تفسير سورة البقرة

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

" الم " حروف التهجي هذه التي في أوائل السور اختلف الناس في المراد بها اختلافاً كثيراً ولم يقم دليل على تعيين شيء مما ذكروه والذي اختاره هو ما ذهب إليه الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين قالوا: هي سر الله في القرآن وهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه نؤمن بها ونمرها كما جاءت وإلى هذا ذهب الوزير الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الظاهري رحمه الله تعالى قال: هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وسائر كلامه تعالى محكم " انتهى ". وهذه الحروف أوردت مفردة من غير عامل ولا عطف فاقتضت أن تكون مسكنة كأسماء الأعداد إذا أوردت من غير عامل ولا عطف فلا محل لها من الاعراب وقال الكوفيون: ألم ونظائرها آية في خلاف لهم في بعضها. وقال البصريون وغيرهم: ليس شيء من ذلك آية ولم ينضبط لي ما سمى العادون في القرآن آية ولا عرفت مقدار ما لحظوا في ذلك ووقف أبو جعفر على كل حرف من حروف التهجي وقفه وقفة وأظهر النون من طسَم، ويَس، وعَسق ونَ الا من طس تلك فلم يظهر ذلك." ذلك " اسم إشارة واللام مشعرة ببعد المشار إليه والكاف للخطاب وإذا كان على موضوعه من البعد فأقوال كثيرة مضطربة: الأولى: أن تكون إشارة لما نزل بمكة من القرآن أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي هي بين المنزل، والمنزل إليه. وسمعت شيخنا الأستاذ أبا جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يقول ذلك إشارة إلى الصراط المستقيم كأنهم لما سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وبهذا الذي ذكره الأستاذ يتبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره لا إلى شيء لم يجر له ذكر وقد ركبوا وجوهاً من الإِعراب في قوله." ذلك الكتاب لا ريب فيه " والذي اختاره أن يكون ذلك الكتاب جملة مستقلة لأنه متى أمكن حمل الكلام على الاستقلال دون إضمار ولا افتقار كان أولى." ولا ريب " جملة مستأنفة لا موضع لها من الاعراب أو في موضع نصب أي مبرّأ من الريب وقرىء لا ريب بالرفع وسياق الكلام يدل على أن المراد نفي كل ريب في هذه القراءة والفتح نص في العموم والذي نختاره أن الخبر محذوف للعلم به إذ لغة تميم إذا علم لا يلفظ به ولغة الحجاز كثرة حذفه إذ ذاك ولا ريب يدل على نفي الماهية أي ليس مما يحله الريب ولا يدل على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس ضلال، وعلى هذا لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة كما حمله الزمخشري ولا يزد علينا وإن كنتم في ريب لاختلاف الحال والمحل فالحال في كنتم المخاطبون والريب هو المحل والحال هنا الريب منفياً والمحل الكتاب فلا تعارض بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفياً عن القرآن واختيار الزمخشري أن فيه خبر ولذلك بني عليه سؤالاً وهو ان قال هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله:﴿ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ﴾[الصافات: ٤٧]، وأجاب بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً غيره فيه الريب، كما قصد في قوله: لا فيها غول، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة. وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر ولا نعلم أحداً يفرق بين ليس في الدار رجل، وليس رجل في الدار. والأولى جعل كل جملة مستقلة من قوله: ذلك الكتاب لا ريب وفيه هدى. ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض، فالأولى أخبرت أن المشار إليه هذا الكتاب الكامل. كما تقول: زيد الرجل، أي الكامل في الأوصاف. والثانية نفت أن يكون فيه شيء من الريب. والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين. والمجاز في فيه " هدى " أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون، والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك وعلى ما اخترناه من الاعراب تكون الجملة. الأولى: كاملة الأجزاء حقيقة، والثانية: فيها مجاز الحذف إذا اخترنا أن خبر لا محذوف، والثالثة: فيها تنزيل المعاني منزلة الأجسام إذ جعل الكتاب ظرفاً والهدي مظروفاً وأتى بلفظة في التي للوعاء فهو مشتمل على الهدى كاشتمال البيت على زيد في قولك زيد في البيت. و " الإِيمان " التصديق وأصله من الأمان أو الأمان أو الأمن، ومعناها: الطمأنينة. والهمزة فيه للصيرورة وضمَّن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء أو باللام. و " الغيب " مصدر غاب يغيب إذا توارى. والأجود أن يكون أطلق على الغائب لا أنه فعيل من غاب فخفف كلين والباء متعلقة بيؤمنون. والصلاة وزنها فعلة، وألفه منقلبة من واو وهي مشتقة من الصلا وهو عرق متصل بالظهر أو من صلى بمعنى دعا. و " الرزق " العطاء. وبفتح الراء المصدر. و " الانفاق " الانفاد وللمتقين في موضع الصفة فلا يتعلق بهدي.
و " الذين " يجوز في إعرابه الأوجه الثلاثة لأنه صفة مدح والغيب المؤمن به هو ما غاب عن المؤمن مما كلف الإِيمان به وتضمن الاعتقاد القلبي والفعل البدني وإخراج المال وهذه الثلاثة عمد الاسلام وإفعال المتقي ومن للتبعيض والأولى حمل الانفاق على الزكاة لكثرة ورودها مقترنة مع الصلاة في القرآن والسنة، وأضاف الرزق إليه لا إلى كسب العبد ليعلم أن الذي ينفقه العبد هو بعض مما رزقه الله تعالى وجعلت صلاة الذين افعالا مضارعة لا صلات لأل لأن المضارع على ما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث والتجدد في صفة المتقين أمدح. وال قالوا تدل على الثبوت وكان هذا الموصول بصلاته شرح للمتقين فدل المتقين على الثبوت والمضارعات على الحدوث فتعددت وأخرت الصلة الثالثة لأجل الفواصل وحذف العائد على ما وتقديره رزقنا همو، وترتيب هذه الصلات من باب ترتيب الأهم فالأهم والألزم فالألزم فالايمان لازم للمكلف دائماً والصلاة في كثيرٍ من الأوقات والنفقة في بعض الأوقات. و " الانزال " الإِيصال والإِبلاغ ولا يشترط أن يكون من علو. وقرىء بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك مبنيين للفاعل وهو التفات إذ هو خروج من ضمير متكلم في رزقناهم إلى ضمير غائب وقرىء بما أنزل إليك ووجهه أنه سكن لام أنزل ونقل إليها حركة همزة إليك بعد حذفها ثم أدغم والذين معطوف على الذين ويظهر أنه تفسير للإِيمان بالغيب وهو أن يؤمن بما أنزل إلى الرسول وبما أنزل إلى الرسل قبله. و " بالآخرة " هي صفة غالبة وهي في الأصل تأنيث آخر وحملها على الدار الآخرة أولى من حملها على النشاة الآخرة، والمضي في وما أنزل من قبلك متحقق وفي بما أنزل إليك لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة فقام الأكثر مقام الجمع أو غلب الموجود لأن الإِيمان بالمتقدم الماضي يقتضي الايمان بالمتأخر، والإِيقان: التحقق للشيء لسكونه ووضوحه، يقن الماء: سكن وظهر ما تحته، ولم تعد بآء الجر في ما الثانية ليدل على أنه إيمان واحد إذ أعادته تشعر بأنهما إيمانان وأكد أمر الآخرة بتعلق الإِيقان الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق وإن كان لا تفاوت في الحقيقة بينهما رفعا لمجاز إطلاق العلم على الظن فذكر أن الإِيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقاناً، وغاير بين الإِيمان بالمنزل والإِيمان بالآخرة لا يكون إلا إيقاناً، وغاير بين الإِيمان بالمنزل والإِيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة التكرار وكان الإِيقان هو الذي اختص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقاتها ولكون المنزل مشاهداً أو كالمشاهد والآخرة غيب صرف فناسب الإِيقان: قالوا: والإِيقان هو العلم الحادث سواء كان ضرورياً أم استدلالياً فلذلك لا يوصف به الباري سبحانه وتعالى وقدم المجرور اعتنآء به وإبراز هذه الجملة اسمية وإن كانت معطوفة على فعلية آكد في الاخبار عن هؤلاء بالإِيقان والتصدير بالمبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه كما أن التصدير بالفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به ولم يذكرهم في: ومما رزقناهم، لأن الوصف بالإِيقان أعلى من الوصف بالانفاق ولكونه يكون فيه قلق لفظي." أولئك " اسم إشارة للجمع مطلقاً وهو للرتبة الوسطى وهو مبتدأ خبره الذي بعده، وهي جملة استئنافية ولا تختار ما أجتازه الزمخشري من كون هذه الجملة في موضع خبر عن الذين يؤمنون وإعراب الذين مبتدأ والذهاب بالذين مذهب الاستئناف لأن تعلقه واتصاله بما قبله في غاية الوضوح. على هدى إلا أنه لما وصف المتقين بصفات مدح فصلت جهات التقوى أشار إليهم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى جعل رسوخهم في الهداية كأنهم استعلوه، ووصف الهدى بأنه من ربهم تعظيم للهدى الذي هم عليه، ومن: لابتداء الغاية أو للتبعيض، أي من هدى ربهم. وذكر الرب هنا في غاية المناسبة. والفلاح: الفوز والظفر بإدراك البغية والبقاء. وقرىء من ربهم بضم الهاء كان ضمير جمع لمذكر أو مؤنث ولا يراعي سبق كسر أو ياء وهذان خبران مختلفان لذلك كرر أولئك ليقع كل منهما في جملة مستقلة أخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة وهم فصل أو بدل أو مبتدأ.
والكفر: الستر. وسواء: اسم بمعنى استواء مصدر إستوى وقد يوصف به بمعنى مستو. و " الانذار ": الاعلام مع التخويف. والهمزة في أأنذرتهم للتسوية." والختم " الوسم بطابع أو غيره." والقلب " اللحمة الصنوبريّة سميت بالمصدر." السمع " مصدر سمع. وكني به عن الأذن." البصر " العين." والغشاوة " الغطاء. و " العذاب " أصله الاستمرار في الألم ولما ذكر أوصاف المتقين المؤدية بهم إلى الفوز ذكر أوصاف الكافرين المؤدية بهم إلى العذاب وافتتح قصتهم بحرف التأكيد ليدل على استئناف الكلام فيهم والظاهر أن الذين كفروا للجنس ملحوظاً فيه قيد وهو أن يقضي عليه بالكفر والموافاة عليه ويحتمل أن يكون لمعيّنين ممن وافى على الكفر كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما. وسواء وما تعلق به جملة اعتراض فلا موضع لها من الاعراب. وسواء مبتدأ والجملة الداخلة عليها الهمزة خبر عن سواء وجوزوا العكس. ولا يؤمنون خبران وجملة الاعتراض لتأكيد مضمون جملة ان وخبرها، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره أو يكون خبر ان سواء والجملة التي فيها الهمزة في موضع الفاعل عند من يجيز أن تكون الجملة فاعلة. أو سواء مبتدأ وما بعده خبره أو العكس. ولا يؤمنون خبر بعد خبر أو على إضمار مبتدأ تقديره هم لا يؤمنون، أولاً موضع لها من الاعراب فتكون تفسيرية لأن عدم الإِيمان استواء الانذار وعدمه. وقرىء أأنذرتهم بتحقيق الهمزتين وهي لغة تميم، وبتسهيل الثانية وهي لغة الحجاز، وبإدخال ألف بينهما حققت الثانية أو سهلت، وبإِبدال الثانية ألفاً وقد أنكره الزمخشري وزعم أنه لحن، وقرىء بحذف الهمزة الأولى وبحذفها ونقل حركتها إلى الميم الساكنة قبلها، ومفعول أأنذرتهم الثاني محذوف تقديره العذاب على كفرهم والظاهر أن لا يؤمنون. وختم خبر لادعاء. والختم على القلب كني به عن كونه لا يقبل شيئاً من الحق استعار المحسوس للمعقول. أو مثل القلب بالدعاء الذي ختم عليه صوتاً لما فيه ومنعاً لغيره من الدخول إليه. وقيل: الختم حقيقة وهو انضمام القلب وانكماشه. وإسناد الختم إلى الله حقيقة لا مجاز كما تأوله الزمخشري. وعلى سمعهم معطوف على قلوبهم لا انه مشارك السمع للأبصار في الغشاوة وان جوزوه وأفرد السمع لكونه لمح فيه الأصل وهو المصدر، أو للإِستغناء بالمفرد عن الجمع لدلالة ما قبله وما بعده عليه، أو على حذف مضاف أي وعلى حواس سمعهم. وقرى: وعلى أسماعهم، والمشهور في قراءة غشاوة - بكسر الغين ورفع التاء - فتضمن الكلام إسنادين فعلية وإسمية ليدلا على التجدد والثبوت وقدمت الفعلية لأن ذلك قد فرغ منه ووقع وقدم خبر الاسمية ليطابق الفعلية في تقديم المحكوم به على المحكوم عليه. وقرىء غشاوة - بالنصب - أي وجعل. وقرىء غشاوة - بضم الغين ورفع التاء وبفتحها والنصب وسكون الشين -. وعشوة وعشية وعشاوة - بالعين المهملة - من العشا وهو شبه العمى في العين. وتقديم القلوب من باب التقديم بالشرف وهو أحد التقديمات الست ولما ذكر تعالى حال هؤلاء الكفار في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة من العذاب ولما كان أعد لهم ذلك صيروا كان العذاب ملك لهم لازم. و " العظيم " أصله للجثة.
و " الناس " اسم جمع لبني آدم. وقالوا: ناس من الجن. وهو مجاز وأصله عند سيبويه والفراء أناس حذفت همزته فوزنه عال. وعند الكسائي نوس من ناس تحرك. وعند غيرهما نَسَيْ من النسيان قلب، ويدل عليه قولهم في تصغير إنسان أنيسان. ومن هنا موصولة وجوزوا أن تكون موصوفة وهي مبتدأ والخبر في الجار والمجرور قبلها ولا بد من قيد في الناس وإلا كان أخباراً لا تستقل به فائدة. فالتقدير ومن الناس السابق ذكرهم الذين اندرجوا في قولهم: إن الذين كفروا فليس هؤلاء إلا بعضاً من أولئك شاركوهم في جميع ما أخبر به عن أولئك وزادوا أنهم ادعوا الإِيمان واكذبهم الله تعالى وليسوا غير مختوم على قلوبهم كما زعم الزمخشري. وجعل من موصولة أكثر في لسان العرب من كونها موصوفة ويدل على أنها موصولة انها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين. بما صدر منهم من أقوالهم وأفعالهم كعبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه ومن وافقه من غير أصحابه ممن أظهر الاسلام مقالا وأبطن الكفر اعتقاداً واقتصروا على قولهم.﴿ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ منهم أن يعترفوا بالايمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وايهاما انهم من طائفة المؤمنين وحمل في قوله يقول على لفظ من وفى.﴿ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ على المعنى. وقول ابن عطية: إنه لا يجوز أن يرجع من لفظ الجمع إلى لفظ الواحد مخالفة لقول النحويين من أنه يجوز أن يبدأ بالحمل على المعنى ثم على اللفظ وإن كان الحمل أولاً على اللفظ ثم على المعنى أولى. وقد ثبت ما أنكره في كتاب الله تعالى وفي لسان العرب وبمؤمنين في موضع نصب. وأكثر لغة الحجاز جر الخبر بالباء وعليه أكثر ما جاء في القرآن. وزيدت الباء في الخبر للتأكيد ولأجل التوكيد بولغ في نفي إيمانهم بأن جاءت الجملة إسمية، وسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مقيداً بزمان ليشمل جميع الأزمان ولم يجيىء التركيب مبنياً على قولهم فيكون وما آمنوا. والخداع، قيل: إظهار غير ما في النفس. وقرىء: يخدعون الله مضارع خدع. وجاز في يخادعون أن يكون مستأنفاً، كان قائلاً يقول: لم يتظاهرون بالإِيمان وليسو بمؤمنين؟ فقيل: يخادعون. قيل: وأن يكون بدلاً من يقول أو حالاً من ضمير، يقول ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في بمؤمنين، والعامل فيها اسم الفاعل كما ذهب إليه أبو البقاء وهذا إعراب خطأ وذلك ان ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإِيمان إليهم، فإِذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال وهو القيد فنفته. ولذلك طريقان في لسان العرب أحدهما، وهو الأكثر: أن ينتفي ذلك القيد فقط، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد. فإذا قلت: ما زيد أقبل ضاحكاً فمفهومه نفي الضحك. ويكون قد أقبل غير ضاحك وليس معنى الآية على هذا إذ لا ينفى عنهم الخداع فقط فيثبت لهم الإِيمان بغير خداع بل المعنى نفي الإِيمان عنهم مطلقاً والطريق الثاني وهو الأقل هو أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه، فكأنه قال في المثال السابق: لم يقبل زيد ولم يضحك، أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك. وليس معنى الآية على هذا إذ ليس المراد نفي الإِيمان عنهم ونفي الخداع والعجب من أبي البقاء كيف تنبّه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين لأن ذلك يوجب نفي خداعهم والمعنى على إثبات الخداع إنتهى كلامه فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك بل كل منهما قد يتسلط النفي عليه ومخادعة المنافقين الله هو من حيث الصورة لا من حيث المعنى من حيث تظاهروا بالإِيمان وأبطنوا الكفر ومن حيث عدم عرفانهم بالله ولِصفاته أو يكون ذلك على حذف مضاف أي يخادعون رسول الله وليس اسم الجلالة مقحماً كما ذهب إليه الزمخشري وذكر مثلاً نازعناه في الاستدلال بها ومخادعتهم المؤمنين كونهم امتثلوا إجراء أحكام المسلمين عليهم مع مخالفتهم لهم في الإِعتقاد. وقرىء: وما يخادعون مضارع خدع بفتح الياء وضمها مبني للمفعول. ويخدعون بفتح الخاء وتشديد الدال المكسورة من خدع مشدداً وبفتح الياء والخاء وكسر الدال مشددة ويخادعون بكسر الدال وفتحها مبنياً للمفعول فمن بناه للمفعول نصب." أنفسهم " تمييزاً على مذهب الكوفيين في غبن زيد رأيه، واما على التشبيه بالمفعول به، واما على إسقاط حرف الجر أي في أنفسهم، ويختدعون مضارع اختدع بمعنى خدع كاقتدر وقدر والمعنى ان وبال ذلك ليس راجعاً للمخدوع بل للخادع فكأنه ما كاد إلا نفسه بإِيرادها موارد الهلكة وهو لا يشعر بذلك جهلاً بقبيح أفعاله." وما يشعرون " معطوف على يخادعون الله، أي وما يشعرون إطلاع الله نبيّه على خداعهم، أو وما يشعرون إيقاع أنفسهم في الشقاء بكفرهم ونفاقهم. أو جملة حالية، أي وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك إذ لو شعروا بذلك ما خادعوا الله والمؤمنين وجاء يخادعون بصيغة المضارع اشعاراً بالديمومة إذ هو في معرض الذم.
قرىء مرض بسكون الراء وهي لغة كالحلب والحلب وكينونة المرض في قلوبهم مجاز عن ما حل فيها من الشك والحسد والغل. وقيل: حقيقة وهو الفساد والظلمة التي حدثت فيها بظهور الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته.﴿ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً ﴾.
هذا خبر وإسناد الزيادة إلى الله تعالى حقيقة. وقيل: دعاء حقيقة بوقوع زيادة المرض وقيل مجاز فلا تقصد به الإِجابة لكون المدعو به واقعاً بل المراد به السب واللعن والتنقص نحو: قاتلهم الله. ومرض نكرة تعم على طريق البدل وتعداد المحال يدل على تعداد الحال فاكتفى بالمفرد عن الجمع. و " فزادهم ": أي قلوبهم أو ذواتهم، لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد اليم اما للمبالغة ووصف العذاب به مجاز وهو من مجاز التركيب أو معناه مؤلم جآء فعيل من أفعل وهو من مجاز الأفراد وجمع وصف العذاب بالعظم والألم للمنافقين إذ هم أشد عذاباً من غيرهم من الكفار وما في بما كانوا مصدرية. وقال أبو البقاء: الا ظهر أن تكون موصولة. وقرىء: يكذبون مخففاً ومشدداً مضارع كذب وكذب." وإذا قيل ": لغة أهل الحجاز إخلاص الكسر في نحو قيل: وبيع والاشمام لغة كثير من قيس وبني أسد وعقيل وقرىء بهما. والفساد التغير عن حالة الاعتدال والصلاح نقيضه وهذه الجملة الشرطية هي من باب عطف الجمل استئنافاً ينعى عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم. قيل: وتحتمل أن تكون معطوفة على يقول صلة من فلا موضع لها من الإِعراب وهي جزء كلام لأنها من تمام الصلة (وأجاز الزمخشري وأبو البقاء) أن تكون معطوفة على يكذبون فلها موضع من الإِعراب وهو النصب ويكون جزأً من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم وهذا الاعراب خطأ على جعل ما في بما موصولة وقراءة التشديد لغة وجملة الشرط من ضمير يعود على ما والجملة بعد إذ هذه في موضع خفض على مذهب الجمهور والعامل في إذا الجواب، والذي نختاره انها لا موضع لها من الإِعراب والفعل الذي يلي إذاً هو العامل فيها كسائر حروف الشرط وحذف فاعل القول للعلم به إذ هو الله تعالى ويظهر أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجملة من قوله: لا تفسدوا في الأرض ولا يجوز ذلك عند جمهور البصريين ويجوز عند الكوفيين فتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن يكون في قيل مضمر، أي وإذا قيل هو أي قول سديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة فلا موضع لها من الإِعراب وزعم الزمخشري أن الجملة هي المفعول الذي لم يسم فاعله وجعله من باب الاسناد اللفظي ونظره بقوله: الّف حرف من ثلاثة أحرف، وإذا أمكن أن يكون إسناداً معنوياً لم يعدل إلى الاسناد اللفظي." ولا تفسدوا " نهي عن إيقاع الفساد بأي طريق كان من كفر أو غيره من جهات الفساد وهو من باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب فمتعلق النهي حقيقة هو إيطان الكفر وممالاة الكفار وإفشاء سر المؤمنين وذلك هو المفضي إلى الهيج للفتن المؤدية الى الإِفساد وذكر محل الإِفساد وهي الأرض التي نشأتم فيها وانتفعتم بها أحياءً وأمواتاً فما كان محل إصلاحكم لا يناسب أن يجعل محل إفساد ومعمول جواب الشرط أبرزوه جملة إسمية ليدل على ثبوت الوصف لهم وأكدوها بانما دلالة على قوة اتصافهم بقوة الاصلاح كل ذلك بهت وكذب على عاداتهم في الكذب فأكذبهم الله فقال؛﴿ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ ﴾ فأتى بألا الدالة على التنبيه على كذبهم وبأن المقتضية التأكيد في قولهم: وبهم وبال واستفتحت بألا لتكون الاسماع مصغية لما جاء في حقهم وهم تأكيد للضمير أو فصل أو مبتدأ وتختار في ألا التي للتنبيه انها حرف بسيط، وزعموا انها مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية للدلالة على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً كقوله:﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ ﴾[القيامة: ٤٠] ولكونها من المنصب في هذا ألا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرية بنحو ما يتلقى به القسم، وقاله الزمخشري. ودعوى التركيب على خلاف الأصل ولأن ما زعموا خطأ لأن مواقع ألا تدل على أن لا ليست للنفي فيتم ما ادعوه ألا ترى انك تقول إلا أن زيداً منطلق ليس أصله لا أن زيداً منطلق إذ ليس من تراكيب العرب بخلاف ما نظر به من قوله تعالى:﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ ﴾[القيامة: ٤٠]، لصحة تركيب ليس زيد بقادر ولوجودها قبل رب وليت وحرف النداء وغيرها مما لا يتعقل فيه أنّ لا نافية فتكون الهمزة للاستفهام دخلت على لا النافية فأفادت التحقيق. وقوله: لا تكاد تقع إلى آخره غير صحيح ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح برب وبليت وبفعل الأمر وبالنداء وبحبّذا ولا يتلقى بشيء من هذا القسم وعلامة الا هذه التي هي حرف تنبيه واستفتاح صحة الكلام دونها، وكون انما مركبة من ما النافية دخل عليها أنّ التي للإِثبات فأفادت الحصر قول ركيك فاسد صادر عن غير عارف بالنحو، والذي نذهب إليه انها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن الحصر لا يفهم من اخواتها التي كفت بما، فلا فرق بين: لعل زيداً قائم، ولعلما زيد قائم. فكذلك: ان زيداً قائم، وإنما زيد قائم. وإذا فهم الحصر فإنما يفهم من سياق الكلام لا ان إنما دلت عليه وبهذا الذي قررناه يزول الاشكال الذي أوردوه في نحو قوله تعالى:﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ ﴾[الرعد: ٧]﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ ﴾[الكهف: ١١٠]﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ ﴾[يس: ١١]﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا ﴾[النازعات: ٤٥].
انتهى." ولكن لا يشعرون " لكن تقع بين متنافيين وظهوره ذلك هنا أنه تعالى أخبر أنهم هم المفسدون وقد علم ذلك منهم ولكن هم لا يعملون ذلك فاستدرك هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بأنهم هم المفسدون ومفعول يشعرون محذوف تقديره ولكن لا يشعرون بإِفسادهم.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ ﴾ هذه الجملة الكلام عليها أهي معطوفة على صلة من أو على يكذبون أو مستأنفة وما العامل في إذا وما المقام مقام الفاعل كالجملة الشرطية السابقة، ولما نهوا عن الافساد أمروا بالإِيمان وبحصوله يزول إفسادهم وبدأ بالمنهي عنه لأنه الأهم وهو ترك والترك أسهل من امتثال المأمور فكان في ذلك تدريج لهم وأكثر المعربين يجعل الكاف في " كما آمن " ونظيره نعتاً لمصدر محذوف أي إيماناً مثل إيمان النّاس. ومذهب سيبويه: إن الكاف في موضع الحال وذو الحال ضمير مصدر محذوف دل عليه الفعل، وما مصدرية ينسبك منها ومن صلتها مصدر هو في موضع جر بالكاف. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء، أن تكون ما كافة للكاف عن العمل كهي في: ربما قام زيد، والظاهر أن أل في الناس للعهد وهم المؤمنون الذين سبقوا بالإِيمان فأحيلوا عليهم. والسفه: خفة الحلم والجهل، ويقال سفه - بكسر الفاء وضمها - وهو القياس لمجيىء سفيه وجمعه على فعلى قياس مطرد في فعيل الصحيح الوصف لمذكر عاقل." أتؤمن " استفهام انكار واستهزاء، ولما كان المأمور به مشبهاً أتوا بإِنكارهم مشبهاً وأل في السفهاء للعهد ويعنون بهم المؤمنين الخلّص في الإِيمان اعتقدوا أنهم سفهاء.﴿ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ ﴾ وهذا كما رد عليهم في قوله﴿ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ ﴾[البقرة: ١٢] إن الله تعالى هو العالم بأنهم السفهاء.﴿ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ إنهم سفهاء لغباوتهم وجاء هناك لا يشعرون لأن الافساد يدرك بأدنى تأمل لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير، فنفي عنهم ما يدرك بالمشاعر وهي مبالغة في تجهيلهم إذ الشعور الثابت للبهائم منفي عنهم والأمر بالإِيمان يحتاج إلى إمعان كر واستدلال ونظر قام يفضي إلى الإِيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالأمور والعلم نقيض الجهل فقابله بقوله: لا يعلمون، ويجوز في نحو السفهاء إلا تحقيق الثانية مع تحقيق الأولى وجعلها بين الهمزة والواو وأبوابها واواً مع تحقيق الأولى أو جعلها بين الهمزة والواو وأجاز بعضهم جعل كل منهما بين الهمزة والواو.﴿ وَإِذَا لَقُواْ ﴾ قرىء لاقوا وهي فاعل بمعنى الفعل المجرد وآمنا فعل مطلق غير مؤكد بشيء تورية منهم وإيهاماً سموا النطق باللسان إيماناً وقلوبهم معرضة. وخلا يتعدى بالباء وبالى والى على معناها من انتهاء الغاية وليست هنا بمعنى مع خلافاً للنضر بن شميل. و ﴿ شَيَاطِينِهِمْ ﴾ اليهود ورؤساءهم. وشيطان عند البصريين فيعال من شطن وقالوا: في معناه شاطن، وفي التصغير مشيطن. وعند الكوفيين فعلان من نشاط ويشهد لهم قولهم شيطان مسمى به ممنوع من الصرف. وقرىء " معكم " بسكون العين وهي لغة ربيعة وغنم وانظر الفرق بين قولهم للمؤمنين آمنا وبين قولهم لشياطينهم. هناك اكتفوا بالمطلق وهنا أكدوا المعية والموافقة بقولهم. انا ثم لم يكتفوا حتى ذكروا سبب قولهم آمنا وهو الاستخفاف بالمؤمنين وأبرزوا ذلك في جملة مؤكدة بانما وبنحن ومستهزؤون باسم الفاعل وكأنهم لما قالوا أنا معكم أنكر عليهم الاقتصار على هذا وانكم كيف تكونون معنا وأنتم مسالمون أولئك بإِظهار تصديقكم وتكثيركم سوادهم والتزام أحكامهم من الصلاة وأكل ذبائحهم فأجابوا بذلك وإنما نستخف بهم في ذلك القول لصون دمائنا وأموالنا وذريتنا. وقرىء " مستهزئون " بهمزة وبإِبدالها ياء وبحذفها وضم ما قبلها وقلبها ياء هو قول الأخفش، وأما سيبويه فيخففها بجعلها بين بين، والاستهزاء: هو الاستخفاف واللهو واللعب، والله سبحانه منزه عن ذلك. فجاء قوله:﴿ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾ على سبيل المقابلة والمعنى أنه يجازيهم على استهزائهم وفي افتتاح الجملة باسم الله التفخيم والتعظيم والاخبار عنه بالمضارع وهو يدل على التجدد. ولم يذكروا هم متعلق الاستهزاء لتحرجهم من إبلاغ المؤمنين فينقمون ذلك عليهم فابقوا اللفظ محتملاً وليذبوا عن أنفسهم لو حوققوا وان كانوا عنوا المؤمنين وقال: ﴿ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾ فذكر متعلق الاستهزاء فهو أبلغ من قولهم.﴿ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾ فذكر متعلق الاستهزاء فهو أبلغ من قولهم. وقرىء " ويمدهم " من مدّ ومن أمدّ وإسناد المد أو الامداد لله تعالى حقيقة إذ هو المنفرد بإِيجاد ذلك وهو الممكن من المعاصي والزيادة منهما. وقرىء طغيانهم - بكسر الطاء وضمها - وأضيف الطغيان إليهم لأنهم فاعلوه كسبا وان كان الله تعالى هو مخترعه. والعمه التحير عن الرشد وركوب الرأس عن اتباع الحق. " وفي طغيانهم " متعلق بيمدهم وقيل بيعمهون. و " يعمهون " حال من مفعول يمدهم أو من ضمير طغيانهم. ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين. قال: لأن العامل لا يعمل في حالين وهذا فيه خلاف وتفصيل.
" أولئك " إشارة إلى الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف الذميمة كما تقدم في المتقين حيث ذكرت أوصافهم أشير إليهم بأولئك. وقرىء اشتروا بضم الواو وكسرها وفتحها والاشتراء هنا مجاز كني به عن الاختيار لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر. و " الضلالة " الكفر والهدى الإِيمان جعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشتري." فما ربحت " عطف بالفاء الدالة على تعقب نفي الربح وبنفس ما وقع الاشتراء تحقق عدم الربح. وإسناد الربح إلى التجارة مجاز لأن الرابح هو التاجر ولما صور الضلالة والهدى مشترى وثمناً وكان ذلك مجازاً رشحه ببعض أوصاف الحقيقة بقوله:﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ ﴾ فانضاف مجاز إلى مجاز وقرىء تجاراتهم على الجمع والافراد. ونفي الربح لا يدل على إنتقاص رأس المال لكن عبر بنفيه عن ذهاب المال لما في الكلام من الدلالة على ذلك لأن الضلالة والهدى نقيضان فاستبدالهم الضلالة دل على ذهاب الهدى بالكلية ويتخرج عندي على أن يكون من باب. على لا حب لا يهتدي بمنارة. لما ذكر اشتراء شيء بشيء توهم أن ذلك تجارة فنفي الربح والمقصود نفي التجارة أي لا تجارة فلا ربح نحو لا منار فلا هداية.﴿ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ تتميم للمعنى المقصود بهذه الجملة ويقال: لهذا في علم البيان التتميم ويقول هذه الجملة إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله: بالهدى، انهم كانوا على هدى فيما مضى فبين وما كانوا مهتدين مجاز قوله بالهدى ودلّ على أن الذين اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى فالمثبت في الاعتياض غير المنفي أخيراً لأن ذلك بالقوة وهذا بالفعل المثل والمثل كالشبه والشبه وأصله الوصف، والمثل القول السائر الذي فيه غرابة وضرب المثل يؤثر في القلب ما لا يؤثر وصف الشيء نفسه إذ فيه تشبيه الخفي بالجليّ والغائب بالشاهد ولما ذكر تعالى أوصافاً لهم سابقة ضرب المثل زيادة في كشف أحوالهم فقال:﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾ أي قصتهم ووصفهم مثل وصف الذي استوقد أي الجمع الذي استوقد. ويدل على ذلك قوله: ذهب الله بنورهم. فالذي وصف لمفرد في معنى الجمع وليس الذي مثل من لفظ ومعنى. كما نقل عن أبي علي والأخفش وقرىء الذين جمعاً وتخريجه اما على انها كمن على ما قالاه واما أنه أفرد على ما توهم أنه نطق بمن، واستوقد بمعنى أوقد حكاه أبو زيد. وقيل: هي للطلب ونكر نارا لأن مقابلها من وصف المنافق نزر يسير من اليقين بالاسلام وجوانحه منطوية على الكفر والنفاق فاكتفى بالمطلق. ويقال: ضاء المكان وأضاء النور ويستعمل أضاء أيضاً لازماً وإلا ظهر أن ما مفعول أي أضاءت النار المكان الذي حوله وجوزوا أن تكون ما نكرة موصوفة وأن تكون ما هي الفاعلة وأضاء لازم أي الجهة التي حوله أنت الفعل على معنى ما وجواب لما هو.﴿ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ وأجاز الزمخشري أن يكون جواب لما محذوفاً تقديره حمدت قال: وهو أولى وذهب الله بنورهم. قال الزمخشري: الضمير في بنورهم عائد على المنافقين والجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد فقيل ذهب الله بنورهم أو هي بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان، ولم يكتف الزمخشري بأن جوّز حذف هذا الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى، قال: وكان الحذف أولى من الاثبات لما فيه من الوجازة مع الاعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى. كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسرين على فوات الضوء خائبين بعد الكدح في أحياء النار " انتهى ". وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها لأنه كان يمكن له ذلك لو لم يكن تلى قوله:﴿ فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾.
وأما باقي كلامه بعد تقدير خمدت إلى آخره فهو مما يحمل اللفظ ما لا يحتمله ويقدر تقادير وجملاً محذوفة لم يدل عليها الكلام وذلك عادته في غير ما كلام في معظم تفسيره ولا ينبغي أن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله ولا أن يزاد فيه بل يكون الشرح طبق المشروح من غير زيادة عليه ولا نقص منه ولما جوزوا حذف الجواب تكلموا في قوله تعالى:﴿ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ فخرجوا ذلك على وجهين، أحدهما: أن يكون مستأنفا جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما بالهم قد اشبهت حالهم حال هذا المستوقد فقيل: ذهب الله بنورهم. والثاني: أن يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان قالهما الزمخشري. وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف وقد اخترنا غيره، وأنه قوله تعالى:﴿ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ بدلاً من جملة. والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما وهو أن يكون قوله:﴿ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان ولا يظهر لي صحته لأن جملة التمثيل هي قوله.﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾، فجعله ذهب الله بنورهم، بدلاً من هذه الجملة على سبيل البيان لا يصح لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إذا كانت الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية فقد ذكروا جواز ذلك وأما ان تبدل جملة فعلية من جملة اسمية فلا أعلم أحداً أجاز ذلك والبدل على نية تكرار العامل. والجملة الأولى لا موضع لها من الإِعراب لأنها لم تقع موقع المفرد فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل، إذ لا عامل في الأولى فيتكرر في الثانية فبطلت جهة البدل فيها " انتهى ". والظاهر أن ناراً حقيقة في النار التي استوقدت وإذهاب الله نورهم بأمر سماوي والباء في بنورهم للتعدية مرادفة للهمزة والله تعالى لا يوصف بالذهاب.﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ في ظلمات متعلق بتركهم ولا يبصرون في موضع الحال أو في ظلمات في موضع الحال فيتعلق بمحذوف ولا يبصرون حال أيضاً أما من الضمير في تركهم، واما من الضمير المستكن في المجرور قبله فإن كان ترك يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات الثاني ولا يبصرون حال ولا يجوز العكس لأن الخبر لا يكون مؤكداً. وقرىء ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ بالرفع أي هم وهي إخبار متباينة الوضع لكنها في معنى خبر واحد وهو عدم قبولهم الحق وقرىء بنصب الثلاثة وجوّزوجوها أحسنها النصب على الذم والظاهر أن هذا كله من أوصاف من شبه وصف المنافقين وبوصفهم بالغ في ذلك.﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ أي جواباً لأن من اشتدت عليه تلك المشاعر لا يمكن أن يرجع جواباً لمن يخاطبه وجهة المماثلة بين المنافقين والمستوقد ان قلنا أنه من تمثيل المفردات أن استيقاد النار مقابل بما أظهروا في الاسلام إذ حقنوا به دمآءهم وعصموا به ذرياتهم وأموالهم وإضآءة النار كونهم جرت عليهم أحكام الإِسلام وذهاب النور مقابل بما فضحهم الله به أنهم ليسوا بمؤمنين وتركهم في ظلمات مقابل لتماديهم على كفرهم ونفاقهم. وصم وما بعده مقابل لكونهم لا يقبلون الحق والإِيمان أبداً فهم لا يرجعون مقابل لكونهم لا كلمة لهم ولا مراعاة فهم كمن حرم مراجعة من يقهره.
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ ﴾ معطوف على كمثل وأوهنا للتفصيل وكان من نظر في حالهم منهم من شبهه بحال المستوقد ومنهم من شبهه بحال ذي صيب فهو على حذف مضاف يدل عليه الضمير في يجعلون. والصيّب: المطر النازل والسحاب أيضاً، ووزنه عند البصريين فيعل بكسر العين، وعند البغداديين بفتحها، وعند القراء فعيل فقلب." والسماء " المظلة والسماء ما علاك من سقف ونحوه، وجمعت على سماوات واسمية وسماء وهي جموع لا تنقاس وقرىء أو كصايب اسم فاعل من صاب يصوب وصيب أبلغ." والرعد " الصوت المزعج المسموع من جهة السماء." والبرق " الجرم النوراني الذي يشاهد ولا يثبت وجعل الصيب مقراً لهذه الأشياء على سبيل المجاز مجاز المصاحبة.﴿ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم ﴾ إن كان بمعنى يلقون تعدى إلى واحد وفي آذانهم متعلق يجعلون وإن كان بمعنى يصيرون كان في آذانهم في موضع المفعول الثاني." والصاعقة " الوقعة الشديدة من صوت الرعد معها قطعة من نار تسقط مع صوت الرعد لا تمر بشيء إلا أتت عليه وهي سريعة الخمود والصاعقة لغة تميم والتصريف جاء على التركيبين فلا تكون صاقعة مقلوباً من صاعقة خلافاً لمن ذهب إلى ذلك. وقال ابن عرفة: والصاعقة أيضاً العذاب ومن في من السماء متعلق بصيب أو في موضع الصفة أي كائن من أمطار السماء وظلمات الصيب بتكاثفه وانتساجه وتتابع قطره وظلمة ظلال غمامه وظلمة الليل وأفرد ورعد وبرق وإن كانوا قد قالوا رعود وبروق أما لأنهم أرادوا المصدر فكأنه إرعاد وإبراق وإما أن أريد بهما المعنيان فلان كلا منهما يسمى بالمصدر فروعي حكم أصلهما وإن كان المعنى على الجمع ونكرت الثلاثة لأنه ليس المقصود العموم، والظاهر أن يجعلون جواب سؤال مقدر، أي فكيف حالهم لا في موضع جر صفة لذوي المحذوفة، ولا في موضع حال من الضمير في فيه والعائد محذوف ثابت عنه أل في الصواعق أي من صواعقة ومن سببية متعلقة بيجعلون. وقرىء ﴿ من الصواقع وحذر الموت ﴾ أعربوه مفعولاً من أجله ولا يكون للفعل إلا مفعول له واحد إلا بالعطف فقد يتعدد أو بالبدل وقيل: حذر مصدر، أي يحذرون حذر الموت. وقرىء: حذار مصدر حاذر، وإحاطته تعالى بهم كناية عن كونه لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به وإحاطته بالعلم والقدرة على إهلاكهم.﴿ يَكَادُ ﴾ مضارع كاد وفيها لغتان فعل وفعل ولذلك تقول كدت وكدت وهي من أفعال المقاربة.﴿ يَخْطَفُ ﴾ و " الخطف " أخذ الشيء بسرعة وجوزوا في يكاد أن يكون جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: كيف حالهم في ذلك البرق. وأن يكون في موضع جر صفة لذوي المقدر حذفه في صيب وأل في البرق نائب مناب الضمير وهي للعهد إذ قد تقدم ذكره. وقرىء يخطب - بكسر الطاء - مضارع خطف - بفتحها وكسرها - في الماضي لغة قريش ويتخطّف ويخطّف ويخطّف ويخطف، وما مصدرية ظرفية وانتصاب كل على الظرف سرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية وما مثل هذه يراد به العموم. تقول: أصحبك ما ذر شارق يريد العموم فكل في مثل هذا أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية ولا يراد مطلق الفعل والتقدير كل وقت اضاءة واضاءان كان متعدياً فالمفعول محذوف أي أضاء لهم الطريق وعاد الضمير في فيه على الطريق أو يكون التقدير.﴿ مَّشَوْاْ ﴾ في نوره فيعود على البرق وإن كان لازماً أي كل ما لمع البرق مشوا في نوره وهذه الجملة استئناف كأنه قيل: فما حالهم في حالتي وميض البرق وخفائه قيل كذا. وقرىء ﴿ أَظْلَمَ ﴾ مبنياً للمفعول وتخريجه على أن التقدير وإذا أظلم الليل بنفسه وقال: قد جاء في شعر حبيب متعدياً " قال ": هما أظلما جائي ثمت أجليا ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب. " قاموا " ثبتوا لا يبرحون لشدة الظلمة. وفاعل أظلم ضمير يعود على الليل المفهوم من سياق الكلام وصدرت الجملة بكلما والثانية بإِذا. قال الزمخشري: لأنهم حراص على وجود ما هممهم به معقودة من إمكان المشي وثابتة فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها وليس كذلك التوقف والتجسد " انتهى ". ولا فرق هنا بين كلما وإذا لأنه متى فهم التكرار من كلما لزم منه التكرار في إذا لأن الأمر دائر بين إضاءة البرق والاظلام فمتى وجد هذا فقد هذا يلزم من تكرار وجود هذا تكرار عدم هذا ومفعول شاء محذوف وكثيراً ما يحذف لدلالة المعنى عليه خصوصاً بعد لو وأدوات الشرط وتقدم ذكر الآذان والأبصار فقال: " لذهب بسمعهم وأبصارهم " وقرىء بأسماعهم وأعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالقدرة، لأن بالمشيئة والقدرة تمام الأفعال وكان بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه ولما بالغ في حال المستوقد وما عرض له بالغ في حال هؤلاء النفر وما عرض لهم من الحيرة والمبالغة في حال المشبّه بهما تقتضي شدة المبالغة في حَال المشبّه ونحن نختار أن هذين التشبيهين هما من التمثيلات المركبة ومن المفسرين من جعل ذلك من قبيل التمثيلات المفردة فقابل شيئاً من أوصاف المشبه به لشيء من أوصاف المشبه وقد تقدم شيء من ذلك في تمثيل المستوقد وأما هنا فقال قابل الله القرآن بالصيب لنزوله من علو وعماهم عن تعقله بالظلمات، والوعيد والزجر بالرعد، والنور والحجج الباهرة بالبرق وتخويفهم بجعل أصابعهم في آذانهم وتكاليف الشرع بالصواعق، ولما ذكر الله تعالى المكلفين من المؤمنين والكفار المختوم عليهم بالموافاة على الكفر والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يؤل إليه حال كل منهم وأبرز حال المنافقين في أسوأ صور الأمثال خاطب جميع الناس فقبلا عليهم بالنداء لأن فيه هدى لما يلقيه إليهم من أمر العبادة له. ويا حرف نداء ومع كثرة النداء في القرآن لم يناد إلا بيادون سائر حروف النداء. وأيّ: لها محامل وهي هنا المنادى يوصل بها إلى نداء ما فيه ألْ. وهما: حرف تنبيه لازم لا يجوز حذفه. و ﴿ ٱلنَّاسُ ﴾ صفة لأي واجب رفعهما. ولفظ ﴿ رَبَّكُمُ ﴾ مناسب إذ هو السيد والمصلح ومن كان مالكاً أو مصلحاً أحوال العبد فجدير أن يعبد ولا يشرك به ونبه بوصف الخلق على استحقاقه للعبادة دون غيره أفمن يخلق كمن لا يخلق. والخلق والاختراع والإِيجاد على تقدير وترتيب.﴿ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ قدم خلف المخاطبين وإن كان من قبلهم تقدم زمان خلقهم لأن علم الانسان بحال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولاً على أحوال أنفسهم أهم وآكد. وبدا أولاً بصفة الخلق إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها وهم المخاطبون والناس تبع لهم إذ نزل القرآن بلسانهم ودخلت من هنا على الزمان، إذ التقدير من زمن قبل زمان خلقكم وقرىء في بفتح الميم قبل منصوبا. وخرج الزمخشري ذلك على إقحام الموصول الثاني كما أقحم في يا تيم تيم عدي والأحسن في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون على إضمار مبتدأ محذوف تقديره والذين هم من قبلكم وذكر خلق من قبلهم لأنهم أصولهم فخلق أصولهم إنعام على الفروع. ولعل فيها لغات ولم يجيىء في القرآن إلا أفصحها وهي للترجي والاطماع وذلك بالنسبة إلى المخاطبين والمعني إذا عبدتم ربكم رجوتم حصول التقوى وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة فتعلقت جملة الرجاء باعبدوا. وذكر الزمخشري وابن عطية تعلقها بخلقكم والذي تؤدوا لأجله هو الأمر بالعبادة والموصول وصلته على سبيل المدح الذي تعلقت به العبادة فلم يجيىء الموصول ليحدث عنه بل في ضمن المقصود بالعبادة وأما صلته فلم يجيىء لإِسناد مقصود إنما جيء بها لتتميم ما قبلها فلا يتعلق بها ترج بخلاف اعبدوا فإِنها الجملة المفتتح بها أولاً والمطلوبة من المخاطبين وإذا تعلقت باعبدوا ناسب خطاب لعلكم تتقون.
الذي جعل يجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف ونصبه صفة لما قبله أو على القطع وأجيز رفعه على الابتداء والخبر.﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً ﴾ وهو في نهاية الضعف لمضي الصلة فلا يناسب دخول الفاء في الخبر وللربط بالاسم الظاهر وهو لله فلا تجعلوا له وأجاز مكي رحمه الله أن ينتصب على أعني وليس بالتفسير فيحتاج إلى إضمار أعني وأن ينتصب بتتقون وهو إعراب تنزه القرآن عنه، والأحسن جَعْل جَعَلَ بمعنى صيّر، فينتصب فراشا وبناء على المفعول لا يمعنى خلق فينتصبان على الحال. ومعنى فراشا: تستقرون عليها. والفراش والمهاد والبساط والقرار والوطاء نظائر، والبناء مصدر يراد به المبني فهو تشبيه بما يفهم كقوله:﴿ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ ﴾[الذاريات: ٤٧] شبهت بالقبة المبنية على الأرض. ومن السماء متعلق بانزل أو في موضع الحال فتتعلق بمحذوف إذ لو تأخر لكان صفة لما فيكون التقدير من مياه السماء ونكر ماء لأن المنزل لم يكن عاماً فتدخل فيه أل.﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ ﴾ أي بالماء. والباء للسببية وهذه السببية مجاز، إذ هو تعالى قادر على أن ينشىء الأجناس وقد أنشأها من غير مادة ولا سبب ولكن لما وجد خلقه بعض الأشياء عنه أمر ما أجرى ذلك الأمر مجرى لسبب لا انه سببه حقيقة ومن للتبعبيض وأل في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه ولا حاجة إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتعاور بعضها موضع بعض لاكتفائها في الجمعية نحو: كم تركوا من جنات وثلاثة قروء، فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار كما ذهب إليه الزمخشري وأبعد من جعل من زائدة وألْ في الثمرات للاستغراق لأن زيادة مِنْ في الواجب وقيل: معرفة انفرد بجوازه الأخفش ولأن من الثمرات ما لا يكون رزقاً لنا فلا يصح الاستغراق واحتمل رزقاً أن يكون كالطحن. فينتصب على الحال. وأن يكون مصدراً فيكون مفعولاً من أجله وقرىء من الثمرة على التوحيد ولكم في موضع الصفة ان كان رزقاً بمعنى المرزوق وفي موضع المفعول إن كان مصدراً وجوز أن يتعلق بأخرج. وقدم خلق الانسان لأنه أقرب إلى معرفته ثم بخلق الآباء ثم بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء، وقدم السماء على نزول المطر وخروج الثمرات لأنه كالمتولد بين السماء والأرض؛ والأثر متأخر عن المؤثر. قال أبو عبيدة: النداء الضد وقيل: الكفؤ والمثل. ولما كانوا اتخذوا أندادا جاء النهي عن جعل أنداد لله تعالى على حسب الواقع. وهذه الجملة متعلقة بقوله: اعبدوا، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة لأن أصلها هو التوحيد. وقال الزمخشري: تتعلق بلعل على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطلع في قوله﴿ لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ أَسْبَابَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ فَأَطَّلِعَ ﴾[غافر: ٣٦-٣٧] في رواية حفص عن عاصم أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه ولا تشبهوه بخلقه " انتهى ". فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية. وتجعلوا منصوب على جواب الترجي ولا يجوز على مذهب البصريين وفي كلامه تعليق لعلكم تتقون بخلقكم على ما مر من مذهبه الاعتزالي ويجوز أن يكون متعلقاً بالموصول وصلاته إذا جعلت. الذي خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة على توحيده.﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ جملة حالية فيها هُزء لترك الأنداد أي أنتم من أهل العلم والتمييز بين الحقائق فلا تفعلوا فعل أجهل العلم أو أبعدهم عن الفطنة. وقدروا مفعول تعلمون أنواعاً من التقادير والأولى أن يكون متروكاً إذ المقصود إثبات أنهم من أولي العلم. قال ابن عطية: هذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإِنسان.. إلى آخر كلامه وهذا خطأ في التركيب لأنه لا ينوب أن ومعمولاها مناب مفعولي أعطى بخلاف باب ظن.﴿ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾: " الآية " ليست ان بمعنى إذ ولا كان هنا ماضية المعنى واللفظ ولم تخلصه ان للاستقبال وإن كان الريب وقعوا فيه حقيقة كما زعموا بل أخرج هذا الشرط في صورة المستقبل أي هو مما يعرض وقوعه وإن كان لا يمكن وجوده إذ وضوح انتفاء أن يكونوا في ريب من جهته غير خاف، وفي ريب هو من تنزيل المعاني منزلة الاجرام. ومن: تحتمل ابتداء الغاية والسببية. وما موصولة، أي من الذي نزلنا والعائد محذوف أي نزلناه وأجيز أن تكون نكرة موصوفة ونزلنا تضعيفه مرادف للهمزة التي للنقل. وقرىء: أنزلنا وليس التضعيف هنا دالاً على نزوله منجماً في أوقات مختلفة خلافاً للزمخشري قال: فإن قلت: لم قيل مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الانزال؟ قلت: لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي. " انتهى ". وهذا الذي قاله الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هو الذي يعبر عنه بالتكثير أي يفعل ذلك مرة بعد مرة فيدل على هذا المعنى بالتضعيف وذهل الزمخشري عن كون ذلك إنما يكون في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية، نحو: خرجت زيداً وفتحت الباب وقطعت وذبحت. فلا يقال: جلّس زيد ولا قعّد ولا صَوّم. ونزلنا لم يكن متعدياً قبل التضعيف إنما تعدى بالتضعيف أو الهمزة فإِن جاء التكثير في لازم فهو قليل ويبقى على حاله لازماً قالوا مات المال وموت إذا كثر ذلك فيه وأيضاً فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة الفعل إما أن يصير اللازم متعدياً فلا ونزلنا كان قبل التضعيف لازماً تقول نزل القرآن، ويدل على بطلان ما ذهب إليه قوله تعالى:﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾[الفرقان: ٣٢].
ففي قوله تعالى:﴿ نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا ﴾ التفات إذ هو خروج من غائب إلى متكلم ويفيد التفخيم للمنزل والمنزل عليه، وفي إضافة العبد إليه تعالى تنبيه على عظم قدره واختصاصه بخالص العبودية. ولفظ العبد عام وخاص وهذا من الخاص لا تدعني إلا بيا عبدها لأنه أشرف أسمائي. وقرىء على عبادنا. يعني الرسول وأمته. قيل: ويحتمل أن يراد بالعباد النبيون الذين أنزل عليهم الكتب والرسول عليه السلام أول مقصود بذلك. والسورة المنزلة الرفيعة وسميت سورة القرآن بذلك لأنه يشرف بها قارئها. وقيل: قطعة من القرآن من أسأرت من السؤر والهمزة في سؤرة لغة وطلب منهم الإِتيان بمطلق سورة وهي التي أقلها ثلاث آيات وتقدم وإن كنتم في ريب مما نزلنا ولم يكن التركيب في ريب من عبدنا، فناسب أن يكون الضمير في من مثله عائداً على المنزل لا على المنزل عليه. والمطلوب في غير هذا أن يأتوا بسورة مثله وبعشر سور مثله، وقال علي أن يأتوا بمثل هذا القرآن. ومن في موضع الصفة: أي من كلام مثله. وقول من قال: انها لبيان الجنس أو زائدة مرغوب عنه. والمثلية في حسن النظم وبديع الوصف وغرابة الأسلوب والأخبار بالغيب مما كان وما يكون ومما احتوى عليه من الأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والحكم والمواعظ والأمثال والصدق والأمن من التحريف والتبديل. وقيل: الضمير في مثله عائد على المنزل عليه فمن متعلقة بقوله: فاتوا، أي فاتوا من مثل الرسول بسورة. أو في موضع الصفة، أي بسورة كائنة وصادرة من رجل مثله. وفي كلا التقديرين من الابتداء الغاية والمثلية تتجه على كونه على الفطرة الأصلية أميّاً لا يحسن الكتابة ولا دارس العلماء ولا جالس الحكما ولا فارق وطنه الذي نشأ فيه. وإذا كان الضمير في من مثله عائداً على المنزل فذكر المثل على سبيل الفرض. والشهداء جمع شهيد للمبالغة كعليم وعلماء. وكونه جمع شاهد كشاعر وشعراء وليس من باب فاعل. وقال الزمخشري: ولا قصد إلى مثل ونظير هنا ولكنه مثل قوله القبعثري للحجاج. وقال له: لا حملنك على الأدهم مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقوة وسط اليد، ولم يقصد أحداً يجعله مثلاً الحجاج. " انتهى ". وقد فسر هو المثلية: في كونه بشراً عربياً أميّاً لم يقرأ الكتب. فقوله لا مثل ولا نظير ليس بظاهر لأن المماثل في هذا الشيء الخاص موجود ومن دون الله يحتمل أن يتعلق بشهداءكم أي ادعوا من اتخذتم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم أنكم على الحق أو أعوانكم من دون الله أي من دون أولياء الله ومن تستعينون بهم دون الله أو يتعلق بادعوا أي وادعوا من دون الله أي لا تستشهدوا بالله فتقولوا الله يشهد ان ما ندعيه حق ولم يكتف في تعجيزهم بأن يعارضوه حتى أمرهم أن يدعوا شهداءهم فيستعينون بهم على ذلك وهو أمر تعجيز. والظاهر أنّ ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ ﴾ في كونكم في ريب من المنزل على عبدنا، وجواب الشرط محذوف أي فأتواه
ولما كان الأمر أمر تهكم وتعجيز أخبر أنهم ليسوا قادرين على المعارضة بقوله: ولن تفعلوا. وجاء بلن وإن كان الغالب أنها تدخل على الممكن تهكماً بهم على أنها ربما تدخل على الممتنع وعبر بالفعل عن الاتيان لأنه ما من شيء من الاحداث إلا يصح أن يعبر عنه بالفعل. وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم. قال: وجزمت لم لأنها أشبهت لا في التبرئة في أنهما ينفيان وكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة ولن تفعلوا إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وفيه دليل على إثبات النبوة إذ هو إخبار بالغيب ولم يقع من أحد معارضة أصلاً ولن تفعلوا جملة اعتراض لا موضع لها من الإِعراب. وقال الزمخشري: واقتران الفعل بلن في هذه الجملة دون لا وان كانتا أختين في نفس المستقبل، لأن في لن توكيد أو تشديد أتقول لصاحبك لا أقيم غداً. فإِن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً كما تفعل في أنا مقيم واني مقيم. " انتهى ". وهذا مخالف لما حكي عنه أنّ لن تقتضي التأبيد فيما نفي. وقال ابن خطيب: زملكاً لن تنفي ما قرب ولا يمتد النفي فيها وهذا يكاد يكون عكس قول الزمخشري وكون لن تقتضي التأكيد أو التأبيد أو نفي ما قرب أقوال متأخرين والرجوع ذلك لمستقرىء اللسان سيبويه ومن في طبقته قال سيبويه: لن نفي لقول سيفعل، ولا نفي لقول يفعل. " انتهى ". وهو نص على أنهما ينفيان المستقبل.﴿ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ﴾ جواب على الشرط الذي هو فإِن لم تفعلوا وكني به عن ترك العناد لأن من عاند بعد وضوح الحق له استوجب العقاب بالنار واتقاء النار من نتائج ترك العناد. قيل وعرّفت النار ووصفت بالتي وصلت لتقدم ذكرها في سورة التحريم إذ تلك الآية نزلت بمكة وهذه بالمدينة. وقرىء ﴿ وقودها ﴾ على أن يراد به الذي توقد به. ووقودها - بضم الواو - وهو مصدر أي ذووا وقودها أو جعلوا المصدر مبالغة وحكي المصدر بالفتح أيضاً وقرىء وقيدها أي موقودها.﴿ وَٱلْحِجَارَةُ ﴾ يناسب أن تفسر بالأصنام لقوله تعالى:﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾[الأنبياء: ٩٨].
أعدت للكافرين الكثير في لسان العرب ان الاعداد لا يكون إلا للموجود وهو التهيئة والارصاد. قال الشاعر: أعددت للحادثان سابغة وعداء علندا   وقد تكون فلما هو في معنى الموجود كقوله تعالى:﴿ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾[الأحزاب: ٣٥].
قال ابن عطية في قوله: أعدت، رد على من قال بأن النار لم تخلق حتى الآن وهذا القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد. " انتهى ". ولفظه للكافرين لا تدل على اختصاصهم بدخول النار وإنما نص تعالى عليهم لانتظام المخاطبين فيهم والجملة استئناف إخبار. وقال أبو البقاء في موضع: الحال من النار والعامل، واتقوا. " انتهى ". وجعلها حالاً لا يظهر إذ يصير المعنى فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين وهي معدة للكافرين اتقى هؤلاء النار أو لم يتقوها فيكون إذ ذاك حالا لازمة. والبشارة أول خبر يرد على الإِنسان وأكثر ما يستعمل في الخير، ولما ذكر الكفار ومآلهم ذكر مقابلهم المؤمنين ومآلهم لتكون الموعظة جامعة بين الوعيد والوعد والمأمور بالتبشير الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل من تصح البشارة منه من غير تعيين. قال الزمخشري: وهذا أحسن وأجزل فإِنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة. " انتهى ". والوجه الأول عندي أولى لأن أمره عليه السلام بالبشارة مخصوصاً بها أفخم وأجزل وكأنه ما اتكل على أن يبشر المؤمنين كل سامع بل نص على أعظمهم وأصدقهم ليكون ذلك أوثق عندهم وأقطع في الاخبار بهذه البشارة العظيمة إذ تبشيره تبشير من الله تعالى والجملة من " وبشر " معطوفة على ما قبلها وليس الذي اعتمدت بالعطف عليه هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإِزهاق، وبشر عمراً بالعفو والاطلاق: قاله الزمخشري وتبعه أبو البقاء. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون قوله: وبشر، معطوفاً على قوله: فاتقوا النار، ليكون عطف أمر على أمر. قال الزمخشري: كما تقول: يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بني أسد بإِحساني إليهم. " انتهى ". وهذا خطأ لأن قوله: فاتقوا النار، جواب للشروط وموضعه الجزم والمعطوف على الجواب جواب ولا يمكن في قوله: وبشر، أن يكون جواباً لأنه أمر بالبشارة مطلقاً لا على تقدير فإِن لم تفعلوا، بل أمر أن يبشر الذين آمنوا أمراً ليس مترتباً على شيء قبله. وليس قوله: وبشر، على إعرابه مثل ما مثل به من قوله: يا بني تميم إلى آخره. لأن قوله: احذروا لا موضع له من الاعراب، بخلاف قوله: فاتقوا فلذلك أمكن فيما مثل به العطف ولم يمكن في: وبشر. وقرىء: وبشر ماضياً مبنياً للمفعول. قال الزمخشري: عطفاً على أعدت. " انتهى ". وهذا الاعراب لا يتأتى على قول من جعل أعدت جملة في موضع الحال، لأن المعطوف على الحال حال، وبشر لا يكون حالاً وبشر يتعدى إلى مفعول بنفسه وإلى آخر بحرف الجر وهو قوله: إن لهم جنات، وحذف منه الحرف وهو في موضع نصب على مذهب الخليل لا في موضع جر خلافاً لمن قال: مذهب الخليل انه في موضع جر وهو ابن مالك قاله في التسهيل وهو كان قليل الالمام بكتاب سيبويه وجاءت صلة الموصول بالماضي لا باسم فاعل دلالة على أن المستحق للتبشير بفضل الله من وقع فيه الإِيمان وتحقق به وبالعمل الصالح. و ﴿ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ﴾ صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل فانتصبت على أنها مفعول به مألْ فيها للجنس لا للعموم، والظاهر أن من اقتصر على الإِيمان فقط دون العمل الصالح لا يكون مبشراً بالجنة من هذه الآية. والجنة: البستان الذي سترت أشجاره أرضه والنهر دون البحر وفوق الجدول وفتح الهاء اللغة العالية. وقال الزمخشري: الجنة: اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان. " انتهى ". وقوله: على حسب استحقاق العاملين فيه دسيسة الاعتزال. واللام في لهم للاختصاص وتقديم الخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود الضمير على الذين آمنوا فهو أسر للسامع وليست من زائدة. ولا: بمعنى في، فإِن كانت الجنة الأشجار الملتفة ذوات الظل فلا حذف أو الأرض فعلى حذف أي من تحت أشجارها أو غرفها ومنازلها ومن لابتداء الغاية وأحسن أوصاف الجنة جريان الماء الذي هو كالروح لها لذلك لا يكاد يأتي ذكرها إلا مشفوعاً بجري الأنهار. وقال ابن عطية: نسب الجري إلى النهر وإنما يجري الماء وحده توسعاً وتجوز، كما قال:﴿ وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ﴾[يوسف: ٨٢].
وكما قال الشاعر: واستب بعدك يا كليب المجلس   ثم ناقض فقال بعد ذلك بنحو من خمسة أسطار: والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة. وأل في الأنهار للجنس. وقال الزمخشري: أو يراد أنهارها فعوّض التعريف باللام من تعريف الاضافة. كقوله تعالى:﴿ وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً ﴾[مريم: ٤].
" انتهى ". وهذا شيء قاله الكوفيون ولا تكون أل عند البصريين تنوب مناب الاضافة: قيل: أو تكون أل للعهد الثابت في الذهن من الأربعة المذكورة في سورة القتال. والجملة من قوله: ﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ ﴾ مستأنفة. لما ذكر تبشير المؤمنين بالجنة ووصفت بجري الأنهار تشوقت الجملة النفوس إليها وإلى ذكر حال المؤمنين فيها فبدأ بذكر ملاذها والأهم منها فقيل: كلما. وجعل الجملة صفة للجنان أو في موضع رفع على الابتداء مضمراً هي كلما أوهم كلما مرجوح لافتقارها في هذين الوجهين إلى موصوف أو إلى محذوف واستقلالها إذا كانت استئنافاً. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الذين آمنوا أي مرزوقين على الدوام ولا يتم إلا إن كانت حالاً مقدرة لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين ولا قائلين هذا الذي رزقنا من قبل. والضمير في " منها " عائد على الجنات ومن ثمرة بدل اشتمال أعيد معه الجار. ومن لابتداء الغاية فيهما ويتعلقان برزقوا على جهة البدل. وجاز الزمخشري أن يكون من ثمرة بياناً قال على منهاج قولك: رأيت منك أسد. " انتهى ". وكون من للبيان ليس بمذهب للمحقين وقد تأولوا ما استدل به القائلون بأنّ من تكون للبيان. وعلى تقدير أن تكون من تأتي للبيان لا يتمشى هذا، لأن البيانية ان كان قبلها معرفة قدر مكانها مضمر صدر الموصول يكون كتلك المعرفة وإن كان قبلها نكرة قدر ضمير مكان من، ويكون ما دخلت عليه خبراً لذلك الضمير، وهذان التقديران تفسيراً معنى لا تفسير إعراب ولا يجيئان هذان التقديران هنا. وأما: رأيت منك أسداً، فمن لابتداء الغاية. إذ للغاية ابتداء وانتهاء، نحو: أخذته منك ولا يراد بالواحد الشخص الواحد من التفاح مثلاً، بل المراد والله أعلم: النوع من أنواع الثمار. وقال الزمخشري: وعلى هذا، أي على تقدير أن تكون بياناً يصح أن يراد بثمره النوع من الثمار والجنات الواحدة. " انتهى ". وهذا تقريع على أن من تكون بياناً. ورزقاً أي مرزوقاً وتبعه فيه المصدرية لقوله هذا " واتوا " وهذا الذي مبتدأ وخبر أي مثل الذي وحذف مثل لاستحكام الشبه حتى كان هذه العين تلك. ومن قبل متعلق برزقنا وهو مقطوع عن الإِضافة والتقدير من قبل المرزوق. وهذا (وقال) ابن عطية: هذا إشارة إلى الجنس أي هذا من الجنس الذي رزقناه من قبل. " انتهى ". فيصير التركيب هذا الجنس من هذا الجنس ولعل الناسخ صحف مثل بمن أي هذا الجنس مثل الجنس ومعنى قالوا أي قال بعضهم لبعض، وذلك على سبيل التذكر لنعم الله. وقيل: ذلك على سبيل التعجب يرزقون الثمرة ثم مثلها صورة والطعم مختلف فيتعجبون. " وأتوا " مبنيّ للمفعول والآتي بتلك الخدم والولدان. وقرىء وأتوا مبنياً للفاعل وهو إضمار الآتين دل عليه المعنى ألا ترى إلى قوله:﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ ﴾[الإنسان: ١٩].
الآية. والضمير في " به " عائد على الرزق الذي هو من الثمار كما أن هذا إشارة إليه. وقال الزمخشري: فإِن قلت: إلى (م) يرجع الضمير في قوله: وأتوا به؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لأن قوله: هذا الذي رزقنا من قبل انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. " انتهى ". وهذا غير ظاهر بل الظاهر أن يعود به على المرزوق في الآخرة لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل مع أنه إذا فسرت القبلية بما في الجنة تعين عود الضمير إلى المرزوق في الجنة ولا سيما إذا أعربت الجملة من قوله: وأتوا حالاً، أي قالوا كذا وقد أتوا به، أو كانت معطوفة على قالوا: لأن ما في حيز كلما والعامل فيها مستقبل المعنى لأنها لا تخلو من معنى الشرط، أو كانت مستأنفة لأن هذه الجمل إنما جيىء بها محدّثاً عن الجنة وأحوالها وكونه مخبراً عن المرزوق في الدنيا والآخرة انه متشابه ليس من حديث الجنة إلا بتكلف. و ﴿ مُتَشَٰبِهاً ﴾ حال من الضمير في به، أي بالمرزوق في حال تشابهه وأطلق التشابه ولم يقيده وقيده المفسرون بمحتملات. وقال الزمخشري: إن ثمر الجنة متشابه بثمر الدنيا وأطال القول في ذلك والذي يظهر أن المتشابه فيه كونه يشابه بعضه بعضاً في أعلا غاية الجودة ليس فيه تنافر كما في ثمر الدنيا إذ تجد النوع الواحد مختلفاً في الجودة والرداءة اختلافاً كثيراً ويتباين حتى يساوي بعض النوع إضعاف ما يساوي بعضه ولما كانت مجامع اللذة في المسكن البهيّ والمشرب الرويّ والمطعم الشهيّ والمنكح الوضيّ ذكرها تعالى فيما بشر به المؤمنين وبدأ بالمسكن لأن به الاستقرار، ثم بالمشرب والمطعم لأن بهما قوام الجسم، ثم بالأزواج لأن لها تمام اللذة والأنس. فقال: ﴿ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ والأولى أن تكون جملة مستأنفة كما اخترنا في كلما لأن في جعلها استئنافا اعتناء بالجملة إذ سيقت كلاماً تاماً لا يحتاج إلى ارتباط صناعي. وأزواج مبتدأ ورفعه يدل على الاستئناف إذ لم يشرك مع جنات في العامل. والمراد بالأزواج القرناء من النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره. ففي الحديث الصحيح ما يدل على كثرة الأزواج للرجل الواحد. وجاء أزواج جمع قلة لأن استعماله هو الكثير وهو المقيس في فعل المعتل العين وقد جمع زوج على زوجة جمع الكثرة لكن استعماله قليل وليس بالقياس. ومطهرة: صفة للأزواج مبنية على طهرت كالواحدة المؤنثة. وقرىء مطهرات على طهرن وبناؤه للمفعول أفخم إذاً فهم إن لها مطهراً وليس إلا الله تعالى وتطهيرهن من الأوصاف القبيحة في الخلق والخلق: وقرىء مطهرة وأصله متطهرة فادغم ولما ذكر مجامع اللذة أعقب بما يزيل تنغيص العيش بذكر الخلود. وظاهر اللغة ان الخلود هو البقاء الدائم الذي لا ينقطع. قال زهير: فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت   ولكن حمد الناس ليس بمخلد. والحياء تغير في الوجه يعتري من خوف لوم أو ذم، وضدّه الوقحة.. قيل لما ضرب تعالى المثل بالعنكبوت والذباب وغيرهما وسبق في هذه السورة ضرب المثل بالمستوقد والصيب أنكر بعض الكفار أن يكون الله تعالى يضرب الأمثال بهذه فنزلت:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً ﴾ واستحيا موافق للمجرد وهي حي بمعنى استحيا واستحا يستحي لغة تميمية واستحيا لغة حجازية. وأكثر نصوص أئمة النحو أن المحذوف في استحا في لغة تميم عين الكلمة فوزنه استغل. ومعنى لا يستحي: لا يترك، لأن الاستحياء محال حقيقة على الله تعالى والترك من ثمرة الحيا لأن من استحيا من شيء تركه وضرب الشيء مثلاً تصييره وقد عد بعض النحاة في باب ظننت ضرب مع المثل وغيره. قال المعنى وضع وبين. و " البعوضة ": حيوان معروف. والمشهور نصب بعوضة وقرىء بالرفع فالنصب على أن يكون صفة لما وصفت باسم الجنس وما بدل من مثلاً ومثلاً مفعول بيضرب أو عطف بيان من مثل أو بدلاً منه أو مفعولاً بيضرب ومثلاً حال من نكرة تقدمت عليها أو مفعولاً ثانياً ليضرب أو أول ليضرب ومثلاً ثانياً أو منصوباً على إسقاط الجار التقدير ما بين بعوضة فما فوقها. والذي نختاره أن مثلاً: مفعول يضرب، وما: صفة لمثلاً زادت النكرة شياعاً وبعوضة بدل واما الرفع أي رفع بعوضة فخبر مبتدأ على أن ما موصولة بمعنى الذي وهو بدل من مثلاً أو على أن يكون ما استفهاماً وبعوضة خبر ما أو خبر هو محذوفة، وما: زائدة أو صفة وهو بعوضة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق.﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ أي في العظم كالذباب والعنكبوت المضروب بهما المثل. وقيل: فما فوقها في الصغر أي يزيد عليها في قلة الحجم ولو أريد هذا المعنى لكان التركيب فما دونها.﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ جاءت الجملة باما لا بقوله: فالذين، لأن ما في حيز اما من الخبر كان واقعاً لا محالة ومفيدة أنه مترتب على ما تضمنته اما من الشرط والضمير في أنه عائد على المصدر المفهوم من يضرب أو على المصدر المفهوم من انتفاء الاستحياء أو على المثل وهو الظاهر. لقوله:﴿ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً ﴾ وأخبر تعالى عن المؤمنين بالعلم وهو الجزم المطابق بدليل، وعن الكافرين بالنطق اللساني، المتضمن لاستغراب الاستهزاء. وماذا اما استفهام كله ركب ذا مع ما فيكون منصوباً بأراد أيْ أيّ شيء أراد الله بهذا أو ما استفهام وهو مبتدأ، وذا موصول بمعنى الذي خبر عن ما والعائد محذوف وجعل ابن عطية هذين القولين مسألة اختلاف بين النحويين وليست كذلك بل كل من شذا شيئاً من علم العربية أجاز هذين الوجهين وعلى تجويزهما المعربون والمفسرون وانتصب مثلاً على التمييز المؤكد قيل أو الحال من اسم الاشارة أي ممثلاً به أو عن الفاعل أي ممثلاً وعن الكوفيين نصبه على القطع.﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾ جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين وجعل ذلك صفة لمثلاً بعيد جداً إذ يكون من كلام الكفار وإسناد الإِضلال إلى الله حقيقة. والزمخشري في مثل هذا على مذهب الاعتزال. وتجوز ابن عطية أن يكون يضل به كثيراً من كلام الكفار ويهدي به كثيراً من كلام الله تفكيك للكلام وهو غير ظاهر. وقرىء يضل به كثير ويهدي به كثير وما يضل به إلا الفاسقون مبنياً للمفعول وقرىء مبنياً للفاعل وياء المضارعة مفتوح ورفع الثلاثة وقرىء يضل بضم الياء وما يضل بفتح الياء ورفع الفاسقين. والضمير في به: عائد على المثل أي يضربه والفاسق الخارج عن طاعة الله تعالى.﴿ ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ ﴾ صفة للفاسقين صفة ذم لازمة أو نصب على الذم أو رفع على هم الذين، وإعرابها مبتدأ، والخبر جملة أولئك.﴿ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ ﴾ استئناف لا تعلق له بما قبله والظاهر تعلقه بما قبله. وكل فاسق ناقص لعهد الله قاطع ما أمره بوصله ثم لما وصفه بهذا أخبر بخسرانه. وعهد الله تعالى هو ما ضمنه تعالى في كتبه المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه من أمره بطاعته ونهيه عن معصيته وإقراره بالعباد والميثاق وفعال من الوثاقة والأصل في مفعال أن يكون صفة كمعطار أو آلة كمحراث. وظاهر كلام الزمخشري وابن عطية: أنه اسم بمعنى المصدر أو أنه مصدر. قال الزمخشري: بمعنى التوثقة كما أن الميعاد بمعنى الوعد، والميلاد بمعنى الولادة. وقال ابن عطية: اسم في معنى المصدر كما قال: اكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك أي إعطائك ولا نعلم مفعالاً جاء مصدراً ولا عدوه في أبنيته والضمير في ميثاقه عائد على العهد وقيل على الله. وقال أبو البقاء: إن أعدته إلى الله كان المصدر مضافاً إلى الفاعل، وإن كان أعدته إلى العهد كان مضافاً إلى المفعول، وما بمعنى الذي عامة في كل ما أمر الله بوصله. وأمر حذف مفعوله الذي يتعدى إليه بنفسه أي ما أمرهم. وبه: عائد على ما وأن يوصل بدل منه أي بوصله وإعرابه بدلاً من ما أو مفعولاً من أجله تقديره كراهية أن يوصل أو تقديره لئلا يوصل أو خبر مبتدأ تقديره هو أن يوصل أعاريب ضعيفة وإن كانت منسوبة لمشهورين. والفساد في الأرض ناشىء عما تقدم من الأوصاف الذميمة وبدا في ترتيب هذه الصلات. أولاً بنقض العهد وهو أخص، ثم يقطع ما أمر الله بوصله وهو أعم. من نقض العهد ثم بالافساد في الأرض وهو أعم من القطع، وكلها ثمرات الفسق. وجاء بالفسق في صلة أل مشعراً بالثبوت وهذه الصلات بالمضارع مشعرة بالتجدد ثم أشار إلى من جمع هذه الأوصاف وأخبر عنه بالخسران بفوات المثوبة ولزوم العقوبة.
﴿ كَيْفَ ﴾ استفهام عن حال وهو استفهام توبيخ وتعجب وإنكار حال وقع فيها الفعل إنكار للفعل نفسه. تقول: كيف تؤذي زيداً وقد أحسن إليك. فالمعنى على إنكار اذايته في هذه الحال. و ﴿ تَكْفُرُونَ ﴾ التفات إذ هو خطاب بعد غيبة وناسب الانكار لأن الانكار على المخاطب أبلغ من الانكار على الغائب ولعل الانكار لا يصل إليه.﴿ وَكُنْتُمْ ﴾ جملة حالية ومجيىء الماضي حالاً بالواو دون قد في القرآن وكلام العرب كثير. وقال الزمخشري: فإِن قلت: كيف صح أن يكون حالاً وهو ماضٍ ولا يقال جئت وقام القوم ولكن جئت وقد قام القوم إلا أن تضمر قد؟ قلت: لم تدخل الواو على كنتم أمواتاً وحده ولكن على جملة. قوله: كنتم أمواتاً إلى ترجعون، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنك كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء.﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ بعد هذه الحياة.﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ بعد الموت ثم يحاسبكم. " انتهى ". وهذا الذي قدره حالاً من تصديره بجملة اسمية وإضمار أنكم خبراً لمبتدأ تلك الجملة تركيب غير محتاج إليه فقد ذكرنا وقوع الماضي حالاً بالواو دون قد وأنه كثير وإنما أحوجه إلى تقدير الحال جملة إسمية اعتقادان جميع الجمل مندرجة في الحال ولذلك قال البعض: القصة ماض وبعضها مستقبل والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يكون حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه فما الحاضر الذي وقع حالاً. قلت: هو العلم بالقصة كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة وبأولها وآخرها. " انتهى ". ولا يتعين أن تكون جميع الجمل مندرجة في الحال ولا سيما قوله:﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ فإِنهم منكرون. البعث، والحساب وهو عندهم في حيّز المستحيل عقلاً أو عادة والتصريح بذلك موجود عندهم في غير آية من القرآن بل الحال قوله:﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ﴾ ويكون المعنى: كيف تكفرون بالله وقد خلقكم. فعبر عن الخلق بذلك كقوله عليه السلام:" ان تجعل لله نداً وقد خلقك "أي أن من أوجدك بعد العدم الصرف حر أن لا تكفر به ولما كان مركوزاً في الطباع وفي العقول ان لا خالق إلا الله كانت حاله تقتضي أن لا يجامع الكفر فلا يحتاج إلى تكلف ان الحال هو العلم بهذه الجملة وعلى هذا الذي شرحناه يكون قوله تعالى:﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ إلى آخره جملاً أخبر الله تعالى بها مستأنفة لا داخلة تحت الحال ولذلك غاير فيها بحرف العطف وبصيغة الفعل ما قبلها من الحرف والصيغة والتعبير عن العدم الصرف بالموت مجاز وللمفسرين هنا والمنسوبين إلى علم الحقائق أقوال اخترنا منها هذا القول وهو اختيار ابن عطية. واختار الزمخشري أن الموت الأول كونهم نطفاً في أصلاب آبائهم ثم إليه أي إلى جزائه. وقرىء ترجعون مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول لازماً ومتعدياً. ولما ذكر تعالى هذه الأطوار التي جعلها لهم ذكر امتنانه عليهم. فقال: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ﴾ أي لأجلكم.﴿ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ عام فمنه للاعتبار ومنه للإنتفاع الدنيوي. ثم ذكر تعالى عظيم قدرته في العالم العلوي وأنه والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء وإن علمه محيط بكل شيء. وثم تقتضي التراخي في الزمان ولا زمان ولما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسيْ والسَمْكِ وتقدير الأقوات عطف بثم إذ بين خلق الأرض وما فيها وبين الاستواء تراخ وإن لم يقع ذلك في زمان. والاستواء مجاز عن تعلق قدرته بما يفعل بالسماء وضمّن معنى عَمَدَ فلذلك عدي بإِلى والسماء جمع سماوة أو اسم جنس والتسوية جعلهن سواء بالنسبة إلى سطوحها واملاسها. والضمير في " سوّاهن " عائد على السماء وانتصب سبع سموات على الحال أو على البدل من الضمير وقال الزمخشري: والضمير في سوّاهن ضمير مبهم وسبع سموات تفسيره كقولهم ربّه رجلاً. " انتهى ". مفهوم كلامه أن هذا الضمير يعود على ما بعده وهو مفسّر به فهو عائد على غير متقدم الذكر والمواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده ليس هذا منها وكونه يعود على ما بعده يكون الكلام مفلتاً مما قبله ويصير أخباراً بجملتين إحداهما أنه استوى إلى السماء والأخرى سوّى سبع سموات. وتقدم الربط بين الجملتين والظاهر أن الذي استوى إليه هو المسوّى سبع سموات وجعل سوي بمعنى صير فينتصب سبع على أنه مفعول ثان غير معروف في اللغة وإعراب سبع على أنه مفعول سوي والتقدير فسوى منها غير مستقيم لا لفظاً ولا معنى وناسب مقطع هذه " الآية " بالوصف بمبالغة العلم لما تقدم من الأفعال التي فعلها الله تعالى في العالم السفلي والعالم العلوي ثم ذكر تعالى فبدأ عالم الانسان وحاله.﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ ﴾ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والناصب لإِذ قالوا أتجعل أي وقت قول الله للملائكة:﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا ﴾ كما تقول إذ جئتني أكرمتك أي وقت مجيئك أكرمتك وللمفسرين والمعربين في العامل في إذ ثمانية أقوال تنزه القرآن عنها والملك ميمه أصلية وجمعه على ملائكة أو ملائك شاذ واشتقاقه من الملك وهو القوة وكأنهم توهموا أنه فعّال. وقيل: الميم زائدة من لاك إذا أرسل قالوا ملاك فخفف بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام وقيل من الالوكة وهي الرسالة فاصلة مالك ثم قلب فصار ملاك ثم نقل وحذفت الهمزة فوزنه فعل وقيل من لاك الشيء إدارة في فيه وهو مفعل كمعاد ثم قذفت العين فوزنه مفكْ وهمزها في ملائكة شاذ كهمز مصائب والتاء في الملائكة لتأنيث الجمع وإسناد القول إلى ربك في غاية من المناسبة وفيه خروج من الخطاب العام في قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ إلى الخطاب الخاص في قوله:﴿ رَبُّكَ ﴾ وفي الخطاب هو لاستماع ما يذكر بعده من غريب افتتاح هذا العالم الإِنساني وشيء من أحواله ومآله وإشارة إلى الخطاب الأعظم من الجملة المخبر بها إذ هو عليه السلام أعظم خلفائه والخليفة فعيلة بمعنى الفاعل والهاء للمبالغة وقيل بمعنى المفعول كالنطيحة والهاء للمبالغة واللام في الملائكة للتبليغ. والجعل الظاهر أنه الخلق وقيل التصيير ويقال سفك وسفّك مضعفاً وأسفك ومضارع سفك يسفك ويسفك بكسر الفاء وضمها والسفك الصب. والدماء جمع دم محذوف اللام ووزنه فعيل وقيل فعل وقصره وتضعيفه مسموع. والتقديس التطهير والتسبيح التنزيه والبراءة من السوء. وقرىء خليقة بالقاف والظاهر عموم الملائكة وقيل الذين كانوا يسكنون الأرض وعموم الأرض وقيل أرض مكة وذكروا في قول الله للملائكة ما قال اموراً لا تقطع بصحتها ولله سبحانه وتعالى أن يخاطب من شاء بما شاء وإن خفيت الحكمة. ولما كانت الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول لم يكن قولهم أتجعل فيها " الآية " إلا عن نبأ سابق ومقدمة لم تذكر في القرآن فنعّلمها قيل وهو استفهام على معنى التعجب من استخلاف الله من يعصيه وقيل على طريق الاكبار للاستخلاف والعصيان ولما كان قول الملائكة مع عصمتهم ظاهرة الاعتراض تأول العلماء جوابهم على وجوه أحسنها عندي أنهم كانوا حين القول لهم فجملين وإبليس مندرج في جملتهم فورد منهم الجواب مجملاً فلما انفصل إبليس عن جملتهم بآبائه واستكباره انفصل الجواب إلى نوعين فنوع الاعتراض كان عن إبليس وأنواع التقديس والتسبيح كان عن الملائكة فانقسم الجواب إلى قسمين كانقسام الجنس إلى نوعين وناسب كل جواب من ظهر عنه وقرىء ويسفك بضم الياء ويسفك بشد الفاء وقرىء ويسفك بنصب الكاف على جواب الاستفهام. وقال ابن عطية: النصب بواو الصرف. " انتهى ". وليس ذلك من مذاهب البصريين ولما كانت صلة من يفسد وهو مضارع مثبت فلا يدل على التعميم في الفساد نصوا على أعظم الفساد وهو سفك الدماء إذ هو إفساد للهياكل الجسمانية التي خلقها الله وتكرر فيها تنبيهاً على أن ما كان محلاً للعبادة لا يكون محلاً للفساد والباء في ﴿ بِحَمْدِكَ ﴾ للحال أي ملتبسين بحمدك.﴿ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ قيل: أي نطهر أنفسنا لك من الادناس. وقيل: اللام زائدة. وقيل: مقوية للفعل. وأعلم مضارع وما موصولة وكون ما نكرة موصوفة وكون أعلم أفعل التفضيل أي أعلم منكم وما منصوب بفعل محذوف أو اعلم بمعنى عالم وما مجرور بالاضافة أو منصوب باعلم وهو لا يتصرف أقوال لا يناسب أن﴿ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ إبهام تعرض المفسرون لتعيينه بأقوال مضطربة والأحسن أن يفسر بما أخبر به تعالى في قوله تعالى:﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ " الآية ".﴿ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ﴾ قيل هنا جملة محذوفة يتم بها المعنى ويصحح لعطف وتقديرها فجعل في الأرض خليفة وسماه آدم ولما كان محذوفاً مع الجملة أبرزه في قوله:﴿ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ﴾، ونص عليه منوعاً باسمه ومبيّناً من فضله ما لم يكن معلوماً عند الملائكة. وعلم منقول من علم التي تتعدى إلى واحد بالتضعيف فتعدت إلى اثنين والمنقولة بالهمزة من علم التي تتعدى إلى اثنين فتعدت إلى ثلاثة فرقوا بينهما قال الأستاذ أبو علي: وآدم فاعل ان كنا نزن الأعجمية كآزر وعابر منع الصرف للعلمية والعجمة ودعوى الاشتقاق في ألفاظ العجم من ألفاظ العرب غير صواب والظاهر أن الله تعالى علمه لا بواسطة ملك ولا إلهام. وقرىء وعلم مبنياً للمفعول والتأكيد بكلها يدل على العموم في الأسماء ولا يدل على التعليم بجميع اللغات ولا على عرض المسميات عليه وقدروا أسماء المسميات فحذفت المسميات.(قال) الزمخشري: وعوض منه اللام كقوله: واشتعل الرأس شيباً. " انتهى ". وتقدم أن اللام عوض من الاضافة ليس مذهب البصريين وعلى تقدير ذلك لا يصح هنا لأن اللام عند من جعلها عوضاً انما يكون المعوض عنه المضاف إليه ضمير وهنا لم يقدروه إلا إسماً ظاهراً فلا يجوز لا على رأس بصري ولا كوفي وقدروا أيضاً مسميات الأسماء ولا يظهر لقوله تعالى:﴿ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾.
﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ ﴾ الضمير عائد على غير مصرح بذكره بل دل عليه ما قبله إذ معلوم أن الأسماء لها مسميات ودلت ثم على تراخ بين التعليم والعرض ليتقرر التعليم في قلبه ويتحقق ثم يستخبره عما تحقق، كما قال تعالى:﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾[القيامة: ١٦].
فقال أنبئوني أعقب العرض بهذا القول للملائكة ولما لم يتقدمهم تعليم لم يخبروا ولما تقدم. لآدم أخبر أظهاراً لعنايته السابقة له منه تعالى وهم في عرضهم تدل على العقلاء أو يكون فيهم غير العقلاء فغلب العقلاء وقرىء فعرضها وفعرضهن والجيد أن يكون ضمير المسميات فتتفق القراءات وظاهر﴿ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ ﴾ العموم وقيل: الملائكة الذين كانوا في الأرض مع إبليس بأسماء هؤلاء يدل على حضور أشخاص حالة العرض على الملائكةو ﴿ أَنْبِئُونِي ﴾ أمر تعجيز لا تكليف وقرىء أنبؤني بضم الباء بلا همز.﴿ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ ﴾ أَي مصيبين. عبر عن الاصابة بالصدق كما يعبر عن الخطأ بالكذب، ومتعلق الاصابة كونهم قالوا: أتجعل " الآية ". وفيها ظهور شفوق على من جعله خليفة فأراهم مما أودع في خليفته شيئاً لم يودعه فيهم وهو العلم وجواب الشرط محذوف تقديره فأنبؤني دل عليه انبؤني وهذا مذهب جمهور البصريين ووهم المهدوي وتبعه ابن عطية فنسبا إلى المبرد أن جواب الشرط محذوف كما قلنا والنقل المحقق عن المبرد ان جواب الشرط في مثل هذا هو انبؤني السابق. وكذلك وهم ابن عطية وغيره فزعما أن مذهب سيبويه جواز تقديم الجواب على الشرط وان قوله: انبؤني المتقدم هو، الجواب وعن القراء في نحو هؤلاء ان مما التقت فيه الهمزتان مكسورتين تحقيقهما وتليين الأولى وتحقيق الثانية وتحقيق الأولى وإبدال الثانية ياء وإسقاط الأولى وتحقيق الثانية وانتصب.﴿ سُبْحَٰنَكَ ﴾ على معنى المصدر والعامل فيه واجب الحذف وكونه مبنياً ومنادى مضافاً قولان مرغوب عنهما، والكاف في سبحانك مفعول أضيف إليه سبحانك أي تنزيهك وقيل فاعل أي تنزهت، وقدموا بين يدي الجواب تنزيه الله تعالى اعتذاراً وأدباً منهم في الجواب وإشعاراً بأن ما صدر منهم قبل يمحوه هذا التنزيه لله تعالى، ثم أجابوا بنفي العلم بلفظ لا والنكرة التي تستغرق كل فرد فرد من أنواع العلوم ثم استثنوا من ذلك مما علمهم هو تعالى وهذا غاية في ترك الدعوى والاستسلام التام للمعلم الأول الله تعالى وانظر إلى حسن هذا الجواب قدموا بين يديه تنزيه الله سبحانه وتعالى ثم اعترفوا بالجهل ثم نسبوا العلم لله تعالى واردفوا صفة العلم بصفة الحكمة إذ بان لهم وصف الحكمة في قوله:﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ وقدم وصف العلم لأن الذي ظهرت به المزية لآدم هو العلم ولأن الحكمة من آثار العلم.﴿ قَالَ يَآءَادَمُ ﴾ ناداه باسمه العلم وكذا نادى أنبياءه يا نوح يا موسى يا داود ونادى محمداً صلى الله عليه وسلم يا أيها الرسول يا أيها النبي فانظر تفاوت ما بين النداءين، وحين خاطب الملائكة قال: أنبؤني، وقال: يا آدم أنبئهم، فجعل من اعترضوا به معلماً لهم ومنبئهم بما تقاصرت عنه علومهم ليظهر بذلك شفوقه عليهم.﴿ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾ بين هذه الجملة والتي قبلها جملة محذوفة والتقدير فأنباهم وقرىء أنبئهم بالهمزة وضم الهاء وبالهمز وكسر الهاء. وأنبهم بإِسقاط الهمزة. وغيب السماوات والأرض هو ما تقاصرت عنه علوم الخلق والهمزة من " الم " للقرير.﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ﴾ أي من الطاعات. واعلم مضارع، وما: مفعول فالخلاف فيه كالخلاف في واعلم ما لا تعلمون.﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ من شفوفهم على من يجعله خليفة وفي قوله: وما كنتم تكتمون، دلالة على أن الكتم وقع فيما مضى، وليس المعنى كتمه عن الله لأنهم أعرف بالله واعلم، فلا يكتمون الله شيئاً، وإنما المعنى أنهم هجس في أنفسهم شيء كتمه بعضهم عن بعض والابداء والكتم طباق من علم البديع.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا ﴾ قيل إذ زائدة أو معطوفة على إذ في وإذ قال وقيل: منصوبة باذكر وقيل بأبي واختار أن العامل محذوف تقديره انقادوا فسجدوا لأن السجود كان ناشئاً عن الانقياد وفي قلنا خروج عن ضمير المتكلم المفرد إلى ضمير الجمع أو المعظم نفسه وناسبت النون الآمر لأنه في غاية التعظيم والتعظيم ادعى لامتثال الأمر من غير بطىء ولا تأوّل ولذلك نظائر. وقلنا يا آدم اسكن وقلنا يا نوح اهبط، قلنا يا نار كوني، وقلنا لبني إسرائيل اسكنوا، وقلنا لهم ادخلوا، والخلاف في الملائكة أهو عام أم الذين في الأرض كهو في وإذ قال ربك للملائكة. وقرىء ﴿ لِلْمَلَٰئِكَة ٱسْجُدُواْ ﴾ بضم التاء وغلطت هذه القراءة وخطئت ونقل انها لغة لا زد شنوءة، وهذا الضم اتباع لضمة جيم اسجدوا، واسجدوا أمر بالسجود أمر تكليف وفهموا منه أنه على الفور وظاهر السجود وضع الجبهة وانه كان " لآدم " تكرمة له وقيل لله تعالى ونصبه قبْله فالمعنى إلى آدم واللام في لآدم للتبيين.﴿ فَسَجَدُواْ ﴾.
أي له.﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ استثناء من واجب فيرجح النصب وهو متصل عند الجمهور وامتنع إبليس من الصرف للعلمية والعجمة ومن جعله مشتقاً. قال: وشبه العجمة لكونه لم يسم به أحد من العرب فصار خاصاً بمن أطلقه الله تعالى عليه وكأنه دخيل في لسانهم وهو علم مرتجل والظاهر أنه مندرج في الملائكة فهو منهم ولذلك ترتب الذم له والطرد. وقيل: هو استثناء منقطع وأنه أبو الجن كما أن آدم أبو البشر.﴿ أَبَىٰ ﴾ امتنع وأنف من السجود.﴿ وَٱسْتَكْبَرَ ﴾ تعاظم في نفسه واحتقر من أُمِر بالسجود له والاستكبار من أفعال القلوب وقدم الآباء عليه وإن كان أول لأن الآباء هو الظاهر وهو ناشىء عن الاستكبار ولما كان الاستناد إلا على أن إبليس ترك السجود ذكر سبب امتناعه من السجود فكأنه قيل: وما له لِمَ لمْ يسجد؟ فقيل: أبى. ومفعوله محذوف أي أبى السجود وأبى فعل واجب. ومعناه النفي، وأبى كذا، أبلغ من لم يفعل كذا، لأن النفي بلم قد يكون لعجز أو غيره وأبى يدل على الامتناع والانفة وإن كان متمكناً من فعل الشيء.﴿ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ ﴾ أي كان في علم الله ممن سيكفر أو وصار من الكافرين ولا تدل صلة أل على أنه سبقه كفار في الأرض. ولما شرف تعالى آدم برتبة العلم وإسجاد الملائكة امتنّ عليه بإِسكان الجنة التي هي دار النعيم وأسكن من السكون.﴿ وَقُلْنَا ﴾ معطوف على وإذ قلنا لا على ما بعد إذ. وفائدة النداء تنبيه المأمور لما يلقى إليه من الأمر واسكن وما بعده مشتمل على إباحة وهو الأمر بالسكنى والاذن في الأكل وتكليف وهو النهي الوارد ويدل وزوجك على وجودها زوجة له. قيل: الأمر بالسكنى واللغة الفصيحة زوج وقالوا: زوجة وزوجك معطوف على الضمير المتصل المستكن في أسكن المؤكد بانت ودعوى أنه من عطف الجمل والتقدير وليسكن زوجك ليست بصحيحة. والجنة: دار الثواب. وقيل: كانت في الأرض.﴿ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ﴾ أي واسعاً كثيراً لا عناء فيه وتميم تسكن غين رغدا وقرىء به. و ﴿ حَيْثُ ﴾ ظرف مكان أذن لهما في الأكل في أي ناحية منها أرادا. وقول ابن عطية: ان النون حذفت من كلا للأمر لا يجوز إلا على مذهب الكوفيين، إذ يعتقدون أنه مجزوم بلام الأمر إذ أصله عندهم لتأكلا.﴿ وَلاَ تَقْرَبَا ﴾ مبالغة في النهي عن الأكل لأن النهي عن قربان الشيء أكد من النهي عن الشيء وان كان المعنى لا تقربا.﴿ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ ﴾ بالأكل لأن المأذون فيه هو الأكل وقرىء ولا تقربا - بكسر التاء -. وهذه: إشارة للحاضر القريب من المخاطب وقرىء هذه والشجرة نعت أو عطف بيان ويظهر أنها شجرة معينة من الجنس المعلوم وقيل الاشارة إلى جنس من الشجر معلوم ولهم في تعيين أي شجرة هي أقوال: وقرىء الشجرة - بكسر الشين، وبإِبدال الجيم ياءً وكسر الشين - وتصغّر على هذه اللغة شييرة.﴿ فَتَكُونَا ﴾ منصوب على جواب النهي وأجازوا أن يكون مجزوماً عطفاً على المجزوم ولا يدل العطف على السببية بخلاف النصب.﴿ مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ ﴾ لأنفسهما بمخالفة النهي ودل ذلك على أن النهي نهي تحريم.﴿ فَأَزَلَّهُمَا ﴾ أزل من الزلل، وهو عثور القدم. يقال منه: زلت قدمه وأزال من الزوال وهو التنحية. وقرىء فازالهما. و ﴿ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ هنا إبليس بلا خلاف وذكروا في كيفية محادثة إبليس وأين كان منه اضطراباً. وقد قص الله تعالى ذلك مستوفى في سورة الأعراف وغيرها فيعتمد ذلك. والضمير في عنها عائد على الجنة قيل أو الشجرة أي أصدر زلتهما عن الشجرة: وعن: للتسبيب، كقوله:﴿ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ ﴾[التوبة: ١١٤]، والأول أظهر لقراءة فازالهما إذ يبعد فأزالهما عن الشجرة.﴿ مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ من نعيم الجنة إلى شقاء الدنيا - والهبوط الخروج والدخول من الأضداد والمضارع يهبط - بكسر الباء وضمها - وقرىء: اهبطوا - بضم الباء وقيل: قوله:﴿ فَأَزَلَّهُمَا ﴾ جملة محذوفة، أي فأكلا من الشجرة ولما كان الأمر بالهبوط من الجنة فيه إنحطاط المنزلة لم يناده بخلاف ويا آدم اسكن واهبطوا أمر لجماعة آدم وحوّاء. قيل: وإبليس. وقيل: هما والحية أو هما فقط. لأن التثنية جمع في المعنى. ولقوله:﴿ قَالَ ٱهْبِطَا ﴾[طه: ١٢٣].
وقيل: هما وذريتهما، واندرجوا في الخطاب وإن لم يكونوا موجودين تغليباً للموجود والظاهر أنه هبوط واحد إلى الأرض لا هبوط إلى سماء الدنيا ثم هبوط إلى الأرض. وقالوا: هبطت حوّاء بجدة، وآدم عليه السلام بسرنديب بواد يقال له واشم، والحية بسجستان. وهي أكثر بلاد الله حيات. و ﴿ ٱهْبِطُواْ ﴾ أمر تكليف وإزعاج. والعداوة تفسر تفسير الضمير في اهبطوا. والجملة حال أي متعادين وليس خلوها من الواو شاذاً خلافاً للفراء وتبعه الزمخشري وليست حالاً منتقلة بل لازمة إذ لا ينفك وقوع الفعل إلا ملتبساً بها. وقال مكي: جملة مستأنفة إخبار من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدو وتخيل أن الحال بعد الأمر يقتضي أن يكون مأموراً بها ومستقر مكان استقرار أو استقرار وهو من القرار وهو اللبث والاقامة.﴿ وَلَكُمْ ﴾ هو الخبر. و ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ متعلق بما تعلق به الخبر وتقديمه مسوغ الجوز الابتداء بالنكرة ولا يتعلق لكم بمستقر سواء أكان مكاناً أو مصدراً ولا يجوز أن يكون في الأرض حالاً والعامل فيه العامل في الخبر ولا أن يكون خبراً ولكم حال لامتناع: في الدار قائماً زيد على الصحيح، وامتناع قائماً في الدار زيد بإِجماع. و ﴿ إِلَىٰ حِينٍ ﴾ أي إلى أجل أو إلى قيام الساعة وفيه دليل على عدم البقاء في الأرض ويتعلق بمتاع بمحذوف صفة لمتاع أوله ولمستقر وأفرد عدوّ على لفظ بعض أو لكونه يصلح للجمع.
﴿ فَتَلَقَّىٰ ﴾ تفعّل من اللقاء وافق تفعّل في المعنى المجرد وهو لقي، نحو: تعدّاك الأمر عداك. وقول من قال: أصله تلقن فأبدل من النون ألفاً لا يصح. وقرىء برفع آدم ونصب كلمات وبالعكس والتلقي الوصول ومن يلقاك فقد تلقيته. واختلفوا في تعيين الكلمات وقد أبهمها الله تعالى وقال سبحانه في سورة الأعراف:﴿ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾[الآية: ٢٣].
فلا يبعد أن تكون هذه الكلمات.﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ قبلها جمله محذوفة أي فقالها فتاب عليه أي فتفضل عليه بقبول توبته وأخبر عنه وحده لأنه هو المواجه بالأول والنهي وهي تابعة له أو طوى ذكرها كما طوى ذكرها في قوله وعصى آدم ربه فغوى وطي ذكر النساء في القرآن والسنة كثير. وقرىء أنه بفتح الهمزة على التعليل وفي المكسورة أيضاً ربط معنوي كقوله:﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ ﴾[يوسف: ٥٣].
وبالغ بقوله: هو وبالصفتين اللتين للمبالغة وتأخر الرحيم لأجل الفاصلة.﴿ قُلْنَا ٱهْبِطُواْ ﴾ تأكيد للأوّل أو لاختلاف ما جاء بعدهما فالأوّل معلق بالعداوة، والثاني بآيتان الهدى أو هما هبوطان كما تقدم." وجميعاً " حال. فقال ابن عطية: كأنه قال هبوطاً جميعاً أو هابطين جميعاً جعله نعتاً لمصدر محذوف أو لاسم فاعل محذوف كل منهما يدل عليه الفعل. قال: لأن جميعاً ليس بمصدر ولا اسم فاعل وهذا التقدير مناف للحكم الذي صدره لأنه قال: أوّلاً وجميعاً حال من الضمير في اهبطوا فإِذا كان حالاً على ما قرر أوّلاً فكيف يقدر ثانياً ذلك التقدير.﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم ﴾ كثر مجيىء مثل هذا التركيب في القرآن فاما نذهبن واما ينزغنك. وقال المهدوي وتبعه ابن عطية: امّا هي إنْ التي للشرط زيدت عليها ما للتوكيد في الفعل ولو سقطت يعني ما لم تدخل النون فما تؤكد أوّل الكلام والنون تؤكد آخره. وقال ابن عطية: دخلت ما مؤكدة ليصح دخول النون المشدّدة فهي تشابه لام القسم التي تجيء لمجيء النون. " انتهى ". وكون النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت أن بما قول للمبرد والزجاج واما سيبويه والفارسي وجماعة فجوّزوا حذف النون في الكلام إذا وصلت ان بما وان كان الحسن إثباتها ولم يخصوا ذلك بضرورة الشعر كما ذهب إليه المبرد والزجاج. و ﴿ مِّنِّي ﴾ متعلق بيأتينكم وانتقل من ضمير المعظم نفسه أو ضمير أكثر من الواحد إلى ضمير المتكلم الخاص به إشعاراً بأن الهدى لا يكون إلا منه تعالى وأن الحيز كله منه ودخلت ان وإن كانت للمحتمل وقوعه وهداه واقع لا محالة لأنه ابهم وقت الاتيان، وهذا الخطاب يدل على اندراج الذرية فيه وإن كانوا وقت خطاب أصلهم غير موجودين والتقسيم إلى متبع الهدى والكافر يدل عليه والهدى هو الكتب الالهية على أيدي الرسل عليهم السلام فمن تبع هداي جعل الهدى بمنزلة الامام المتبع المقتدي به وفي إضافته إليه تعالى من التعظيم ما لا يكون فيه لو أتى معرفاً باللام وإن كان ذلك سبيل ما يكون نكرة ثم يعاد وجواب فاما يأتينكم فمن تبع هداي. وقال السجاوندي: جوابه محذوف تقديره فاتبعوه. " انتهى ". وذهل عن أنه لا يحذف الجواب ألا ويكون فعل الشرط ماضي اللفظ أو منفياً بلم وعن الكسائي جواب الشرطين معا فلا خوف، ونصوص المعربين والمفسرين على أن من في. " فمن تبع " شرطية ويجوز عندي أن تكون موصولة بل يترجح لقوله في قسمه.﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ ﴾ فأتى به موصولاً ودخول الفاء على الجملة الخبرية جائز هنا قرىء هدايْ بسكون الياء وهديّ وهي لغة هذلية. وقرىء فلا خوف بالفتح في جميع القرآن وبالرفع من غير تنوين خوف لكثرة الاستعمال أو على نية ألْ وبالرفع والتنوين عادل بين دخولها على مبتدأ أولاً وآخراً.(وقال) ابن عطية: والرفع على أعمالها أعمال ليس ولا يتعين ما قاله لأن أعمالها ليس قليل جداً وينبغي أن لا ينقاس ولأنه يزول التعادل فلا خوف عليهم نزّل المعنى منزلة الجرم وقدم انتفاء الخوف على انتفاء الحزن لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات ولذلك أبرزت جملة مصدّرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي وأبرزت الثانية مصدّرة بالمعرفة. وفي قوله:﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن وإن غيرهم يحزن والظاهر عموم نفي الخوف والحزن عندهم لكن يختص ذلك بما بعد الدنيا لأنه قد يلحق المؤمن الخوف والحزن في الدنيا فلا يمكن الحمل على العموم.﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ ﴾ قسيم لقوله: ﴿ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ﴾، وهو أبلغ من قوله: " ومن لم يتبع هداي "، وإن كان التقسيم اللفظي يقتضيه لأن نفي الشيء يكون بوجوه عدم القابلية بخلقه أو غفلة أو تعمد تركه فأبرز القسم في صورة ثبوتية مزيلة للاحتمال الذي يقتضيه النفي. ﴿ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ ﴾ معين أنه يراد بالكفر هنا الشرك لا كفر النعمة ولا كفر المعصية والتكذيب بالآيات يدل على أنه بالكتب الالهية والاخبار الربانية لأن محل التصديق والتكذيب هو الخبر. ﴿ أُولَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ وجوز أن يكون عطف بيان وبدلاً. فيكون ﴿ أَصْحَٰبُ ﴾ خبرا والذين. و ﴿ هُمْ فِيهَا ﴾ خبر ثان لأولئك وتفسير وتبيين أن الصحبة أريد بها الملازمة لا مجرد الاقتران بل الخلود الدائم وحذف من القسيم الأول ذكر كونه في الجنة وعبر بانتفاء الخوف والحزن وحذف من الثاني لحاق الخوف والحزن وعبر بخلوده في النار.
" إسرائيل " اسم أعجمي ممنوع من الصرف وهو مركب، قيل: من اسرا: وهو العبد، وآيل: اسم الله تعالى. وعن من قال باشتقاقه أقوال وفي كيفية النطق به لغات إسرائيل واسراييل واسراءل واسرأل وتقول في جمعه اساريل وحكي اسارل وأسار له وأقبل عليهم بالنداء هزالهم لسماع ما يلقى إليهم وهم اليهود والنصارى وهذا أول افتتاح الكلام معهم. والذكر باللسان وبضم الذال ما كان بالقلب وإضافتهم إلى إسرائيل وهو يعقوب على نبينا وعليه السلام تنبيه لهم على اتباعه في الخير. والنعمة: اسم للشيء المنعم به فالنداء والأمر لبني إسرائيل الذين هم بحضرته عليه السلام بالمدينة وما والاها ويتنزل غيرهم في ذلك منزلتهم والوصف بالتي ﴿ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ مشعر بسبق علمهم، إياها وتعظيم لها إذ اسندها إلى ذاته في قوله: نعمتي وأنعمت ونعمه تعالى عليهم كثيرة وأعظمها الكتاب الالهي من التوراة والانجيل المبشرة بنوبة محمد صلى الله عليه وسلم.﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ ﴾ يقال أوفى ووفّى ووفى والعهد هو ما كانوا يذكرون من إيمانهم بالرسول المبعوث في زمانهم إذ كانوا يستفتحون به كما أخبر تعالى فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.﴿ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ وهو ترتيب إنجاز ما وعدهم على ذلك، الإِيفاء سماه عهداً على سبيل المقابلة أبرزه في صورة المشروط الملتزم به والمصدران مضافان للمفعول. وقرىء أوفّ من وفي مشدّداً وانجزم أوف على جواب الأمر وهل ضمّن الأمر معنى الشرط فانجزم أو نابت عن الشرط إن حذفت جملته قولان. والرهب الخوف وانتصب إياي بفعل محذوف تقديره وإياي ارهبوا وقدره السجاوندي قبله قال وارهبوا إياي وهو وهم منه لانفصال الضمير وناسب النصب لأن قبله أمر ولأنه آكد إذا برز في قالب جملتين. قال الزمخشري: وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد. وتقدم كلامنا معه في دعوى الاختصاص إذا تقدم المعمول على العامل والفاء في فارهبون دخلت في جواب أمر مقدر التقدير تنبّهوا فارهبون. وقرىء فارهبوني بإِثبات الياء وهو الأصل. وآمنوا أمر لبني إسرائيل إذ هم المأمورون قيل ولا يخص كعب بن الأشرف وأصحابه علماء اليهود.﴿ بِمَآ أَنزَلْتُ ﴾ وهو القرآن.﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ﴾ أي من التوراة واللام في لما مقوية للتعدية ومصدقاً حال مؤكدة وذو الحال الضمير المحذوف العائد وقيل ما.﴿ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾: لا مفهوم هنا لقوله أوّل فيكون قد أبيح لهم ثانياً وآخراً فمفهوم الصفة غير مراد وإنما ذكرت الأولية لأنها أفحش لما فيها من الابتداء بالكفر ونظيره قول الشاعر: من أناس ليس في أخلاقهم عاجل الفحش ولا سوء جزع   فعاجل لا مفهوم له وأضيف أول إلى المفرد وإن كان قبله جمع لأن المفرد إذ كان صفة جاز أن يطابق وأن يفرد وقد جاء ذلك في قوله: وإذ طعموهم فالأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع. أفرد في طاعم وطابق في جياع وتأوله النحاة فقدره الفراء الأم من طعم وقدره غيره إلام فريق طاعم وهنا يتقدر على قول الفراء أول من كفر. وعلى قول غيره: أول حزب كافر وبه عائد على المنزل.﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ الشراء هنا مجاز يراد به الاستبدال ولذلك دخلت الباء على الآيات وإن كان القياس أن تدخل على الثمن والمعنى بتغيير آياتي ووضعكم مكانها غيرها كما قال تعالى:﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ ﴾[البقرة: ٧٩] الآية وآياته ما أنزل الله تعالى من الكتب الإِلهية المحتوية على التكاليف والمعنى. والله أعلم. ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة ولا مفهوم لقوله قليلاً بل في ذلك التنبيه على خساسة أنفسهم إذ تبدلون الشيء العظيم في تحصيل الشيء الحقير من مطعم أو مشرب أو غير ذلك أو لأن ما حصل عن آيات الله كائناً ما كان هو قليل حقير.﴿ وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ ﴾ الكلام على هذا إعراباً فالكلام على وإياي فارهبون والفرق بين الفاصلتين أن ترك ذكر النعمة والإِيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك وترك الإِيمان بما أنزل الله تعالى والاشتراء بآيات الله الثمن اليسير من المعاصي التي تحتم العقاب وتعيّنه إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك فلذلك ختم تلك بالرهبة وهي الخوف وهذه باتخاذ الوقاية من النار.
﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ ﴾ أي لا تخلطوا الصدق بالكذب وكذبهم أنواع قد قص الله تعالى منها. والباء في الباطل للإِلصاق نحو خلطت الماء باللبن نهوا عن ذلك فلا يتميز الحق من الباطل. وأجاز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة كهي في كتبت بالقلم. قال: كأن المعنى ولا تجعلوا الحق ملتبساً بباطلكم. " انتهى " وفيه بعد عن هذا التركيب وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك.﴿ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ ﴾ مجزوم عطفاً على تلبسوا نهى عن كل واحد من الفعلين كما في قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، نهى عن كل منهما وجوزوا فيه أن يكون منصوباً وليس بجيد لأن النهي إذ ذاك يكون منسحباً على الجمع بين الفعلين كما في: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، إذا نصبت وتشرب ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما وذلك منهي عنه، ولذلك رجح الجزم. وقرىء وتكتمون ويخرج على الحال ولا يكون ذلك على إضمار مبتدأ أي وأنتم تكتمون ويكون إذ ذاك حالاً لازمة لأنه لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوماً. وقدره الزمخشري كلمتين وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ويجوز أن تكون جملة خبرية نعى الله تعالى عليهم كتمهم الحق وعطفت على جملة النهي ولم يراع التناسب في عطف الجمل وهو مذهب سيبويه ولوحظ المعنى لأنهم لم ينهوا إلا عن شيء فعلوه فتضمن معنى أنتم تلبسون الحق بالباطل والحق المكتوم هو أمر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وما جاء به وهو مذكور في كتبهم كانوا يعلمون ذلك ويظهرون خلافه ومعمول. تعلمون الأولى أن يكون حذف اقتصاراً أي وأنتم من ذوي العلم فلا يناسب من كان عالماً أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل وقدروا حذفه اختصاراً أي الحق من الباطل. قال الزمخشري: وأنتم تعلمون في حال عملكم أنكم لابسون كاتمون قال وهو أقبح لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه إنتهى. جعل مفعول العلم اللبس والكتم وكأنّ ما قدره على حذف مضاف أي وأنتم تعلمون قبح أو تحريم اللبس والكتم. وقال ابن عطية: حملة في موضوع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا. " انتهى ". فمفعول تعلمون هو الحق. وقال أيضاً: ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق. قال: ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال. " انتهى ". فتكون جملة نبوتية معطوفة على جملة النهي من غير مراعاة مناسبة في عطف الجمل.﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ ﴾ أي التي في الشريعة الاسلامية.﴿ وَٱرْكَعُواْ ﴾ لما كان الخطاب مع بني إسرائيل ولا ركوع في صلاتهم نبّهوا بالأمر به على أنه مطلوب في هذه الشريعة. وفي قوله: ﴿ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ ﴾ دليل على إيقاع ذلك في جماعة افتتح سبحانه وتعالى هذه الآيات بذكر النعم واختتمها بذكر الانقياد للمنعم وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية وهذه الأوامر والنواهي وإن كانت خاصة في الصورة ببني إسرائيل إذ هم المخاطبون بها هي عامة في المعنى والأمر طلب وجود الفعل والنسيان السهو الحادث بعد حصول العلم ويطلق أيضاً على الترك والتلاوة القراءة والعقل والادراك المانع من الخطأ.
﴿ أَتَأْمُرُونَ ﴾ استفهام توبيخ وتقريع والبر فعل الخير من صلة رحم وإحسان وطاعة لله تعالى نعى عليهم أمر ﴿ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ ﴾ الذي في فعله النجاة الأبدية وتركهم فعله حتى صار نسياً منسياً. و ﴿ أَنْفُسَكُمْ ﴾ هي ذواتهم.﴿ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ وأنتم قارئون وعالمون بما انطوى عليه فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم وخالفتموه أنتم. وفي و ﴿ أَنْتُمْ تَتْلُونَ ﴾ تبكيت عظيم وهي جملة حالية أبلغ من المفرد. و ﴿ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ التوراة والإِنجيل وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم.﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ تنبيه على أن ما صدر منهم خارج عن أفعال العقلاء ومركوز في العقل أن الإِنسان إذا لم يحصل مصلحة لنفسه فكيف يحصلها لغيره ولا سيما مصلحة تكون فيها نجاته، والفاء: للعطف كان الأصل تقديمها لكن الهمزة لها صدر الكلام فقدمت على الفاء هذا مذهب سيبويه، وذهب الزمخشري إلى أن الفاء واقعة موقعها ويقدر بين الهمزة والفاء فعلاً محذوفاً يصح العطف بالفاء عليه وحكم الواو وثم حكم الفاء في نحو: أو لم يسيروا أثم إذا ما وقع. وقد رجع الزمخشري في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة.﴿ وَٱسْتَعِينُواْ ﴾ اطلبوا المعونة﴿ بِٱلصَّبْرِ ﴾ وهو حبس النفس على ما تكره وقدمت الاستعانة بالصبر لتقدم تكاليف عظيمة يشق التزامها على من لم يألفها. و " ثنى " بـ " الصلاة " اذْ هي عمود الاسلام وبها يتميز المسلم من غيره ويحصل بها الاشتغال عن الدنيا وتطلع بالتلاوة على الوعد والوعيد وناهيك من عبادة يناجي ربه فيها خمس مرات في اليوم والليلة يناجي ربه ويستغفر ذنبه.﴿ وَإِنَّهَا ﴾ أي الصلاة. وقيل: الاستعانة.﴿ لَكَبِيرَةٌ ﴾ شاقة كبر على المشركين ما تدعوهم إليه أي شق.﴿ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ ﴾ استثناء مفرع أي الكبيرة على كل شخص لانطوائها على أوصاف هم يتحلون بها كخشوعهم من القيام لله والركوع والسجود له والرجاء لما عنده إذ مآلهم إلى السعادة فسهل عليهم ما صعب على غيرهم من المنافقين والمرائين.﴿ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم ﴾ يوقنون والظن بمعنى اليقين أو الترجيح مشهور عن العرب. ويتعدى في الدلالتين إلى مفعولين وتسدان مسدهما ولا يحتاج إلى تقدير ثان محذوف كما ذهب إليه الأخفش والمبرد.﴿ مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ ﴾ فاعل بمعنى المجرد ومن حيث الوضع يقتضي المشاركة لأن من لقيك فقد لقيته والمعنى والله أعلم ملاقوا جزاء ربهم. وقيل: كني بالملاقاة عن رؤية الله تعالى. وقيل: عن انقضاء آجالهم من مات فقد لقي. الله عز وجل غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه. وقيل: ملاقوا اثواب ربهم وعقابه. فعلى هذا يكون الظن بمعنى الترجيح.﴿ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ﴾ أي إلى ربهم. ﴿ رَٰجِعُونَ ﴾ أي إلى أمره.
﴿ يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ نودوا ثانياً على طريق التوكيد لينبّهوا على سماع ما يرد عليهم من شكر النعم. والفضل الزيادة في الخير وعطف الفضل على النعمة من عطف الخاص على العام وهو مما انفردت به الواو ويسمى التجريد كأنه جرّد من الجملة على سبيل التفضيل.﴿ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ ﴾ أي عالم زمانهم أو على كلهم بما أوتوا من الخصائص ككثرة الأنبياء وجعلهم ملوكاً وإيتائهم ما لم يؤت أحداً.﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً ﴾ أي العذاب يوماً أو جعل اليوم متقي توسعاً أو على حذف مضاف أي عذاب يوم.﴿ لاَّ تَجْزِي ﴾ أي لا تقضي. وقرىء لا تجزي أي لا تغني. وقيل: جزا وأجزأ بمعنى واحد. ولا تجزي جملة صفة فلا بد من تقدير حذف واصلة فيه فهل الحذف بتدريج أو حذف برمته ابتداء قولان. و ﴿ نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ ﴾ نكرتان في سياق النفي فيعمان. و ﴿ شَيْئاً ﴾ في سياقه فيعم وقيل عن نفس كافرة وشيئاً مفعول. وقيل: مصدر أي شيئاً من الجزاء أو الأجزاء، نحو: ضربت شيئاً من الضرب. وقرىء ﴿ وَلاَ تُقْبَلُ ﴾ بالتاء وبالياء مبنياً للمفعول. وتقبل بفتح التاء ونصب شفاعة وهو التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الخطاب والضمير في.﴿ مِنْهَا ﴾ عائد على النفس المتأخرة لقربها ويجوز على المتقدمة لأنها المحدث عنها وظاهر هذا التركيب أنه قد توجد الشفاعة وينتفي قبولها، ويجوز أن يكون من باب. على لا حب لا يهتدي بمنارة. واجمع أهل السنة على أن شفاعة الأنبياء والصالحين تقبل في العصاة من المؤمنين لثبوت الأحاديث الصحيحة في ذلك وخصوا ما ورد من عدم القبول بالكفار.﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ أي فداء من مال أو جزية.﴿ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ والنصر هو العون وأتى الضمير مجموعاً وان تقدم مفرداً لأنه في سياق النفي فيعم كقوله:﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾[الحاقة: ٤٧].
وحسن ذلك الفاصلة وذكر الضمير لأنه أريد بالنفوس الأشخاص. كقولهم. ثلاثة أنفس. وانسحب حرف النفي على جملة اسمية ليتكرر الضمير فيتأكد نفي النصر بذكر من نفى عنه مرتين وارتفع هم على الابتداء. أو على المفعول الذي لم يسم فاعله وهو أرجح لأن لا من الأدوات المرجحة للحمل على الفعل ولأن ما قبل هذه الحملة جملة فعلية فيحصل التشاكل والضمير في هم عائد على النفس الأولى أو الثانية أو كلتيهما أقوال وكان النفي بلا التي تكون للمستقبل غالباً لاستقبال الأربعة التي دخلت عليها لا، وجاءت الجمل مرتبة في الذكر على حسب الواقع في الدنيا لأن المأخوذ بحق إما أن يؤدي عنه، وإلا شفع فيه وإلا فدى وإلا تعوون على تخليصه. وهنا جاءت الشفاعة مقدمة على الفدية، وفي غير هذا جاءت الفدية مقدمة على الشفاعة لاختلاف الناس، فمن أحب الرياسة قدم الشفاعة على الفدية ومن أحب المال قدم الفدية على الشفاعة. وبدىء هنا بالشفاعة لأنها أليق بعلو النفس وجاء هنا بلفظ القبول وهناك بلفظ إشارة إلى انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما ترتب عليه أعطى المتقدم وجوداً تقدمه ذكراً هنا وهنالك أعطى المتأخر وجوداً تأخره ذكراً.
وفي العامل في " وإذ " تقديرات اخترنا أن يكون فعلاً محذوفاً يدل عليه ما قبله أي وأنعمنا عليكم﴿ إِذْ نَجَّيْنَٰكُم ﴾ وجاء بنون العظمة لأن الانجاء من عدوهم من أعظم النعم فناسب الأعظم نسبته للمعظم وقرىء نجيناكم والهمز والتضعيف للتعدية وقرىء نجيتكم فوافق الضمير ضمير نعمتي والمعنى خلصناكم.﴿ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ وهم الذين كانوا يبشارونهم بأمر فرعون وفرعون علم لمن ملك العمالقة وآله أتباعه على دينه وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة واشتقوا منه. قالوا: تفرعن الرجل تجبر وعتا والمشهور في اسمه الوليد بن مصعب وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، ولا يضاف آل إلا للرئيس الأعظم: قاله الأخفش. ويقال: سامه كلفه العمل الشاق.﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾ حال من آل فرعون أي سائميكم أو استئناف حكاية حال. ويقال: سامه خطة خسف أي كلفه. فيكون ﴿ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ ﴾ منصوباً مفعولاً ثانياً ليسوم وسوء العذاب الأعمال الشاقة من البناء والتخريب ونحت السواري من الجبال ونقل الحجارة وضرب اللبن وطبخ الأجر والنجارة والحدادة وضرب الخراج على ضعفتهم إلى غير ذلك مما يناسب هذه التكاليف وكان قومه جنداً وملوكاً. وقرىء ﴿ يُذَبِّحُونَ ﴾ مشدداً دالاً على التكثير ويذبحون من ذبح اكتفاء بالمطلق والجملة مستأنفة أو حال من ضمير الرفع في يسومونكم أو بدل من يسومونكم أو معطوفة عليه حذف منها حرف العطف لثبوته في سورة إبراهيم.﴿ أَبْنَآءَكُمْ ﴾ أي الأطفال.﴿ وَيَسْتَحْيُونَ ﴾ أي يبقونهن أحياء.﴿ نِسَآءَكُمْ ﴾ سمين بما يؤل إليه أمرهن للخدمة ولمن يفترشهن من أعدائهن. وقدم ذبح الأبناء على استحياء البنات لأنه أصعب وأشق إذ فيه إفساد الصورة بالكلية.﴿ وَفِي ذَٰلِكُمْ ﴾ إشارة إلى السوم والذبح والاستحياء.﴿ بَلاۤءٌ ﴾ شدة ومكروه.﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ دليل على أن الخير والشر من الله تعالى. فرق بين كذا وكذا فصل.﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا ﴾ قرىء مخففاً اكتفاء بالمطلق إذ معلوم التكثير بعدد الاسباط ومشدداً دلالة على التكثير. والباء في " بكم " للسبب أو المصاحبة أي ملتبساً بكم. والمعنى: جعلناه فرقاً بكم وهذا البحر يكون قريباً من مصر من بحارها يقال له اساف ويسمى اليوم بحر القلزم وفرقه قيل: عرضاً من ضفة إلى ضفة، وقيل: طولاً خرجوا إلى برية فلسطين وكان انفراق البحر بعدد الاسباط اثني عشر مسلكاً.﴿ فَأَنجَيْنَٰكُمْ ﴾ أي من الغرق ومن إدراك فرعون لكم وثم محذوف أي وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم.﴿ وَأَغْرَقْنَا ﴾ الهمزة للتعدية ويعدى أيضاً بالتضعيف.﴿ آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ لم يذكر آل فرعون فيمن لا غرق لأن وجوده معهم مستقر ولأنهم هم الذين سبق ذكرهم في السوم والتذبيح والاستحياء. وقد نص تعالى في غير هذا الموضع على فرقه وناسب نجاتهم من فرعون بإِلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين نجاة موسى على نبينا وعليه السلام من الذبح بإِلقائه في البحر وخروجه منه سالماً ولكل أمة نصيب من نبيّها وناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدعى وتغييبه في قعر الماء.﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ الجملة حال والنظر هنا من الأبصار أي وأنتم تبصرون هذه الخوارق من فرق البحر وانجاتكم وإغراق عدوكم.
وقرىء ﴿ وَٰعَدْنَا ﴾ ووعدنا فاحتمل واعد أن يكون بمعنى وعد واحتمل أن يكون من اثنين وعد الله موسى الوحي ووعده موسى المجيء للمقيات." وموسى " هو ابن عمران بن يصهر بن فاهت بن لؤي بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة.﴿ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ ذو الحجة وعشر من المحرم أو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة وقرىء أربعين بكسر الباء شذوذاً وانتصب على المفعول به إذ هي الموعودة أو على حذف أي تمام أو انقضاء أربعين ولا يجوز نصبه على الظرف لأنه معدود فيلزم أن يكون وقوع العامل في كل فرد فرد منها وليس كذلك. وفسّر بليلة لأن أول الشهر ليلة الهلال وهذه الموادعة بعد خروجهم من البحر أو بعدد دخولهم مصر بعد هلاك فرعون ونقل أنهم سألوه أن ينزل الله عليهم كتاباً والمعنى فخرج إلى ميقات ربه.﴿ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ ﴾ إدغام الذال في التاء وإظهارها فصيحان وقرىء بهما. والعجل أل فيه لتعريف الماهية أو للعهد السابق إذ كانوا قد صنعوه ونسب الاتخاذ إلى جميعهم وإن كان بعضهم لم يتخذ لأن القبيلة قد تذم وقد تمدح بما وقع من بعضها واتخذ إن كان بمعنى عمل تعدي إلى واحد وكان بعد ذلك محذوف مقدر أي وعبدتموه الها وإن كان بمعنى ما تعدي الى اثنين كان الثاني محذوفاً لدلالة المعنى أي ثم اتخذتم العجل الها وظاهر العجل انه عجل حقيقة وقيل شكل عجل.﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي من بعد مواعدته أو من بعد ذهابه إلى الطور.﴿ وَأَنْتُمْ ظَٰلِمُونَ ﴾ أي باتخاذكم العجل الها أو أخبار بأن سجيتهم الظلم وعبادتهم العجل تدل على انهم مجسمة أو حلولية.﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم ﴾ أي لم نؤاخذكم باتخاذكم العجل.﴿ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي بالثناء على المنعم المطابق لما يعتقده المنعم عليه من حق المنعم.﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ ﴾ وهو التوراة.﴿ وَٱلْفُرْقَانَ ﴾ أي تفرق بين الحق والباطل.﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ أي باتباع الكتاب المنزل والعمل بما فيه إذ اتباع الكتب الالهية سبب للهداية انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين وآتيناه الإِنجيل فيه هدى ونور.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ﴾ القوم اسم جمع لا واحد له من لفظه ويختص بالرجال. والبارىء الخالق وقيل: المبدع للشيء والخالق المقدر الناقل من حال إلى حال ونداؤه لهم مضافين إليه مشعره بالثخن عليهم وهزلهم لما يلقيه إليهم من أمر التوبة ونبههم على أن عبادة غير الله من الظالم وظلم الانسان نفسه أفحش من ظلم غيرها. والباء سببية في ﴿ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ ﴾ أي وعبادته أو إلهاً. وقرىء بارئكم بكسر الهمزة وباختلاس حركتها وبإِسكانها إجراء للمنفصل مجرى المتصل كابل في إبل ولا التفات لقول المبرد أن التسكين لحن. وقرىء بالياء مكسورة فاما إبدال الهمزة ياء على غير قياس وإما أن يكون من براغير مهموز وحرك الياء، نحو قول الشاعر: ويوماً يوافينا الهوى غير ماضي.﴿ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أمر بإِزهاق الروح بالقتل لمن اتخذ العجل ولا يكون إلا بوحي من الله تعالى، والظاهر أنهم أمروا بقتل انفسهم فيباشر الواحد قتل نفسه وإن كانت التوبة هي القتل فيكون فاقتلوا بدلاً من فتوبوا وإن كان القتل من تمام التوبة فالفاء للتعقيب والمعنى فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم.﴿ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ إشارة إلى القتل وجهة الخيرية إنه مفض إلى الخلاص من دخول النار، وخير أحد الخيور أو أفعل التفضيل أي الهلاك العاجل خير من الهلاك الدائم على حد العسل أحلى من الخل. ولكم في موضع الصفة إن كان خيراً من الخيور ومتعلق بخير إن كان أفعل التفضيل وتكرر لفظ.﴿ بَارِئِكُمْ ﴾ لكونه في جملتين.﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ إخبار بالتوبة عليهم وثم محذوف، أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم، وهاتان الجملتان مندرجتان تحت الاضافة إلى الظرف الذي هو إذ في قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ ﴾.
(وأجاز) الزمخشري أن يكون مندرجاً تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف كأنه قال: فإِن فعلتم فقد تاب عليكم، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوف وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز وذلك لأن الجواب يجوز حذفه كثيراً للدلالة عليه و فعل الشرط وحده دون الأداة فيجوز حذفه إذا كان منفياً بلا في الكلام النصيح، نحو: وان لا يَعْلُ مفرقك الحسام. فإِن كان غير منفي بلا فلا يجوز إلا في ضرورة، وكذلك حذفه وإبقاء إنْ امّا حذفهما معاً وإبقاء الجواب فلا يجوز إذ لم يثبت في كلامهم وجزم الفعل بعد الأمر والنهي ليس من هذا الباب.
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ ﴾ يعدد عليكم ما صدر منهم من سوء الاقتراح وفي ندائهم كليم الله باسمه دليل على سوء أدبهم معه وقد تكرر ذلك منهم في ندائه.﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ﴾ أي لن نصدقك فيما جئت به من التوراة وكانوا مؤمنين به ولذلك قالوا لك:﴿ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً ﴾ أي ينتفي إيمانهم إلى هذه الغاية فإِذا رأوا آمنوا له والرؤية بصرية وأكدت بجهرة مبالغة في الأبصار وانتصب على أنه مصدر نوع من الرؤية قيل: أو على أنه في موضع الحال أي ذو جهرة أو جاهرين بالرؤية وقرىء - بفتح الهاء - مصدراً كالغلبة أو جمع جاهر.﴿ فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ ﴾ أمر حدث عنه الموت.﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ ما حلّ بكم.﴿ ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ الظاهر أنهم ماتوا أو عبر بالموت عن الغشي وبالبعث عن الافاقة.﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ نعمته ببعثكم بعد الموت.﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ ﴾ أي سترناكم من حر الشمس بالسحاب والغمام، مفعول على إسقاط الباء أي بالغمام، أو مفعول به أي جعلناه عليكم ظلة.﴿ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ ﴾ وهو صمغة حلوة تسقط على الشجر.﴿ وَٱلسَّلْوَىٰ ﴾ وهو طائر وهو السماني قيل أو شبهه.﴿ كُلُواْ ﴾ أمر إباحة، أي وقلنا كلوا.﴿ مِن طَيِّبَاتِ ﴾ أي مستلذات إذ لا أشرف في المأكول من اللحم والحلو.﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾ نفي أن يقع منهم ظلم لله تعالى وفيه دليل على أنه ليس من شرط النفي إمكان وقوعه وكانت صدرت منهم قبائح كثيرة. فالمعنى لم يصل إلينا من ذلك ضرر بل وبال ذلك يختص بأنفسهم ولما كان قد وقع منهم ظلم ونفي أن يصل إلى الله تعالى تشوقت النفس إلى ذكر من وقع به الظلم فاستدرك أن ذلك الظلم الحاصل منهم إنما كان واقعاً وباله بهم. و ﴿ يَظْلِمُونَ ﴾ مضارع ماض من حيث المعنى.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ ﴾ هي بيت المقدس ويقال: قرية بكسر القاف لغة يمانية.﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ﴾ إباحة في أي مكان شاؤا وتأخر﴿ رَغَداً ﴾ وإن كان تقدم في قصة آدم لمناسبة الفاصلة بعده في قوله: سجداً، وتقدم هناك إذ لاصق الأكل. وهذا الباب الآن يسمى باب حطة أمروا بالدخول من الباب واضعي جباههم بالأرض.(وقال) الزمخشري: امروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله تعالى وتواضعاً. انتهى. ولم يؤمروا بالسجود بل هو قيد في وقوع المأمور به وهو الدخول والأحول نسب تقييديه والأوامر نِسَبْ إسنادية فتناقضتا وذكرت هيئات في الدخول وفي الصحيح دخلوا الباب يزحفون على استاههم.﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ أي مسألتنا حطة وهو مصدر، كنشدة أو هيئة كقعدة. وقرىء بالنصب لقوله: صبر جميل، أو صبراً جميلاً، لما سألوا حط ذنوبهم رئب على ذلك غفران الخطيئة.(وقال الزمخشري): فإِن قلت هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها بقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد. انتهى. وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات إلا إن كان المفرد مصدراً أو صفة له أو معبراً به عن جملة نحو قلت شعراً أو خطبة ليس واحداً من هذه ويكون على قوله من الاسناد اللفظي فلا يترتب على قوله إلا مجرد الامتثال بالنطق باللفظ فلا فرق بينه وبين اللفظ الغفل. ويبعد أن يترتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ لم يدل على معنى كلام. وقرىء " يغفر " بالياء والتاء مبنياً للمفعول وبهما مبنياً للفاعل ونغفر بالنون. وقرىء ﴿ خَطَٰيَٰكُمْ ﴾ وخطيئتكم وخطيّاتكم بهمز الألف الأولى دون الثانية وخطاياكم بهمز الثانية دون الأولى وتقدم الأمر بالدخول والأكل ودخول الباب. وقول حطة والجواب مترتب على دخول الباب بقيد السجود وقول حطة لقوة المناسبة والمجاورة. ويدل على ذلك قصة الاعراف وادغم قوم راء نغفر في اللام وسنزيد وفي الاعراف سنزيد، والذي فيها مختصر من هذه الا ترى إلى سقوط الواو من سنزيد وحذف رغداً فأرسلنا عليهم بالضمير.﴿ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ أي على غفران الخطايا ثواباً ودرجات من أحسن منهم.﴿ فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ انقسموا إلى ظالم وغير ظالم فإِن كانوا كلهم ظالمين كان من وضع الظاهر موضع الضمير أي فبدلوا ونبه على علة التبديل وهو الظلم والمبدل به محذوف تقديره فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة.﴿ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ ولما حذف ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر ولو لم يحذف لكان التركيب بقولهم حطة قولاً غيره وابهم الذي قالوه وفي الصحيح هو مفسر قالوا حبة في شعرة أمروا بأن يسألوا حط ذنوبهم فقالوا ذلك استهزاء وعدم مبالاة فاستحقوا النكال.﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ اشعار بعلية نزول الرجز وهو العذاب ولم يعين في القرآن نوعه. وقرىء " رُجزاً " بضم الراء.﴿ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ إشارة إلى الجهة التي نزل منها العذاب. وقرىء " يفسقون " بضم السين وكسرها.
﴿ وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ ﴾ طلب السقيا وهذا هو الانعام التاسع ومفعول استسقى محذوف أي ربه كما قال: إذ استسقاه قومه أي طلبوا منه السقيا فعداه إلى المستسقى منه وجاء معدي إلى المستسقي. قال الشاعر:" وأبيض يستسقى الغمام بوجهه "   فاحتمل أن يكون المحذوف ماء والاستسقاء يدل على فقدهم الماء أو قلته بحيث لا يكفيهم وثم محذوف أي إذا عطشوا.﴿ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ ﴾ أي فامتثل الأمر فضرب وفي هذا دليل على قدرة الصانع وإثبات نبوة موسى عليه السلام إذ هو خارق عظيم والاضافة في بعصاك إشعار بأنها التي كان يلازمها، ولعلها التي سأله الله تعالى عنها في قوله:﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ﴾[طه: ١٧].
والظاهر أن ألْ في الحجر للعهد قيل كان حجراً معيناً حمله معه من الطور. وقيل: ألْ للجنس فأي حجر ضرب. وفي وصفه ومن أي شيء كان أقوال مضطربة.﴿ فَٱنفَجَرَتْ ﴾ معطوف على ذلك المحذوف أي فضربت فانفجرت ودعوى إن فاء فانفجرت هي فاء فضرب فحذف ضرب لدلالة فائه عليه وحذفت فاء. فانفجرت لدلالة انفجرت عليها تخرص على العرب بغير دليل. (وزعم) الزمخشري أن الفاء ليست للعطف بل هي جواب شرط محذوف، كأنه قال: فإِن ضربت فقد انفجرت كما ذكرنا في قوله:﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾[البقرة: ٥٤]، وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلاّ في كلام فصيح. انتهى. كلامه. وتقدم ردنا عليه ذلك في قوله:﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾[البقرة: ٥٤].
ورددنا عليه هنا في الكتاب الكبير في تقديره بعد الفاء قد أي فقد تاب عليكم فقد انفجرت، والظاهر أن معنى انفجرت وانبجست واحد إذ هي قصة واحدة. وقيل: الانفجار اتساع الماء وكثرته وانبجاسه رشحه وأول خروجه ومن في. منه لابتداء الغاية والضمير عائد على الحجر وفيه من الاعجاز ظهور الماء من حجر لا اتصال له بالأرض فتكون مادته منها وخروجه كثيراً من حجر صغير وبقدر حاجتهم وعند الضرب بالعصا وانقطاعه عند الاستغناء عنه وعدد عيونه على عدد الاسباط. وقرىء عشرة بسكون الشين وكسرها وفتحها. و ﴿ ٱثْنَتَا ﴾ معرب. و ﴿ عَشْرَةَ ﴾ مبني في موضع خفص بالاضافة.﴿ عَيْناً ﴾ تمييز لازم الافراد وأجاز الفراء في مثل هذا جمعه.﴿ قَدْ عَلِمَ ﴾ أي عرف.﴿ كُلُّ أُنَاسٍ ﴾ أي من قومه الذين استسقى لهم.﴿ مَّشْرَبَهُمْ ﴾ أي العين الذي هو مشرب أي مكان شربه فلا يتعداه إلى عين غيرها والاضافة في مشربهم تدل على التخصيص وأعاد الضمير على معنى كل لا على لفظه فلا يجوز مشربه، والمعنى: مشربهم من تلك الأعين. وذكر المشرب تنبيه على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة.﴿ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ ﴾ أمر إباحة.﴿ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ ﴾ من للابتداء أو للتبعيض ولما كان من غير تعب أضيف إلى الله ويتعلق من بقوله:﴿ وَٱشْرَبُواْ ﴾، على أعمال الثاني. والرزق المرزوق وهو المن والسلوى والمشروب من ماء العيون ولما كان قد تهيأ لهم المأكول والمشروب من غير تعب نهوا عن الفساد إذ كان ذلك مما ما قد يدعو إلى الفساد. كما قال الشاعر: ان الشباب والفراغ والجدَةْ   مفسدة للمرء أي مفسدَهْ. والعثي أشد الفساد. ويقال: عثا يعثو وعثى يعثى عثياً فهو مما لامه ياء وواو." ومفسدين " حال مؤكدة. ولما سئموا من أكل طعام واحد مالوا إلى أكل ما كانوا ألفوه من اختلاف المأكل، قالوا:﴿ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ وسألوه أن يدعو الله لهم إذ كان سؤال النبي أقرب للإِجابة ولما كان ما يأكلونه لا يتبدل وصفوه بأنه طعام واحد ومتعلق الدعاء محذوف أي بأن يخرج لنا كذا ولفظة " ربك " تدل على الاختصاص به لما كان فيه من المناجاة وإنزال التوراة عليه.﴿ مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ ﴾ من تبعيضية.﴿ مِن بَقْلِهَا ﴾ بدل أعيد معه الجار وأسند الانبات إلى الأرض مجازاً لما كان الله جعل فيها قابلية الإِنبات، والبدل من التبعيض تبعيض. وفي البحران المهدوي وابن عطية وأبا البقاء قالوا: إن من في من بقلها لبيان الجنس، والبقل النعناع والكرفس والكراث وأشباهها. والقثاء معروف، وقرىء - بكسر القاف وضمها. والفوم: الثوم وقراءة عبد الله وثومها - بالثاء - فاحتمل أن يكون مما أبدلت ثاؤه فاء واحتمل أن يكون مادة أخرى. والهمزة في ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ ﴾ للإِنكار أي أتعتاضون واستفعل هنا للطلب أي أتطلبون تبديل الذي هو أدنى والمنصوب هو الحاصل والذي تدخل عليه الباء هو الزائل. وأدنى أفعل تفضيل من الدنو أي أقرب. قيل: أو من الدون وهو الرديء فقلب أو أصله أدنأ فسهلت همزته بإِبدالها ألفاً من الدناءة، وقد قرىء بالهمز فلم يقيد الأدنوية والخيرية إذ معلوم ثبوت الخيرية لما كانوا فيه، وثبوت الأدنوية لما سألوه، والضمير في: قال لموسى، أي فدعا فأجابه الله تعالى لما دعاه فقال: أي موسى بإِذن الله أو الله تعالى.﴿ ٱهْبِطُواْ مِصْراً ﴾ وقرىء بالتنوين أي من الأمصار وبغير تنوين بدليل أنهم سكنوا الشام بعد التيه وبغير تنوين على أنها مصر المعروفة دار فرعون.﴿ فَإِنَّ لَكُمْ ﴾ أي فيها.﴿ مَّا سَأَلْتُمْ ﴾ وقرىء سألتم بكسر السين وهو من تداخل اللغتين أي من البقول والحبوب.﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ ﴾ أي الزموا ذلك من قولهم ضرب الأمير البعث على الجيش، فالذلة بما الزموا من الجزية وإظهار الزيّ المخالف لزيّ المسلمين، والمسكنة: الخشوع والتطامن والفقر والشج، ولم تكن الجزية مضروبة عليهم من أول أمرهم فيكون من الاخبار بالغيب إذ كان ذلك في ملة الرسول عليه الصلاة والسلام ضربت عليهم الجزية. وقيل: الذلة كونهم ذليلين في أنفسهم ليس فيهم من الشهامة ما يقاتلون بها من عاداهم ألا ترى إلى قولهم: اذهب أنت وربك فقاتلا. وقوله:﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾[البقرة: ٢٤٦].
﴿ وَبَآءُو بِغَضَبٍ ﴾ ارجعوا فالباء للحال أو استحقوا فالباء صلة زائدة أو نزلوا وتمكنوا فالباء ظرفية. والغضب هنا ما حل بهم من البلاء والنقم.﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ متعلق بباء أو بمحذوف في موضع الصفة وبكونه.﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ فيه تعظيم للغضب.﴿ ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى الضرب والمباءة وهو مبتدأ خبره " بأنهم " أي كائن بكفرهم والباء للسبب.﴿ كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ أي في حالهم السابقة. و ﴿ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ أي التي أظهرها على يد أنبيائه موسى وغيره ممن سبق كالمعجزات التسع والتوراة.﴿ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ ﴾ يحيى وشعيا وزكريا، وقرىء بتاء الخطاب فيكون التفاتًا وبالتشديد مع الياء دلالة على التكثير. فقيل: قتلوا ثلثمائة، وقيل: سبعين.﴿ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾ ليس احتراز بل لا يقع قتل بني إلا بغير الحق فهو قيد لازم، نحو: دعوت الله سميعاً وجاء شنيعاً عليهم أي لم يدّعوا وجهاً في القتل.﴿ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ ﴾ تأكيد للجملة قبله أو الحامل على الكفر والقتل هو سوء عصيانهم واعتدائهم إذ المعاصي بريد الكفر قابل الضرب والمباءة بالكفر والقتل وقابل الكفر والقتل بالعصيان والاعتداء، وألْ في النبيين للعهد في من قتلوا أو للجنس وفي بغير الحق كذلك أي الحق الذي من شأنه أن يقع القتل أو لتعريف الماهية.
﴿ هَادُواْ ﴾ هم اليهود هاد يهود تاب وقرىء هادوا بفتح الدال من هادي فاعل من الهداية بمعنى فعل كجاوز وجازى أي هدوا أنفسهم وهم اليهود.﴿ وَٱلنَّصَارَىٰ ﴾ جمع نصران كندمان وندامى والألف للتأنيث يدل عليه منع الصرف في قوله﴿ إِنَّا نَصَارَىٰ ﴾[المائدة: ١٤].
وقيل جمع نصري كمهري ومهارى.﴿ وَٱلصَّابِئِينَ ﴾ قيل عباد الكواكب القائلون بتدبيرها وقرىء مهموزاً صبأت النجوم طلعت وثنية الغلام خرجت وبغير همز صبا مال. و ﴿ مَنْ ءَامَنَ ﴾ يدل من المعاطيف الثلاثة التي بعد اسم أن أي أن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة ومن آمن من الأصناف الثلاثة ومن موصولة ودخلت الفاء في خبر أن لأن الذين ضمّن معنى اسم الشرط وهو جائز في كلام العرب ولا مبالاة لمن خالف في ذلك. والأجر الثواب المرتب على العمل من الإِيمان والعمل الصالح أفرد الضمير في أمن وعمل حملاً على لفظ من وجمع في﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾ حملاً على المعنى ودعوى ابن عطية أنه إذا حمل على اللفظ ثم على المعنى فلا يجوز أن يعود إلى اللفظ باطلة وقرىء ولا خوف بنصب الفاء. والخطاب في ﴿ مِيثَاقَكُمْ ﴾ لبني إسرائيل وهو الانعام العاشر وهو العهد عليهم بالاعلام بما تضمنته التوراة وتبيينه وعدم كتمه ولما فيه من إظهار نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. و ﴿ ٱلطُّورَ ﴾ الجبل الذي ناجى عليه الله تعالى موسى عليه السلام امتنعوا من أخذ التوراة. والتزامها فرفع فوقهم الطور. قيل: مقدار العسكر وصار كالظلة.﴿ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم ﴾ أي وقلنا خذوا والذي أوتوه الكتاب.﴿ بِقُوَّةٍ ﴾ أي بجدّ واجتهاد. وقرىء: ما آتيتكم بقوة وهو التفات:﴿ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ ﴾ أمر بحفظه وعدم تناسيه قولاً وعملاً. وقرىء: واذّكروا من الادّكار ويفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وعملوا بمقتضاه.﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾ أي أعرضتم عن الميثاق والعمل به ورفع الجبل وهذا كله تذكير لليهود.﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ بقبول التوبة.﴿ وَرَحْمَتُهُ ﴾ بالعفو من الزلة وارتفاع فضل على الابتداء هو مذهب البصريين وعليكم متعلق بفضل والخبر محذوف واجب الحذف على المختار.﴿ لَكُنْتُم ﴾ جواب لولا ويكثر دخول اللام عليه إذا كان موجباً وزعم بعض النحويين أنها لا تحذف منه إلا في الشعر.﴿ مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾ أي من الهالكين في الدنيا والآخرة.
﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ ﴾ علم هنا تعدي إلى واحد أي عرفتم أعيانهم واعتداؤهم فيه أنه حرم عليهم العمل فيه وصيد الحيتان فيه فكان يكثر ظهورها فيه وتذهب بعد ذهابه فتحيلوا في صيده بنوع من الحيل كحفر حفيرة أو ربط الحوت بخرمة فإِذا مضى السبت أخذوه ثم كثر ذلك حتى صادوه يوم السبت علانية وباعوه في الأسواق. ومنكم: في موضع الحال أي كائنين منكم. وفي السبت: متعلق باعتدوا أي في العمل يوم السبت بالاصطياد منه.﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً ﴾ أمر يدل على سرعة الكون بهذا الوصف وكأنهم ممتثلون ذلك وإلا فليسوا بقادرين على ذلك والظاهر صيرورتهم قردة حقيقة وقد جاء في الحديث أن أمة مسخت ولا ينكر ذلك من قدرة الله تعالى ألا ترى إلى انقلاب عصا موسى حية ثم عودها عصا. والقرد حيوان معروف. وفعل الاسم القياس فيه فعول نحو قرود وجمعه على فعلة لا ينقاس نحو قردة وحسلة في جمع قرد وحسل والخسؤ الصغار والطرد وفعله خسأ يجيىء متعدياً ولازماً.﴿ فَجَعَلْنَاهَا ﴾ أي الكينونة قردة.﴿ نَكَالاً ﴾ عبرة. واصل النكال: المنع. والنكل: القيد.﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴾ أي لمن قرب منها.﴿ وَمَا خَلْفَهَا ﴾ أي من جاء بعدهم.﴿ وَمَوْعِظَةً ﴾ أي إذكاراً.﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ لأن الذين ينتفعون بالموعظة إنما هم المتقون.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾ وجد قتيل في بني إسرائيل وجهلوا قاتله فاختلفوا فيه فأمرهم الله بذبح بقرة فتعنتوا فيها مرة بعد مرة وقرىء يأمركم بإِخلاص ضمة الراء واختلاسها وبإِسكانها، والبقرة الأنثى من البقر وقد تطلق على الذكر. وكان المأمور بذبحه بقرة إذ كانوا ممن يعظم البقر حتى عملوا عجلاً وعبوده. وقرىء ﴿ أَتَتَّخِذُنَا ﴾ بتاء الخطاب أي يا موسى، وبالياء أي الله.﴿ هُزُواً ﴾ أي ذوي هزء استغربوا لما سألوا موسى عن تعيين القاتل فأجابهم بهذا على ما هم عليه من سوء عقيدتهم في أنبيائهم وتكذيبهم لهم ولو وفقوا لكان الجواب منهم امتثال الأمر.﴿ قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾ أي ممن يخبر عن الله بأمر لم يأمر به ولما استعاذ موسى بالله تعالى علموا أن ما أخبرهم به هو عزيمة من الله بما أمرهم به من ذبح بقرة:﴿ قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ﴾ ففي الحديث لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم. وما هي: مبتدأ وخبر في موضع مفعول يبين وهي معلقة لأن التبيين إعلام في المعنى وما هي ليس سؤالاً عن الماهية إنما هو سؤال عن الوصف ولذلك جاء الجواب بالوصف فكأنهم قالوا ما صفتها وكما علموا ما لموسى عند الله من الخصوصية قالوا ربك.﴿ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ ﴾ وصفة للبقرة وإذا وصفت النكرة بما دخل عليه لا كررت وكذا الخبر والحال إلا ما ندر. والفارض المسن التي انقطعت ولادتها في الكبر يقال فرضت وفرضت بفتح الراء وضمّها يفرض فروضاً. والبكر الصغيرة التي لا تلد من الصغر. قيل: أو ولدت ولداً واحداً. والعوان النصف وهي التي ولدت مرة بعد مرة. يقال: عونت المرأة. و ﴿ عَوَانٌ ﴾ تفسير لما تضمنه الوصفان.﴿ بَيْنَ ذٰلِكَ ﴾ أي بين الفروض والبكارة وافرد ذلك إذ قد يشار به للمفرد والمثنى والمجموع بصيغة واحدة. فيقال: كيف ذلك الرجال يا رجال، وكذا كان الخطاب قد تكون مفردة للمفرد والمثنى والمجموع من المذكر والمؤنث أو حذف معطوف كما حذف في قوله: فما كان بين الخير إذ بين تقتضي شيئين أو أشياء.﴿ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ﴾ أمر بامتثال ما أمروا به فلم يفعلوا وتعنتوا في السؤال فسألوا عن لونها. والصفرة هنا المعهودة لا السواد تقول العرب أصفر فاقع وأبيض ناصع ويقق وأسود حالك وأحمر قاني وأخضر ناضر فهذه التوابع تدل على شدة الوصف كأنه قيل أصفر شديد الصفرة ومن غريب ما وقع في لغة الترك انهم إذا أرادوا المبالغة في وصف اللون ركبوا من الحرف الأول مع الباء الساكنة ما يدل على الوصف بشدة ذلك اللون يقولون في أسود قرا فإِذا أرادوا شدة السواد قالوا قبقرا، وكذا صرى الأصفر يقولون صبصرا، وقزل الأحمر يقولون قبقزل، وكذا باقي الألوان والوصف بفاقع ونحوه مما يدل على شدة اللون يطابق ما قبله فتقول سوداء حالكة وصفراء فاقعة، وهنا رفع الظاهر المذكر فلذلك لم تلحق التاء. و ﴿ تَسُرُّ ﴾ صفة أيضاً أي تبهج.﴿ ٱلنَّاظِرِينَ ﴾ بحسنها شكلاً ولوناً وسناً فالوصف بالسرور ناشىء عن تقدم الأوصاف التي نشأ عنها السرور. ثم لم يكتفوا بهذا البيان وتعنتوا على عادتهم في السؤال وعللوا الحامل لهم على تكرار السؤال بقولهم:﴿ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ﴾ إذ موجود كثير مما تشابه ما تقدم ذكره في الوصف واللون. وقرىء تشابه على تذكير البقر وتشابه مضارعاً على تأنيثه وحذف التاء وتشابه على التأنيث وإدغام التاء في الشين والأصل تتشابه وشبّه مضارع تشبه حذفت منه التاء وتشبه ماضياً ويتشابه مضارعاً وتشابهت وتشابهت ومتشبه ومتشابه.﴿ وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ إلى تعيين البقرة المأمور بذبحها وجواب الشرط محذوف، أي إن شاء الله اهتدينا دل عليه بمهتدون. وقيل: الشرط الذي حذف جوابه للدليل كقولك أنت ظالم إن فعلت لكن الشرط توسط بين اسم إن وخبرها ليحصل توافق رؤوس الآي وجاؤوا بالشرط على سبيل الأدب مع الله تعالى إذ أخبروا بثبوت الهداية.﴿ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ ﴾ صفة للبقرة وتثير صفة لذلول داخلة تحت النفي والمقصود نفي إثارتها الأرض.﴿ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ ﴾ نفي معادل لقوله: لا ذلول. والمعنى انها لم تذلل بالعمل في حرث ولا سقي. وما ذهب إليه الزمخشري من جعل لا في ولا تسقي الحرث زائدة للتوكيد، وان المعنى تثير وتسقي على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قال: لا ذلول مثيرة وساقية. ليس بشيء لأنه يلزم منه الوصف بلا غير مكررة والتقابل منفي. وقلنا: إنه لا يكون إلا في الشعر. وقال ابن عطية: لا يجوز أن تكون هذه الجملة، يعني: تثير في موضع الحال لأنها من نكرة. " انتهى ". والنكرة ان عني بقرة فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائز جوازاً حسناً وإن عني من لا ذلول، فالحال من النكرة غير الموصوفة فيبعد على قول الجمهور ممن لم يحصّل مذهب سيبويه. وقد نص سيبويه على جواز ذلك وقاسه وقيل: تثير: حال من الضمير المستكن في ذلول، أي لا تدل في حال إثارتها. وقرىء: لا ذلول بفتح اللام، أي لا ذلول هناك. وتثير قيل: صفة لاسم لا منفية من حيث المعنى ولذلك عطف عليه جملة منفية وهي ولا تسقي الحرث والذي نختاره في هذه القراءة أن يكون تثير وتسقي خبراً للاذلول اعتراض بين بقرة وصفتها التي هي " مسملّة " وانتفاء الاثارة والسقي من حيث المعنى لا من حيث الوصف " مسلمة " أي من العيوب.﴿ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ﴾ أي لا لون فيها يخالف الصفرة لا بياض ولا سواد ولا غير ذلك لأن الشيء قد يوصف بلون لكونه غالباً فيه ويكون في بعضه لون يخالفه لكنه لقلته لا يعبأ به وقالوا ثوب اشية للذي فيه بلقة وليس مأخوذاً من الوشي لاختلاف المادتين.﴿ قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ ﴾ أي الواضح لنا. أي نطقت به لأنه كان غائباً فجاء. وقرىء: قالوا الآن بسكون اللام وبنقل حركة الهمزة للام وحذفها مع حذف واو قالوا: ومع إثباتها. والآن ظرف للوقت الحاضر وناصبه جئت بالحق متعلق بجئت أي نطقت بالحق أو للتعدية أي أجأت الحق الذي لم يبق معه إشكال.﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾ قبله محذوف أي فطلبوها وحصلوها وفي كيفية تحصيلها أقوال تظافرت أقوال المفسرين على اشترائها من الشاب الباربابويه.﴿ وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ كني عن الذبح بالفعل لقلق تكرار يذبحون واختلف زمان نفي الكدودة وزمان الذبح أي وما قاربوا ذبحها قبل ذلك أي وقع الذبح بعد أن انتفت مقاربته أي تعسروا في ذبحها ثم ذبحوها بعد ذلك.
﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ﴾ معطوف على قوله:﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ ﴾.
والظاهر ترتيب وجود القضيتين ونزولهما على ترتيب وجودهما فيكون الله تعالى قد أمرهم بذبح البقرة فذبحوها وهم لا يعلمون بما له تعالى فيها من السر، ثم وقع بعد ذلك أمر القتيل فأظهر لهم ما كان أخفاه عنهم من الحكمة بقوله:﴿ ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾ ولا ضرورة تدعوا إلى اختلاف في الوجود والنزول والتلاوة اعتباراً بما رووا من القصص إذ لم يصح لا في كتاب ولا سنة والحمل على الظاهر أولى إذ العدول إلى غير الظاهر إنما يكون لمرجح ولا مرجح هنا بل تظهر الحكمة البالغة في تكليفهم أولاً بذبح بقرة هل يمتثلون ذلك أم لا وامتثال التكاليف التي لا يظهر فيها ببادىء الرأي حكمة أعظم من امتثال ما يظهر فيه حكمة لأنها طواعية صرف وعبودية محضة واستسلام خالص بخلاف ما تظهر له حكمة فإِن في العقل داعية إلى امتثاله وحضاً على العمل به. والخطاب في قتلتم اما لورثة المقتول. وقد روي أنهم اجتمعوا على قتله أو خطاب للجماعة بما يقع من بعضهم وكني بقوله: نفسا عن الشخص، كما قال: ثلاثة أنفس وثلاث ذود أو اطلاقاً لبعض الشيء على الشيء أو على حذف أي ذا نفس وجعل نسمة مكان نفساً تفسير لا قرآن. وقرىء ﴿ فَٱدَّارَأْتُمْ ﴾ وتدارأتم والتدار في الادراء التدافع.﴿ فِيهَا ﴾ أي في تعيين قاتلها.﴿ وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ من أمر القتيل وقاتله وهي جملة اعتراض بين المعطوف، والمعطوف عليه مشعرة بأن التدار لا يجدي إذ الله مظهر ما كتمتوه.﴿ فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ ﴾ الهاء عائدة على النفس على لغة من ذكر النفس أو على مراعاة الشخص أو على ذي في تقدير من قدر ذا نفس. والبعض غير معين وفيه أقوال مضطربة والهاء عائدة على البقرة المذبوحة وثم محذوفان فضربوه يدل عليه اضربوه وفحيي القتيل يدل عليه.﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ ﴾ أي مثل هذا الاحياء للقتيل يحيي الله الموتى والمثيلة في مطلق الاحياء لا في الكيفية.﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ في إحياء ميت بضربة بقطعة من ميت وجاز أن يكون ويريكم معطوفاً على يحيى وأن يكون استئناف أخبار وجمع آيات إذ أراهم الله تعالى هذا الاحياء والعصا والحجر والغمام والمن والسلوى والسحر والبحر والطور وغير ذلك.
﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾ الخارق العظيم الخارج عن مقدور البشر الموجب للاعتبار ولين القلوب. والضمير في قلوبكم ضمير وإذ قتلتم حتى نقل أنه لم حَييَ القتيل وأخبر بمن قتله قالوا كذبت. والقسوة بنوّ القلب عن الاعتبار وعدم تحركه وتأثره للمواعظ.﴿ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ ﴾ أي في عدم تأثرها صلبة لا تتخلخل مع ظهور المعجزات.﴿ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ فصّل ونوّع قلوبهم إلى شبه الحجارة في الصلابة وإلى أشد قسوة من الحجارة. وانتصب قسوة على التمييز ويقتضيه أشد وكاف التشبيه وهذا التمييز الذي بعد أفعل التفضيل منقول من المبتدأ وهو نقل غريب أو أشد معطوف على قوله كالحجارة من قبيل عطف المفرد على المفرد كما تقول زيد على سفر أو مقيم (ولا) حاجة إلى تقدير الزمخشري أو هي أشد فيكون من عطف الجمل ولا إلى إضمار مثل أي أو مثل أشد حذف مثل وأقيم أشد مقامه فيكون الضمير في أشد غير عائد على القلوب إذ كان الأصل أو مثل شيء أشد قسوة من الحجارة. وقرىء أو أشد بنصب الدال ويتخرج على هذا التخريج الثاني وقرىء قساوة. ثم قال: ﴿ وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ ﴾ تبييناً ان قلوبهم لا تتأثر وإن الحجارة قد يوجد فيها ما يتأثر وانها متفاوتة في التأثر وقرىء وإن مشددة في ثلاثتها فما اسم إن دخلت اللام عليه وقرىء مخففة في ثلاثتها فاحتمل أن تكون معملة وما اسمها، واحتمل أن تكون ملغاة، نحو: إن في الدار لزيد، فما: مبتدأ خبره المجرور قبله، واللام: هي لام الابتداء لزمت للفرق أو لام غيرها اجتلبت للفرق قولان للنحاة وقول الكوفيين أنّ إنْ نافية واللام بمعنى إلا. وقرىء ﴿ لَمَا ﴾ مخففة الميم وما موصولة بمعنى الذي وهي اسم انّ. وقرىء: لما مشددة الميم. قال ابن عطية: وهي قراءة غير متجهة. وما قاله ابن عطية لا يستوي إلا أن نقل عمن قرأ بالتشديد تشديدان فيعسر إذ ذاك توجيهها إما إن قرأ بتخفيف إن وهو المظنون به فيظهر توجيهها بأن تكون إن نافية، ولما بمعنى: الا. كقوله تعالى:﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾[الطارق: ٤] في قراءة من شدد لما. ويكون حذف منه المبتدأ تقديره. وما من الحجارة حجر ألا يتفجر منه الأنهار وكذلك ما بعد هذا كقوله تعالى:﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾[الصافات: ١٦٤].
أي: وما منا أحد وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به أي وإن من أهل الكتاب أحد وحذف هذا المبتدأ أحسن لدلالة المعنى عليه إلا أنه يشكل معنى الحصر إذ يظهر من هذا التفصيل أن الأحجار متعددة فمنها كذا وإذا حصرت أنهم العموم إن كل فرد فرد من الحجارة فيه هذه الأوصاف كلها أي يتفجر منه الأنهار ويشقق فيخرج منه الماء ويهبط من خشية الله ولا يبعد ذلك إذا حمل على القابلية إذ كل حجر يقبل ذلك، ولا يمتنع إذا أراد الله ذلك فإِن كان الذي قرأ بالتشديد وإن بالتشديد فيعسر توجيهه. ومن زعم أن إنّ ان المشددة بمعنى ما النافية فقوله: لا يصح ولا يثبت في لسان العرب ويمكن توجيه ذلك على أن يكون اسم ان محذوفاً، أي وان منها منقاداً كما حذف في قوله: ولكني زنجي عظيم المشافر، أي: ولكنك ولما بمعنى حين على مذهب الفارسي أو حرف وجوب لوجوب على مذهب سيبويه والمضارع بمعنى الماضي. وقرىء ﴿ يَتَفَجَّرُ ﴾ مضارع تفجر مطاوع فجر وينفجر مضارع انفجر وطلوع فجر بتخفيف الجيم والتفجر التفتح بالسعة والكثرة. وقرىء ﴿ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ ﴾ ومنها الأنهار حملاً على المعنى والتشقق: التصدع بطول أو عرض فينبع منه الماء بقلة. وقرىء: يشقق بشد الشين ويتشقق وينشقق بنون وقافين والفك شاذ. والهبوط التردي من علو إلى سفل. وقرى: يهبط بكسر الياء وضمها. والخشية الخوف وهو من. مجاز الاستعارة كناية عن الانقياد لأمر الله وانها لا تمتنع على ما يريد بين أن الحجارة إلى التأثير فيها أقرب من قلوبهم ثم ذكر تفاوت الحجارة في التأثير فمنها ما هو متخلخل تتفجر منه الأنهار بسرعة ومنها ما فيه صلابة لكنه يتشقق ومنها ما هو سريع الانقياد فينهار بخلاف قلوب هؤلاء فإِنها أشد قسوة من الحجارة ولما كانت قساوة القلوب تنشأ عنها الأعمال القبيحة قال تعالى على سبيل التهديد لهم:﴿ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ قال ابن عطية: بغافل في موضع نصب خبر ما لأنها الحجازية. يقوي ذلك دخول الباء في الخبر وإن كانت الباء قد تجيىء شاذة في التميمية. " انتهى ". ولم يذهب نحوي إلى أن دخول الباء في التميمية شاذ فيما علمناه بل النحاة قائلان قائل لا تدخل الباء وهو قول أبي علي في أحد قوليه. وتبعه الزمخشري وقائل تدخل وهو الصحيح وهو كثير في اشعار بني تميم. وقرىء: تعملون بتاء الخطاب على نسق: ثم قست قلوبكم وبالياء التفاتاً.
كان المؤمنون من الأنصار بينهم وبين اليهود حلف وجوار فكانوا يودون إسلامهم. والطمع تعلق النفس بإِدراك مطلوب تعلقاً قوياً.﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ﴾ أي من اليهود لبعدهم عن الإِيمان.﴿ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ﴾ أي من كتابهم التوراة أو من الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.﴿ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ﴾ أي يميلون به إلى غير جهته ويبدلون.﴿ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ أي فهموه ومع عقلهم له على وضعه يحرفونه عن وضعه.﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ ما في تحريفه من الاثم واستحقاق غضب الله فمن كانت حاله هذه لا يطمع في إيمانه وأبناؤهم تابعو أسلافهم في البعد عن الخير والإِيمان. ثم ذكر من نفاقهم موافقة المؤمنين بقولهم.﴿ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾ ومن خبثهم كونهم لا ينطقون بمتعلق آمنا. والجملة من قوله: ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ ﴾ في موضع الحال، أي في طماعيتكم في إيمان هؤلاء مع أن حال أسلافهم أو حال فريق من الحاضرين منهم هذه الحال مستبعدة لا تجامع هذه الحال.﴿ وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ﴾ أي انفرد بعضهم ببعض.﴿ قَالُوۤاْ ﴾ أي المنفرد على سبيل العتاب.﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ من وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى لأسلافكم من المغازي وما حل بهم من النقم والفتح الاعلام أي بما أعلمكم أو الحكم أي بما حكم الله عليكم أو على أسلافكم وحدث هنا تعدت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر واللام في.﴿ لِيُحَآجُّوكُم ﴾ تتعلق بأتحدثونهم وهي لام كي على تجوز لأن الناشىء عن شيء وإن لم يقصد كالعلة وكونها للصيرورة قول مشهور والضمير في " له " عائد على ما الموصولة الاسمية.﴿ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾ أي في الآخرة. فقول ابن أبي الفضل: ان الصحيح أن يكون عند ربكم متعلقاً بقوله:﴿ بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾، أي من عند ربكم ليحاجوكم. قال: لأن الاحتجاج عليهم بما كان في الدنيا ليس بصحيح للفصل بين عند والعامل فيها الذي هو فتح بقوله:﴿ لِيُحَآجُّوكُم ﴾ وهو أجنبي منهما إذ هو متعلق بأتحدثونهم على الأظهر.﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ داخل تحت قوله:﴿ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم ﴾ أي بما يكون حجة لهم عليكم.﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ما في ذلك من التسليط عليكم وإظهار الحجة وذهب الزمخشري إلى أن بين الهمزة والفاء في نحو: أفلا تعقلون وبين الهمزة والواو في نحو: أولاً، وكذا! فلم يسيروا، أو لم يروا فعلاً محذوفاً عطف عليه ما بعده كأنه يقدر أجهلتم أفلا تعقلون أمكثوا فلم يسيروا ومذهب النحاة ان الواو والفاء وثم بعطف ما بعدها على الجملة التي قبل الهمزة والهمزة متأخرة في التقدير وقدمت لأن الاستفهام له صدر الكلام وقد رجع الزمخشري إلى قول النحاة في ذلك إذ لم يطرد له الحذف في مواضع.
﴿ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ ﴾ قرىء بالياء والضمير للكفار، وبالتاء خطاب للمؤمنين، ينبههم على جهل الكفار بعالم السر والعلانية. أو: خطاب للكفار على سبيل الالتفات ثم أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة إهمالاً لهم.﴿ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ عام وسدت أن مسد المفعول ان قدر ان تعلمون متعد إلى واحد ومسد مفعولين إن قدر تعدية إلى اثنين.﴿ وَمِنْهُمْ ﴾ أي من اليهود المذكورين.﴿ أُمِّيُّونَ ﴾ أي عوام واتباع لا يحسنون الكتابة ولا القراءة فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها.﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ ﴾ أي التوراة.﴿ إِلاَّ أَمَانِيَّ ﴾ استثناء منقطع إذ ليس من جنس الكتاب إلا ما هم عليه من أمانيهم إن الله يعفو عنهم وتشفع أنبياؤهم لهم، أو ما يمنيهم احبارهم ان النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، أو الا أكاذيب مختلفة تلقفوها من احبارهم تقليداً. وقرىء: أماني بتشديد الياء وبتخفيفها.﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الأمرين ولا يلزم من الترجيح عندهم أن يكون ترجيحاً في نفس الأمر.
﴿ فَوَيْلٌ ﴾ أي هلكه وخسار.﴿ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ ﴾ هم اليهود.﴿ بِأَيْدِيهِمْ ﴾ تأكيد يرفع المجاز أي يباشرون بأنفسهم لا يأمرون بالكتابة كانوا يكتبون محرّفاً عن ما في كتابهم كما ذكر أنهم غيروا صفة الرسول صلى الله عليه وسلم التي في التوراة فجعلوه آدم سبطاً طويلاً على خلاف ما في التوراة والمعنى يكتبونه مختلفاً.﴿ ثُمَّ يَقُولُونَ ﴾ لاتباعهم الأميين.﴿ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ ﴾ مع علمهم بالتبديل والتحريف.﴿ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ من وضائع وما كل ورشا ووصفه بالقلة لفنائه وحقارته.﴿ فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ هذه مقدمة.﴿ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ هذه نتيجة تلك المقدمة وكرر الويل حتى يتحقق أن الخسارة والهلكة تترتب على كل واحد من المكتوب والمكسوب وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" اليهود من أهل النار. قالوا: نحن، ثم تخلفونا أنتم. فقال: كذبتم لقد علمتم انا لا نخلفكم "فنزلت:﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ أي قلائل يحصرها العد، فروي: أنهم قالوا: سبعة أيام، وعنهم أربعون يوماً عدد عبادتهم العجل.﴿ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً ﴾ هذا رد لدعواهم الكاذبة أي مثل هذا الاخبار الجازم لا يكون إلا ممن اتخذ عند الله عهداً بذلك وأنتم لم تتخذوه فقولكم كذب وافتراء. واتخذ تعدت إلى واحداً وإلى اثنين، فيكون الظرف هو الثاني وهمزة اتخذتم همزة استفهام. وقرىء بنقل حركتها إلى قل وحذفها، والمعنى عهداً بما قلتم ان النار لا تمسكم إلا أياماً معدودة.﴿ فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ ﴾ قيل جواب الاستفهام الذي ضمّن معنى الشرط وفي هذا القول نظر، لأن الاستفهام عن ماض لفظاً ومعنى. (قال) ابن عطية: فلن يخلف الله عهده اعتراض أثناء الكلام كأنه يريد أن:﴿ أَمْ تَقُولُونَ ﴾ معادل لقوله:﴿ أَتَّخَذْتُمْ ﴾ فصارت هذه الجملة اعتراضاً بين المتعادلين فلا موضع لها من الإِعراب وكان التقدير أي هذين واقع اتخاذكم العهد عند الله أم قولكم.﴿ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أخرج مخرج التردد في تعيينه على سبيل التقرير وإن كان قد علم وقوع أحدهما وهو قولهم على الله ما لا يعلمون. وقيل: ام، بمعنى بل. والهمزة أي أتقولون استفهام إنكار إذ قد علم أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون.
﴿ بَلَىٰ ﴾ نقض لقولهم: لن تمسنا النار، أي تمسكم النار.﴿ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ من شرطية أو موصولة ويترجح