تفسير سورة الحشر

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ ﴾ : قال مجاهد وقتادة :" أول الحشر جلاء بني النضير من اليهود، فمنهم من خرج إلى خيبر ومنهم من خرج إلى الشام ". وقال الزهري :" قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الجلاء فأجلاهم إلى الشام، وعلى أن لهم ما أقلَّتِ الإبِلُ من شيء إلا الحلقة، والحلقةُ السلاح ".
قال أبو بكر : قد انتظم ذلك معنيين : أحدهما مصالحة أهل الحرب على الجلاء عن ديارهم من غير سَبْي ولا استرقاق ولا دخول في الذمة ولا أخْذِ جزية، وهذا الحكم منسوخ عندنا إذا كان بالمسلمين قوّة على قتالهم على الإسلام ؛ أو أداء الجزية، وذلك لأن الله قد أمر بقتال الكفار. حتى يُسْلِمُوا أو يؤدّوا الجزية، قال الله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ﴾ إلى قوله :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾[ التوبة : ٢٩ ]، وقال :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾[ التوبة : ٥ ] ؛ فغير جائز إذا كان بالمسلمين قوة على قتالهم وإدخالهم في الذمّة أو في الإسلام أن يُجْلُوهم، ولكنه لو عَجِزَ المسلمون عن مقاومتهم في إدخالهم في الإسلام أو الذمّة جاز لهم مصالحتهم على الجلاء عن بلادهم. والمعنى الثاني جواز مصلحة أهل الحرب على مجهول من المال ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أراضيهم وعلى الحلقة وترك لهم ما أقلَّت الإبل، وذلك مجهول.
وقوله تعالى :﴿ فَاعْتَبِرُوا يا أُولي الأَبْصَارِ ﴾ فيه أمرٌ بالاعتبار، والقياسُ في أحكام الحوادث ضَرْبٌ من الاعتبار، فوجب استعماله بظاهر الآية.
قوله تعالى :﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ﴾، قال ابن عباس وقتادة :" كل نخلة لِينَةٌ سِوَى العجوة ". وقال مجاهد وعمرو بن ميمون :" كل نخلة لِينَةٌ "، وقيل :" اللينة كرام النخل ". وروى ابن جريج عن مجاهد : ما قطعتم من لينة النخلة، نهى بعض المهاجرين عن قطع النخل وقال : إنما هي مغانم المسلمين، فنزل القرآن بتصديق من نهى وبتحليل من قطعها من الإثم. قال أبو بكر : صوَّب الله الذين قطعوا والذين أَبَوْا وكانوا فعلوا ذلك من طريق الاجتهاد، وهذا يدلّ على أن كل مجتهد مصيب. وقد رُوي عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن :" أَغِرْ على أُبْنَى صباحاً وحَرِّقْ ". وروى قتادة عن أنس قال :" لما قاتل أبو بكر أهل الردة قتل وسبى وحرّق ". وروى عبدالله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال :" لما تحصن بنو النضير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخله وتحريقه، فقالوا : يا أبا القاسم ما كنتَ ترضى بالفساد ! فأنزل الله :﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ﴾ الآية ". وروى عثمان بن عطاء عن أبيه قال :" لما وجّه أبو بكر الجيش إلى الشام كان فيما أوصاهم به ولا تُقطع شجرة مثمرة ".
قال أبو بكر : تأوله محمد بن الحسن على أنهم قد علموا أن الله سيُغنمهم إياها وتصير للمسلمين بوعد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بفتح الشام فأراد عليهم أن تبقى للمسلمين، وأما جيش المسلمين إذا غزوا أرض الحرب وأرادوا الخروج فإن الأوْلى أن يحرّقوا شجرهم وزروعهم وديارهم، وكذلك قال أصحابنا في مواشيهم :" إذا لم يمكنهم إخراجها ذُبحت ثم أُحرقت "، وأما ما رجوا أن يصير فَيْئاً للمسلمين فإنهم إن تركوه ليصير للمسلمين جاز وإن أحرقوه غيظاً للمشركين جاز، استدلالاً بالآية وبما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في أموال بني النضير.
قوله تعالى :﴿ وَما أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ ﴾ الآية. الفَيْءُ الرجوع، ومنه الفَيْءُ في الإيلاء في قوله :﴿ فإن فاؤوا ﴾[ البقرة : ٢٢٦ ]، وأفاءه عليه إذا ردّه عليه. والفيءُ في مثل هذا الموضع ما صار للمسلمين من أموال أهل الشِّرْك، فالغنيمة فيءٌ والجزية فيءٌ والخراج فيءٌ لأن جميع ذلك مما ملّكه الله المسلمين من أموال أهل الشرك. والغنيمةُ وإن كانت فيئاً فإنها تختصّ بمعنى لا يشاركها فيه سائر وجوه الفيء ؛ لأنها ما أُخذ من أموال أهل الحرب عنوة بالقتال، فمنها ما يُجْرَى فيه سهام الغانمين بعد إخراج الخمس لله عز وجل، ورَوَى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال :" كانت أموال بني النضير فيئاً مما أفاء الله على رسوله مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا رِكَاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وكان ينفق منها على أهله نفقَة سَنَةٍ وما بقي جعله في الكُرَاعِ والسلاح عدَّةً في سبيل الله ". قال أبو بكر : فهذا من الفيء الذي جعل الأمر فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لأحد فيه حق إلا من جعله له النبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله ويجعل الباقي في الكراع والسلاح ؛ وذلك لما بيّنه الله في كتابه وهو أن المسلمين لم يُوجِفُوا عليه بخيل ولا رِكَابٍ ولم يأخذوه عُنْوَةً وإنما أخذوه صلحاً، وكذلك كان حكم فَدَكَ وقرى عُرَيْنَة فيما ذكره الزهري : وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة الصَّفيّ وهو ما كان يصطفيه من جملة الغنيمة قبل أن يَقْسِمَ المال، وكان له أيضاً سهم من الخمس، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم من الفيء هذه الحقوق يصرفها في نفقة عياله والباقي في نوائب المسلمين، ولم يكن لأحد فيها حقّ إلاّ من يختار هو صلى الله عليه وسلم أن يعطيه. وفي هذه الآية دلالة على أن كل مال من أموال أهل الشرك لم يغلب عليه المسلمون عنوة وإنما أُخذ صلحاً أنه لا يوضع في بيت مال المسلمين ويُصرف على الوجوه التي يُصرف فيها الخَرَاج والجزية، لأنه بمنزلة ما صار للنبي صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير حين لم يوجف المسلمون عليه.
قوله تعالى :﴿ مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَللهِ وَللرَّسُولِ ﴾ الآية. قال أبو بكر : بيّن الله حكم ما لم يوجف عليه المسلمون من الفيء فجعله للنبي صلى الله عليه وسلم على ما قدمنا من بيانه، ثم ذكر حكم الفيء الذي أوجف المسلمون عليه فجعله لهؤلاء الأصناف وهم الأصناف الخمس المذكورون في غيرها، وظاهره يقتضي أن لا يكون للغانمين شيء منه إلا مَنْ كان منهم من هذه الأصناف. وقال قتادة :" كانت الغنائم في صدر الإسلام لهؤلاء الأصناف ثم نسخ بقوله :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ﴾[ الأنفال : ٤١ ] ".
قال أبو بكر : لما فتح عمر رضي الله عنه العراق سأله قوم من الصحابة قسمته بين الغانمين، منهم الزبير وبلال وغيرهما، فقال : إن قَسَمْتُها بينهم بقي آخِرُ الناس لا شيء لهم ؛ واحتجّ عليهم بهذه الآية إلى قوله :﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾، وشاور عليّاً وجماعة من الصحابة في ذلك، فأشاروا عليه بترك القسمة وأن يُقِرَّ أهْلَها عليها ويضع عليها الخراج، ففعل ذلك، ووافقته الجماعة عند احتجاجه بالآية. وهذا يدلّ على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها مضمومة إلى آية الغنيمة في الأرضين المفتتحة، فإنّ رأى قسمتها أصْلَحُ للمسلمين وأردّ عليهم قسم، وإن رأى إقرار أهلها عليها وأخذ الخراج منهم فيها فعل ؛ لأنه لو لم تكن هذه الآية ثابتة الحكم في جواز أخْذِ الخراج منها حتى يستوي الآخِرُ والأوّل فيها لذكروه له وأخبروه بنسخها، فلما لم يحاجّوه بالنسخ دل على ثبوت حكمها عندهم وصحة دلالتها لديهم على ما استدل به عليه، فيكون تقدير الآيتين بمجموعهما : واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه في الأموال سوى الأرَضِين وفي الأرضين إذا اختار الإمام ذلك، وما أفاء الله على رسوله من الأرضين فلله وللرسول إن اختار تَرْكَها على ملك أهلها، ويكون ذكر الرسول ههنا لتفويض الأمر عليه في صَرْفِهِ إلى من رأى ؛ فاستدلّ عمر رضي الله عنه من الآية بقوله :﴿ كَيْلا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾ وقوله :﴿ وَالَّذِين جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾، وقال : لو قسمتُها بينهم لصارت دُولَةً بين الأغنياء منكم، ولم يكن لمن جاء بعدهم من المسلمين شيء، وقد جعل لهم فيها الحقَّ بقوله :﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾. فلما استقرَّ عنده حكم دلالة الآية وموافقة كل الصحابة على إقرار أهلها عليها ووُضِعَ الخراج بَعَثَ عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان فمسحا الأرضين ووضعا الخراج على الأوضاع المعلومة ووضعا الجزية على الرقاب وجعلاهم ثلاث طبقات : اثني عشر وأربعة وعشرين وثمانية وأربعين، ثم لم يتعقّب فعله هذا أحدٌ ممن جاء بعده من الأئمة بالفسخ فصار ذلك اتفاقاً.
واختلف أهل العلم في أحكام الأَرَضِينَ المُفْتَتَحة عنوةً، فقال أصحابنا والثوري :" إذا افتتحها الإمام عنوة فهو بالخيار إن شاء قسمها وأهلها وأموالهم بين الغانمين بعد إخراج الخُمْسِ، وإن شاء أقرَّ أهلها عليها وجعل عليها وعليهم الخراج ويكون ملكاً لهم ويجوز بيعهم وشراؤهم لها ". وقال مالك :" ما باع أهل الصلح من أرضهم فهو جائز وما افْتُتح عنوة فإنه لا يشتري منهم أحد ؛ لأن أهل الصلح من أسلم منهم كان أَحَقَّ بأرضه وماله، وأما أهل العنوة الذين أُخذوا عنوة فمن أسلم منهم أحْرَزَ له إسلامُه نفسَهُ وأَرْضَه للمسلمين ؛ لأن بلادهم قد صارت فَيْئاً للمسلمين ". وقال الشافعي :" ما كان عُنْوَةً فخُمْسُها لأهله وأربعة أخماسها للغانمين، فمن طاب نفساً عن حقّه للإمام أن يجعلها وَقْفاً عليهم، ومن لم يَطِبْ نفساً فهو أحقّ بماله ".
قال أبو بكر : لا تخلو الأرض المفتتحة عنوة من أن تكون للغانمين لا يجوز للإمام صرفها عنهم بحال إلا بطيبة من أنفسهم، أو أن يكون الإمام مخيراً بين إقرار أهلها على أملاكهم فيها ووضع الخراج عليها وعلى رقاب أهلها على ما فعله عمر رضي الله عنه في أرض السواد، فلما اتفق الجميع من الصحابة على تصويب عمر فيما فعله في أرض السواد بعد خلافٍ من بعضهم عليه على إسقاط حق الغانمين عن رقابها دلّ ذلك على أن الغانمين لا يستحقون ملك الأرضين ولا رقاب أهلها إلا بأن يختار الإمام ذلك لهم ؛ لأن ذلك لو كان ملكاً لهم لما عدل عنهم بها إلى غيرهم ولنازعوه في احتجاجه بالآية في قوله :﴿ كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾ وقوله :﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾، فلما سلّم له الجميع رأيه عند احتجاجه بالآية دل على أن الغانمين لا يستحقّون ملك الأرضين إلا باختيار الإمام ذلك لهم. وأيضاً لا يختلفون أن للإمام أن يقتل الأسرى من المشركين ولا يستبقيهم، ولو كان ملك الغانمين قد ثبت فيهم لما كان له إتلافه عليهم كما لا يُتْلَفُ عليهم سائر أموالهم، فلما كان له أن يقتل الأسرى وله أن يستبقيهم فيقسمهم بينهم ثبت أن الملك لا يحصل للغانمين بإحراز الغنيمة في الرقاب والأرضين إلا أن يجعلها الإمام لهم. ويدل على ذلك أيضاً ما رَوَى الثوري عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال :" قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين نصفاً لنوائبه وحاجته ونصفاً بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً " ؛ فلو كان الجميع ملكاً للغانمين لما جعل نصفه لنوائبه وحاجته وقد فتحها عنوة ؛ ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة ومَنَّ على أهلها فأقرَّهم على أملاكهم، فقد حصل بدلالة الآية وإجماع السلف والسنة تخيير الإمام في قسمة الأرضين أو تركها ملكاً لأهلها ووضع الخراج عليها. ويدل عليه حديث سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنَعَتِ العِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَها، ومَنَعَتِ الشَّامُ مُدَّهَا ودِينَارَها، ومَنَعَتِ مِصْرُ أَرْدَبَّها ودِينَارَها، وعُدْتُمْ كما بَدَأْتُمْ " شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه. فأخبر عليه السلام عن منع الناس لهذه الحقوق الواجبة لله تعالى في الأرضين وأنهم يعودون إلى حال أهل الجاهلية في منعها، وذلك يدل على صحة قول عمر رضي الله عنه في السواد وأن ما وضعه هو من حقوق الله تعالى التي يجب أداؤها.
فإن قيل : ليس فيما ذكرت من فعل عمر في السواد إجماع ؛ لأن حبيب بن أبي ثابت وغيره قد رووا عن ثعلبة بن يزيد الحماني قال : دخلنا على عليّ رضي الله عنه بالرحبة فقال : لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت السواد بينكم. قيل له : الصحيح عن علي رضي الله عنه أنه أشار على عمر رضي الله عنه بترك قسمة السواد وإقرار أهله عليه، ومع ذلك فإنه لا يجوز أن يصحّ عن عليّ ما ذكرت ؛ لأنه لا يخلو من خاطبهم عليٌّ بذلك من أن يكونوا هم الذين فتحوا السواد فاستحقّوا ملكه وقسمته بينهم من غير خيار للإمام فيه، أو أن يكون المخاطبون به غير الذين فتحوه، أو خاطب به الجيش وهم أخلاط منهم من شهد فتح السواد ومنهم من لم يشهده ؛ وغير جائز أن يكون الخطاب لمن لم يشهد فتحه لأن أحداً لا يقول إن الغنيمة تُصرف إلى غير الغانمين ويخرج منها الغانمون، وأن يكونوا أخلاطاً فيهم من شهد الفتح واستحق الغنيمة وفيهم من لم يشهده، وهذا مثل الأول ؛ لأن من لم يشهد الفتح لا يجوز أن يُسْهَم له وتقسم الغنيمة بينه وبين الذين شهدوه. أو أن يكون خاطب به من شهد الفتح دون غيره، فإن كان كذلك وكانوا هم المستحقين له دون غيرهم من غير خيار للإمام فيه فغير جائز أن يجعل حقهم لغيرهم لأن بعضهم يضرب وجوه بعض، إذ كان أتقى لله من أن يترك حقّاً يجب عليه القيام به إلى غيره لما وصفت ؛ وعلى أنه لم يخصص بهذا الخطاب الذين فتحوه دون غيرهم، وفي ذلك دليل على فساد هذه الرواية.
وقد اختلف الناس بعد ثبوت هذا الأصل الذي ذكرنا وصحة الرواية عن عمر في كافة الصحابة على ترك قسمه السواد وإقرار أهله عليه، فقال قائلون :" أقَرّهم على أملاكهم وتَرْكِ أموالهم في أيديهم ولم يَسْتَرِقَّهم "، وهو الذي ذكرناه من مذهب أصحابنا. وقال آخرون :" إنما أقرّهم على أرضهم على أنهم وأرضهم فيء للمسلمين وأنهم غير ملاّك لها ". وقال آخرون :" أقرّهم على أنهم أحرار والأرضون موقوفة على مصالح المسلمين ".
قال أبو بكر : ولم يختلفوا أن من أسلم من أهل السواد كان حرّاً وأنه ليس لأحد أن يسترقّه، وقد رُوي عن علي رضي الله عنه أن دهقاناً أسلم على عهده فقال له :" إن أقمت في أرضك رفعنا الجزية عن رأسك وأخذناها من أرضك، وإن تحولتَ عنها فنحن أحقّ بها "، وكذلك رُوي عن عمر رضي الله عنه في دهقانة نهر الملك حين أسلمت ؛ فلو كانوا عبيداً لما زال عنهم الرقُّ بالإسلام.
فإن قيل : فقد قالا إن تحولتَ عنها فنحن أحق بها. قيل له : إنما أرادا بذلك أنك إن عجزت عن عمارتها عمرناها نحن وزرعناها، لئلا تبطل الحقوق التي قد وجبت للمسلمين في رقابها وهو الخراج ؛ وكذلك يفعل الإمام عندنا بأراضي العاجزين عن عمارتها. ولما ثبت بما وصفنا أن من أسلم من أهل السواد فهو حرّ، ثبت أن أراضيهم على أملاكهم كما كانت رقابهم مبقاة على أصل الحرية، ومن حيث جاز للإمام عند مخالفينا أن يقطع حق الغانمين عن رقابها ويجعلها موقوفة على المسلمين بصرف خراجها إليهم جاز إقرارها على أملاك أهلها ويُصرف خراجها إلى المسلمين، إذْ لا حقَّ للمسلمين في نفي ملك ملاّكها عنها بعد أن لا يحصل للمسلمين ملكها، وإنما حقهم في الحالين في خراجها لا في رقابها بأن يتملكوها.
وذكر يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح قال :" سمعنا أن الغنيمة ما غَلَبَ عليه المسلمون حتى يأخذوه عُنْوَةً بالقتال وأن الفيء ما صُولِحُوا عليه " ؛ قال الحسن :" فأما سوادنا هذا فإنا سمعنا أنه كان في أيدي النبط، فظهر عليهم أهل فارس، فكانوا يؤدّون إليهم الخراج، فلما ظهر المسلمون على أهل فارس تركوا السواد ومن لم يقاتلهم من الدهاقين على حالهم ووضعوا الجزية على رؤوس الرجال ومسحوا ما كان في أيديهم من الأرضين ووضعوا عليهم الخراج، وقبضوا على كل أرض ليست في يد أحد فكانت صوافي للإمام ". قال أبو بكر : كأنه ذهب إلى أن النبط لما كانوا أحراراً في مملكة أهل فارس فكانت أملاكهم ثابتة في أراضيهم، ثم ظهر المسلمون على أهل فارس وهم الذين قاتلوا المسلمين ولم يقاتلهم النبط كانت أراضيهم ورقابهم على ما كانت عليه في أيام الفرس لأنهم لم يقاتلوا المسلمين، فكانت أرضوهم ورقابهم في معنى ما صُولح عليه وأنهم إنما كانوا يملكون أراضيهم ورقابهم لو قاتلوهم. وهذا وجه كان يحتمله الحال لولا أن محاجّة عمر لأصحابه الذين سألوه قسمة السواد كانت من غير هذا الوجه، وإنما احتجّ بدلالة الكتاب دون ما ذكره الحسن.
فإن قيل : إنما دفع عمر السواد إلى أهله بطيبة من نفوس الغانمين على وجه الإجارة، والأجرة تسمَّى خراجاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الخَرَاجُ بالضَّمانِ " ومراده أجرة العبد المشترى إذا رُدَّ بالعيب. قال أبو بكر : هذا غلط من وجوه، أحدها : أن عمر لم يَسْتَطِبْ نفوس القوم في وضع الخراج وتَرْكِ القسمة وإنما شاور الصحابة وحاجَّ من طلب القسمة بما
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾، يعني والله أعلم : أن ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول وللذين تَبَوّءُوا الدار والإيمان من قبلهم، يعني الأنصار. وقد كان إسلام المهاجرين قبل إسلام الأنصار، ولكنه أراد الذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان من قبل هجرة المهاجرين.
وقوله تعالى :﴿ وَلا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ﴾، قال الحسن : يعني أنهم لا يحسدون المهاجرين على فضل آتاهم الله تعالى. وقيل : لا يجدون في أنفسهم ضيقاً لما ينفقونه عليهم.
وقوله تعالى :﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾، الخصاصة الحاجة ؛ فأثنى الله عليهم بإيثارهم المهاجرين على أنفسهم فيما ينفقونه عليهم وإن كانوا هم محتاجين إليه.
فإن قيل : رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له : معي دينار ! فقال :" أنْفِقْهُ على نَفْسِكَ " فقال : معي دينار آخر ! فقال :" أَنْفِقْهُ على عِيَالِكَ " فقال : معي دينار آخر ! قال :" تَصَدَّقْ به "، وأن رجلاً جاء ببيضة من ذهب فقال : يا رسول الله تصدق بهذه فإني ما أملك غيرها ! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه من الشقّ الآخر فأعرض عنه، إلى أن أعاد القول، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورماه بها فلو أصابته لعقرته، ثم قال :" يَأْتِينِي أَحَدُهُمْ بِجَمِيعِ ما يَمْلِكُ فَيَتَصَدَّقُ به ثم يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ إنّما الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى "، وأن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب والرجل بحال بذاذة، فحثّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فطرح قوم ثياباً ودراهم، فأعطاه ثوبين، ثم حثّهم على الصدقة، فطرح الرجل أحد ثوبيه، فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم. ففي هذه الأخبار كراهة الإيثار على النفس والأمر بالإنفاق على النفس ثم الصدقة بالفضل. قيل له : إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه لم يثق منه بالصبر على الفقر وخشي أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، ألا ترى أنه قال :" يأتيني أحدهم بجميع ما يملك فيتصدق به ثم يقعد يتكفّف الناس " ؟ فإنما كره الإيثار لمن كانت هذه حاله، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على النفس فلم يكونوا بهذه الصفة بل كانوا كما قال الله تعالى :﴿ والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ]، فكان الإيثارُ منهم أفضلَ من الإمساك، والإمساك ممن لا يصبر ويتعرض للمسألة أوْلى من الإيثار.
وقد رَوَى محارب بن دثار عن ابن عمر قال : أُهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال : إن فلاناً وعياله أحْوَجُ إلى هذا منّا ! فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها تسعة أهل أبيات حتى رجعت إلى الأوّل، فنزلت :﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ﴾ الآية. ورَوَى الأعمش عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبدالله فقال : يا أبا عبدالرّحمن قد خِفْتُ أن تصيبني هذه الآية :﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ﴾، فوالله ما أقدر على أن أعطي شيئاً أطيق منعه ! فقال عبدالله : هذا البخل وبئس الشيء البخل، ولكن الشحّ أن تأخذ مال أخيك بغير حق. ورُوي عن سعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ﴾ قال :" ادّخار الحرام ومنع الزكاة ".
Icon