَنْفُسِهِمْ" يَوْمُ بَدْرٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ زَيْدٍ أيضا" فِي الْآفاقِ" يعني أقطار السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالرِّيَاحِ وَالْأَمْطَارِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ وَالنَّبَاتِ
374
وَالْأَشْجَارِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَغَيْرِهَا. وَفِي الصِّحَاحِ: الْآفَاقُ النَّوَاحِي، وَاحِدُهَا أُفْقٌ وَأُفُقٌ مِثْلَ عُسْرٍ وَعُسُرٍ، وَرَجُلٌ أَفَقِيٌّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ: إِذَا كَانَ مِنْ آفَاقِ الْأَرْضِ. حَكَاهُ أَبُو نَصْرٍ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أُفُقِيٌّ بِضَمِّهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَأَنْشَدَ غَيْرُ الْجَوْهَرِيِّ:
أَخَذْنَا بِآفَاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ
" وَفِي أَنْفُسِهِمْ" مِنْ لَطِيفِ الصَّنْعَةِ وَبَدِيعِ الْحِكْمَةِ حَتَّى سَبِيلِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَشْرَبُ وَيَأْكُلُ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ وَيَتَمَيَّزُ ذَلِكَ مِنْ مَكَانَيْنِ، وَبَدِيعِ صَنْعَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِي عَيْنَيْهِ اللَّتَيْنِ هُمَا قَطْرَةُ مَاءٍ يَنْظُرُ بِهِمَا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَفِي أُذُنَيْهِ اللَّتَيْنِ يُفَرِّقُ بِهِمَا بَيْنَ الْأَصْوَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ حِكْمَةِ اللَّهِ فِيهِ. وَقِيلَ:" وَفِي أَنْفُسِهِمْ" مِنْ كَوْنِهِمْ نُطَفًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ انْتِقَالِ أَحْوَالِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي [الْمُؤْمِنُونَ «١»] بَيَانُهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى سَيَرَوْنَ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْفِتَنِ وَأَخْبَارِ الْغُيُوبِ" حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ [أَحَدُهَا] أَنَّهُ الْقُرْآنُ. [الثَّانِي] الْإِسْلَامُ جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ. [الثَّالِثُ] أَنَّ مَا يُرِيهِمُ اللَّهُ وَيَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ. [الرَّابِعُ] أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الرَّسُولُ الْحَقُّ." أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ" فِي مَوْضِعِ رفع بأنه فاعل" بيكف" وَ" أَنَّهُ" بَدَلٌ مِنْ" رَبِّكَ" فَهُوَ رَفْعٌ إِنْ قَدَّرْتَهُ بَدَلًا عَلَى الْمَوْضِعِ، وَجَرٌّ" إِنْ" قَدَّرْتَهُ بَدَلًا عَلَى اللَّفْظِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نصبا بتقدير حذف اللام، والمعنى أو لم يَكْفِهِمْ رَبُّكَ بِمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ، لِأَنَّهُ" عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" وَإِذَا شَهِدَهُ جَازَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ" فِي مُعَاقَبَتِهِ الْكُفَّارَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ" يَا مُحَمَّدُ أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى أَعْمَالِ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ:" أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ" شَاهِدًا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ:" أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ" مِمَّا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ" شَهِيدٌ" وَالشَّهِيدُ بِمَعْنَى الْعَالِمِ، أَوْ هُوَ مِنَ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ الْحُضُورُ" أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ" فِي شَكٍّ" مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ" فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ مِنَ الْبَعْثِ." أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ" أَيْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شي.
(١). راجع ج ١٢ ص ١٠٩ طبعه أولى أو ثانيه.
375
قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَحَاطَتْ قُدْرَتُهُ بِكُلِّ شي. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ الَّذِي أَحَاطَتْ قُدْرَتُهُ بِجَمِيعِ خلقه، وهو الذي أحاط بكل شي علما، وأحصى كل شي عددا. وهذا الاسم أكثر ما يجئ في معرض الوعيد، وحقيقته الإحاطة بكل شي، وَاسْتِئْصَالُ الْمُحَاطِ بِهِ، وَأَصْلُهُ مُحْيِطٌ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْيَاءِ إِلَى الْحَاءِ فَسُكِّنَتْ. يُقَالُ مِنْهُ: أَحَاطَ يُحِيطُ إِحَاطَةً وَحَيْطَةً، وَمِنْ ذَلِكَ حَائِطُ الدَّارِ، يحوطها أهلها. وأحاط ت الْخَيْلُ بِفُلَانٍ: إِذَا أَخَذَ مَأْخَذًا حَاصِرًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ" [الكهف: ٤٢] والله أعلم بصواب ذلك.
376
Icon