تفسير سورة الكهف

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

سورة الكهف١
مكية
وآياتها عشر ومائة

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (١) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (٣) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا (٤) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)
شرح الكلمات:
الحمد لله: الحمد الوصف بالجميل، والله عَلَم على ذات الرب تعالى.
الكتاب: القرآن الكريم.
ولم يجعل له عوجاً: أي ميلاً عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانيه.
قيماً: أي ذا اعتدال لا إفراط فيه ولا تفريط في كل ما حواه ودعا إليه من التوحيد والعبادة والآداب والشرائع والأحكام.
بأساً شديداً: عذاباً ذا شدة وقسوة وسوء عذاب في الآخرة.
١ روى مسلم: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" وروى الدارمي في مسنده عن أبي سعيد الخدري رصي الله عنه: "من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق".. وروي أيضاً "أن من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نوراً يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال".
236
من لدنه: من عنده سبحانه وتعالى.
أجراً حسناًَ: أي الجنة إذ هي أجر المؤمنين العاملين بالصالحات.
كبرت كلمة: أي عظمت فريه وهي قولهم الملائكة بنات الله.
إن يقولون إلاّ كذباً: أي ما يقولون إلاّ كذباً بحتاً لا واقع له من الخارج.
باخع نفسك: قاتل نفسك كالمنتحر.
بهذا الحديث أسفاً: أي بالقرآن من أجل الأسف الذي هو الحزن الشديد.
معنى الآيات:
أخبر تعالى في فاتحة سورة الكهف١ بأنه المستحق للحمد، وأن الحمد لله وذكر موجب ذلك، وهو إنزاله على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكتاب الفخم العظيم وهو القرآن العظيم الكريم فقال: ﴿الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب﴾ وقوله تعالى: ﴿ولم يجعل له عوجاً٢﴾ أي ولم يجعل لذلك الكتاب العظيم عوجاً أي ميلاً عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانيه فهو كلام مستقيم محقق للأخذ به كل سعادة وكمال في الحياتين. وقوله ﴿قيماً﴾ أي معتدلاً خالياً من الإفراط والتفريط قيماً على الكتب السابقة مهيمناً عليها الحق فيها ما أحقه والباطل ما أبطله.
وقوله: ﴿لينذر بأساً شديداً من لدنه﴾ أي أنزل الكتاب الخالي من العوج القيم من أجل أن ينذر الظالمين من أهل الشرك والمعاصي عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة ينزل بهم من عند ربهم الذين كفروا به وأشركوا وعصوه وكذبوا رسوله وعصوه. ومن أجل أن يبشر بواسطته أيضاً ﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ أي يخبرهم بما يسرهم ويفرح قلوبهم وهو أن لهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً وقوله تعالى: ﴿وينذر﴾ بصورة خاصة أولئك المتقولين على الله المفترين عليه بنسبتهم الولد إليه فقالوا: ﴿اتخذ الله ولداً﴾ وهم اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله! هذا ما دل عليه قوله تعالى: ﴿وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً﴾ وهو قول تَوَارَثُوهُ لا علم لأحد منهم به، وإنما هو مجرد كذب يتناقلونه
١ روى ابن اسحق في سبب نزول سورة الكهف حديثاً طويلاً خلاصته أن وفداً من قريش أتوا اليهود بالمدينة وقالوا لهم أنتم أهل الكتاب فأخبرونا عن صاحبنا هذا- محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل فإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنه كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوافة قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟؛ وسلوه عن الروح ما هي؟ فان أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقوِّل فانظروا في أمره ما بدالكم وأتى الوفد مكة وسألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "أخبركم بما سألتم عنه غداً؛ ولم يستثن أي: لم يقل إن شاء الله فانقطع الوحي نصف شهر ثم نزلت سورة الكهف وفيها جواب ما سألوا.
٢ العوج: ضد الاستقامة وهو الانحراف في الذوات والمعاني وتكسر عينه وتقع، وقيل: الكسر في المعاني والفتح في الذّوات.
237
بينهم لذا قبح الله قولهم هذا وعجّب منه العقلاء، فقال: ﴿كبرت كلمة تخرج من أفواههم﴾ أي عظم قولهم ﴿اتخذ الله ولداً﴾ كلمة قالوها تخرج من أفواههم لا غير إذ لا واقع لها أبداً، وقرر الإنكار عليهم فقال: ﴿إن يقولون إلاّ كذباً﴾ أي ما يقولون إلاّ الكذب البحت الذي لا يعتمد على شيء من الصحة البتة. وقوله: ﴿فلعلك باخع١ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً﴾ يعاتب الله تعالى رسوله ويخفف عنه ما يجده في نفسه من الحزن على عدم إيمان قومه واشتدادهم في الكفر والتكذيب وما يقترحونه عليه من الآيات أي فلعلك يا رسولنا قاتل نفسك على إثر رفض قومك للإيمان بك وبكتابك وما جئت به من الهدى، حزناً عليهم، وجزعاً منهم، فلا تفعل واصبر لحكم ربك فإنه منجز وعده لك بالنصر على قومك المكذبين لك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب حمد الله تعالى على آلائه وعظيم نعمه.
٢- لا يحمد إلاّ من له ما يقتضي حمده، وإلاّ كان المدح كذباً وزوراً.
٣- عظم شأن القرآن الكريم وسلامته من الإفراط والتفريط والانحراف في كل ما جاء به.
٤- بيان مهمة القرآن وهي البشارة لأهل الإيمان والإنذار لأهل الشرك والكفران.
٥- التنديد بالكذب على الله ونسبة ما لا يليق بجلاله وكماله إليه كالولد ونحوه.
٦- تحريم الانتحار وقتل النفس من الحزن أو الخوف ونحوه من الغضب والحرمان.
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٠) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي
١ ﴿باخع﴾ مهلك نفسك، قال ذو الرّمة:
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه
بشيء نحته عن يديه المقادر
وفسّر ابن عباس رضي الله عنهما الباخع بقاتل نفسه من شدّة الحزن.
238
الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (١٢)
شرح الكلمات:
صعيداً جرزاً: أي تراباً لا نبات فيه، فالصعيد هو التراب والجرز١ الذي لا نبات فيه.
الكهف: النقب الواسع في الجبل والضيق منه يقال له "غار".
والرقيم: لوح حجري رقمت فيه أسماء أصحاب الكهف.
أوى الفتية إلى الكهف: اتخذوه مأوى لهم ومنزلاً نزلوا فيه.
الفتية: جمع فتى وهم شبان مؤمنون.
هيئ لنا من أمرنا رشداً: أي ييسر لنا طريق رشد وهداية.
فضربنا على آذانهم: أي ضربنا على آذانهم حجاباً يمنعهم من سماع الأصوات والحركات.
سنين عددا: أي أعواماً عدة.
ثم بعثناهم: أي من نومهم بمعنى أيقظناهم.
أحصى لما لبثوا: أي أضبط لأوقات بعثهم في الكهف.
أمداً: أي مدة محدودة معلومة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها﴾ من حيوان وأشجار ونبات وأنهار وبحار، وقوله ﴿لنبلوهم﴾ أي لنختبرهم ﴿أيهم أحسن عملا﴾ أي أيهم أترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فيها بطاعتنا وقوله: ﴿وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً﴾ أي وإنا لمخربوها في يوم، من الأيام بعد عمارتها ونضارتها وزينتها نجعلها ﴿صعيداً٢ جرزاً﴾ أي تراباً لا نبات فيه، إذاً فلا تحزن يا رسولنا ولا تغتم مما تلاقيه من قومك فإن مآل الحياة التي من أجلها عادوك وعصوننا إلى أن
١ الجرز: القاحل الأجرد الذي لا نبات فيه.
٢ الصعيد: وجه الأرض والجمع صُعُد، والصعيد: الطريق أيضاً لحديث الصحيح: "إياكم والقعود على الصعدات" أي: الطرق، وجمع الجرز: أجراز يقال سنين أجراز لا مطر فيها ولا عشب ولا نبات.
239
تصبح صعيداً جرزاً. وقوله تعالى: ﴿أم حسبت١ أن أصحاب الكهف والرقيم٢ كانوا من آياتنا عجباً﴾ أي أظننت أيها النبي أن أصحاب الكهف أي الغار في الكهف والرقيم وهو اللوح الذي كتبت عليه ورقم أسماء أصحاب الكهف وأنسابهم وقصتهم ﴿كانوا من آياتنا عجباً٣﴾ أي كان أعجب من آياتنا في خلق ومخلوفات، السموات والأرض بل من مخلوقات الله ما هو أعجب بكثير. وقوله: ﴿إذْ أوى الفتية إلى الكهف﴾ هذا شروع في ذكر قصتهم العجيبة، أي اذكر للسائلين لك عن قصة هؤلاء الفتية، إذ أووا إلى الغار في الكهف فنزلوا فيه، واتخذوه مأوى لهم ومنزلاً هروباً من قومهم الكفار أن يفتنوهم في دينهم وهم سبعة شبان ومعهم كلب لهم فقالوا سائلين ربهم: ﴿ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشداً﴾ أي أعطنا من عندك رحمة تصحبنا في هجرتنا هذه للشرك والمشركين ﴿وهيء لنا من أمرنا رشداً﴾ أي ويسر لنا من أمرنا في فرارنا من ديار المشركين خوفاً على ديننا ﴿رشداً٤﴾ أي سداداً وصلاحاً ونجاة من أهل الكفر والباطل، قال ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآيات وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفتية إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه فقال بعضهم: كان سبب ذلك أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى وكان لهم ملك عابد وثن دعاهم إلى عبادة الأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم أو يقتلهم فاستخفوا منه في الكهف وقوله تعالى: ﴿فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً﴾ أي فضربنا على آذانهم حجاباً٥ يمنعهم من سماع الأصوات والحركات فناموا في كهفهم سنين معدودة أي ثلاثمائة وتسع سنين، وكانوا يتقلبون بلطف الله وتدبيره لهم من جنب إلى جنب حتى بعثهم من نومهم وهذا استجابة الله تعالى لهم إذ دعوه قائلين: ﴿ربنا آتنا من لدنك رحمة﴾ وقوله تعالى: ﴿ثم بعثناهم﴾ أي من نومهم ورقادهم ﴿لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا﴾ أي في الكهف ﴿أمداً﴾ أي لنعلم عِلّمَ مشاهدة ولينظر عبادي فيعلموا أي الطائفتين٦ اللتين اختلفتا في قدر لبثهم في الكهف كانت أحصى لمدة لبثهم في الكهف حيث اختلف الناس إلى حزبين حزب يقول لبثوا في كهفهم كذا سنة وآخر يقول لبثوا إلى مدى أي غاية كذا من السنين.
(أم) هذه هي المنقطعة التي تقدّر ببل والاستفهام للتعجيب.
٢ ويجمع الرقيم على رُقُم، والرقيم: فعيل بمعنى مفعول أي: مرقوم بمعنى مكتوب.
٣ إنّ إماتة الأحياء أعجب من إماتة أصحاب الكهف.
٤ الرشد: بفتحتين: الخير، وإصابة الحق والنفع والصلاح أيضاً.
٥ أي: حائلاً كغشاوة ونحوها مما يحول دون السمع، ومعنى ضربنا، جعلنا أو وضعنا كقوله: ﴿ضربت عليهم الذلّة﴾ أي: جعلت وألصقت بهم.
٦ يبعد أن يكون المراد بالحزبين: هم أصحاب الكهف أنفسهم بل الذين اختلفوا فيهم حزبان من الأمة التي اكتشفتهم بعد مضيّ سنين عديدة.
240
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان العلة في وجود الزينة على هذه الأرض، وهي الابتلاء والاختبار للناس ليظهر الزاهد فيها، العارف بتفاهتها وسرعة زوالها، وليظهر الراغب فيها المتكالب عليها الذي عصى الله من أجلها.
٢- تقرير فناء كل ما على الأرض حتى تبقى صعيداً جرزاً وقاعاً صفصفاً لا يرى فيها عوج ولا أمت.
٣- تقرير نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإجابة السائلين عن أصحاب الكهف بالإيجاز والتفصيل.
٤- تقرير التواحيد ضِمْنَ قصة أصحاب الكهف إذ فروا بدينهم خوفاً من الشرك والكفر.
٥- استجابة الله دعاء عباده المؤمنين الموحدين حيث استجاب للفتية فآواهم الدار ورعاهم حتى بعثهم بعد تغير الأحوال وتبدل العباد والبلاد.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (١٣) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (١٤) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (١٦)
شرح الكلمات:
نبأهم بالحق: أي خبرهم العجيب بالصدق واليقين.
وزدناهم هدى: أي إيماناً وبصيرة في دينهم ومعرفة ربهم حتى صبروا على الهجرة.
241
وربطنا على قلوبهم: أي شددنا عليها فقويت عزائم حتى قالوا كلمة الحق عند سلطان جائر.
لن ندعوا من دونه إلها: لن نعبد من دونه إلهاً آخر.
لولا يأتون عليهم بسلطان: أي هلا يأتون بحجة قوية تثبت صحة عبادتهم.
على الله كذباً: أي باتخاذ آلهة من دونه تعالى يدعوها ويعبدها.
فأووا إلى الكهف: أي انزلوا في الكهف تستترون به على أعين أعدائكم المشركين.
ينشر لكم ربكم من رحمته: أي يبسط من رحمته عليكم بنجاتكم مما فررتم منه.
ويهيء لكم من أمركم: وييسر لكم من أمركم الذي أنتم فيه من الغم والكرب.
مرفقا: أي ما ترتفقون به وتنتفعون من طعام وشراب وإواء.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى موجز قصة أصحاب الكهف أخذ في تفصيلها فقال ﴿نحن نقص عليكم نبأهم بالحق١﴾ أي نحن رب العزة والجلال نقص عليك أيها الرسول خبر أصحاب الكهف بالحق الثابت الذي لا شك فيه ﴿إنهم فتية٢﴾، جمع فتى ﴿آمنوا بربهم﴾ أي صدقوا بوجوده ووجوب عبادته وتوحيده فيها وقوله ﴿وزدناهم هدى﴾ أي هداية إلى معرفة الحق من محاب الله تعالى ومكارهه.
وقوله تعالى: ﴿وربطنا على قلوبهم﴾ أي قوّينا عزائمهم بما شددنا على قلوبهم حتى قاموا وقالوا على رؤوس الملأ وأمام ملك كافر ﴿ربنا رب السموات والأرض﴾ أي ليس لنا رب سواه، لن ندعوا من دونه إلهاً مهما كان شأنه، إذ لو اعترفنا بعبادة غيره لكنا قد قلنا إذاً شططاً من القول وهو الكذب والغلو فيه وقوله تعالى: ﴿هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة﴾ يخبر تعالى عن قيل الفتية لما ربط الله على قلوبهم إذ قاموا في وجه المشركين الظلمة وقالوا: ﴿هؤلاء قومنا اتخذوا٣ من دون الله آلهة، لولا يأتون عليهم بسلطان بين﴾ أي هلا يأتون عليهم بسلطان بيّن أي بحجة واضحة تثبت عبادة هؤلاء الأصنام من دون الله؟ ومن أين ذلك والحال أنه لا إله إلاّ الله؟!
وقوله تعالى: ﴿فمن أظلم٤ ممن افترى﴾ ينفي الله عز وجل أن يكون هناك أظلم ممن افترى
١ الحق هنا بمعنى الصدق في الإخبار والباء في قوله ﴿بالحق﴾ للملابسة أي: القصص المصاحب للصدق والنبأ: الخبر ذو الشأن والأهمية.
٢ الجملة بيانية أي: مبينة للقصص.
٣ ﴿من﴾ ابتدائية، أي آلهة ناشئة من غير الله تعالى.
٤ ﴿من﴾ اسم استفهام، ومعناه الإنكار والنفي، الإنكار على من اتخذ آلهة دون الله تعالى، والنفي لوجود آلهة حق مع الله تعالى.
242
على الله كذباً باتخاذ آلهة يعبدها معه باسم التوسل بها وشعار التشفع والتقرب إلى الله زلفى بواسطتها!! وقوله تعالى عن قيل أصحاب الكهف لبعضهم١: ﴿وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلاّ الله﴾ من الأصنام والأوثان ﴿فأووا إلى الكهف﴾ أي فصيروا إلى غار الكهف المسمى "بنجلوس" ﴿ينشر لكم ربكم من رحمته﴾ أي يبسط لكم من رحمته بتيسيره لكم المخرج من الأمر الذي رميتم به من الكافر "دقينوس " ﴿ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً﴾ أي ما ترتفقون به من طعام وشراب وأمن في مأواكم الجديد الذي أويتم إليه فراراً بدينكم واستخفائكم من طالبكم المتعقب لكم ليفتنكم في دينكم أو يقتلكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير النبوة المحمدية بذكر قصة أصحاب الكهف.
٢- تقرير زيادة الإيمان ونقصانه.
٣- فضيلة الجرأة في الحق والتصريح به ولو أدى إلى القتل أو الضرب أو السجن.
٤- تقرير التوحيد وأنه لا إله إلاّ الله على لسان أصحاب الكهف.
٥- بطلان عبادة غير الله لعدم وجود دليل عقلي أو نقلي عليها.
٦- الشرك ظلم وكذب والمشرك ظالم مفتر كاذب.
٧- تقرير فرض الهجرة في سبيل الله.
٨- فضيلة الالتجاء إلى الله تعالى وطلب حمايته لعبده وكفاية الله من لجأ إليه في صدق.
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم
١ أي: قالوا ما قالوه على سبيل النصح والمشورة الصائبة.
243
بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (١٨)
شرح الكلمات:
تزاور: أي تميل.
تقرضهم: تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم.
في فجوة منه: متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها.
من آيات الله: أي دلائل قدرته.
أيقاظاً: جمع يقظ أي منتبهين لأن أعينهم منفتحة.
بالوصيد: فناء الكهف.
رُعباً: منعهم الله بسببه من الدخول عليهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض قصة أصحاب الكهف يقول تعالى في خطاب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وترى الشمس إذا طلعت تزاور١ عن كهفهم﴾ أي تميل عنه ذات اليمين ﴿وإذا غربت تقرضهم﴾ أي تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم ذات الشمال. وقوله تعالى: ﴿وهم في فجوة٢ منه﴾ أي متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها، وقوله ﴿ذلك من آيات الله﴾ أي وذلك المذكور من ميلان الشمس عنهم إذا طلعت وقرضها لهم إذا غربت من دلائل قدرة الله تعالى ورحمته بأوليائه ولطفه بهم٣، وقوله تعالى: ﴿من يهد الله فهو المُهْتَدِ ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً﴾ يخبر تعالى أن الهداية بيده وكذلك الإضلال فليطلب العبد من ربه الهداية إلى صراطه المستقيم، وليستعذ به من الضلال المبين إذ من يضله الله لن يوجد له ولي يرشده بحال من الأحوال، وقوله تعالى: ﴿وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود٤﴾ أي انك إذا نظرت إليهم تظنهم أيقاظاً
١ ﴿تزاور﴾ : تتنحى أو تميل من الازورار والزور: الميل، والأزور من الناس: المائل النظر إلى ناحية وازورّ: مال ومنه قول عنترة:
فازورّ من وقع القّنا بلبانه
وشكا إليَّ بعبرة وتحمحم
الللّبان: الصدر، والتحمحم: صوت دون الصهيل.
٢ الفجوة: والجمع فجوات وفجاء وهو المتسع.
٣ والمقصود بيان حفظهم من تطرق البلاء، وتغير الأبدان والأبدان والتأذي بحرّ أو برد.
٤ ﴿رقود﴾ : جمع راقد كراكع وركوع، وساجد وسجود، والتقليب: تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه وفعل الله تعالى هذا لحكمة وهي: حتى لا تؤثر الأرض على أجسامهم فتبلى، ولم يعرف كم مرّة يقلبون فيها في الشهر أو العام أو في أقل أو أكثر.
244
أي منتبهين لأن أعينهم متفتحة وهم رقود نائمون لا يحسّون بأحد ولا يشعرون، وقوله تعالى: ﴿ونقلبهم ذات اليمين﴾ أي جهة اليمين ﴿وذات الشمال﴾ أي جهة الشمال حتى لا تَعْدو التربة على أجسادهم فتبليها. وقوله: ﴿وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد﴾ أي: وكلبهم الذي خرج معهم، وهو كلب صيد ﴿باسط ذراعية بالوصيد١﴾ أي: بِفناء الكهف. وقوله تعالى: ﴿لو اطلعت عليهم﴾ أي لو شاهدتهم وهم رقود وأعينهم مفتحة ﴿لوليت منهم فراراً﴾ لرجعت فاراً منهم ﴿ولملئت منهم رعباً﴾ أي خوفاً وفزعاً، ذلك أن الله تعالى ألقى عليهم من الهيبة والوقار حتى لا يدنو منهم أحد ويمسهم بسوء إلى أن يوقظهم عند نهاية الأجل الذي ضرب لهم، ليكون أمرهم آية من آيات الله الدالة على قدرته وعظيم سلطانه وعجيب تدبيره في خلقه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان لطف الله تعالى بأوليائه بإكرامهم في هجرتهم إليه.
٢- تقرير أن الهداية بيد الله فالمهتدي من هداه الله والضال من أضله الله ولازم ذلك طلب الهداية من الله، والتعوذ به من الضلال لأنه مالك ذلك.
٣- بيان عجيب تدبير الله تعالى وتصرفه في مخلوقاته فسبحانه من إله عظيم عليم حكيم.
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (١٩) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (٢٠) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ
١ فناء عند مدخل الكهف فشبّه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق.
245
السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (٢١)
شرح الكلمات:
كذلك بعثناهم: أي كما أنمناهم تلك النومة الطويلة الخارقة للعادة بعثناهم١ من رقادهم بعثاً خارقاً للعادة أيضاً فكان في منامهم آية وفي إفاقتهم آية.
كم لبثتم: أي في الكهف نائمين.
يوماً أو بعض يوم: لأنهم دخلوا الكهف صباحاً واستيقظوا عشية.
بورقكم: بدراهم الفضة التي عندكم.
إلى المدينة: أي المدينة التي كانت تسمى أفسوس وهي طرسوس اليوم.
أزكى طعاماً: أي أيُّ أطعمة المدينة أحلُّ أي أكثر حِلِّيَّةً.
وليتلطف: أي يذهب يشتري الطعام ويعود في لطف وخفاء.
يرجموكم: أي يقتلوكم رمياً بالحجارة.
أعثرنا عليهم: أطلعنا عليهم أهل بلدهم.
ليعلموا: أي قومهم أن البعث حق للأجساد والأرواح معاً.
إذ يتنازعون: أي الكفار قالوا ابنوا عليهم أي حولهم بناء يسترهم.
فقالوا: أي المؤمنون والكافرون في شأن البناء عليهم.
وقال الذين غلبوا على أمرهم: وهم المؤمنون لنتخذن حولهم مسجداً يصلى فيه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أصحاب الكهف فقوله تعالى: ﴿وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم﴾ أي كما أنمناهم ثلاثمائة سنة وتسعا وحفظنا أجسادهم وثيابهم من البلى
١ البعث: التحريك من سكون أي: كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدىً وقلبناهم بعثناهم أيضاً أي: أيقظناهم من رقادهم على ما كانوا عليه من ثيابهم وأحوالهم.
246
ومنعناهم من وصول أحد إليهم، وهذا من مظاهر قدرتنا وعظيم سلطاننا بعثناهم من نومهم الطويل ليتساءلوا بينهم فقال قائل منهم مستفهماً كم لبثتم يا إخواننا فأجاب بعضهم قائلاً ﴿لبثنا يوماً أو بعض يوم﴾ لأنهم آووا إلى الكهف في الصباح وبعثوا من رقادهم في المساء وأجاب بعض آخر بقول مُرْضٍ للجميع وهو قوله: ﴿ربكم أعلم بما لبثتم﴾ فسلموا الأمر إليه، وكانوا جياعاً فقالوا لبعضهم ﴿فابعثوا أحدكم بورقكم١ هذه﴾ يشيرون إلى عملة من فضة كانت معهم ﴿إلى المدينة﴾ وهي أفسوس التي خرجوا منها هاربين بدينهم. وقوله: ﴿فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه﴾ أي فلينظر الذي تبعثرنه لشراء الطعام أي أنواع الأطعمة أزكى أي أطهر من الحرام والاستقذار ﴿فليأتكم٢ برزق منه﴾ لتأكلوه سداً لجوعكم وليتلطف٣ في شرائه وذهابه وإيابه حتى لا يشعر بكم أحداً وعلل لقوله هذا بقوله ﴿إنهم إن يظهروا عليكم﴾ أي يطلعوا ﴿يرجموكم﴾ أو يقتلوكم رجماً بالحجارة٤ ﴿أو يعيدوكم في ملتهم﴾ ملة الشرك بالقسر والقوة. ﴿ولن تفلحوا إذاً أبداً﴾ أي ولن تفلحوا بالنجاة من النار ودخول الجنة إذا أنتم عدتم للكفر والشرك.. فكفرتم وأشركتم بربكم.
وقوله تعالى: ﴿وكذلك أعثرنا عليهم﴾ أي وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة وبعثناهم ليتساءلوا بينهم فيزدادوا إيماناً ومعرفة بولاية الله تعالى وحمايته لأوليائه ﴿أعثرنا عليهم٥﴾ أهل مدينتهم الذين انقسموا إلى فريقين فريق يعتقد أن البعث حق وأنه بالأجسام، والأرواح، وفريق يقول البعث الآخر للأرواح دون الأجسام كما هي عقيدة النصارى إلى اليوم، فأنام الله الفتية وبعثهم وأعثر عليهم هؤلاء القوم المختلفين فأتضح لهم أن الله قادر على بعث الناس أحياء أجساماً وأرواحاً كما بعث أصحاب الكهف وهو معنى قوله تعالى ﴿وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا﴾ أي أولئك المختلفون في شأن البعث أن وعد الله حق وهو ما وعد به الناس من أنه سيبعثهم بعد موتهم يوم القيامة ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم. ﴿وأن الساعة لا ريب فيها﴾ وقوله تعالى: ﴿إذ
١ قال ابن عباس كان معهم دراهم فضة عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم والورق: الفضة، وقرىء بكسر الراء وقرىء بسكونها.
٢ في هذه الآية دليل على جواز الوكالة في كل مباح مأذون فيه وسواء كان الموكل عاجزاً أو قادراً ورأى بعضهم أنّ القادر لا يوكل، والصحيح جوازه، وقد وكل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو صحيح حاضر، ووكّل عليّ رضي الله عنه ووكل كثير من الصحابة من ينوب عنهم في أمورهم.
٣ الجمهور على أن نصف حروف القرآن التاء من قوله: {وليتلّطف﴾ أي: نصف القرآن من الفاتحة إلى ﴿وليتلّطف﴾ والنصف الآخر والأخير منها إلى الناس.
٤ القتل بالرجم بالحجارة أشفى لصدور أهل الدين لأنهم يشاركون في القتل بالرجم.
٥ أطعلنا عليهم. يقال عثر على كذا: وقف عليه برجله ومنه العثار للرجل وأعثر عليه: جعل غيره يعثر عليه بمعنى يقف عليه مطلعاً عليه ظاهراً.
247
يتنازعون بينهم أمرهم} أي أعثرناهم عليهم في وقت كان أهل البلد يتنازعون في شأن البعث والحياة الآخرة هل هي بالأجسام والأرواح أو بالأرواح دون الأجسام. فتبين لهم بهذه الحادثة أن البعث حق وأنه بالأجسام والأرواح معاً. وقوله تعالى: ﴿فقالوا ابنوا عليهم بنياناً﴾ واتركوهم في الكهف أي سدوا عليهم باب الكهف واتركوهم فيه لأنهم بعد أن عثروا عليهم ماتوا ﴿ربهم أعلم بهم﴾ وبحالهم.
وقوله تعالى: ﴿قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً﴾ أي قال الذين غلبوا على أمر الفتية لكون الملك كان مسلماً معهم ﴿لنتخذن عليهم مسجداً١﴾ أي للصلاة فيه وفعلاً بنو على مقربة من فم الغار بالكهف.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.
٢- وجوب طلب الحلال في الطعام والشراب وغيرهما.
٣- الموت على الشرك والكفر مانع من الفلاح يوم القيامة أبداً.
٤- تقرير معتقد البعث والجزاء الذي ينكره أهل مكة.
٥- مصداق قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وقوله "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة" (في الصحيحين).
٦- مصداق قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع". إذ قد بنى٢ المسلمون على قبور الأولياء والصالحين المساجد. بعد القرون المفضلة حتى أصبح يندر وجود مسجد عتيق خال من قبر أو قبور. ٣.
١ اتخاذ المساجد على القبور من عمل أهل الكتاب قبل هذه الأمّة، وقد بيّن ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحذّر منه وحرّمه على أمته لما يفضي به إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى فقد روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: "لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوّروا تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة". وروى مسلم: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها" وفي الصحيحين: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا".
٢ روى الترمذي وصححه عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تجصص القبور وأن يكتب عليها أو يبنى عليها وأن توطأ" وروى أبو داود والترمذي وغيرهما أن علياً قال لأحد رجاله أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألاّ تدع تمثالاً إلاّ طمسته ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته ولا صورة إلاّ طمستها" والمراد بالمشرف: العالي المرتفع أما تسنيم القبر شبراً وأي ليعرف فلا بأس به.
٣ ذكر القرطبي هنا أنّ الدفن في التابوت جائز لاسيما في الأرض الرخوة وقال: روي أنّ دانيال عليه السلام كان في تابوت من حجر وأنّ يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج.
248
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (٢٢) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦)
شرح الكلمات:
رجماً بالغيب: أي قذفاً بالظن غير يقين علم.
ما يعلمهم إلاّ قليل: أي من الناس.
فلا تمار فيهم: لا تجادل في عدتهم.
ولا تستفت فيهم منهم أحداً: أي من أهل الكتاب، الاستفتاء: الاستفهام والسؤال.
إلاّ أن يشاء الله: أي إلاّ أن تقول إن شاء الله.
لأقرب من هذا رشداً: هداية وأظهر دلالة على نبوتي من قصة أصحاب الكهف.
له غيب السموات والأرض: أي علم غيب السموات والأرض وهو ما غاب فيهما.
أبصر به وأسمع: أي أبصر بالله واسمع به صيغة تعجب! والأصل ما أبصره وما أسمعه.
ما لم من دونه من ولي: أي ليس لأهل السموات والأرض من دون الله أي من ناصر.
249
ولا يشرك في حكمه أحداً: لأنه غني عما سواه ولا شريك له.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أصحاب الكهف يخبر تعالى بأن الخائضين في شان أصحاب الكهف سيقول بعضهم بأنهم ثلاثة رابعهم كلبهم ويقول بعض آخرهم خمسة سادسهم كلبهم١ ﴿رجماً بالغيب﴾ أي قذفاً بالغيب من غير علم يقيني، ويقول بعضهم هم سبعة وثامنهم كلبهم، ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لأصحابه تلك الأقوال: ﴿ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلاّ قليل﴾ أي ما يعلم عددهم إلاّ قليل من الناس قال ابن عباس أنا من ذلك القليل فعدتهم سبعة وثامنهم كلبهم ولعله فهم ذلك من سياق الآية إذ ذكر تعالى أن الفريقين الأول والثاني قالوا ما قالوه من باب الرجم بالغيب لا من باب العلم والمعرفة، وسكت عن الفريق الثالث، فدل ذلك على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم والله أعلم. وقوله تعالى: ﴿فلا تمار فيهم إلاّ مراءً ظاهراً٢﴾ أي ولا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلاّ جدالاً بيناً ليناً بذكرك ما قصصنا عليك دون تكذيب لهم، ولا موافقة لهم. وقوله تعالى: ﴿ولا تستفت فيهم٣﴾ أي في أصحاب الكهف ﴿منهم﴾ أي من أهل الكتاب ﴿أحداً﴾ وذلك لأنهم لا يعلمون عدتهم وإنما يقولون بالخرص والتخمين لا بالعلم واليقين. وقوله تعالى: ﴿ولا تقولن لشيء٤ إني فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله﴾ أي لا تقل يا محمد في شأن تريد فعله مستقبلاً أي سأفعل كذا إلاّ أن تقول إن شاء الله٥ وذلك أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سأله وفد قريش بإيعاز من اليهود عن المسائل الثلاث: الروح، وأصحاب الكهف وذي القرنين، قال لسائليه: أجيبكم غداً انتظاراً للوحي ولم يقل إن شاء الله، فأدبه ربه تعالى بانقطاع الوحي عنه نصف شهر، وأنزل هذه السورة وفيها هذا التأديب له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله: ﴿واذكر ربك إذا نسيت﴾ أي إذا نسيت الاستثناء الذي علمناك فاذكره ولو بعد حين لتخرج من الحرج.
أما الكفارة فلازمة إلاّ أن يكون الاستثناء متصلاً بالكلام وقوله تعالى: ﴿وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً﴾ أي وقل بعد النسيان والاستثناء المطلوب منك {عسى أن يهديني
١ أصل الرجم هو الرجم بالحجارة ونحوها والمراد به هنا، رمي الكلام من غير روّية ولا تثبّت، والمراد أنّ ما قالوه في بيان عددهم هو من باب القول بالظن بدون علم.
٢ المراد: بالظاهر هو الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا يطول الخوض فيه.
٣ الاستفتاء: طلب الفتيا وهي الخبر عن أمر لا يعلمه إلاّ ذوو العلم روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل بعض نصارى نجران فنهي عن ذلك.
٤ لشيء أي: في شيء أو لأجل شيء.
٥ أي: إلاّ أن تذكر مشيئة الله تعالى.
250
ربي لأقرب من هذا رشداً} أي لعل الله تعالى أن يهديني فيسددني لأَسَدَّ ما وعدتكم أن أخبركم به مما هو أظهر دلالة على نبوتي مما سألتموني عنه اختباراً لي. وقوله تعالى: ﴿ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة١ سنين وازدادوا تسعا﴾ يخبر تعالى أن الفتية لبثوا في كهفهم رقوداً من ساعة دخلوه إلى أن أعثر الله عليهم قومهم ثلاثمائة سنين بالحساب الشمسي وزيادة تسع سنين بالحساب القمري.
وقوله: ﴿قل الله أعلم بما لبثوا﴾ رد به على من قال من أهل الكتاب إن الثلاثمائة والتسع سنين هي من ساعة دخولهم الكهف إلى عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأبطل الله هذا بتقرير الثلثمائة والتسع أولاً وبقوله ﴿الله أعلم بما لبثوا﴾ ثانياً وبقوله: ﴿له غيب السموات والأرض﴾ أي ما غاب فيهما، ثالثاً، وبقوله: ﴿أبصر به وأسمع﴾ أي ما أبصره بخلفه وما أسمعه لأقوالهم حيث لا يخفى عليه شيء من أمورهم وأحوالهم خامساً، وقوله (ليس لهم} أي لأهل السموات والأرض من دونه تعالى ﴿من ولي﴾ أيْ ولا ناصر ﴿ولا يشرك في حكمه أحداً﴾ لغناه عما سواه ولعدم وجود شريك له بحال من الأحوال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان اختلاف أهل الكتاب وعدم ضبطهم للأحداث التاريخية.
٢- بيان عدد فتية أصحاب الكهف وأنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٣- من الأدب مع الله تعالى أن لا يقول العبد سأفعل كذا مستقبلاً إلاّ قال بعدها إن شاء الله.
٤- من الأدب من نسي الاستثناء أن يستثني ولو بعد حين فإن حلف لا ينفعه الاستثناء إلاّ إذا كان متصلاً بكلامه.
٥- تقرير المدة التي لبثها الفتية في كهفهم وهي ثلاث مائة وتسع سنين بالحساب القمري.
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
١ قرأ الجمهور ﴿ثلثمائةٍ﴾ بالتنوين و ﴿سنين﴾ منصوب على التمييز أو على البدلية، فهو مجرور، وقرأ خلافهم بإضافة ثلثمائة إلى سنين.
251
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (٣١)
شرح الكلمات:
واتل ما أوحي إليك من الكتاب: أي اقرأ القرآن تعبداً ودعوة وتعليماً.
لا مبدل لكلماته: أي لا مغير لكلمات الله في ألفاظها ولا معانيها وأحكامها.
ملتحداً: أي ملجأ تميل إليه إحتماءاً به.
واصبر نفسك: أي إحبسها.
يريدون وجهه: أي طاعته ورضاه، لا عرضاً من عرض الدنيا.
ولا تعد عيناك عنهم: أي لا تتجاوزهم بنظرك إلى غيرهم من أبناء الدنيا.
تريد زينة الحياة الدنيا: أي بمجالستك الأغنياء تريد الشرف والفخر.
من أغفلنا قلبه: أي جعلناه غافلاً عما يجب عليه من ذكرنا وعبادتنا.
وكان أمره فرطاً: أي ضياعاً وهلاكاً.
أحاط بهم سرادقها: حائط من نار أحيط بهؤلاء المعذبين في النار.
252
بماء كالمهل: أي كعكر الزيت أي الدردي وهو ما يبقى في أسفل الإناء ثخناً رديئاً.
من سندس واستبرق: أي مَارَقَّ من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه أي من الديباج.
معنى الآيات:
بعد نهاية الحديث عن أصحاب الكهف أمر تعالى رسوله بتلاوة كتابه فقال: ﴿واتل١﴾ أي واقرأ ﴿ما أوحي إليك من كتاب ربك﴾ تعبداً به ودعوة للناس إلى ربهم به وتعليماً للمؤمنين بما جاء فيه من الهدى.
وقوله: ﴿لا مبدل لكلماته﴾ أي لا تتركن تلاوته والعمل به والدعوة إليه فتكون من الهالكين فإن ما وعد ربك به المعرضين عنه المكذبين به كائن حقاً وواقع صدقاً فإن ربك ﴿لاّ مبدل لكلماته﴾ المشتملة على وعده لأوليائه ووعيده لأعدائه ممن كفروا به وكذبوا بكتابه فلم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه.
وقوله تعالى: ﴿ولن تجد من دون ملتحداً﴾ أي انك إن لم تتل كتابه الذي أوحاه إليك وتعمل بما فيه فَنَالَكَ ما أوعد به الكافرين المعرضين عن ذكره. ﴿لن تجد من دون الله ملتحداً﴾ أي موئلاً تميل إليه وملجأ تحتمي به وإذا كان مثل هذا الوعيد الشديد يوجه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو المعصوم فغيره ممن تركوا تلاوة القرآن والعمل به فلا أقاموا حدوده ولا أحلوا حلاله ولا حرموا حرامه أولى بهذا الوعيد وهو حائق بهم لا محالة إن لم يتوبوا قبل موتهم وقوله تعالى: ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه﴾ نزل هذا التوجيه للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما عرض عليه المشركون إبعاد أصحابه الفقراء كبلال وصهيب وغيرهما ليجلسوا إليه ويسمعوا منه فنهاه ربه عن ذلك وأمره أن يحبس نفسه مع أولئك الفقراء المؤمنين ﴿الذين يدعون﴾ ربهم في صلاتهم في الصباح والمساء لا يريدون بصلاتهم وتسبيحهم ودعائهم عرضاً من أعراض الدنيا وإنما يريدون رضا الله ومحبته بطاعته في ليلهم ونهارهم.
وقوله تعالى: ﴿ولا تعد عيناك٢ عنهم﴾ أي لا تتجاوز ببصرك هؤلاء المؤمنين الفقراء إلى أولئك الأغنياء تريد مجالستهم للشرف والفخر وقوله ﴿ولا تطع٣ من أغفلنا قلبه عن ذكرنا﴾ فجعلناه غافلاً
١ تضمنت هذه الآية: ﴿واتل﴾ الخ الرد على المشركين إذ المعنى: لا تعبأ بهم إن كرهوا تلاوة بعض القرآن لأن فيها التعريض بآلهتهم والتنديد بها حتى طالبوك بأن تجعل بعض القرآن للثناء عليها أو عليهم.
٢ لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة.
٣ روي أنها نزلت في أمية بن خلف الجمحي لأنه دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أمر كرهه وهو إبعاد الفقراء وتقريب صناديد قريش.
253
عن ذكرنا وذكر وعدنا ووعيدنا ليكون من الهالكين لعناده وكبريائه وظلمه. ﴿وكان أمره فرطاً١﴾ أي ضياعاً وهلاكاً، وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق ﴿وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن٢ ومن شاء فليكفر﴾ أي هذا الذي جئت به وأدعو إليه من الإيمان والتوحيد والطاعة لله بالعمل الصالح هو ﴿الحق من ربكم﴾ أيها الناس. ﴿فمن شاء﴾ الله هدايته فآمن وعمل صالحاً فقد نجاه ومن لم يشأ الله هدايته فبقي على كفره فلم يؤمن فقد خاب وخسر.
وقوله: ﴿إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها﴾ أي جدرانها النارية. ﴿وإن يستغيثوا﴾ من شدة العطش ﴿يغاثوا بماء كالمهل﴾ رديئاً ثخناً ﴿يشوي الوجوه﴾ إذا أدناه الشارب من وجهه ليشرب شوى جلده ووجهه ولذا قيل فيه ذم له. ﴿بئس الشراب وساءت﴾ أي جهنم ﴿مرتفقاً﴾ في منزلها وطعامها وشرابها إذ كله سوء وعذاب هذا وعيد من اختار الكفر على الإيمان وأما وعد من آمن وعمل صالحاً وقد تضمنته الآيتان (٣١-٣٢) إذ قال تعالى: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً﴾ هذا حكمنا الذي لا تبديل له وبين تعالى أجرهم على إيمانهم وإحسان أعمالهم فقال: ﴿أولئك لهم جنات عدن﴾ أي إقامة دائمة ﴿تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق، متكئين فيها على الآرائك﴾ وهي الأسرة بالحجلة (). ثم أثنى الله تعالى على نعيمهم الذي أعده لهم بقوله: ﴿نعم الثواب﴾ الذي٣ أثيبوا به ﴿وحسنت﴾ الجنة في حليها وثيابها وفرشها وأسرتها وطعامها وشرابها وحورها ورضوان الله فيها ﴿حسنت٤ مرتفقاً﴾ يرتفقون فيه وبه، جعلنا الله من أهلها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان خيبة وخسران المعرضين عن كتاب الله فلم يتلوه ولم يعملوا بما جاء فيه من شرائع وأحكام.
١ الفرط: الظلم والاعتداء وهو مشتق من الفروط وهو السبق لأنّ الظلم سبق في الشر والظلم يؤدي إلى الهلاك والضياع والخسران.
٢ الأمر في قوله ﴿فليؤمن﴾ و ﴿فليكفر﴾ للتسوية بينهما وليس في هذا إذن لهما بالكفر وإنما الخطاب للتهديد والوعيد لمن اختار الكفر على الإيمان بدليل الجملة التعليلية: ﴿إنا أعتدنا للظالمين ناراً﴾ الخ، والمراد بالظالمين المشركون لقوله تعالى: ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾.
٣ ﴿الأرائك﴾ : جمع أريكة وهي مجموع سرير وحجلة، والحجلة: قبة من ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها ولذلك يقال للنساء ربات الحجال فإذا وضع فيها سرير فهي أريكة يجلس فيها وينام.
(المرتفق) : محل الارتفاق، وإطلاق المرتفق على النار تهكّم، إذ النار لن تكون محل راحة وارتفاق أبداً بل هي دار شقاء وعذاب.
254
٢- الترغيب في مجالسة أبناء الآخرة وهم الفقراء الصابرون وترك أبناء الدنيا والإعراض عما هم فيه.
٣- على الداعي إلى الله تعالى أن يبين الحق، والناس بعد بحسب ما كتب لهم أو عليهم.
٤- الترغيب والترهيب بذكر جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين.
٥- عذاب النار شر عذاب، ونعيم الجنة، نعم النعيم ولا يهلك على الله إلاّ هالك.
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (٣٣) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (٣٥) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (٣٦) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (٣٧) لَّكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (٣٨)
شرح الكلمات:
واضرب لهم مثلاً: أي اجعل لهم مثلاً هو رجلين.. الخ.
جنتين: أي بستانين.
وحففناهما بنخل: أي أحطناهما بنخل.
آتت أكلها: أي أعطت ثمارها وهو ما يؤكل.
ولم تظلم منهم شيئاً: أي وَلَمْ تنقص منه شيئاً بل أتت به كاملاً ووافياً.
255
خلالهما نهراً: أي خلال الأشجار والنخيل نهراً جارياً.
وهو يحاوره: أي يحادثه ويتكلم معه.
وأعز نفراً: أي عشيرة ورهطاً.
تبيد: أي تفنى وتذهب.
خيراً منها منقلباً: أي مرجعاً في الآخرة.
أكفرت بالذي خلقك من تراب؟ ! : الاستفهام للتوبيخ والخلق من تراب باعتبار الأصل هو آدم.
من نطفة: أي مني.
ثم سواك: أي عدلك وصيرك رجلاً.
لكنا: أي لكن أنا، حذفت الألف وأدغمت النون في النون فصارت لكنا.
هو الله ربي: أي أنا أقول الله ربي.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: واضرب لأولئك المشركين المتكبرين الذين اقترحوا عليك أن تطرد الفقراء المؤمنين من حولك حتى يجلسوا إليك ويسمعوا منك ﴿اضرب١ لهم﴾ أي اجعل لهم مثلاً: ﴿رجلين﴾ مؤمناً وكافراً ﴿جعلنا لأحدهما﴾ وهو الكافر ﴿جنتين من أعناب وحففناهما بنخل﴾ أي أحطناهما بنخل، ﴿وجعلنا بينهما﴾ أي بين الكروم والنخيل ﴿زرعاً﴾ ﴿كلتا الجنتين٢ آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً﴾ أي لم تنقص منه شيئاً ﴿وفجرنا خلالهما نهراً﴾ ليسقيهما. ﴿وكان٣ له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره﴾ أي في الكلام يراجعه، ويُفاخره: ﴿أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً٤﴾ أي عشيرة ورهطاً، قال هذا فخراً وتعاظماً. ﴿ودخل جنته﴾ والحال أنه ﴿ظالم لنفسه﴾ بالكفر والكبر وقال: ﴿ما أظن٥ أن تبيد هذه﴾ يشير إلى جنته ﴿أبداً﴾ أي لا تفنى ﴿وما أظن الساعة
١ اختلف في تحديد الفريقين الذين ضرب لهما المثل، وفي الرجلين اللّذين ضرب بهما المثل، والظاهر أنّ الفريقين الذين ضرب لهما المثل هم المؤمنون والكافرون المستنكفون عن مجالسة المؤمنين، وأما الرجلان فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما من بنى إسرائيل وهو الظاهر والله أعلم.
٢ قال سيبويه: أصل كلا كِّلْوَ وأصل كلتا كلوا فحذفت لام الفعل من كلتا وعوضت التاء عن اللام المحذوفة لتدل التاء على التأنيث.
٣ {وكان له ثمر..﴾ الجملة في محل نصب على الحال، والثمر بضم الثاء والميم المال الكثير المختلف من النقدين والأنعام والجنات والمزارع مأخوذ من: ثمر ماله: إذا كثر، وقرأ الجمهور بضم الثاء والميم وقرأ حفص بفتحهما.
٤ أعزّ أي أشد عزّة، والنفر: عشيرة الرجل الذين ينفرون معه للدفاع أو القتال والمراد بالنفر هنا أولاده.
٥ الظنّ هنا بمعنى الاعتقاد ومعنى تبيد: تفنى وتهلك.
256
قائمة ولئن رددت إلى ربي} كما تقول أنت ﴿لأجدن خيراً منها١﴾ أي من جنتي ﴿منقلباً﴾ أي مرجعاً إن قامت الساعة وبعث الناس وبعثت معهم. هذا القول من هذا الرجل هو ما يسمى بالغرور النفسي الذي يصاب به أهل الشرك والكبر. وهنا قال له صاحبه المسلم ﴿وهو يحاوره﴾ أكفرت بالذي خلقك من تراب} ؟ وهو الله عز وجل حيث خلق أباك آدم من ﴿تراب ثم من نطفة٢﴾ أي ثم خلقك أنت من نطفة أي من مني ﴿ثم سواك رجلاً﴾ وهذا توبيخ من المؤمن للكافر المغرور ثم قال له: ﴿لكنا هو الله ربي﴾ أي لكن أنا أقول: هو الله ربي، ﴿ولا أشرك بربي أحداً﴾ من خلقه في عبادته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- استحسان ضرب الأمثال للوصول بالمعاني االخفية إلى الأذهان.
٢- بيان صورة مثالية لغرس بساتين النخل والكروم.
٣- تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء.
٤- التنديد بالكبر والغرور حيث يفضيان بصاحبهما إلى الشرك والكفر.
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (٣٩) فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢) وَلَمْ تَكُن لَّهُ
١ قرأ الجمهور (منهما) بالتثنية وقرأ عاصم (منها) بالإفراد.
٢ النطفة: ماء الرجال مشتقة من النطف الذي هو السيلان.
257
فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (٤٣) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (٤٤)
شرح الكلمات:
ما شاء الله: أي يكون وما لم يشأ لم يكن.
حسباناً من السماء: أي عذاباً ترمى به فتؤول إلى أرض ملساء دحضاً لا يثبت عليها قدم.
أو يصبح ماؤها غوراً: أي غائراً في أعماق الأرض فلا يَقْدِرُ على استنباطِه وإخراجه.
وأحيط بثمره: أي هلكت ثماره، فلم يبق منها شيء.
يقلب فكفيه: ندماً وحسرة على ما أنفق فيها من جهد كبير ومال طائل.
وهي خاوية على عروشها: أي ساقطة على أعمدتها التي كان يُعرش بها للكرم، وعلى جدران مبانيها.
فئة: جماعة من الناس قوية كعشيرته من قومه.
هنالك: أي حين حل العذاب بصاحب الجنتين أي يوم القيامة.
الولاية: أي الملك والسلطان الحق لله تعالى.
خير ثواباً وخير عقباً: أي الله تعالى خير من يثيب وخير من يُعقب أي يحزي بخير.
معنى الآيات:.
ما زال السياق الكريم في المثل المضروب للمؤمن الفقير والكافر الغني فقد قال المؤمن للكافر ما أخبر تعالى به في قوله: ﴿ولولا إذ دخلت جنتك﴾ أي هلا إذ دخلت بستانك قلت عند تعجبك من حسنه وكماله ﴿ما شاء الله﴾ أي١ كان ﴿لا قوة إلا٢ بالله﴾ أي لا قوة لأحد على فعل شيء
١ هذا وجه في إعراب (ما شاء الله) ما: مبتدأ والخبر كان، وهناك وجه آخر حسّنه بعضهم وهو: هذه الجنة ما شاء الله. فما خبر عن مبتدأ محذوف ويجوز تقديره أيضاً: الأمر الذي شاء الله إعطاءه.
٢ قال مالك.: ينبغي لكل من دخل داره أو بستانه أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله، وروي أنه كان مكتوباً على باب وهب بن منبّه ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله، وروى مسلم أن: لا حول ولا قوة إلاّ بالله كنز من كنوز الجنة وورد استحباب قول بسم الله آمنت بالله توكلت على الله لا قوة إلاّ بالله.
258
أو تركه إلاّ بإقدار الله تعالى له وإعانته عليه قال هذا المؤمن نصحاً للكافر وتوبيخاً له. ثم قال له١ ﴿إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً﴾ اليوم ﴿فعسى٢ ربي﴾ أي فرجائي في الله ﴿أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها﴾ أي على جنة الكافر ﴿حسبانا٣ من السماء﴾ أي عذاباً ترمى به. ﴿فتصبح صعيداً زلقاً﴾ ؟ أي تراباً أملس لا ينبت زرعاً ولا يثبت عليه قدم. ﴿أو يصبح ماؤها غوراً﴾ الذي تسقى به غائراً في أعماق الأرض فلن تقدر على إستخراجه مرة أخرى، وهو معنى ﴿فلن تستطيع له طلباً﴾.
وقوله تعالى: في الآيات (٤٠)، (٤١)، (٤٢) يخبر تعالى أن رجاء المؤمن قد تحقق إذ قد أحيط فعلاً ببستان الكافر فهلك بكل ما فيه من ثمر ﴿فأصبح يقلب كفيه﴾ ندماً وتحسراً ﴿على ما أنفق فيها﴾ من جهد ومال في جنته ﴿وهي خاوية على عروشها﴾ أي ساقطة على أعمدة الكرم التي كان يعرشها للكرم أي يحمله عليها كما سقطت جدران مبانيها على سقوفها وهو يتحسر ويتندم ويقول: ﴿يا ليتني لم أشرك بربي أحداً، ولم تكن له﴾ جماعة قوية تنصره ﴿من دون الله وما كان﴾ المنهزم ﴿منتصراً﴾ لأن من خذله الله لا ناصر له. قال تعالى: في نهاية المثل الذي هو أشبه بقصة ﴿هنالك﴾ أي يوم القيامة ﴿الولاية﴾ أي القوة والملك والسلطان ﴿لله﴾ أي المعبود ﴿الحق﴾ لا لغيره من الأصنام والأحجار ﴿هو﴾ تعالى ﴿خير ثواباً﴾ أي خير من يثيب على الإيمان والعمل الصالح. ﴿وخير عقباً٤﴾ أي خير من يعقب أي يجزي بحسن العواقب
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١ بيان مآل المؤمنين كصهيب وسلمان وبلال، وهو الجنّة ومآل الكافرين كأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وهو النار.
٢- استحباب قول من أعجبه شيء: ﴿ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله﴾ فإنه لا يرى فيه مكروهاً إن شاء الله.
١ أنا: ضمير فصل وأقل مفعول ثانٍ لترن وحذفت ياء التكلم بعد نون الوقاية تخففاً.
(عسى) للرجاء وهو طلب الأمر القريب الحصول وأراد به هنا الدعاء لنفسه وعلى صاحبه الكافر المشرك.
٣ الحسبان: مصدر كالغفران وهو هنا وصف لمحذوف تقديره: هلاكاً حسباناً أي: مقدراً من الله تعالى، وقيل هو اسم جمع حسبانة أي: صاعقة، وقيل: اسم للجراد وهو محتمل لكل ما ذكر.
٤ العقب: بمعنى العاقبة وقرىء: بضمتين عُقُب وقرىء بضم العين وسكون القات بمعنى: عاقبة وهي آخرة الأمر وما يرجوه المرء من سعيه وعمله ولذا فسرت الآية بهو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به، يقال: هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه: أي آخره.
259
٣- استجابة الله تعالى لعباده المؤمنين وتحقيق رجائهم فيه سبحانه وتعالى.
٤- المخذول من خذلة الله تعالى فإنه لا ينصر أبداً.
٥- الولاية بمعنى١ الموالاة النافعة للعبد هي موالاة الله تعالى لا موالاة غيره.
٦- الولاية بمعنى الملك والسلطان لله يوم القيامة ليست لغيره إذ الملك والأمر كلاهما لله تعالى.
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (٤٥) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (٤٦)
شرح الكلمات:
المثل: الصفة المعجبة.
هشيماً: يابساً متفتتاً.
تذروه الرياح: أي تنثره الرياح وتفرقه لخفته ويبوسته.
مقتدراً: أي كامل القدرة لا يعجزه شيء.
زينة الحياة الدنيا: أي يتجمل بما فيها.
والباقيات الصالحات: هي الأعمال الصالحة من سائر العبادات والقربات.
وخير أملاً: أي ما يأمله الإنسان وينتظره من الخير.
معنى الآيات:
هذا مثل آخر مضروب أي مجعول للحياة الدنيا حيث اغتر بها الناس وخدعتهم فصرفتهم عن الله تعالى ربهم فلم يذكروه ولم يشكروه فاستوجبوا غضبه وعقابه.
١ ﴿الولاية﴾ : بفتح الواو: الموالاة، وبكسرها: الملك والسلطان.
260
قال تعالى: في خطاب رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿واضرب لهم﴾ أي لأولئك المغرورين بالمال والسلطان ﴿مثل الحياة الدنيا﴾ أي صفتها الحقيقية التي لا تختلف عنها بحال ﴿كماء أنزلناه من١ السماء، فاختلط به نبات الأرض﴾ فَزَهَا وازدهر واخضرّ وأنظر، فأعجب أصحابه، وأفرحهم وسرهم ما يأملون منه. وفجأة أتاه أمر الله برياح لاحِفَة، محرقة، ﴿فأصبح٢ هشيماً﴾ أي يابساً متهشماً متكسراً ﴿تذروه الرياح﴾ هنا وهناك ﴿وكان الله على كل شيء مقتدراً﴾ أي قادراً كامل القدرة، فأصبح أهل الدنيا مبلسين آيسين من كل خير.
وقوله تعالى: ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً﴾ إنه بعد أن ضرب المثل للحياة الدنيا التي غرت أبناءها فأوردتهم موارد الهلاك أخبر بحقيقة أخرى، يعلم فيها عباده لينتفعوا بها، وهي أن ﴿المال والبنون﴾ أو الأولاد ﴿زينة الحياة٣ الدنيا﴾ لا غير أي يتجمل بهما ساعة ثم يبيدان ويذهبان، فلا يجوز الاغترار بهما، بحيث يصبحان همَّ الإنسان في هذه الحياة فيصرفانه عن طلب سعادة الآخرة بالإيمان وصالح الأعمال، هذا جزء الحقيقة في هذه الآية، والجزء الثاني هو أن ﴿الباقيات الصالحات﴾ والمراد بها أفعال البر وضروب العبادات ومنها سبحان الله٤، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، أي هذه ﴿خير ثواباً﴾ أي جزاءً وثماراً، يجنيه العبد من الكدح المتواصل في طلب الدنيا مع الإعراض عن طلب الآخرة، ﴿وخير أملاً﴾ يأمله الإنسان من الخير ويرجوه ويرغب في تحصيله.
١ بعض الحكماء شبّه الحياة الدنيا بالماء للاتصالات الآتية:
١- الماء لا يستقر في موضع والحياة كذلك.
٢- الماء يتغيّر والدنيا كذلك.
٣- الماء لا يبقى والدنيا كذلك.
٤- الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل والدنيا لا يدخلها أحد ويسلم من فتنها وآفاتها.
٥- الماء إذا كان بقدر كان نافعاً منبتاً وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مهلكاً وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر.
وفي الصحيح "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنّعه الله بما آتاه" رواه مسلم.
٢ يقال: هشمه يهشمه إذا كسره وفتّته وهشيم بمعنى: مهشوم فهو فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول، وهشم الثريد إذا فتته وبه سمي هاشم بن مناف وكان اسمه عمرو وفيه يقول عبد الله بن الزبعري:
عمر العُلا هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
٣ قيل: في المال والبنين زينة الحياة الدنيا: لأن في المال جمالاً ونفعاً وفي البنين قوة ودفعاً والمثال مضروب لحقارة الدنيا وسرعة زوالها ولذا قيل: لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغداً مع غيرك ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغداً لغيرك.
٤ روى مالك في الموطأ: أن الباقيات الصالحات هنّ: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
261
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان حقارة الدنيا وسوء عاقبتها.
٢- تقرير أن المال والبنين لا يعدوان كونهما زينة، والزينة سريعة الزوال وهما كذلك فلا يجوز الاغترار بهما، وعلى العبد أن يطلب ما يبقى على ما يفنى وهو الباقيات الصالحات من أنواع البر والعبادات من صلاة وذكر وتسبيح وجهاد، ورباط، وصيام وزكاة.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٤٧) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)
شرح الكلمات:
نُسير الجبال: أي تقتلع من أصولها وتصير هباءً منبثاً.
بارزة: ظاهرة إذ فنى كل ما كان عليها من عمران.
فلم نغادر: لم نترك منهم أحداً.
موعداً: أي ميعاداً لبعثكم أحياء للحساب والجزاء.
ووضع الكتاب: كتاب الحسنات وكتاب السيئات فيؤتاه المؤمن بيمينه والكافر بشماله.
مشفقين: خائفين.
يا ويلتنا: أي يا هلكتنا احضري هذا أوَان حُضُورك.
لا يغادر صغيرة: أي لا يترك صغيرة من ذنوبنا ولا كبيرة إلاّ جمعها عَدَّاً.
262
ما عملوا حاضراً: مثبتاً في كتابهم، مسجلاً فيها.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى مآل الحياة الدنيا وأنه الْفَناء والزوال ورغِّب في الصالحات وثوابها المرجوا يوم القيامة، ناسب ذكر نبذة عن يوم القيامة، وهو يوم الجزاء على الكسب في الحياة الدنيا قال تعالى: ﴿ويوم نسير الجبال﴾ أي اذكر ﴿يوم نسير﴾ أي تقتلع١ من أصولها وتصير هباءً منبثاً، ﴿وترى الأرض بارزة﴾ ظاهرة ليس عليها شيء فهي قاع صفصف ﴿وحشرناهم﴾ أي جمعناهم من قبورهم للموقف ﴿فلم نغادر٢ منهم أحداً﴾ أي لم نترك منهم أحداً كائناً من كان، ﴿وعرضوا على ربك﴾ أيها الرسول صفاً وقوفاً أذلاء، وقيل لهم توبيخاً وتقريعاً: ﴿لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة٣﴾ لا مال معكم ولا سلطان لكم بل حفاة عراة غُرلاً٤، جمع أغرل، وهو الذي لم يختتن.
وقوله تعالى: ﴿بل زعمتم٥﴾ أي ادعيتم كذباً أنا لا نجمعكم ليوم القيامة، ولن نجعل لكم موعداً فها أنتم مجموعون لدينا تنتظرون الحساب والجزاء، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما فيه، وقوله تعالى في الآية ﴿ووضع الكتاب﴾ يخبر تعالى عن حال العرض عليه فقال: ﴿ووضع الكتاب٦﴾ أي كتاب الحسنات والسيئات وأعطى كل واحد كتابه فالمؤمن يأخذه بيمينه والكافر بشماله، ﴿فترى المجرمين﴾ في تلك الساعة ﴿مشفقين﴾ أي خائفين ﴿مما فيه﴾ أي في الكتاب من السيئات ﴿ويقولون: يا وليتنا﴾ ٧ ندماً وتحسراً ينادون يا ويلتهم وهي هلاكهم قائلين:
١ هذا على قراءة تُسير بالتاء المضمومة للبناء للمفعول وقراءة الجمهور ﴿نُسير الجبال﴾ والفاعل هو الله تعالى، وقرىء أيضاً: تسير الجبال بفتح التاء مضارع سار يسير كقوله تعالى: ﴿وتسير الجبال سيراً﴾.
٢ المغادرة الترك ومنه الغدر لأنه ترك الوفاء، وسمي الغدير من الماء غديراً لأنه ترك بعد السيل، ومنه غدائر المرأة وهو شعرها تضفره وتتركه خلفها.
٣ أخرج الحافظ أبو القاسم بن مندة في كتاب التوحيد له عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رقيع غير فظيع: يا عبادي أنا الله لا إله إلاّ أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون احضروا حجتكم ويسروا جوابكم فإنكم مسؤولون محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفاً على أنامل أقدامهم للحساب" تضمن هذا الحديث تفسيراً كاملاً لهذه الآيات.
٤ روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً" غير مختونين".
٥ هذا الخطاب لمنكري البعث والجزاء من أهل الكفر والشرك.
٦ ﴿الكتاب﴾ : اسم جنس يشمل كل الكتب التي يُعطاها العباد في المحشر.
٧ الويلة: مؤنث الويل للمبالغة وهي سوء الحال والهلاك كما أنّت الدار على داره للدلالة على سعة المكان، ونداء الويلة معناه: الدعاء على أنفسهم بالهلاك لمشاهدتهم عظائم الأهوال وما ينتظرهم من صنوف العذاب نادوا ويلتهم طالبين حضورها.
263
﴿ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة١ ولا كبيرة﴾ من ذنوبنا ﴿إلاّ أحصاها﴾ أي أثبتها عَدّاً.
وقوله تعالى في آخر العرض ﴿ووجدوا ما عملوا حاضراً﴾ أي من خير وشر مثبتاً في كتابهم، وحوسبوا به، وجوزوا عليه ﴿ولا يظلم ربك أحداً﴾ بزيادة سيئة على سيئاته أو بنقص حسنة من حسناته، ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرضها على مسامع المنكرين لها.
٢- يبعث الإنسان كما خلقه الله ليس معه شيء، حافياً عارياً لم يقطع منه غفلة الذكر.
٣- تقرير عقيدة كتب الأعمال في الدنيا وإعطائها أصحابها في الآخرة تحقيقاً للعدالة الإلهية.
٤- نفي الظلم عن الله تعالى وهو غير جائز عليه لغناه المطلق وعدم حاجته إلى شيء.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (٥٠) مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (٥٣)
شرح الكلمات:
اسجدوا لآدم: أي حيّوه بالسجود له كما أمرتكم طاعة لي.
إلا إبليس: أي الشيطان أبى السجود ورفضه وهو معنى ﴿فسق عن أمر ربه﴾ أي
١ أصغر الصغائر: النظر بغير قصد وأكبر الكبائر الشرك بالله تعالى ولا ضابط حق الكبيرة إلا أن هناك ضابطاً يستأنس به وهو: ما توعد عليه أو لعن عليه أو وضع حدّ له في الكتاب أو السنة فهو كبيرة.
264
خرج عن طاعته، ولم يكن من الملائكة، بل كان من الجن، لذا أمكنه أن يعصي ربه!
أفتتخذونه وذريته أولياء؟ : الاستفهام للاستنكار، ينكر تعالى على بني آدم اتخاذ الشيطان وأولاده أولياء يطاعون ويوالون بالمحبة والمناصرة، وهم لهم عدو، عجباً لحال بني آدم كيف يفعلون ذلك!؟.
بئس للظالمين بدلاً: قبح بدلاً طاعة إبليس وذريته عن طاعة الله ورسوله.
المضلين عضداً: أي ما كنت متخذ الشياطين من الإنس والجن أعواناً في الخلق والتدبير، فكيف تطيعونهم وتعصونني.
موبقاً: أي وادياً من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً هذا إذا دخلوا النار، أما ما قبلها فالموبق، حاجز بين المشركين، وما كانوا يعبدون بدليل قوله: ﴿ورأي المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها﴾.
مواقعوها: أي واقعون فيها ولا يخرجون منها أبداً.
ولم يجدوا عنها مصرفاً: أي مكاناً غيرها ينصرفون إليه لينجوا من عذابها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في إرشاد بني آدم وتوجيههم إلى ما ينجيهم من العذاب ويحقق لهم السعادة في الدارين، قال تعالى في خطاب رسوله واذكر لَهُم ﴿إذ قلنا للملائكة﴾ وهم عبادنا المكرمون ﴿اسجدوا لآدم﴾ فامتثلوا أمرنا وسجدوا إلاّ إبليس. لكن إبليس الذي يطيعه الناس اليوم كان من الجن وليس من الملائكة لم يسجد، ففسق١ بذلك عن أمرنا وخرج عن طاعتنا. ﴿أفتتخدونه٢﴾ أي أيصح منكم يا بني آدم أن تتخذوا عدو أبيكم وعدو ربكم وعدوكم أيضاً ولياً توالونه وذريته٣ بالطاعة لهم والاستجابة لما يطلبون منكم من أنواع الكفر والفسق ﴿بئس للظالمين﴾ أنفسهم ﴿بدلاً﴾ طاعة الشيطان وذريته٤ وولايتهم عن
١ الفسق: مشتق من: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرتها، والفأرة من جحرها، وفسق العبد: خرج عن طاعة ربه متجاوزاً الطاعة إلى المعصية، فكل من ترك واجباً وفعل حراماً فقد فسق بذلك عن طاعة ربه أي خرج عنها.
٢ الاستفهام للتوبيخ والإنكار، وذرية الشيطان بيّنت السنة كيفية وجودهم فقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: "لا تكن أوّل من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فيها باض الشيطان وفرَّخ"، فهذا دال على أن للشيطان ذرية من صلبه.
٣ في مسلم: "أن للصلاة شيطاناً يسمى خنزب مهمته الوسوسة فيها" وروى الترمذي أن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان يوسوس فيه.
٤ روى مسلم رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الشيطان يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئاً قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيدنيه وقال: فيلتزمه ويقول: نعم أنت!! ".
265
طاعة الله ورسوله وولايتهما.
وقوله تعالى: ﴿ما أشهدتهم١ خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً﴾ يخبر تعالى بأنه المنفرد بالخلق والتدبير ليس له وزير معين فكيف يُعْبَدُ الشيطان وذريته، وأنا الذي خلقتهم وخلقت السموات والأرض٢ وخلقت هؤلاء الذين يعبدون الشيطان، ولم أكن ﴿متخذ المضلين﴾ وهم الشياطين من الجن والإنس الذين يضلون عبادنا عن طريقنا الموصل إلى رضانا وجنتنا، أي لم أكن لأجعل منهم معيناً لي يعضدنى ويقوي أمري وخلاصة ما في الآية أن الله تعالى ينكر على الناس عبادة الشياطين وهي طاعتهم وهم مخلوقون وهو خالقهم وخالق كل شيء.
وقوله تعالى: ﴿ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم﴾ أي أذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين المعرضين عن عبادة الله إلى عبادة عدوه الشيطان، أذكر لهم يوم يقال لهم في عرصات القيامة ﴿نادوا شركائي الذين﴾ أشركتموهم في عبادتي زاعمين أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم فيخلصونكم من عذابنا.
قال تعالى ﴿فدعوهم٣﴾ يا فلان!! يا فلان.. ﴿فلم يستجيبوا لهم﴾ إذ لا يجرؤ أحد ممن عبد من دون الله أن يقول رب هؤلاء كانوا يعبدونني. قال تعالى: ﴿وجعلنا بينيهم موبقاً٤﴾ أي حاجزاً وفاصلاً من عداوتهم لبعضهم. وحتى لا يتصل بعضهم ببعض في عرصات القيامة. وقوله تعالى: ﴿ورأى المجرمون النار﴾ أي يؤتى بها تُجَرُّ بالسلاسل حتى تبرز لأهل الموقف فيشاهدونها وعندئذ يظن٥ المجرمون أي يوقنوا ﴿أنهم مواقعوها﴾ أي داخلون فيها. ﴿ولم يجدوا عنها مصرفاً٦﴾ أي مكاناً ينصرفون إليه لأنهم محاطون بالزبانية، والعياذ بالله من النار وعذابها.
١ أي: ما أحضرتهم لأستعين بهم على خلق السموات والأرض ولا أحضرت بعضهم لأستعين به على خلق البعض الآخر.
٢ في الآية رد على أهل الضلال كافة من شيطان وكاهن ومنجم وطبعيّ وملحد إذ الجميع مخلوق مربوب والله خالق كل شيء ومليكه وربّه ومدبّره.
٣ أي: امتثلوا الأمر ودعوهم فلم يستجيبوا لهم.
٤ فسّر الموبق ابن عباس رضي الله عنهما: بالحاجز، وفسره أنس بن مالك رضي الله عنه بواد في جهنم من قيح ودم، وفسر بالمهلك والتفسير بالمهلك يدخل فيه كل ما ذكر، ومن الجائز أن يتعدد الحاجز ويكون أنواعا منها: عداوة بعضهم لبعض فإنها حاجز والنار نفسها أعظم موبق ولعلها هي المراد بالموبق.
٥ ﴿ظنوا﴾ أي: أيقنوا إذ يطلق الظن ويراد به اليقين وهو كثير في القرآن الكريم. قال الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجّج
سراتهم في الفارسيّ المسرد
٦ ﴿مصرفا﴾ : أي: مهرباً لإحاطتها بهم من كل جانب ولا ملجأ ولا معدلا.
266
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عداوة إبليس وذريته لبني آدم.
٢- العجب من بني آدم كيف يطيعون عدوهم ويعصون ربهم!!
٣- لا يستحق العبادة أحد سوى الله عز وجل لأنه الخالق لكل معبود مما عُبِدَ من سائر المخلوقات.
٤- بيان خزي المشركين يوم القيامة حيث يطلب إليهم أن يدعوا شركاءهم لإغاثتهم فيدعونهم فلا يستجيبون لهم.
٥- جمع الله تعالى المشركين وما كانوا يعبدون من الشياطين في موبق واحد في جهنم وهو وادي من شر أودية جهنم وأسوأها.
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (٥٥) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا (٥٨)
267
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا (٥٩)
شرح الكلمات:
صرفنا: أي بيّنا وكررنا البيان
من كل مثل: المثل الصفة المستغربة العجيبة.
جدلاً: أي مخاصمة بالقول.
سنة الأولين: أي العذاب بالإبادة الشاملة والاستئصال التام.
قبلا: عياناً ومشاهدة.
ليدحضوا به الحق: أي يبطلوا به الحق.
هزواً: أي مهزوءاً به.
أكنة: أغطية.
وفي آذانهم وقراً: أي ثقلاً فهم لا يسمعون.
موئلاً: أي مكاناً يلجأون إليه.
لمهلكهم موعداً: أي وقتاً معيناً لإهلاكهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان حجج الله تعالى على عباده ليؤمنوا به ويعبدوه وحده فينجوا من عذابه ويدخلوا دار كرامته فقال تعالى: ﴿ولقد صرفنا١ في هذا القرآن من كل مثل﴾ أي ضربنا فيه الأمثال الكثيرة وبيّنا فيه الحجج العديدة، ﴿وصرفنا فيه﴾ من الوعد والوعيد ترغيباً وترهيباً، وقابلوا كل ذلك بالجحود والمكابرة، ﴿وكان الإنسان٢ أكثر شيء جدلاً﴾ فأكثرهم الإنسان يصرفه في الجدل والخصومات حتى لا يذعن للحق ويسلم به ويؤديه إن كان عليه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى: (٥٤) أما الآية الثانية فقد أخبر تعالى فيها أن الناس ما منعهم ﴿أن يؤمنوا إذ جاءهم
١ قال القرطبي: يحتمل أي: هذا الكلام وجهين: أحدهما ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية والثاني: ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وما في التفسير لم يخرج عن هذا فتأمّله.
٢ يحتمل اللفظ الكافر لقوله تعالى: {ويجادل الذين كفروا بالباطل﴾ ويحتمل المسلم إلاّ أنه في الكافر أظهر وأكثر وروي مسلم عن علي رضي الله عنه "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرقه وفاطمة فقال: ألا تصلون؟ فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قلت له ذلك ثمّ سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: ﴿وكان الإنسان أكثر شيء جدلا﴾.
268
الهدى} وهو بيان١ طريق السعادة والنجاة بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الكفر والشرك وسوء الأعمال ﴿ويستغفروا ربهم إلاّ أن تأتيهم سنة الأولين﴾ بعذاب الاستئصال والإبادة الشاملة، ﴿أو يأتيهم﴾ عذاب يوم القيامة معاينة٢ وهو معنى قوله تعالى: ﴿أو يأتيهم العذاب قبلاً٣﴾ وحينئذ لا ينفع الإيمان. وقوله تعالى: ﴿وما نرسل المرسلين إلاّ مبشرين ومنذرين﴾ أي دعاة هداة يبشرون من آمن وعمل صالحاً بالجنة وينذرون من كفر، وعمل سوءاً بالنار. فلم نرسلهم جبارين ولم نكلفهم بهداية الناس أجمعين، لكن الذين كفروا يتعامون عن هذه الحقيقة ويجادلون ﴿بالباطل ليدحضوا به الحق﴾. ﴿واتخذوا﴾ آيات الله وحججه ﴿وما أنذروا﴾ به من العذاب اللازم لكفرهم وعنادهم اتخذوه سخرية وهزءاً يهزءون به ويسخرون منه وبذلك أصبحوا من أظلم الناس. وهو ما قررته الآية (٥٧) إذ قال تعالى فيها: ﴿ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه﴾ أي من الإجرام والشر والشرك. اللهم إنه لا أحد أظلم من هذا الإنسان الكافر العنيد. ثم ذكر تعالى سبب ظلم وإعراض ونسيان هؤلاء الظلمة المعرضين الناسين وهو أنه تعالى حسب سنته فيمن توغل في الشر والظلم والفساد يجعل على قلبه كناناً يحيطه به فيصبح لا يفقه شيئاً. ويجعل في أذنيه ثقلاً فلا يسمع الهدى. ولذا قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً﴾ أي بعد ما جعل على قلوبهم من الأكنة وفي آذانهم من الوقر ﴿أبداً﴾.
وقوله تعالى: ﴿وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا﴾ أي لو يؤاخذ هؤلاء الظلمة المعرضين ﴿لعجل لهم العذاب﴾، ولكن مغفرته ورحمته تأبيان ذلك وإلاّ لعجل لهم العذاب فأهلكهم أمامكم وأنتم تنظرون. ولكن ﴿لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً٤﴾ يئلون إليه ولا ملجأ يلجأون إليه. ويرجح أن يكون ذلك يوم بدر لأن السياق في الظلمة المعاندين المحرومين من هداية الله كأبي جهل وعقبة ابن أبي معيط والأخنس بن شريق، هذا أولاً. وثانياً قوله تعالى: ﴿وتلك٥ القرى أهلكناهم لما ظلموا﴾ يريد أهل القرى من قوم هود وقوم صالح وقوم لوط.
١ أي: بواسطة القرآن والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢ أي: عياناً، وفسّره بعضهم بعذاب السيف يوم بدر.
٣ قراءة الجمهور: (قبلا) بكسر القاف أي: المقابل الظاهر، وقراء (قُبلا) بضم القاف والباء وهو جمع قبيل أي: يأتيهم العذاب أنواعاً متعدّدة.
٤ ﴿موئلا﴾ : أي: منجىً أو محيصاً يقال: وأل يئل وألاّ وؤولاً أي: لجأ تقول العرب: لا وألت نفسه أي: لا نجت ومنه قول الشاعر:
لا وألت نفسك خليتها
للعامريين ولم تكلَم
٥ تلك: مبتدأ وأهلكناهم الخبر، ويصح أن تكون تلك في محل نصب والعامل: أهلكنا نحو: زيداً ضربته.
269
﴿وجعلنا لمهلكهم موعداً﴾ أي لهلاكهم موعداً محدداً فكذلك هؤلاء المجرمون من قريش، وقد أهلكهم ببدر ولعنهم إلى الأبد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- لقد أعذر الله تعالى إلى الناس بما يبين في كتابه من الحجج وما ضرب فيه من الأمثال.
٢- بيان غريزة الجدل في الإنسان والمخاصمة.
٣- بيان مهمة الرسل وهي البشارة والنذارة وليست إكراه الناس على الإيمان.
٤- بيان عظم ظلم من يُذَكَّرُ بالقرآن فيعرض ويواصل جرائمه ناسياً ما قدمت يداه.
٥- بيان سنة الله في أن العبد إذا اواصل الشر والفساد يحجب عن الإيمان والخير ويحرم الهداية أبداً حتى يهلك كافراً ظالماً فيخلد في العذاب المهين.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (٦٢) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (٦٣) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (٦٤) فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (٦٥) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ
270
مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (٦٩)
شرح الكلمات:
وإذ قال موسى لفتاه: أي أذكر إذ قال موسى بن عمران نبي بني إسرائيل لفتاه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف عليه السلام.
مجمع البحرين: أي حيث التقى البحران بحر فارس وبحر الروم.
حقباً: الحقب الزمن وهو ثمانون سنة والجمع أحقاب.
سبيله في البحر سرباً: أي طريقه في البحر سرباً أي طريقاً كالنفق.
فلما جاوزا: أي المكان الذي فيه الصخرة ومنه اتخذ الحوت طريقه في البحرسرباً.
في البحر عجباً: أي عجباً لموسى حيث تعجب من إحياء الحوت واتخاذه في البحر طريقاً كالنفق في الجبل.
قصصاً: أي يتتبعان آثار أقدامهما.
عبداً من عبادنا: هو الخضر عليه السلام.
مما علمت رشداً: أي ما هو رشاد إلى الحق ودليل على الهدى.
ما لم تحط به خبراً: أي علماً.
ولا أعصي لك أمراً: أي انتهى إلى ما تأمرني به وإن لم يكن موافقاً هواي.
معنى الآيات:
هذه قصة موسى١ مع الخضر عليهما السلام وهي تقرر نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتؤكدها. إذ مثل هذا القصص الحق لا يتأتى لأحد أن يقصه ما لم يتلقه وحياً من الله عز وجل. قال تعالى: ﴿وإذ قال موسى﴾ أي أذكر يا رسولنا تدليلاً على توحيدنا ولقائنا ونبوتك. إذ قال موسى بن عمران نبينا إلى بني إسرائيل لفتاه٢ يوشع بن نون ﴿لا أبرح﴾ أي سائراً ﴿حتى أبلغ مجمع٣ البحرين﴾ حيث أرشدني ربي إلى لقاء عبدٍ هناك من عباده هو أكثر مني علماً حتى
١ ذهب نوف البكالي إلى أن موسى هذا هو موسى بن منشا بن يوسف عليه السلام وردّ هذا عليه ابن عباس رضي الله عنهما رداً عنيفاً كما في البخاري فالصحيح أنه موسى بن عمران رسول الله إلى بني إسرائيل.
٢ اختلف في فتى موسى مَنْ هو؟ قيل: إنه كان شاباً يخدمه ولذا أطلق عليه لفظ الفتى على جهة حسن الأدب، قال ابن العربي. ظاهر القرآن أنه عبد وما دام صح الحديث بأنه يوشع بن نون فلا حاجة إلى البحث والتنقيب.
٣ أي ملتقاهما. وهما بحر الأردن وبحر القلزم على الراجح الصحيح.
271
اتعلم منه علماً أزيده على علمي، ﴿أو أمضي حقباً١﴾ أي أواصل سيري زمناً طويلاً حتى أظفر بهذا العبد الصالح لأتعلم عنه. قوله تعالى: ﴿فلما بلغا مجمع بينهما﴾ أي بين البحرين وهما بحر الروم وبحر فارس عند باب المندب حيث التقى البحر الأحمر والبحر الأبيض. أو البحر الأبيض والأطلنطي عند طنجة والله أعلم بأيهما أراد. وقوله ﴿نسيا حوتهما﴾ أي نسي الفتى الحوت، إذ هو الذي كان يحمله، ولكن نسب النسيان إليهما جرياً على المتعارف من لغة العرب٢، وهذا الحوت قد جعله الله تعالى علامة لموسى على وجود الخضر حيث يفقد الحوت، إذ القصة كما في البخاري تبتدىء بأن موسى خطب يوماً في بنى إسرائيل فأجاد وأفاد فأعجب به شاب من بني إسرائيل فقال له: هل يوجد من هو أعلم منك يا موسى؟ فقال: لا. فأوحى إليه ربه فوراً بلى عبدنا خضر، فتاقت نفسه للقياه للتعلم عنه، فسأل ربه ذلك، فأرشده إلى مكان لقياه وهو مجمع البحرين، وجعل له الحوت علامة فأمره أن يأخذ طعامه حوتاً وأعلمه أنه إذا فقد الحوت فثم يوجد عبد الله خضر ومن هنا لما بلغا مجمع البحرين واستراحا فنام موسى٣ والفتى شبه نائم وإذا بالحوت يخرج من المكتل "وعاء" ويشق طريقه إلى البحر فينجاب عنه البحر فيكون كالطاق أو النفق آية لموسى. ويغلب النوم على يوشع فينام فلما استراحا قاما مواصلين سيرهما ونسي الفتى وذهب من نفسه خروج الحوت من المكتل ودخوله في البحر لغلبة النوم فلما مشيا مسافة بعيدة وشعرا بالجوع وقد جاوزا المنطقة التي هي مجمع البحرين٤ قال موسى للفتى ﴿آتنا٥ غداءنا﴾ وعلل ذلك بقوله: ﴿لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً﴾ أي تعباً. هنا قال الفتى لموسى ما قصَّ الله تعالى: قال مجيباً لموسي ﴿أرأيت﴾ أي أتذكر ﴿إذ أوينا إلى الصخرة﴾ التي استراحا عندها ﴿فإني نسيت الحوت﴾ وقال كالمعتذر، ﴿وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن أذكره٦، واتخذ سبيله﴾ أي طريقه ﴿في البحر عجباً﴾ أي حيي بعد موت
١ قال النحاس: الحقب: زمان من الدهر مبهم غير محدود وجمعه أحقاب وورد الحقب مقدراً بثمانين سنة، إلاّ أنه في قول موسى هذا مراده الأوّل وهو زمن غير محدود.
٢ نحو قوله: ﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ مع أنه لا يخرج إلاّ من البحر الملح ونحو قوله: ﴿يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم﴾ مع العلم أن الرسل من الإنس فقط.
٣ في البخاري: أن موسى عليه السلام قال ليوشع لا أكلفك إلاّ أن تخبرني حيث يفارقك الحوت قال الفتى: ما كلّفت كثيراً.
٤ هذا يُرجح أن يكون البحران: نهر الأردن وبحيرة طبريّة.
٥ في الآية دليل على وجوب حمل الزاد في السفر ففي هذا رد على المتصوفة الذين يخرجون بلا زاد بدعوى التوكل ثمّ هم يسألون الناس، وشاهد هذا آية البقرة إذ نزلت في أناس من اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون فنزل قوله تعالى: ﴿وتزودّوا..﴾ الآية.
٦ أن: وما دخلت عليه تسبك بمصدر فيقال: وما أنساني ذكره إلاّ الشيطان.
272
ومشى حتى انتهى إلى البحر وانجاب له البحر فكان كالسرب فيه أي النفق فأجابه مرسى بما قص تعالى: ﴿قال ذلك ما كنا نبغ﴾ وذلك لأن الله تعالى جعل لموسى فقدان الحوت علامة على مكان الخضر الذي يوجد فيه ﴿فارتدا﴾ أي رجعا ﴿على آثارهما قصصا﴾ أي يتتبعان آثار أقدامهما ﴿فوجدا﴾ خضراً كما قال تعالى: ﴿فوجدا عبداً١ من عبادنا﴾ وهو خضر ﴿آتيناه رحمة من عندنا﴾ أي نبوة ﴿وعلمناه من لدنا علماً﴾ وهو علم غيب خاص به ﴿قال له موسي﴾ مستعطفاً له ﴿هل أتبعك على أن تعلمني هما علمت رشداً﴾ أي مما علمك الله رشداً أي رشاداً يدُلني على الحق وتحصل لي به هداية فأجابه خضر بما قال تعالى: ﴿قال إنك لن تستطيع معي صبراً﴾ يريد أنه يرى منه أموراً لا يقره عليها وخضر لابد يفعلها فيتضايق موسى لذلك ولا يطيق الصبر، وعلل له عدم استطاعته الصبر بقوله ﴿وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً﴾ أي علماً كاملاً. فأجابه موسى وقد صمم على الرحلة لطلب العلم مهما كلفه الثمن فقال ﴿ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً﴾ أي سأنتهي إلى ما تأمرني وإن لم يكن موافقاً لما أحب وأهوى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- عتب الله تعالى على رسوله موسى عليه السلام عندما سئل هل هناك من هو أعلم منك فقال لا وكان المفروض أن يقول على الأقل الله أعلم. فعوقب لذلك فكلف هذه الرحلة الشاقة.
٢- استحباب الرفقة في السفر، وخدمة التلميذ للشيخ، إذ كان يوشع يخدم موسى بحمل الزاد.
٣- طروء النسيان على الإنسان مهما كان صالحاً.
٤- مراجعة الصواب بعد الخطأ خير من التمادي على الخطأ ﴿فارتدا على آثارهما قصصا﴾.
٥- تجلى قدرة الله تعالى في إحياء الحوت بعد الموت، وانجياب الماء عليه حتى كان كالطاق فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً. وبه استدل موسى أي بهذا العجب على مكان خضر فوجده هناك.
٦- استحباب طلب المزيد من العلم مهما كان المرء عالماً وهنا أورد الحديث التالي وهو خير من قنطار ذهباً لمن حفظه وعمل به وهو قول ابن عباس رضي الله عنه قال سأل موسى ربه: قال رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبيدك أقضى؟ قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال: أي رب أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى
١ في البخاري: "فوجدا خضراً على طنْفَسة خضراء على كبد البحر مسجىَّ بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه فسلّم عليه موسى فكشف عن وجهه فقال: هل بأرضك من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى.." الخ.
273
علم نفسه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. وللأثر بقية ذكره ابن جرير عند تفسير هذه الآيات.
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (٧٠) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (٧١) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (٧٤)
شرح الكلمات:
ذكراً: أي بياناً وتفصيلاً لما خفي عليك.
لقد جئت شيئاً إمراً: أي فعلت شيئاً منكراً.
لا ترهقني: أي لا تغشني بما يعسر علي ولا أطيق حمله فتضيق علي صحبتي إياك.
نفساً زكية: أي طاهرة لم تتلوث روحها بالذنوب.
بغير نفس. أي بغير قصاص.
نكراً: الأمر الذي تنكره الشرائع والعقول من سائر المناكر! وهو المنكر الشديد النكارة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام والعالم الذي أراد أن يصحبه لطلب العلم منه وهو خضر. قوله تعالى: ﴿قال﴾ أي خضر ﴿فإن اتبعتني﴾ مصاحباً لي لطلب العلم ﴿فلا تسألني١ عن شيء﴾ أفعله مما لا تعرف له وجهاً شرعياً ﴿حتى أحدث لك منه ذكراً﴾ أي حتى أكون أنا الذي يبين لك حقيقته وما جهلت منه. وقوله تعالى: ﴿فانطلقا﴾ أي
١ في قول موسى: ﴿هل أتبعك﴾ من حسن الأدب والتلطف في السؤال وتواضع الطالب للشيخ الشيء الكثير، وفي الآية دليل على أن المتعلم تابع للعالم وإن تفاوتت مرتبتهما، وما كان موسى إلاّ أفضل من خضر ولكنه بحكم أنه تابع للخضر العالم تواضع في لطف.
274
بعد رضا موسى بمطلب خضر انطلقا يسيران في الأرض١ فوصلا ميناء من المواني البحرية، فركبا سفينة كان خضر يعرف أصحابها فلم يأخذوا منهما أجر الإركاب فلما أقلعت السفينة، وتوغلت في البحر أخذ خضر فأساً فخرق السفينة، فجعل موسى يحشو بثوب له الخرق ويقول: ﴿أخرقتها لتغرق أهلها﴾ على أنهما حملانا بدون نَوْل ﴿لقد جئت شيئاً إمراً﴾ أي أتيت يا عالم منكراً فظيعاً فأجابه خضر بما قص تعالى: ﴿قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً﴾ فأجاب موسى بما ذكر تعالى عنه: ﴿قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً﴾ أي لا تعاقبني بالنسيان فإن الناسي لا حرج عليه. وكانت هذه من موسى٢ نسياناً حقاً ولا تغشني بما يعسر علي ولا أطيقه فأتضايق من صحبتي إياك.
قال تعالى: ﴿فانطلقا﴾ بعد نزولهما من البحر إلى البر فوجدا غلاماً جميلاً وسيماً يلعب مع الغلمان فأخذه خضر جانباً وأضجعه٣ وذبحه فقال له موسى بما أخبر تعالى عنه: ﴿أقتلت نفساً زكية بغير نفس﴾ زاكية طاهرة لم يذنب صاحبها ذنباً تتلوث به ش روحه ولم يقتل نفساً يستوجب بها القصاص ﴿لقد جئت شيئاً نكراً﴾ أي أتيت منكراً عظيماً بقتلك نفساً طاهرة لم تذنب ولم تكن هذه نسياناً من موسى بل كان عمداً إذ لم يطق فعل منكر كهذا لم يعرف له وجهاً٤ ولا سبباً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- جواز الاشتراط في الصحبة وطلب العلم وغيرهما للمصلحة الراجحة.
٢- جواز ركوب السفن في البحر.
٣- مشروعية إنكار المنكر على من علم أنه منكر.
٤- رفع الحرج عن الناس.
٥- مشروعية القصاص وهو النفس بالنفس.
١ في البخاري: "فانطلقا يسيران على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول أي (أجرة) ".
٢ في البخاري: "قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت الأولى من موسى نسياناً قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة في البحر فقال له الخضر ما علمي وعلمك من علم الله إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر" حرف السفينة: طرفها، وحرف كل شيء طرفه.
٣ في الترمذي: "أنه أخذ رأسه بيده فاقتلعه فقتله" وفي بعض الروايات "أنه أخذ حجراً فضرب بها رأس الغلام فقتله" وما في التفسير أصح وأوضح.
٤ سيأتي بيان علّة القتل وأنها حق والقتل كان بإذن الله تعالى وما مات أحد ولا قتل إلاّ بإذن الله تعالى.
275
الجزء السادس عشر
قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا (٧٥) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا (٧٦) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (٧٨)
شرح الكلمات:
قال ألم أقل لك: أي قال خضر لموسى عليهما السلام.
بعدها: أي بعد هذه المرة.
فلا تصاحبني: أي لا تتركني أتبعك.
من لدني عذراً: أي من قبلي (جهتي) عذراً في عدم مصاحبتي لك.
أهل قرية: مدينة أنطاكية.
استطعما أهلها: أي طلبا منهم الطعام الواجب للضيف.
يريد أن ينقض: أي قارب السقوط لميلانه.
فأقامه: أي الخضر بمعنى أصلحه حتى لا يسقط.
أجرًا: أي جعلا على إقامته لإصلاحه.
هذا فراق بيني وبينك: أي قولك هذا ﴿لو شئت لاتخذت عليه أجراً﴾ هو نهاية الصحبة وبداية المفارقة.
بتأويل: أي تفسير ما كنت تنكره على حسب علمك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في محاورة الخضر مع موسى عليهما السلام، فقد تقدم إنكار موسى على
276
الخضر قتله الغلام بغير نفس، ولا جرم إرتكبه، وبالغ موسى في إنكاره إلى أن قال: ﴿لقد جثت شيئاً نكراً١﴾ فأجابه خضر بما أخبر تعالى به في قوله: ﴿ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا﴾ لما سألتني الصحبة للتعليم، فأجاب موسى بما أخبر تعالى به في قوله: ﴿قال إن سألتك عني شيء بعدها﴾ أي بعد هذه المرة ﴿فلا تصاحبني﴾ أي اترك صحبتي فإنك ﴿قد بلغت من٢ لدني﴾ أي من جهتي وقبلي عذراً في تركك إياي.
قال تعالى: ﴿فانطلقا﴾ في سفرهما ﴿حتى إذا أتيا أهل قرية﴾ (أي مدينة) قيل إنها انطاكية ووصلاها في الليل والجو بارد فاستطعما أهلها أي طلبا منهم طعام الضيف الواجب له ﴿فأبوا أن يضيفوهما٣، فوجدا فيها﴾ أي في القرية ﴿جداراً يريد أن ينقض﴾ أي يسقط فأقامه الخضر وأصلحه فقال موسى له: ﴿لو شئت لاتخذت عليه أجراً﴾ أي جعل مقابل إصلاحه، لاسيما أن أهل هذه القرية لم يعطونا حقنا من الضيافة. وهنا قال الخضر لموسى: ﴿هذا فراق بيني وبينك﴾ لأنك تعهدت إنك إذا سألتني بعد حادثة قتل الغلام عن شيء أن لا تطلب صحبتي وها أنت قد سألتني، فهذا وقت٤ فراقك إذاً ﴿سأنبئك﴾ أي أخبرك ﴿بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً﴾ من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب الوفاء بما التزم به الإنسان لآخر.
٢- وجوب الضيافة لمن استحقها.
٣- جواز التبرع بأي خير أو عمل ابتغاء وجه الله تعالى.
١ اختلف في أيهما أبلغ: إمراً أو نكراً، ورجّح بعضهم أن إمراً فيما لم يحدث من فعل منكر فيكون خاصاً بالمستقبل، ومعناه: أمر فظيع مهيل ونكراً: يكون فيما وقع فهو بيّن الفساد بالغ في النكر واجب الإنكار.
٢ قرىء: ﴿من لدني﴾ بتخفيف الدال وقرىء في السبع بتشديدها وقرىء عذراً بسكون الذال وقرىء في السبع أيضاً بضمهما، وضمّ العين قبلها كنُذُر ونُذُر.
٣ في الحديث: "إنهم كانوا لئاماً بخلاء" وهو تعليل لعدم استضافة موسى والخضر.
٤ في البخاري: هنا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما".
277
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (٨٢)
شرح الكلمات:
لمساكين: جمع مسكين وهو الضعيف العاجز عن الكسب.
يعملون في البحر: أي يؤجرون سفينتهم للركاب.
أعيبها: أي أجعلها معيبة حتى لا يرغب فيها.
غصباً: أي قهراً.
أن يرهقهما طغياناً وكفراً: أي يغشاهما: ظلماً وجحوداً
وأقرب رحما: أي رحمة إذ الرحم والرحمة بمعنى واحد.
وما فعلته عن أمري: أي عن اختيار مني بل بأمر ربي جل جلاله وعظم سلطانه.
معنى الآيات:
هذا آخر حديث موسى والخضر عليهما السلام، فقد واعد الخضر موسى عندما أعلن له عن فراقه أن يبين له تأويل ما لم يستطع عليه صبراً، وهذا بيانه، قال تعالى (حكاية عن
278
الخضر) ﴿أما السفينة﴾ التي خرقتُها وأنكرتَ عليَّ ذلك ﴿فكانت١ لمساكين يعملون في البحر﴾ يؤجرون سفينتهم بما يحصل لهم بعض القوت ﴿فأردت أن أعيبها٢﴾ لا لأغرق أهلها، ﴿وكان وراءهم٣ ملك٤﴾ ظالم ﴿يأخذ كل سفينة﴾ صالحة ﴿غصباً﴾ أي قهراً وإنما أردت أن أبقيها لهم إذ الملك المذكور لا يأخذ إلاّ السفن الصالحة ﴿وأمّا الغلام﴾ الذي قتلته وأنكرتَ عليَّ قتله ﴿فكان أبواه مؤمنين فخشينا﴾ إن كبر ﴿أن يرهقهما٥﴾ أي يُغشيهما ﴿طغياً وكفراً فأردنا أن يبدلهما٦ ربهما خيراً منه زكاة﴾ أي طهراً وصلاحاً ﴿وأقرب٧ رحماً﴾ أي رحمة وبراً بهما فلذا قتلته، ﴿وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما﴾ أي سن الرشد ﴿ويستخرجا كنزهما رحمة من٨ ربك﴾ أي كان ذلك رحمة ﴿وما فعلته عن أمري﴾ أي عن إرادتي واختياري بل كان بأمر الله وتعليمه. ﴿ذلك﴾ أي هذا ﴿تأويل ما لم تسطع عليه صبراً﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان ضروب من خفي ألطاف الله تعالى فعلى المؤمن أن يرضى بقضاء الله تعالى وإن كان ظاهره ضاراً.
٢- بيان حسن تدبير الله تعالى لأوليائه بما ظاهره عذاب ولكن في باطنه رحمة.
٣- مراعاة صلاح الأباء في إصلاح حال الأبناء.
١ بهذه الآية استدل من قال من الفقهاء بأنّ المسكين أقلّ فقراً من الفقير لأنّ من ملك سفينة لا يعتبر فقيراً، وردّ هذا بأنّ أصحاب السفينة كانوا سبعة أفراد، وخمسة منهم زمنى ورثوا السفينة من أبيهم وبذا هم فقراء مساكين.
٢ أعيبها: أي أجعلها ذات عيب، يقال: عبت الشيء فعاب أي: صار ذا عيب فهو معيب.
٣ جائز أن يكون الوراء على حقيقته أي: خلفهم، وإذا رجعوا أخذ السفينة منهم، وجائز أن يكون وراء بمعنى أمام، ويؤيده قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير: ﴿وكان أمامهم ملِك﴾.
٤ قيل: الملك هو هدد بن بدد، واسم الغلام المقتول: جيسور.
٥ وفسّر أيضاً: يجشمهما ويحملهما على الرهق وهو الجهل والمعنى: أنه يحملهما حبه على الغلو فيه فيطغيان ويكفران.
٦ الرحم والرحمة بمعنى واحد قال الشاعر:
وكيف بظلم جارية
ومنها اللّين والرُّحم
٧ قيل: اسم الغلامين: أصرم وصريم، وكان الكنز ذهباً وفضة لحديث الترمذي عن أبي الدرداء، وشاهده من اللغة فإنّ الكنز: المال المدفون المدّخر، وجائز أن يكون مع المال كتاب فيه علم.
٨ تسطع وتستطيع بمعنى..
279
٤- كل ما أتاه الخضر كان بوحي إلهي وليس هو مما يدعيه جُهال الناس ويسمون بالعلم اللَّدنيِّ وأضافوه إلى من يسمونهم الأولياء، وقد يسمونه كشفاً، ويؤكد بطلان هذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الخضر قال لموسى: أنا على علم مما علمني ربي وأنت على علم مما علمك الله وإن علمي وعلمك إلى علم الله إلاّ كما يأخذ الطائر بمنقاره من البحر.
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٨٦) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (٩٠) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣)
شرح الكلمات:
ويسألونك: أي كفار قريش بتعليم يهود لهم.
ذي القرنين: الإسكندر باني الاسكندرية المصرية الحميري أحد الملوك التبابعة وكان عبداً صالحاً.
280
سأتلوا عليكم منه ذكراً: سأقص عليكم من حاله خيراً يحمل موعظة وعلماً.
مكنا له في الأرض: بالحكم والتصرف في ممالكها.
من كل شيء سبباً: أي يحتاج إليه سبباً موصلاً إلى مراده.
فأتبع سبباً: أي فأتبع السبب سبباً آخر حتى انتهى إلى مراده.
تغرب في عين حمئة: ذات حماة وهي الطين الأسود وغروبها إنما هو في نظر العين وإلاّ فالشمس في السماء والبحر في الأرض.
قوماً: أي كافرين.
عذاباً نكراً: أي عظيماً فظيعاً.
يسرا: أي ليناً من القول سهْلا من العمل.
مطلع الشمس: أي مكاناً تطلع منه.
قوم لم نجعل لهم من دونها سترا: القوم هم الزِّنْج ولم يكن لهم يومئذ ثياب يلبسونها ولا منازل يسكنونها وإنما لهم أسراب في الأرض يدخلون فيها.
كذلك: أي الأمر كما قلنا لك ووصفنا.
بين السدين: السدان جبلان شمال شرق بلاد الترك سد ذو القرنين ما بينهما فقيل فيهما سدان.
قوماً لا يكادون يفقهون قولاً: لا يفهمون كلام من يخاطبهم إلاّ بشدة وبطء وهم يأجوج ومأجوج.
معنى الآيات:
هذه قصة العبد الصالح ذي القرنين الحمْيَري التُّبعي على الراجح من أقوال العلماء، وهو الأسكندر باني الأسكندرية المصرية، ولأمر ما لقَّب بذي القرنين١، وكان قد تضمن سؤال قريش النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإيعاذ من يهود المدينة ذا القرنين إذ قالوا لقريش سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فإن أجابكم عنها فإنه نبي، وإلاّ فهو غير نبي فَرَوْا رأيكم فيه فكان الجواب عن الروح في سورة الإسراء وعن الفتية وذي القرنين في سورة الكهف هذه وقد تقدم.
١ اختلفوا في اسم ذي القرنين على أربعة أقوال هي: عبد الله أو الاسكندر أو عبّاس أو جابر، كما اختلفوا في تلقيبه بذي القرنين على عشرة أقوال أمثلها أنه ملك فارس والروم أو أنه كان له ضفيرتان من شعر رأسه فلقب لذلك بذي القرنين، واختلف في نبوته، والظاهر أنه كان نبيًّا يوحى إليه وكان ملكاً حاكماً.
281
الحديث التفصيلي عن أصحاب الكهف في أول السورة وهذا بدء الحديث المتضمن للإجابة عن الملك ذي القرنين عليه السلام قال تعالى: ﴿ويسألونك﴾ يا نبينا ﴿عن ذي القرنين قل﴾ للسائلين من مشركي قريش ﴿سأتلوا عليكم منه١ ذكراً﴾ أي سأقرأ عليكم من أمره وشأنه العظيم ذكراً خبراً يحمل الموعظة والعلم والمعرفة: وقوله تعالى: ﴿إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً﴾ هذه بداية الحديث عنه فأخبر تعالى أنه مكن له في الأرض بالملك والسلطان، وأعطاه من كل شيء يحتاج إليه في فتحه الأرض ونشر العدل والخير فيها سبباً يوصله إلى ذلك، وقوله ﴿فأتبع سبباً﴾ ٢ حسب سنة الله في تكامل الأشياء فمن صنع إبرة وتابع الأسباب التي توصل بها إلى صنع الإبرة فإنه يصنع المسلة، وهكذا تابعه بين أسباب الغزو والفتح والسير في الأرض ﴿حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة﴾ وهي على ساحل المحيط الأطلنطي، وكونها تغرب فيها هو بحسب رأي العين، وإلاّ فالشمس في السماء والعين الحمئة٣ والمحيط إلى جنبها في الأرض وقوله تعالى: ﴿ووجد عندها﴾ أي عند تلك العين في ذلك الإقليم المغربي ﴿قوماً﴾ أي كافرين غير مسلمين فأذن الله تعالى له في التحكم والتصرف فيهم إذ يسر له أسباب الغلبة عليهم وهو معنى قوله تعالى: ﴿قلنا يا ذا القرنين﴾ وقد يكون نبياً ويكون قوله الله تعالى هذا له وحياً وهو ﴿إما أن تعذب﴾ بالأسر والقتل، ﴿وإما أن تتخذ فيهم حسنا﴾ وهذا بعد حربهم والتغلب عليهم فأجاب ذو القرنين ربه بما أخبر تعالى به: ﴿أما من ظلم٤﴾ أي بالشرك والكفر ﴿فسوف نعذبه﴾ بالقتل والأسر، ﴿ثم يرد إلى ربه﴾ بعد موته ﴿فيعذبه عذاباً نكراً﴾ أي فظيعاً أليمًا. ﴿وأما من آمن وعمل صالحاً﴾ أي أسلم وحسن إسلامه ﴿فله جزاء٥﴾ على إيمانه وصالح أعماله ﴿الحسنى﴾ أي الجنة في الآخرة ﴿وسنقول له من أمرنا يسراً﴾ فلا نغلظ له في
١ ﴿ذكراً﴾ أي: خيراً يتضمن ذكره.
٢ أصل: السبب: الحبل واستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء، وأوتي ذو القرنين من كل شيء علماً يتسبب به إلى ما يريد فتوصّل إلى فتح البلاد وقهر الأعداء وقرىء فأتبع سببا بقطع الهمزة وقرأ أهل المدينة فاتَّبع سبباً بهمزة وصل وتشديد التاء.
٣ قرأ الجمهور: (حمئة) من الحماة أي كثيرة الحمأة وهي الطين الأسود وقرأ بعضهم حامية أي: حارة وجائز أن تكون حامية من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء.
٤ أي: قال لأولئك القوم أمّا مَنْ ظلم.. الخ.
٥ قراءة أهل المدينة (فله جزاءُ الحسنى) برفع جزاء بدون تنوين والحسني مضاف إليه والخبر تقديره: عند الله. وقرأ غيرهم بنصب جزاء على التمييز أي: فله الحسنى جزاء ًويجوز أن يكون منصوباً على المصدرية.
282
القول ولا نكلفه ما يشق عليه ويرهقه.
وقوله تعالى: ﴿ثم أتبع سبباً﴾ أي ما تحصل عليه من القوة في فتح المغرب استخدمه في مواصلة الغزو والفتح في المشرق ﴿حتى إذا بلغ مطلع الشمس١ وجدها تطلع على٢ قوم﴾ بدائيين لم تساعدهم الأرض التي يعيشون عليها على التحضر فلذا هم لا يبنون الدور ولا يلبسون الثياب، ولكن يسكنون الكهوف والمغارات والسراديب وهو ما دل عليه قوله تعالى: ﴿لم نجعل لهم من دونها﴾ أي الشمس ﴿سترا﴾. وقوله تعالى: ﴿كذلك٣﴾ أي القول الذي قلنا والوصف الذي وصفنا لك من حال ذي القرنين ﴿وقد أحطنا بما لديه﴾ من قوة وأسباب مادية وروحية ﴿خبراً﴾ أي علماً كاملاً. وقوله تعالى: ﴿ثم أتبع﴾ أي ذو القرنين ﴿سبباً﴾ أي واصل طريقه في الغزو والفتح ﴿حتى إذا بلغ بين السدّين٤﴾ وهما جبلان بأقصى الشمال الشرقي للأرض بنى ذو القرنين بينهما سداً عظيماً حال به دون غزو يأجوج ومأجوج للإقليم المجاور لهم، وهم القوم الذين قال تعالى عنهم ﴿وجد من دونهما٥ قوماً لا يكادون يفقهون قولاً﴾ فلا يفهمون ما يقال لهم ويخاطبون به إلاّ بشدة وبطء كبير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير نبوة النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ هذا جواب آخر أسئلة قريش الثلاثة. قرأه عليهم قرآناً موحى به إليه.
٢- إتباع السبب السبب يصل به ذو الرأي والإرادة إلى تحقيق ما هو كالمعجزات.
٣- قول: ذو القرنين: ﴿أما من ظلم....﴾ الخ يجب أن يكون مادة دستورية يحكم به الأفراد والجماعات لصدقها وإجابتها وموافقتها لحكم الله تعالى ورضاه، ومن الأسف أن
١ المطلع: يجوز فيه كسر الميم وفتحها مثل المنسك والمجزر والمسكن والمنبت هذه يجوز فيها وجهان الكسر والفتح في ميمها.
٢ قال صاحب النوير: والظاهر أنه بلغ ساحل اليابان في حدود منشورياً أو كورياً شرقاً.
٣ جائز أن يكون المعنى: كذلك أمرهم كما قصصنا عليك وهو معنى ما في التفسير وجائز أن يكون كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها كذلك.
٤ قرأ حفص بفتح السين، وقرأ نافع بضمها، ونظير السد في الفتح والضم الضعف والقر والقر.
٥ قوله: من دونهما يعني أمام الدين لا خلفهما إذ خلفهما يأجوج ومأجوج.
283
يعكس هذا القول السديد والحكم الرشيد فيصبح أهل الظلم مكرمين لدى الحكومات، وأهل الإيمان والاستقامة مهانين!!
٤- بيان وجود أمم بدائية إلاّ عهد ما بعد ذي القرنين لا يلبسون ثيابا ولا يسكنون سوى الكهوف والمغارات ويوجد في البلاد الكينية إلى الآن قبائل لا يرتدون الثياب، وإنما يضعون على فروجهم خيوط وسيور لا غير.
٥- تقرير أن هذا الملك الصالح قد ملك الأرض فهو أحد أربعة١ حكموا الناس شرقاً وغرباً.
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (٩٩) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (١٠١)
١ هم: مسلمان وهما ذو القرنين وسليمان عليهما السلام، وكافران وهما: النمرود وبختنصر. كذا قيل والله أعلم.
284
شرح الكلمات:
يأجوج ومأجوج: قبيلتان من أولاد يافث بن نوح عليه السلام والله أعلم.
نجعل لك خرجاً: أي جعلاً مقابل العمل.
سداً: السد بالفتح والضم الحاجز المانع بين شيئين.
ردماً: حاجزاً حصيناً وهو السد.
زبر الحديد: جمع زبرة قطعة من حديد على قدر الحجرة التي يبنى بها.
بين الصدفين: أي صدف الجبلين أي جانبهما.
قطراً: القطر النحاس المذاب.
فما استطاعوا أن يظهروه: أي عجزوا عن الظهور فوقه لعلوه وملاسته.
نقبا: أي فتح ثغرة تحت تحته ليخرجوا معها.
جعله دكا: أي تراباً مساوياً للأرض.
وتركنا بعضهم: أي يأجوج ومأجوج أي يذهبون ويجيئون في اضطراب كموج البحر.
أعينهم في غطاء عن ذكري: أي عن القرآن لا يفتحون أعينهم فيما تقرأه عليهم بغضا له أو أعين قلوبهم وهي البصائر فهي في أكنة لا تبصر الحق ولا تعرفه.
لا يستطيعون سمعاً: لبغضهم للحق والداعي إليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حديث ذي القرنين إذ شكا إليه سكان المنطقة الشمالية الشرقية من الأرض بما أخبر تعالى به عنهم إذ قال: ﴿قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج١ ومأجوج مفسدون في الأرض﴾ أي بالقتل والأكل والتدمير والتخريب، ﴿فهل نجعل لك خرجاً﴾ أي أجراً٢ {على
١ يأجوج ومأجوج: اسمان أعجميان يهمزان ولا يهمزان ولذا قرىء في السبع بهما وهما ابنا يافث بن نوح عليه السلام ورد وصفهم أن صنفاً منهم يفرش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى، ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلاّ أكلوه، ومن مات منهم أكلوه مقدّمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية، وذلك يوم يفتح سدهم ويهدم، وخروجهم من أشراط الساعة الكبرى.
٢ الخرج والخراج: لغتان، وقيل الخرج: ما يعطى تطوعاً والخراج: ما يلزم عطاؤه والمراد به هنا الأجر مقابل العمل المطلوب من إقامة السدّ.
285
أن تجعل بيننا وبينهم سداً} أي حاجزاً قوياً لا يصلون معه إلينا. فأجابهم ذو القرنين بما أخبر الله تعالى به في قوله: ﴿قال ما مكني فيه ربي﴾ من المال القوة والسلطان ﴿خير﴾ أي من جعلكم وخرجكم ﴿فأعينوني١ بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً٢﴾ أي أي سداً قوياً وحاجزاً مانعاً ﴿آتوني زبر الحديد﴾ أي قطع الحديد كل قطعة كالَّلِبنة المضروبة، فجاءوا به إليه فأخذ يضع الحجارة وزبر الحديد ويبْني حتى ارتفع البناء فساوى بين الصدفين جانبي الجبلين، وقال لهم ﴿انفحوا﴾ أي النار على الحديد ﴿حتى إذا جعله نارا﴾ قال آتوني بالنحاس المذاب أفرغ عليه٣ قطراً فأتوه به فأفرغ عليه من القطر ما جعله كأنه صفيحة واحدة من نحاس ﴿فما استطاعوا﴾ أي يأجوج ومأجوج ﴿أن يظهروه﴾ أي يعلوا فوقه، ﴿وما استطاعوا له نقباً﴾ أي خرقاً فلما نظر إليه وهو جبل شامخ وحصن حصين قال هذا من رحمة ربي أي من أثر رحمة ربي عليَّ وعلى الناس وأردف قائلاً ﴿فإذا جاء وعد ربي﴾ وهو خروج يأجوج ومأجوج عند قرب الساعة ﴿جعله دكاً﴾ أي تراباً مساوياً للأرض، ﴿وكان وعد ربي حقاً﴾ وهذا مما وعد به وأنه كائن لا محالة قال تعالى: ﴿وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض﴾ أي مختلطين مضطربين إنسهم٤ وجنهم ﴿ونفخ في الصور﴾ نفخة البعث ﴿فجمعناهم﴾ للحساب والجزاء ﴿جمعاً وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً﴾ حقيقياً يشاهدونها فيه من قرب، ثم ذكر ذنب الكافرين وعلة عرضهم على النار فقال: وقوله الحق: ﴿الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري﴾ أي أعين قلوبهم وهي البصائر فلذا هم لا ينظرون في آيات الله الكونية فيستدلون بها على وجود الله ووجوب عبادته وتوحيده فيها، ولا في آيات الله القرآنية فيهتدون بها إلى أنه لا إله إلاّ الله ويعبدونه بما تضمنته الآيات القرآنية، ﴿وكانوا لا يستطيعون سمعاً﴾ للحق ولما يدعوا إليه رسل الله من الهدى والمعروف
١ القوة: الرجال والمال.
٢ الردم أعظم من السدّ.
٣ جائز أن يكون المراد بالقطر النحاس المذاب وهذا الظاهر، وجائز أن يكون الحديد المذاب والثالث: أنه الصفر والرابع أنه الرصاص. روى أحمد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خلاصته أنّ يأجوج ومأجوج يحفران يومياً السدّ حتى إذا كادوا يخرقونه يقولون غدا نتم حفره وإذا جاء الغد حفروا ولم يقولوا إن شاء الله حتى إذا جاء وعد الله قالوا: إن شاء الله ففتح لهم.
٤ جائز أن يكون المراد بمن يموج بعضهم في بعض: يأجوج ومأجوج وجائز أن يكون الإنس والجن وذلك يوم القيامة.
286
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مشروعية الجعالة للقيام بالمهام من الأعمال.
٢- فضيلة التبرع بالجهد الذاتي والعقلي.
٣- مشروعية التعاون على ما هو خير، أو دفع للشر.
٤- تقرير وجود أمة يأجوج ومأجوج، وأن خروجهم من أشراط الساعة.
٥- تقرير البعث والجزاء.
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦)
شرح الكلمات:
أفحسب الذين كفروا: الاستفهام للتقريع والتوبيخ.
أن يتخذوا عبادي: كالملائكة وعيسى بن مريم والعزير وغيرهم.
أولياء: أرباباً يعبدوهم بأنواع من العبادات.
نزلا: النزل: ما يعد للضيف من قرى وهو طعامه وشرابه ومنامه.
ضل سعيهم: أي بطل عملهم وفسد عليهم فلم ينتفعوا به.
يحسنون صنعا: أي بعمل يعمل يجازون عليه بالخير وحسن الجزاء.
وآيات ربهم: أي بالقرآن وما فيه من دلائل التوحيد والأحكام الشرعية.
ولقائه: أي كفروا بالبعث والجزاء.
وزناً: أي لا نجعل لهم قدراً ولا قيمة بل نزدريهم ونذلهم.
287
ذلك: أي أولئك جزاؤهم جهنم وأطلق لفظ ذلك بدل أولئك، لأنهم بكفرهم وهبوط أعمالهم أصبحوا غثاء كغثاء السيل لا خير فيه ولا وزن له يستحسن أن يشار إليه بذلك.
معنى الآيات:
ينكر تعالى على المشركين شركهم ويوبخهم مقرعاً لهم على ظنهم أن اتخاذهم١ عِبادَهُ من دونه أولياء يعبدونهم كالملائكة حيث عبدهم بعض العرب والمسيح حيث عبده النصارى، والعزير حيث عبده بعض اليهود، لا يغضبه تعالى ولا يعاقبهم عليه. وكيف لا يغضبه ولا يعاقبهم عليه وقد أعد جهنم للكافرين نزلاً أي دار ضيافة لهم فيها طعامهم وفيها شرابهم وفيها فراشهم كما قال تعالى ﴿لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش﴾ هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٠٢) وهي قوله تعالى ﴿أفحسب٢ الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ٣ إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا﴾. وقوله تعالى في الآية الثانية (١٠٣) يخبر تعالى بأسلوب الاستفهام للتشويق للخبر فيقول ﴿قل هل ننبئكم﴾ أيها المؤمنون ﴿بالأخسرين أعمالاً﴾ إنهم ﴿الذين ضل سعيهم٤ في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً﴾ أي عملاً، ويعرفهم فيقول ﴿أولئك الذين كفروا بآيات ربهم﴾ فلم يؤمنوا بها، وبلقاء ربهم فلم يعملوا العمل الذي يرضيه عنهم ويسعدهم في وهو الدين الصحيح والعمل الصالح الذي شرعه الله لعباده المؤمنين به يتقربون به إليه. فلذلك حبطت أعمالهم لأنها شرك وكفر وشر وفساد، ﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً٥﴾ إذ لا قيمة لهم ولا لأعمالهم الشركية الفاسدة الباطلة فإن أحدهم لا يزن جناح بعوضة لخفته.
١ قال ابن عباس رضي الله عنهما إنهم الشياطين. وهو صحيح إذ الشياطين هم الذين زينوا لهم عبادة الملائكة والأنبياء والأولياء والأصنام ودعوهم إلى عبادتهم.
٢ قرىء: (أفحسب) بإسكان السين وضم الباء أي. أفيكفيهم أن يتخذوهم أولياء؟
٣ جواب الاستفهام محذوف تقديره: كلا بل هم أعداء يتبرؤن منهم وجائز أن يكون: ولا أغضب ولا أعاقبهم، وكلا المعنيين يراد.
٤ يدخل في هذا كل من المشركين واليهود والنصارى والحرورية والمراءون بأعمالهم، وكل من يعمل الأعمال، وهو يظن أنه محسن وقد حبطت أعماله لفساد اعتقاده ولمراءاته أو لعمله بما شرع الله كأنواع البدع المكفرّة.
٥ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنه ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال: اقرأوا إن شئتم: ﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً﴾.
288
وأخيراً أعلن تعالى عن حكمه فيهم وعليهم فقال ﴿ذلك١﴾ أي المذكور من غثاء الخلق ﴿جزاؤهم جهنم﴾ وعلل للحكم فقال: ﴿بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً﴾ أي بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات ربهم وبرسله فكان الحكم عادلاً، والجزاء موافقاً والحمد لله رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير شرك من يتخذ الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء آلهة يعبدوهم تحت شعار التقرب إلى الله تعالى والاستشفاع بهم والتوسل إلى الله تعالى بحبهم والتقرب إليهم.
٢- تقرير هلاك أصحاب الأهواء الذين يعبدون الله تعالى بغير ما شرع ويتوسلون إليه بغير ما جعله وسيلة لرضاه وجنته. كالخوارج والرهبان من النصارى والمبتدعة الروافض والإسماعيلية، والنصيرية والدروز ومن إليهم من غلاة المبتدعة في العقائد والعبادات والأحكام الشرعية.
٣- لا قيمة ولا ثقل ولا وزن لعمل لا يوافق رضا الله تعالى وقبوله له، كما لا وزن عند الله تعالى لصاحبه، وإن مات خوفا من الله أو شوقاً إليه.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٠٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (١٠٨) قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩) قُلْ
١ وجائز أن تكون الإشارة بذلك إلى ترك الوزن وخسة القدر والخبر: جزاؤهم جهنم. و (جهنم) بدل من (جزاؤهم) بدلا مطابقاً فيه زيادة توكيد.
289
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)
شرح الكلمات:
كانت لهم: أي جزاء إيمانهم وعملهم الصالح.
الفردوس نزلاً: هو وسط الجنة وأعلاها ونزلاً منزل إكرام وإنعام.
لا يبغون عنها حولا: أي لا يطلبون تحولاً منها لأنها لا خير منها أبداً.
لو كان البحر: أي ماؤه مداداً.
قبل أن تنفد كلمات ربي: أي قبل أن تفرغ.
لنفد البحر: أي ولم تنفد هي أي لم تفرغ.
يرجو لقاء ربه: يأمل وينتظر البعث والجزاء يوم القيامة حيث يلقى ربه تعالى.
ولا يشرك بعبادة ربه أحدا: أي لا يرائي بعمله أحداً ولا يشرك في عبادة الله تعالى غيره تعالى.
معنى الآيات:
بعدما ذكر تعالى جزاء أهل الشرك والأهواء وأنه جهنم ناسب ذكر جزاء أهل الإيمان والتقوى التي هي عمل الصالحات واجتناب المحرمات فقال: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ أي صدقوا الله ورسوله وآمنوا بلقاء الله، ووعده لأوليائه، ووعيده لأعدائه من أهل الشرك والمعاصي، وعملوا الصالحات فأدوا الفرائض والواجبات وسارعوا في النوافل والخيرات هؤلاء ﴿كانت لهم﴾ في علم الله وحكمه ﴿جنات الفردوس١﴾ أي بساتين الفردوس منزلا ينزلونه ودار كرامة يكرمون فيها وينعمون، والفردوس أعلى الجنة وأوسطها قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واصفاً لها ومرغباً فيها وقد ارتادها وانتهى إلى مستوى فوقها ليلة الإسراء والمعراج قال: "إن سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى، ومنه تفجر أنهار الجنة"، كما في الصحيح٢، وقوله تعالى {خالدين فيها لا يبغون
١ روى الشيخان من حديث أبي موسى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "جنان الفردوس أربع: ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن".
٢ وروى البخاري وغيره عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها، ومنها تفجر أنهار الجنة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس".
290
عنها حولا} أي ماكثين فيها أبداً لا يطلبون متحولاً عنها إذ نعيمهما لا يمل وسعادتها لا تنقص، وصفْوها لا يكدر وسرورها لا ينغض بموت ولا بمرض ولا نصب ولا تعب جعلني الله ومن قال آمين من أهلها. آمين. وقوله تعالى: ﴿قل لو كان البحر مدادا١ لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا﴾ تضمنت هذه الآية رداً على اليهود الذين لما نزل قول الله تعالى ﴿وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً﴾ في الرد عليهم لما سألوا عن الروح بواسطة وفد قريش إليهم. فقالوا: أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل الله تعالى قل لو كان البحر مداداً الآية رداً عليهم وإبطالاً لمزاعمهم فأعلمهم وأعلم كل من يدعي العلم الذي ما فوقه علم بأنه لو كان ماء البحر مداداً وكان كل غصن وعود في أشجار الدنيا كلها قلماً، وكتب بهما لنفد ماء البحر وأغصان الشجر ولم تنفد كلمات ربي التي تحمل العلوم والمعارف الإلهية وتدل عليها وتهدي إليها فسبحان الله وبحمده، سبحانه الله العظيم سبحان الله الذي انتهى إليه علم كل شيء وهو على كل شيء قدير. وقوله تعالى: ﴿قل إنما أنا بشر٢ مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد﴾. يأمر تعالى رسوله بأن يقول للمشركين الذين يطلبون منه المعجزات كالتي أوتى موسى وعيسى: إنما أنا بشر مثلكم لا أقدر على ما لا تقدرون عليه أنتم، والفرق بيننا هو أنه يوحى إلي الأمر من ربي وأنتم لا يوحى إليكم يوحى إليّ أنما إلهكم أي معبودكم الحق وربكم الصدق هو إله واحد الله ربكم ورب آبائكم الأولين. وقوله ﴿فمن٣ كان يرجو٤﴾ أي يأمل وينتظر ﴿لقاء ربه﴾ خوفاً منه وطمعاً فيه ﴿فليعمل عملاً صالحاً﴾ وهو مؤمن موقن، ﴿ولا يشرك بعبادة٥ ربه أحداً﴾ فإن الشرك محبط للعمل مبطل له، وبهذا يكون رجاءه صادقاً وانتظاره صالحاً صائباً.
١ المداد في أوّل الآية والمداد في آخرها بمعنى واحد واشتقاقها لا يختلف.
٢ قال ابن عباس رضي الله عنهما علّم الله تعالى رسوله التواضع لئلا يزهى على خلقه فأمره أن يقرّ على نفسه بأنّه آدميٌ كغيره إلاّ أنه أكرم بالوحي.
٣ روي في سبب نزول هذه الآية ما يلي: أتى جندب بن زهير الغامدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إني أعمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرّني فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً ولا يقبل ما ررئي فيه. فنزلت هذه الآية.
٤ فسر ﴿يرجو﴾ بمعنى: يأمل وبمعنى يخاف وكلاهما مطلوب الخوف من الله ومن عذاب الآخرة والأمل في فضل الله وإحسانه وثوابه في الدنيا والآخرة.
٥ فسّر سعيد بن جبير رحمه الله ﴿ولا يشرك﴾ بأن لا يرائي. وهو صحيح ولفظ الشرك أعم من الرياء.
291
-هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
٢- بيان أفضل الجنان وهو الفردوس الأعلى.
٣- علم الله غير متناهي لأن كلماته غير متناهية.
٤- تقرير صفة الكلام لله تعالى.
٥- تقرير بشرية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه ليس روحاً ولا نوراً فحسب كما يقول الغلاة الباطنية.
٦- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.
٧- تقرير أن الرياء شرك لما ورد أن الآية نزلت في بيان حكم المرء يجاهد١ يريد وجه الله ويرغب أن يرى مكانه بين الناس، يصلى ويصوم ويحب أن يثنى عليه بذلك.
١ قال ابن عباس وطاووس: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يُرى مكاني فنزلت هذه الآية وجائز تعدد النزول من أجل أن يجاب السائل بنفس الآية التي كانت جواباً لسؤال مماثل.
292
سورة مريم
مكية
وآياتها ثمان وتسعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (٧)
292
Icon