تفسير سورة البقرة

بيان المعاني
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران لأنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان (كل ما يظل الإنسان من سماء وغيرها) أو كأنهما فرقان من طير (الجماعة من الطير) صواف يحاجان عن صاحبهما، اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة (السحرة). وتسمى سنام القرآن لأن سنام كل شيء أعلاه وكأن هذه التسمية كانت بسبب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أي القرآن أفضل؟
فقالوا الله ورسوله أعلم، قال سورة البقرة، ثم قال أي آيها أفضل؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال آية الكرسي. ومن منع تسميتها بالبقرة لا دليل له، لأن أغلب سور القرآن سميت بما جاء فيها كما بيناه في المقدمة. وهي مئنان وست وثمانون آية، وستة آلاف ومئة وإحدى وثمانون كلمة، وخمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرفا.
لا نظير لها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الم» (١) تقدم الكلام فيه مفصلا أول سورة الأعراف وما بعدها من السور المبدوءة بالحروف المقطعة من بيان المعنى المراد منه، ومن كونه اسما للسورة، ومن أنه فواتح بعض أسماء الله الحسنى، وأنها سرّ من أسرار الله ورمز بينه وبين حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم، وغير ذلك فراجعه في ج ١ و ٢. قال الشعبي هي سر الله فلا تطلبوه. وقيل في المعنى:
بين المحبين سر ليس يغشيه قول ولا قلم للخلق يحكيه
وقد استأنس بعض الشيعة فاستنبط جملة من أوائل هذه السور تدل على خلافة علي كرم الله وجهه بعد حذف المكرّر منها وهي (صراط علي حق نمسكه) وهي من الظرائف. واستنبط الآلوسي رحمه الله صاحب تفسير روح المعاني جملتين تنضمن الأولى الرد على صاحب الجملة المذكورة، وهي (صح طريقك مع السنة) والثانية تشير لما ورد في حق الأصحاب وهي (طرق سمعك النصيحه) إلماءا إليه، وقد ذكرت أنه لا يعلم ماهيتها وما تشير إليه على الحقيقة إلا الله تعالى والمنزلة عليه والراسخون في العلم على أحد القولين بالوقف كما سيأتي في الآية ٧ من آل عمران الآتية، لأنها من المتشابه، وكل الأقوال الواردة فيها مجرد اجتهاد ليس إلا:
4
«ذلِكَ الْكِتابُ» الذي وعدناك به يا سيد الرسل (أي في الآية ٦ من سورة المزمل في ج ١ وهي: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الترادد، ولا يسأم منه تاليه الذي «لا رَيْبَ فِيهِ» ولا شك ولا شبهة بأنه من عند الله، وانه في نفسه حق وإن قال الجاحدون ما قالوا، وهو «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (٢) لأنّهم هم المنتفعون به، فطوبى لأهل التقوى التي هي جماع كل بر، وملاك كل خير، فلو لم يكن لهم فضل غير ما في هذه الآية لكفاهم، وهؤلاء المتقون هم «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» الذي أنبأهم به رسولهم من البعث والحشر والحساب والجزاء والجنة والنار وغيرها «وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» المفروضة فيؤدونها كاملة من الخشوع والخضوع المشار إليهما في الآية الأولى من سورة المؤمنين في ج ٢، ومن كما لها أن تكون بجماعة «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (٣) عن رغبة وطيب نفس طاعة لله تعالى على عياله وشكرا لآلائه عليهم وعلى الأصناف الثمانية الآتي دكرهم في الآية ٦٠ من سورة التوبة الآتية، ومن رغّب القرآن بالإنفاق عليهم «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» من الوحي الجليل «وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» منه على الأنبياء السالفين من كتب وصحف، لأن من لا يؤمن بجميع الكتب وجميع الرسل ليس بمؤمن «وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» (٤) أنها آتية لا محالة، لأن من لم يوقن بوقوعها وبما فيها فليس بمؤمن أيضا ولو آمن بالكتب والرسل «أُولئِكَ» الموقنون بما ذكر القائمون به حق القيام إيقانا خالصا وإيمانا محضا «عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (٥) الفائزون الناجحون يوم القيامة. ونظير هذه الآية الآية ٣ من سورة لقمان في ج ٢.
وقد يأتي الفلاح بمعنى البقاء كما قيل:
لو كان حي مدرك الفلاح... أدركه ملاعب الرماح
(الأسنّة) وأصله الشق، كما قيل: إن الحديد بالحديد يفلح. واعلم أن الله تعالى صدر هذه السورة بهذه الآيات الأربع (عدا الم) لأن بعض القراء عدها مع ما بعدها آية واحدة. في حق المؤمنين، والآيتين بعدها بحق الكافرين، وثلاث عشرة آية بعدهما بحق المنافقين، والبقية في الأحكام والأخبار وغيرها.
5
مطلب الإيمان يزيد وينقص وحال المنافقين وفضيحتهم وأفعالهم:
اعلم أن الإيمان إذا فسر بمقتضى اللغة بمعنى التصديق فلا يزيد ولا ينقص، لأنه لا يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى، وإذا فسر بلسان الشرع بأنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، فانه يزيد وينقص، وهذا ما ذهبت إليه مع أني حنفي المذهب، والحنفية لا يقولون بذلك، لأنه مذهب أهل السنة من أهل الحديث المؤيد بقوله تعالى (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) الآية ١٢٤ من سورة التوبة الآتية، وقوله صلّى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. إذ أثبت الزيادة بالآية، ونفى الإيمان أو كماله بالحديث، لأنه وإن كان التصديق نفسه لا يزيد ولا ينقص إلا أن الإيمان يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها، وعلى هذا فإن من آمن بلسانه ولم يصل ولم يصم ولم يحج ولم يزك فلا يسمى مؤمنا بل مسلما، قال تعالى (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) الآية ١٥ من الحجرات الآتية، على أن إيمانه هذا المجرد عن العمل قد يدخله الجنة، راجع الآية ٨٢ من سورة الأنعام ج ٢، والآيتين ٤٧/ ١١٧ من سورة النساء الآتية، وما ترسدك إليه لتعلم أن مجرد الإيمان كاف لدخول الجنة إذا شاء الله، وهذا معنى جامع بين ظواهر جميع النصوص الواردة بزيادة الإيمان ونقصه، لأنه لا يعقل أن أقول إن إيماني مثل إيمان أبي بكر رضي الله عنه، وان إيمان العارفين كإيمان أحاد الناس الذي تزلزله الشبهة وتعتريه الشكوك عند المناظرة. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. وهذا يدل أيضا على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، وقدمنا أول سورة فاطر في ج ١ ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» تخوفهم وتحذرهم عاقبة أمرهم يا سيد الرسل فهم «لا يُؤْمِنُونَ» (٦) وهذه الآية الكريمة في الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وذلك لأنه «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» فلا يعقلون بها «وَعَلى سَمْعِهِمْ» فلا يسمعون بها سماع قبول، وإذا حرموا من هاتين الحاستين فلا يفقهون شيئا، والختم والطبع خلق الظلمة والضيق
6
في الصدر وجعلهما حائلين عن سماع الدعوة النبوية وفهم منافعها ورؤية حقيقتها ما دام مختوما عليها فلا يعونها «وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» لئلا يروا داعي الحق ولا يلتفتوا لقوله ولا يصغوا لرشده ونصحه لسابق سقائهم «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ٧» لصرفهم هذه الجوارح لغير ما خلقت لها اختيارا ورغبة، فلذلك حرموا منافعها.
قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ» أي بألسنتهم نفاقا ليبينوا لحضرة الرسول وأصحابه أنهم معهم وقد أبطنوا الكفر بذلك والجحود له.
نزلت هذه الآية وما بعدها في المنافقين من المشركين واليهود كعبد الله بن أبي بن سلول ومعقب بن قشير وعبد بن قيس وأضرابهم، ولذلك وصفهم الله تعالى بالنفاق لأن من يقول بلسانه ما ليس في قلبه فهو منافق، ولهذا أكذبهم الله بقوله عز قوله «وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ٨» حقيقة، لأن العبرة للتصديق القلبي لا القول اللساني عند الله تعالى ولهذا كذبهم، أما عندنا فإن من آمن بلسانه عاملناه معاملة المسلمين لأنا لم نطّلع على ما في قلبه، وليس لنا أن نقول هذا مؤمن بلسانه فقط، ومن كفر بلسانه عاملناه معاملة الكفرة ولو كان مؤمنا في قلبه، لأن علم القلب غير منوط بنا، والناس هنا جمع إنسان، وسمي آدم إنسانا لنسيانه عهد ربه، راجع الآية ١١٦ من سورة طه المارة في ج ١، قال:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه... ولا القلب إلا أنه ينقلب
وقال:
وسميت إنسانا لأنك أول الناس... وأول ناس أول الناس
وقيل لأنه يستأنس به وجميع الناس أناس، قال تعالى (وَأَناسِيَّ كَثِيراً) الآية ٤٩ من الفرقان في ج ١، ويقال للأثى إنسانة، قال:
إنسانة فتانة... بدر الدجى منها خجل
وقال بعض اللغويين لا مفرد له من لفظه مثل خيل وفلك ورهط وشبهها.
وهؤلاء المنافقون «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا» يخادعونهم بإظهار ضد ما يضرون فيمكرون بحضرة الرسول وأصحابه «وَما يَخْدَعُونَ» بأقوالهم تلك أحدا «إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» لأن الله تعالى يفضح خداعهم ومكرهم وحيلهم بإخبار رسوله به،
7
إذ يطلعه على ما في قلوبهم «وَما يَشْعُرُونَ ٩» أن الله تعالى يوحي لرسوله حقيقة حالهم وما يسرون من أقوالهم ويعلنون منها، ولا يعلمون أن وبال عملهم هذا راجع عليهم بالفضيحة بالدنيا والعذاب بالآخرة، والذين هذه صفتهم يكون «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وشبهة. وأصل المرض الضعف والخروج عن حد الاعتدال الخاص بالناس، ولهذا فإن أكثر أهالي دمشق يعبرون عن المريض بالضعيف، وسمي الشك في الدين والنفاق مرضا لأنه يضعف الدين، كما أن المرض يضعف البدن، وكذلك الفكر لما قيل فكر ساعة يهضم عافية سنة، فهذا الذي يحصل لهم يضعف دينهم وأبدانهم، أجارنا الله تعالى من ذلك «فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» أشغل قلوبهم به لأنهم كلما كفروا بآية ازداد كفرهم وكثر بلاؤهم وضاق صدرهم «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» زيادة على مرضهم الذي يحرك في صدورهم ويحز قلوبهم من شدة الحسد للمؤمنين فتشتعل أفئدتهم غيظا «بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ١٠» في أقوالهم الصدرية المذكورة،
ثم بين نوعا آخر من أفعالهم القبيحة فقال جل قوله «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» بتهيج الفتن وإثارة كوامن القلوب من الأحقاد القديمة بين الناس مما يؤدي لقتالهم بعضهم مع بعض، وذلك أنهم يذكرون ما وقع بين أجدادهم من الأحداث ليغتاظ أحقادهم، فيتكلمون بما معناه الانتقام، فتثير ثائرة المظلومين على الظالمين بما يؤدي لوقوع القتال بينهم بسبب إثارة الضغائن القديمة. والإفساد خروج الشيء عن استقامته والانتفاع به، وضده الإصلاح «قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ١١» بعملنا لأنا نداري به المؤمنين والكافرين معا، فكذبهم الله بقوله عز قوله «أَلا» تنبيه ليتيقظ المخاطب «إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ» لأنهم يجالسون الكفرة ويفشون لهم أسرار المؤمنين ويغرونهم عليهم.
والمدارة ليس كما زعموا لأنها جائزة إذا كانت لمنفعة مشروعة كالإصلاح بين الناس، على أن لا تضر بالدين، أما إذا كانت غير جالبة لمنفعة ولا دافعة لمضرة فتكون من قبيل بيع الدين بالدنيا، وذلك حرام، لأنها تكون مداهنة راجع الآية ٩ من سورة نون في ج ١، وان عملهم ذلك ليس من هذين القسمين وإنما هو بقصد إثارة الفتن ونقض الجروح القديمة وتهيبج الخواطر بين الناس مما قد يؤدي إلى القتل،
8
لذلك حقق الله فيهم الإفساد بدليل قوله (ألا) المركبة من همزة الاستفهام ولا النافية، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد التحقيق. ثم أكده بأن المفيدة للتأكيد أيضا، فظهر (إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) حقا بفعلهم ذلك «وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ ١٢» بأن فعلهم هذا يوجب تعذيبهم عند الله لما يترتب عليه من المفاسد بين المؤمنين وانهم قد يستخفون بذلك كاستخفاف الذين أشاعوا الفاحشة وصاروا يتشدقون بها حتى أنزل الله فيهم (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) الآية ١٥ من سورة النور الآتية، وما قاله بعض المفسرين من أنهم لا يشعرون أن عملهم ذلك إفساد، لا يناسب المقام، ويدفعه كلمة الاستدراك التي جيء بها هنا، بخلاف الآية الأولى في المخادعة، إذ لم يدخل عليها الاستدارك، لاحتمال أنهم يظنون أن مخادعتهم وإبطانهم الكفر وإظهار الإيمان تخفى على رسول الله وعلى المؤمنين، ولا يعلمون أن الله تعالى يخبر رسوله بها، وهو يخبر أصحابه، فبين الآيتين فرق عظيم في اللفظ، وبون شاسع في المعنى، ولأن الذي يتكلم بالفساد ولا يعلم أنه فساد لا يؤاخذ مؤاخذة العالم بذلك، قال:
وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك
وللزنبور والبازي جمعا لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز وما يصطاده لزنبور فرق
وهذا إما ناشىء عن جهل مركب اعتقدوا بسببه الإفساد إصلاحا لما تكاثف على قلوبهم من رين المعاصي فوقعوا في محنة الجهل، كما جاء في قوله:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وأما ما جاء على حسب عادتهم في الكذب والبهت الذي سبب لهم بيع الآخرة بالدنيا فيقال لأمثالهم:
أيا بايعا هذا ببخس معجّل غبنت ولا تدري إذا كنت تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
راجع الآية ٥٩ من سورة الروم في ج ٢. قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ» من المهاجرين والأنصار الذين بينكم، إيمانا صادقا مخلصا صرا وعلانية «قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ» الجهلة خفيفو العقول قليلو الرويّة، وهذا مما يقولونه فيما بينهم عقد ما يتذاكرون فيما يأمرهم به حضرة
9
الرسول، أما بين المؤمنين فإنهم يسمون أنفسهم بالإيمان، ولهذا أخبر الله عنهم بقوله جل قوله «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ» لا المؤمنون «وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ ١٣» ما أعده الله تعالى لهم من العذاب على وصمهم المؤمنين بالجهل والخفة، مع أن السفاهة متحققة فيهم كالإفساد، ويقال هنا ما قلناه هناك من التعليل، وسماهم الله سفهاء وهم عند أنفسهم وقومهم عقلاء ورؤساء لإبطال زعمهم واعتقادهم بأن ما هم عليه حق وغيره باطل، وقلب الكلام عليه لركوبهم طريق الباطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيها، سخيف العقل، خفيف الحلم، وقد فضحهم الله تعالى إذا وصمهم بعدهم الإيمان والإفساد، وعليهم بعدم العلم وثبوت السفاهة ليتركوا الكذب وليعترفوا أن الله تعالى مطلع على خوافيهم، وأنه أطلع رسوله عليها، ورسوله أخبر أصحابه حتى فشا ما يكتمونه لدى العامة. ولما لم ينجع بهم شهر بهم رابعا بقوله عز قوله «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا» بالله ورسوله وكتابه مثلكم وصرنا سواسية بالإيمان والتصديق «وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ» كهنتهم وقادتهم ككعب بن الأشرف المدني وأبو بردة الأسلمي وعبد الدار الجهني وعوف ابن عامر الأسدي وعبد الله بن السواد الشامي «قالُوا» لهم لا تصدقوا ما بلغكم عنا من الإسلام «إِنَّا مَعَكُمْ» ولا زلنا على دينكم «إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ١٤» بمحمد وأصحابه، لأنا نظهر لهم الإيمان سخرية بهم لنقف على سرائرهم ونخبركم بما يحدثونا عن دينهم ونبيّهم «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» فيجازيهم على فعلهم هذا، وما يصدر منهم من الخداع والاستهزاء، وقد سمى الله الجزاء استهزاء بالمقابلة، قال ابن عباس يفتح لهم باب الجنة فإذا انتهوا إليه وهموا أن يدخلوه عمدت الخزنة فسدته عنهم وردوا إلى النار، وذلك ليسخروا بهم في الآخرة جزاء سخريتهم بالمؤمنين في الدنيا، وهذا مثل ما جاء عن ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا ومقابلتهم في الآخرة المار ذكره في الآية ٢٩ من سورة المطففين في ج ١، «وَيَمُدُّهُمْ» يزيدهم لأن المدّ أصله الزيادة في الشرّ غالبا والإمداد مثله إلا أنه يأتي غالبا في الخير أي يمهلهم ويتركهم «فِي طُغْيانِهِمْ» ليزدادوا إثما وبغيا، والطغيان مجاوزة الحد «يَعْمَهُونَ ١٥» يترددون في الحيرة والضلال، والعمه عمى القلب، وهو
10
أسد من عمى العين لأن فاقد البصر ينتفع ببصيرته، وعادم البصيرة لا يفيده بصره «أُولئِكَ» الموصوفون بالمثالب الأربع المذكورة هم «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى» واستبدلوا الكفر بالإيمان والحيرة بالرشد والغش بالنصح «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» بل خسرت وخابت صفقتهم خسرانا وخيبة عظيمتين، فضلوا «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ١٦» في أقوالهم وأفعالهم، لأنهم أضاعوا رأس ما لهم وهو الإيمان، ومن أضاع رأس ماله فهو للربح أضيع. ولا يقال إنهم لم يكونوا على هدى لأنهم كانوا متمكنين منه، كأنه في أيديهم، لكنهم رغبوا عنه وتركوه باختيارهم، ومالوا إلى الضلال رغبة فيه، وفعلوه طوعا، ومالوا إليه، فكأنهم عطلوه قصدا واستبدلوا به ضدّه، ولهذا وصفهم الله تعالى بقوله «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» لينتفع بها «فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» جمع الضمير مع أن ما قبله مفرد على حد قوله تعالى (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) الآية ٦٩ من سورة التوبة الآتية، إذ يجوز وضع الذي موضع الذين «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ» متكاثفة ظلمة الليل وظلمة المطر وظلمة السحاب، لأن من كان في نور وتركه أو أو كان في محل مضيء وخرج منه إلى مظلم اشتدت الظلمة في عينيه أكثر مما لو لم يكن قبل في النور، ولهذا قال تعالى «لا يُبْصِرُونَ ١٧» شيئا لما يجلهونه من الظلمة بعد ذلك النور، فيصيرون لا يرون.
مطلب في المثل لماذا يضرب وما هو الرعد والبرق وضمير مثله:
والمثل تشبيه الشيء الخفي بالشيء الجلي لمناسبة وجامع، ليتأكد الوقوف على ماهية ذلك المشبه نهاية في الإيضاح، وشرطه أن يكون فيه غرابة من بعض الوجوه وقد ضرب الله تعالى هذا المثل بالنار لثلاث حكم: الأولى أن المستضيء بالنار مستضيء بنور غيره، فإذا ذهب بقي هو في الظلمة، وكذلك هؤلاء لأنهم لما أقروا بالإيمان من غير اعتقاد في قلوبهم كان إيمانهم مستعار فلم ينتفعوا به، لأن العارية مستردة. الثانية احتياج النار دائما إلى مادة الوقود، فإذا انقطع طفئت، وكذلك الإيمان محتاج أبدا إلى مادة الاعتقاد والعمل ليدوم، وإلا فينقطع ولم تبق فائدة فيه الثالثة احداث الظلمة بعد النور أشد من الظلمة التي لم يسبقها نور، ووجه
11
تشبيه الإيمان بالنور أنه أبلغ شيء بالهداية إلى المحجّة القصوى والطريق المستقيم وإزالة الحيرة، وكذلك الإيمان فهو الطريق الواضح إلى الله، ووجه تشبيه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق فيها لا يزداد إلا حيرة إذ لا يرى كوكبا يستهدي به، ولا جبلا يستقبله، ولا علامة يركن إليها، وكذلك الكفر لا يزداد صاحبه بالآخرة إلا حيرة إذ لا دين يعتمد عليه، ولا عمل صالح يرجو ثوابه، ولا شافع يأمل شفاعته، فيزداد ندمه كما تزداد الظلمات بمجيئها بعد النور. وهؤلاء المضروب بهم هذا المثل «صُمٌّ» عن سماع الحق «بُكْمٌ» عن النطق به «عُمْيٌ» عن رؤيته، قد تقطعت قلوبهم وذهب إدراكها لأنهم لما كانوا في الدنيا يصدق عليهم قول القائل:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء كلهم أذن
وهؤلاء كذلك كتّامون للخير، مذيعون للشر، سماعون للإثم، نطاقون به، بصيرون فيه «فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ١٨» عن نفاقهم واخلاقهم وكفرهم، لأن الشيطان زيّنه لهم، وان رؤساءهم حبّذوه إليهم ورغبوهم فيه. واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ست آيات مبدوءة بحرف الصّاد، هذه والآية ١٢٤ الآتية والسادسة من الفاتحة والأولى من ص و ١٩ من الأعلى ج ١ و ١٥٢ من الشورى ج ٢.
ثم مثل لهما مثلا آخر أبلغ من الأول، فقال عز قوله «أَوْ كَصَيِّبٍ» هو كل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل، والمراد به هنا المطر، أي أو مثلهم مثل مطر نازل «مِنَ السَّماءِ» وهذا لا ينافي القول بأن المطر ينعقد من أبخرة الأرض والمياه، لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء «فِيهِ ظُلُماتٌ» تقدم معناها في الآية ١٧، «وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ» الذي يسمع من اصطدام السحاب، فهو الرعد والبرق هو الشعلة النارية التي تخرج منه بسبب الاصطدام أو أمر آخر يحدثه الله تعالى عند تراكم الغيوم واصطكاكها بعضها ببعض «يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ» أي أطرافها من إطلاق الكل وإرادة الجزء «فِي آذانِهِمْ» خوفا وفزعا «مِنَ» سماع «الصَّواعِقِ» اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، وعلى الأكثر أنها هنا قصفة رعد عبارة عن قطعة نارية، وقد ينقض معها قطعة حديد نارية لا تصيب شيئا إلا أهلكته لشدة
12
صوتها أو نارها أو قوة صدمتها أو حدة ما انفصل منها، وهي سريعة الخمود، ولهذا البحث صلة في الآيتين ١٢/ ١٣ من سورة الرعد الآتية «حَذَرَ الْمَوْتِ» مفعول لأجله أي خشية أن يموتوا من صوتها أو مما ينفصل منها «وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ١٩» عذابه محيق بهم لا يفلت منه أحد، لأن الإحاطة تكون من الجهات الأربع، وقد تكون من الشر أيضا «يَكادُ الْبَرْقُ» من شدة ضيائه «يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» يختلسها بسرعة لشدة نوره وقوته، وتراهم «كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ» بهداية نوره «وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ» غاب عنهم نور البرق وفقدوا ضياءه «قامُوا» وقفوا متحيّرين لعدم اهتدائهم إلى الطريق من تكاثف الظلمات «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ» لشدة صيحة الصواعق وقوة نور البرق عند وميضه «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٢٠» لا يعجزه شيء، شبه الله تعالى الكافرين والمنافقين بقوم ماشين في مفازة صعبة في ليلة مظلمة ممطرة مرعدة مبرقة، لا يتمكنون من متابعة المشي فيها، ووجه الشبه هو أن المطر كالقرآن، لأن فيه حياة القلوب كما أن في المطر حياة الأرض، والظلمات ما جاء فيه من ذكر الكفر والنفاق والشرك، والرعد ما خوفوا فيه من الوعيد والتهديد، والبرق هو ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة، فالكافرون والمنافقون يسدّون آذانهم برءوس أصابعهم لئلا يسمعوه فتميل إليه قلوبهم، وإن فعلهم هذا أوجب بخط الله تعالى عليهم، ولذلك فإنه سيحيط بهم عذابه في الآخرة كإحاطة الظلمة المذكورة التي صيّرتهم متحيّرين في الدنيا، فيأتيهم العذاب من كل مكان يترددون فيه متحيرين. انتهت الآيات الواردة في حق المنافقين.
ثم أنزل الله الآيات المتضمنة أحكاما وأخبارا متنوّعة، فقال جل قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ» المكلفون «اعْبُدُوا رَبَّكُمُ» وحده، واعلم أن جملة (يا أَيُّهَا النَّاسُ) كررت في القرآن ١٤ مرة في البقرة، و ٣ في النساء، و ٢ في يونس، و ٣ في الحج، و ٢ في فاطر، وواحدة في لقمان، وواحدة في الحجرات، وان غالب ما يأتي في القرآن العظيم من لفظ العبادة يراد به التوحيد، لأن العبودية التذلل والعبادة غايته، ولا يستحقها إلا الله تعالى «الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ» خلق «الَّذِينَ
13
مِنْ قَبْلِكُمْ»
من الأمم البائدة والموجودة «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٢١» عذابه وتنجون من عقابه، وهو الإله العظيم «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً» وطاء تستقرون عليها «وَالسَّماءَ بِناءً» لتستظلوا بها كالسقف المرفوع والبيت المعمور الذي فيه ما يحتاجه البشر والطير والحيوان «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ» المتنوعة المختلفة في اللون والطعم والشكل والرائحة وجعلها «رِزْقاً لَكُمْ» تقتانون به «فَلا تَجْعَلُوا» أيها الناس لهذا الرب الكبير الذي تفضل عليكم بتلك الأشياء وغيرها لتشكروه عليها أداء الحقّ إنعامه بها عليكم، وأنتم على العكس تكفرون به وتختلفون «لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا وأشباها من صنع أيديكم، وخلق ربكم القائل (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩٦ من الصافات ج ٢، أي كيف تعبدونها وتتخذونها أربابا من دونه «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٢٢» أنها لا تستحق العبادة لأنها لا تخلق ولا ترزق ولا تضر ولا تنفع، فلا يليق بكم أن تشبهوها بإلهكم الفاعل لذلك كله، الرحيم بكم وبما ملكت أيمانكم، الذي لا مثيل له ولا نظير «وَإِنْ كُنْتُمْ» أيها الناس «فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» محمد بن عبد الله بن عبد المطلب من القرآن الذي هو كلامنا الأزلي بواسطة أميننا جبريل «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» وهذا من باب التعجيز وإلقامهم الحجر على حد قوله تعالى (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) الآية ٢٥٧ من سورة الأنعام المارة في ج ٢، أي إذا شككتم به فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن الذي يتلوه عليكم رسولنا بفصاحتها وبلاغتها وإعجازها ودلالتها على المعاني الكثيرة من رجل منكم مثل محمد الذي لا يحسن الكتابة والقراءة ولم يتعلم من أحد لأنكم عرب مثله وتدعون المعرفة. وأنى لهم ذلك إذ لا يستطيعون الإتيان بمثل شيء من القرآن ولو اجتمعوا واستعانوا بمن شاءوا، هذا على أن الضمير (مِنْ مِثْلِهِ) عائد على محمد صلّى الله عليه وسلم وعلى قول من أعاده من المفسرين على القرآن، لأن مجرى الكلام فيه، لأن الله تعالى يقول (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) ولم يقل في عبدنا ليعود الضمير إليه، ولقوله في سورة يونس (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) الآية ٣٨، أي بالإعجاز والاشتمال على طرفي الإيجاز والإطالة في الفصاحة والبلاغة، من أنه تارة يأتي بالقصة
14
باللفظ الطويل ولا يمكن للبشر أن يسقط منه حرفا واحدا لأنه قد يخل في المعنى، ثم يعيدها باللفظ الوجيز، ولا يستطيع البشر أن يزيد حرفا واحدا فيه ولا يخل بالمعنى الأول، وهكذا جميع القرآن لا يقبل زيادة حرف ولا نقصه، وان أساليبه تفارق أساليب الكلام، وأوزانه تخالف أوزان الشعر، ونظمه يباين نظم الخطب والرسائل، فقد جاء على أسلوب بديع ونظم عجيب، ولهذا تحدثوا فيه وعجزوا عنه وتحيروا فيه واعترفوا بفضله، وهم معدن البلاغة ومنبع الفصاحة وفرسان البيان.
ولا يقال إن من في هذه الآية زائدة إذ لا يستقيم المعنى إلا بها إذا أعدت الضمير على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم على الوجه الأول، وإذا أعدته على المنزل على محمد كان حرف الجر مؤكدا، وقد أشرنا أول سورة البلد، وفي الآية ١٢ من سورة الأعراف ج ١، إلى أنه لا يجوز القول بزيادة شيء في القرآن، كما لا يجوز نقص شيء منه حتى حرف/ ما/ التي بعد إذا مثل (إِذا ما جاؤُها) وغيره لا تعد زائدة، إذا أنها تبقى في الإثبات ثم النفي لأنهم لم يأتوها باختيارهم بل سبقوا إليها فسرا، راجع الآية ٢٧ من سورة فصلت في ج ٢، والآية ٩٧ من سورة المائدة، والآيتين من آخر سورة التوبة الآتيتين، فهي وإن كانت للثبوت فقد أتى بالنفي فيها ليبقى ثم أيضا، أي أنهم جنحوا عن اليقين إلى التقوى، وذلك شأن المؤمن الورع «وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ» من جحافل العرب وأولياء أصنامكم الذين تستشهدون بهم على أنها آلهة «مِنْ دُونِ اللَّهِ» ليشهدوا بأنكم تأتون بمثله «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ٢٣» في دعواكم أن محمدا يأتي بالقرآن من نفسه أو بتعليم من غيره من البشر، والمراد من هذا إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت، كأنه قيل قد تركنا إلزامكم بشهداء الحق وملنا إلى شهدائكم المعروفين بالذبّ عنكم، فإنهم أيضا لا يشهدون لكم على ذلك حذرا من اللائمة، وأنفة من الشهادة الباطلة، وخوفا من أن يصموهم بالكذب، لأن أمر إعجازه ظاهر، وعجز طوق البشر عن الإتيان بمثله واضح، «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا» بأن تأتوا بسورة مثل هذا القرآن أو بسورة من مثل محمد وقد عجزتم عن ذلك قبلا إذ تحديناكم بسورة واحدة أو بعشر صور منه كما في الآية ٣٩ من سورة يونس والآية ١١ من سورة هود المارتين في ج ٢، وتحدينا الخلق كافة
15
بالإتيان بمثله في الآية ٨٩ من الإسراء ج ١، أو بحديث مثله كما في الآية ٣٤ من سورة الطور في ج ٢، ولم يستطع أحد أن يأتي بشيء من ذلك، ولهذا فإنكم عاجزون أن تفعلوا «وَلَنْ تَفْعَلُوا» أبدا في الحال ولا في الاستقبال ولن تقدروا على الإتيان بشيء مثله البتة، وإذا كان كذلك فتحققوا أنكم مبطلون في دعواكم أن محمدا يأتي بالقرآن من نفسه أو من جهة الغير، وان ما تعبدون من الأوثان ليسوا بآلهة «فَاتَّقُوا النَّارَ» أيها الناس مصير المبطلين «الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» ومن جملتها أصنامكم وهذه نار مخصوصة والله أعلم، لأنه كما أن الجنة أنواع فالنار كذلك. واعلموا أن لا وقاية لكم من هذه النار إلا أن تؤمنوا بالله وحده وتصدقوا رسوله وتذعنوا لما جاءكم به، وإن أصررتم على كفركم فمأواكم تلك النار، لأنها «أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ٢٤» الذين يموتون كفارا، هذا ولا بد لك أيها القارئ من مراجعة الآيات الأنفة الذكر من يونس وهود والإسراء والطور، لتعلم أن لا ناسخ ولا منسوخ بينها وبين الآية المارة، وتعلم التوفيق بينهما خلافا لما قاله بعض المفسرين. قال تعالى «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» مع إيمانهم ورجاء ثواب ما عملوه من الخير واعتقادهم أن الله مجازيهم عليه بأحسن منه إذا أخلصوا لله وصبروا على ما أصابهم في هذه الدنيا «أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» في الآخرة، وهذه الأنهار تجري بلا أخدود بخلاف أنهار الدنيا الجارية في الأودية، وأصحاب هذه الجنات «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً» وطلبوها ثانيا.
مطلب في ثمار الجنة ونسائها وأهلها وضرب المثل والعهود التي أخذها الله على خلقه:
واعلم أن الطلب في الجنة عبارة عن خطرة في القلب، لأن الله تعالى لا يحيجهم إلى التكلم كرامة لهم «قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ» فيظنونها هي نفسها لكمال التشابه في اللون والشكل والحجم والرائحة والطعم «وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» كأثمار الدنيا من حيث الاسم فقط والكنى ليس إلا ولكنها مختلفة في الطعم والحجم واللون والشكل والرائحة، فالفرق بين ثمار الدنيا والآخرة عظيم كالفرق بين الدنيا
16
والآخرة، وفضلا عن هذا فإن أثمار الآخرة لا فضلات لها ولا تفل فيها ولا قشور ولا بزر، وكذلك سائر مأكولات الآخرة ومشروباتها «وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» من الأوساخ والأرجاس المادية والمعنوية من كل ما يقع عليه النظر والشم واللمس وما يصل إلى السمع، فلا يحضن ولا يبلن ولا ينفسن ولا يتغوطن ولا يعصين أزواجهن، وأمثال هذا مما هو عند نساء الدنيا، مبرآت عن كل خلق سيء، متحليات بكل شيء حسن «وَهُمْ فِيها خالِدُونَ ٢٥» لا يحولون عنها أبدا، حياة سعيدة لا موت فيها ولا بعدها. روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبزقون، يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس، طعامهم جشاء (أي يخرج فضوله في تنفس المعدة) ورشح كرشح المسك، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ان أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم أشد كوكب دريّ في السماء إضاءة لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة (العود الذي يتبخر به)، وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، وعلى صورة أبيهم آدم عليه السّلام، ستون ذراعا في السماء. وفي رواية لكل واحد منهم زوجتان يرى مخّ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لاخلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، ويسبحون الله بكرة وعشية. ورويا عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن للمؤمن في الجنة الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال قلت يا رسول الله مم خلق الله الخلق؟ قال من الماء (راجع الآية ٤٥ من سورة النور الآتية فيما يتعلق في الخلق) قلت الجنة ما بناؤها؟ قال لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وبلاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد
17
ازدادوا حسنا وجمالا، فيقولون لهم أهلوهم والله لقد ازددتم حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم حسنا وجمالا. وأخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فرقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس. وقد مر ما يتعلق بوصف أهل الجنة في الآية ١٣ من سورة المطففين في ج ٢ فراجعها. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما» مطلق مثل «بَعُوضَةً» بقة صغيرة جدا «فَما فَوْقَها» من الحشرات، لأن القصد منه الاعتبار والاتعاظ والاتباه لا الكبر في ضرب المثل وصغره. واعلم أن كلمة بعوضة لم تكرر في القرآن، وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا ما يريد الله يذكر هذه الأشياء، الخسيسة كالنمل والنحل والعنكبوت والذباب حتى يضرب أيّها الأمثال، فقال تعالى ردا عليهم إن الله لا يترك ضرب المثل بذلك، ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها استحياء [الحياء تغير وانكار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به أو يعزم عليه، وهذا لا يجوز على الله تعالى] ولكن لما كان الترك من لوازمه عبر عنه به وجاء بلفظ الاستحياء على سبيل المقابلة، لأن الكفرة على ما قيل إنهم هم القائلون ذلك، وانهم قالوا لا نعبد إلها يذكر هذه الأشياء، وأنهم قالوا أما يستحي
رب محمد أن يضرب الأمثال بها، وأطباق الجواب على السؤال فنّ من فنون البديع المستحب استعماله في الكلام، والبعوض خلق عجيب له خرطوم مجوف يغوص في جلد الفيل والجاموس، وقالوا إن الجمل قد يموت من قرصه، فلا غرو أن يضرب الله به المثل في الصغر، كما يضرب المثل في الجمل في الكبر، راجع الآية ١٨ من سورة الغاشية في ج ٢. وقد أهلك الله تعالى بها من الجبابرة العظام كنمروذ وغيره، وقد ضرب صلّى الله عليه وسلم المثل للدنيا بجناحها بقوله لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء والجناح دونها، والعرب تضرب الأمثال بالمحقرات فيقولون هذا أحقر من ذرة، وأجمع من نملة، وأطيش وألح من ذبابة، والقرآن نزل بلغتهم فلا معنى لاستبعادهم ذلك. ولم يقل تعالى
18
فما دونها اكتفاء بأحد الشيئين عن الآخر على حد قوله «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» الآية ٨٢ من سورة النحل في ج ٢، وهذا عبارة عن مثل ضربه الله تعالى الدنيا وأهلها، فإن البعوضة لا تزال حية ما بقيت جائعة، فمتى شبعت ماتت، وكذلك أهل الدنيا إذا امتلئوا منها هلكوا، وتنطبق على أعمال العباد إذ لا يمتنع أن يذكر منها ما قل وكثر وليجازوا عليه ثوابا وعقابا، راجع الآيتين الأخيرتين من سورة الزلزلة الآتية. وليعلم أن الحياء غير الخجل ومعناه كما مرّ وهو مركب من الجبن والعفّة والخجل حيرة النفس لفرط الحياء، ولا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء الذي هو انقباض النفس عن القبائح، فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ» ضرب المثل بتلك الحيوانات الحقيرة هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» لا يجوز إنكاره، لأنه من الأمور المستحسنة عقلا المتعارفة عندهم، ولا مناقشة فيما يذكره الله تعالى «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» والمنافقون وأمثالهم «فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» وهذا من قبل الاعتراض على الله تعالى، وليس لمخلوق أن يعترض على خالقه، لهذا فإنه تعالى وتقدس «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً» من المكذبين فيزدادون كفرا «وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً» من المؤمنين فيزدادون به إيمانا «وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ٢٦» الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المستغربين ما ضرب الله به مثلا من تلك الحشرات من حيث لا محل للاستغراب والإمكان، لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وادناء المتوهم من المشاهد، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به كذلك، وإن كان حقيرا كان المتمثل به حقيرا أيضا، ألا ترى أن الحق لما كان واضحا جليا مثل له بالضياء والنور، وان الباطل لما كان غامضا مثل له بالظلمة، ولما كان حال الآلهة المتخذة للعبادة لا أحقر منها مثل لها ببيت العنكبوت الذي لا أومن منه، تأمل. ثمّ وصف الله تعالى هؤلاء الفاسقين بقوله عز قوله «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ» الذي أخذه عليهم في عالم الذر، وهو الإقرار بربوبيته كما مرّ في الآية ١٧٠ من الأعراف في ج ١، وهو غير العهد الذي أخذه على الأنبياء بتصديق محمد صلّى الله عليه وسلم في الآية ٧ من سورة الأحزاب الآتية،
19
وغير العهد الذي خص به العلماء في الآية ١٨٧ من آل عمران الآتية، راجع هذه الآيات والآية ٨١ من آل عمران أيضا تقف على تمام هذا البحث «مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ» عقده وإبرامه، وتؤكده عليهم بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وقوله في حق الرسول (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) وفي هذه الآية إشارة إلى أن الكفرة واليهود بعد أن يتعاهدوا مع حضرة الرسول ينقضون عهدهم معه، وقد كان ذلك كما سيأتي في محله، وهذا من قبيل الإخبار بالغيب، وفيها تحذير من نقض العهد وتقبيح لناقضه، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا البحث في الآية ٩١ من سورة النحل المارة في ج ٢، والآية ٣٤ من سورة الإسراء في ج ١، فراجعهما «وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ» من الإيمان بالرسل السالفين جميعهم «أَنْ يُوصَلَ» ذلك الإيمان المتتابع بمحمد صلّى الله عليه وسلم لأن الله تعالى أخذ العهد على خلقه أن يؤمنوا برسله إيمانا متصلا واحدا بعد واحد، فلم يمتثلوا أمر الله ولم يؤمنوا بجميع رسله، ومن أهل زمانه من اليهود، ولم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا بعيسى قبله، وكذلك النصارى لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم، مع أنه أخذ العهد على كل ملّة من قبل نبيها أن تؤمن بالرسول الذي
يخلفه، راجع الآية ١٧٣ من الأعراف في ج ١ تقف على هذا أيضا «وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» علاوة على نقضهم عهد الله وعهد رسولهم وقطعهم ما أمر الله بوصله، لأنهم يقطعون السبيل ويسلبون الناس ويعملون المعاصي ويمنعون غيرهم من الإيمان بالله ورسوله «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم وهذا شأنهم «هُمُ الْخاسِرُونَ ٢٧» المغبونون لاستبداهم النقص بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالإصلاح، والعقاب بالثواب. قال تعالى «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً» نطفا جامدة ميتة في أصلاب آبائكم «فَأَحْياكُمْ» في أرحام أمهاتكم عند قذف النطفة فيها، فكونتم وصورتم، حتى إذا أكمل خلقكم وانتهى أمد وجودكم في الرحم ولدتم وترعرعتم وكبرتم «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» بعد استيفاء آجال مكثكم في الدنيا «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ثانيا بعد انتهاء أجل لبثكم في البرزخ من قبر وغيره «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٢٨» فتحضرون إلى الموقف في محل الحشر إذ تحاسبون على ما كان منكم وتجاوزون عليه الخير بأحسن منه، والشر بمثله، وهذا الاستفهام استفهام تعجب من حالهم وإنكار
20
لأحوالهم، أي كيف تكفرون بالله بعد نصب هذه الدلائل، ووضوح هذه البراهين، وسطوح تلك الحجج على وحدانيته جل شأنه، ثم تشركون به غيره، وتعبدون معه أوثانا لا تستحق العبادة؟ وان هذه الأشياء التي خصكم الله بها لا بد أن تدعوا إلى الإيمان لا إلى الكفر، وقيل في المعنى:
أكفر بعد ردّ الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا
مطلب في المخترعات الحديثة والتحليل والتحريم وبحث في الخلق وقصة الجنّ ومغزى اعتراضهم:
قال تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من حيواناتها ونباتها ومائها ومعدنها. تشير هذه الآية إلى أنه ينبغي للإنسان أن لا يقف عند شيء دون شيء مما في هذه الأرض لأن من تتبع ما فيها قد يعثر على ما لا يحلم به البشر، مصداقا لقوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الآية ٩ من سورة النحل في ج ٢، وان معظم الأشياء المبتكرة قامت وظهرت من حين العدم إلى الوجود بالعثور، لأن هذه السيارات والطيارات والراد والاسلكي وغيرها لم يتصورها عقل البشر رأسا، وإنما كانت بسبب صنع أشياء دونها، وعند ما يرى شأنه توفق لعملها طمحت نفسه إلى فعل ما هو أحسن، فيعثر عليه زريجا، فيظهر له ما هو أحسن، ثم يشتغل بتحسينه فيطلع على ما هو أحسن، وهكذا تدرجوا في الصنائع حتى نوصوا إلى صناعات بديعة وأعمال عجيبة، فاخترعوا البنادق سنة ١٦٤٦ م والمدافع سنة ١٨٨٦، واكتشف الفحم الحجري في انكلترا سنة ١٩٢٤ م، وزيت الكاز للتنوير سنة ١٨٢٦، والمكرسكوب في جرمانيا سنة ١٦٢١، وأول من صنع الأوراق المالية في أمريكا سنة ١٧٤٠ م واكتشفوا ملعبا بناه الرومان سنة ٦٩ قبل الميلاد، وسيكتشفون ويخترعون ما هو لحبس بالحسبان، ولا يخطر على العقل، راجع الآية من سورة الحجر والآية ٣٨ من سورة النحل في ج ٢. هذا وفي هذه الآية إعلام بأن الأصل في الأشياء الحل، وعليه فإن جميع ما في هذه الأرض هو حلال للبشر، لأن الله تعالى قال (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) إلخ، وإذا كان ما خلق فيها هو للبشر فلا يحرم عليهم منها شيء إلا ما ورد النص بتحريمه، فيكون تناوله حراما، وإلا فحلال
21
كله، وعليه فإن التبغ والتنباك وما شابهها مما لم يرد نص بتحريمه حلال، وما جاء من أقوال العلماء بتحريمه فمجرد اجتهاد بداعي أنه مضر، وإلا فلا مستند لهم بذلك، ومن المعلوم أن لا اجتهاد في مورد النص، أما إذا تحقق ضررهما لبعض الأشخاص فهو من هذه الحيثية قد يكون تناولهما حراما، وأحسن ما قيل فيهما إنه تعتريهما الأحكام الخمسة، على أن تقيد الحرمة بالمضرة المحققة فقط، لأن كل ما يضر هذه البنية التي أمرنا الله بمحافظتها للقيام بأمور دينه والذب عنه حرام تناوله مهما كان، حتى الخبز والماء والظل على شرط تحقق المضرة بإخبار طبيب أمين حاذق موقن، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك، لأن العلماء ليس لهم أن يحرّموا أو يحللوا شيئا إلّا بدليل قطعي، لأن التحليل والتحريم من خصائص الشارع والشارع عندنا هو الله تعالى ورسوله فقط، لا دخل للعلماء والربانيون بذلك. قال تعالى «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ» بعد خلق الأرض وقبل دحرها وقد ذكرنا ما يتعلق في بحث الاستواء في الاية ٥ من سورة طه وفي الآية ٤٥ من سورة الأعراف في ج ١ والآية ٤ من سورة يونس فراجعها «فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ» ثم دحا الأرض كما بيناه في الآية ٣٠ من سورة النازعات ج ٢، وضمير سواهن يعود على السماء باعتبار الجنسية أو أنها جمع سماة، والأحسن أن يكون مبهما يفسره قوله تعالى سبع سموات «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (٢٩) بخلقه، ولماذا خلقه، ولمن خلقه، ومن المعلوم أن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، فلا يقال إن هذه الآية تقضي بخلق الأرض ودحوها قبل السماء، تدبر. ثم طفق جل شأنه يقص على رسوله ما هو غيب عليه فقال عز قوله «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» بدلا منكم ورافعكم إليّ وذلك لما ظهر الفساد والإفساد بقتل بعضهم في الأرض من الجن بعضهم على بعض حينما كانوا يسكنونها وعاشوا فيها فسادا بقتل بعضهم بعضا، بعث الله فريقا من الملائكة وعلى رأسهم إبليس الذي لجأ إلى الله بذلك متبرئا من بغيهم وطغيان بعضهم على بعض، وقد تظاهر بالصلاح والإصلاح فطرد الجنّ إلى الجزائر والبحار والجبال والشعاب وأهلكوا ثمّ حلّ محلهم ذرية إبليس لأنه أبو الجن الثاني، كما أن نوح عليه السّلام أبو البشر الثاني، وهم موجودون الآن في
22
كل مكان، ولكن لم ترهم العيون، ولذلك سموا جنا، ومنه الجنين لعدم رؤيته أيضا، ولولا لطف الله على بني آدم بإخفائهم عنا لرأيت العجب العجاب من أفعالهم ولنغّصوا علينا عيشنا في هذه الدنيا. وقد مرّ في الآية ٢٧ من الأعراف في ج ١ أنهم يروننا ولا نراهم،
وبمقابلة هذا أنا نراهم في الآخرة ولا يروننا، راجع هذه الآية أول سورة الجن والآيات من النمل والقصص في ج ١ والكهف والصّافات في ج ٢ كي تطمئن بوجودهم وأعمالهم وأفعالهم، وإن إنكار وجودهم كفر لمخالفة نص الآيات والأحاديث الصريحة وإن من ينكر وجودهم فبسبب الصدأ المتراكم على قلبه، أجارنا الله من أمثالهم. ثم ان الله تعالى أعطى إبليس ملك الأرض وسماء الدنيا وخزانة الجنة، وهو جلّ شأنه يعلم مصيره ولكن ليظهر للناس أن النفس الخبيثة لا يؤثر فيها شيء ولا يصلحها شيء البتة، فأعجب بنفسه وغبطته الملائكة، وأول شر ظهر منه الإعجاب بنفسه لأنه؟؟ من المهلكات، قال صلّى الله عليه وسلم: ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه. «قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» كالجن الذين أسكنتهم فيها قبل وفعلوا ما فعلوا، وكان الحكمة من مخاطبتهم بذلك وهو غني عن المشورة ليسألوا هذا السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا الحكمة من استخلافهم قبل كونهم، وقالوا كيف تفعل ذلك وتفصينا «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» فيها ولا نعصيك طرفة عين ولا نفسد فيها أبدا كالجن الذين أسكنتهم فيها «قالَ» تعالى مجيبا لهم عن ظنهم بالخليفة الذي أريد وضعه في الأرض بدلا من الجن الذين أفسدوا فيها وشهدت الملائكة عليهم بالإفساد، كلا لا تظنوا يا ملائكتي هذا الظن «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» (٣٠) من المصلحة والحكمة. ولا يقال من أين علموا أن من يستخلفهم الله في أرضه يفسدون فيها إذ لا يعلم الغيب إلا الله، لأنهم لما رأوا إفساد الجن وقتل بعضهم بعضا في الأرض وان الله تعالى يريد استخلافهم بهذا الخليفة ظنوا أنهم يقتفون أثرهم، لأن الله تعالى ألهمهم ذلك كما هو ثابت في علمه الأزلي، الاستفهام على طريق التعجب لا الاعتراض، فلا دليل فيه على عدم عصمة الملائكة، لأن الاعتراض على الله من أعظم الذنوب، والمراد بالخليفة هنا هو آدم عليه السّلام،
23
قالوا لما أراد الله تعالى خلق آدم أوحى إلى الأرض إني خالق منك خليفة، منهم من يطيعني فأدخله الجنة، ومنهم من يعصيني فأدخله النار وبعث جبريل عليه السّلام ليقبض قبضة من أنواعها ويأتيه بها ليكون الخلق منها كلها، فلما أراد أن يأخذ منها قالت أعوذ بعزّة الله منك، فترك ورجع، وقال يا رب استعاذت بك فكرهت أن أقدم عليها، فأرسل ميكائيل فكان ما كان من جبريل، فأرسل عزرائيل فاستعاذت منه فقال لها إني أعوذ بعزّته أن أعصي له أمرا، فقبض من عذبها ومالحها وحلوها ومرها وطيبها وخبيثها وأبيضها وأحمرها وأسودها وما بين ذلك، وصعد بما قبضه، فسأله ربه وهو أعلم بما فعل فأخبره بما قالت وقال لها. وإنما استعاذت الأرض لأن الله تعالى قال لها منهم من يعصيني فأدخله النار خشية ورهبة، ولمّا أجابه عزرائيل بما أجابه قال وعزّتي وجلالي لأخلقن خلقا أسلطنّك على قبض أرواحهم لقلة رحمتك، فجعل نصفها في الجنة ونصفها في النار ما شاء، ثم أخرجها فسواها طينا مدة، ثم حمأة مدة، ثم صلصالا مدة، ثم جدا، وألقاه على باب الجنة، فصارت الملائكة تعجب من صورته، وقال إبليس لأمر ما خلق هذا، ونظر إليه فإذا هو أجوف، فقال هذا خلق لا يتمالك، أي انه يخدع، وقال للملائكة إن فضّل هذا عليكم ماذا تصنعون؟ قالوا نطع ربنا فيه، فقال في نفسه لئن فضل علي لأعصيته، ولئن فضلت عليه لأهلكنه، فلما أراد الله تعالى نفخ الروح فيه قالت الروح يا رب كيف أدخل؟ فقال كرها تدخلين وستخرجين منه كرها، فدخلت يافوخه حتى وصلت إلى عينيه فنظر إلى سائر جسده طينا فلما وصلت منخريه عطس، فعند ما وصلت لسانه قال الحمد لله رب العالمين، فقال الله رحمك الله ربك لهذا خلقتك، وقد صارت سنة في الخلق على كل من يعطس، وعلى كل من يسمعه التشميت بأن يقول له يرحمك الله ويرد عليه يرحمنا ويرحمكم اللَّه، فلما بلغت ركبتيه همّ ليقوم فلم يقدر، قال تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) الآية ٢٧ من سورة الأنبياء في ج ٢، وهذا مما يدل على قدم كلام الله تعالى المنزل على حضرة الرسول قبل خلق آدم وغيره، فلما انتهت إلى قدميه استوى بشرا سويا من لحم ودم وعظام وعروق وأعصاب وأحشاء وأمعاء
، وكسي لباسا من الجنة من ظفر
24
فزاد جسده حسنا وجمالا، وجعل في جسده تسعة أبواب وعدها السيوطي أحد عشر بعد الثديين في صدره اثنين، وفي أسفله اثنين القبل والدبر ليخرج منهما فضلات طعامه وشرابه، وسبعة في رأسه الأذنين يسمع بهما، والعينين ينظر بهما، والمنخرين يشم بهما والفم فيه اللسان يتكلم فيه، والأسنان ليطحن بها طعامه فيجد لذة المطعومات والأنف ليتنفس منه، وجعل عقله في دماغه، وفكره وجرأته في قلبه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وفرحه وحزنه في وجهه، فسبحان من جعله يسمع بعظم، ويبصر بشحم وينطق بلحم، ويعرف بدم، وركب فيه الشهوة وحجزه بالحياء. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: خلق الله تعالى آدم وطوله ستون ذراعا، ثم قال اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة، فاستمع ما يحبونك به، فإنها تحينك وتحية ذريتك، فقال السلام عليكم، فقالوا عليك السلام ورحمة الله، فزادوا ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن. وروى مسلم عن أنس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم لمّا صوّر الله آدم تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به وينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه لا يتمالك. وأخرج الترمذي. وأبو داود عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب.
قال تعالى «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وسبب تعليمه أسماء جميع المسميات بإلهام من الله تعالى إياه أن الملائكة قالت ليخلق ربنا ما شاء فلن يكون أحد أكرم عليه منا، وإن كان فنحن أعلم منه، لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره، ومن هنا قيل (أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة) فأظهر الله تعالى فضله عليهم بالامتحان «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ» عرض أسماء تلك المسميات على الملائكة من كل نام وحساس وجماد وماء، وجاء الضمير بلفظ العقلاء تغليبا لأن القاعدة عند إرادة جمع من يعقل ومن لا يعقل بلفظ واحد يعبر بضمير من يعقل تغليبا له على ما لا يعقل «فَقالَ أَنْبِئُونِي
25
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ»
الأشخاص قالوا خلق الله تعالى كل شيء من الحيوان والطير والحوت والجمادات والمياه وغيرها، وعلمها آدم، فقال هذا بعير، وهذه فرس، وهذا طير، وهذه سمكة، وهذا حجر، وهذا مدر، حتى أتى على آخرها، أي سموا لي هذه الأشياء كلّا باسمه «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (٣١) بقولكم اني لم أخلق أفضل منكم وأعلم «قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا» بشيء من هذه الأشياء ولا نعلم «إِلَّا ما عَلَّمْتَنا» إياه التسبيح والتقديس لأن علمنا مقصور على ما علمتنا فقط «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ» بخلفك وأسمائه وأوصافه المميزة له عن غيره «الْحَكِيمُ» (٣٢) فيما تخلق وتقضي وتأمر وتنهى «قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» سم كل شيء من هذه المخلوقات باسمه، فذكر أسماءها كلها حتى القصعة «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» أمام الملائكة دون تلكؤ أو تلعثم بهتت مما قرأت؟؟ وسمت «قالَ» عز قوله مخبرا ملائكته عن الحكمة التي خلق آدم لها «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» عما كان فيهما قبل خلقكم وزمنه وما سيكون بعد «وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من قولكم الذي ذكرتموه فيما بينكم بشأن خلق آدم «وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (٣٣) من قولكم لن يخلق الله أفضل منا ولا أعلم.
مطلب تفضيل الرسل على الملائكة وامتناع إبليس عن السجود وكونه ليس من الملائكة:
وفي هذه الآية والتي قبلها دليل أهل السنة والجماعة بأن الأنبياء أفضل من الملائكة خلافا للزمخشري وأشباهه، القائلين بتفضيل جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام، وقد خرق الإجماع بقوله هذا، وقد قيل بعد أن حجّ: ؟؟
وأفضل الخلق على الإطلاق نبينا فمل عن الشقاق
وقد منا ما يتعلق في هذا البحث بالآية الأولى من الإسراء في ج ١ «وَ» اذكر يا سيد الرسل هذه القصة لقومك، وقصة أخرى وهي «إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» وهذا الأمر لعموم الملائكة الذين هم في السماء والأرض، كما يدل عليه قوله في الآية ٢٠ من سورة الحجر المارة في ج ٢ (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) وما في هذه الآية من قوله عز قوله «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» لم يسجد لأنه من
26
الجن، وليس من الملائكة بدليل قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية ٥٢ من سورة الكهف ج ٢، ومعنى إبليس مأخوذ من إبليس أي يئس من رحمة الله، قال تعالى (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) الآية ٧٩ من سورة المؤمنين ج ٢ أي آيسون، وان اسمه الحقيقي بالعربية الحارث، وبالسريانية عزازيل، وهذا الاستثناء كان بسبب وجوده مع الملائكة وشموله الأمر بالسجود معهم، لا لكونه منهم، ومن قال إن الاستثناء بعد إدخاله بالخطاب للملائكة دليل على أنه منهم لم ينظر إلى آية الكهف المشار إليها أعلاه، لأن دلالتها على أنه من الجن وليس من الملائكة صريحة لا تقبل التأويل، والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما كان منه في تفسير بعضه بعضا مقدم على ما ليس منه في تفسيره، ثم ما كان من بيان حضرة الرسول، ثم ما كان من إيضاح الأصحاب، ثم التابعين والعلماء، وهكذا، ومتى وجد قول للأقدم لم يطعن فيه لا يؤخذ بالذي دونه، قال تعالى في ذم ذلك الملعون بأنه «أَبى» عن السجود ولم يمتثل أمر ربه الذي أنعم عليه بإلحاقه بالملائكة بعد طرد قومه وإهلاكهم «وَاسْتَكْبَرَ» على آدم وعد نفسه خيرا منه باحتجاج واه «وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ» (٣٤) بسبب فعلته هذه تجاه الملائكة كما هو في علم الله كافر، ولكن الملائكة وآدم لا يعلمون كفره المنطوي عليه قبلا، فأظهره الله لهم بامتناعه هذا، فعلموا أن شقاءه سابق في علم الله، وأن النفس الخبيثة لا يبدلها المعروف، راجع الآية ١٢ من سورة الأعراف ج ١ فيما يتعلق به لعنه الله وأخسا مقايبسه الباطلة. وهذه قصة ثالثة ذكرها الله بقوله جل قوله «وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ» لم يقل جل قوله اسكنتك الجنة لأنه يدل على الاستقرار وهو إنما خلق لعمارة الأرض لا ليبقى في الجنة، قالوا لما خلق الله تعالى آدم على الصورة والكيفية المارتين لم يكن معه من جنسه من يستأنس به، فألقى الله عليه النوم وأمر بأخذ أقصر ضلع من أضلاع جنبه الأيسر فخلق منه زوجته حواء بقوله جل قوله كن امرأة من جنس آدم فكان، وخلق مكانه لحما من غير أن يحسّ بذلك ولو أحس ووجد ألما ما حن رجل على امرأة قط، وسميت حواء لأنها خلقت من حيّ فاستيقظ فرآها جنبه كأحسن ما خلق الله،
27
قال من أنت؟ فألهمها الله بأن قالت زوجتك خلقت لتسكن إليّ وأسكن إليك وأوانسك، ولهذا قيل:
وما سمي الإنسان إلا لأنه ولا القلب إلا أنه يتقلب
وفي رواية إلا لنسيه، كما مرّ في الآية الثامنة، ولهذا قالوا إن للتسمية نسبة بالمسمى غالبا، وقلّ أن تجد اسما لا نصيب له من مسماه، ومن هذا قوله:
قد سمي القلب قلبا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وقيل سمي قلبا لأنه لبّ كما سمي العقل لبا، وقيل لتقلبه، كما مرّ آنفا وفي الآية ٨ المارة. وما قيل إن الجنة التي أدخلها آدم هي بستان كان في اليمن استدلالا بأن الجنة المعروفة من يدخلها لا يخرج منها، فقيل ضعيف لا يؤبه به، والصحيح انها الجنة المعهودة، لأن- أل- فيها للعهد ولا جنة معهودة غيرها ولا يراد عند الإطلاق غيرها وهي التي أعدها الله للمتقين، وما استدلوا به يقال في الداخل فيها جزاء عمله الحسن بعد أن مات وبعث وأحيي كالسيد إدريس عليه السلام، لأنه ذاق طعم الموت، راجع قصته في الآية ٥٧ من سورة مريم في ج ١، وقد ثبت أن سيدنا محمد دخلها ليلة المعراج راجع حديثه أول سورة الإسراء ج ١، أما البستان التي في اليمن فلم تكن إذ ذاك، وقيل إنه هو إرم ذات العماد المذكور بحثها في الآية ٥ من سورة الفجر ج ١، فراجعها. «وَكُلا مِنْها رَغَداً» صفة للمصدر المؤكد، أي أكلا واسعا رافها مريئا حسبما تريدان وترغبان، كما يفيده قوله «حَيْثُ شِئْتُما» من أي مكان أردتما وأي زمان، وهذا يفيد الإطلاق لكل ما فيها، ثم خصص بقوله عز قوله «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» عينها الله لهما بالإشارة إليها، ولم يسمها، لذلك اختلفت فيها أقوال المفسرين، فمنهم من قال إنها السنبلة، ومنهم من قال إنها التين أو الكرم، ولا طائل تحت معرفتها إذ القصد عدم قربانها امتثالا لأمر الله تعالى، ولهذا قال «فَتَكُونا» إذا تناولتما منها شيئا «مِنَ الظَّالِمِينَ» (٣٥) أنفسكما لفعلكما ما لا ينبغي فعله «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها» عن الجنّة بسبب غروره لهما وإغرائهما بالأكل منها «فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ» من النعيم.
28
مطلب إغواء إبليس لآدم وحواء وخروجهما من الجنة وإسكانهما الأرض:
قالوا إن إبليس بعد أن طرد من الجنة أراد دخولها لإغواء آدم وزوجته فلم يمكنه خزنتها من ذلك، فأتى صديقته الحية فأدخلته في فيها، وفي أثناء تعرضه لآدم سمعه يقول لو أن خلودا، فاغتنم الملعون هذه الكلمة وعدها فرصة لإغوائهما، وتمثل باكيا، فقال له آدم ما يبكيك؟ قال أبكي عليكما لأنكما تموتان فتفارقان هذا النعيم، فاغتما لذلك، ثم قال لهما هل أدلكما على شجرة الخلد؟ قالا بلى، قال هي التي نهاكما الله عنها، فأبيا قربانها، ثم حلف لهما بأنه ناصح لهما وأن الله لم ينهكما عن مثلها، فصدقا لأنهما يتحققان أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، ولا يجرؤ أحد أن يكذب على الله، فأكلت حواء من مثل تلك الشجرة، وناولت آدم، فأكل منها فتهافتت عنهما ثيابهما، وبدت لهما سوءاتهما، وقال الله يا آدم ما حملك على ما فعلت؟
قال يا رب غرّني عدوك ولم أظن أنه سيحلف بك كاذبا، وان حواء هي التي بدأت بالأكل مما نهيتنا عنها، قال وعزتي وجلالي لأهبطنك إلى الأرض فلا تنال عيشك فيها إلا نكدا. راجع القصة مفصلة في الآية ١٦ من سورة الأعراف في ج ١، «وَقُلْنَا اهْبِطُوا» الخطاب لآدم وحواء وإبليس والحية «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ٣٦» انقضاء آجالكم فيها، فأهبط آدم على جبل (نود) في سرنديب من أرض الهند، وحواء في جدّة من أرض الحجاز، وإبليس في نجد، والحيّة بأصبهان من أرض العجم، وقيل إن إبليس أهبط بالأيلة من أرض البصرة، فحرث آدم وزرع وسقى وحصد وداس وذرّى وطحن وعجن وخبز بمعاونة زوجته حواء التي اجتمع بها بعد الهبوط وبإلهام من الله تعالى حتى بلغ منه الجهد، وأكل هو وزوجته من كدهما، وقال إن حواء لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرما ولتدمي مرتين في الشهر، فرنت حواء عند ما سمعت كلام الله أي نظرت وتأملت عاقبته وحزنت، فقيل لها عليك وعلى بناتك الرنة. واعلم أن هذا واقع من آدم عليه السلام قبل تشرفه بالنبوة كما وضحناه في الآية ١٢ من سورة طه ج ١ فراجعه، وما قيل بعدم قتل الحيات خوفا من ثأرهنّ أو تأثما لا صحة له، بل ينبغي قتلها لأنها من المؤذيات، وقد
29
جاء في الخبر أن في قتلها عشر حسنات. أخرج أبو داود عن ابن عباس قال:
قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا، ما سالمناهنّ منذ حاربناهن. وله عن ابن مسعود قال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف من ثأرهن فليس مني. وفي رواية اقتلوا الكبار كلها إلا الجانّ الأبيض الذي كأنه قضيب فضة. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان. وفي رواية ان في هذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئا فخرجوا عليه ثلاثا، فإذا ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر.
ومما يدل على أن ما وقع من آدم قبل النبوة قوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» كانت سببا لقبول توبته، والتلقي قبول الكلام عن فهم وفطنة، والكلمات هي قوله تعالى (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية ٢٣ من الأعراف ج ١، وتدل فاء التعقيب على أن توبته كانت عقب هبوطه بلا مهلة، وهذا ما ينافي القول بأن الله تعالى ألهمه أركان الحج وأمره أن يحج ويقول اللهم اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي. وما قيل إنه بقي ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من ربه، ينفيه قوله تعالى «فَتابَ عَلَيْهِ» عقب دعائه هذا الذي لقّنه له ربه «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ» كثير الرجوع على عباده بقولهم إذا تابوا وأنابوا «الرَّحِيمُ ٣٧» كثير الرحمة بهم لرأفته عليهم. قال تعالى «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً» الأمر للأربعة المذكورين آنفا، وهو تأكيد للأمر الأول لما فيها من زيادة كلمة (مِنْها) لبيان أن الهبوط من الجنة، وزيادة لفظ (جَمِيعاً) للتوكيد على أن المراد الأربعة كلهم لا بعضهم ولما نيط به من زيادة قوله تعالى «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» يؤدي بكم إلى الجنة التي أخرجتما منها.
وما قيل إن الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا، والأخير من سماء الدنيا إلى الأرض يرده قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) الآية، وفي هذه الجملة الأخيرة دلالة على جواز الجمع فيما زاد على الواحد، راجع الآية ٧٨ من الأنبياء ج ٢،
30
لأن الهدى لآدم وزوجته خاصة ولا يتصور دخول إبليس والحية فيه، لأن إبليس محتم دخوله في جهنم على طريق التأبيد، والحية قطعا تكون ترابا كسائر الحيوانات كما مر آخر سورة النبأ ج ٢، والقول بخلاف هذا يعارض النص، وكل ما خالف النص لا عبرة به، وما قيل إن المراد هما وذريتهما فيه بعد أيضا إذ لم يكن لديهما ذرية إذ ذاك ولم يتصورانها «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» المنزل إليه «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من الشدائد والأهوال في الدنيا والآخرة «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (٣٨) على ما فاتهم من نعيم الدنيا. وفي هذه الآية دليل أيضا على أن آدم حينما أخرج من الجنة لم يكن نبيّا، وإلا لم يقل له ما جاء أول هذه الآية، راجع الآية ١١٤ فما بعدها من سورة طه ج ١، قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا» بألوهيتنا وجحدوا وحدانيتنا «وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» المنزلة على أنبيائنا في هذه الدنيا وماتوا على ذلك «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ» في الآخرة عقابا لتكذيبهم «هُمْ فِيها خالِدُونَ» (٣٩) أبدا لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، وهذه أول وصية ذكرها الله تعالى لبني إسرائيل في القسم المدني. قال تعالى «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ» لمّا كان المخاطب بالآيات الثلاث عشرة، بعد الست الأولى في هذه السورة هم المنافقون وأكثرهم من اليهود ذرية يعقوب عليه السلام إسرائيل الله، جاء على ذكرهم ثانيا يذكرهم النعم التي أنعم بها على أسلافهم، وكلمة (إسرا) هي صفوة أو عبد و (إيل) معناها الله جل جلاله أي يا أولاد صفوة الله أو عبده تذكروا نعمة إنجائكم من آل فرعون، وإحلالكم أرضهم وديارهم، ونعما أخرى ستأتي تباعا. واعلم أن النعم من الله على عبده قد تنحصر في ثلاثة أنواع: نعمة تفرد الله تعالى بها وهي إيجاد الإنسان ورزقه، ونعمة وصلت إليه بواسطة الغير ومكنه منها بتسخيرهم إليه فيها، ونعمة جعلت له بواسطة الطاعة وهي أيضا من الله الذي وفقه إليها، فتكون كلها منه تعالى إلى عبده وهو يقول أعطاني فلان وخلّصني فلان «وَأَوْفُوا بِعَهْدِي» المشار إليه في الآية ٢٧ المارة كما وفّى به بعض آبائكم الأقدمين الذين تنعموا بتلك النعم بعد الذلّ والرق والقتل، نجعلناهم قادة وملوكا وأنبياء «أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» الذي وعدتكم به من حسن
31
الثواب ورفع الدرجات بالجنة «وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» (٤٠) لا ترهبوا سواي، فأنا المنقذ لكم من الضر الذي أوقعه فيكم القبط، وأنا الذي نجيتكم من الغرق وأغرقت عدوكم، وأنا الذي حميتكم في التيه فأطعمتكم وأسقيتكم وظللت عليكم الغمام لا أحد غيري
«وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ» من القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم لكونه جاء «مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» من التوراة المشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد والإشارة إلى بعثة محمد بن عبد الله وإلى أنه خاتم النبيين ونبي آخر الزمان وأن من آمن به فقد آمن بالتوراة، ومن كذبه فقد كذبها «وَلا تَكُونُوا» أيها الإسرائيليون «أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» أي القرآن فتسنون الكفر لمن بعدكم ويقتدي بكم غيركم، يجب عليكم وأنتم أهل كتاب أن تكونوا أوّل مؤمن به، لأنكم تعلمون من كتابكم أني منزل هذا القرآن على هذا النبي الذي جاء نعته فيه «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي» المسطورة في التوراة المبينة لذلك «ثَمَناً قَلِيلًا» فتكتمون ما فيها من وصف هذا النبي وكتابه لقاء ذلك الثمن اليسير البخس من حطام الدنيا الذي تأخذونه من قومكم وتضيعون ما لكم عند الله إذا صدقتم وآمنتم من الخير العظيم، وأنتم تعلمون أن الدنيا وما فيها بالنسبة للآخرة لا يعدّ ان شيئا «وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ٤١» لا تتقوا غيري، فلا ينجيكم أحد مما تكرهون سواي. وتقديم المفعول يفيد الحصر، أي احذروا عدم اتقائي لئلا تقعوا في الشقاء، وتيقنوا أن لا مخلص لكم غيري «وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ» بأن تكتبوا في التوراة ما ليس منها فتغشوا حقها بباطلكم «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ» الذي هو فيها لقاء ذلك الثمن الزهيد «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٤٢» أن ما تكتمون منها حق وما تبدونه باطل. وهذا الخطاب وإن كان خاصا برؤساء اليهود وأحبارهم الذين كانوا ينالون مالا من سفلتهم وجهلتهم لقاء ما يخلطون عليهم مما لم ينزل الله، إلا أنه عام في كل من يخلط الحق بالباطل، أو يخفي الحق ويظهر الباطل، وتؤذن هذه الآية العظيمة بوجوب إظهار الحق على كل أحد، وحرمة كتمانه وتبديله ومزجه بغيره مما هو ليس من كلام الله.
وكان سبب إقدامهم على ذلك لأمرين: الأول لأجل ما يأخذونه من حطام الدنيا، والثاني الخوف من أنهم إذا بينوا لهم الواقع مما هو مبين في التوراة عن صفات
32
الرسول ولزوم اتباعه عند ظهوره، يؤمنون به فتذهب الرياسة منهم لأنهم يتبعونه ويتركونهم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» مع المسلمين كما أمرتهم بالقرآن بإقامتها «وَآتُوا الزَّكاةَ» المفروضة عليكم لأنها لم تفرض بعد على المسلمين، وقد تكرر أن ذكرنا أن الصلاة والزكاة لم تخل أمة منهما من لدن آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهما ومن بينهما من الأنبياء «وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ٤٣» من المسلمين وصلوا مثل صلاتهم جماعة بركوع وسجود، وذلك أن صلاتهم لا ركوع فيها أي آمنوا وأقيموا شعائر المؤمنين مع النبي محمد وأصحابه. وأنزل الله في رؤسائهم قوله جل قوله «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ» البر كلمة جامعة لكل خير وطاعة «وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» فلا تعملون به، وذلك أن منهم من كان يأمر أقرباءه وحلفاءه وأصدقاءه باتباع محمد صلّى الله عليه وسلم، والثبات معه على دينه سرا، ويقولون لهم إنه نبي آخر الزمان حقا، وان التوراة تأمر باتباعه، وهم يعدلون عن الإيمان به حرصا على بقاء الرياسة بأيديهم، وما يأخذونه منهم من حطام الدنيا، أي كيف تفعلون هذا «وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ» التوراة وتعلمون بما فيها من الحق والأمر باتباعه ومجانبة الباطل «أَفَلا تَعْقِلُونَ ٤٤» أيها الأحبار والرؤساء والقادة، أن ذلك منقصة في دينكم ودنياكم، إذ لا يليق بالإنسان أن يأمر بما لا يفعل وينهى عما يفعل. قال تعالى (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) الآية ٨٨ من سورة هود في ج ٢، وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وفي هذه الآية تقريع وتوبيخ لهم عنى ما هم عليه. ويؤذن الاستفهام فيها بالتعجب من حالهم والإنكار لأفعالهم.
مطلب في العقل ومعناه وأحاديث ومواعظ في الصبر والتقوى وغيرهما والصلاة وما خوطب به بنو إسرائيل:
واعلم أن العقل لغة الإمساك، وهو مأخوذ من عقال الدابة ليمنعمها من الشراد، فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والأفعال القبيحة. واصطلاحا قوة تهيء قبول العلم فتصير لصاحبها ملكة بميز فيها الخير من الشر. وهو قسمان وهي وكسبي،
33
والكسبي أفضل من الوهبي، لأنه يزداد تدريجا بسبب اتباع ما يستحسنه من أعمال الناس واجتناب ما يستقبحه من أفعالهم، والوهبي هو هو، إذ لا يستعمله صاحبه في الاتباع والاجتناب. قال سيدنا علي كرم الله وجهه:
إن العقل عقلان... فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مطبوع... إذا لم يك مسموع
كما لا تنفع الشمس... وضوء العين ممنوع
روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى بالنار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر الناس بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه. وروى البغوي بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء خطباء أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون. وهذا مما يؤيد أن هذه الآية عامة في كل من هذه صفته، وان خصوصها في علماء بني إسرائيل لا يمنع عمومها وشمولها لغيرهم، وقيدها بهم لا يحول دون إطلاقها، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فعلى العاقل إذا أراد أن يسمع قوله ويقتدى بفعله أن لا يخالفها، إذ يصير محلا للانتقاد في الدنيا والعذاب بالآخرة، ولا يعمل لأجل الناس أو لإرضائهم، فقد قال صلّى الله عليه وسلم: من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله شرهم، ومن أحسن فيما بينه وبين الله أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن تحمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه. وعلى الإنسان أن يحسّن ما يخرج من لسانه ويلين جانبه، ويحلم عند الغضب، ويجتنب الحدّة مهما استطاع، فمن أكبر الشوائب وأفحش المصائب أن يكون المرء بذيء اللسان، شرس الطباع، خشن الجانب، سيء الآداب، تأخذه ثورة الغضب لأقل إساءة، والغضب يقبح صورة الغضبان، ويثلم دينه، ويعجل ندمه، وتبدو منه بوادر الحدّة لأدنى إهالة،
34
وعلى الإنسان أن لا يغتر بحسنه وجماله وكمال هيئته دون أن يكون متحليا بعقل سليم وخلق مستقيم وعمل صالح، وينظر إلى قول القائل:
إلا يكن عظمي طويلا فإنني له بالخصال الصالحات وصول
ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلوا وأما وجهه فجميل
قال تعالى «وَاسْتَعِينُوا» أيها الناس على تقوية إيمانكم بالله ورسوله وعلى ما يصيبكم من مصائب الدنيا وعلى مشاق ما كلفتم به من العبادة وما نابكم من قسوة الفقر «بِالصَّبْرِ» فإن الجزع والضجر يزيدان في المصيبة ويمحقان الأجر «وَالصَّلاةِ» الدعاء إلى الله تعالى فيها، فإن ذكر الله مع الصبر يذوب معهما كل ضر، وانهما يهوّنان عليكم حب الدنيا بما فيها من رياسة ومال وسلطة وجاه «وَإِنَّها» أي هذه الأمور التي أمرتكم بها ونهيتكم عنها من بداية الخطاب إلى هنا «لَكَبِيرَةٌ» ثقيل الأخذ بها على الناس، ويشق عليهم القيام بها، كما نريد «إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ ٤٥» منهم، فإنها خفيفة عليهم، لأن قوة إيمانهم وصحة عقيدتهم وواسع يقينهم يسهل عليهم ما يقربهم إلى الله، ويكرههم بما يباعدهم عنه. ثم وصف هؤلاء الخاشعين بأنهم «الَّذِينَ يَظُنُّونَ» يتيقنون «أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» بالآخرة فيعترفون بالبعث بعد الموت وبالحساب والعقاب والثواب «وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ ٤٦» يوم القيامة، ومن اعتقد هذا هانت عليه الدنيا وما فيها، وأقبل بكليته إلى ربه.
قال بعض المفسرين إن الخطاب في هاتين الآيتين الأخيرتين للمؤمنين خاصة، وهو قول غير سديد، لأنّه يوجب تفكك النظم الجليل ويقطع المناسبة بينهما وبين ما قبلهما من الآيات، والأولى هو ما جرينا عليه من جعل الخطاب فيهما لليهود والمؤمنين معا لأن اليهود لا ينكرون أصل الصلاة والزكاة والصبر على المكاره في أمور الدين وانهم يعتقدون باليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار، وكذلك النصارى، لأن الشرائع، كلها منزلة من الله تعالى، وقد ذكرنا في سورة المؤمنين في الآية ٥٢ ج ١ أن أصول الأديان كلها واحدة، وقلنا آنفا إن التخصيص والتقييد لا يمنع عموم والإطلاق، فيدخل فيهما جميع الأمة، ثم أكد التحذير والتخويف عليهم وتفطنهم لنعمه على آبائهم، فقال عز قوله «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
35
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ٤٧»
36
(وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) الآية ٧٢ من سورة الأحزاب الآتية، ويجعل فيك النور لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) الآية ٢٨ من سورة الحديد الآتية. والتقوى تورثكم المحبة لقوله تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الآية ٧٧ من آل عمران أيضا، وتورثكم الإكرام لقوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) الآية ١٤ من سورة الحجرات الآتية، وتورثكم البشارة عند الموت بما يوجب لكم المسرة لقوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) الآية ١٠ من سورة يونس ج ٢، وتورثكم النجاة من النار لقوله تعالى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الآية ٧٢ من سورة مريم في ج ١، ولقوله تعالى (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) الآية ٢٨ من سورة الليل في ج ١، وتورثكم الخلود بالجنة لقوله تعالى (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)
الآية ١٢٣ من سورة آل عمران الآتية. والتقوى التي تسمى تقوى هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات والتباعد عن المحظورات، وقد وصّى الله بها عباده فقال عز قوله (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) الآية ١٣٠ من سورة النساء، ولهذا عرفها
بعض العلماء بأنها اسم جامع للحذر من جميع ما أمر الله به أن يحذر منه، لأن العبد تارة بحذر من تضييع الواجبات، وطورا من المندوبات فيتقيه، وتارة يحدر فوات أعالي الدرجات فيتقيه بأن لا يشتغل بما دونها، ومرة يحذر ارتكاب المحرمات، وأخرى المكروهات فينقيه لئلا يقع فيها، وقال بعض العلماء المراد بالتقوى أن يتقي العبد ما سوى الله فيجتنب كلّ ما يشغله عنه، وفي هذا المعنى قيل:
من أهل زمانكم، فاحتفظوا أيها الخلف الحاضر بشرف أسلافكم المفضّلين، وكرر صدر هذه الآية بمثل الآية ٤٠ المارة وستكرر أيضا في الآية ١٢٣ الآتية، وهذه الوصية الثانية «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي» فيه «نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» لزمها في الدنيا، بل لا بد ان تجازى هي نفسها على عملها. واعلم أن التقوى كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه الإنسان، وهي كلمة وجيزة جامعة لكل خير، ومعناها امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وعبر بعضهم عما ذكر بقوله ان لا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك، وقال آخر إذا أردت أن تعصيه فاعصه حيث لا يراك أو اخرج من داره وكل غير رزقه. وتقوى الله تتضمن ما تضمنه حديث إن الله كتب الإحسان على كل شيء، وكذا ما تضمنه حديث جبريل الذي يسأل فيه حضرة الرسول عن الإسلام والإيمان والإحسان، لأن سائر أحكام التكليف لا تخرج عن الأمر والنهي، فإذا اتقى الله الشخص بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فقد أتى بجميع وظائف التكليف. والأصل في ذلك قوله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ) الآية ١٧٨ الآتية، وقوله تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الآيتين ٦٢ و ٦٣ من سورة يونس في ج ١، فمن اتقى الله حسبما في الآية الأولى من الإيمان والإسلام فهو متق، والمتقي ولي الله، ومن اتقى مثلما في الآية الثانية فهو ولي، فصار معنى قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث اتق الله حيثما كنت تكون ولي الله بتقواك إياه، ويحصل لك لوامح وصف الحمد والثناء في كل مكان وزمان اتقيته فيه، لقوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الآية ١٨٧ من آل عمران الآتية، ويحصل لك أيضا الحفظ والحراسة من الأعداء لقوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) الآية ١٢١ من آل عمران الآتية أيضا، ويحصل لك التأييد والنصر بقوله تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية ٤ من سورة الطلاق الآتية، ويجعل لك أيها المتقي أيضا إصلاح العمل وغفران الذنوب لقوله تعالى
من عرف الله فلم تغنه معرفة الله فذاك الشقي
ما يصنع العبد بعز الغني والعز كل العز للمتقي
وقال أبو الدرداء:
37
واعلم أن التقوى ظاهرا وباطنا، فالظاهر ما يحل بظاهر البدن، وهو المحافظة على حدود الله تعالى، فلا يتجاوز شيئا منها ما استطاع، وإذا أكره يبادر حالا للاستغفار والرجوع، والباطن ما يحل بباطنه من الإخلاص في العمل وحسن النية، وقد اتفقت الأمة على فضلها ولزوم التحلي بها وعدم مرافقة غير أهلها، ولهذا قال:
يريد العبد أن يعطى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول العبد فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا
ولا تمش إلا مع رجال قلوبهم تحنّ إلى التقوى وترتاح للذكر
لأن الذي يريد أن يعيش عيشة طيبة توصله إلى الراحة الدائمة في الآخرة، عليه أن يقضي حياته مع المتقين كي يكون حي القلب دائم اليقظة بعيدا عن الغفلة، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة (التقوى هاهنا) يشير إلى صدره الشريف مكررا لفظها ثلاثا لأنه محل القلب الذي هو بمنزلة الملك للجسد، فإذا صلح صلح كله، وإذا فسد فسد كله، كما جاء في الحديث الآخر الصحيح أيضا، وذلك لأن التقرى تورث خشية الله، وخشية الله تمنع صاحبها من كل سوء، قالوا أمر الرشيد بحبس رجل ثمّ سأل السجان عنه فقال إنه كثير الصلاة والدعاء في سجنه، فقال خله يسألني إطلاقه، فعرض له بذلك، فقال قل لأسير المؤمنين كل يوم يفي من نعمته ينقضي من محنتي، والأمر قريب، والوعد الصراط، والحاكم هو الله. فلما بلغه الرشيد ذلك خرّ مغشيا عليه، ولما أفاق أمر بإطلاقه. لهذا على العاقل أن يخشى الله فيما يقول ويفعل ويعمل بالتقوى، وقال الغزالي: التقوى كنز عظيم فإن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر ورزق كريم وملك عظيم، لأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت فيها. ومن علامة التحقق بالنقرى أن يأتي المتقي رزقه من حيث لا يشعر، ومن جهة لا تخطر بباله، لأن من يتقي الله يقف عند حدوده ويجتنب معاصيه، فيخرجه من طرق الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة، ويرزقه من حيث لا يرجوه. وقال ابن عباس:
يخرج الله المتقي من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة.
راجع الآية الثانية من سورة الطلاق الآتية. وعنه أيضا قال من اتقى الله وقاه كل شيء، أي حفظه مما يخافه، وقال داود بن نصر الطائي: ما خرج عبد من ذل
38
المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه الله تعالى بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس. وقال ابن الوردي:
واتق الله فتقوى الله ما جادرت قلب امرئ إلا وصل
ليس من يقطع طرقا بطلا إنما من يتق الله البطل
هذا وإن الرجل إذا وفق لنقوى الله على ما ذكرنا لازمته الاستقامة، وهي كلمة جامعة لأنواع التكاليف. قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في جميع القرآن أشد من قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) الآية ١١٤ من سورة هود في ج ٢ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم شيبتني سورة هود. قال القشيري الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها وبوجودها تحصل الخيرات ويكمل نظامها، لأن من لم يكن مستقيما في حاله ضاع سعيه وخاب جده. ودرجة الاستقامة هذه لا يطيقها إلا الأكابر الربانيون لما فيها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات، لأنها تقتضي القيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: استقيموا ولن تحصوا. أي لن تقدروا على إحصاء لوازم الاستقامة كلها، وهذا لا يمنعكم من العكوف على الاستقامة، لأن ما يحصل منها يكفي عن غيرها، ولهذا قال العارفون ذرة استقامة خير من ألف كرامة. وقال الكاملون ما الكرامة إلا الاستقامة.
وعلى المنقي طالب الاستقامة أن يحفظ الله تعالى بطاعته وعدم التعدي على عباده ليحفظه برعايته ويجده أمامه فيما ينزل به من الشدائد، وأن يكل أمره إليه، فلا يسأل غيره في قضاء حوائجه، لأن خزائن الوجود كلها بيد الله تعالى، وأزمّتها إليه، ومفاتحها منوطة به، فلا معطي ولا مانع سواه، وعليه أن لا يطلب الإغاثة إلا منه وحده، كما أنه لا يخص بالعبادة غيره، راجع الآية ٥ من سورة الفاتحة في ج ١، والآية ٧٠ من سورة الأنبياء وما ترشدك إليه تجد ما يثلج صدرك.
وليتحقق هذا المتقي المستقيم أن جميع ما في الكون علويه وسفليه لو أرادوا أن ينفعوه بشيء لم يقدره الله له لا يقدرون، كما أنهم لو أرادوا أن يضروه بشىء لم يقدره الله عليه لن يقدروا، راجع الآية ١٣ من سورة الأنعام في ج ٢ وما ترشدك إليه من الآيات. فإذا اتقيت أيها الإنسان واستقمت هان عليك أمر الدنيا والآخرة،
39
ووجدت الله تعالى أمامك في جميع أمورك. فعليك أن تتعرف إليه حالة الرخاء والصحة لتجده حالة الشدة والمرض، كما وقع لأهل الغار في الكهف حينما وقع حجر أمامهم وسد عليهم باب الخروج. راجع الآية ٢٦ من سورة الكهف في ج ٢.
هذا وقد أوردنا ما يتعلق في بحث الاستقامة في آية هود المذكورة آنفا فراجعها مع ما أوردناه في حق التقوى هنا ففيه كفاية. ولنرجع إلى تفسير الآية التي نحن بصددها بعد أن شطح بنا القلم فيما استطردناه، وهي أن كل نفس لا بد وأن تجازى بما عملت هي نفسها عليه، فلا يكون بحالة من الأحوال مجازاة غيرها عنها، قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية ١٩ من سورة فاطر في ج ١، «وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ» إذا كانت كافرة مطلقا، وإذا كانت مؤمنة إلا بإذن الله، ولمن يرتضيه، راجع الآية ٢٨ من سورة الأنبياء ج ٢، «وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ» عنها أي فدية تقيها من عذاب الله «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ٤٨» فيه من العذاب، وهذه الآية بمعرض الرد على اليهود الذين يزعمون أن آباءهم أصحاب موسى عليه السلام يشفعون لهم في الآخرة. قال تعالى معددا بعض نعمه عليهم بقوله عز قوله في قصة ثالثة ضمنها قصصا أخر متتابعة من أعمال اليهود وهي «وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» وهؤلاء المخاطبون لم يشهدوا عهد فرعون وإذاقتهم عذابه بالعسف، إلا أنهم يعلمون ذلك بالاستقراء وبذكره بالتوراة «يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ» أي قتل الذكور وإبقاء الإناث للخدمة «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ٤٩» راجع الآية ٨ من سورة القصص في ج ١ وما ترشدك إليه في هذا البحث «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ» وجعلنا فيه مسالك لتقطعوه وتتخلصوا من فرعون وقومه.
مطلب خروج بني إسرائيل من مصر وأخذهم ضريح يوسف وإنجائهم وإغراق فرعون والميقات الأول:
قالوا لما دخل بنو إسرائيل مصر زمن يوسف عليه السّلام كانوا اثنتين وسبعين نسمة، ولما خرجوا منها زمن موسى عليه السّلام كانوا ستمئة ألف وعشرين ألفا،
40
عدا الذين دون العشرين وفوق الستين، قالوا وأخرج الله كل ولد كان في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وكل ولد كان في بني إسرائيل من القبط إلى القبط، ولما أمره الله بإخراجهم أمرهم أن يستعيروا حلي القبط وأن يتركوا أصرجتهم مضيئة في دورهم لئلا يرتاب القبط ببقائهم، وليعلموا أن استعارة الحلي ليتزينوا بها في عيدهم، ففعلوا وخرجوا إلى باب البلد فأضلوه، فقال مشايخهم إنما أضللنا الباب بسبب العهد الذي أخذه يوسف علينا بأن لا نخرج من مصر حتى نأخذ ضريحه معنا، فتحروا قبره فلم يجدوه، فأخبرتهم عجوز أنه في النيل، فدعا موسى ربه، فانحسر النيل وظهر تابوته، فأخرجوه ووضعوه ضمن تابوت من رخام ونقلوه معهم، وداوموا سيرهم طيلة الليل، ولما بلغ فرعون خروجهم تبعهم بألف ألف وسبعمئة ألف، وعند طلوع الشمس دخلوا شاطىء البحر، فنظروا فإذا فرعون وقومه بأثرهم، فأوحى الله إلى موسى فضرب البحر ودخله وقومه، فدخلوه، فأنجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، راجع تفصيل هذه القصة في الآية ٦٣ من سورة الشعراء في ج ١. قال تعالى «فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ٥٠» فعلنا بكم وبهم بأم عيونكم كيفية الإنجاء والإغراق بآن واحد،
«وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ثلاثين من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة، ولم يقل نهارا لأن الأشهر العربية وضعت على سير القمر، وهذا هو الميقات الأول إذ يوجد آخر سنأتي على ذكره بعد. قالوا إن بني إسرائيل لم يكن لديهم شريعة ولا كتاب، وقد وعد الله موسى بإنزال التوراة ووقت له هذا الميقات، فاستخلف عليهم هارون وذهب لميقات ربه، وكان السامري يرى جبريل حين يأتيه ويرى فرسه لا تطأ شيئا إلا حيي وكان منافقا، فقبض قبضة من أثرها إذ عرف أنه إذا ألقاها على شيء يحيا، فقال لبني إسرائيل إن الحلي الذي أخذتموه من القبط لا يحل لكم فضعوه في هذه الحفرة، فوضعوه، فعمد إليه وصاغه عجلا وألقى التراب فيه، فصار يخور، فقال لبني إسرائيل هذا إلهكم الذي ذهب إليه موسى نسيه هنا. راجع تفصيل هذه القصة في الآية ١٤٨ من سورة الأعراف في ج ١، وذلك قوله تعالى «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ» إلها فعبدتموه «مِنْ بَعْدِهِ»
41
بعد ذهاب موسى إذ كان وعدهم أولا ثلاثين ليلة، ولم يعلموا بزيادة العشر، فلما مضت ظنوا أنه مات، لأن العقيدة الدينية في قوم موسى لم ترسخ في قلوبهم بعد، مع ما أظهره الله على يديه من الآيات الباهرات، ولهذا بادىء الرأي أذعنوا وسمعوا قول السامري وعكفوا على عبادة العجل، قاتلهم الله، إن موسى دعاهم إلى الله سنين، وأظهر لهم المعجزات الباهرة، فلم تثبت دعوته إلى الله الفاعل المختار في قلوبهم، وبكلمة بسيطة من السامري أذعنوا حالا لعبادة العجل الذي هو من صنع يده، وانقادوا له، ولهذا قال تعالى «وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ٥١» في ذلك، لأن العجل عبارة عن صنم، فكيف تصدقون إلهيته بلا تأمل، ولا تدبر وبأنه إله موسى، وأن موسى نسيه «ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الفعل القبيح، وقبلنا تربتكم «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٥٢» حسن صنيعنا بكم من قبولكم بعد الإعراض وما أسلفناه لكم من النعم التي لا تقدر ولا يقدر أحد أن يعملها معكم، فضلا عن نعمة خلقكم وتمعكم بجوارحكم وحواسكم وإدرار الرزق عليكم وإيوانكم.
مطلب في الشكر وتوبة بني إسرائيل والميقات الثاني:
واعلم أن الشكر ثلاثة أنواع: شكر بالقلب وهو تصور النعمة، وشكر باللسان وهو الثناء على مؤتي النعمة، وشكر بالجوارح وهو مكافأة المنعم على النعمة.
وقيل في ذلك:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
قال موسى عليه السّلام: إلهي أنعمت علي النعم السوابغ، وأمرتني بالشكر، وإنما شكري إيّاك نعمة منك، فأوحى الله تعالى إليه يا موسى تعلمت العلم الذي لا فوقه علم، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهي مني. وقال داود عليه السّلام: سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة. قال تعالى «وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» التوراة «وَالْفُرْقانَ» عطف بيان على الكتاب، أو معرفة الفارق ما بين الحق والباطل لأول نظرة دون تأمل، بأن يلقي الله تعالى في قلبه عند مشاهدة الشيء أو سماع القول، هذا حق وهذا باطل «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ٥٣» بهديه
42
فتعلمون منه ما أحل لكم وما حرم عليكم فتأتون الخير وتذرون الشر على علم لأن الفعل والترك إذا كان عن جهل فهو جهل وإن كان حقا، قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ» الذين عبدوا العجل بعده بإغرار السامري «يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ» إلها زمن غيابي وعبادتكم له من دون الله وخرجتم عن العهد الذي أخذته عليكم وفاقا لعهد الله الأزلي بعدم عبادة غيره، فقالوا له ما نفعل حتى يغفر لنا، لأن الله الذي أمرتنا بعبادته يقبل الرجوع إليه قال «فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ» خالقكم قالوا وكيف هذه التوبة التي تمحو ذنبنا ويقبلنا بها إلهك قال «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» وكان في شريعة موسى عليه السّلام أن من اقترف ذنبا كبيرا كالكفر فتوبته قتل نفسه، ولا يقبل الله توبتكم إلا بذلك، وبما أنكم ولا بد ميتون فقتلكم أنفسكم لرضاء الله عنكم أربح لكم، «ذلِكُمْ» القتل والتخلص من هذه الدنيا الفانية التي غررتم بها فتلاقوا ربكم تائبين خاضعين «خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» من أن تموتوا حتف أنفسكم كفارا فتلقوه في دار البقاء على كفركم فتخلدوا في النار. وهذا بيان بأن توبتهم لا تقبل إلا بالقتل، وليس القتل هنا تفسيرا للتوبة، لأن التوبة عبارة عن الندم على الفعل والعزم على عدم العودة عليه، ولكن الله تعالى أوحى إن موسى عليه السلام أن توبة المرتد قتله، ولذلك قضى عليهم بالقتل، ولما وقع في قلوبهم ما هددهم به موسى من الخلود بالنار في الآخرة وتيقفوا ان قوله حق لما عرفوا منه، وأنهم لا بد ميتون، اختاروا قتل أنفسهم حذرا من عذاب الله، فقالوا نسلم لأمرة إلى الله، ونصبر على القتل، وجلسوا مختبين (الاحتباء ضم الساقين إلى البطن بثوب) وقيل لهم من حل حبوته أو اتقى بيديه أو بشيء آخر أو نظر لقاتله فهو ملعون، فصار الابن يقتل أباه، والأب ابنه، والأخ أخاه، والزوج زوجته، والزوجة زوجها، وقد أظلهم الله بسحابة حتى لا ترق قلوب بعضهم على بعض، وصار موسى وهرون يبكيان، ويتضرعان إلى ربهما، ويقولان يا ربنا (البقا البقا) أي اعف عن البقية، فأجاب الله دعاءهم وكشف عنهم السحابة وأمرهم بالكف عن القتل، فتفقد موسى وهرون القتلى فوجداهما سبعين ألفا، فحزنا عليهم، فأوحى الله تعالى
43
إلى موسى ألم ترض أن أدخل القاتل والمقتول الجنة، ومن بقي مكفرا عنه؟
قال بلى يا رب، فأخبر قومه وأمر بدفن الموتى، وقال للباقين «فتاب عليكم» ربكم بامتثالكم أمره «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ٥٤» بالعفو عن الباقين وإدخال القاتل والمقتول الجنة. قال تعالى «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» علانية مثل ما نراك وترانا، وذلك أن الله تعالى أمر موسى أن يأتي بأناس من بني إسرائيل يعتذرون عن عبادة العجل من الذين لم يعبدوه ولم ينهوا العابدين له عن عبادته. فاختار سبعين رجلا من خيارهم وأمرهم بالصوم والطهارة، وخرج معهم إلى طور سيناء، وهذا الميقات الثاني، فلما وصلوا قالوا لموسى أسمعنا كلام الله، فقال لهم أدنوا مني، فدخل الغمام، ودخلوا وراءه فسجدوا وسمعوه يكلم ربه وسمعوا كلام الله جل شأنه يقول له أنا الله ذو بكة لا إله إلّا أنا، أخرجتكم من مصر بيد شديدة، فاعبدوني لا تعبدوا غيري، ثم قالوا يا موسى أما وقد أسمعتنا صوته فأرناه عيانا، فإنا لا نؤمن لك حتى نشاهده عيانا «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ» حال مقالتكم هذه لجرأتكم على ربكم بطلب رؤيته، والصاعقة صوت صيحة عظيمة هائلة راجع الآية ١٩ المارة «وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ٥٥» كيف متّم بسببها. ولا دلالة في هذه الآية على عدم استحالة جواز الرؤية في الآخرة، لأن بني إسرائيل عوقبوا بسؤالها وكان عقابهم بعدم إيمانهم بقول رسولهم بعد ظهور معجزته، ولأن سؤالهم كان تعنتا وعنادا، فلما رأى موسى ما حلّ بهم صار يبكي ويتضرع إلى الله ويقول يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم، فلو شئت أهلكتهم وإياي قبل أن نأتيك، أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ ولم يزل يتضرع حتى أحياهم الله تعالى كما أماتهم وهم ينظرون بعضهم إلى بعض كيف يحيون، كما نظر بعضهم إلى بعض كيف يموتون، وذلك قوله تعالى «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٥٦» نعمة الإحياء بعد الموت زيادة على النعم الأولى. وتقدم بحث هذا الميقات الثاني في الآية ١٥٥ من سورة الأعراف ج ١ بأوضح من هذا، فراجعه.
44
مطلب في التيه والمنّ والسلوى ومخالفتهم أمر الله ثانيا:
قال تعالى «وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ» في التيه ليقيكم من حر الشمس، إذ ليس لديكم ما تستظلون فيه رأفة بكم «وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» غذاء وفاكهة لكم، إذ ليس لديكم ما تأكلون رحمة بكم. المنّ شيء أبيض كالثلج حلو ينزل على أوراق الأشجار ليلا بقدر ما يكفيهم كلهم، فيتناولونه نهارا.
والسلوى طير يشبه السّمان، قد سخره الله تعالى إليهم وذلله، فيأخذون منه ما يكفيهم أيضا كل يوم، فإذا كان يوم الجمعة يأخذون كفاية يومين وليلتين، لأنه لا يأتيهم يوم السبت وهم لا يحل لهم تناوله فيه. روى البخاري ومسلم عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين.
أي أن الكمأة شيء أنبته الله تعالى لخلقه من الأرض من غير سعيهم ولا مونة منهم، فهي منّ منّ الله تعالى علينا مثل المنّ لذي أنزل على بني إسرائيل لا هو نفسه، وماؤها شفاء للعين يعرفه ذو الخبرة به، لا لكل أمراض العيون، كالعسل نافع لبعض الأمراض لا كلها، وقد قال الله تعالى (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الآية ٧٧ من سورة النحل ج ٢، والضار والنافع هو الله تعالى. راجع الآية ١٧ من سورة الأنعام ج ٢، وقلنا لهم: (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) بلا تعب ولا كلفة «وَما ظَلَمُونا» حينما كفروا نعمتها وقالوا لن نصبر لك على طعام واحد، كما سيأتي قريبا «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٥٧» ببخسهم حقنا وجحوده وعدم شكره، لأن وباله يعود عليهم. قال تعالى «وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ» أريحا قرية الجبارين الآتي ذكرهم في الآية ٢٤ من سورة المائدة الآتية، أو بيت المقدس على قول، وقد أمروا أن يدخلوها بعد انقضاء أربعين سنة عليهم للبقاء فيه «فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً» بسعة بال وطيب حال وهناءة ورفاه «وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً» أي باب حطة من البيت المقدس إذا كان المراد بالقرية هو، وإنما سمي حطة لأن من دخله حطت عنه الذنوب، وإن كان المراد أريحا فيكون المعني أي باب شئتم، إذ لها سبعة أبواب «وَقُولُوا حِطَّةٌ» أي حط عنا ذنوبنا يا ربنا، فإذا فعلتم هذا أيها الإسرائيليون «نَغْفِرْ لَكُمْ
45
خَطاياكُمْ»
لأن امتثالكم لأمرنا هذا عبارة عن طلب الاستغفار «وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ٥٨» منكم ثوابا زيادة على المغفرة التي طلبتموها. وسنأتي على سبب التيه ومدته وما وقع في الآية المذكورة من المائدة إن شاء الله تعالى القائل.
«فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» فقالوا حنطة بدل حطة، ودخلوا زحفا على أستاههم بدل أن يدخلوه قائمين مستقيمين. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول صلّى الله عليه وسلم قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فدخلوا يزحقون على أستاههم، وقالوا حبة شعيرة. ورويا عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخثر اللحم (أي لم ينتن ولم يتغير)، يشير في هذا إلى ادخار بني إسرائيل المنّ والسلوى يوما وليلة، مع أنه كان كل يوم يأتيهم عدا السبت، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر.
ويشير بهذه الفقرة الأخيرة إلى منازلة حراء آدم من الشجرة وأكلها منها قبله حتى أغرته «فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» وضع الظاهر موضع المضمر إظهارا في قبح أمرهم «رِجْزاً» عذابا مميتا «مِنَ السَّماءِ» من جهتها، وأوقعنا بهم ذلك العذاب المميت «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ٥٩» يخرجون عن طاعة الله ويخالفون أمر رسوله فيتجاوزون ما حده لهم. ونظير هذه الآيات الآيات ١٦٠ فما بعدها من سورة الأعراف ج ١. قال تعالى «وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ» في التيه لما أرهقهم العطش ولم يكن لهم ما يشربون منه البتة «فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ» لحجر معين بدليل التعريف فضربه امتثالا لأمر ربه «فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» على عدد الأسباط لكل سبط عين بدليل قوله تعالى «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» فلا يتعدى سبط على شرب غيره، وقلنا لهم «كُلُوا» من المنّ والسلوى حلوا ودسما «وَاشْرَبُوا» من الماء العذب الذي جاءكم «مِنْ رِزْقِ اللَّهِ» بلا مشقة ولا مؤنة «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٦٠» وفي هذه الآية معجزة عظيمة لسيدنا موسى عليه السّلام، إذ انفجر له من الصخرة ماء بضربة واحدة من يده في عصاه، وكونه اثنتي عشرة عينا أكبر من نبع الماء على أن معجزة محمد صلّى الله عليه وسلم أعظم، إذ فجر الله له الماء لأصحابه من بين
46
أصابعه، لأن انفجار الماء من اللحم والدم لم يسبق له نظير لا من طريق المعجزة ولا من غيرها، لذلك فإنه أعظم من انفجاره من الصخرة التي ينفجر الماء منها عادة كما هو مشاهد،
قال تعالى «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ» وذلك لأنهم صئموا من أكل المنّ والسلوى وشرب الماء بلا تعب ولا عمل، وسمّوها واحدا مع أنهما اثنين، لأنه لا يتبدل، فكان بمنزلة الواحد «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها» البقل يشمل كل الخضراوات المأكولة «وَقِثَّائِها» يدخل فيه الخيار والبطيخ وأنواعهما «وَقَوْمَها» الحنطة وسائر الحبوب التي تخبز فهو كالجنس لمثلها، ولا وجه لتأويله بالثوم المعروف، لأنه داخل في قوله تعالى (وَبَصَلِها) الذي هو كالجنس أيضا يدخل فيه الثوم والكراث والبصيل وغيرها، وكذلك يقال فيما قبله وبعده، لأن الله تعالى ذكر أمهات الأشياء استغناء عما تفرع عنها «وَعَدَسِها» يعم كافة الحبوب التي تطبخ كالماش والهرطمان والرز وغيرها «وَبَصَلِها» يدخل فيه كل ذي رائحة كريهة كالبراصية والكرنب وشبهها «قالَ» لهم موسى عليه السّلام «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى» أخس وأحقر مما لم يمكن الحصول عليه إلا بكدّ وكدح «بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» أحسن وأطيب، وتتناولونه عفوا بلا تعب، وإذا كنتم تصرون على هذا «اهْبِطُوا مِصْراً» من الأمصار، وهذا الفرق بين مصر بلا تنوين علم على المدينة المعلومة والقطر المخصوص، وعلى مطلق بلدة بالتنوين، فإذا أردت الأول منعت من الصرف، وإذا أردت الثاني صرفت «فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ» من ذلك في أي بلدة تقصدونها «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ» الفاقة أحاطت بهم من كل جانب، لأنهم بمجرد دخولهم البلدان احتاجوا إلى الكد والجهد، وتذللوا لغيرهم لتحصيل معاشهم، وتمسكنوا لينالوا ما يقوتهم. ولا وجه لمن فسّرها بالجزية، لأنها لم تضرب عليهم، إلا أن اليهود كانوا ولا يزالون شديدي الحرص على المال، ولذلك تراهم أذلاء يتكالبون على جمعه يأتي طريق كان ولو كانوا أغنياء «وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ» رجوعهم بالغضب وانطباعهم على الذل وحب المال لسوء عقيدتهم وفساد نيّتهم وتكالبهم على الدنيا
47
وعدم طاعتهم لرسلهم، والسبب في ذلك «بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسوله «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ» عدوانا «ذلِكَ» الكفر والقتل «بِما عَصَوْا» أوامر الله «وَكانُوا يَعْتَدُونَ ٦١» حدوده من قبل ويتجاوزونها. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وهم المنافقون «وَالَّذِينَ هادُوا» سموا يهودا لقولهم (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) راجع الآية ١٥٥ من الأعراف في ج ١ «وَالنَّصارى» قوم عيسى عليه السلام سموا نصارى لأنهم من قرية الناصرة في فلسطين «وَالصَّابِئِينَ» الخارجين عن دين إلى غيره، لأنهم عدلوا عن اليهودية والنّصرانية وعبدوا الكواكب لزعمهم أن الله تعالى خلقها مدبرة لأمر هذا العالم، ولذلك يعظمونها، فهؤلاء «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» منهم إيمانا خالصا قلبا ولسانا، وآمنوا برسوله وكتابه كذلك إيمانا حقيقا «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» البعث بعد الموت، والعقاب والثواب، والجنة والنار بعد الحساب «وَعَمِلَ صالِحاً» مع إيمانه بما تقدم «فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» في الآخرة يثيبهم عليها من فضله «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من أهوالهما وعذابها «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢» على ما فاتهم في الدنيا، لأنهم عرضوا خيرا منها.
ونظير هذه الآية الآية ٦٩ من سورة المائدة الآتية.
مطلب رفع الطور على بني إسرائيل وكيفية مسخهم قودة وخنازير:
قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ» يا معشر اليهود وأعطيتمونا العهد على العمل بالتوراة، فنكثتم ونقضتم، ولما لم تمثلوا أمر رسولكم باتباع ما فيها وهددناكم بالعذاب الأخروي ولم تفعلوا، ولهذا فإنا سننزل بكم العذاب الدنيوي العاجل «وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» حتى إذا لم تفعلوا بها أطبقناه عليكم، وها هو ذا فوقكم كالظلة «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ» فيها واعملوا به «بِقُوَّةٍ» جد وعزيمة انقيادا لقوتنا البالغة «وَاذْكُرُوا» اقرأوا وادرسوا واحفظوا «ما فِيهِ» من الأحكام والحدود والأوامر والنواهي، ولا تنسوا شيئا منها «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٦٣» سقوط جبل الطور عليكم. فلما رأوه لا محالة واقعا بهم سجدوا وقبلوا الأخذ بما فيها، وصاروا يرمقون الجبل من طرف أعينهم وهم سجود خشية
48
هبوطه عليهم، ولذلك يسجدون حتى الآن على أنصاف وجوههم، زاعمين أنه إنما رفع عنهم هبوط الجبل بمثله. قال تعالى «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الميثاق الذي أخذ منكم قهرا على القبول بأحكام التوراة وحدودها أعرضتم عن قبول ما فيها وأدبرتم وتركتم العمل بها، ولم تخشوا أن بوقع بكم ما رفعه عنكم أو ينزل بكم ما هو أعظم «فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» بكم بتأخير العذاب وإمهالكم للتوبة «لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (٦٤) بذهاب دينكم ودنياكم لأنكم غبنتم بضياع دنياكم سدى وسببتم لأنفسكم عذاب الآخرة اختيارا ورضاء. قال تعالى «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ» إذ جاوزوا حدود الله فيه لإقدامهم على ما نهوا عنه فيه احتيالا على الله وخلافا لأمره «فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» (٦٥) مبعدين مطرودين من رحمة الله، فكانوا، وحولت صورهم البديعة الإنسانية إلى صور قبيحة حيوانية، «فَجَعَلْناها» أي الفعلة التي أوقعناها بهم «نَكالًا» عقوبة عظيمة وعبرة مؤثرة وعظمة بليغة «لِما بَيْنَ يَدَيْها» الذين حضروها منهم «وَما خَلْفَها» الذين يأتون بعدها من الأمم بتكرر السنين، إذ ينقلها السلف بصورة مستمرة إلى الخلف جيلا بعد جيل «وَمَوْعِظَةً» جعلناها «لِلْمُتَّقِينَ» (٦٦) يتذكرون بها لأنها من أيام الله في عباده ومواقعه في بلاده، ويذكرون غيرهم بها ليعلموا كيفية فعلنا بهم.
وخلاصة هذه القصة أن الله حرم على اليهود صيد السمك يوم السبت، وقد ابتلاهم بأن ألهم السمك ذلك فصاروا يظهرون فيه عاثمين على وجه الماء، كما أخبر الله عنهم في الآية ١٦٢ من الأعراف في ج ١، فسؤلت لهم أنفسهم أن حفروا حياضا كبارا قرب الشاطى، وشرعوا لها من البحر جداول يجري فيها الماء إليها فيفتحونها يوم الجمعة، ويبقونها حتى صباح الأحد، فيتسرب السمك إليها فيسدونها عليه من جهة البحر، فيبقى السمك عاثما فيها لا يستطيع الرجوع إلى البحر، وإذا هرب إلى البرّ مات، فيضطر للبقاء في الحياض، فيأتون ويأخذونه دون كلفة، وبهذه الصورة احتالوا على صيده، وذلك في زمن داود عليه السّلام، واستمروا على ذلك مدة، ولما رأوا أن الله لم يعاقبهم قالوا قد أحل لنا العمل في السبت،
49
فصاروا يفعلون فيه كل شيء، وانقسم الناس ثلاثة أقسام قسم صاد واستحل السبت، وقسم امتنع وسكت، وقسم امتنع ونهى، ولكنه لم يؤثر فيهم، فغضب الله عليهم ولعنهم وفصل بينهم وبين الآخرين بجدار حتى لا يرونهم، فقصدوهم وتسوروا الجدار لينظروهم، فإذا هم ممسوخون قردة وخنازير يتعاوون، وبقوا ثلاثة أيام ثم هلكوا عن آخرهم، قالوا ولم يمكث مسخ بعد ثلاث، ولم يتوالد البتة، وكان زعمهم هذا بتأويل الجواز، ولم يعلموا أن الله تعالى لا تخفى عليه حالتهم ونيتهم، ولهذا البحث صلة في الآية ٧٣ الآتية إن شاء الله، ولهذا حذرهم الله تعالى سوء صنيع أسلافهم، لئلا يصيبهم ما أصابهم بأن يجعلوا هذه الحادثة نصب أعينهم يتذكرون فيها.
مطلب ما قاله الإمام المراغي وقصة البقرة وإحياء الميت:
هذا والعجب كل العجب من أن سماحة الأستاذ المراغي بمصر العظيمة اعتبر هذا المسخ عند تفسير الآية ٦٥ من سورة البقرة معنويا، مستدلا بما رواه ابن جرير عن مجاهد بأنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم، وهو يعلم بأن ابن جرير ينقل الأقوال ثمّ يعلّق عليها، وقد بسط الموضوع بصورة لم تبق شكا في أن المسخ كان حقيقيا، على أن الله تعالى كرر هذه الحادثة في الآية ٦٣ من سورة المائدة الآتية وأشار إليها في الآية ١٦٢ من الأعراف ج ١ بصورة صريحة لا مجال للتأويل فيها، وعلى قوله يقال أيضا بأن رفع الجبل كان معنويا، وموت السبعين المختارين في الآية ١٥٥ من سورة الأعراف كان صوريا، وما ذكره الله عن موسى والخضر وقصة البقرة كان صوريا، فما أدري أستكثر على الله ذلك، كلا وحاشا، ولكن قد يكبو الجواد، وزلة الكبير كبيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» وذلك أن رجلا فقيرا ذبح ابن عمه الغني ليستولي على ماله وألقاه في قرية أخرى وادعى لدى موسى عليه السلام بدمه عليهم ودفعوا دعواه ببراءتهم منه ولا بينة لديه سوى وجود جثته في قريتهم، فسأل موسى ربه فأمره أن يذبحوا بقرة ويضربوا المقتول ببعضها فإنه يحيا ويخبر بقاتله «قالوا» أي المتهمون بالقتل
50
يا موسى ما جوابك بموافق للسؤال «أَتَتَّخِذُنا هُزُواً» نحن ندفع عن أنفسنا دعوى القتل وأنت تأمرنا بذبح بقرة؟ وذلك لعدم علمهم الحكمة من ذلك لما بين الأمرين من التفاوت «قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» (٦٧) الساخرين بكم وإني مثلكم في هذا ولكن الله أمرني به لإظهار أمر القتل الذي اتهمتم به، وهؤلاء كان عليهم أن يأتوا حالا بمطلق بقرة فيذبحوها، لأن موسى لم يعين لهم بقرة مخصوصة ولم يأمره الله بذلك ولكن شدّدوا فشدد الله عليهم، «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» حقيقتها وكم سنها «قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ» الفارض المسنة التي لم تلد أي لا كبيرة «وَلا بِكْرٌ» البكر الفتية التي لم تكن أهلا للولادة أي صغيرة «عَوانٌ» العوان النصف والوسط والتي نتجت بعد بطنها البكر من الخيل والبقر ومن النساء التي كان لها زوج ثمّ بين المراد بقوله عوان «بَيْنَ ذلِكَ» بين المسنة والبكر «فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ ٦٨» ولا تكثروا السؤال عما لا يعني، فلم يكتفوا بذلك «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ» شديد الصفرة كما تقول أسود حالك وأبيض أنق وأزرق صاف وأخضر أدهم أي «لَوْنُها» اصفر جدا «تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» (٦٩) رؤيتها لحسنها وتعجبهم بهجتها فيظهر على وجه ناظرها السرور «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» أسائمة أم عامله «إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ» (٧٠) لما تأمرنا به
«قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ» ليست مذالة بالعمل «تُثِيرُ الْأَرْضَ» تحرثها للزراعة «وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ» ليست بساقية يستقى عليها الماء من البئر وغيره «مُسَلَّمَةٌ» من كل عيب «لا شِيَةَ فِيها» لا علامة ولون آخر من أبيض أو أسود أو غيره «قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ» البيان الشافي الذي لا إشكال فيه فصاروا يطلبون بقرة متصفة بما ذكر فلم يجدوا إلا واحدة عند غلام يتيم فكان هذا السؤال منهم لحكمة أرادها الله تعالى أيضا وهي أن رجلا صالحا عنده غلام صغير وعجلة صغيرة فتركها في غيضة وقال استودعنك يا رب هذه العجلة لا بني ثمّ مات، ونشأ الغلام
51
صالحا مرضيا لأمه فقالت له يا بني إن أباك استودع ربك عجلة في الغيضة (الحرج) فاذهب وأت بها وعلامتها أنك إذا رأيتها يتخيل لك شعاع الشمس يخرج من جلدها فذهب فرآها فقال أعزم عليك برب إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلا أقبلت إلي فأقبلت فأخذها، وكان الناس عند ما يرونها يسمونها المذهبة فلما أتى بها إلى أمه قالت اذهب وبعها بثلاثة دنانير ولا تطلق بيعها إلا برأيي فأخذها إلى السوق فأرسل الله ملكا بصورة إنسان وأعطاه بها ثلاثة دنانير فباعها له على رضاء أمه، فقال له الملك أعطك ستة دنانير وبعينها دون مشورة أمك، قال لو وزنتها بالذهب لا أبيعها إلا برضاء أمي، فرجع فأخبر أمه، فقالت بعها بستة على رأيي، فرجع بها إلى السوق فجاءه الملك فقال بعتها لك بستة على رأي أمي، فقال أعطيك اثني عشر ولا تستأذن أمك، فقال مقالته الأولى، ورجع فأخبر أمه، فقالت بعها باثني عشر برأيي، ثم انثنت وقالت قد وقع في روعي أنّ الذي يأتيك ملك، فقل له أتأمرني أبيعها أم لا؟ فذهب وأخبره بما قالت أمه، فقال قل لأمك أمسكيها فإن موسى ابن عمران سيشتر بها بملء مسكها (جلدها) ذهبا، فرجع وأخبر أمه بما قال، واحتفظت بها ولما لم يجد أهل القرية بقرة موصوفة بما ذكر موسى إلا هذه أخذوها منه بوزن جلدها ذهبا، وأحضروها لموسى «فَذَبَحُوها» بأمره بقصد براءة ذمتهم من جرم القتل «وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» (٧١) شراءها وذبحها لغلاء ثمنها ولكنهم اضطروا لذلك لبراءتهم، قال تعالى خطابا للمتخاصمين «وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها» اختلفتم وتدافعتم بسببها، لأن رب القتيل يسن قتل قريبه إليهم وهم ينكرون، وبعد أن قمتم بما أمرتم فاتركوا المخاصمة الآن «وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (٧٢) من أمر القتل لأنه سيفضح الأمر، قال تعالى «فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها»
فأخذوا لسانها فضربوا به القتيل فحيي وقال قتلني ابن عمي المدعي المذكور، فظهرت براءة أهل القرية وكذب المدعي فحرمه موسى من إرثه كله وأوقع عليه القصاص. وقد جاء في الخبر عن سيد البشر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة، وهذا مما هو موافق لشرعنا الذي جاء به خاتم الرسل من حرمان القاتل ميراث مقتوله «كَذلِكَ»
كما أحيا الله هذا الميت
52
«يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى»
يوم القيامة فلا تستبعدوا على الله شيئا أيها المنكرون البعث «وَيُرِيكُمْ آياتِهِ»
هذه وأشباهها «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
(٧٣) معانيها فتدبرونها وتستدلون بها على غيرها، هذا وإنما لم يقدم قصة القتيل على قصة البقرة لئلا تكون واحدة ويذهب الغرض من تقريعهم على قتل النفس المحرمة وعلى ترك المسارعة إلى امتثال الأمر بذبح البقرة. وفائدة الضرب المأمور به في هذه الآية الكريمة مع أن الله تعالى قادر على إحيائه دون ضربه ودون ذبح البقرة، لئلا يتوهموا بأن موسى أحياء بضرب من السحر الذي اتهموه به أو بالحيلة التي يزعمونها.
وإنما كانت بقرة ولم تكن شاة لأنها أعظم القرابين عندهم، وقد جرت عادتهم أن يتقربوا إلى الله بمثلها، ولحصول المال العظيم لصاحبها ابن الرجل الصالح، ولأنها كانت وديعة الله. هذا وهل يستطيع الأستاذ المراغي أن يقول ان هذه القصة معنوية، وهل قصة عزيز وقصة إبراهيم الآتيتين في الآية ٢٥٨ فما بعدها وغيرهما مما لا يعد، صورية، رحمه الله لا نعلم ماذا أراد بجرأته هذه؟ تجاوز الله عنه.
الحكم الشرعي في مثل هذه الحادثة إذا وجد قتيل في قرية أو محلة ولم يعرف القاتل ولا بينة على القتل ولم يعلم الذي رماه فيها، فإن الإمام يختار خمسين رجلا من صلحاء القرية أو المحلة برأيه أو برأي ولي المقتول ويحلف كل منهم فيقول والله ما قتلته ولا أعلم له قاتلا، فإن حلفوا لا يقتصّ منهم ولكن تؤخذ دية القتيل من أهل القرية أو المحلة كافة، وإن كان في الطريق العام كانت ديته على بيت المال، لأن السلطان مكلف بأمن الطريق. قال تعالى «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» البرهان العظيم وهو إحياء الميت وإخباره عن قاتله وانتزعت منكم لرحمة وتلطختم بأدران الذنوب، فغلفّت وتكاثف صدأها «فَهِيَ كَالْحِجارَةِ» في صابتها «أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» منها، لم قل كالحديد مع أنه أصلب من الحجارة لأنه يلين بالنار لكل أحد، وقد لان لداود عليه السّلام بغيرها، والحجارة غير قابلة للتلبين وقد تصير ترابا بالحرق لكنها لا تلين أبدا «وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ» فهي أفضل إذا من القلب القاسي ويرجى منها الفائدة بخلافه «وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ» كالعيون التي هي
53
دون الأنهار «وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» أي ينزل بسرعة من قمة الجبل إلى أسفله انقيادا لأمر الله تعالى وهو قادر علي إفهامها. روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، وإني لأعرفه الآن. أي وان قلوبكم يا بني إسرائيل لا تخشى ولا تلين ولا تعقل قول المرسلين، فاعملوا ما شئتم «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (٧٤) في الدنيا من الشرور.
مطلب مثالب بني إسرائيل وتحويفهم كلام الله ونقضهم عهوده:
وفي هذه الآية توبيخ على أفعالهم القبيحة الماضية وتهديد ليكف عنها أهل زمنه ولا يقدم على مثلها في المستقبل أبناؤهم. قال تعالى «أَفَتَطْمَعُونَ» يا سيد الرسل وإنما خاطبه بلفظ الجمع تعظيما له وتكريما لشائة لأنه هو الداعي للإيمان بالله وحده «أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» هؤلاء اليهود وقد سمعتم ما وقع منهم تجاه نبيّهم «وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ» أي من آبائهم مع موسى عليه السّلام يوم الميقات «يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ» معه وبعده كانوا يسمعون التوراة التي هي كلام الله من موسى عليه السّلام نفسه «ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ» يغيرونه ويبدلونه «مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ» وعوه وفهموه إذ قالوا لموسى سمعنا الله يقول إن تفعلوا فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا، فخالفوه عمدا «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (٧٥) أن الله تعالى لم يقل ذلك ويعلمون أنهم اختلفوه من أنفسهم فإذا حرفوا نعتك الموجود في التوراة الذي سمعه أسلافهم من موسى عليه السّلام فقالوا غير الواقع فليس بشيء عندهم أن يكذبوا عليك بعد أن كذبوا على الله تعالى «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا» بك «قالُوا آمَنَّا» بما آمنتم به يا أصحاب محمد وقد علمنا أن صاحبكم صادق ونعته موجود عندنا في التوراة كما هو عليه الآن، ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى بحق المنافقين، وهذه بحق اليهود فقط، «وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا» أي رؤساؤهم الذين نزلت بحقهم هذه الآيات وهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وأضرابهم إلى منافقيهم «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» كيف تحدثونهم «بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» في كتابكم من وصف محمد وتخبرون أصحابه
54
بأنه حق «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ» بما تحدثونهم «عِنْدَ رَبِّكُمْ» في الآخرة كما يخاصمونكم به في الدنيا «أَفَلا تَعْقِلُونَ» (٧١) أن تصديقكم لهم يكون حجة عليكم فيحق عليكم القول باعترافكم، فيا سيد الرسل قل لهم «أَوَلا يَعْلَمُونَ» هؤلاء «أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» (٧٧) من أقوالهم وأفعالهم وأنه يخبر نبيه بها أفلا ينتهون عن مثل هذه الأعمال وهم يعلمون أن الله يفضحهم كما فضحهم في مواقع كثيرة. ثم طفق يعده مثالبهم فقال «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ» جمع أمنية أي تلاوة مجردة، وكلمة تمنى تأتي بمعنى تلا كما في قوله:
تمنى كتاب الله أول ليلة تمني داود الزبور على رسل
وهي في الأصل بمعنى الأكاذيب «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» (٧٨) لا يدرون ما هو الكتاب «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ» قال بأيديهم مع أن الكتابة لا تكون بغيرها تأكيدا لنفي احتمال أمرهم غيرهم بها ولعلمه أن ستكون الكتابة بالآلة، وهذا ما يؤيد ما ذكرناه في الآية ٤٨ من سورة العنكبوت في ج ٢، على أنه صلّى الله عليه وسلم لا يكتب «ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» بلا خجل ولا حياء افتراء على الله، وذلك أنهم حرفوا صفة الرسول فكتبوا أنه طوال أزرق العينين سبط الشعر، بدل ما هو مكتوب في الأصل بأنه ربعة أكحل العينين حسن الشعر حسن الوجه، وصاروا إذا سئلوا عن صفته تلوا على السائل ما كتبوه وكتموا ما هو الواقع عند الله ومثبت في التوراة، وذلك ليس إلا «لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا» من جهلتهم وسفلتهم «فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» (٧٩) من الجعل الذي يأخذونه من عوامهم على تبديلهم كلام الله وافترائهم عليهم «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» بقدر مدة عبادتهم العجل وهي عشرة أيام على ما قيل «قُلْ» لهم يا خاتم الرسل «أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً» على هذا وتمسكتم به «فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ» حتى قلتم هذا من حيث لم تأخذوا به عهدا من الله «أَمْ تَقُولُونَ» كذبا من عند أنفسكم «عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (٨٠) بهتا وافتراء عليه ورجما بالغيب
55
«بَلى» تمسكم النار حتما إن بقيتم على كفركم، لأن «مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» بأن مات مصرا عليها وهي لعظمها محيقة به من كل أطرافه «فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (٨١) لا يخرجون منها أبدا.
وأعلم أنه يوجد في القرآن ثماني آيات مبدوءة بلفظ بلى هذه والآية ١١١ الآتية والآيتين ٧٥/ ١٢٥ من آل عمران الآتية والآية ٨١ من سورة يس و ١٤ من سورة القيامة في ج ١ و ٥٩ من الزمر و ١٥ من الانشقاق ج ٢، أما الآيات المبدوءة بالباء فهي ٥٥ آية. «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (٨٢) قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» في التوراة «لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ» وحده «وَبِالْوالِدَيْنِ» أحسنوا «إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» أحسنوا إليهم لخلوهم عمن يقوم بمعاشهم ومصالحهم وأخر المساكين لأنهم دون اليتامى القاصرين عن درجة البلوغ لأنهم يقدرون على أن ينتفعوا بأنفسهم في الجملة ويقدرون على نفع غيرهم بالخدمة كما قدم ذا القربى لأنهم أقدم والشفقة عليهم أعظم أجرا منها على غيرهم «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» عاملوهم بالمعروف وعاشروهم باللطف وألينوا لهم القول واخفضوا لهم الجانب وأحسنوا أخلاقكم معهم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» وقد عدل في هذه الأوامر الثلاثة الأخيرة من الغيبة إلى الخطاب، وهي تتمة التكاليف الثمانية التي أمروا بها بالتوراة إيذانا بأمرهم بها، لأن الأول قوام الأخلاق، والأخير ملاك الدين وإعلاما بعدم قيامهم بها بدليل قوله «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ» عن القيام بهذه العهود وأعرضتم «إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ» أخذوا بها ولم يعرضوا عنها «وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ٨٣» حتى الآن أيها المخاطبون كإعراض الأكثر من آبائكم، وذكرنا في الآية ١٥١ من الأعراف والآية ١٥ من الإسراء في ج ١ ما يتعلق بآيات بني إسرائيل والوصايا التي أنزلت عليهم ليعلموا بها بصورة مفصلة في الآية ١٥١ من الأنعام في ج ٢ فراجعها، «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ» أيها الإسرائيليون «دِماءَكُمْ» بأن يقتل بعضكم بعضا «وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» أي لا يخرج أحدكم الآخر من داره وبلده «ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ» بهذا العهد وتعهدتم بإنقاذه
56
«وَأَنْتُمْ» أيها الحاضرون الآن «تَشْهَدُونَ ٨٤» على أحقية ذلك ووجوب الوفاء به كما شهد من قبلكم به لأنه مدون في كتابكم ولكنكم تفعلون بخلافه كالذين من قبلكم لقوله تعالى «ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ» المخاطبون «تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ» الآن كأن هذا العهد لم يؤخذ عليكم ولم تتعهدوا به وها انكم «تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» وتتعاونون على ظلمهم «وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ» بمالكم وتنقذونهم من أيدي أعدائهم «وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ» كما هو محرم عليكم قتلهم وعدم معاونتهم فهذه أربعة عهود نقضتموها باختياركم جرأة على الله وهي ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة ولك الأسرى وتمسكتم بغيرها «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ» فتوقنون ببعض ما عاهدتم الله عليه وهو فداء الأسرى «وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» وهو القتل والإخراج وعدم التعاون «فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ» أيها اليهود على هذه المخالفات «إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وهوان وذلة ومسكنة فيها «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ» الذي لا تطيقه الرواسي ولا مخلص لكم منه «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ٨٥» بل محصيه عليكم ومجازيكم به لا محالة «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم وتلك حالتهم هم «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ» بمقابل ثمن بخس فان «فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» يوم القيامة «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ٨٦» فيها. وسبب نزول هذه الآيات هو أن بني قريظة حلفاء الأوس وبني النضير حلفاء الخزرج كان بينهما عداوة قديمة وكانا يحاربان مع حلفائهم فإذا غلب أحد الفريقين خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، وكانوا إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا وفدوه به، فعيرتهم العرب كيف يقتلونهم ثم يفدونهم، فيقولون أمرنا الله بأن نفديهم، فقال لهم العرب كيف إذا تقاتلونهم، قالوا نستحي أن تذل حلفاؤنا، فعيرهم الله تعالى فيما أنزله على رسوله في هذه الآيات، وأخزى بني قريظة بالقتل والأسر والسبي، وبني النضير بالإجلاء عن منازلهم إلى أريحا وأذرعات من أرض الشام كما سيأتي تفصيله في سورة الحشر الآتية. قال تعالى
57
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا» اتبعنا «مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ» واحدا تلو الآخر، فبعد موسى يوشع، لأن هرون توفي قبله، ثم شمويل، فداود، فسليمان، فأرميا، فحزقيل، فالياس، فاليسع، فزكريا، فيحيى، وكل هؤلاء وما بينهم ممن لم يقص الله علينا أسماءهم وأقوامهم شريعتهم التوراة، ولما بعث عيسى بن مريم وأنزل الله عليه الإنجيل عدل بعض أحكامها وصار عمل عيسى ومن بعده بالتوراة والإنجيل معا، ولهذا قال تعالى «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» الموضحة
لأحكام التوراة والمعجزات الظاهرات التي لا تقبل التأويل كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام، وقد أمر أن يكون معه من حين ولادته إلى وقت رفعه، وهذا هو معنى التأييد، وما قاله بعض المفسرين إن المزاد به الإنجيل لأن فيه حياة الأرواح كالقرآن بعيد عن المراد، وإن كان الإنجيل كذلك، لمخالفته للظاهر الذي هو الحقيقة، فالعدول عنها إلى المجاز دون صارف لا وجه له، وقد صرح الله تعالى بإتيانه بالإنجيل بآيات كثيرة عدا هذه كما صرح بالتوراة لموسى ثمّ ذكر آياته كاليد والعصا وبعض معجزاته الأخرى، وروح القدس أطلق على سيدنا جبريل بمواقع متعددة حتى صار كأنه علما له، أما لفظ الروح فقط فيطلق على القرآن وعلى التوراة وعلى الإنجيل بذلك المعنى وعلى نوع خاص من الملائكة كما مر في الآية ٣٨ من سورة الأنبياء في ج ٢ «أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ» أيها اليهود «بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ» من الأمور «اسْتَكْبَرْتُمْ» عنه وخالفتموه تبعا لهواكم «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» مثل عيسى قبلا ومحمد الآن «وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (٨٧) كزكريا ويحيى ومن تقدمهما «وَقالُوا» هؤلاء اليهود «قُلُوبُنا غُلْفٌ» خلقة مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد فأكذبهم الله بقوله ليست كذلك «بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» طردهم وأقصاهم من رحمته بسبب كفرهم «فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» (٨٨) منهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم، والأكثر الذين يكفرون به «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» من التوراة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم «وَكانُوا مِنْ قَبْلُ» قبل نزوله وبعثة محمد «يَسْتَفْتِحُونَ»
58
يستنصرون به «عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» من مشركي العرب وغيرهم، إذ كانوا يقولون عند الشدة اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي وصفته لنا في التوراة فكان يستجاب لهم وينصرون على أعدائهم، وكانوا يقولون للمشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما نحن عليه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فأكذبهم الله تعالى إذ لم يوفوا بقولهم هذا لقوله تعالى «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا» وهو محمّد صلّى الله عليه وسلم «كَفَرُوا بِهِ» بغيا وحسدا لأنه ليس منهم «فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ ٨٩» بما في كتب الله الجاحدين لرسله «بِئْسَمَا» قبح شيء «اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» على رسوله من القرآن بأن استبدلوا الباطل بالحق «بَغْياً» وعدوانا وإنكارا من «أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» كمحمد مثلا حسدا وطلبا لما ليس لهم، ولأنه ليس منهم «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ» لأنهم ضيعوا التوراة إذ لم يأخذوا بما فيها، وكفروا بمحمد والقرآن أيضا، أي أنهم رجعوا بغضب كثير، لأن المراد به الترادف والتكاثر لا غضبان فقط، وعلى هذا قوله:
ولو كان رمحا واحدا لاتقيته ولكنه رمح وثان وثالث
أي رماح كثيرة «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» (٩٠) عند الله في الآخرة، وهذه الآية بلفظها هذا لم تكرر في القرآن.
قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» القرآن فما قبله «قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» أي التوراة فقط مع أنهم لم يؤمنوا بها لجحدهم ما جاء فيها من لزوم الإيمان بالرسول محمد «وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ» أي الكتاب العظيم الذي أنزل بعد كتابهم والرسول الكريم الذي أرسل بعد رسولهم أي الإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد «وَهُوَ الْحَقُّ»
لأن كلا جاء «مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» من الكتاب العظيم الصحيح «قُلْ» لهم يا سيد الرسل إذا كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم «فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ» قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم ونزول كتابه ومن قبل مولد عيسى ونزول كتابه إلينا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (٩١) بالتوراة، لأنها تمنع من معارضة الأنبياء ولو قولا، فضلا عن القتل، وتأمر باتباعهم ولم تتبعوهم.
59
هذا، وقد أضاف الله تعالى ما فعله آباؤهم إليهم لرضاهم به، والراضي بالشيء كفاعله، ولأنهم أنفسهم مصرون على ما فعله أسلافهم بيحيى وعيسى ومحبذون له. قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ» حينما ذهب لميقات ربه ليأتيكم بالتوراة «وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ» (٩٢) كرره تأكيدا لإيقاع الحجة عليهم وتبكيتا بهم وتقريعا «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» وقلنا لكم «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» كرره أيضا لتلك الغاية بزيادة قوله «وَاسْمَعُوا» سماع قبول وطاعة لما تؤمرون به. ونظير هاتين الآيتين الآيتان المارتين ٥١ و ٦٧. قال تعالى حاكيا عنادهم «قالُوا سَمِعْنا» قولك «وَعَصَيْنا» أمرك ولولا مخافة هبوط الجبل علينا لما سجدنا «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ» بأن تداخل حبه وتغلغل في قلوبهم فاندمج فيها، والأصل حب العجل وقد حذف إيجازا والحذف في مثله كثير في القرآن لأنه من أنواع البديع، وعبر بالشرب لأن من أراد حصر الحب أو البغض استعار له اسم الشراب لأنه أبلغ مساغا في البدن، ولهذا قال الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية.
وكان شدة حبهم العجل «بِكُفْرِهِمْ» بسببه حرصا على عبادته «قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ» الذي تزعمونه إشارة إلى قولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) والمخصوص بالذم ما تقدم من قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) وعبادة العجل، وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم، وفي إضافة الإيمان إليهم إيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة ينبيء عنه قوله جل قوله «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (٩٣) لأن حرف (إِنْ) يؤذن بالشك ويدل على عدم الوقوع غالبا وهو تكذيب لهم من الله بدعواهم الإيمان، أي لو كنتم مؤمنين ما فعلتم «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ» كما تزعمون وهذا إشارة لقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) في الآية ١١١ الآتية، ولقولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الآية ٢١ من المائدة الآتية بما يدل على أنهما نزلنا قبل هذه الآيات، أي إذا كنتم كما تزعمون من خلوص الدار الباقية لكم «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (٩٤) لأن من علم أن الجنة مأواه أحب الإسراع إليها تخلصا
60
من هذه الدار الكدرة النكدة الفانية وتوصلا إلى السعادة الأبدية الهنية، قال تعالى «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً» لعلمهم كذب ادعائهم بذلك «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من القبائح، وخص اليد دون بقية الجوارح لأن مبدأ أكبر جنايات الإنسان من يده «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (٩٥) حال إيقاعهم الظلم وقبله، وصفهم بالظلم لأنه أعم من الكفر فكل كافر ظالم ولا عكس.
مطلب حرص اليهود على الدنيا وعداوتهم لجبريل عليه السلام وابن حوريا وعمر بن الخطاب وقوة إيمانه:
«وَلَتَجِدَنَّهُمْ» يا سيد الرسل «أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» أي لا أحرص منهم عليها «وَ» حتى أنهم أحرص «مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» على الحياة مع أنهم لا كتاب لهم يعلمون منه أن هناك دارا أخرى ينعم بها المؤمن ويعذب فيها الكافر فلا لوم عليهم إذا حرصوا على البقاء في الدنيا، وفي هذه الآية زيادة توبيخ لليهود لأنهم يقرون بالمعاد ويتأهبون له، ويحرصون على الدنيا أكثر من المشركين الذين لا يعترفون به. ثم بين شدة حرصهم بقوله جل قوله «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» يا حسرهم وأسفهم لأنه لا ينفعهم تعميرهم مهما كان «وَما هُوَ» تعميرهم تلك المدة لو كان واقعا فإنه ليس «بِمُزَحْزِحِهِ» ومباعده أو محركه «مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» تلك المدة أو أكثر منها، لأن مرجعه الآخرة ليبصر نتيجة أعماله «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» (٩٦) في دنياهم لا يخفى عليه شيء منه ومجازيهم عليها في الآخرة، ولما قال عبد الله بن صوريا أحد أحبار اليهود إلى محمد صلّى الله عليه وسلم أي ملك يأتيك من السماء؟ قال جبريل، قال هو عدونا فلو جاءك ميكائيل لآمنا بك، جبريل ينزل بالعذاب، ولأن الله تعالى أخبر نبينا أن بختنصر يخرب بيت المقدس ويهلكنا قتلا وتدميرا، وقد بعثنا رجلا ليقتله ببابل فدافع عنه جبريل قائلا له إن كان الله أمره بهلاككم فلن تسلطوا عليه، وإن لم يكن هو فعلى أي شيء تقتله، وكان بختنصر وهو الذي دافع عنه حتى بقي حيا وفعل ما فعل فينا، فأنزل الله تعالى «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ» بسبب إتيانه بالقرآن لك وإنزاله من لدنا عليك يا سيد الرسل «فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ»
61
أي القرآن كناية عن مذكور وإضمار ما لم يسبق ذكره يكون للتفخيم إذ يجعله لفرط شهرته دالا على نفسه. راجع الآية الأولى من سورة القدر والآية ٣٣ من سورة ص في ج ١، وهذا شائع في كل مشهور متعارف، أي ان الذي يكره جبريل من أجل إنزال القرآن «عَلى قَلْبِكَ» يا سيد الرسل «بِإِذْنِ اللَّهِ» الذي أمره بذلك ولم يفعله من تلقاء نفسه، وكان ذلك القرآن «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية «وَهُدىً وَبُشْرى» من الله «لِلْمُؤْمِنِينَ» (٩٧) بحسن العاقبة، قل لهم يا سيد الرسل «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ» كان عدوا لله، ومن كان عدوا لله فهو كافر، ولهذا قال تعالى «فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ» (٩٨) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع قول عدو الله بن صوريا من كان عدوا لأحدهما أي جبريل وميكايل فهو عدو للآخر، ومن كان عدوا لهما كان عدوا لله، فلما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلم لعمر قد وافقك ربك يا عمر، فقال والله لقد رأيتني في ديني بعد ذلك أصلب من الحجر. أي أنه لم يغتر بذلك كما وقع لعبد الله بن أبي سرح المار ذكره في الآية ١٤ من المؤمنين ج ٢، وذلك أن القرآن العظيم كما ذكرنا في الآية ٤٤ من سورة فصلت المارة في ج ٢ نور لأناس ضلال لآخرين بآن واحد، لأن سيدنا عمر زادته إيمانا موافقته لربه في هذه الآية، وعبد الله بن أبي سرح لما رأى ما خطر بباله من إكمال الآية المذكورة وهي جملة (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ونزلت الآية بها ارتد والعياذ بالله وقال ما قال فأنزل الله فيه (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) الآية ١٩٣ من الأنعام في ج ٢ فراجعها، ولما قال عدو الله المذكور ما جئتنا بشيء يا محمد ولم ينزل الله عليك آية أنزل الله تعالى «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ» لا تحتاج إلى نظر أو تدبر «وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ» (٩٩) الخارجون عن الطاعة، لأن آيات القرآن واضحة كافية لمن يريد الإيمان بها والاعتراف بمنزلها والتصديق لمن أنزلت عليه، ومن لم يرد لو ملأت له الدنيا آيات ينتفع بها أبدا. ولما قال مالك بن الصيف والله ما عهد الله إلينا في محمد عهدا أي في لزوم الإيمان به أنزل الله تعالى «أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً
62
نَبَذَهُ»
أي طرحه وقذفه «فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (١٠٠) أن نقض الميثاق وجحود الحق ذنب يؤاخذ عليه وإلا لما فعلوه ولاعترفوا بعهد الله الذي أخذه عليهم بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم
«وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» هو محمد صلّى الله عليه وسلم بدليل قوله «مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» من التوراة «نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» التوراة «كِتابَ اللَّهِ» الذي أنزل عليه وهو القرآن بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول. وقال بعض المفسرين إن المراد بكتاب الله في هذه الآية هو الإنجيل، لأنه نزل بعد التوراة وليس بشيء، لعدم سبق ذكره، لأن المكالمة هذه كلها مع اليهود. وقال أكثرهم إن المراد به التوراة، لأن المعرفة إذا أعيدت كانت عين الأولى، ولأن النبذ لا يكون إلا بعد التمسك، والأول الذي جرينا عليه الأولى، لأن الكلام مع حضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم لا مع عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام، والمعنى أن الرسول محمد يصدق ما بأيديهم من التوراة وهم بالعكس يكذبون ما جاءهم به من القرآن، ويتركونه ولا يؤمنون به مع أنه مصدق لكتابهم، فكأنهم نبذوه «وَراءَ ظُهُورِهِمْ» لعدم التقيد به والنظر إليه «كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (١٠١) شيئا مما جاء فيه حسدا وعداوة بمحمد، مع أنهم مأمورون باتباعه في كتابهم. قال تعالى «وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ» من السحر والشعوذة «عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ» في زمانه وعهده، وذلك أنه فشى في بني إسرائيل أن الشياطين يعلمون الغيب، فلما بعث سليمان عليه السلام جمع ما دونته الكهنة من أخبار الشياطين ودفنه تحت كرسيه، وقال لا أسمع بعد الآن أحدا يقول إن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فانتهوا، فلما مات سليمان تمثل الشيطان بصورة إنسان. وقال لبني إسرائيل هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا، قالوا نعم، قال احفروا تحت هذا الكرسي وأراهم مكانه وتباعد، فقالوا له أدن قال لا، وإنما قال لا لأن الشيطان إذا دنا من كرسيه احترق بأمر الله، وقال لهم إذا لم تجدوا ما ذكرته لكم فاقتلوني، فحفروا فرأوا تلك الكتب فأخرجوها، فقال لهم إن سليمان كان يحكم الجنّ والإنس والطير بهذه الكتب، فدونكم إياها واحرصوا عليها فهي الكنز الذي لا ينفد، ثم غاب عنهم، وفشا
63
في الناس أن سليمان كان ساحرا، ولذلك فإن أكثر السحر يوجد عند اليهود، فأنزل الله تعالى براءته بقوله عز قوله «وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا» لأنهم «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» ويأمرونهم به، ولم يكن سليمان ساحرا وإنما كان نبيا، وصاروا يدونون السحر ويعلمونه للناس لإغوائهم «وَ» يعلمون الناس أيضا «ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ» بلدة قديمة بأرض الكوفة من العراق، سميت بذلك على ما قيل، لأن تبلبل الألسن وقع فيها، ويفهم من قوله تعالى (وَما كَفَرَ) أن تعلم السحر كفر، وقدمنا ما يتعلق به في الآية ٥٢ من سورة الشعراء المارة في ج ١، وهذا ما يدل على وجود الشياطين واختلاطهم مع البشر وأنهم كانوا قبل خلق آدم يسكنون الأرض بصورة ظاهرة كما بيناه في الآية ٣٠ المارة وما ترشدك إليه من المواقع.
مطلب في السحرة وهاروت وماروت والحكم الشرعي في السحر والساحر وتعلمه وتعليمه والعمل به:
هذا وسبب إنزال الملكين على ما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره أن الحكمة من ذلك هو أن السحرة كانوا يسترقون السمع من الشياطين ويلقون ما يسمعون بين الخلق، فيشتبه بالوحي النازل على الأنبياء، فأنزلهما الله تعالى إلى الأرض ليعلما الناس السحر فيظهر بذلك الفرق بين كلام الله تعالى وكلام السحرة.
وقال ابن جرير الطبري إن الله عرّف عباده جميع ما أمرهم ونهاهم ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم بما أمروا به ونهوا عنه، ولو كان الأمر على غير ذلك لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم، والسحر مما نهى عباده عنه من بني آدم، فغير منكر أن يكون الله تعالى علّمه الملكين اللذين سماهما «هارُوتَ وَمارُوتَ» اسمين أعجميين سريانيين وجعلهما فتنة لعباده كما أخبر عنهما بقوله «وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ» ابتلاء ومحنة «فَلا تَكْفُرْ» أي لا تتعلم السحر فتكفر إذا عملت به عملا يخالف شريعتك التي أمرك الله بها على لسان رسله باتباعها، حذار حذار أيها الإنسان، ومقاربة ما يؤدي إلى الكفر، وإنما يقولان ذلك ليختبر الله عباده الذين نهاهم عن السحر وعن التفريق الملمع به إليهما بقوله جل قوله
64
«فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ» فيمتحض المؤمن بتركه ويجترىء الكافر على تعلمه والعمل به، وعلى هذا فيكون الملكان في هذا التعليم مطيعين لله تعالى إذ كان بإذنه، ولا يضرهما سحر من سحر بعد نهيهما إياه عنه، لأنهما أديا ما أمرا به، ومما يدل على أن السحر لا تأثير له بنفسه، قوله تعالى «وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وهذا نص قاطع في عدم تأثيره، فلا عبرة بقول من يقول إن له تأثيرا ويخشى عليه الكفر إلا إذا تأول، وإلا فهو كافر بلا خلاف لمخالفته كلام الله تعالى «وَيَتَعَلَّمُونَ» هؤلاء السحرة «ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا» أولئك اليهود، لأن الكلام مرتبط بقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) الآية ٢٤ المارة. وقصة السحر مستطردة حتى لو حذفتها على سبيل الفرض إذ لا يجوز حذف حرف واحد من القرآن على القطع ويكفر فاعله، فوصلت ما بعدها بما قبلها لا ستقام المعنى مع استقامته معها، وهذا شأن جميع الآيات المعترضات في القرآن العظيم وهو من خصوصيات بلاغته، وقوة سبكه، وحسن نظمه، ومتانة معناه، وفصاحة مبناه، ومن جملة إعجازه، جل منزله والخيبة «لَمَنِ اشْتَراهُ» استبدل ما تتلوا الشياطين بما في كتاب الله تعالى واختاره عليه، ومن كان هذا شأنه «ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» حظ ولا نصيب فيها «وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ» أي الذين باعوها به «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ١٠٢» أن السحر والكفر سبب حرمانهم من الجنة «وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا» بمحمد وما جاءهم به «وَاتَّقَوْا» الكفر والسحر «لَمَثُوبَةٌ» لهم «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ» لهم مما يتقاضونه من الثمن البخس بغضب الله «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ١٠٣» أن ثواب الله تعالى خير لهم من ذلك، وإن النجاة باتباع الدين الحق ليس بالشعوذة. هذا، واعلم أن السحر له وجود وحقيقة، والعمل به كفر إذا اعتقد بتأثيره بنفسه، أما إذا اعتقد أن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى، فلا، وهو قد يؤثر بتأثير الله تعالى في الأبدان بالأمراض والجنون، وربما أدى إلى الموت، لأن للكلام تأثيرا في الطباع، فقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمّ له، وقد مات رجال من كلام سمعوه بتقدير الله تعالى
65
موتهم عليه، منهم عبد الواحد بن زيد وغيره كثيرون، راجع كتاب الخوف ص ١٢٣ فما بعدها من الجزء الرابع من كتاب إحياء العلوم للغزالي رحمه الله، وقال الأحنف بن قيس والله إني لأسمع الكلام أحمّ له ثلاثة أيام. الحكم الشرعي:
السحر من الكبائر التي نهى الله عنها، وتعلمه للعمل به حرام، وقد عده رسول الله صلّى الله عليه وسلم من السبع الموبقات في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة وأخرجه الشيخان في الصحيحين، وقد أمرتا باجتنابه، ولا يسعنا إلا الامتثال، وهو من حيث تعلمه على قسمين الأول يكفر صاحبه إذا اعتقد أن القدرة الحاصلة من التأثير نفسه حينما يفعله وهو المؤثر فيه كما إذا اعتقد المنجم أن الكواكب هي المؤثرة للفعالة فيما يقع من العوارض الكونية، وفي هذه الحالة يجب قتله شرعا بدليل ما رواه جندب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: حد الساحر (أي الذي هذه صفته) ضربه بالسيف- أخرجه الترمذي-. والثاني التخييل والتمويه بما يشاكل النيرجيّات والشعبذة التي لا يعتقد صاحبها قدرة لنفسه فيها، كمثل من يعتقد تأثير الكواكب بقدرة الله تعالى، ففي هذه الحالة تكون معصيته من الكبائر التي يحرم فعلها ولا تستوجب القتل كفرا. هذا، وما ذكروا من قصة هاروت وماروت من أن الملائكة قالت يا ربنا إن الذين اخترتهم لعمارة أرضك يعصونك، وإن الله قال لهم لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم مثلهم، وإنهم قالوا سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك، وانهم اختاروا من خيارهم عزا وعزاليا أي هاروت وماروت، فأهبطهما الله إلى الأرض وأمرهما أن يحكما فيها بالعدل، وبقيا شهرا على استقامتهما حتى اختصم إليهما امرأة تسمى الزهراء، وهنا حذف تاء التأنيث من فعل اختصم لوقوع الفعل بين الفعل والفاعل كقولهم جاء القاضي بنت الواقف، وهكذا كلما فعل بين الفعل الذي فاعله مؤنث وبعضهم أجازه مطلقا سواء كان الفاعل مؤنثا أم لا، واستدل بقول لبيد:
66
تمنّ ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فإن يأت يوم يموت أبوكما فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا حليفه أضاع ولا خان الصديق ولا غدر
إلى الحول ثمّ امم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
لكن ما جاء في الشعر لا يصلح غالبا للاستدلال، إذ يجوز فيه ما لا يجوز في النثر.
قالوا وكانت من أجمل الناس، فراوداها عن نفسها فأبت، إلا أن يقضيا لها على خصمها ففعلا، وبعد أن قضيا لها قالت لهما إلا أن تشربا الخمر، فأجاباها وشربا، فقالت لهما إلا أن تسجدا للصنم وتقتلا الرجل الذي قضيتما لي عليه، ففعلا ذلك أيضا، ثم قالت لهما إلا أن تعلماني الاسم الأعظم الذي به ترتفعان إلى السماء، فعلماها إياه فمكتبهما من نفسها، ثم طارت إلى السماء فمسخها الله كوكبا، فلما أفاقا من سكرهما، وأرادا الصعود إلى السماء كعادتهما فلم يقدرا وعلما ما حل بهما من غضب الله تعالى، فذهبا إلى إدريس عليه السلام إذ كانت هذه الحادثة المزعومة في زمنه عليه السلام ليستشفعاه بأمرهما، ففعل، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا لعلمها أنه فان كالدنيا، فخسف بهما، فهما يعذبان حتى الآن، قالوا وإن رجلا قصدهما ليتعلم منهما السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما، فقال لا إله إلا الله، فقالا مثله وسألاه، فقال أنا رجل من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، قال ففرحا بقرب خلاص عذابهما، لأنهما يعلمان أنه نبي آخر الزمان. فقصة باطلة لا أصل لها، وذلك لأن قولهم سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك ردّ على الله تعالى الذي قال لهم لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم لعصيتموني، وهذا كفر لم اثبت لأنهم معصومون قبل ذلك، فلا يجوز التصديق بوقوع هذا منهم، وقد اجمع المسلمون على أن الملائكة معصومون فضلاء، واتفقت ائمة المسلمين على أن حكم الرسول من الملائكة حكم الأنبياء في البلاغ عن الله تعالى والعصمة من الذنوب، ولأن الله تعالى لا يخير المشرك فكيف يخيرهما بين عذاب الدنيا والآخرة، وما خلق عذاب الآخرة إلا للمشركين والعاصين، وعلى القول بتوبتهما فإن صح فلا عقوبة عليهما، لأن باب التوبة مفتوح ولم يكونا بحالة يأس أو بأس، أما المرأة فلا يعقل أن تصعد إلى السماء بعد أن فجرت، وكيف بصيرها الله كوكبا وقد عظم الله الكواكب وأقسم بها، تدبر هذا تعلم أنها قصة لا حقيقة لها، كما أن من قال إن الملكين هما رجلان صالحان وقرأ بكسر اللام فهي قراءة لا صحة لها ولا توجد
67
في السبعة، وان الذي أنزل على الملكين قد لا يكون سحرا، إذ لم يذكر في الآية حقيقة ما أنزل عليهما، وقد يكون والله أعلم شيء من الرقى والأدعية والتعاويذ التي يجوز تعليمها وتعلمها، والتي هي أشبه بالسحر لدى الناس، ولهذا فإن الملكين قالا ما يبرىء ساحتهما من السحر بلفظ فلا تكفر أيها الإنسان أي فتعلم الناس السحر بدل الرقيا، فإن تعليمه حرام قد بوصل إلى الكفر. وما ذكرناه موافق لظاهر القرآن وكل ما جاء على خلافه مما ذكره الغير قول لا يعضده شيء من السنة فلا يركن إليه من له إلمام بفقه معاني التنزيل، والله أعلم. وقدمنا ما يتعلق بالسحر والشعوذة آخر سورة الناس والآية ٤٢ من سورة النجم والآية ٤٥ من سورة الشعراء في ج ١، فراجعها ففيها ما يغنيك عن مراجعة غيرها.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا» وسبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول الله، أي راقبنا وانظرنا حتى نحفظ عنك ونفهم قولك، ولا يعلمون أن هذه اللفظة بلغة اليهود بالسريانية كلمة سب بمعنى أحمق، فقالت اليهود كنا نسبّه سرا فالآن نسبه علانية، وصاروا يأتون رسول الله ويقولون راعنا يا محمد، وقد تفطن لها سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فقال لئن سمعتها من أحد لأضربن عنقه، فقالت اليهود ألستم تقولونها؟
فقال إنا نريد بها أمهلنا لا تعجل علينا، وأنتم تريدون غير ذلك قاتلكم الله ما ألعنكم وأخبثكم، فنهاهم الله تعالى عن قولها صيانة لكرامة حبيبه من الخبثاء «وَاسْمَعُوا» أيها الناس نهي الله تعالى عن هذه الكلمة لا تقولوها أبدا «وَلِلْكافِرِينَ» الذين يقولونها قصدا ولا يمتثلون نهي الله «عَذابٌ أَلِيمٌ ١٠٤» في الآخرة وخزي عظيم في الدنيا، قال تعالى «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» الذين لم يتقيدوا بكتابهم وكذبوا الرسل «وَلَا الْمُشْرِكِينَ» من عبدة الأوثان «أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» أيها المؤمنون لأنهم كرهوا نزول الوحي على الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم حسدا وبغيا، وذلك أن اليهود قالوا لحلفائهم المؤمنين حين كلفوهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن فيه، ولوددنا لو كان خيرا لاتبعناه، فأكذبهم الله تعالى في هذه الآية كما أكذب المشركين
68
في الآية ١٢٥ من سورة الأنعام المارة في ج ٢، وقطع قلوبهم بقوله عز قوله «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده، وهذه الجملة رد لقولهم إن النبوة فيهم وليست في العرب، وإن محمدا من العرب ليس منهم، أي لا تحديد لإرادة الله فإنه يختص نبوته من يريد تفضلا منه عليه «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ١٠٥» ولهذا اختص بها محمدا صلّى الله عليه وسلم.
مطلب في النسخ وأسبابه وأنه لا يكون إلا بمثله أو خير منه:
قال تعالى «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها» نفعا وأسهل عملا وأيسر فعلا وأكثر أجرا وأعظم ثوابا، لا أن آية خير من آية، لأن كلام الله كله خير وكلمه واحد، راجع الآية ١٠١ من سورة النحل في ج ٢، وقال بعض المفسرين نذهب بحفظها من القلوب ومحوها من الكتب، فلم نبق لها أثرا، وقرىء ننسئها أي نؤخرها لوقت آخر «أَوْ» ننزل «مِثْلِها» في النفع واليسر والسهولة والثواب والأجر كالصرف عن استقبال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في الصلاة، لأن المصلي عليه أن يتوجه حيث أمره الله تعالى، فلا فرق عنده بين البيت المقدس والبيت الحرام «أَلَمْ تَعْلَمْ» يا سيد الرسل «أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ١٠٦» من نسخ وتبديل وتغيير «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يتصرف فيه كيف يشاء ويريد «وَما لَكُمْ» أيها الناس «مِنْ دُونِ اللَّهِ» إذا أنزل عليكم عذابه بسبب مخالفتكم «مِنْ وَلِيٍّ» يتولى أموركم أو يتولى عليكم فيحفظكم من عذابه «وَلا نَصِيرٍ ١٠٧» يمنعكم من حلوله بكم، أو يشفع لكم عنده. وسبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ويأمرهم بغيره، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فما هذا إلا من تلقاء نفسه، فلو كان من عند الله كما يقول لما فعل ذلك. وقيل إن اليهود هم القائلون لهذا القول لا المشركون، لأن حضرة الرسول في بداية أمره كان يتعبد على ما ألهمه الله من شريعة جده إبراهيم عليه السلام والأنبياء بعده، فكلما نزل عليه مما هو معدل لشريعة من قبله يفعله ويترك ما كان يفعله قبلا، ويأمر أصحابه بفعله ويخبرهم بأمر
69
الله به، لأن شريعته جاءت خاتمة للشرائع كلها ناسخة لما قبلها، فبين الله تعالى في هذه الآية حكمة النسخ، وأنه من عنده لا من عند محمد قطعا كما تكلم به اليهود أو المشركون. ونزولها في اليهود أولى، لأن هذه الآية مدنية، والغالب على سكانها اليهود، وهم الذين يجادلون حضرة الرسول بما نزل إليه من ربه مخالف لكتابهم، وإن ما نزل في المشركين هو آية الأنعام المذكورة آنفا رد لقولهم «لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ». واعلم أن النسخ في اللغة النقل والتحويل، ومنه نسخ الكتاب بأن ينقل من كتاب لآخر، وهذا لا يقضي بإزالة الصورة الأولى بل بإثبات مثله في كتاب آخر، فعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا، لأنه نسخ من اللوح المحفوظ وأنزل إلى سماء الدنيا جملة واحدة، وهذا ليس مرادا هنا. وقد يكون النسخ بمعنى الرفع والإزالة، وهو إزالة شيء بشيء يعقبه، كنسخ الشمس للظل، والشبب للشباب، وعلى هذا يكون بعض القرآن منسوخا وبعضه ناسخا، أي إزالة حكم بحكم آخر. وفي اصطلاح العلماء رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه، ومنه يعلم أنه كما أن شريعة موسى عليه السلام نسخت الشرائع المتقدمة عليها كأنه قامت مقامها، وكما أن إنجيل عيسى عليه السلام عدل شيئا من أحكام التوراة بدليل قوله تعالى في الآية ٥٠ من آل عمران الآتية «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» فكان القسم المعدل بفتح الدال من التوراة منسوخا بالمعدّل بكسر الدال من الإنجيل، أما الزبور المنزل بينهما إذ لا يوجد فيه أحكام ولا حدود فلم يتعرض له، لأن مصلحة البشر المحتاجة للتعديل بحسب الزمان، والحاجة تتعلق بالأحكام والحدود فقط، أما الأدعية والاستغاثات الواردة في الزبور وغيره من الكتب والصحف القديمة فلا علاقة لها في هذا البحث. فكذلك القرآن العظيم عدل جميع الشرائع المتقدمة عليه فكل حكم مناف لما فيه فهو منسوخ به، وما لا فهو باق على حكمه لموافقته أحكام القرآن، والسبب في ذلك أنه هو الكتاب الإلهي الأخير الذي جاء صالحا لأمور الدنيا والدين إلى آخر الزمان، ولأن مشروعية النسخ إنما تكون للحاجة والمصلحة، فقد كان في عهد آدم عليه السلام مساغ لأن يتزوج الأخ أخته لاقتضاء
70
المصلحة وكثرة التناسل وحاجة الزوج للزوجة وبالعكس، فلما تكاثر النسل وصاروا في غنى عن ذلك حرمت الأخت، وأبيحت ابنة العم والخال وما بعدها، وكان في عهد نوح عليه السلام مساغ لأكل جميع الحيوانات، ثم اقتضت المصلحة بتحريم بعضها لما فيه من الضرر لوجود الإنسان، وبعضها لما فيه الحاجة للإنسان، وفي
الأيام أيضا فقد حرم السبت على بني إسرائيل إلى زمن عيسى، فأبيح وحرم الأحد إلى مبعث محمد فأبيح وخصّت الجمعة بالتفضيل على غيرها، ولم يحرم العمل فيها إلا وقت الصلاة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ١٠ من سورة الجمعة الآتية.
وفي الجماد أيضا فقد كان البيت المقدس قبلة لمن قبلنا فأبدل بالكعبة، والنسخ في الأيام والجماد لحكمة لا نعلمها، لأن الظاهر أنه لا لحاجة البشر ولا لمصلحتهم وليس علينا أن نعرف العلة لكل ما حرم الله وحلل أو نهى وأمر، بل علينا الامتثال والقبول، لأن أفعال الله هو سبحانه أعلم بعللها، كما أنه لا يسأل عما يفعل، وعليه فإن النسخ فيما ذكرنا جائز عقلا وشرعا لا ينكره عاقل، وان القرآن العظيم ناسخ لجميع ما يخالفه من الكتب والصحف السماوية المتقدمة عليه بلا خلاف، وبعض آيه ناسخ لبعض عند كثير من المفسرين، والأقل قالوا بعدم النسخ وهو الأصح على المعنى المراد به إزالة الحكم من جميع جهاته، أما من بعضها فلا ينكر، لأنه عبارة عن تخصيص العام وقيد المطلق، وقد جرينا على ما جرى عليه القليل، والقليلون هم الممدحون في كتاب الله وكلام رسوله، ونسأل الله أن يجعلنا منهم.
وقد أجمعت العلماء على أن ثلاثا وأربعين سورة من القرآن لم يدخلها ناسخ، ولم يكن فيها منسوخ وهي: الفاتحة ويوسف والحجرات والرحمن والحديد والصف والجمعة والتحريم والملك والحاقة ونوح والجن والمرسلات والنبأ والنازعات والانفطار والمطففين والانشقاق والبروج والفجر والبلد والشمس والليل والضحى والانشراح والتين والقلم والقدر والبينة والزلزلة والعاديات والقارعة والتكاثر والهمزة وقريش والماعون والكوثر والنصر والمسد والمعوذات الثلاث. ويوجد فيه ست سور فيها ناسخ ولا منسوخ فيها وهي: الفتح والحشر والمنافقين والتغابن والطلاق والأعلى.
وأربعون سورة فيها منسوخ ولا ناسخ فيها وهي: الأنعام والأعراف ويونس وهود
71
والرعد والحجر والنحل والإسراء والكهف وطه والمؤمنون والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والمضاجع والملائكة والصافات وص والزمر وفصلت والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف ومحمد وق والنجم والقمر والامتحان والمعارج والقيامة والإنسان وعبس والطلاق والغاشية والتين والكافرون. وما بقي وهو سبع وعشرون سورة فيها ناسخ ومنسوخ، وقد أشرنا إلى كل في محله فيما سبق، وسنبينه كذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى، وما ذكرنا في المقدمة في باب الناسخ لتفنيد القول بأن السنة لا تنسخ القرآن، كان استنباطا من هذه الآية وأقوال جهابذة العلماء، لأن السنة مهما كانت متواترة وصحيحة فلا تكون خيرا من القرآن ولا مثله أيضا من كل وجه، والله تعالى يقول «بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» وحديث لا وصية لوارث المتمسكين به قوال النسخ ليس ناسخا لآية لوصية الواردة في الآية ١٨١ من هذه السورة، بل هي على قول القائلين بالنسخ منسوخة بآية المواريث ١١/ ١٢ من سورة النساء الآتية، لأن كون الميراث حقا يمنع من صرفه إلى الوصية وهي مانعة من الوصية لذكر أصحاب الاستحقاق فيها، أما على القول بعدم النسخ فسنأتي على ذكره عند تفسير الآيتين المذكورتين وسنتعرض لبحث النسخ عند كل آية قيل إنها منسوخة كما فعلنا في القسم المكي، وتبين أن النسخ على رأي القائلين به عبارة عن رفع حكم بعض الآيات بآية تأتي بعدها تخصص عمومها أو تقيد إطلاقها مثل آية عدة الوفاة بالحول التي نزلت بعدها الآية بأربعة أشهر وعشرة أيام، كما ستقف عليه، وكالآيات الست لمتقابلات التي ذكرناها في المقدمة في بحث النسخ، لأن في الثلاث الأول نوع تشديد ومشقة كقيام الليل كله، ومقابلة الواحد بالعشرة في الجهاد، وتقديم الصدقة عند مخاطبة الرسول، وفي الثلاث الأخر نوع تخفيف ويسر كقيام بعض الليل ومقابلة الاثنين بالواحد، وعدم تقديم الصدقة وفي بعض الآيات كثرة الثواب عن بعض، كصيام رمضان عن الأيام المعلومات والمعدودات لأنه أكمل، وهكذا، فيثبت لك من هذا أن القرآن لا منسوخ فيه البتة، وان جميع ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم ثابت فيه لم يغير ولم يبدل ولم يترك منه شيء كما أوضحناه في المقدمة، وأن الحديث الذي رواه البغوي بغير سند عن أبي أمامه
72
بأن قوما أرادوا أن يقرأوا سورة من القرآن فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وأن الرسول قال لهم رفعت تلاوتها وحكمها، فهو حديث غير صحيح، وهو ورواته من الضعف بمكان لا يصح الركون إليه، لأن القوم مجهولون والحديث بلا سند، ومثل هذا لا يرد على تعهد الله تعالى في حفظ القرآن الذي ألمعنا إليه في الآية ١٠ من سورة الحجر والآية ٤٢ من سورة فصلت المارتين في ج ٢.
ثم وصى الله تعالى المؤمنين بالثقة برسولهم وترك اقتراح الآيات ورد طعن المشركين واليهود بالنسخ، إذ جرّد الخطاب عنه وخصه بهم، فكأنه قال إياكم أن تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات واقتراح غيرها فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان بقوله جل قوله «أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ» إذ سأله جماعة من أمته بعد أن أسمعهم كلام الله أن يريهم إيّاه عيانا، كما مر في الآية ٥٦، فأهلكهم الله، أي من شأن العاقل أن لا يتصور ذلك وفي هذه الوصية كمال المبالغة والبلاغة، حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها، ولا يتوقف مضمون هذه الآية على تقدم سؤال أو سابقية وقوع حال، لأنها عبارة عن توصية، والتوصية لا تقتضي شيئا من ذلك، كيف وهو كفر كما أشار إليه الإله عزت إشارته بقوله «وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ١٠٨» وهو مما لا يكاد يقع من المؤمن.
مطلب الاختلاف في سبب نزول الآية ١٠٨ وتفنيد الأقوال فيها ومجهولية الفاعل:
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية مع أن مثلها لا يحتاج إلى سبب كما ذكرنا، وهكذا الحال في الوصايا فقال بعضهم إن المسلمين اقترحوا على رسول الله في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات النواط كما كان للمشركين، فقال صلّى الله عليه وسلم سبحان الله هذا كما قال قوم موسى لموسى «اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم فلا أدري أتعبدون العجل أم لا. وإضافة الرسول إليهم إضافة إلى ما في نفس الأمر، وهذا بعيد، لأن غزوة خيبر وقعت في السنة السابعة من الهجرة وسورة البقرة هذه من أول ما نزل بالمدينة. وقال بعضهم إن اليهود
73
قالوا يا محمد سل ربك أن ينزل عليك كتابا من السماء جملة واحدة كما أنزل التوراة على موسى، واختار هذا القول الفخر الرازي، وقال إنه الأصح، لأن المخاطب به في هذه السورة هم اليهود، والإضافة إلى ما في نفس الأمر دون الإقرار، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون مستبدلا به الكفر بالإيمان، وهو وجيه، لأن النبي أول وصوله المدينة أراد منهم الإيمان به، فجدير أن يطلبوا منه آية، إلا أنه سبق قبلها الخطاب للمؤمنين إذ صدر الآية المارة بقوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا» إلخ ولم يأت بعدها ذكر لليهود، وقال بعضهم وهو قول ابن عباس إن أهل مكة سألوا محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن بوسع عليهم أرض مكة ويفجر فيها الأنهار فنزلت، وهذا قد فات محله في سورة الفرقان في الآيتين ٦٠ فما بعدها من سورة الإسراء في ج ١، لأن الحادثة مكية، وقد نزلت فيها الآيات بمكة، وهذه السورة مدنية، فلا يتجه شيء من هذه الأسباب لنزول هذه الآية، وقد ذكرنا في بحث النزول في المقدمة أن من القرآن ما ينزل بسبب ومنه ما ينزل بلا سبب، ولعل هذه الآية من القسم الثاني وهو الأوجه والله أعلم. على أن كلا من هذه الحالات الثلاث قد تكون الآية جوابا للسؤال عنها، لكن لا أنها سبب لنزولها، تدبر. ولم يقل جل قوله كما سأل أمة موسى إشارة إلى أن من سأل عن ذلك يصان اللسان عن ذكره وهذا أحد أسباب مجهولية الفاعل السبعة وهي الجهالة والخوف منه وعليه وتعظيمه وتحقيره والعلم به وصون اللسان عن ذكره. هذا، واعلم- والله أعلم- أن القصد من ذكر هذه الآية بعد آية النسخ تثبيت المسلمين على الأخذ بآيات الله وتنبيههم بعدم الإقدام على أسئلة كأسئلة اليهود وتحذيرهم منها وتوصيتهم بالثقة بها. قال تعالى «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ» أيها المؤمنون «كُفَّاراً» لتكونوا مثلهم «حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» لا لأمر آخر وذلك «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» في التوراة والآيات المنزلة على نبيكم الموافقة لها المؤيدة لحكمها «فَاعْفُوا» عنهم لا تجادلوهم «وَاصْفَحُوا» عن إساءتهم لا تخاصموهم واصبروا عليهم «حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» في جواز قتالهم «إِنَّ اللَّهَ عَلى
74
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ١٠٩»
لا يعجزه شيء، وفي هذه الجملة إشارة إلى التهديد بالانتقام منهم ووعد للمؤمنين بالنصر عليهم. وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا يستقيم، لأن الأمر فيها موقت بالغاية الدالة عليه «حَتَّى» وإذ كانت الغاية غير معلومة فتكون آية السيف بيانا لها، وما قاله الطيّبي بأن النسخ بما جاء في التوراة والإنجيل من ذكر محمد فيكون انتهاء المدة بإرساله لقوله تعالى «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» الآية ١٠٧ من سورة الأعراف في ج ١ لا يتجه أيضا، لأن غاية ما فيها البشارة بشرع محمد صلّى الله عليه وسلم وإيجاب الرجوع إليه، وهذا لا يوجب توقيت الأحكام ولا يقتضي النسخ. وهذه الآية حاكية حال أهل الكتاب منبهة على التحذير من الإصغاء إليهم والأمر بعدم عقوبتهم على ذلك القول الذي هو من أعظم الذنوب، لأن الرضاء بالكفر كفر، فكيف بمحاولة ردّ المؤمن إلى الكفر، لأن معنى العفو ترك العقوبة على الذنب وعدم تثريبهم عليه أيضا، ولأن معنى الصفح ترك التأنيب وهو أبلغ من العفو، لأن الإنسان قد يعفو ولا يصفح. وما قيل إنها نزلت في أحبار اليهود أو نفر منهم حينما قالوا للمسلمين أو لحذيفة بن اليمان وعمار بن
ياسر بعد وقعة أحد لو كنتم على الحق ما هربتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم، فقال عمار وكيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد، قال إني عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت، قالت اليهود أما هذا فقد صبا، وقال حذيفة أما أنا فقد رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا، ثم إنهما أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخبراه بذلك، فقال قد أصبتما الخير وأفلحتما وما استدل به صاحب هذا القيل بما رواه الواحدي عن ابن عباس فليس بشيء، ولم يوقف على صحته ولا على سنده، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث. قال تعالى «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» أيها المؤمنون ولا تلتفتوا لأقوالهم فهو أقوى لكم ولا بأفعالهم فهي أفعى لكم «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ» ولو بكلمة طيبة أو إماطة أذى ما عن الطريق أو إسقاء الماء على الماء، وفي هذا تأكيد للعفو والصفح
75
المذكورين آنفا وترغيب للقيام بهما، لأنهما من أعظم أنواع الخير، أما ما قاله بعضهم بأنه خاص بالصلاة والزكاة فهو خلاف الظاهر، لأنه مطلق خير، فإن عملتموه أيها المؤمنون «تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ» تروا ثوابه في الآخرة «إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ١١٠» لا يخفى عليه شيء منه وأنه ينظر في كل شيء من أعمالكم ويجازيكم عليها
«وَقالُوا» أهل الكتابين «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» فرد الله عليهم بقوله جل قوله «تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ» أي ذلك ما يتمنعونه على الله من الأباطيل، وهو قول لا حقيقة له، لأنه لا بد وأن يصدر من الله الذي بيده إدخال الجنة من يشاء من عباده، ثم كلف حبيبه بطلب الحجة منهم على قولهم بقوله عز قوله «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على دعواكم هذه مما أنزل الله عليكم في كتابكم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ١١١» في ذلك، نزلت هذه الآية عند ما تناظر نصارى نجران مع يهود المدينة، وسيأتي بيان هذه المناظرة في أوائل سورة آل عمران الآتية بما يدل على أن هذه الآيات نزلت بعد سورة البقرة ووضعت هنا تبعا لسورتها كما هو الشأن في أمثالها، تأمل.
مطلب مناظرة اليهود والنصارى، ولغز في ذلك:
فقالت اليهود لا دين إلا دين اليهودية ولن يدخل الجنة إلا اليهود، وكفروا بعيسى عليه السلام، وقالت النصارى لا دين إلا دين النصرانية ولا يدخل الجنة إلا النصارى وكفروا بموسى عليه السلام وقد كذب بعضهم بعضا، فأكذبهم الله جميعا وبين لهم الدين الحق وأهل الجنة بقوله «بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ» في عمله مع الله وخلقه فهم أهل الحق ومن كان كذلك «فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ» في الآخرة ويدخل الجنة «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ١١٢» على ما فاتهم من الدنيا لأنهم وجدوا خيرا منها وهم في أمن من أهوال الآخرة. «وَقالَتِ الْيَهُودُ» في مناظرتهم تلك «لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ» من الدين «وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ» منه أيضا، وقد صدقوا جميعا إذ لا دين بعد البعثة المحمدية إلا دين الإسلام،
76
كما كذبوا في الآية السابقة. وقد ألغز في هذا فقالوا: قوم صدقوا ودخلوا النار أي إذا ماتوا على ما عاشوا عليه من عقيدتهم الواهية كما يقال في اخوة يوسف عليهم السلام قوم كذبوا ودخلوا الجنة، لأن فعلتهم مع أخيهم أعقبتها التوبة منهم، والتشرف بالنبوة، قال تعالى مبكتا أولئك بأنهم يقولون هذا «وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ» وليسوا بأميين وليس في كتابهم شيء من ذلك، لأن التوراة بشرت بعيسى ابن مريم، والإنجيل بشر بمحمد وحقق ما في التوراة من وصفه ونبوة موسى «كَذلِكَ» مثل هذا القول الباطل «قالَ» مشركو العرب عبدة الأوثان «الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» لأنهم أمّيّون ولا كتاب لهم «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» هذا من قبل بأن محمدا ليس على شيء وأن كتابه ليس بشيء «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ١١٣» فيظهر المحق من المبطل ويجازى كلا بعمله. قال تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها» هذا ما نعاه الله عليهم بما أوقعوه في معالم الدين، كما نعى عليهم فيما تقدم الإيقاع في نفس الدين وهو عام في كل مسجد، أي لا أحد أظلم من هذا فعله. نزلت هذه الآية في المشركين الذين منعوا رسول الله وأصحابه من الصلاة في المسجد الحرام حينما كان في مكة، وإنما قيل مساجد والمنع من مسجد واحد لأن الحكم ورد عاما وإن كان السبب خاصا، لقوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) الآيات في ج ١، وهي قد نزلت في الأخنس بن شريق. وقال الحسن وقتادة إنها نزلت في بختنصر حينما خرب بيت المقدس، وهذا كان قبل المسيح، فلا محل لذكره هنا وقد أشرنا إليه أول سورة الإسراء في ج ١ فراجعه. وقال بعض المفسرين نقلا عن ابن عباس إنها نزلت في طيطوس الرومي الذي غزا بني إسرائيل فقتلهم وسباهم وخرب بيت المقدس وأحرق التوراة ومنع إقامة ذكر الله فيه، وبقي خرابا إلى أن عمره المسلمون زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبقي في أيديهم إلى حرب الصليبيين إذ استحله النصارى أكثر من مئة سنة، ثم استخلصه الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة ٥٨٥ من الهجرة، وعلى هذا تكون من قبيل عطف القصة على القصة قبلها، وأتى بها هنا تقريرا لقبائحم
77
وجرأتهم على شعائر الله، ولهذا يقول الله تعالى «أُولئِكَ» الذين تلك مثالبهم «ما كانَ» ينبغي «لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها» دخولا مطلقا «إِلَّا خائِفِينَ» ربها بخشية وخضوع وإخبات، احتراما لربها فضلا عن الجرأة على تخريبها، وهؤلاء المتجاسرون «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» فظيع وذم قبيح كلما ذكروا بفعلهم المشين يتبعه سبي وضرب جزية وقتل وكل ما هو من أسباب الذل يقع عليهم في الدنيا «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» لا تطيقه أجسامهم، وهذا ليس بسديد أيضا، لأن الآيات قبلها بحق اليهود، وكذلك لا يصح نزولها بحق المشركين، إذ لم يسبق لهم ذكر، ولم يسبق ذكر المسجد الحرام في هذه الآيات. ومما يبعد صحة القول بأنها في حق المشركين هو أن القائل به قال إنها كانت عام الحديبية، وحادثتها وقعت في السنة السادسة من الهجرة، وهذه السورة من أول ما نزل في المدينة كما علمت فلا تنفق مع قوله، وهناك قول آخر بأنها نزلت في المشركين الذين ألجئوا حضرة الرسول وأصحابه إلى الهجرة ومنعوهم بسببها من أن يذكروا الله في المسجد من صلاة وغيرها، وكأنهم بذلك سعوا في خرابها، لأنها أنشئت لإقامة الصلاة والذكر، فإذا انقطعت
عنها فكأنها خربت، وفي هذا التأويل صرف الحقيقة إلى المجاز، والعدول إلى خلاف الظاهر وهو وجيه، إلا أن سياق الآية ينافيه، وعدم سبق الذكر يبعده، لأن هذه الحادثة في مكة، ولم يقل أحد بمكية هذه الآية، على أن كلا من الحوادث الثلاث صالحة لسبب النزول لو كانت منطبقة عليها، وقد ذكرنا غير مرة أن تعدد الأسباب جائز، أي بأن تكون آية واحدة لعدة حوادث وأسباب كثيرة (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ)، إذ لا مانع من تعدد أسباب النزول، ولكن الأولى أن يكون في حق اليهود خاصة، وذلك لما حولت القبلة إلى الكعبة شق عليهم فصاروا يمنعون الناس من التوجه إليها ويحملونهم على تخريب الكعبة وسعوا في تخريب مسجد الرسول في المدينة، فعابهم الله تعالى وبين سوء طريقتهم التي سلكوها في ذلك، لأن الآيات السابقة جاء سياقها بالتشنيع على أفعالهم، والآية الآتية كذلك، فكونها فيهم أولى، لأن المشركين لا بحث فيهم قبلها ولا بعدها. قال تعالى «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
78
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ ١٥»
نزلت هذه الآية في جماعة لم تتبين لهم القبلة فصلوا جهة تحريهم، ثم بان خطؤهم، فأخبروا حضرة الرسول فنزلت. وهذه الآية كالإرهاص في تبدل القبلة، لأنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يسبّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومىء وكان ابن عمر يفعله. وفي رواية لمسلم كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي على دابته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت دابته فيه، وفيه نزلت الآية، وفيها إيماء أيضا إلى اليهود بأنهم مهما سعوا في خراب المسجد فلن يستطيعوا أن يسعوا في تعطيل عبادة الله تعالى، لأنها لا تتوقف على المسجد بل يمكن تأديتها في أي مكان كان، وإلى أي جهة كانت. قال تعالى «وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» وهذه نزلت في يهود المدينة أيضا لقولهم عزير بن الله، ويدخل فيها النصارى القائلون المسيح بن الله، والعرب القائلون الملائكة بنات الله، لأنها صالحة للكل، فنزه نفسه الكريمة بقوله «سُبْحانَهُ» عما يقولون «بَلْ» هو إله الوالدين والمولودين، لم يتخذ منهم ولدا ولا صاحبة له «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا فكيف أن يتخذ منهم ولدا وهم «كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ١١٦» خاشعون طائعون مخبتون منقادون، وكلمة كل تقتضي الشمول والإحاطة، لأنه كلي يعم كل من فيهما وما بينهما، وبعض المفسرين خص الآية بالطائعين ولا دليل على التخصيص إلا القول بنفي الشمول عنها أحيانا، بدليل قوله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) الآية ٢٤ من سورة النمل في ج ١، لأن بلقيس لم تؤت مثل ملك سليمان حتى يصح أن يقال إنها أوتيت من كل شيء بمعنى الشمول، وصاحب هذا القول يقول بأن (من) في الآية صلة أي زائدة وليس بشيء، إذ لا زائد في القرآن، ولا يوجد فيه حرف إلا وله معنى خاص أو عام. واعلموا أيها الناس أن هذا الإله الذي يخضع الكون بما فيه لهيبة جلاله هو «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» على غير مثال سابق كما أبدع الإنسان والحيوان والطير والجماد كذلك، لأن الشيء إذا كان له مثال أو صورة وأنشئ على صورته أو مثله لا يسمى بديعا ولا فاعله مبدعا، لأن المبدع الذي يعمل الشيء
79
أولا، والذي يعمل بعده يسمى مقلدا، والتقليد بشيء يحمد أو يمدح عليه، لأن كل من له إلمام يقدر على عمل مثله. ولا يوجد في القرآن نظير هذه الآية إلا الآية ١٠٠ من سورة الأنعام في ج ٢ «وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ١١٧» حالا دون كلفة أو بمعونة شيء آخر فتراه موجودا بين الكاف والنون، كما أنك ترى الرمية تصيب الهدف بين سحب الزناد وصوتها، هذا تقريب للفهم، وإلا فهو غير ذلك «وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» من جهلة قريش المشركين «لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ» مشافهة فيخبرنا بأنك رسوله «أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ» على صدق ما تقوله لنا يا محمد لا تبعناك توا «كَذلِكَ» مثل هذا القول الباطل «قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الأمم السابقة «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» هذا، لأن اليهود سألوا رسولهم عما يجوز وعما لا يجوز، وطلبوا أن يسمعهم نبيهم كلام الله، ولما أسمعهم طلبوا أن يريهم إياه فهلكوا «تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» هذا، لأن اليهود سألوا رسولهم عما يجوز وعما لا يجوز،
وطلبوا أن يسمعهم نبيهم كلام الله، ولما أسمعهم طلبوا أن يريهم إياه فهلكوا «تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» في الضلال، فوافق سؤالهم سؤالهم «قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ» الدالة على نبوتك وصدقك يا سيد الرسل بيانا شافيا كافيا «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ١١٨» بها، أما غير الموقنين فلو نزلنا عليهم ما طلبوه وأمثاله معه لم يؤمنوا، وأنت يا خاتم الرسل ما عليك أن لا يؤمنوا «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً» للمصدقين الموقنين «وَنَذِيراً» للمكذبين الشاكين «وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ ١١٩» الذين يموتون على كفرهم وتكذيبهم لله ورسوله «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ» يا سيد الرسل «الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» التي هم عليها، وليس فليس، وإذا كان كذلك «قُلْ» لهم يا خاتم الرسل «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» الموصل إلى المطلوب وهو الدين الحق دين الإسلام دين إبراهيم عليه السلام «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» يا حبيبي وركنت لسلوك طريقتهم طلبا لرضائهم «بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» بأنهم ليسوا على شيء من الدين، وأنك على الحق المبين، وهذا قسم من الله تعالى وجوابه قوله عزّ قوله «ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ١٢٠» بدلالة اللام الموطئة للقسم في (وَلَئِنِ) وقد ذكرنا في الآية ٦٥ من سورة الزمر في ج ٢ وفيما قبلها أن أمثال هذا الخطاب يراد به أمته
80
عليه الصلاة والسلام، لأنه محال عليه أن يميل إلى أهوائهم، فراجعها ففيها ما يلذ السمع ويهج القلب.
قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» التوراة منهم «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ» دون تحريف أو تبديل في معانيه أو مبانيه، وينقلونه للناس كذلك «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «يُؤْمِنُونَ بِهِ» حق إيمانه ويقودهم إيمانهم بكتابهم إلى الإيمان بك وبكتابك، لأن من جملة ما يؤمنون به في كتابهم نبوتك وكتابك. وفي هذه الآية إشارة إلى أن منهم من يؤمن كعبد الله بن سلام وأصحابه، أما المحرفون الجاحدون فهم المخصوصون بقوله تعالى «وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ» فيسيء تلاوته ويغير كلمه وينقلونه على غير ما هو عليه بحسب أهوائهم ويغرون الناس بذلك «فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ١٢١» في الدارين، أما الدنيا فقد خسروها وزال عنهم نعيمها بالموت مهما كان نعيمهم وطال أجلهم، لأن مصيرها الفناء، وأما الآخرة فلم يعملوا لها شيئا يؤهلهم لنيل نعيمها الدائم، وذلك هو الخسران المبين. قال تعالى «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ١٢٢» تقدم تفسيرها في نظيرتها الآيتين ٤٠/ ٤٧ المارتين وكررت تأكيدا وتذكيرا لنعمه المتكررة عليهم «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ١٢٣» وما في هذه الآية بالنسبة للآيتين المارتين مثلهما إلا نوع تفنن في التعبير من نظم العليم الخبير، ولا يقال إن المعنى فيها واحد من حيث الاستفادة، بل فيها زيادة التذكير في المحافظة على وصايا الإله القدير ولزوم التقوى في كل حال والتيقظ ليوم القيامة والخشية مما يقع فيه من الأهوال، والتيقن بأن الإنسان لا ينفعه إلا عمله الحسن. وأعلم أن مجيئها بعد الآية المتقدمة إيذان بتخويف المبدلين لكلام الله، وترهيب من نزول العذاب فيهم لعلهم يرجعون عن باطلهم، وأنى لهم أن يرجعوا وقد أعماهم حب الرياسة عن اتباع الحق، وأوردتهم أنفتهم إلى الهوان:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
ت (٦)
81
مطلب فيما ابتلى به إبراهيم ربه والكلمات التي علمها له وبناء الكعبة وغيرها:
قال تعالى «وَ» اذكر يا أكمل الرسل لأمتك قصة أخرى «إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» اختبره فيها قبل نبوته، وهي ما قصه الله تعالى في الآيات ٧٦ فما بعدها من سورة الأنعام في ج ٢ من أمر الكوكب والقمر والشمس وإصراره على عبادة الله وتوحيده حتى أدى به الحال إلى أن ألقوه في النار، وبعد أن أنجاه الله منها على الصورة المبينة في الآية ٥٠ فما بعدها من سورة الأنبياء في ج ٢ أيضا هاجر إلى الشام وشرقي الأردن فالقدس، ثم ابتلاه بذبح ابنه على الصورة المارة في الآية ١٠٠ فما بعدها من سورة الصافات في ج ٢ أيضا وقيل إن الذي اختبره بها في مناسك الحج أو أوامره ونواهيه التي قام أو اختصر بها بإلهام من الله تعالى، وقال ابن عباس هي ثلاثون شيئا سماهن شرائع الإسلام وهي عشرة في سورة براءة في قوله تعالى (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) الآية ١٤ الآتية منها، وعشرة في سورة الأحزاب وهي (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الآية ٣٦ الآتية أيضا، مثلها وعشرة في الآية الأولى فما بعدها من سورة المؤمنين، وعشرة في الآية ٢٢ فما بعدها من سورة المعارج في ج ٢، وفي رواية عشرة أشياء وهي من الفطرة خمسة في الرأس وخمسة في اليدين. روى مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشرة من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحى والسواك والاستنشاق بالماء والمضمض وغسل البراجم (ما بين طبقات الأصابع) ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء (الاستنجاء) وقص الأظفار، فهذه كانت فرضا على إبراهيم عليه السلام وهي علينا سنة، وقد أتى بها جميعها، ولذلك مدحه الله تعالى بقوله (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى الآية ٣٨ من سورة والنجم في ج ١، وهو أول من قص شاربه وأول من اختتن وأول من ضيّف الضيف، وأول من رأى الشيب فقال يا رب ما هذا؟ قال وقار قال ربّ زدني وقارا، وسمي التكليف بلاء، لأنه يشق على الأبدان فعله وقيل إن آية (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) في قضية ذبح ابنه لا في هذه الكلمات وهو عليه السلام قد وفى بها وبغيرها من كل ما أراد منه ربه، تدبر قوله تعالى «فَأَتَمَّهُنَّ» قام بهن كلهن قياما كاملا، ولهذا «قالَ» تعالى «إِنِّي جاعِلُكَ
82
لِلنَّاسِ إِماماً»
ليقتدوا بك بما تسنه لهم «قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» يا ربّ اجعل إماما للناس ليستنوا بسنتهم أيضا «قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ١٢٤» من ذريتك وغيرهم، أي لا يصل إليهم ولا يناط بهم ذلك، ولا يكون منهم، لأن الإمامة والنبوة لإرشاد الخلق، ولا تكون إلا للصالحين منهم، والظالمون ليسوا بأهل لنصح الناس «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً» مرجعا وملجأ ومأوى «لِلنَّاسِ وَأَمْناً» لهم من تعدي الغير «وَ» قلنا لهم «اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» موقفا يصلّى فيه وقد اتخذ من ذلك اليوم وحتى الآن وإلى الأبد إن شاء الله تدوم صلاة الناس فيه وهي مقابل باب الكعبة في الحرم الشريف وهو حجر كان يقف عليه عند بناء الكعبة وكان فيه أثر أصابعه فاندرس من كثرة لمس الناس له وفوقه قبة بديعة وكان له عليه السلام بمثابة السلم المتحرك إذا أراد ارتفع وإذا أراد انخفض معجزة له عليه السلام كما هو الحال في سفينة نوح عليه السلام حيث كان إذا أراد سيرها قال بسم الله، وإذا أراد إيقافها قال بسم الله معجزة له، راجع الآية ٤١ من سورة هود ج ٢، «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ» عند ما أمرنا هما ببناء الكعبة «أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ» حوله بعد إكماله «وَالْعاكِفِينَ» المقيمين فيه المجاورين له الدائبين على الطوف به «وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ١٢٥» فيه، وفي هذه الآية دلالة على وجوب المحافظة على طهارة المساجد كلها لأن المعنى المراد من المسجد الحرام مراد في غيره من حيث إقامة الشعائر الدينية، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم إن البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها. وهذا إذا كانت أرضه ترابا فقد يخرج البازق من إثمها بدفنها كفأفا، أما إذا كانت أرضه مفروشه، كما هي الحال في مساجدنا الآن، فيتعين إزالتها بالمسح بمنديل ونحوه، وإن لم يزل أثرها به فيتعين غسلها بالماء وإلا فلا يخرج من الإثم، هذا إذا كان بزاقا خالصا، أما إذا كان مشوبا بدم فيتعين على سبيل الفرض إزالته حتما لما فيه من التلويث بالنجس
الموجب لبطلان صلاة من يصلي عليه ولو بعد يبسه كيف وقد رغب الشارع في تنظيفها حتى قال: (إن إخراج القمامة منها مهور الحور العين) وقالوا إن ما يؤذي العين يؤذي المسجد وإن تعظيمها واجب
83
وامتهانها حرام لأنها محل ذكر الله ولا يصح الاعتكاف إلا بها وإن حضرة الرسول حينما خرج للجبانة وقيل له إن هذا قبر فلانة قال التي كانت تقم المسجد؟ قالوا نعم فصف الناس وصلّى عليها وهي في قبرها، وذلك مما يدل على زيادة احترام المساجد ومحترميها، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٣٧ من سورة النور الآتية ولبعض ما يتعلق فيه في الآية ٢٦ من سورة الحج الآتية إن شاء الله «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا» البلد المحتوي على الكعبة «بَلَداً آمِناً» يأوي إليه الناس بسبب أمنهم فيه على مالهم وأنفسهم، لأنه لا زرع ولا ضرع فيه ولا شجر ولا كسب ليرغب الناس بسكناه فإذا لم يوجد فيه أمن لا يقصد ولا يجلب إليه شيء لتعذر المقام فيه «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» على اختلاف أنواعها، وقد أبدل من أهله «مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ليخص بدعوته المؤمنين منهم فقط تأدبا مع الله عز وجل لأنه لما سأله أن يجعل النبوة في ذريته على الإطلاق قال له تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فكان بمثابة النهي له عن تعميم الدعاء ولذلك لم يجب دعوته لأن النبوة لا تكون إلا لخواص عباده، وهنا أجاب دعوته فيمن طلب ومن لم يطلب «قالَ وَمَنْ كَفَرَ» أرزقه أيضا لأنهم من جملة خلقي الذي تكفلت بإرزاقهم إذ لا يليق بي أن أخلق ولم أرزق، لأن الرزق يستوي فيه المؤمن والكافر ولكن من أصر على كفره «فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا» في هذه الدنيا «ثُمَّ أَضْطَرُّهُ» ألجئه وأرجه كرها «إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ١٢٦» النار في الآخرة لإهلها. قال تعالى «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» أسس بنائه التي يرتكز عليها ودعائمه التي يقوم عليها «وَإِسْماعِيلُ» معه يعاونه على بنائه، فلما أكملاه قالا «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ» لدعائنا «الْعَلِيمُ ١٢٧» بنيتنا «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ» فيما نستقبله من أعمارنا كما مننت علينا من قبل «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» مؤمنة بك يا ربنا، منقادة لأوامرك. وقد أدخلا في دعائهما (من) التبعيضية للحكمة المارة في الآية قبلها «وَأَرِنا مَناسِكَنا» شرائع ديننا واعلام حجنا لهذا البيت «وَتُبْ عَلَيْنا» عما هفا منا وزلت به ألسنتنا
84
وأقدامنا «إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ» كثير الرجوع بالمغفرة على عبادك «الرَّحِيمُ ١٢٨» بهم، ولا حجة في هذه الآية لمن جوز صدور الذنب من الأنبياء، لأن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه لا ينفك عن التقصير أحيانا بسهو أو غفلة أو بترك ما هو خلاف الأولى والأفضل، ولهذا قالا (وَتُبْ عَلَيْنا) لا أنه من ذنب كذنوبنا، بل هو على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد بينا في سورة طه في الآية ١٢١ ج ١ ما يتعلق في هذا البحث مفصلا فراجعه. قال تعالى «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ» في تلك الأمة المسلمة والجماعة المؤمنة المخلصة في إيمانها «رَسُولًا مِنْهُمْ» الضمير يعود إلى قوله (أَهْلَهُ) في الآية المتقدمة، وقد أجيبت دعوتهما، إذ بعث الله من ذرية ابنه إسماعيل محمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ» يبلغهم كلامك الذي توحيه إليه «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ» يبين لهم معانيه وحقائقه ودلائل التوحيد والنبوة والأحكام، وقد ذكر أولا التلاوة لأجل التلقي والدراسة والحفظ ليبقى مصونا عن التبديل والتحريف، ثم ذكر التعليم الموقوف على أسراره ومراميه «وَالْحِكْمَةَ» الإصابة بالقول والعمل للوقوف على مغازيه، إذ لا يسمى الرجل حكيما إلا إذا اجتمع له الأمران لأنه إذا قال ولم يصب كان جاهلا، وإذا عمل ولم يصب كان أحمق، وإذا أخطأ فيهما كان أخرق، راجع الآية ٢٦٩ الآتية «وَيُزَكِّيهِمْ» من أدران الذنوب بما يتلوه عليهم، ويعلمهم أحكام دينه وشرائع سنته مما وافق سنة وشرع من قبله أو خالفهما، لأنهما الموافقان لعصره بإرادة الله تعالى وتشريعه لهم في الأزل، «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الغالب القادر «الْحَكِيمُ ١٢٩» فيما تشرع لعبادك من الأوامر والنواهي الموافقة لحكمتك.
وقد أجاب الله دعاءهما هذا كله، وأجمع المفسرون على أن المراد بهذا الرسول هو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، لأن هذا الدعاء وقع بمكة وإسماعيل عاش وتزوج ومات بمكة، وزوجته من عرب جرهم الذين أقاموا فيها كما مرت الإشارة لهذا في الآية ٣٣ من سورة العنكبوت في ج ٢، ولم يبعث من ذرية إبراهيم في مكة نبي بعد إسماعيل إلا محمد صلّى الله عليه وسلم. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لجندل في طينته (مطروح
85
فيها على وجه الأرض صورة لم تجر فيها الروح)، وسأخبركم بأول أمري انها دعوة ابراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور ساطع أضاءت لها منه قصور بصرى الشام قال تعالى «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» أعملها ولم يفكر في مصيرها وجهل ماهيّتها ولم يتدبر ما هي فأهلكها وخسرها وصدر هذه الآية يفيد التعجب أي كيف يرغب عنها ولاملّة تضاهيها، وهي مما يرغب فيها ويركن إليها لأن صاحبها خليل الله وخيرته من خلقه لقوله تعالى «وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا» على جميع أهلها الموجودين في زمنه وشرفناه بالرسالة لإرشادهم «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ١٣٠» وفي هذه الآية تعريض لكل من يرغب عن الإيمان بمحمد، لأنه من ولد إبراهيم الذي تعظمه الشرائع والأمم أجمع، فالذي لا يرغب بدينه فقد رغب عن ملة إبراهيم التي جهّل الله تعالى كل من يصد عنها، وجعله سفيلا لا يعرف كرامة نفسه، ذليلا حقيرا سائرا في هوانه، وترغيب لمن يدخل في دينه الذي اصطفاه الله على سائر الأديان وجاءت هذه الآية ايضا بسياق ذكره عليه السلام في هذه الآيات دالّة على أن المقصود هو لا غير، وما قاله بعض المفسرين من أنها نزلت في عبد الله بن سلام حين دعا ولدي أخيه مهاجرا وسلمة إلى الإسلام، وعرفهما ما جاء في حق محمد في التوراة (من أن الله تعالى يقول إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه احمد من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون) فآمن سلمة وأبى مهاجر، لا يصح لأن عبد الله نفسه لم يسلم بعد حتى يكلف ولدي أخيه، وهذه وقعت منه ولكن بعد إسلامه، راجع الآية ١٠ من سورة الأحقاف ج ٢. وبعد نزول هذه الآية، ولا علاقة لهذه الآية فيهم كما سيأتي في الآية ٤٧ من النساء الآتية
«إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ» أثبت على إسلامك الذي نشأت عليه وذلك أن الأنبياء كلهم ولدوا مسلمين، وهذا كان في حال صغره حين خروجه من السرب واجتماعه بقومه واستدلاله عليهم بالكواكب، كما مرّ في الآية ٧٥ فما بعدها من سورة الأنعام ج ٢ «قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ١٣١» وحده لا للكواكب والأصنام، إذ تبين لي أن الخالق لهم ولكل شيء هو الله الذي لا رب غيره وهو رب الكون أجمع.
86
مطلب وصية يعقوب وبقية قصة إسماعيل عليهما السلام:
قال تعالى «وَوَصَّى بِها» بكلمة الإسلام هذه التي أمره بها ربه «إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ» أيضا وصّى بها بنيه، والوصية آكد من الأمر لأنها تكون عند الخوف من الموت فيحتاط بها الإنسان الى ما هو أحوج، وقال كل منهما في وصيته لمن بعده «يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ» الحق الذي هو عبادته وحده والاعتراف والعمل بما أمر به والاجتناب عما نهى عنه فتمسكوا به وأمروا به غيركم «فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ١٣٢» لله مخلصون له مصدقون بما آتاكم، واحذروا كل الحذر من المخالفة والتقصير بنصح الخلق فإنكم مسؤولون عنهم كما أنكم مسؤولون عن أنفسكم، ولما قال اليهود لحضرة الرسول إن يعقوب أوصى عند موته باليهودية فكذبهم الله تعالى بقوله «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ» حتى تقولوا أوصى بذلك كلا لم تكونوا ولم يوص، ثم بيّن لهم لفظ وصيته بقوله «إِذْ قالَ لِبَنِيهِ» الإثني عشر لما ذكرهم في الآية ٧ من سورة يوسف فى ج ٢ عند وفاته على طريق الاستفهام والاستخبار «ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي» إذا أنا مت قبلكم «قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ١٣٣» الآن وبعد وحتى نلقاه مخلصون له وحده، ثم توفي عليه السلام بعد أن أخذ عليهم هذا العهد بإقرارهم فمن أين تقولون أنه أوصى باليهودية يا أعداء الله وهو قد توفي على هذه الوصية، ولم تكن إذ ذاك يهودية، إذ كانت على عهد موسى، راجع الآية ١٥٦ من الأعراف في ج ١ فأعرض عنهم يا سيد الرسل وقل لهم «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ» من الخير في أقوالها وأفعالها، ونواياها «وَلَكُمْ» معشر أهل الكتاب «ما كَسَبْتُمْ» من العمل والقول والنية أيضا «وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ١٣٤» كما نحن لم نسأل عن عملهم لأن كلا يسأل عن عمله فقط، وقدمنا في الآية ٢٦ من سورة العنكبوت في ج ٢ مبدأ هجرة إبراهيم وإسكان ابنه إسماعيل في مكة شرفها الله، ونذكر الآن منها من آخر ما ذكرناه هناك كما وعدنا. قال فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل عليه السلام ليطالع تركته فلم
87
يجده، فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا، وفي رواية ذهب ليصيد لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئنهم، فقالت نحن بشرّ، نحن في ضيق وشدّة، وشكت إليه، فقال إذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، وذهب، فلمّا جاء إسماعيل ألقي فى روعه أن يسأل أهله كأنه آنس شيئا، فقال جاءكم أحد؟
قالت نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، فقال هل أوصاك بشيء؟ قالت نعم، أمرني أن أقرئك السلام وأنه يقول لك غير عتبة بابك، قال ذلك أبي، وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى وكان الطلاق عندهم متعارفا، إلا أنه لم يحدد كما هو الآن، وسنأتي على ذكره في الآية ٢٢٢ الآتية إن شاء الله، فلبث ما شاء الله أن يلبث ثمّ أتاهم فلم يجده، فدخل على امرأته، فسأل عنه فقالت خرج يبتغي لنا، قال كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على الله بما هو أهله، فقال وما طعامكم؟ قالت اللحم، قال وما شرابكم؟ قالت الماء، قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه، قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، وفي رواية فجاء فقال أين إسماعيل، فقالت امرأته قد ذهب يصيد ألا تنزل عندنا فتطعم وتشرب؟ قال ما طعامكم وشرابكم؟
قالت طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم (قالوا فقال أبو القاسم بركة دعوة إبراهيم) قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه أن يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال أتاكم من أحد؟ قالت نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا بخير، قال فأوصاك بشيء؟ قالت نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، فقال ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت درجته قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بولده والولد بالوالد (من المصافحة والتقبيل).
88
مطلب بناء البيت وحدوده من جهاته وتحريمه واحترام ما فيه وبدء بنائه:
ثم قال يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال فأسمع ما أمرك به ربك، قال وتعينني؟ قال وأعينك، قال فإن الله أمرني أن أبني بيتا هاهنا، وأشار إلى أكمة مرتفعة أي على ما حولها، فتحزبا على ذلك بكل حزم وعزم، وحضرا الأساس وطمخاه، وباشرا برفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع جاء إبراهيم بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله وهما يقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وفي رواية حتى إذا ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وقيل إن امرأة إسماعيل قالت لإبراهيم انزل اغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولته إلى شقه الأيسر، فغسلت شق رأسه الأيسر، فبقي أثر قدميه عليه. وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب. وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: قال عمر وافقت ربي في ثلاث، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) الحديث. ورويا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله تعالى الى يوم القيامة، وانه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمته تعالى الى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاه، فقال العباس يا رسول الله إلا الأذفر فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال إلا الأذفر. ومن حرمة هذا البيت أنه لم يأته جبار يقصد خرابه إلا قصمه الله مثل صاحب القيل ومن قبله، أما الحجاج فإنه لم يأت بقصد خرابه بل لخلع ابن الزبير، ولم يتمكن من ذلك إلا برمي البيت بالمنجنيق، ولما حصل قصده
89
أعاد بناءه وشيده وعظم حرمته وأحسن الى أهله. ومكة هذه محرمة قبل إبراهيم عليه السلام بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض.
وقوله تعالى (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ولكن لم يظهر ذلك التحريم على لسان أحد من أنبيائه ورسله قبل إبراهيم عليه السلام، وكان الله تعالى ولم يزل يمنعها ممن أرادها بسوء ويدفع عنها وعن أهلها الآفات والعقوبات حتى بوأها إبراهيم وأسكن بها أهله، وسأل ربه ما سأل من إظهار تحريمها لعباده وفرض على الخلق ذلك. وحدود الحرم فيها من جهة طيبة طيب الله ثرى ساكنها ثلاثة أميال، ومن جهة الطائف سبعة أميال، ومن العراق عشرة، ومن جدة تسعة من قبل الجعرانة، وسبعة من اليمن، وسيأتي ما يتلعق بالحرم وما على المحرم إذا دخله في الآية ٢٦ من سورة الحج الآتية وما على غير المحرم أيضا، وتفصيله على ما ينبغى في كتب الفقه فليرجع إليها من أراد الاستقصاء في ذلك. ومبدأ قصة بنائه على ما قالوا هو أن الله تعالى خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام، فكانت زبدة بيضاء وعلى وجه الماء، فدحيت الأرض من تحتها، فلما أهبط الله آدم عليه السلام استوحش فشكا إلى الله تعالى فأنزل البيت المعمور، وهو من ياقوتة من بواقيت الجنة له بابان من زبرجد، ويقال زمرد أخضر، باب شرقي وباب غربي، فوضعه على موضع البيت، وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول العرش، ويصلّى عنده كما يصلّى عند عرشي، وأنزل الله عليه الحجر الأسود وكان أبيض واسود من مس الحيّض في الجاهلية، فتوجه آدم من الهند ماشيا إلى مكة، وأرسل الله إليه ملكا يدله على البيت، فحج آدم البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا له يرحمك الله يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وقيل إن آدم عليه السلام هو الذي بناه على طراز البيت المعمور، وقد نظم الشيخ أحمد الكمسخاني أسماء من بنى الكعبة بقوله:
90
بنى الكعبة الغراء عشر ذكرتهم ورتبتهم حسب الذي أخبر الثقة
ملائكة الرحمن ثم آدم وابنه كذاك خليل الله ثم العمالقة
وجرهم يتلو قصي قريشهم كذا ابن زبير ثم حجاج لاحقه
وخاتمهم من آل عثمان بدرهم مراد المعالي أسعد الله شارقه
وقال ابن عباس حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله إلى السماء الرابعة. وهذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه. وبعث الله جبريل عليه السلام حتى خبّأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق، فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السلام فبناه على الصورة المار ذكرها.
وقيل إن الريح كنست له ما حول الكعبة حتى ظهر له أساس البيت الأول، وذلك قوله تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) الآية ٢٧ من سورة الحج الآتية.
قال ابن عباس بناه من خمسة أجبل: من طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودي، وقواعده من حراء، فلما بلغ موضع الحجر أراد حجرة تكون علما فيه فصاح جبل أبي قبيس إن لك عندي وديعة يا إبراهيم، وقذف بالحجر الأسود فوضعه بمكانه الآن. وسيبقى إن شاء الله معظما محترما يتبرك به الناس إلى اليوم الذي قدره الله لخراب الكون، لما ورد أنه يسلط عليه قوما من الحبشة ينقضونه حجرا حجرا ويطرحونه في البحر، وهذا أيضا من جملة حرمته حتى لا تمسه أيدي الكفرة النجسة.
هذا، ويوجد سبع عشرة آية في القرآن مبدوءة بلفظ (تِلْكَ) أي بمثل هذه الآية قال تعالى «وَقالُوا» اليهود والنصارى يا أيها الناس «كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى» أي قالت اليهود كونوا أيها الناس يهودا، وقالت النصارى كونوا أيها الناس نصارى «تَهْتَدُوا» لأن كلا منهم يزعم أن دينه الحق وما سواه باطل ولم يعلموا أن دين اليهود عدل بما أنزل على النصارى ودين النصارى أبطل بما أنزل على المسلمين، ولم يبق على وجه الأرض دين حق إلا دين الإسلام، كما كان الحال في زمن إبراهيم، لهذا يقول الله لنبيه «قُلْ» لا تكونوا أيها الناس هودا ولا نصارى «بَلْ» تعالوا كلنا نتبع «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» المرضية عند كل الأمم التي جددها حفيده محمد عليه الصلاة والسلام وإن إبراهيم كان «حَنِيفاً» مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا كما يزعم اليهود والنصارى «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٣٥» كما
91
يزعم بعض كفرة العرب، وهذا هو الذي يرتضيه الله تعالى لا غيره، ومعنى حنيفا مائلا عن كل الأديان إلى دين الإسلام وعليه قوله:
ولكنا خلقنا إذ خلقنا حنيفا ديننا عن كل دين
مطلب كيفية الإيمان والإسلام والمعمودية ومن سنها وتحويل القبلة وأن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة ومنها شهادة خزيمة:
قال تعالى مخاطبا سيد المخاطبين «قُولُوا آمَنَّا» كلنا أنا وأنتم ومن على وجه الأرض «بِاللَّهِ» وحده «وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا» من القرآن «وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ» من الصحف «وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» الإثني عشر من الأحكام «وَما أُوتِيَ مُوسى» من التوراة «وَعِيسى» من الإنجيل «وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ» قبلهم من الوصايا «مِنْ رَبِّهِمْ» كزبور داود عليه السلام لأنهم كلهم على هدى منه يأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه، وقولوا أيضا «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» كاليهود والنصارى وغيرهم بل نؤمن بهم كلهم ونصدق بما جاءوا به كله «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ١٣٦» له بالعبودية مذعنون مخبتون خاضعون له بالعبادة «فَإِنْ آمَنُوا» هؤلاء المخاطبون «بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ» يا محمد أي بجميع الرسل والكتب «فَقَدِ اهْتَدَوْا» إلى الدين الحق مثلكم «وَإِنْ تَوَلَّوْا» عن هذا الإيمان وأعرضوا عنه أو عن شيء منه «فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» خلاف عظيم وجدال كبير عداء بكم، وعنادا لكم، وحسدا بما أوتيتم، ومحاربة لله ورسوله، ونزاعا مع المؤمنين، وإذا تولوا ورضوا بما عندهم ولم يصغوا لإرشادكم، فاتركهم «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ» بالقهر والغلبة عليهم والعزة والظفر لكم «وَهُوَ السَّمِيعُ» لما تريدونه منهم من الخير «الْعَلِيمُ ١٣٧» بمن يقبله منكم أو يرده عليكم. وهذه الآية ضمان من الله تعالى لرسوله بالنصر، وإظهار لكلمته عليهم، وهي من الإخبار بالغيب لتحققه بعد نزول هذه الآية بثلاث سنين، إذ غزا بني النضير بالسنة الرابعة من الهجرة. ونزول هذه السورة كان في السنة الأولى منها، وأجلاهم عن بلادهم، ثم غزا بني قريظة وسباهم وضرب
92
الجزية عليهم. واعلم أيها القارئ أن الإيمان على الوجه المذكور الجامع هو «صِبْغَةَ اللَّهِ» يظهره ويلبسه من يشاء من عباده فيعرف به كما يظهر أثر الصبغ على الثياب لأنه يتداخل في قلوبهم ويتغلغل فيها فيسطع نوره على وجوههم، قال تعالى (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) الآية الأخيرة من سورة الفتح الآتية، وتلك السيما (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) لعظمة الله تعالى نصبغته هي الصبغة المثلى، وقد جاء في الحديث الصحيح إن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في القلب فيظهر على الوجه «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً» لا أحد البتة «وَنَحْنُ لَهُ» لذاته المقدسة وحضرته الكريمة مع الإيمان والإسلام على الصفة المارة الذكر «عابِدُونَ ١٣٨» طائعون مخلصون.
وجاء الإيمان المحقق في صاحبه بلفظ الصبغة للمشاكلة، لأن النصارى كانوا ولا يزالون يعمدون أولادهم أي يغسلونهم بماء يسمونه ماء المعمودية يضعون فيه شيئا من الصفرة يزعمون أن عيسى عليه السلام تعمد بمثله، أو مطلق ماء يقدسونه بما يتلون عليه من آي الإنجيل الشريف، وقد يأمرون الحامل فتغتسل فيه ويعتقدون أنه طهرة المولود كالختان، ولا يغتسلون من الجنابة بعد ذلك ولا يختتنون أيضا، لزعمهم أن الاغتسال بماء المعمودية كافيهم عنها والحال أن الأمر ليس كذلك، فإن المعمودية أول من سنتها سيدنا يحيى عليه السلام، ولذلك يسمونه في كتبهم يوحنا المعمدان الذي ألمعنا لذكره في الآية ٧ من سورة الإسراء والآية ٧ من سورة مريم المارتين في ج ١، وهي عبارة عن أنه عليه السلام كان يدعو الناس إلى توحيد الله، وكلما دخل أحد في دينه أمره بالغسل ويأمره أن يأمر أهله وأولاده به، وهو الذي عمّد عيسى عليهما السلام لأنه قام بالدعوة إلى الله قبله وهو أكبر منه بستة أشهر، وابن خالته، وهذا الغسل هو سنة من سنن الإسلام، لأن كل من يدخل فيه ينبغي له أن يغتسل إشعارا بطهارته عما كان عليه من الرجس، لأن الإسلام يجب ما قبله من الذنوب مهما كانت، فإذا دخل فيه كان كيوم ولدته أمه، فهذا هو معنى المعمودية لا غير، وليس الذنب على المعمّدين بفتح الميم بل على المعمّدين بكسرها الذين يبينون لهم الأمر على خلاف ما هو عليه في الأصل، قال:
93
قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الذين يريدون أن يهوّدوا الناس أو ينصروهم زاعمين أن ما هم عليه من الدين بعد بعثتك هو الحق «أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ» وتجادلوننا فيه وتخاصموننا من أجله «وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ» فنحن وأنتم فيه سواء، لأننا كلنا مربوبون له «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» لا أحد يستفيد من الآخر شيئا، ولا يثاب على عمله، ولا يعاقب، بل كل مسؤول عما يفعل، فله ثوابه وعليه عقابه «وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ١٣٩» بالقول والعمل إسلاما وإيمانا، وقد نسبتم إليه يا أهل الكتاب الولد، وأنتم أيها المشركون عبدتم غيره، ومنكم من جعل الملائكة بناته، تعالى عن ذلك وتقدس، وقد علمتم أن الدين المرضي هو الذي يأمركم به أنبياؤكم قبلا، الذي منه متابعة محمد عند بعثته. نزلت هذه الآية عند ما قال أهل الكتاب لحضرة الرسول إن ديننا أقدم من دينكم والأنبياء كلهم منا ونحن أولى بالله منكم، قال تعالى «أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى» في زعمكم كلا لم يكونوا كذلك، وزعمكم هذا باطل لا يستند إلى كتاب أو كلام رسول، فإن لم يذعنوا لقولك «قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ» أعلم بما كانوا يدينون به كيف وقد أخبر بأنهم كانوا مسلمين، فلما قال لهم ذلك وعلموا أنه الحق لما عرفوه من كتابيهم سكتوا وخرسوا، «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ» وذلك أنهم يعلمون مما في كتبهم أن إبراهيم وولده كانوا مسلمين، وأن محمدا من ذريته، وأنهم وإن عملوا ما عملوا من الكتم والإخفاء، فإنه لا يؤثر في الحقيقة الواقعة، «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ١٤٠» إن أنتم أغفلتم هذا وكتمتموه، فالله تعالى مطلع رقيب ناظر على جميع أعمالنا وأعمالكم، وهي محصية عنده وسيجازينا عليها الخير بأحسن منه والشر بمثله.
قال تعالى «تِلْكَ أُمَّةٌ» أمة إبراهيم وولده «قَدْ خَلَتْ» ومضت وقد أحصي عملها «لَها ما كَسَبَتْ» من الثواب «وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ» من العقاب «وَلا تُسْئَلُونَ» أنتم «عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ١٤١» تقدم مثلها حرفيا وكررت لاختلاف مواطن المجادلة التي يحسن فيها التكرار للتذكير والتأكيد.
94
قال تعالى «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ» الجهلة خفيفو العقول قليلو الروية «مِنَ النَّاسِ» بعد نزول آية تحويل القبلة «ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها» عند مجيئهم إلى المدينة، وأي شيء صرفهم عنها وهي قبلة جميع الأنبياء؟
«قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المعترضين «لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ» وما بينهما فما كان منها قبلة كان بجعل الله تعالى، وهو الذي «يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ١٤٢» ومن هذه الهداية التوجه إلى الكعبة بعد البيت المقدس لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام. وسبب نزول هذه الآية على ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) إلى آخر الآيات. وفي رواية أبي اسحق وعبد بن حميد وأبي حاتم عنه بزيادة، فأنزل الله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) إلخ الآيات، وهذا أليق بالمقام، وفيه ردّ لقول القائل إن قوله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول عن قوله (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) إلخ، على أنه لا مانع من القول بنزولها قبلها لأنها جاءت بلفظ الاستقبال، فهي من قبيل الإخبار بالشيء قبل وقوعه كسائر المغيبات التي أخبر الله تعالى بها رسوله قبل نزولها، وإنما غاظ اليهود تحويل القبلة وأزعجهم جدا لأنهم يرون ذلك قصدا لمخالفتهم، حتى أنهم عمدوا إلى تخريب مسجد الرسول وحرضوا بعض الناس على تخريب الكعبة الشريفة، كما ألمعنا إليه في الآية ١١٤ المارة، إذ كان نزولها وقت الأمر بتحويل الكعبة، وقد أخبر الله تعالى في هذه الآية عما صاروا يقولونه بينهم من أجل ذلك، وقد ذكرنا بعض هذا في الآية ١١٥ المارة، لأن حضرة الرسول منذ دخل المدينة كان يحب التوجه إلى الكعبة، ولكنه لم يستبد بشيء يريده، إلا أن يقترن بأمر الله وإرادته، وكان في استقباله لبيت المقدس قرب لاستمالة اليهود إلى الإيمان به وتصديقه، لأن وصفه مذكور في كتابهم وعضّده التوجه لقبلتهم، ولكنه لم يزدهم ذلك إلا إنكارا وتعنّتا وحسدا وعنادا، فلما أمره الله بالتوجه للكعبة صاروا يتقولون بما تسوّله لهم أنفسهم الخبيثة من أن محمدا ما ترك
95
قبلتهم إلا حسدا لعلمه أنهم على الحق وأن دينهم أعدل الأديان. قال تعالى «وَكَذلِكَ» كما جعلنا شريعتكم وسطا بين شريعة موسى وعيسى، لأن الأولى في غاية من الشدة والثانية في نهاية اليسر، فكانت بين الصعوبة والسهولة جعلنا قبلتكم وسطا بين المشرق والمغرب أي بين قبلتي اليهود والنصارى، لهذا «جَعَلْناكُمْ» يا أمة محمد «أُمَّةً وَسَطاً» لأنكم خير الأمم. وجاء في الخبر: خير الأمور أوساطها. قال زهير:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وإنما جعلناكم أمة وسطا يا أمة محمد «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» يوم القيامة في المشهد العظيم بأن الرسل بلغوا أممهم ما أرسلهم الله به «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً»
بأنكم آمنتم به وصدقتموه. ونظير هذه الآية الآية الأخيرة من سورة الحج الآتية. قال بعض المفسرين شهيدا بمعنى رضيّا، إذ لو كان القصد الشهادة لقال لكم، لأن الشهادة لهم لا عليهم والشهادة للنفع تتعدى بإلى وبالضر بعلى، وهو وجيه من حيث اللغة، ولكن الأول أولى لمناسبة المقام، فإن الرسل تشهد على أممها بالخير والشر لا بالخير فقط ليحسن القول بذلك فضلا عن أن حروف الجر تخلف بعضها، تدبر. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجاء بنوح وأمته يوم القيامة فيقال له هل بلغت؟
فيقول نعم أي وربي، فيسأل أمته هل بلّغكم؟ فيقولون ما جاءنا من نذير، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ الآية، زاد الترمذي وسطا عدولا. واعلم أن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الوقف والموت وغيرهما مما هو مبين في كتب الفقه، ولما كانت هذه الأمة سمعت من رسولها الصادق ما قصه عليها من أخبار الأمم وهو حقّ لا مرية فيه جاز لهم أن يشهدوا على الأمم بالتبليغ من قبل رسلهم، وهذا أقوى من المشاهدة لأن البصر قد يخطىء، وحضرة الرسول لا يخطىء وهو منزه عن الخطأ بالتبليغ، ومن هذا شهادة خزيمة رضي الله عنه التي عدها الرسول بشهادتين، لأنه كان جازما أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، فشهد على ما أخبره به وسمي ذا الشهادتين.
96
«وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها» وهي صخرة بيت المقدس متروكة وأمرناك باستقبال الكعبة «إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ» اتباعا جازما سالما من الشك والشبهة، فيراه الناس ويميزونه عن الغير، وإلا فهو عالم بذلك قبل وقوعه مما هو موافق لما عنده في الأزل لا عبثا ولا لعبا، أي ليعلمه الناس كما هو معلوم لدينا «مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» ويظهر مخالفته لنا ولك علنا ويجاهر بمخالفتك «وَإِنْ كانَتْ» تولية القبلة «لَكَبِيرَةً» ثقيلة شاقة على الناس، لأن كل شيء خالف المألوف تستصعبه النفوس «إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» فإنهم لا يرون فيها كافة بل يرونها يسرة سهلة لما فيها من اتباع رسولهم وأمر ربهم، فيتلقون كل ما كان كذلك بطيب نفس ورغادة بال ورغبة واشتياق وسرور. وهذه الجملة نظير الجملة المارة في الآية ٤٥ بشأن الأوامر المارة فيها لقوله فيها (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) ولما قال حبي بن أخطب وأصحابه من اليهود إلى المؤمنين إن كانت صلاتكم إلى بيت المقدس هدى فقد تحولنم عنها وإن كانت ضلالة فكيف بمن مات منكم عليها، فأنزل الله «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» صلاتكم باستقبالكم القبلة السابقة لأنكم إنما استقبلتموها بأمر الله طاعة له ولرسوله، فإن صلاتكم إليها مقبولة مأجور عليها، كما أن استقبالكم البيت الحرام بأمر الله طاعة له ولرسوله مقبولة ومأجور عليها، وإنما سميت الصلاة إيمانا لاشتمالها عليه «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ١٤٣» كثير الرحمة والرأفة بهم، لا يضيع عملا عملوه بأمره وإرادته، ولا يهدر ثوابه، كما أن من كان يتعبد على شريعة موسى، ولما بعث عيسى تبعه، ومن كان يتعبد على شريعة موسى وعيسى وعند بعثة محمد تبعه فتعبد على شريعته، فهو مأجور بكل منهما يثاب على الأخيرة كما يثاب على الأولى، فكل ما كان الإقدام عليه بأمر الله تعالى والانصراف عنه بأمره مثاب عليه، لأن القصد الامتثال. واعلم أن الفرق بين الرأفة والرحمة هو أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، ولذلك حسن ورودها هنا، لأن الكلام فيمن مات وهو يستقبل في صلاته بيت المقدس، والرحمة اسم جامع لذلك المعنى وغيره في جميع الأقوال والأفعال من الإنسان والأنعام وغيرها. ثم بين جل شأنه العلة
97
في إنزال الأمر بتحويل القبلة كما هو ثابت في سابق علمه، فقال «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» تحبّها يا سيد الرسل وتميل إليها لأنها قبلة أبيك إبراهيم، وكان صلّى الله عليه وسلم يتشوق إليها ويقول لجبريل وددت لو أن الله حولني إلى الكعبة، فيرد عليه بأني عبد مثلك وأنت كريم على ربك، فاسأله ذلك، ولكنه لا يسأله تأدبا، لأن علمه بما في قلبه كاف عن سؤاله، وكان صلّى الله عليه وسلم يتأذى من قول اليهود أن محمدا يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، وهذه الجملة حكاية حال حضرة الرسول قبل تحويل القبلة، إذ كان يود بقلبه ويرمق بطرفه إلى السماء رجاء نزول الوحي إليه بذلك، وقد كان في مكة يستقبلها، ولهذا خاطبه ربه بقوله «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» جهته في مكة المكرمة «وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ» أيها المؤمنون «فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» نحوه وتجاهه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» من هؤلاء الذين يعترضون وينتقدون «لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ» التوجه إلى الكعبة هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» لما هو مدون في كتبهم من أنه صلّى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين، ولعلهم أن الكعبة كانت قبلة إبراهيم عليه
السلام، ثم هددهم بقوله «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ١٤٤» من إنكاركم فيما يتعلق بأمر القبلة ومعارضتكم إلى محمد وأصحابه فيما هو حق ثابت عندكم، وانه لا بد مجازيكم على عنادكم وتعنتكم. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن النبي صلّى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يسقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وأخرج الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة، ثم قالت اليهود يا محمد ما هذا إلا شيء ابتدعته من نفسك، فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة، فلو ثبت على قبلتك لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي تنتظره، فأنزل الله «وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ» كعبة البيت الحرام ولا طريقتك التي أنت عليها «وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ» مهما قالوا لك ومنّوك به من اتباع وسلوك طريقتك، لأنهم يكذبون
98
في قولهم كله سواء باتباعك القبلة وغيره، لأنهم لا عهد لهم ولا ميثاق، فضلا عن الكلام «وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ» فلا اليهود تتبع النصارى في قبلتهم، ولا النصارى تتبع اليهود في قبلتهم أبدا، كما أن كلا منهم لا يتبع قبلتك هذه ما داموا على يهوديتهم ونصرانيتهم «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» الفاسدة، وهذا على طريق الإرهاب والتهيج ليزداد تثبيتا في حقه وتحذير للسامعين من متابعة الهوى كما أشرنا إليه أواخر سورة القصص فى ج ١ والآية ٦٤ من سورة الزمر ج ٢، «مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» في بطلان أهرئهم «إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ١٤٥» وهذا محال عليه صلّى الله عليه وسلم، لأنه مقطوع له بأنه لا يتبع أهواءهم وهو معصوم من كل مخالفة، ولكن هذا مراد به غيره على حد (إياك أعني واسمعي يا جاره) كما أشرنا إليه في الآيات من القصص والزمر وغيرها.
قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» تقدم تفسيرها في الآية ٢٠ من سورة الأنعام ج ٢، وأوردنا عليه ما قاله عمر ابن الخطاب إلى عبد الله بن سلام وما رد عليه فراجعه، وأشرنا إلى عبد الله هذا في الآية ١٠ من سورة الأحقاف ج ٢ أيضا، «وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ١٤٦» أنه حق لا جهلا بل عنادا وحسدا. واعلم يا محمد أن الذي أنت عليه وأصحابك هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» فاثبت عليه وامر من اتبعك بالثبات عليه، فإنه هو الثابت عند الله «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ١٤٧» فيه أبدا وهذه أيضا من قبيل تلك الآيات لأنه لا يمتري ولا يشك في شيء جاء من ربه. قال تعالىَ لِكُلٍّ»
من عباده ومخلوقاتهِ جْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها»
لهم وموجههم إليهاَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ»
أيها المؤمنون وبادروا بفعلها.
واعلموا أنكمَ يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً»
أنتم وأهل الكتاب والمشركون والمجوس والصابئون مؤمنكم وكافركمِ نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ١٤٨»
لا يصعب عليه شيء وأهون عليه جمع ما تفتت من أجزائكم واضمحل من أسلافكم في البرّ والبحر أو الهواء. وفي هذه حث على التسابق لأعمال الخير والأولوية والأفضلية في الطاعات، وتحذير لمنكري البعث والمعترضين على أعمال الله
99
تعالى القائل «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ» التوجه إليه «لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ١٤٩» كرر هذه الجملة تأكيدا للتهديد وتشديدا للتحذير ليكفوا عما يقولون في شأن القبلة وغيرها مما أنزله على محمد صلّى الله عليه وسلم «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» سواء كنتم في بر أو بحر بعيدا أو قريبا. واعلم أن قائدة هذا التكرار هو أن الحادثة جاءت على خلاف ما يعهده اهل الكتاب في الرسول بعد مجيئه إلى المدينة وهو أول أمر وقع في تبديل القبلة لئلا يخطر بمال أحد أن الأمر بالتوجه هو لأهل المدينة خاصة أو لأهل مكة خاصة فاحتاج الأمر للتأكيد بالتكرار تقريرا له وإيضاحا لبيانه وإزالة لكل شبهة فيه وردا لاعتراض كل معترض وهو في الواقع رجوع إلى ما كان يستقبله حضرة الرسول من بداية أمره إلى وصوله إلى المدينة، لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام، وأن قريشا مع كفرهم وإشراكهم يستقبلونها عند ما يدعون الله ويتضرعون له في النوازل، وكان استقباله بيت المقدس عند وصوله المدينة بأمر الله تعالى اتباعا لأمره الأزلي في لوحه المحفوظ بأن نبي آخر الزمان يستقبل إليه بعد استقباله الكعبة ثم يعود إليها ليكون أقرب الى تصديق اليهود وأجلب لميلهم، كما أشرنا إليه آنفا. واعلم أن هذا التحويل لا يسمى نسخا بالمعنى المراد بالنسخ، إذ لا يوجد في القرآن ما يدل على أن النبي وأصحابه كلفوا أن يستقبلوا الكعبة. والنسخ الذي يريدونه هو رفع حكم ثابت في القرآن مقدم بنص لا حق ضده متأخر عنه، ولا يوجد في القرآن نص مقدم باستقبال الكعبة فلا معنى إدا للقول بالنسخ ولا قيمة لقول من قال إن تغير القبلة أول واقعة ظهر النسخ فيها في شرعنا، تأمل «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ» يحتجون بها بأن هذا مخالف لما في التوراة على ما يزعمه اليهود، لأنك صليت إلى قبلتهم، ولئلا تحتج قريش بأنك كيف تدعي دين إبراهيم وتصلي إلى غير قبلته، أما ما تقوله قريش بأن محمدا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا لما علم أنها الحق، لأنها قبلة أبيه إسماعيل عليه السلام، فذلك قولهم بأفواههم، ولا يقوله إلا ذو العناد منهم.
100
وقد أطلق على قول المعاندين الجاهلين لفظ حجة لأنهم يسوقونها مساق الحجة اشتقاقا من حجه إذا غلبه، ولا يعلمون أن الحجة كما تكون صحيحة تكون فاسدة، وقد تسمى حجة وهي باطلة. «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» استثناء متصل، أي لا حجة لأحد عليكم في استقبال الكعبة إلا حجة المتوغلين في اليهودية لكونها مخالفة لما في التوراة مع أنها موافقة لها وهم يكتمون ما فيها من الحق، وقد نص فيها على تحويل القبلة كما نص فيها على صفات الرسول. وحجة قريش من الرجوع إلى قبلتهم واهية لأنها قبلة حضرة الرسول بطريق الإرث لا قبلتهم، فظهر أن كلا منهم مبطل في دعواه ويحاول بالباطل ظلما وعدوانا «فَلا تَخْشَوْهُمْ» فيما يطعنون بكم من الأكاذيب المختلفة «وَاخْشَوْنِي» وحدي أنا الله الذي أحق بأن يخشى منه لأظهركم عليهم، «وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ» بهدايتكم لما فيه خيركم وصلاحكم «وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٥٠» لكل ما فيه نفعكم وإكمال نعمكم.
نزل أمر تحويل القبلة يوم الإثنين في منصف شهر رجب الحرام السنة الثانية من الهجرة. أو النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي الظهر في مسجد بني سلمة وكان قد صلّى ركعتين فتحول في الثالثة إلى جهة الكعبة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وقبل كان التحويل بعد الصلاة إذ يفهم من هذا الحديث أن الوحي نزل عليه بتبديل القبلة وهو في الصلاة، تدبر.
ووصل الخبر إلى أعل قباء في صلاة الصبح، وقدمنا نص الحديث فيه في الآية ١٤٧ ونوهنا بالآية ١١٥ المارتين ما يتعلق بهذا البحث فراجعه. الحكم لشرعي وجوب استقبال عين القبلة لتمسكي الشاهد، لها ولجهتها لغيره، ورخص المراكب النقل على ظهر دابته متجها تلقاء سمته، وتقدم الحديث في هذا أيضا في الآية ١١٥ المرة أيضا، ويسنّ استقبالها في الوضوء والدعاء والقعود، ويكره حال لأخبثين وعند كشف العورة، ويكره لولي الصغير أن يقبله نحوها حال التغوط أو البول كما يحرم إلباسه الحرير وتحليه بالذهب والفضة. هذا،
ولما كان هذا من إتمام نعم الله على المؤمنين أردفها بكاف التشبيه فقال «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ
101
ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ١٥١»
كما أتممت عليكم النعمة بالإسلام والقبلة أتممتها عليكم بأن جعلت رسولكم منكم لأن خير الأمم من كان أميرها منها لأنها لا تذل بحكمه بخلاف المتسلط عليها من غيرها فقيه الهوان والصغار «فَاذْكُرُونِي» أيها الناس «أَذْكُرْكُمْ» عند مهماتكم وإفزاعكم ولا تغقلوا عن ذكري ومجدّوني دائما وعظموني لذاتي أحفظكم وأزدكم.
مطلب آيات الصفات والشكر على النعم والذكر مفرد أو جماعة وثواب الشهيد:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة. وهذا من أحاديث الصفات التي جعل السلف الصالح تأويلها ظاهر لفظها، وأوله الخلف بأن المراد بالقرب القرب من رحمته وألطافه وبره وكرمه بإحسانه ومواهبه، وكلما ازداد العبد بما يقربه منه من أعمال الخير زاده الله تعالى من ذلك، لأن القصد من الشبر والباع والذراع والهرولة والمشي والقرب استعارة ومجاز، إذ يستحيل إرادة ظاهرها على الله تعالى، لأنه منزه عما هو من شأن خلقه. وقد أوضحنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية ٣٠ من سورة ق والآية ٤ من سورة طه في ج ١ والآية ١٧٨ من سورة الأنعام والآية ٦٥ من سورة الزمر في ج ٢ فراجعها وما ترشدك إليه من المواقع. ورويا عنه: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه. ورويا عن أبي موسى الأشعري: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر، كمثل الحي والميت. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: سبق المفردون، قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات. أي الذين ذهب القرن الذي كانوا فيه وبقوا فيه وحدهم، أو الهرمى الذين ذهب أقرانهم من الناس وبقوا وحدهم يذكرون الله تعالى.
ولهذا جاء في تأويل المفرّدين بأنهم هم الذين اهتزّوا في ذكر الله والذين تفقهوا واعتزلوا الناس والذين اختلوا بمراعاة الأمر والنهي. ثم أردف الذكر بطلب الشكر
102
فقال جل قوله «وَاشْكُرُوا لِي» أيها الناس على ما غمرتكم به من النعم «وَلا تَكْفُرُونِ ١٥٢» بجحود شيء من نعمي عليكم فتحرموها. قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية ٧ من سورة إبراهيم في ج ٢، وقال صلّى الله عليه وسلم: اشكروا النعم لا تكفروها فإنها إن زالت فهيهات أن تعود. فاحفظوها عباد الله بدوام شكرها لئلا تسلب منكم وتقطع عنكم ولا أشد على المرء من زوال النعم بعد أن اعتادها، حفظنا الله ووقانا وإلى شكره هدانا، ومن زوال نعمه حمانا. واعلم أيها العاقل أنه كما يجب شكر الله على نعمه يجب شكر خلقه على نعمهم عليك، قال صلّى الله عليه وسلم: أشكركم للناس أشكركم لله.
وأن تخص بالشكر والديك على نعمة التربية، قال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية ١٣ من سورة لقمان ج ٢ وقال تعالى (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) الآية ٢٣ من سورة الإسراء ج ١، وقد أسهبنا البحث في هاتين الآيتين في بحث الشكر فراجعهما. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ١٥٣» بالمعونة والثبات والنصر والأعمال والمطالب والنيّات وكل ما تعذرت به الحقيقة من آيات الصفات وأحاديثها وشبهها يصار فيها حتما إلى المجاز لأن هذه المعية لا يعلمها غيره تعالى، ونؤوّلها بالمعونة منه على عباده ومساعدتهم على أمورهم والقيام بحقوقهم، ولما صارت واقعة بدر في ٢٧ رمضان السنة الثانية من الهجرة واستشهد فيها ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار قال المنافقون ماتوا وذهب عنهم نعيم الدنيا ولذّتها، فأنزل الله جل جلاله «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ» قولوا «أَحْياءٌ» حياة طيبة أحسن من حياتكم أيها الناس، لأنهم لا يزالون وإلى الأبد يذكرون بأنهم استشهدوا في طاعة الله ورسوله لإعلاء كلمة الله والذب عن أوطانهم وأعراضهم وإظهارا لأمر رسولهم على أعدائهم، وإنما نهى الله تعالى عن القول بأنهم أموات لئلا يتساووا في هذا الاسم مع غيرهم الذين قتلوا في سبيل الشيطان وعداوة أهل الإيمان، لأنهم لا يذكرون إلا بالشر، فهؤلاء أموات مادة ومعنى وإن كانوا أحياء، وأولئك أحياء مادة ومعنى وإن كانوا أمواتا، وحياتهم بعد الاستشهاد كناية عن بقاء
103
ذكرهم الحسن عند الناس وتنعم أرواحهم في الخير عند الله، ويطلق على من لم يزل ذكره جاريا بين الناس أنه حيّ مجازا، فهم أحياء عند الله بالمعنى الذي يريده، «وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ١٥٤» أيها الناس بكيفية حياتهم عنده، وإنما هو وحده يعلمها. قال الحسن إن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليها الروح والفرح كما تعرض النار على آل فرعون فيصل إليها الوجع والجزع.
قال تعالى «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» أيها الناس «بِشَيْءٍ» نكره تعظيما لعظمه على حصول القوت خلقه ثم بينه بقوله «مِنَ الْخَوْفِ» من العدو وقلة الأمن «وَالْجُوعِ» بتعذر «وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ» بخسران التجارة وهلاك قسم من رؤس الأموال والزروع والضروع «وَالْأَنْفُسِ» بالموت أو القتل أو الغرق والحرق والتردي «وَالثَّمَراتِ» بعدم بلوغ الزروع وإدراك نضج الفواكه وتسليط الآفات الأرضية والسمائية عليها، فيحصل النقص في جميع الحبوب والخضر والفواكه والأموال والأولاد والحيوان. وتطلق الثمرات على الأولاد أيضا كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مات ولد العبد قال تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي، قالوا نعم، قال أقبضتم ثمرة فؤاده، قالوا نعم، قال فماذا قال عبدي، قالوا حمدك واسترجع، قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد. ويدخلون في معنى الكسب أيضا لما ورد وولد المرء من كسبه.
مطلب في الصبر وثوابه وما يقوله المصاب عند المصيبة:
ثم ذكر جل شأنه ما من شأنه أن يتسلى به المصاب فقال «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ١٥٥» على تلك البلايا الموصوفين بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ» من تلك المصائب أو غيرها «قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ١٥٦» فلم يجزعوا منها ولم يفزعوا لغيره لأنهم عرفوا أنهم وما يملكون بتصرف الإله المتصرف بهم وبما يملكونه بما شاء، وليس لأحد أن يعارض المالك إذا تصرف بملكه «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ١٥٧» يهدي الله، المسترشدون برشده. قال عمر الفاروق رضي الله عنه: نعم العدلان الصلاة والرحمة، ونعمت العلاوة الهداية. ويفيد عطف
104
الرحمة على الصلوات أن الصلاة من الله رحمة وزيادة، ولذلك عطف عليها من عطف العام على الخاص. وروى مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون الآية اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها. وقيل ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة. يعني الاسترجاع عند المصيبة، ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام، ولم يقل يا أسفا على يوسف. والحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء أن العبد إذا علم أنه مبتلى وظنّ نفسه على الصبر فإذا نزل به البلاء لم يجزع ويكون أشد إخلاصا منه في حال الرخاء، فيداوم العبد على التضرع والابتهال إلى الله لينجيه ممّا يترقب نزوله. روى البخاري عن أبي هريرة قال:
قال صلّى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يصب منه أي يبتليه بالمصائب ليثيبه. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قال: قال صلّى الله عليه وسلم ما يصبب المؤمن من نصب ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله عنه بها خطاياه.
ورويا عن عبد الله: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله عنه به من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها. ورويا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل المؤمن كمثل لزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصببه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجر الأرز لا تهتزّ حتى تحصد. وفي لفظ آخر حتى تنقعر.
وهو شجر معروف في لبنان يعمّر كثيرا حتى قيل إنه يوجد منه من زمن المسيح عليه السلام، أما الرز المعروف فهو داخل في الزرع. روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا إلا الجنة. فهذا كله وأمثاله عند الله تعالى للصابرين، وليس للجازع إلا الخيبة إذ تصير مصيبته اثنين هي وضياع أجرها، وليعلم العبد أن الله تعالى إذا أراد به خيرا عجل عقوبته في الدنيا بإحدى المصائب، وإذا أراد به شرا استدرجه فأملى له في الدنيا ليشدد عذابه في العقبى. قال تعالى (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) الآية ٣٥ من سورة الأنعام في ج ٢، فيظنون أن ما هم عليه حسن فيستزيدون منه حفظنا الله من غضب الله. وليعلم العبد أن عظيم الجزاء
105
مع عظيم البلاء، وإذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى وذلك الثواب، ومن سخط فله السخط والعذاب والعقاب، وحينما يرى الرجل يوم القيامة ما للمبتلين عند الله من الكرامة، يود لو قرضت أعضاؤه في الدنيا بالمقاريض رغبة فيما أعده الله لهم. أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة. وقال سعد بن ابي وقاص: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل (أي الأولياء والعلماء والصالحين) يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة- أخرجه الترمذي-. فهذه هي التسلية الشرعية الشريفة، وهذا هو العزاء الحسن، وبهذه الطريقة ينسى الحبيب حبيبه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. والصبر هو حبس النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى، وعلى تحمل المشاق في العبادات وسائر الطاعات، وتجنب الجزع والمحظورات عند المصيبة، وقدمنا في الآية ٣٤ فما بعدها من سورة المؤمن في ج ٢ والآية ٣٥ من سورة فصلت ما يتعلق في هذا البحث فراجعهما، وقد جاء في الخبر عن سيد البشر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش- أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود-. وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن كعب بن مالك وأخرج مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه أيضا عنه ما بمعناه. وإذا علمت هذا وأيقنت به فاعلم أن الشهداء أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتا من جهة مفارقة الروح البدن، أو أنهم أحياء عند الله تعالى في عالم الغيب لأنهم صاروا إليه، وقد أشرنا إلى ما يتعلق بهذا في الآية ٨٩ من سورة الإسراء ج ١ بصورة مفصلة فراجعها. ومن عرف قدرة الله لا يشك في ظاهر هذه الآية، لأنه تعالى قادر على أن يصير روحه في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكل ويشرب في الجنة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ١٧٠ من سورة آل عمران الآتية إن شاء الله.
هذا، ولما أشار الله تعالى في الآية المتقدمة إلى الجهاد أعقبها ببيان بعض معالم الحج
106
لما بينهما من المناسبة في مشقة النفس وتلف المال ولا سيما ذكر الصبر لأن كلّا من الجهاد والحج محتاج إليه لعلاقتهما في ذكر المناسك المتقدمة في دعوة إبراهيم عليه السلام.
مطلب في السعي وأدلة السمعية والحكم الشرعي فيه وكتم العلم:
قال تعالى «إِنَّ الصَّفا» الحجر الأملس «وَالْمَرْوَةَ» الحجر الأبيض اللين وهما علمان لموضعين معروفين بمكة، وقيل إن صفي الله آدم عليه السلام جلس على الأول فسمي الصفا، وجلست امرأته على الثاني فسمي المروة وهما «مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» وإعلام دينه وكل شيء معلم لقربان يتقرب به إلى الله من صلاة ودعاء وذبيحة، فهو شعيرة من شعائر الله ومشاعر الحج معالمه الظاهرة، فكل من المطاف والمنحر والموقف والمرمى من شعائر الله تعالى أي مناسكه في الحج، وقد جعلها الله أعلاما لطاعته «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ» بالعمرة وهي الزيارة إلى الكعبة في غير موسم الحج أو فيه معه أو دونه «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» بسعى بين الصفا والمروة أي الجبلين الواقعين في طرفي المسعى تجاه البيت الحرام «وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» فعل فعلا زائدا على ما أوجبه الله عليه من الصلاة والصدقة والصيام والحج والعمرة والطواف وسائر أنواع الطاعات والقربات «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ» لطاعته مثيبه عليها «عَلِيمٌ ١٥٨» بحقيقة نيته فيها وإنما قال تعالى من شعائر الله لأن للحج شعائر أخرى سنأتي على ذكرها عند قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) في الآية ١٩٦ الآتية إن شاء الله. وسبب نزول هذه الآية على ما رواه البخاري ومسلم عن عاصم بن سليمان الأحول قال: قلت لأنس أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله هذه الآية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة، زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنيين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل الله هذه الآية. وهذا هو سبب الكراهة الواردة في
107
الحديث، وعلى هذا وما جاء في سبب نزول الآية الأولى يفهم أن هاتين الآيتين نزلنا قبل فرض الجهاد وفرض الحج، لأن غزوة بدر بعد الأمر بالقتال وتكسير الأصنام بعد فتح مكة، وكلاهما لم يقع بعد. الحكم الشرعي وجوب الطواف بين الصفا والمروة، ويجب بتركه دم، وهو ليس من أركان الحج، وان قوله تعالى لا جناح عليه وإن كان يصدق على أن لا إثم على فعله فيدخل تحته الواجب والمباح والمندوب، وظاهر الآية لا يدل على الوجوب وعدمه، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين هذه الأقسام الثلاثة لا يدل على خصوصية أحدها، بل لا بد من دليل خارج بدل على النص هل هو واجب أم لا. وهاك الأدلة على وجوبه، فقد روى الشافعي بسنده عن صفية بنت شبية قالت: أخبرتني حبيبة بنت أبي نخراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى ومئرزه ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لأرى ركبته، أي أنها لم تر ركبته، وإنما أرادت المبالغة من شدة سعيه ودوران إزاره بسببه، قالت وسمعته يقول اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي، وصححه الدارقطني وإذا صح فهو المذهب الحق.
وروى مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع من حديث طويل قال: ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) أبدا بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا الحديث. وروى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم أرأيت قول الله (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) الآية فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة كلا لو كان كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلّون لمناة، وكان مناة اسم صنم حذو (قديد) [موضع معروف على طريق المدينة مر به صلّى الله عليه وسلم عند هجرته ورأى فيه أم معبد وأظهر على يده معجزة حلب النعجة التي لا حليب فيها] وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة (للسبب المتقدم وهو وجود الصنمين عليهما) فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، فثبت من هذا كله وجوب السعي بينهما في قول الرسول وفعله وأمره.
108
وقد قال تعالى (وَاتَّبِعُوهُ) الآية ١٥٨ من سورة الأعراف ج ١، وقال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية ٨ من سورة الحشر الآتية، وقال صلّى الله عليه وسلم: خذوا عني مناسككم. والأمر للوجوب ولقوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآية ١١٣ من سورة التغابن الآتية، وما بعد هذه الأدلة القاطعة من دليل، وليعلم أن التمسك بقوله تعالى (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) ضعيف لعدم اقتضاء المراد من هذا التطوع أنه هو الطواف كما تقدم. ولما سئل علماء اليهود وأحبارهم عن آية الرحيم كتموها وأنكروا وجودها في التوراة كما أنكروا نعت الرسول أنزل الله تعالى قوله «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ» المنزل قبل القرآن على اليهود وهو التوراة المقدسة «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ١٥٩» من جميع خلقه ويستمروا على لعنهم ما داموا كاتمين لذلك «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا» وطهّروا أنفسهم بالصدق والتصديق «وَبَيَّنُوا» ما كتموه واعترفوا به «فَأُولئِكَ» القائمون بهذه الشروط الثلاث «أَتُوبُ عَلَيْهِمْ» وأقبلهم وأغفر لهم ذنوبهم السابقة وأكفر خطاياهم كلها «وَأَنَا التَّوَّابُ» لمن رجع إليّ كثير الرأفة به «الرَّحِيمُ ١٦٠» به فلا أعاقبه على ما سلف منه مهما كان، وهذه الآية وإن كان نزولها بمن ذكر فهي عامة في كل من يحذو حذوهم إذ لا مانع من شمول معناها لكل من يكتم شيئا مما أنزل الله سواء في التوراة أو إنجيل أو القرآن من أمر الدين والدنيا من مبدأ الكون إلى نهايته. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا أبدا: هذه الآية وآية (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ. الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) الآية ١٨٨ من آل عمران الآتية.
الحكم الشرعي: يجب على العالم بشيء من أمور الدين الإجابة عند السؤال عنه وهو وجوب عيني، ويجب عليه وجوبا كفائيا إظهار علوم الدين للعامة والخاصة بأن يتصدر لها ويبثها بينهم إذا كان لا يوجد في المحل الذي هو فيه عالم غيره وإذا وجد فعلى أحدهم، فإن قام بذلك سقط الإثم عن الكل، وإلا فكلهم آثم.
وهكذا حكم كل وجوب كفائي كغسل الميت والصلاة عليه ودفنه. قال تعالى
109
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ١٦١» في الدنيا والآخرة بدليل قوله تعالى «خالِدِينَ فِيها» أي النار المستفادة من اللعن الذي هو طرد من رحمة الله «لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» فيها «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ١٦٢» يمهلون ليعتذروا ولا يؤجلون لوقت آخر. الحكم الشرعي: أجمعت العلماء على عدم جواز لعن كافر بعينه، وكذلك العاصي المعين والفاسق لعدم علم حاله عند الوفاة، فلعله يموت على الإيمان بسبب توبة يحدثها، وقدمنا في الآية ٣٩ من سورة الأعراف ج ١ أن العبرة لآخر العمر وخاتمته لا لأوله ووسطه، راجع هذه الآية والآية ١٠٣ من سورة الأنبياء في ج ٢، ويجوز لعن الكفار والظلمة والفسقة والعصاة على العموم.
قال تعالى (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية ٤٤ من سورة الأعراف ج ١، وقال صلّى الله عليه وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها، إذ كان مطلقا لم يخصّ به أحدا معينا، فتقع على من يستحقها. هذا وما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده ولعن الله الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومؤكله ومن غير منار الأرض ومن انتسب لغير أبيه، فكله مطلق، لأن المحلى والمضاف لا يتقيد بل يعم الأفراد كافة، فمن هذا الوجه جاز لعنهم، لأن كلا منهم يدخل في عموم الآية المارة والحديث، تأمل.
«وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» أيها الناس هذه الجملة معطوفة على جملة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) من عطف القصة على القصة، لأن الأولى مسوقة لإثبات النبوة وهذه لإثبات الوحدانية، وفيها انتقال عن زجرهم عما يعاملون به رسولهم إلى زجرهم عن معاملتهم ربهم، إذ يكتمون وحدانيته ويقولون عزيز والمسيح ابنا الله كما يقول فريق من العرب الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ١٦٣» قال ابن عباس: قال المشركون يا محمد صف لنا ربك وانسبه وذلك لتوغلهم في شرف الأنساب ظنوا أن الرب له نسب مع أنه تعالى ذم المفاخرة بالنسب كما مر في الآية ١٠١ من سورة المؤمنين ج ٢، وقيل في هذا المعنى:
110
وليس بنافع نسب زكي... تدنسه صنايعك القباح
وقيل: لا ينفع الأصل من هاشم... إذا كانت النفس من باهله
فأنزل الله هذه الآية. وعنه أيضا: قالوا ليأتنا محمد بآية تدل على ما يدعيه، فأنزل الله تعالى «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ» من ركوب وحمل وبلوغ بلد بعيد أو محل نزهة «وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات لحاجة الإنسان والحيوان والطير والحوت «وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» لمنافع الخلق أيضا من ركوب وحمل ورزق ومنها ما هو رزق لبعضها لأن الحيوان والحيتان والطير منها يأكل بعضه بعضا، ومنها ما يأكل جنسه بحسب التغلب، قال في المعنى:
ظلم القوي للضعيف جاري... في الأرض والهواء والبحار
«وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ» في مهابها يمينا وشمالا وشرقا وغربا وجنوبا قبولا ودبورا، ونكباء وهي التي لا يعرف مهبها، وما فيها من المنافع لأناس ومضارّ لآخرين «وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» للنزول على من يشاء من عباده للشرب والسقي «لَآياتٍ» عظيمات كافية عن كل آية «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ١٦٤» أن جميع ذلك جعله الله للنفع والاعتبار فيستدلون بها على الخالق القادر المدبر لها ويتفكرون في تكوينها وتقلباتها ويقفون على عجائبها وغرائبها وبدائع صنعها وإتقان تكوينها، وأن كلا منها بقدر ومحور خاص لا يتغير ولا يتبدل ولا ينضب، وأن كلا منها دال على الفاعل المختار ومنوه على وجوب التفكر والتذكر بآلاء الله وعظمته ورأفته بعباده.
مطلب الدلائل العشر المحتوية عليها الآية ١٦٤ من هذه السورة:
واعلم أن في هذه الآية عشرة أنواع من البراهين النيرة القاطعة الدالة على الإلهية والوحدانية: النوع الأول آية السماء وهو سمكها وإتقانها وارتفاعها بغير عمد أو بعمد لا ترى لقوله تعالى (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الآية ١٠ من سورة لقمان ج ٢، ومثلها في الآية الثانية من سورة الرعد الآتية، لأنهما يحتملان المعنيين لأن السماء
111
بناء والبناء الذي على هيأتها قد يكون بعمد ويكون بلا عمد، قال تعالى (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) الآية ١٢ من سورة عم في ج ٢، وقال تعالى (أَمِ السَّماءُ بَناها) الآية ٢٧ من سورة النازعات، وقوله تعالى (وَالسَّماءِ وَما بَناها) الآية ٥ من سورة والشمس ج ١، وقال تعالى (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) الآية ٢٧ من سورة الذاريات المارتين في ج ٢، وقال تعالى (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) الآية ٣ من سورة تبارك الملك في ج ٢. النوع الثاني آية الأرض وهو مدها وبسطها وتمهيدها وتثقيلها بالجبال لئلا تضطرب ولم تجمع الأرض لثقل جمعها ومخالفته للقياس، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه كالأرض، وجمع لم يوجد في القرآن مفرده كالألباب للقلة أيضا، وفي هذين النوعين من المبدعات ما لا يدخل تحت حصر.
والأرضين سبعة كالسماء بلا شبهة لقوله تعالى (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الآية الأخيرة من سورة الطلاق الآتية فهي دليل قاطع على أن الأرضين سبع كالسموات، فلا حجة لمن ادعى أنها واحدة لعدم جمعها بالقرآن العظيم. النوع الثالث: آية الليل والنهار وهي اختلافهما وتعاقبهما بانتظام بديع لا يختلف ولا يدرك أحدهما الآخر، وقدمنا ما يتعلق بهما في الآية ١٢ من سورة الإسراء ج ١ فراجعها. والنوع الرابع آية الفلك وهو تسخيرها وجريانها على ظهر الماء موقرة بالأثقال وتسيرها الريح مقبلة ومدبرة. النوع الخامس: آية نفع الناس وهو ركوبهم لنزهة والتجارة ووضع القوة في القلب على ركوبها وإلا لم يتم الغرض من نفعها وكذلك الدواب.
السادس: آية تسخير البحر وهو حمل تلك الأفلاك العظيمة مع قوة سلطانه وهيجانه واستخراج اللآلئ منه للزينة والحيتان للأكل مع أنه مالح لا يستفاد منه ولكن كلمة الله أبت أن تبقي شيئا بلا فائدة. السابع: آية المطر وإحياء الأرض الميتة به وإخراج أنواع النبات منها مما ينفع جميع الحيوانات وإنزاله بمكان دون مكان وبقدر الحاجة وتزيين الأرض به، قال تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) الآية ٦ من سورة الحج الآتية، وجاءت بلفظ خاشعة في الآية ٤٠ من سورة فصلت في ج ٢. الثامن: آية الرياح وهي آية عظيمة في القوة والنفع مع كونها جسم لطيف يحس به ولا يمسك ولا يرى وفيه حياة الوجود فلو أمسكه
112
الله تعالى برهة عن خلقه لمات كل حي وانتهت الأرض. التاسع: آية السحاب وهو كونه معلقا بين السماء والأرض مثقلا بالمياه تسوقه الرياح إلى حيث شاء الله فتارة تذهب ما فيه وتفرقه، ومرة تجمعه بعد الشتات، وطورا تسرع بإنزال الماء منه، وأخرى تؤخره إلى أجل مقدور وقد تسوقه إلى مكان آخر، كل ذلك بتقدير العزيز العليم القدير الحكيم. العاشر: آية بثّ الدواب وهي آية كبرى لاجتماعها بعد تكونها من الماء في أصل واحد وهو الدم كما سيأتي في الآية ٤٦ من سورة النور والآية ٤ من سورة الرعد الآتيتين كيفية اتفاقها في ذلك الأصل وتفرقها في اللون والشكل والصورة واللغة والأخلاق والآداب وغيرها، فسبحان الإله الواحد الذي أحسن كل شيء خلقه. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً» أمثالا وأشكالا وأشباها من الأصنام مع ما ظهر لهم من آيات الله الدالة على وحدانيته فيشركون به جل شأنه ما ليس بأهل للعبادة من صنع أيديهم وتصوير عقولهم مما هو محتاج للحراسة ويموهون بعضهم على بعض بأنها أنداد وليس في الوجود ندّ لله، تعالى عن ذلك، ولقلة عقولهم بل لكثرة جهلهم «يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» بلا حياء ولا خجل «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» من حبهم لأوثانهم وأدوم وأثبت «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بنتيجة أعمالهم هذه ما هو مرتب عليها من العذاب «إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ» يوم القيامة على أفعالهم هذه ويعاينون بأم أعينهم «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» ليس لأندادهم منها شيء ويتحققون أنها لم تغن عنهم شيئا من الله لهوانها عليه وظهور ضعفها لديهم «وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ ١٦٥» لعرفوا مضرة شركهم وأيقنوا عدم نفع أندادهم، ولو أنهم شاهدوا «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا» عند نزوله بهم جميعا فلم يبق بينهم تواصل «وَرَأَوُا الْعَذابَ» قد حاق بهم وخاب أملهم في متبوعيهم وندموا ولات حين مندم «وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ١٦٦» التي كانت بينهم في الدنيا من صحبة وخلة وقرابة ومحسوبية ومنسوبية، لأن الله تعالى نفى ذلك كله وأذن بالشفاعة لخواص خلقه لمن ارتضى منهم، كما مرّ في الآية ١٩ من الأنبياء ج ٢، «وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً» عودة أخرى إلى الدنيا ت (٨)
113
«فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا» في هذا اليوم الذي كنا نزعم نفعهم فيه «كَذلِكَ» كما أراهم مقاطعة رؤسائهم وقادتهم الذين كانوا يؤملونهم في الدنيا «يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ» السيئة التي اقترفوها في الدنيا التابعون والمتبوعون لأن كلّا منهم يندم على ما وقع منه وتظهر الندامة «حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ» يتحسرون المرة تلو الأخرى ندما وأسفا على عملها «وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ١٦٧» إذ لا يفيدهم تحسرهم شيئا لوقوعه بغير محله وتفريطهم في الدنيا فلو كان ندمهم فيها لنفعهم أما وقد فات محله، فلا فائدة فيه إلا زيادة الأسف والأسى والتحسر. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نزلت هذه الآية في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيا والحام الآتي بيانها في الآية ٤ من المائدة الآتية، وقيل إن عبد الله بن سلام وأصحابه الذين حرموا على أنفسهم أكل لحوم الإبل لأنه محرم عند اليهود، وقيل في قوم من ثقيف وبني عامر وخزاعة وبني مدلج إذ حرموا على أنفسهم التمر والأقط، وكلها صالحة لأن تكون سببا للنزول ولا مانع من تعداد أسبابه إلا في عبد الله لأنه لم يسلم بعد «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» طرقه وزلاته ووساوسه وإغراءه وإغواءه
وآثاره، جمع خطوة وهي ما بين قدمي الخاطر «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ١٦٨» عداوته من زمن أبيكم آدم لم يخفها قط ولذلك في كل فرصة يريد تأثمكم انتقاما، وإنه «إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ١٦٩» من تحليل وتحريم واتخاذ الأنداد واتباع الشبه والتشكيك بالحق قصدا لإظهار عداوته والتجاهر بها لإيقاعكم بالإثم ويمنّي لكم أقوال المذاهب الفاسدة التي لم تستند لكتاب أو سنة صحيحة للغاية نفسها وان أمره إليكم أيها الناس هو عبارة عن وسوسة يدسّها ويلقيها في قلوبكم فتكون خواطر تجدونها تحوك في صدوركم بحروف وأصوات منتظمة خفيفة تشبه الكلا في الخارج ليجركم لما يسيئكم ويشوش عليكم، وليس له سلطة يقسركم بها على الأخر بتسويلاته، كما اعترف بذلك في الآية ٢٢ من سورة إبراهيم في ج ٢. واعلموا أيها الناس أن الذي قدر إبليس وأعوانه على إيقاع الوسوسة في قلوبكم هو الله تعالى
114
راجع تفسير سورة الناس والآيتين ١١/ ١٧ من سورة الأعراف في ج ١، والآية ١٢ من سورة يونس، و ٣٩ من الحجر، و ١٧ من الأنعام في ج ٢، ومما يؤيد هذا ما جاء في الحديث الصحيح أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإنما أقدره الله تعالى على إيصال هذه الخواطر إلى قلوب البشر ليميزوا ويعلموا بعقولهم التي منحها الله تعالى إليهم الخير من الشر ويزنوا بميزان الشرع تلك الوساوس، فما كان موافقا أخذوه، وما كان مخالفا نبذوه، لأن الله تعالى إنما أعطاهم العقل ليفرقوا به بين الحق والباطل، والحسن والقبيح، والطيب والرديء، إذ قد يلقي الخبيث في الصدور ما هو حسن أيضا ليستجر به العبد إلى ضده، على أن الخاطر الحسن قد يكون من الملك الموكل بالقلب، فعلى الرشيد أن يتذكر ويعلم هل هو من الملك أم من الشيطان، وطريق معرفة هذا الميزان هو التمسك بالشرع، وطريق التمسك بالشرع هو التقوى المار تفصيلها في الآية ٤٨ وقال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ) الآية ٢١٢ الآتية. «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» وذلك أن حضرة الرسول دعا اليهود وأمرهم باتباع دين الإسلام ونصحهم وأرشدهم، فقال بعض رؤسائهم رافع بن خارجة ومالك بن النصيص ما قاله المشركون وهو ما قصه الله «قالُوا» لا نتبع ما جئتنا به «بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من دين اليهودية كما قال المشركون، بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأوثان، قال تعالى مؤنبا لهم كما قال لأولئك «وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ»
من أمور دين الحق «شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ١٧٠» إلى طريقه الذي يوصلهم إليه ولا يحكمون عقولهم فيما هو أرجح، أيتبعونهم على ضلالهم؟
فقالوا له مثل قول المشركين أيضا هم أعلم منا بذلك، ثم ضرب الله مثلا لهم فقال «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من المشركين وأهل الكتاب القائلين باتخاذ الولد «كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ» النعيق صوت الراعي الذي ينادي غنمه «بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً» لأنها لا تعي منه إلا هذا، وهؤلاء كذلك لا يعون من النصح والإرشاد إلا الصوت، وذلك لأنهم «صُمٌّ» عن سماع الحق سماع قبول «بُكْمٌ» عن النطق به بعد أن عرفوه «عُمْيٌ» عن رؤيته، لأنهم لا ينظرون إليه نظر
115
اعتبار فلا يألفونه عمه قلوبهم أيضا، لأنهم لا يفقهونه ولا يريدون أن يتدبروه، «فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ١٧١» شيئا ينفعهم من أمر الدين وقد شبه الله تعالى في هذه الآية الداعي إلى ربه وسلوك طريقه بالراعي، والكفرة بالغنم، ووجه الشبه هو أنه كما أن الغنم لا تعي من الراعي إلا الصوت ولا تفهم المراد منه لأنه قد يؤدي اتباعها صوته إلى الذبح كما هو الواقع عند أخذها إلى المذبح، فكذلك الكفار لا يسمعون من مرشدهم إلا صوته، فلا ينتفعون به ولا يهتدون لهديه، وقد يؤدي إعراضهم عنه إلى ضلالهم المؤدي إلى قذفهم في النار بجامع عدم الفطنة في كل منهما.
مطلب في الأكل وأحكامه وأكل الميتة والدم وغيرهما من المحرمات:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» ولا تلتفتوا إلى هؤلاء فيما يحللون ويحرمون من تلقاء أنفسهم «وَاشْكُرُوا لِلَّهِ» لنعمته عليكم في الأكل منها ومن غيرها، لأن به قوام أبدانكم، وملاك قوتكم على طاعة الله «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ١٧٢» بإخلاص لا تقصدون وجه غيره بها، وهذا الأمر بالأكل واجب لحفظ النفس ودفع ضرر الجوع عنها لأنه داء دواءه الأكل، ومندوب للأكل مع الضيف لئلا يستحي فلا يشبع، ومباح في سائر الأوقات، وحرام بعد الشبع، ومكروه الشبع نفسه، إذ ينبغي أن يرفع يده ونفسه تشتهي الطعام ليجد له لذة وينتفع به، لأن من الشبع ما يؤدي إلى التخمة وإلى نفرة النفس من الطعام وإلى توسع المعدة ويسبب أمراضا كثيرة قد تؤدي إلى الموت. قال تعالى «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ» حتف أنفها عدا السمك والجراد لاستثنائهما بالحديث، والدابة الفارة التي لم يقدر على مسكها وأمكن إراقة شيء من دمها من أي موضع كان جاز أكلها ولا تدخل في حكم الميتة لإخراج دمها يفعل فاعل قصدا، والسمك لا دم له، إذ من شأن الدم أن يسودّ إذا يبس، ودم السمك إذا يبس ابيض، والجراد لا دم له أصلا «وَالدَّمَ» الجاري من الحيوان بحياته وعند ذبحه الذي يتجمد في الإناء والمصارين ويشوى، والدم الذي يمصّ من الحيوان الطيب يحرم تناوله أيضا وأكله بعد تجميده حرام، وكذلك الدم الخارج من الآدمي بقصد عرقه أو غيره كما كانت العرب تفعله في
116
الجاهلية، فتشربه أو تجمده لتأكله، لأن المفصول من الحي كالميتة، اما الذي يبقى في العروق واللحم والقلب بعد الذبح فجائز أكله، لأنه غير جار، وكذلك الكبد والطحال لأنهما متجمدان خلقه، فضلا عن استثنائهما بالحديث كما سيأتي في آية المائدة إن شاء الله بصورة واضحة «وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ» المعروف، وحرمة هذه الأشياء الثلاثة لأمر طبي علمه تعالى قبل أن يطلع البشر عليه، وقد أظهر أخيرا بعض الأطباء الحاذقين بعض ما فيها من الضرر للإنسان وسيظهر الباقي إن شاء الله، لأن الكون لم يكمل بعد ولو كمل لخرب، إذ ما بعد التمام إلا النقصان، راجع الآية ٢٥ من سورة يونس ج ٢، وقد يكون هذا التحريم لأمر آخر في علم الله ليس لنا أن نسأل عن علته، لأن أفعال الله لا تعلل، وسواء كان التحريم من الله أو من حضرة الرسول فهو على حد سواء، قال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية ٨ من سورة الحشر الآتية «وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ» بأن ذبح للصنم أو على اسمه، وحرمة هذا والمعنى الآخر في حرمة الثلاث الأول تعبدي تعبدنا الشارع به فما علينا إلا الامتثال والاعتقاد بأنه تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا، لأنه أحل لنا خيرا منها، وليست هذه المحرمات بعزيزة عليه بل هي خبيثة أراد تعالى تطهرنا منها إلا عند الضرورة لحفظ قوام هذا الوجود، فقد أباح لنا تناول ما يسد الرمق منها، لأن الضرورات تبيح المحظورات، هذا قال تعالى «فَمَنِ اضْطُرَّ» في غير حالتين الأولى أن يكون «غَيْرَ باغٍ» هو الذي يجد غير هذه المحرمات فيعدل عنها إليها شهوة وتلذذا، الثانية بينها بقوله «وَلا عادٍ» متعد بأكله منها زيادة على قدر الحاجة لسد الرمق أو يتزود منه لأن الضرورة تقدر بقدرها «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» إذا أخذ بقدر ما يسد رمقه عند عدم شيء من الحلال فهو مسموح له فيه «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» للمضطرين «رَحِيمٌ ١٧٣» بهم إذا لم يبغوا أو يعتدوا، وإنما عتبر عن الرخصة بالمغفرة إيماء إلى لزوم التحري في ذلك، بحيث لا يأكل إلا بعد تحقق الضرورة، وبعد التحقق يأكل بقدرها كما مرّ، وهذا من الرخص التي من الله بها على عباده، ولا يجوز للمؤمن تركها تأثما والأخذ بالعزيمة، لأنها من حقه الخالص، بخلاف الزنى والقتل لما فيهما من
117
حق الغير والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وحقوق الله مبنية على التسامح، وحقوق خلقه مبنية على التشاحح، وهذا ما اتفق عليه الأئمة من الحكم الشرعي في هذه الأشياء. ومما جاء من الأدلة على هذه المستثنيات ما قاله ابن أبي أوفى: غزونا مع رسول صلّى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستا، وكنا نأكل الجراد ونحن معه، وقد سأل الرسول جماعة من ركاب البحر فقال لهم هو الطهور ماؤه، الحل ميتته.
وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن زيد بن الحم عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أحل لنا من الدم دمان ومن الميتة ميتتان الحوت والجراد والكبد والطحال. واتفقت الأئمة على حل الدم الذي بين اللحم والعروق، وقال صلّى الله عليه وسلم: إذا سمعتم النصارى واليهود يهلّون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون، واتفقت على حل ذبائح أهل الكتاب الأئمة، فلا عبرة بمن خالف إجماعهم. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ»
ولا يبينونه للناس «وَيَشْتَرُونَ بِهِ» أي الكتمان «ثَمَناً قَلِيلًا» من حطام الدنيا ليتمتعوا به للمحافظة على مناصبهم «أُولئِكَ» الذين هذا شأنهم، وقد تقدم بأن المراد بهم علماء اليهود وأحبارهم «ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ»، لأن الرشوة تؤدي إليها إذا كانت في ضياع حقوق الناس فلئن تكون موصلة إليها، ومدخلة فيها إذا كانت في ضياع حقوق الله ورسله من باب أولى، «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» لاشتداد غضبه عليهم، أما السؤال فيتولاه ملائكته، وقيل لا يكلمهم كلاما يسرّون به، بل بما يوبخهم ويقرعهم، وهو خلاف الظاهر «وَلا يُزَكِّيهِمْ» من دنس الذنوب ودرن العيوب «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ١٧٤» جزاء جرأتهم تلك «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ» أي بطوعهم واختيارهم «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ١٧٥» أي شيء صبّرهم عليها، وهي لا يصبر عليها أحد برضائه، وإذا كان كذلك فلم يجرءون على عمل يؤدي إليها والصبر على عذابها؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ والتعجب من اتباعهم الباطل وتركهم الحق من غير مبالات منهم بما يترتب عليهم من العقاب، فكانت ملابستهم هذه
118
الحالة الهائلة عين النار لأنها توجب العذاب فيها قطعا، ثم بين سبب إيجابه لهم بقوله عز قوله «ذلِكَ» العذاب المساق إليهم «بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» ليؤمنوا به وهم على العكس كفروا به واختلفوا فيه «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ١٧٦» عن الحق يؤدي بهم إلى عذاب سحيق في أعماق جهنم يتسرون على الصبر عليه فيها.
مطلب أنواع البرّ والقصاص وما يتعلق بهما:
وبعد استدارة القبلة زعم اليهود والنصارى أن الإحسان كله في الجهة التي يستقبلونها فأنزل الله ردا عليهم «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» أيها النصارى واليهود «وَلكِنَّ الْبِرَّ» كل البر وهو لفظ جامع لأنواع الطاعات المالية والبدنية هو «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» وحده «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» البعث بعد الموت «وَالْمَلائِكَةِ» كلهم فمن بغض واحدا منهم كاليهود ولم يؤمن بهم كلهم كما تقدم في الآيتين ٩٦/ ٩٧ فليس بمؤمن بأحد منهم «وَالْكِتابِ» كله أيضا بما فيه صحف الأنبياء الأقدمين، فمن أنكر شيئا مما أنزل الله عليهم أو على بعضهم فليس بمؤمن بل هو كافر بالجميع «وَالنَّبِيِّينَ» كلهم أيضا، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع، أما عزير ولقمان وذو القرنين فمن جحد نبوتهم أو نبوة واحد منهم فلا يكفر للاختلاف الوارد في نبوتهم وولايتهم، وقد سئل حضرة الرسول عنهم فقال لا أدري كما روي عن الحاكم وأبي ذر. أما إنكار وجودهم أو وجود أحد منهم فهو كفر بلا خلاف لذكرهم في القرآن، وإن إنكار شيء مما جاء فيه كفر بلا خلاف «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ» أي النفقة على حب الله مع حبه المال عن طيب نفس ورضاء خاطر فأعطاه «ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ» تقدم مثلها كثير وسيأتي في الآية ١٩٥ ما يتعلق في هذا البحث بصورة مفصلة في الآية ٣٠ من سورة التوبة الآتية «وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ» لفك العبيد المكاتبين وفداء الأسرى «وَأَقامَ الصَّلاةَ» المفروضة محافظا على شروطها وأركانها، إذ لا يعد مقيما لها إذا ترك شيئا من ذلك «وَآتَى الزَّكاةَ» من فضل ماله صدقة واجبة، وقد كرر الله تعالى الحث على الزكاة
119
في مواضع كثيرة قبل أن تفرض حثا على فعلها وترغيبا به وإعلاما بأنها ستفرض على هذه الأمة، وقد أعلن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرض الزكاة عقيب نزول هذه الآية قبل رمضان في السنة الثانية من الهجرة، لأن هذه الآية جامعة لأركان الإسلام الخمسة والزكاة من أركانه، ولأنه عبّر عنها مرتين فقال أولا (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) ثم قال (وَآتَى الزَّكاةَ) تدبر. أخرج الترمذي والدارقطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول صلّى الله عليه وسلم في المال حق سوى الزكاة. وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. وآية الزكاة غير ناسخة للصدقة لقوله تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) الآية ٢٥ من سورة المعارج ج ٢، ومثلها آية الذاريات بدون كلمة (معلوم) وكلاهما في الصدقة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم:
لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه. وللإجماع، على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم، وإذا امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم سرقة، وللإمام أن يأخذ من أغنيائهم ويعطى فقراءهم بقدر الحاجة.
وأما ما روي عن علي كرم الله وجهه مرفوعا نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة، فهو غريب معارض، وفي إسناده المسيب بن شريك، ليس بالقوي عند أهل الحديث، وعلى فرض صحته فيكون المراد منه الصدقة المقدرة، ولا يقال الغريب لا يحتج به، لأن ذلك إذا لم يعارض ولم يطعن براويه ووجد ما يعضده أيضا، فإذا فقدت هذه الشروط أو أحدها فلا يحتج به، تأمل، وراجع الآية ٥٨ من الإسراء في ج ١ تجد ما يتعلق في هذا البحث. «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» سواء فيه عهد الله أو عهد الرسول أو عهد الناس، لأن الوفاء بالعهد والوعد مطلوب «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ» حال الشدة والفقر والفاقة «وَحِينَ الْبَأْسِ» القتال في سبيل الله وسمي القتال بأسا لما فيه من الشدة «أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا» بإيمانهم «وَأُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «هُمُ الْمُتَّقُونَ ١٧٧» ما نهى الله عنه القائمون بما أمرهم به المستجمعون لأنواع البر والخير. روى البخاري ومسلم عن
120
أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟
قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان. ورويا أن ميمونة اعتقت وليدة (جارية) ولم تستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال (أو قد فعلت) ؟
قالت نعم، قال (أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك). وأخرج أبو داود عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: للسائل حق ولو جاء على فرس. وأخرج مالك في الموطإ عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
أعطوا السائل ولو جاء على فرس. وأخرج أبو داود والترمذي عن أم نجيد قالت: يا رسول الله إن المسكين يقوم على بابي ولم أجد شيئا أعطيه إياه، قال إن لم تجدي إلا ظلقا محرقا فادفعيه إليه في يده. وفي رواية مالك في الموطأ:
ردّوا المساكين ولو بظلف محرق. وهذا مبالغة في قلة ما يعطى أي ردوه بشيء تعطونه إياه لا رد حرمان لأنه يؤذيه، فإن لم يوجد فبكلمة طيبة والأحسن أن يقال له اثنتا بوقت آخر. وقال صلّى الله عليه وسلم: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان. وعلامة المؤمن صدق الحديث ووفاء الوعد وأداء الأمانة.
وروى البخاري ومسلم عن البراء قال: كنا والله إذا احمرّ البأس- أي اشتد الحرب- نتقي به- يعني برسول الله صلّى الله عليه وسلم أي نجعله وقاية لنا من العدو أن ينالنا سلاحه- وان الشجاع منا الذي يحاذي به. هذا، ولما تحاكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعض أحياء العرب في دماء كانت بينهم في الجاهلية وجراحات، وكان أقسم ذو الطول منهم على الآخر ليقتلن الحر منهم بالعبد، والذكر بالأنثى، والاثنين بالواحد، أنزل الله جل جلاله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى» فرضوا بحكم الله وسلموا لقضائه، وأمر رسوله وأنزل الله تعالى لإزالة الأحكام التي كانت قبل مبعث الرسول، وهي أن اليهود يوجبون القتل بلا عفو والنصارى يوجبون العفو بلا قتل، والعرب تارة توجب القتل وتارة تكتفي بالدية، ويقتلون من عثروا عليه من أقارب
121
القاتل، ويسلبون من وجدوا من أتباع السالب ويقتلون بالشريف عددا ويأخذون الدية مضاعفة، فأوجب الله تعالى رعاية العدل في هذه الآية، وأنزل في جواز العفو قوله عز قوله «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ» فصفح عنه بتانا أو قبل الدية في العمد «فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ» بشأن الدية، بأن لا يأخذ أكثر من حقه فيها ولا يعنفه على فعله «وَأَداءٌ» على القاتل «إِلَيْهِ» لولي المقتول تمام الدية «بِإِحْسانٍ» وطيب نفس دون مماطلة أو محاولة مقابلته لإحسانه بالعفو أو بقبول الدية، لأن العمد لا دية فيه قبل العفو، وهذا من أعظم أنواع الإحسان أن يتركه يقاد للقتل حتما، ولا يجوز له بعد العفو وأخذ الدية أن يتعرض للقاتل بشيء ما لأنه عدوان بحت، ولهذا قال تعالى «ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ» التخفيف فيقتل الجاني بعد العفو عنه أو بعد أخذ الدية منه «فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ١٧٨» في الدنيا بأن يقتل قصاصا لخيانته وغدره، وهكذا كل قاتل متعمد غادر يقتل صبرا قصاصا فلا يعفى عنه، ولا تقبل الدية منه لنقضه عهده وتصوره وتصميمه على القتل بعد أمن القاتل على نفسه بعفوه أو أخذ الدية منه، ويجب عليه أن يسلم نفسه للقتل، وإلا فيكون عذابه الأخروي أشد وأفظع من عذاب الدنيا وأدوم، قال تعالى «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» بقاء لأن من يقصد القتل إذا علم أنه يقتل يمتنع عنه فيكون فيه بقاؤه وبقاء من همّ بقتله، وإذا قتل القاتل قصاصا ارتدع غيره عن القتل والجارح كذلك إذا علم أنه يقتصّ منه امتنع عن الجرح، ثم امتدحهم على طريق التيقظ والتحذير بقوله «يا أُولِي الْأَلْبابِ» يا ذوي العقول السليمة الذين لا يريدون إتلاف أنفسهم ولا إتلاف غيرهم ويحرصون على محافظة أنفسهم وغيرهم، ويا أيها الموفون بعهدهم الصادقون بوعدهم حافظوا على أنفسكم بالكف عن قتل غيركم، وانتهوا عن ذلك «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٧٩» إفتاء بعضكم بعضا وتجتنبون مطلق التعدي الذي قد يقضى عليكم بمثله، وكثيرا ما تؤدي الجروح للموت، فاجتنبوها أيضا، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك. وقد وقع اختلاف في كيفية القصاص، وهل هو مطلق القتل أم لا، فقال أبو حنيفة يقتل القاتل بالسيف، وقال الشافعي بما قتل
122
به، وقال به مالك أيضا، ولأحمد رواية مع أبي حنيفة وأخرى مع الشافعي.
أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بولده. وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يقتل المؤمن بالكافر، ولا الحر بالعبد، ولا الوالد بالولد، والذمي يقتل بالمسلم، والعبد بالحر، والولد بالوالد، لأن الآية مفسرة لما أبهم من قوله تعالى (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ويستدلون بما روى البخاري عن جحيفة قال: سألت عليا رضي الله عنه هل عندكم عن النبي صلّى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ قال لا والذي برأ النسمة إلا أن يؤتى العبد فهما في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال العقل أي الدية، وسميت الدية عقلا لأنها تجمع من العاقلة أي جماعة القاتل من أوليائه وفك الأسير وأن لا يقتل مؤمن بكافر. وأخرج مسلم عنه كرم الله وجهه مثله. وقال بعضهم يقتل المسلم بالذمي والحر بالعبد، لأن آية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ناسخة لحكم هذه الآية من حيث التكافؤ على أن آية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) جاءت حكاية حال عما كان عليه بنو إسرائيل، إذ لم يميز الله بينهم لأنهم دون أمة محمد صلّى الله عليه وسلم التي خصها الله بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية ١١١ من آل عمران الآتية، ولهذا جعل الله لهم ميزه على غيرهم فجعل القتل مكافأة كما جعلها الشارع في الزواج الذي هو من نوع الحياة ضد القتل، لأن الله تعالى قال (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها [أي التوراة] أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) إلخ، الآية ٤٥ من سورة المائدة الآتية، فهي عبارة عن خبر من الأخبار التي لا تنسخ ولا تنسخ والمعول على ما جاء في هذه الآية، وهذا البحث صلة في الآية المذكورة في سورة المائدة فراجعه، وأجمعوا على أن القاتل المتعمد يقتل، والمخطئ تؤخذ منه الدية فقط، وأن تقتل الجماعة بالواحد.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن غلاما قتل غيلة (خداعا ومكرا من حيث لا يعلم ما يراد به) فقال عمر لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به. وإنما قال أهل صنعاء لكثرتهم، لأنها كانت أعمر بلاد العرب وأكثر سكنا ومبالغة في الكثرة.
روى مالك في الموطأ عن ابن المسيب أن عمر قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال لو تمالأ (تعاون) عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا. وأن
123
القاتل إذا استحل القتل كفر، ويقتل حدا، وإذا لم يستحله فلا، إلا أنه يكون مؤمنا فاسقا عاميّا، لأن من يقترف الكبائر دون استحلال يبقى على إيمانه بدليل تسميتهم مؤمنين، لأن الله تعالى صدر الآية بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وبدليل تسمية القاتل أخا لولي المقتول، فلولا أن الإيمان باق عليه لم تثبت له أخوة ولي المقتول، وبدليل ندب الله تعالى ولي المقتول للعفو عنه، والعفو من صفات المؤمن أما الآية ٩٢ من سورة النساء الآتية محمولة على الاستحلال، هذا والله أعلم.
مطلب في الوصايا ومن يوصى له ومن لا وما على الوصي والموصى له والموصي:
قال تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» بأن ظهرت آثاره عليه وكان قادرا على الإيصاء «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» مالا كثيرا «الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ» بر أي إذا لم يكونا أهلا لاستحقاق الإرث كما سيأتي «وَالْأَقْرَبِينَ» غير الوارثين أيضا وعلى المؤمن أن لا يخص بوصيته الأغنياء، لأن الفقراء أحق بالوصية إلا إذا كانوا فسقة وغلب على ظنه إنفاق ما يوصي به إليهم في طرق الشر، وهذه الوصية ينبغي أن تكون «بِالْمَعْرُوفِ» الذي لا وكس فيه ولا شطط بأن يعدل في ذلك عدلا «حَقًّا» لازما «عَلَى الْمُتَّقِينَ» (١٨٠) الإله الذي أمرهم بهذا، على أن لا يجنحوا بوصاياهم إلى غير العدل وإلى عدم الإيصاء إلا بالمعروف. وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يوصون للأجانب طلبا للفخر والسمعة ورفع الصيت والشهرة، فأوجب الله في بداية الإسلام هذه الوصية لمن يترك مالا كثيرا بدليل تسميه خيرا، قال رجل لعائشة رضي الله عنها أريد أن أوصي، فقالت كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف درهم، قالت كم عيالك؟
قال أربعة، قالت إنما قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا كثيرا، وهذا يسير، فاتركه لعيالك.
قال تعالى «فَمَنْ بَدَّلَهُ» أي القول الواقع من المريض الموصي «بَعْدَ ما سَمِعَهُ» منه سواء كان وصيا أو وليا عند الكتابة أو القسمة أو الشهادة، وسواء وقع التبديل في قول الموصي أو فيما أوصى به «فَإِنَّما إِثْمُهُ» أي التبديل الواقع من أولئك «عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» خاصة، أما الموصي والموصى له فهما بريئان من هذا الإثم، فإذا أخبر الوصي أو الشهود أن الموصي
124
أوصى للموصى له بأكثر من الموصى به وأخذه الموصى له غير عالم فلا إثم عليه، وإذا أخبروا بأقل منه فأخذه وسكت لعدم علمه فالموصي أيضا لا إثم عليه لأنه أوصى وحمل غيره مؤنة التنفيذ، ويكون الإثم في الحالتين على الوصي والشهود لكتمهم حقيقة الحال، ولهذا ختم الله تعالى الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لقول الميت الموصي والوصي والشهود وبما أوصى به وشهدوا عليه «عَلِيمٌ ١٨١» بحقيقة الأمر ممن يبدل قول الموصي وبكتم الشهادة، وفي هذه الجملة من التهديد ما لا يخفى.
قال تعالى «فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً» جورا وميلا وعدولا عن الحق في الوصية «أَوْ إِثْماً» ظلما منه فيها يستوجب الإثم بأن أسرف الميت في وصيته أو أخطأ فيها «فَأَصْلَحَ» هذا السامع الحاضر «بَيْنَهُمْ» بين الوصي والموصي له في الموصى به، واعلم (أن خافَ هنا بمعنى ظن في الكلام الشائع) وكيفية هذا الإصلاح المخاطب به كل من سمعه هو إذا رأى الوصي إفراطا في وصية الموصي بأن أوصى بأكثر من اللازم وكان عنده عيال فله أن ينصحه بأن يقتصد في الوصية فإذا لم يقبل ينصح الموصى له بأن يترك لورثة الموصي المفرط شيئا مما أوصى له به، فالفاعل لهذا من كل من يسمع وصية الموصي والمتوسط لعمل هذا الخير «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» في عمله بل يؤجر إذا خلصت نيته، وهذا قد يقع من الذين يكرهون أولادهم بقصد حرمانهم من الإرث فيوصون بجميع مالهم أو بأكثره للغير ولو تركوها لأولادهم لكان أحسن حتى لا يكونوا عالة على الناس، ولعل الله أن يصلحهم بسبب كفايتهم، وإن كان في هذا الفعل من الميت الموصي فيه ما فيه من الإثم فقد ختم الله تعالى الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لمن فعل هذا وقبله «رَحِيمٌ ١٨٢» بالموصى له والورثة. وقد ذكرنا في الآية ٤٤ من سورة النحل ج ٢، وفي المقدمة ج ١ أن الآية لا تنسخ بالحديث، لأن الحديث لا ينسخ القرآن البتة، لأنه مهما كان صحيحا لا يساوي كلام الله فضلا عن أنه لا يكون خيرا منه، راجع الآية ١٠٧ المارة يظهر لك أن هذه الآية لم تنسخ بحديث (لا وصية لوارث) وإنما خصصت بآية المواريث الآتية في سورة النساء، وهذا الحديث لا يعارضها، لأن حضرة الرسول قال عند نزولها (إن الله قد أعطى كل
125
ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث) أي بعد أخذ حقه، فكان هذا الحديث مبينا لهذه الآية ومفيدا أن الله تعالى كتب عليكم أن تؤدوا للوالدين والأقربين حقوقهم بحسب استحقاقهم من غير تبيين لمراتب استحقاقهم ولا تعيين لمقادير انصبائهم، بل فوض ذلك إلى آرائكم إذ قال (بِالْمَعْرُوفِ) أي العدل، فالآن قد رفع ذلك الحكم عنكم لتبيين طبقات استحقاق كل واحد منهم وتعيين مقادير حقوقهم بالذات، وأعطى كل ذي حق حقه منهم بحكم القرابة من غير نقص ولا زيادة، بأن يأخذ كل نصيبه المعين له في كلام الله إذ لم يبق مدخل للرأي في ذلك أصلا، وليس بعد بيان الله بيان، ومما يدل على عدم نسخ حكمها الذي قال به جمع من المفسرين ما ذهب إليه الحسن ومسروق وابن طاوس والضحاك ومسلم بن يسار بأن إطلاقها خصص بجواز الوصية لمن لا يرث من الوالدين والأقربين بسبب قتل أو رق خلاف دين، وبه قال ابن عباس وقتادة. ومن هنا تعلم أن لا نسخ في كتاب الله بالمعنى الذي يريده علماء الناسخ والمنسوخ، بل هو كما ذكرنا من حيث الإطلاق والتقييد والتخصيص والتعميم، تدبر. ولأن الوصية لمن لا يرث كالمذكورين أعلاه جائزة شرعا حتى الآن فضلا عن وقت نزول هذه الآية الكريمة، إذ كان كثير من الناس من أبوه أو أمه أو أبواه كفار وهو مسلم، وبالعكس، أو زوجته غير مسلمة، وبالعكس، تدبر. والآن كثير من المسلمين متزوجون بكتابيات.
روى البخاري ومسلم عن سعد ابن أبي وقاص قال: جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع السنة التاسعة من الهجرة من وجع اشتد بي، فقلت يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وإني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أما أتصدق بثلثي مالي؟ قال لا، قلت بالشطر؟ قال لا، قلت فالثلث يا رسول الله؟
قال الثلث والثلث كثير، أو قال والثلث كبير، إنك إن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. أي يسألونهم بأكفهم. ورويا عن ابن عباس قال في الوصية: لو أن الناس عفوا عن الثلث إلى الربع فإن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لسعد (والثلاث كثير)، وقال علي كرم الله وجهه: لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليّ من أن أوصي بالثلث.
126
فمن أوصى بالثلث فلم يترك. هذا وانظر ما قالته عائشة رضي الله عنها آنفا.
اعلم أن الحكم الشرعي في الوصايا جوازها عند كثرة المال المتروك وقلة العيال، وتستحب للفقراء وطرق الخير، وتكره إذا خصّ بها الأغنياء، وتحرم لمن يغلب ظنه أنه يصرفها في المعاصي لما فيها من إعانة العاصي على المعصية. فالصدقة على الأغنياء الأتقياء أي الوصية لهم أفضل، والأفضل والأكثر ثوابا على الفقراء الأتقياء لما ورد: اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم. أي أن الرجل كما يختار زوجته من أهل الدين، فكذلك ينبغي للمتصدق أن يخص بصدقته أهل الدين لينفقها في طاعة الله، ألا فليتق الله المؤمنون الموصوفون، وليعلموا بما يعود عليهم بالخير.
أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن الرجل والمرأة (أي جنسهما) ليعملا بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران (أي يوصلا الضرر إلى آخر) في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) الآية ١٢ من النساء الآتية، وذلك بأن لا يخص الوصية أو ينقص بعضها أو يوصي لغير أهلها، أو يحيف الوصي أو الورثة فيها كما مرّ تفصيله.
مطلب في الصوم وفرضيته والأعذار الموجبة للفطو والكفارة وإثبات الهلال وإنزال الكتب السماوية:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٨٣» الله فتعرضون عن شهواتكم الخسيسة إلى طاعة ربكم النفسية، لأن الصوم يعقم الشهوة، وقد فرض الله تعالى على هذه الأمة المحمدية الصوم، وأعلنه رسولها محمد صلّى الله عليه وسلم على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة، قبل غزوة بدر الموافقة في ١٧ رمضان السنة الثانية من الهجرة، بشهر وبضعة أيام، أي في أوائل شعبان، وقد أخبر الله في هذه الآية أن الصوم ليس من خصائص هذه الأمة بل هو فرض قديم، تعبد الله تعالى به الأمم السابقة، قالوا إن النصارى كانوا يصومون رمضان فشق عليهم في الحر فأجمعت علماؤهم على جعله في فصل معتدل من السنة بزيادة عشرة أيام كفارة
127
لعملهم، ثم إن أحد ملوكهم مرض فنذر زيادة سبعة أيام إن شفاه الله، فشفي، ثم كان ملك آخر فأكمله ثلاثة أيام فصار خمسين يوما، ثم خففوه على أنفسهم بالاقتصار على عدم أكل كل ذي روح، وهم يصومونه الآن على هذه الصورة في موسم الربيع، وقد تواترت الآثار على أن الصيام متعبد فيه من لدن آدم عليه السلام ولم تخل أمة منه، فهو عبادة قديمة لم يخل زمن منها البتة. والعبادة إذا عمت سهلت، وإذا خصت شقّت. وكان قبل الإسلام من كل شهر ثلاثة أيام ويسمونها الليالي البيض الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر، وسميت بيضا لكمال البدر فيها، وبالنظر لما ورد فيها من الأخبار فإن بعض الناس وخاصة النساء يصومونها الآن، وكذلك اليوم العاشر من المحرّم الحرام المسمى عاشوراء، روى البخاري ومسلم عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة (أي النكاح) فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (أي خصاء) لأن الوجيء رخي الخصيتين ودقهما، ولما كان هذا الصيام الذي كتبه الله تعالى مبهما بينه بقوله عز قوله «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» أي أنه أكثر ممّا كان قبل متعارفا من صيام أيام البيض وعاشوراء، ولما كانت هذه الأيام أيضا مهمة لأنها غير محصورة فإنها تحتاج إلى التوضيح والتحديد، لأن لفظ أياما يحتمل يومين فأكثر لأن الأمم الماضية كانت تصوم أياما معلومات من أشهر مخصوصة كالمحرم ورجب وذي الحجة، وصيام موسى عليه السلام كان إتمام شهر ذي القعدة وعشر من ذي الحجة فقد بينه بالآية التالية لهذه وشرع يبين الرخصة فيه فقال «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ» يشق عليه فيها الصيام فاضطر لما رأى من الكلفة في حضر أو سفر إلى الفطر «فَعِدَّةٌ» أي عليه صوم مقدار عدة الأيام التي أفطرها «مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» بعد شفائه من مرضه أو عودته من سفره «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ» يكلفون بصومه فيرون فيه كلفة زائدة لكبر أو عجز ولا يتمكنون من القضاء، لأن كل أيامهم هكذا بخلاف المرض غير المزمن والسفر المنقطع إذ يتمكنون فيما بعدها من قضاء ما أفطروه بالشفاء والإقامة، أما الذين لا شفاء لهم كالزمنى والمرضى
128
الذين لا يرجى برؤهم والهرم العاجز، فمثل هؤلاء إذا كانوا أغنياء يكون عليهم «فِدْيَةٌ» بدل صيامهم لأنهم معذورون كل عمرهم، والفدية الواجبة عليهم هي «طَعامُ مِسْكِينٍ» واحد غداءه وعشاءه عن كل يوم «فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» بإطعام أكثر من مسكين نظرا لسعة حاله وطلبا للثواب وتحللا مما يجد في قلبه من الأسف على عدم قيامه بهذا الفرض وحرمانه من أجره لتصلبه في دينه «فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ» عند ربه وأعظم ثوابا له «وَأَنْ تَصُومُوا» أيها المسافرون والمرضى والعجزة مع تجشّمكم مشقة الصيام «خَيْرٌ لَكُمْ» عند ربكم واطمن لقلوبكم وأكثر أجرا من أخذكم بالرخصة «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (١٨٤) ما للصائم عند الله من الخير الذي هو خارج عن الحصر، فلو علمتم ذلك لتحملتم المشقة وصمتم براءة لذمتكم على أتم وجه وثلوجة لصدوركم بإزالة ما يحوك فيها من التأثم من الإفطار لأن الإثم حزاز القلوب وترقبا لحصول فرحة الإفطار وفرحة لقاء الملك الجبار.
وليعلم أنه يجوز الأخذ بهذه الأخيرية إذا لم يضر الصوم بالمريض أو المسافر أو العاجز، فإن ضرّ حرم عليهم الصوم ووجب الإفطار أخذا بالرخصة لصيانة النفس، إذ لا يجوز الأخذ بالعزيمة على الصيام إلا إذا تحقق القدرة وعدم المضرة، وإلا بأن علم من نفسه أو من إخبار طبيب أن الصوم يضره تركه حالا، ولهذا قال تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
إذ صدر الجملة الذي ختم بها الآية (بإن) المفيدة للشك، أي إن كنتم تعلمون أن صيامكم خير من الإفطار بأن تقدروا عليه دون كلفة ضارة فصوموا، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا حرج في هذا الدين السمح، ويشير قوله تعالى عَلى سَفَرٍ) أنه لا يجوز الإفطار إلا لمن أدركه رمضان وهو متلبس بالسفر، لأن المراد بقوله الآتي (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي حضر رؤية الهلال وهو مقيم، ولهذا قال علي كرم الله وجهه وابن عباس رضي الله عنهما ذلك لمن أهل الهلال وهو مسافر. وأما من أنشأ السفر في رمضان فليس له أن يفطر، أي إذا خرج من البلد وهو صائم فليس له أن يفطر هذا اليوم الذي أنشأ فيه السفر بعد تلبسه بالصيام، راجع كتاب الصوم الجزء الثالث ص ٩١ من مبسوط الإمام السرخسي وهو موافق لظاهر القرآن، لأن كلمة على سفر غير كلمة مسافر.
129
ثم بين تلك الأيام التي ذكرنا أنها تحتاج إلى التبيين بقوله جل قوله «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، وهذا من التدريج أحد أنواع البديع إذ لم يذكر نزوله في هذه الآية ليلا أم نهارا، ثم أنزل قوله تعالى (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) أول سورة حم الدخان في ج ٢ ولم يذكر أي ليلة هي فأنزل الله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) هكذا ذكر الإمام الغزالي في إحيائه. على أن نزول سورة القدر قبل نزول حم الدخان، ونزولهما في مكة، والآية التي نحن بصددها نزلت في المدينة بعد سنين، فلا يتجه هذا بحسب النزول، أما على ترتيب القرآن فلا قول فيه، تأمل. ومن كرامة هذا الشهر على الله أنه أنزل فيه الكتب السماوية كلها، روى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أنزلت صحف إبراهيم لثلاث ليال مضين من رمضان، وأنزلت توراة موسى لست ليال من رمضان، وأنزل إنجيل عيسى لثلاث عشرة مضين من رمضان، وأنزل زبور داود لاثنتي عشرة ليلة من رمضان، وأنزل القرآن في الرابعة والعشرين لست بقين من رمضان، وتقدم أنه أنزل في السابعة عشرة أو العشرين منه كما أو ضحناه في المقدمة في بحث نزول القرآن، فيكون المراد من إنزاله في الرابعة والعشرين هو إنزاله جملة واحدة إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم بدأ بإنزاله على حضرة الرسول في السابعة والعشرين، راجع المقدمة تقف على أصح ما جاء في هذا، «هُدىً لِلنَّاسِ» هو نفسه هدى على الإجمال «وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ» على التفصيل للحلال والحرام والحدود والأحكام «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ» وكان حاضرا مقيما غير معذور «فَلْيَصُمْهُ» وجوبا «وَمَنْ كانَ» حين هل الشهر أو قبله «مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ» وجوبا «مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» يصومها بدلها حال إقامته وشفائه «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ» أيها الناس «الْيُسْرَ» فيرخص لكم الإفطار في المرض والسفر والعجز «وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» فيشدد عليكم بما لا تقدرون عليه ولا تستطيعونه لأن الدين يسر «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» لأيام الشهر كله أداء وقضاء «وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» لصيامه وإكماله، إذ قدركم عليه «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (١٨٥) ربكم الذي
130
لم يجعل عليكم حرجا في ما شرعه عليكم من الدين وتحمدونه على ما كتب عليكم من فرضه وما جعل لكم من الأجر على قيامكم بما كلفكم به، وفي هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى صلاة عيد الفطر لأنها تعقب كمال الصيام، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء لقوم قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصوم معهم أيضا، فلما قدم إلى المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه. وما قيل إن قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية منسوخ لا صحة له، بل هي محكمة بدليل ما روى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) قال ابن عباس ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان
أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا، وقال هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم، ولكن يشق عليه، رخص له أن يفطره ويفتدي، وكذلك العجوز، وإنما جاز لها الفدية لعدم القدرة المستمرة، أما المريض والنفساء والمسافر فيجب عليهم القضاء عقب زوال عذرهم، فإن ماتوا ولم تمض مدة يتمكنون فيها من القضاء فلا فدية عليهم، وإلا فعليهم الفدية من مالهم. ووقت الصيام قد ذكره الله تعالى بأنه بعد رؤية الهلال من رمضان، وقال صلّى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وجاء في حديث آخر: الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأقدروا له، وفي رواية فأكملوا العدة ثلاثين يوما.
ومعنى أقدروا له أي احسبوا له حسابه، وفيه إشارة إلى جواز الأخذ بأقوال المنجمين الموقتين، وعليه قول ابن وهبان في منظومته:
وقول أولي التوقيت ليس بموجب وقيل بل والبعض إن كان يكثر
ومنه يعلم أن الشهر الفلكي غير الشهر الشرعي لأنه قد يولد ولا يرى، وقد يرى في مكان دون آخر، ولا خلاف في ذلك لاختلاف المطالع، ويشترط للصوم الرؤية في المكان الذي أنت فيه أو القريب منه لا الولادة، والمحل البعيد بالتعبير الشرعي وهو أن يكون غير القطر الذي أنت فيه، ويختلف القطر بثلاثين مرحلة أي مدة شهر كامل، ويشترط للرؤية في الصحو جماعة بنسبة أهل البلد، وفي الغيم
131
اثنان، ويجوز أن يصام برؤية عدل واحد، ولا يجوز الإفطار إلا بعدلين.
هذا والمرض المبيح للفطر مطلق بإطلاق الله تعالى، فإن كان ما به لا يتكلف معه إذا صام صام، وإذا رأى تكلفا أو خاف زيادة المرض فليفطر، وكذلك المسافر، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ليس من امبر الصيام في امسفر حملا على ما يتوقاه الصائم من المشقة.
والسفر المبيح للفطر المجمع عليه ثلاث مراحل مقدرة بثمانية عشرة ساعة، وهذا ما يطمئن إليه الضمير وتقنع به النفس وينشرح له الصدر ويتصور فيه المشقة، وهناك أقوال بأقل وأكثر لا يوثق بصحتها، والآية لا شك مطلقة وإبقاء المطلق على إطلاقه أولى، إلا أن السفر لا يطلق عادة على مسافة أو ساعة أو ساعتين مثلا من قصد الأمكنة القريبة، بل يطلق على الأمكنة البعيدة وأقلها ثلاثة أيام، وقد تعورف هذا، والعرف له دخل في الأحكام التي لا نص فيها، حتى ان الإيمان بني على العرف بإجماع الفقهاء وليعلم أن الثلاثة أيام يطرح منها أوقات الراحة والنوم، ولذلك تطلق المرحلة على اليوم، وأقل المراحل سفر بريد وهو أربعة فراسخ والفرسخ على أصح الأقوال فيه ساعة ونصف، لذلك قدرت بست ساعات، ومن قدره بساعة واحدة واعتبر البريد أربع ساعات واعتبر السفر اليومي على شطرين، قدّر قبل الظهر أربعة فراسخ وبعده أربعة وجعل مدة السفر مرحلتين أي ست عشرة ساعة، وعلى هذا مذهب الشافعي، وعلى الأول أبو حنيفة رحمهما الله، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ١٠١ من سورة النساء الآتية عند بحث قصر الصلاة إن شاء الله تعالى، وكررت جملة (مَنْ كانَ مَرِيضاً) للتأكيد، وقال بعض المفسرين إنما كررت لئلا يتوهم نسخ الأولى بالثانية تبعا لجملة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) لأن ابن عباس أولها بالقادرين على الصوم دون عجز وكبر، وعليه فالمطيق يفطر ويفدي، وغير المطيق يفطر ولا يفدي، فينعدم الصيام ويتعطل ركن من أركان الإسلام وهو لا يجوز قطعا ويتحاشى ابن عباس عنه. على أن الحديث المار ذكره ينفي هذا التأويل كما علمت، أما من أوّلها بالعاجزين كما جرينا عليه فلا يقول بالنسخ وهو الأولى والله أعلم. وقدمنا في الآيتين ١١/ ١٧ من سورة سبأ ج ٢ والآية ١٧ من سورة النحل ج ١ ما يتعلق بمعنى البريد والفرسخ وما يتشعب عنهما فراجعها.
132
أما ما جاء في فضل رمضان فكثير نكتفي منه بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان صفدت الشياطين وفتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار. وروى البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ورويا عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك. والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن شتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم. ورويا عن سهل ابن سعد قال: قال صلّى الله عليه وسلم إن في الجنة بابا يقال له الريّان يدخل منه الصائمون فيقدمون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق لئلا يدخل منه أحد (يضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمئة ضعف إلى أكثر (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) وفضل الله ليس له حد فامثله فليعمل العاملون، وبه فليتنافس المتنافسون.
وسمي رمضان لا شتقاقه من الرمضاء وهي الحجارة المحماة بالشمس، ولما نقلوا أسماء الأشهر من السريانية إلى العربية سموها بالأسماء التي وقعت فيها من المواسم، وقد وافق رمضان أيام الحر فسمّوه به لذلك. واعلم أنه يجب على من أفطر بسبب مرض أو سفره أو عجز أو حيض أو نفاس أن يمسك عند زوال العذر، بأن شفي أو أقام أو طهرتا، وكذلك من فسد صومه بسبب ما وعليهم القضاء جميعا إلا العاجز المار ذكره، أما الصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم أثناء اليوم فعليهما الإمساك لا القضاء، لأنه لم يكن واجبا عليهما قبل، والمجنون كذلك، ومن أراد زيادة التفصيل فعليه بكتب الفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ» منهم قرب مكانة لا قرب مكان، لأنه لا بعيد عليه «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» وهذا وعد من الله تعالى بإجابة دعاء عباده ولا أو فى من الله أبدا البتة، وقد يكون التخلف من العبد لعدم قيامة بشروط الدعاء المطلوبة منه فيه، والله تعالى أهل للإعطاء، ولكن العبد ليس بأهل للإجابة بسبب عصيانه وطيشه «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي»
133
بالإيمان بي والتصديق لرسلي وكتبي والاعتراف بملائكتي واليوم الآخر إذا أرادوا أن أجيب دعاءهم «وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (١٨٦) لمصالح دينهم ودنياهم. وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا كيف يسمع ربنا دعاءنا، وتزهم يا محمد أن بيننا وبين كل سماء مسافة خمسمائة عام، وسمك كل سماء كذلك؟
وقال بعض الأصحاب يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ وقال بعضهم هل يجيب ربنا دعاءنا، وفي أي وقت ندعوه؟ فنزلت جوابا للكل.
وقد ذكرنا غير مرة أن لا مانع من تعدد الأسباب.
مطلب الدعاء وشروطه والجمع بين الآيات الثلاث فيه وشروط الإجابة:
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو قال توجه لخيبر أشرف على واد، فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيها الناس اربعوا (أرفقوا على أنفسكم) فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا قريبا وهو معكم. ورويا عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له. واعلم أن هذه الآية وآية (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الآية ١٠ من سورة المؤمن المارة في ج ٢ مطلقة وآية (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) الآية ٤٢ من الأنعام المارة في ج ٢ أيضا مقيدة، والمطلق بحمل على المقيد، فلا يقال دعوت فلم يستجب لي، لأن الله تعالى يجيب لمن يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، والإجابة غير الإعطاء، وهذا هو وجه الجمع بين الآيات الثلاث، تدبر. ومن شروط الإجابة أكل الحلال، والإنابة إلى الله، والإخلاص له بالعمل، والاعتقاد بالإجابة، وعدم التردد، وأن يكون عند الدعاء خاشعا خاضعا، وأن يبدأه بحمد الله والصلاة على رسوله، ويختمه بهما، ويذكر حاجته في الوسط، فالله أكرم من أن يردها ويقبل طرفيها، وقل أن توجد هذه الشروط في الداعي، حتى ان بعض العلماء اشترط في الدعاء عدم اللحن، وقال إن الله لا يقبل دعاء ملحونا، ويفقد هذه الشروط يكون التخلف في الإجابة، لأن من
134
لا يتصف بها لا يستحقها. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل بقوله دعوت فلم يستجب لي. ولمسلم:
لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل، قيل يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال يقول دعوت فلم يستجب لي فيستحسر، أي يستنكف عند ذلك ويدع الدعاء. ورويا عن أبي هريرة: إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن يعزم المسألة، فإن الله لا مكره له.
زاد البخاري ارزقني إن شئت يعزم المسألة فإن الله يفعل ما يشاء لا مكره له.
وقال صلّى الله عليه وسلم: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه. - أخرجه الترمذي- وأخرج أبو داود عن سلمان قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا (أي خالية يقال بيت صفر أي ليس فيه شيء) خاليتين. وأخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من الشر مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم إذا نكثر، قال، الله أكثر. أي أكثر إجابة إذا أكثرتم السؤال. وله عن أبي هريرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس شيء أكرم على الله من الدعاء. وله عن أنس: الدعاء مخ العبادة. وله عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية، وان الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وله عن سلمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا البر. وله عن أبي هريرة أنه قال: من لم يسأل الله يغضب عليه.
وقيل في معناه:
لا تسألن بنيّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
وله عن خفالة بن عبيد قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال النبي عجل هذا (أي لم يبدأ دعاءه بالحمد لله والصلاة على رسوله)
135
ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بما شاء. وقدمنا في الآيتين من الأنعام والمؤمن آنفا ما يتعلق بهذا أيضا فليراجع. قال تعالى «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ» ملامسة النساء ومباشرتهن، وهو كناية عن الجماع، لأن الله تعالى يكني عما يستقبح ذكره إشارة أو إيماء أو تعريضا بما يفهم منه المقصود تعليما لعباده ومراعاة للأدب في كل حال، وهذا الحل خاص «إِلى نِسائِكُمْ» اللاتي استحللتم مقاربتهن بكتاب الله تعالى «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» وذلك أن كلّا من الزوجين ستر للآخر عما لا يحل، كما جاء في الحديث: من تزوج فقد أحرز ثلثى دينه. ولهذا سمي كل منهما لباسا لصاحبه. وفي رواية: شطر دينة فليتق الله في الشطر الآخر. وروى البخاري ومسلم عن البراء قال: لما ينزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ» أي تأتون أهلكم خفية وسمي العاصي هنا خائنا مع أن الخائن هو الذي لا يؤدي الأمانة لأنه لا يؤتمن على دينه، وقد كان في بداية الإسلام إذا أفطر الرجل حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الأخيرة أو يرقد قبلها، ثم يحرم عليه كل ذلك إلى الليلة الأخرى، فوقع أن عمر الفاروق أتى أهله بعد هذا، فاغتسل وصار يبكي خشية من الله تعالى وهو لا تبكيه السيوف والأسنّة، فلم يقدر على كتم ما وقع منه في ذلك لصلابة دينه وعظيم يقينه، إلا أن ذكر ذلك لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم بحضور جماعة من الأصحاب اعترفوا بعده مثل اعترافه، وكان بعضهم لا يقرب أهله رمضان كله تحاشيا من الوقوع فيما لا يحل، قال ابن عباس فكان ذلك أي فعل عمر مما نفع الله به الناس ورخص لهم ويسر، فلما اعترفوا للرسول وتابوا تاب الله عليهم وختم الله رخصته لهم بقوله «فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ» ما وقع منكم ورفع ذلك عنكم بفضله «فَالْآنَ» أيها المؤمنون جميعكم «بَاشِرُوهُنَّ» في ليالي الصوم وغيرها، وسميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة الزوج بشرة زوجته «وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» في علمه من الولد، ولا تقتصروا في الجماع الى إخراج
136
الشهوة فقط وصيانة النفس من الوقوع في الحرام، بل اقصدوا الذرية أيضا، ثم أحل لهم الأكل والشرب الذي كانوا يعتقدون حرمته بعد العشاء أو النوم فقال جلّ قوله «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» أي بياض النهار من سواد الليل فنسخ الله ما كان متعارفا عندهم من أن الصيام من العشاء إلى العشاء لأنهما أكلتان الغداء سقط بالصوم وبقي العشاء فقط، ثم إن الله تعالى تصدق على أمة محمد فشرع لهم السحور بدل الغداء إلا أنه قدم عن وقته فهو من خصائص هذه الأمة. روى البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وان قيس بن حرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى أهله فقال أعندك طعام؟ قالت لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عنه فجاءته امرأته (وهو نائم) فقالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم فنزلت الآية فصاروا يأكلون ويشربون ويجامعون إلى أن يظهر بياض الفجر الصادق الذي هو كالخيط الأبيض الممتد في الأفق، أما الفجر الكاذب الذي يكون قبله مرتفعا مستطيلا في السماء لا معترضا بالأفق فليس بمانع من الأكل والشرب والجماع، فقد روى مسلم عن سمرة بن جندب قال: قال صلّى الله عليه وسلم لا يغرنكم في سحوركم أذان بلال (كان يؤذن بالسحر) ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا وبه يحرم على الصائم الأكل والشرب والجماع. وروى البخاري ومسلم عن سهل ابن سعد قال: لما نزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الآية
ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال (من عوام الصحابة) إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعده (مِنَ الْفَجْرِ) وقد أخرت من هذه الآية لهذا السبب. وليعلم أن ما ذكرنا من النسخ في هذا آنفا هو باعتبار ما كان عليه الناس في الجاهلية، وليس بالنسخ الذي يريده من قال به، لأن النسخ الذي يريده هو إبطال حكم سابق بنص لا حق، ومن المعلوم أن الله تعالى لم ينزل علينا في كتابه هذا حرمة الجماع والأكل والشرب على الصائمين بعد
137
العشاء أو في الليل حتى يقال إنه نسخ بهذه الآية، وعليه فلا معنى للنسخ ولا القول به هنا البتة كما هو الحال في الكعبة، لأن الله تعالى لم يأمرنا باستقبال البيت المقدس قبلا حتى يقال إنه نسخ استقباله بالأمر باستقبال الكعبة «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ» أيها الصائمون بعد غياب الشمس من المحل الذي أنتم فيه لأنها قد تكون طالعة في غيره بسبب ارتفاع حدبة الأرض، فهي دائما طالعة عند أناس، غائبة عند آخرين، وما جاء أن الأرض مفروشة أو مبسوطة أو ممهدة أو ممدودة من كل ما يدل على استوائها من الآيات فهو بالنظر لما نراه لا بالنسبة لما هي عليه من التكوين الإلهي، فالنملة لا شك ترى البيضة مستوية مبسوطة بالنسبة لصغرها وعظم البيضة، فنحن أصغر من النملة بالنسبة للأرض بملايين الكرات. هذا، ومن قال إن المراد بالليل طلوع النجم قول غير وجيه ينافيه معنى الغاية، وما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم، أي جاز له الفطر. والتصريح بقوله وغربت كاف في الدلالة على عدم صحة قول من فسر الليل بطلوع النجم، لأن السنة مفسرة لكلام الله تعالى، ولأن أول الشيء عينه، وغياب الشمس أول الليل، وعلى الصائم أن يحتاط لئلا يخطئ في الإفطار فيضيع صيامه، كما عليه أن يحفظ جوارحه من الآثام الظاهرة والباطنة كي ينال أجره تماما، قال أحمد عبيده:
تصوم عن الطعام ولا تبالي بصوم الطرف واليد واللسان
وان لكل جارحة صياما جزيل الأجر موصول الزمان
«وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ» أي النساء «وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ» لا ليلا ولا نهارا سواء كان في رمضان أو غيره صيّاما كنتم أو مفطرين، وقد أنزل الله تعالى هذه الجملة لئلا يتوهم أن حكم الاعتكاف كحكم الصوم يحرم نهارا على الصائم، ويحل ليلا، بل يحرم الجماع في الاعتكاف ليلا ونهارا، وذلك أن المعتكفين يخرجون من المسجد ليأتوا أهلهم ثمّ يغتسلون ويرجعون إليه. والحكم الشرعي في الاعتكاف هو سنة مطلقا، وسنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان،
138
وهو الإقامة في المسجد على عبادة الله تعالى، فإذا جلس يذكر الله تعالى في المسجد فهو معتكف، ولا يصح خارج المسجد، ولا يشترط له الصوم إلا أن الأفضل أن يكون صائما، وليس له زمان محدود فيصح ولو دقيقة واحدة، ويفسده الجماع، ويكره فيه القبلة ونحوها، ولا بأس في خروجه من المسجد لحاجته. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان.
ولعمري لقد كان السلف الصالح يعتكفون فيه جماعات ووحدانا فلا تجد مسجدا إلا وفيه المعتكفون عاكفين على ذكر الله، ويا للأسف لا تجد الآن إلا ما ندر ممن بشار إليهم بالبنان، وإن من لا خلاق له في الآخرة قد ينتقدونهم على ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله «تِلْكَ» الأحكام المبينة في الصوم والاعتكاف هي «حُدُودُ اللَّهِ» التي حذر قربانها ومنع من مخالفتها «فَلا تَقْرَبُوها» يا عباد الله، وهذا مبالغة في النهي عن إتيانها، لأنه إذا كان قربانها ممنوعا فكيف بفعلها حذار حذار عباد الله من ذلك. قال تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) الآية ١٤ من سورة النساء الآتية، وهناك آيات أخر في هذا المعنى تحذر من قربان حدود الله والتعدي عليها فلا تعتدوها أيها الناس. واعلم أن التوفيق بين القربان والاعتداء هو أن الأحكام منها ما هو محظور ومنها ما هو مباح وأقربها لهذه الآية (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) ففيها تحريم الجماع في الاعتكاف مطلقا، وفي الآية قبلها (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) النص على تحريم الأكل والشرب والجماع في النهار، ولما كان الأقرب فيها جانب التحريم قال (فَلا تَقْرَبُوها) وإن من كان في طاعة الله فهو في حيز الحق فنهى أن يتعداه لئلا يقع في حيز الباطل فنهى عن أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يقع في الباطل فهو كقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور، إلى أن قال: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. فنهى صلّى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن قربان الأمور المشتبهة حذرا من أن يقع في الحرام وحدود الله تعالى محارمه ومناهيه، فعليكم أيها الناس التباعد عنها لئلا تقعوا فيما ينهاكم عنه فتهلكوا «كَذلِكَ» مثل ما بين لكم تلك الأحكام «يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ» الدالة على معالم دينه وشعائر
139
شريعته وبراهين توحيده بيانا شافيا «لِلنَّاسِ» أجمع «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (١٨٧) ما حرم عليهم فيثابون بمجرد الامتثال.
مطلب أخذ أموال الناس باطلا والقضاء لا يحلل ولا يحرم ومعنى الأهلة وما كان في الجاهلية وأنه القتال الأولى:
قال تعالى «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ» ظلما بشهادة زور أو حلف يمين كاذبة «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (١٨٨) أنكم مبطلون في ذلك، كان ادعى لدى حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم ربيعة بن عدوان الحضرمي في أرض على امرئ القيس بن عابس الكندي، فقال له ألك بينة؟ قال لا، قال فك يمينه، فانطلق ليحلف، فقال صلّى الله عليه وسلم أما إن حلف على ما له ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض، فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية تلا عليه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا) الآية ٧٥ من آل عمران الآتية، فارتدع عن اليمين وسلم الأرض له. ولهذا البحث صلة في الآية المذكورة آنفا، والآية ٢٨ من سورة النساء الآتية أيضا. الحكم الشرعي: يحرم قطعا أكل مال الغير بغير حله ويستوجب فاعله العقاب سواء أكله غصبا أو قمارا أو بثمن خمر أو خنزير أو أجرة مغبنة أو رشوة، أو بأن يشهد زورا، أو كان أمانة فكتمها، أو وديعة فجحدها، أو غير ذلك. روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع جلبة (صوتا عاليا) خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصم منكم فلعلّ بعضهم أن يكون أبلغ من بعض. وفي رواية ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها.
فيفهم من هذا أن قضاء القاضي لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا لأنه يحكم بما يظهر له من الدعوى والشهادة لا بعلمه ولا بمجرد الدعوى، وكان القاضي شريح يفهم المحكوم له ويقول له إني لأظنك ظالما، ولكن لا يعني إلا أن أقضي بما حضرني من البينة، ألا فليحذر المدعون من ادعاء الباطل ومن إقامة شهود الزور لأخذ مال الغير ظلما بالقضاء، وليحذر المدعى عليهم من الإقدام على الحلف كاذبا
140
لهضم حق الغير الذي لا شاهد له إلا الله مع كونه عالما بأنه مدين له، فهي يمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهذا كلّه من معاني الإدلاء بالباطل إلى الحكام، أي النسبة إلى حكمهم، فهم لا يسألون عن أحكامهم إذا كانت موافقة لظاهر الشرع، وإنما يسأل المبطل، لأن الحاكم العدل ملزم بأن يحكم بالظاهر، والله تعالى يتولى السرائر، ولا تنطبق هذه الآية عليهم إلا في حال أخذ الرشوة، لأن فيها يكون الإدلاء إليهم، أجارنا الله ووقانا. روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها، فأبت فادعى عند علي كرم الله وجهه أنه زوجها وأقام البينة، فقالت المرأة لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح، فقال كرم الله وجهه قد زوجك الشاهدان وقد طلبت رحمها الله إجراء العقد بعد أن رأت الحكم عليها بالزوجية زورا لشدة تمسكها بدينها لتكون زوجة له بالوجه الشرعي، لأنها تزعم أن شهادة الزور لا تكفي، فأخبرها كرم الله وجهه أن شهادتهما بزوجيتها له كافية، وليس عليها إثم بمطاوعتها له، وإنما الإثم عليه وعلى الشهود، ولهذا ذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ به من العقود فهو نافذ ظاهرا وباطنا، ويكون كعقد عقداه بينهما، وإن كان الشهود زورا. وذهب فيمن ادعى حقا في يد رجل وأقام بينة تقتضي أنه له، وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح أخذه له، وأن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه، وحمل الحديث على ذلك، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه، لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع، وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه، لأن الإمام الأعظم رضي الله عنه وأرضاه يقول بذلك، ولكن فيما سمعت، وإذا أردت تفصيل هذه القضية فارجع إلى كتاب أدب القاضي تر فيه ما تقنع به. قال تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ» ما سبب زيادتها ونقصها وكبرها وصغرها «قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» أي لصومهم وإفطارهم وآجال ديونهم وإجارتهم ونذورهم والحيض والنفاس ومدة العدة والحمل وزمن الحج ووقته وغير ذلك، وهذا خلاف السؤال وهو من أنواع البديع في المخاطبات، لأنه تلقي السامع بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تبينها على أنه الأولى له
141
والأليق لحاله مما يتطلبه من اختلاف حال الهلال، وقد أفرد، تعالى الحج بالذكر مع أنه داخل في المواقيت، لأن العرب كانت تؤخر بعض الأشهر أحيانا كما أخبر الله عنهم بقوله (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية ٣٩ من التوبة الآتية، كان معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري سألا حضرة الرسول عن مبدأ الهلال يكون رفيعا ثم يزداد تدريجيا حتى يمتلىء نورا، ثم يتناقص كذلك حتى يعود كما بدأ، وقالوا له إن اليهود يسألوننا كثيرا عن هذا، وإن سؤال اليهود أصحاب الرسول بمثابة السؤال منه، لذلك جاء بضمير الجمع، فإن سؤالهم كان السبب والعلة، فأجابهم الله عن الغاية والحكمة لتعلقها بمعاملتهم، ومنه يفهم جواز إعطاء الجواب على خلاف السؤال نظرا للمصلحة، ويسمى أسلوب الحكيم، والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ذلك لتماسه بحاجتهم، لأن بيان سبب كبره وصغره وعلة ذلك بسبب حيلولة الأرض بينه وبين الشمس بعدا وقربا لا علاقة له بشيء من منافعهم، ولأن الأصحاب لا يعلمون علم الهيئة الموقوف معرفته على المكبرات والأرصاد والأدلة الفلسفية ولم يعتنوا به لعدم حاجتهم إليه في أمر الدين، ولو أن حضرة الرسول بين لهم ذلك فلعلهم لا يدركونه لا حتياجه لدقة فكر وبعد نظر في المعنى وتأمل بعيد، وعدم علمهم بذلك لا ينقص من قدرهم لأن علم الهيئة مبني على أمور لم تثبت بصورة جازمة، وما صنف بها من الكتب من قبل الفلاسفة وغيرهم، مبني على الظن
والتخمين والحسبان، ولذلك تجد أكثر أقوالهم متضاربة سواء الأولون والآخرون منهم، على أنه لا بأس يأخذ أقوالهم مما لا يخالف صراحة القرآن والسنة بالتأويل والتوفيق.
هذا، ولما بين الله تعالى لعباده ما يتعلق بالصيام وحل الأكل والجماع وتحريم أكل مال الغير بغير وجه شرعي مما كان معتادا في الجاهلية وفوائد تغير الأهلة بين لهم نوعا آخر كان متعارفا عندهم ويزعمون أن فيه قربة بأنه ليس بقربة لقوله عز قوله «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (١٨٩) روى البخاري ومسلم عن البراء قال: نزلت هذه الآية فينا فكانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت، فجاء رجل من الأنصار فدخل
142
من قبل بابه فكأنه عيّر بذلك، فنزلت. وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها، فنزلت. أي أن هذه العادة المتخذة قديما قبل الإسلام ليست من البر في شيء، وأن البرّ هو تقوى الله التي فيها الفوز والنجاة والأجر والثواب. قال تعالى «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ» أي يبدأونكم بالقتال ولا تبدأوهم أنتم بالقتال، ولهذا قال تعالى «وَلا تَعْتَدُوا» بأن تقاتلوهم توا أو تقاتلوا غيرهم أو أولادهم وشيوخهم ونساءهم ورهبانهم والمستسلمين منهم لما فيه من الاعتداء المبغوض «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (١٩٠) على أنفسهم وعلى غيرهم، كان الرسول في بداية الإسلام وإلى حد نزول هذه الآية منهيا عن القتال ومأمورا بمعاملتهم بالرفق واللين ليؤمن مؤمنهم ويصرّ كافرهم، ولما اضطروه إلى الهجرة واستقر به الحال في المدينة واجتمع عليه أصحابه ومن آمن من غيرهم، أمره جل شأنه بقتال من بدأه بالقتال أو من تحدّاه به مقابلة لا عداء ولا انتقاما، بقصد إعلاء كلمة الله تعالى وإظهار عزّة المؤمنين. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم من قاتل حتى تكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. أي أن كل ذلك المسئول عنه غير مطلوب ولا هو في سبيل الله، بل هو لإظهار الشجاعة. وليقال إنه يقاتل ويناضل، وهذه الآية محكمة لأن معناها قاتلوا الذين أعدوا أنفسهم لقتالكم لا غير ممن ذكر أولا ومما سيأتي ذكره في الحديث الثاني. وهذه أول آية نزلت في القتال بعد الآية ٣٩ من سورة الحج الآتية، لأنها نزلت قبل هذه، فراجعها تعلم السبب في ذلك، وبعدها وقعت غزوة بدر الأولى في ١٧ رمضان السنة الثانية من الهجرة.
روى مسلم عن بريدة قال: كأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو صرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال له اغزوا بالله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا (لا تخفوا شيئا من الغنائم) ولا تعتدوا (أي لا تقتلوا الشيوخ والمرضى والعجزى لأنهم لا يقاتلون) ولا تمثلوا (بأن تقطعوا آذان القتلى أو مذاكيرهم أو أنوفهم أو تشقوا بطونهم أو غير ذلك
143
مما يعد مثلة بنظر الناس) ولا تقتلوا وليدا. أي لأنه لا يقاتل، وهكذا النساء إذا كن لا يقاتلن فلا يجوز قتلهن. وقال بعض المفسرين إن هذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية، وعلله بأن الأصحاب خافت أن لا تفي قريش بالمعاهدة وكرهوا أن يقاتلوهم إذا صدوهم عن المسجد الحرام أو الحرم ليرفع عنهم الحرج إذا بدءوهم بالقتال، لكنه بعيد، لأن صلح الحديبية وقع في السنة السادسة، وهذه في السنة الثانية، إلا أنه لا مانع من تطبيق حكمها عليها، إذ يجوز أن تكون آية واحدة لأسباب كثيرة كما مر غير مرة.
قال تعالى «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» أي في أي مكان وجدتموهم وأدركتموهم، وذلك إذا لم ينجع معهم معاملة الرسول لهم باللطف وبدأوكم بالتعرض سواء قاتلوكم أم لا، لأن إقسارهم إياكم على الهجرة يعد تعرضا لقتالكم «وَأَخْرِجُوهُمْ» من ديارهم «مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ» من دياركم لأنهم كافرون مفتونون في دينهم «وَالْفِتْنَةُ» أي الشرك بالله، وإنما سمي فتنة لأن فيه فساد الأرض، ولأنه يؤدي إلى الظلم وجميع الشرور، لذلك عدّت «أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» أي أن قتلكم إياهم دون الكفر الذي هم عليه، لأنه مما يوجب التخليد بالنار، والقتل دون استحلال لا يوجب ذلك، والكفر يخرج صاحبه من الأمة، والقتل لا يخرجه، فثبت أن الفتنة التي هي الشرك بالله والكفر به أشد من القتل «وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ» لما كان مبدأ هذه الآية عام استثنى الله تعالى منه المقاتلة في المسجد الحرام بشرط أن لا يبدءوهم بالقتال فيه «فَإِنْ قاتَلُوكُمْ» فيه فقد زال الحرج عنكم «فَاقْتُلُوهُمْ» فيه أيضا «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء «جَزاءُ الْكافِرِينَ» (١٩١) لأن الجزاء من جنس العمل، ولأن الشر بالشر والبادي أظلم. وقال بعض المفسرين إن الفتنة هنا بمعنى الإخراج من الوطن لأنه أعظم المحن التي يفتتن بها الإنسان وهو أصعب من القتل على النفس لدوام تعبه وبقاء ألمه، وهو وجيه، لكن ما جرينا عليه أوجه، لأن الغربة مهما كانت شاقة على النفس فهي دون القتل الذي فيه عدم الإنسان فضلا عن بقاء أمل الرجوع إليه.
وهذه الآية تشير إلى حادثة الحديبية وهي التي ثبطت عزم الرسول صلّى الله عليه وسلم وصمم على
144
قتالهم فيها، وبقي هو وأصحابه عازمين جازمين على القتال حتى وقع الصلح بينهم، وهي من قبيل الإخبار بالغيب لأنها نزلت قبل واقعة الحديبية بأربع سنين، ولولاها لما قال صلّى الله عليه وسلم ما قاله في قصة الحديبية الآتية في سورة الممتحنة، وحرض أصحابه على قتالهم عند منعهم لعلهم عدم جواز القتال في المسجد وحرمته في زمن الجاهلية، ولهذا قال بعضهم إنها نزلت في صلح الحديبية، وفي نقضهم هذا الصلح وتعرضهم لأصحاب الرسول. وهذه الآية محكمة أيضا، لأنها تأمر بعدم حل القتال في المسجد إلا لمن قاتل فيه، ولا سند لمن قال بنسخها ونسخ التي قبلها. قال تعالى «فَإِنِ انْتَهَوْا» عن القتال وتركوا الشرك وآمنوا «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما سلف منهم «رَحِيمٌ» (١٩٢) بعباده الذين تابوا وأتابوا إليه بعد عتوهم وعنادهم، ومن رحمته عدم تعجيل عقوبتهم لهذه الغاية. ولما رأى حضرة الرسول أن إمهال المشركين والعفو عنهم واللطف بهم لا يزيدهم إلا كفرا وبغيا وطغيانا طلب من غير طلب أن لا يرضى من مثلهم إلا الإسلام أو القتل، وكان هذا التمني الذي خطر على قلب الرسول مما هو ثابت في علم الله ومقدر نزوله عليه أنزل الله تعالى «وَقاتِلُوهُمْ» أي المشركين، لأن أهل الكتاب عصمهم دينهم وكتابهم الذي فيه شرائع وأحكام إلهية يرجعون إليها وان غيروا أو بدّلوا بعضه، فأمهلهم الله تعالى حرمة لكتابهم وما تمسكوا به من الدين، إلا أنه تعالى إذلالا لهم أمر أخيرا بأخذ الجزية منهم كما سيأتي بعد لعلهم يتدبرون ما في كتبهم من الحق فيتبعونه ويؤمنون بمحمد والقرآن «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي أديموا قتالهم واستمروا عليه إلى أن لا يبقى شرك على وجه الأرض، لأن المشركين كفرة لا كتاب لهم كي يؤمل فيهم الرجوع إليه، ولأن بقاءهم على الشرك يزيد في طغيانهم وبغيهم وضررهم على المؤمنين، لأنهم مهما تركوا لا يرجى منهم الرجوع إلى الحق، إذ لا دين لهم يسوقهم على سلوك سبل الرشد، لذلك عليكم بهم حتى يمحو نور الإيمان ظلمة الشرك «وَيَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ» وحده فلا يعبد من دونه شيء «فَإِنِ انْتَهَوْا» عما هم عليه وأسلموا لله وآمنوا برسوله وكتابه «فَلا عُدْوانَ» عليهم
145
إذ لا يكون العدوان «إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» (١٩٣) منهم المصرين على كفرهم والذين تابوا وآمنوا فلا سبيل لكم عليهم لأنهم صاروا مثلكم. وهذه الآية محكمة أيضا لأنها في حكم آخر أشمل من الأول كما أن الأول أشمل مما قبله، ولهذا قال بعض المفسرين إن الأولى منسوخة بالثانية، والثانية منسوخة بآية (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) والثالثة هذه منسوخة بآية السيف الآتية، وهو قول ضعيف لا يعول عليه، لأن النسخ رفع الحكم، وهذه الآيات الثلاث حكمهن باق فلا معنى للقول بالنسخ، وغاية ما في الأمر أن يقال آية مطلقة وأخرى مقيدة، والقيد يخصص الشيء ولا يرفع حكمه، وإذا راجعت ما قدمناه في المقدمة والآية ١٠٧ المارة علمت أن لا ناسخ في كتاب الله هذا الناسخ لما قبله، ومن البعيد على الحكيم أن يتابع آيات تكون كل منها ناسخة الأخرى. قال تعالى «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ» لما كانت الجاهلية تحترم الأشهر الحرم فلا تقاتل فيها ولا تنتقم ممن قاتلها إذا وجدته فيها وقدرت على قتله أيضا تأثما، وبقيت هذه العادة مطردة عندهم إلى نزول هذه الآيات الثلاث دون أن يخرمها أحد، وقد أباح الله تعالى لهم قتال المشركين فيها خلافا لما كانوا عليه وآباؤهم من قبل، فلأجل أن لا يتأثموا من ذلك أنزل الله تعالى هذه الآية كالتفسير للآيات قبلها، أي إذا قاتلوكم بالشهر الحرام فلا تتأثموا من قتالهم فيه بل قاتلوهم فيه أيضا، لأن العداء يرد بمثله بأي مكان كان حرمة للنفس والمال. وقال أكثر المفسرين إنها نزلت في عمرة القضاء لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم خرجوا في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصدهم المشركون ووقع الصلح المشهور بالحديبية، ولما عاد في سنة سبع هو وأصحابه لقضاء تلك العمرة في شهر ذي القعدة أيضا أباح الله لهم في هذه الآية مقاتلتهم فيه إذا هم قاتلوهم كما قاتلوهم سنة ست وصدوهم عن البيت على أنه لم تقع مقاتلة بينهم، بل
وقع تلاحي وهو عبارة عن أخذ ورد وتهديد ووعيد في القتال ومنع من دخول مكة وشذوذ في المكالمة مما يؤدي إلى المقاتلة، وعلى فرض مقاتلتهم فقد أخبرهم الله تعالى في الآية الأولى بقوله (فقاتلوا الذين يقاتلونكم» لذلك فإن ما جرينا عليه أولى، ولأن عمرة القضاء هذه لم تكن عند نزول هذه الآية كما علمت من تاريخها.
146
مطلب المقابلة بالمثل وفضل العفو والإنفاق في سبيل الله والإحسان:
ثم قال تعالى «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» مساواة ومماثلة كما فسر بقوله «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ» بقتال أو غيره «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ» قابلوه بالاعتداء سواسية على حد قوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) الآية ٤٠ من الشورى في ج ٢، ولهذا سماء اعتداء «بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» فإن زدتم عليه فقد ظلمتم، وإن نقصتم فقد عفوتم وصفحتم، ولأن يخطىء الإنسان بالعفو أحسن من أن يخطىء في القصاص، لأنه إذا جاوز استيفاء حقه فقد ظلم كما أن الخطأ في التبرئة خير من الخطأ في الحكم لأنه مما يوجب التوفي منه والابتعاد عنه «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس من مجاوزة حقوقكم إلى ظلم الغير «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (١٩٤) الذين يراعون في أمورهم حدود الله وحقوق الناس، ولا يتعدون في الانتقام فهؤلاء يكونون في حراسة الله تعالى وهو يصلح شأنهم بالنصر والتمكين، وإنما جمع الحرمات لأن القتال قد يجتمع فيه حرمات ثلاث حرمة الشهر إذا كان من الأشهر الحرم وحرمة البلد إذا كان في مكة وحرمة المتقاتلين إذا كانوا محرمين، أي إذا قاتلوكم في إحدى هذه الحالات الثلاث، أو حال اجتماعها، فقاتلوهم أنتم أيضا، لأن مقاتلتكم قصاص لمقاتلتهم، ولا إثم عليكم في ذلك. هذا، ولما أمر الله تعالى بالجهاد وكان أهم لوازمه المال أنزل الله جل شأنه «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي الجهاد والإنفاق صرف المال في وجوه البر، وأحسن أنواعه الجهاد ولا سيما عند الحاجة مثل ذلك الوقت، والذي يخصص المراد بهذا الإنفاق للجهاد مجيء هذه الآية بعد ذكره، على أنه مطلوب في الجهاد وغيره، ولكنه في الجهاد وزمن الحاجة أفضل وأكثر أجرا. والمراد بقوله جل قوله «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» التي هي التمسك بالأموال وترك الغزو في سبيل الله وعدم معاونة الغزاة بالمال لأنه يسبب تسلط العدو عليكم وإهلاككم. روى البخاري، ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات.
وأخرج الترمذي والنسائي عن خزيم بن فانك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أنفق
147
نفقة في سبيل الله كتب له سبعمئة ضعف. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق وروى البخاري عن حذيفة قال: أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
قال نزلت في النفقة، أي لا تمسكوا عن الإنفاق خوف الفقر فتقولوا إن أنفقنا يذهب مالنا ونهلك، بل أنفقوا «وَأَحْسِنُوا» في الإنفاق والجهاد وغيره ولا تسرفوا بالنفقة ولا تبخلوا فتقتروا فيها على أنفسكم ومن تلزمكم نفقته الأقرب فالأقرب، لأنه صلة ونفقة وصدقة، ثم الأبعد فالأبعد عن طيب نفس وانشراح صدر، وهذا هو معنى الإحسان بالنفقة «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ١٩٥» ويزيدهم من فضله ويثيبهم على إحسانهم. روى سلمة عن أسلم بن عمران قال كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفّا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس سبحان الله يلقي بنفسه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال أيها الناس إنكم تؤولون هذه الاية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لمّا أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصريه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه هذه الآية يردّ علينا ما قلنا، وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم في أصل صور قسطنطينة، فهم يتبركون في قبره فيزورونه احتراما، ويستشفعون به إلى الله في حوائجهم ويستسقون به حتى الآن، رحمه الله رحمة واسعة. قال تعالى «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» بأن تأتوا بجميع أركانها وشروطها وواجباتها وسننها ومندوباتها وتجتنبوا مكروهاتها وتبدءوها بالمال الحلال والنيّة الخالصة، وتختموها بالعزم على اجتناب ما نهى الله عنه وتكملوها «لِلَّهِ» وحده لا لسمعة ولا لرياء ولا لتجارة محضة. واعلم أن أركان الحج خمسة: الإحرام من المحل المعروف كرابغ والجحفة مثلا، والوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة جزءا من النهار وجزءا
148
من ليلة النحر، والطواف بالبيت للزيارة، والسعي بين الصفا والمروة، وحلق الرأس أو تقصيره. وأركان العمرة أربعة: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، وبهذه يتم كل من الحج والعمرة إذا لم يعقكم عائق «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ» ومنعتم من قبل عدو أو وحش أو حبس أو مرض أو عرضت لكم حاجة لا غنى لكم عنها تمنعكم من الحج أو من إكماله أو نفدت نفقتكم أو ضاعت ولم تجدوا من تستدينون منه فتحللتم من حجكم وعمرتكم «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» عليكم وهو شاة لأن أعلى الهدي بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة يذبحها في المحل الذي أحصر فيه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية فيها، ولما أخرج البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحلق رأسه هناك. وقال أبو حنيفة:
يبعث بالهدي إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك على وقت مخصوص، حتى إذا غلب ظنه على وصوله يحل في ذلك استدلالا بقوله تعالى «وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» الذي يجب أن يذبح فيه عادة. وقال الشافعي وأحمد ومالك: يذبحه حيث أحصر مستدلين بما تقدم. وهذا إرشاد من الله تعالى إلى عباده لتدارك ما قد يعتريهم من العوارض المتوقعة المخلة بالحج، ومنها ما جاء في قوله «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً» وهذا بيان حكم الإخلال بنوع آخر غير الإحصار كجراح وبالأخرى كل ما يتوجع منه بدليل قوله «أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ» كصداع ودوخة أو قمل وغيره واحتاج إلى الحلق حال الإحرام فحلق رأسه «فَفِدْيَةٌ» عليه جزاء ذلك «مِنْ صِيامٍ» أقله ثلاثة أيام «أَوْ صَدَقَةٍ» أقلها إطعام عشرة مساكين كل واحد نصف صاع «أَوْ نُسُكٍ» ذبيحة أقله شاة، وأو هنا للتخيير فيفعل أيها شاء وهو الفدية التي يريدها الله تعالى وكل هدي أو إطعام يلزم المحرم فهو لمساكين الحرم إلا هدي المحصر فلأهل المحل الذي أحصر فيه على أحد القولين المتقدمين، روى البخاري، ومسلم عن كعب بن عجرة قال:
أتى عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر لي والقمل يتناثر على وجهي، فقال أيؤذيك هوام رأسك؟ قال قلت نعم يا رسول الله، قال فاحلق وصم ثلاثة
149
أيام وأطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة، لا أدري بأي ذلك بدأ. وفي رواية قال فيّ نزلت هذه الآية «فَإِذا أَمِنْتُمْ» من خوفكم وبرئتم من مرضكم وزال مانعكم من الإحصار الذي عاقكم «فَمَنْ تَمَتَّعَ» انتفع بالتقرب إلى الله تعالى «بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ» أي قبل انتفاعه بتقربه بالحج في أشهره أو من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج مجددا.
وهذا حكم آخر لغير المحصور إذا أراد التمتع وهو الإحرام أولا بالعمرة، وبعد أن يكملها يتحلل ثم يحرم بالحج «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» عليه أي شاة، ويسمى هذا الهدي هدي المتعة «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» هديا يذبحه لضيق ذات يده «فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» عليه «فِي الْحَجِّ» في وقته وأشهره بين إحرام العمرة وإحرام الحج، والأحب أن يصوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة، وإن شاء فرقها، ولا يصح صوم يوم النحر ولا أيام التشريق «وَسَبْعَةٍ» أيام عليه أيضا «إِذا رَجَعْتُمْ» نفرتم وفرغتم من أعمال الحج. ولما كان النفر أو الفراغ سببا للرجوع أطلق الرجوع عليها على طريق إطلاق المسبب وإرادة السبب الخاص وهو النفر والفراغ، وله أن يصوما بعد الرجوع إلى أهله «تِلْكَ» الثلاثة أيام والسبعة «عَشَرَةٌ كامِلَةٌ» قائمة مقام الهدي الذي لزمكم ذبحه بسبب تحليلكم الإحرام بين العمرة والحج «ذلِكَ» الحكم الذي بيّن خاصّ «لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» لأن أهله وأهل مكة وما يشتمل عليها من المواقيت إذا تمتعوا أو قرنوا فلا هدي عليهم، لأنهم لا يجب عليهم الإحرام من الميقات كسائر أهل المدن الأخرى، لهذا فإن إقدامهم على التمتع لا يوجب خلال في حجهم، بل هذا على أهل الأرياف والبلاد الخارجة عن حدود الحرم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فيما يأمركم وينهاكم عنه في الحج وغيره «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ١٩٦» على من تهاون بحدوده وخالف أوامره، ومن علم أنه كذلك صده علمه عن كل ما نهى الله عنه، وقد جاء لفظ الجلالة مع اكتفاء الإشارة إليه بالضمير لتقدم ذكره، لإدخال الروعة على من تحدثه نفسه بالمخالفة، ولتربية المهابة في قلب غيره، ولإلهاب قلوب الطائعين للإخلاص بطاعته. قال تعالى «الْحَجُّ
150
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ»
مبدؤها شوال وذو القعدة، ومنتهاها اليوم العاشر من ذي الحجة، وكماله الثالث عشر منه، وجمعت الأشهر، مع أن أقل الجمع ثلاث، وهنا شهران وبعض الثالث، لأن الشهر الذي أوله من أشهر الحج فآخره كذلك، لأن الحاج لا يرجع إلى أهله قبل نهايته غالبا لاشتغاله بالزيارة، أو لأن اسم الجمع يطلق على ما وراء الواحد، قال تعالى (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) الآية ٥ من سورة التحريم الآتية، وقال تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية ٤٦ من سورة النمل في ج ١ وفيهما ما يرشدك لمثله، على أن السفر سيكون بالطائرات المحدثة، وعليه قد يكون الحج والزيارة بأسبوع واحد، والله أعلم. وجاء في الآية الأولى (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أي الأهلة بلفظ عام، وهذه الآية بلفظ خاص، والخاص مقدم ومفسر له، وتفيد هذه الجملة أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر المذكورة، لأن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح، فالخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها قائمة مقام الركعتين من الظهر حكما، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة قبل وقته أولى، ولأن الإحرام لا يبقى صحيحا لأداء الحج إذا ذهب وقته، فلأن لا ينعقد قبل الوقت أولى، لأن البقاء أسهل من الابتداء، ولا يرد قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) هنا، لأن هذه الآية أخصّ منها، تدبر. واعلم أن الله تعالى فرض الحج على هذه الأمة دون غيرها واختلف في زمن فرضه والصحيح أنه سنة ست من الهجرة كما ذكره الطحاوي في حاشيته على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح.
مطلب في المحافظة على الأدب في الحج ولزوم التقوى فيه وجواز البيع والشراء في الموسم ودوام ذكر الله تعالى:
هذا، وما قاله تعالى «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ» بأن ألزم نفسه به بالنية والإحرام لزمه الحج، أما إذا فرض على نفسه الحج في غيرها بأن نوى أو أحرم فلا يلزمه، لأنه في غير وقته، ومن ألزم نفسه الحج فيها «فَلا رَفَثَ» أي يجب عليه أن لا يرفث، وهو هنا كناية عن ذكر الجماع ودواعيه في محضر النساء «وَلا فُسُوقَ» أي خروج عن طاعة الله فيدخل النهى في هذه الكلمة عن جميع المعاصي
151
«وَلا جِدالَ» مخاصمة مطلقة في قليل أو كثير بسبب وبلا سبب لإطلاق النهي عنها «فِي الْحَجِّ» في زمنه كله ومكانه جميعه، لأن الذنوب تضاعف هناك، كما أن الحسنات تضاعف أيضا لما ورد أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه. «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ» ويثيبكم عليه وفي هذه الجملة حث الحاج على عمل الخير وتحذير شديد من فعل الشر، وفيها إرشاد إلى البر والوفاق والآداب الحسنة والأخلاق العالية، وإيماء بملاطفة الغير ولين الجانب، وإشارة إلى اجتناب جميع ما يعد شيئا، والإقدام على سائر ما يعد حسنا ورمز عن التباعد عن كل ما لا يرضى الله به، وفعل ما رغّب فيه، بدلالة قوله «وَتَزَوَّدُوا» عباد الله من أعمال الخير والأفعال الصالحة ومن النفقة أيضا لإطعام المحتاجين والبائسين والتصدق على الفقراء والمساكين، واحذروا أن تقصروا في حمل النفقة لأنفسكم على الأقل بما يكفيكم لذهابكم وإيابكم لئلا تكونوا عالة على غيركم، لأن الله لم يكلّف غير المستطيع إلى زيارة حرمه، وكما يطلب التزود من الحاج في الزاد يطلب منه التزود في عمل الخير «فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» عن كل محظور، ومنه التثقيل على الناس بالاستطعام وخير الزاد الموصل إلى العبادة في الدنيا والآخرة. وبعد أن حث جل شأنه على البر الشامل إثر تحذيره عن الشر العام أرشد عباده بأن يكون قصدهم بحجهم وعملهم ونفقتهم رضاه فقال «وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ» (١٧٩) خصهم بالذكر لأنهم يعلمون حقائق الأمور، قال الأعشى في هذا المعنى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقال الآخر:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ندمت على التفريط في زمن البذر
قال تعالى «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ» حرج ولا إثم أيها الحاج «أَنْ تَبْتَغُوا» بأن تتجروا فتبيعوا وتشتروا فتستفيدوا «فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» رزقا
152
وريحا في مواسم الحج، روى البخاري عن ابن عباس قال كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا أن يتجروا في المواسم كما كانوا قبلا فنزلت هذه الآية. الحكم الشرعي: تباع التجارة في موسم الحج إن لم تحدث نقصا في أعماله، والأولى تركها لغير المحتاج ليتجرّد للعبادة. فيا أيها المؤمنون إذا أحرمتم ودخلتم مكة شرفها الله وطفتم طواف القدوم وخرجتم إلى عرفات يقول الله تعالى لكم «فَإِذا أَفَضْتُمْ» دفعتم ونفرتم بعد إكمال وقوفكم «مِنْ عَرَفاتٍ» بأن وجدتم فيها في جزء من نهارها وجزء من ليلة العيد، لأن أول الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة، وآخره طلوع الفجر من يوم النحر، ووقت الإفاضة من المزدلفة من بعد غروب شمس يوم عرفه إلى طلوع فجر يوم النحر، ويؤخر صلاد المغرب بسبب الازدحام وقت النفر ليجمعها مع صلاة العشاء بالمزدلفة، كما أنه يقدم عصر يوم عرفه فيصله مع ظهره بسبب الانشغال بالخطّ والترحال، ولا يجوز الجمع في غير هذين الوقتين في مذهب أبي حنيفة، إذ لم يثبت عنده في غيرهما، خلافا للإمام الشافعي إذ يجوز عنده لجمع تقديما وتأخيرا، مطلقا في السفر وفي الحضر لمرض أو لحاجة ماسة كالخوف والمطر، ولكل وجهة، روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: دفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب (بين مزدلفة وعرفات) نزل قبال ثم توضّأ (أي استنجى) ولم يسبغ الوضوء، فقلت الصلاة يا رسول الله، فقال الصلاة أمامك، ثم ركب، فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلّى المغرب ثم أناخ كلّ إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء، فصلّى ولم يصل بينهما شيئا. وجواب إذا الشرطية «فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ» في المزدلفة وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمى عرفة إلى وادي محسر، والمأزمان والوادي ليسا من المشعر الحرام، وسميت مزدلفة لأن الناس ينزلونها زلف الليل أي أوائله، وتسمى جمعا لأنهم يجمعون فيها المغرب والعشاء، وهذه التسمية الأخيرة بعد الإسلام إذ لا صلاة قبله تجمع فيه. والمأزمان هما المضيق بين جمع وعرفة، ويوجد مأزمان أيضا بين مكة ومنى، والمراد الأولان، وكل مضيق يطلق عليه مأزم. والمراد
153
بذكر الله تعالى دوام الدعاء بالتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. روى البخاري عن ابن عمرو بن ميمون قال: قال عمر كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع أي المزدلفة حتى تطلع الشمس، وكانوا يقولون أشرق بثير (جبل بمكة تشرق عليه الشمس فيرونها عليه من المزدلفة ويقولون بعده حتى نغير أن ندفع إلى النحر) فخالفهم النبي صلّى الله عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن أسامة بن زيد كان رديف النبي صلّى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، وكلاهما قال لم يزل النبي صلّى الله عليه وسلم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة.
وروى جابر عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما صلّى الفجر بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام (وهو جبل يقف عليه الإمام ويسمى قزح) دعا فيه، كبر وهلل، ولم يزل واقفا حتى أسفر الفجر «وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ» لدينه الحق وشرعه الصدق ومناسك حجه، وأكثروا من الدعاء والتكبير والتهليل «وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ» قبل هدى الله لكم على يد رسوله «لَمِنَ الضَّالِّينَ» (٩٨١) عن طريق السداد تائهين في سبيل العناد، ثم ألمع إلى وجوب الوقوف بعرفات، فقال جل قوله «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ» من عرفات، وقد أشار إلى الوقوف بمزدلفة أيضا، إلا أنه ليس على طريق الوجوب وجيء بثم لتفاوت ما بين الإفاضتين، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:
كانت قريش ومن دان بدينها يقعون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس (لتشددهم في دينهم) وكانت سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات فيقف فيها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا)، وروى البخاري ومسلم عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سئل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع، قال كان يسير العنق (نوع من السير أشد من المشي) فإذا وجد فجوة (فرجة) نصّ أي أسرع في مشيه بأقصى وسع ناقته. وروى البخاري عن ابن عباس أنه دفع مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلّى الله عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع (السير السريع الشديد)
154
«وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ» من جميع ذنوبكم ومما خلاف الأولى أيضا «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لعباده «رَحِيمٌ ١٩٩» بهم يريد لهم الخير والنجاح في أمورهم كلها، وهذه بشارة من الله تعالى للحجاج بقبول حجهم وغفران ذنوبهم. قال تعالى «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ» المارة كلها ورميتم جمرة العقبة وذبحتم نسككم واستقريتم في منى.
وصدر هذه الآية شرط جوابه «فَاذْكُرُوا اللَّهَ» بمثل ما تقدم عند التلبية فإنها تنتهي هناك، لأن الحاج لا يزال يلبي من حين يحرم حتى يذبح، ثم أرشدهم لأن يبالغوا في ذكره بقوله جل قوله «كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» في الجاهلية «أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» من ذكرهم لأن الله أحق أن يكثر من ذكره، وكان الجاهليون يقفون في منى بين المسجد والجبل فيذكرون آباءهم ومفاخرهم ومآثرهم وفضائلهم ومحاسنهم وجميع مناقبهم كالكرم والشجاعة وإقراء الضيف ومحافظة الجار وسعة البيوت وكثرة العطاء نثرا وشعرا بما أوتوا من فصاحة وبلاغة، لرفع الصيت والشهرة وإظهار الرفعة بين الناس، فأمرهم الله تعالى في هذه الآية أن يبدلوا ذكر آبائهم بذكره، لأنه هو المنعم عليهم وعلى آبائهم، وهو أحق بالذكر والشكر من آبائهم.
«فَمِنَ النَّاسِ» الحجاج المشركين «مَنْ يَقُولُ» في ذلك الموقف «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا» زدنا من حطامها «وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ٢٠٠» حظ ولا نصيب لأنهم ينكرون وجودها، روى البخاري عن أبي هريرة قال:
قال صلّى الله عليه وسلم تعس (دعاء بالهلاك وهو الوقوع على الوجه من العثار) عبد الدنيا عبد الدرهم عبد الخميصة (ثوب فمن خزّ معلّم) إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس (وقع على رأسه وخاب وخسر) وإذا شيك (أصابته شوكة) فلا انتقش (لا أخرجت منه شوكة لأن الانتقاش إخراج الشوكة بالنقاش).
«وَمِنْهُمْ» يعني الحجاج المؤمنين «مَنْ يَقُولُ» في دعائه «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» بأن تزيدنا من خيرها «وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» بأن تزيدنا من ثوابها لعلمهم أنهم قادمون عليها «وَقِنا عَذابَ النَّارِ ٢٠١» في الآخرة لأنا موقنون بك وبرجوعنا إليها «أُولئِكَ» الطالبون خيري الدنيا والآخرة «لَهُمْ نَصِيبٌ» حظ وافر عظيم، لأن تنوين التنكير يدل على كبر ذلك النصيب «مِمَّا كَسَبُوا»
155
فيها من الخير، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فكلما ربحوا في الدنيا من البرّ ضوعف لهم أجره في الآخرة «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ٢٠٢» لا يعوقه محاسبة ناس عن أناس يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة شخص واحد. وتشير هذه الآية إلى قرب الآخرة، لأن كل آت قريب، وكل ماض بعيد فبادروا أيها الناس بالأعمال الصالحة وأكثروا من الدعاء فإنكم محاسبون على أعمالكم، لأنه لا يخفى عليه شيء منها، وأن ما كان وما سيكون مدون في علمه، وأن حسابه كلمح البصر لا يحتاج إلى عقد يد أو جرّة قلم أو روية فكر، ولا يشغله شأن عن شأن، روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة. وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ قال نعم. كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه، أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال فدعا الله به فشفاه. ورويا عنه أيضا قال: كان أكثر دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وقد قسم الله تعالى الناس في هاتين الآيتين إلى قسمين، فعليك أيها العاقل أن تكون من الثاني فقيه الخير أجمع. قال تعالى «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ» أي يوم النحر وأيام التشريق الأربعة، وسميت بذلك لأن الأول تنحر فيه الذبائح والتي بعده يشرقون فيها لحومها وينشرونها على مواقع الشمس لتيبس. روى مسلم عن نبيشه الهذلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر، ومن الذكر في هذه الأيام التكبير وروى البخاري عن ابن عمر أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا. وأجمع العلماء على أن المراد التكبير عند رمي الجمرات في منى بأن يكبر مع كل حصاة يرميها في أيام التشريق، وأجمعوا على أن التكبير في عيد الأضحى وأيام التشريق سنة أدبار الصلوات وأوله من صبح يوم عرفة إلى عصر اليوم الخامس، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك، ثم خيرهم الله تعالى بين التعجيل
156
والتأخير إذا كان الغرض صحيحا بقوله عز قوله «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ» لأن الواجب أن يبيت الحاج في منى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق فقط ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة عند كل جمرة سبع، وبعد الرمي في اليوم الثاني إذا أراد أن ينفر من منى «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» وهذا يسمى النفر الأول «وَمَنْ تَأَخَّرَ» إلى النفر الثاني فبات الليلة الثالثة من أيام التشريق في منى وأكمل الرمي فيه «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» ولا حرج، وإنما قال لا إثم عليه هنا مع أنه أكمل حالا من الصورة الأولى المرخص بها دفعا لما يخطر بباله أنه إذا لم يأخذ بالرخصة يأثم، فأزال الله تعالى تلك الشبهة بقوله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) والذي تعجل لا إثم عليه لأنه أخذ بالرخصة، ومن يأخذ بالرخصة لا عتاب عليه لعدم أخذه بالعزيمة، لأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وهذا التخيير وففي الإثم «لِمَنِ اتَّقى» الله في حجه، وإنما يتقبل الله من المتقين، أما من كان ملوّثا بالمعاصي حين اشتغاله بالحج فلا ينفعه حجه تعجّل أو تأخر، لأن تأديته ظاهرا لا تكفي عند الله. وقيل إن أهل الجاهلية منهم من يقول يأثم المتعجل، ومنهم من يقول يأثم المتأخر، فجاء فضل الله بنفي الإثم عن الفريقين، ولذلك قال لمن اتقى، لأن الجاهليين لا يتقون الله. ثم حثّ على التقوى فقال «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في كل أقوالكم وأعمالكم وأحوالكم وأفعالكم قبل الحج وبعده لأنها الدليل الظاهر على قبول الأعمال، قالوا إن الحاج إذا لم تحسن حالته الدينية ومعاملته مع أهله والناس أجمعين بعد حجه فهو دليل على عدم قبوله حفظنا الله من ذلك، وحسن أحوالنا الظاهرة والباطنة. ثم هددهم بقوله جل قوله «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٢٠٣» حتما فيجازيكم على أعمالكم كلها حتى نياتكم لأن من علم أنه يبعث ويعاقب ويحاسب ويثاب لا بد أن يلازم التقوى التي أكدها الله تعالى بعد ذكرها مرتين. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» لأنه يظهر لهم من المودة والصدق خلاف ما يبطن من البغض والكيد والكذب نفاقا «وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ» من قوله للرسول وأصحابه أنه مؤمن يحب المؤمنين «وَهُوَ» والحال أنه «أَلَدُّ الْخِصامِ ٢٠٤»
157
لهم في الباطل شديد المجادلة في النفاق. روى البخاري ومسلم عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم «وَإِذا تَوَلَّى» هذا الصنف من المنافقين وأعرض عنك وعن أصحابك يا سيد الرسل ورأى نفسه بحالة لم يشاهده فيها أحد من المؤمنين «سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها» يقطع الطريق ويسلب المارة ويشهد الزور ويحرض على المؤمنين «وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ» بالتسبب إلى إتلافه «وَالنَّسْلَ» بالقتل والتعطيل «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ٢٠٥» ولا يرضى به، وفي هذه الجملة إشارة إلى شدة عداوة هذا الصنف من المنافقين إلى المؤمنين وإلى الدين الحق وإيذان في كذبه في دعواه تلك، وقد استنبط بعض العلماء ومنهم الحنابلة من هذه الآية لزوم التحقيق على من يتولى القضاء والشهادة، وأن لا يغر بظاهر حالهما فلعلهما من هذا الصنف. واعلم أنه لا يقال من هنا إن المحبة هي
الإرادة، لأن الإرادة غير المحبة، لأن الإنسان قد يريد الشيء ولا يحبه، بدليل تناول الدواء المر لا عن محبة له ولا رغبة فيه، وعليه فلا دليل في هذه الآية لمن ادعى أن المحبه عين الإرادة، تدبر. قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُ» لذلك النوع من الناس على نهج العظة والنصيحة «اتَّقِ اللَّهَ» واترك ما أنت عليه من هذه الحال الخبيثة والعادة القبيحة «أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ» حملته المنعة والأنفة والتكبر والحمية الجاهلية والأنانية النفسية والعجب والتيه «بِالْإِثْمِ» على دوام فعله والزيادة منه لجاجا وعنادا وعتوا، ولم يلتفت إلى النهي الموجه إليه «فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ ٢٠٦» الفرش، قال ابن مسعود: إن من أكبر الذنوب عند الله تعالى أن يقال للعبد اتق الله فيقول عليك بنفسك، وقيل لعمر اتق الله فوضع خده على الأرض تواضعا لله تعالى. وسبب نزول هذه الآية أن الأخنس بن شريق خليف بني زهرة، وسمي الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال الكفرة مع حضرة الرسول وأشار عليهم بالرجوع قائلا لهم إن محمدا ابن أختكم فإن يك كاذبا كفاكموه الناس، وإن يك صادقا كنتم أسعد الناس بعد فقالوا نعم ما رأيت، وكان يظهر إلى الرسول المحبة ويبطن البغض وهو لين الكلام منافق قاسي القلب. وقد ذكرنا في الآية ١٩٨ المارة أن حادثة بدر وقعت في
158
١٧ رمضان السنة الثانية من الهجرة إلا أن الله تعالى لم يشر إليها عند وقوعها، وإنما أشار إليها في سورة الأنفال عند قوله تعالى (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) في الآية ٥ منها وسنأتي على القصة هناك إن شاء الله، وهكذا فإنه تعالى تارة ينوه بالشيء قبل وقوعه وطورا عند حدوثه ومرة بعد وقوعه بقليل وأخرى بكثير.
قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ» يبيعها «ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» لا لشيء آخر بل ليستجلب لها رضاء الله ورأفته «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ٢٠٧» أمثال هؤلاء، وهذه الجملة تقرير لما تقدم لأنه كلفهم بالتقوى وعرضهم للثواب ليصب رحمته عليهم، وقد ذكرنا فى الآية ١٤٣ المارة أن الرأفة رحمة خاصة يلطف بها على خواص عباده عطفاء عليهم.
مطلب مقتل زيد بن الدثنة وخبيب الأنصاري وإظهار حبهم لحضرة الرسول والصلاة عند القتل وقصة صهيب:
وسبب نزول هذه الآية أن كفار قريش طلبوا من حضرة الرسول أن يبعث لهم من أصحابه من يعلمهم أمر دينهم بحجة أنهم أسلموا، فبعث لهم خبيب بن عدي الأنصاري وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق ومرشد بن أبي مرشد الغنوي وخالد ابن بكر وعبيد الله بن طارق بن شهاب البلوي وثلاثة آخرين لم نتصل بأسمائهم، وأمرّ عليهم عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب حتى صاروا في الفدفد (موضع بين عسفان ومكة وهو الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع) فتبعهم جماعة من بني لحيان بن هذيل، فلما أدركوهم أعطوهم العهد، ثم نكثوا بهم فقتلوهم إلا خبيبا وزيدا فقد أوصلوهما إلى مكة، فباعوا خبيبا إلى بني الحارث بن عامر ابن نوفل لأنه كان قتل أباهم الحارث في حادثة بدر، وباعوا زيد بن الدثنة إلى صفوان بن أمية بن خلف ليقتله بأبيه أيضا، فأرسله مع مولاه إلى التنعيم ليقتله في الحل واجتمع حوله رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له عند ما قدموه إلى القتل أنشدك الله أتحب أن محمدا عندنا الآن هنا بمكانك وأنت في أهلك فقال والله ما أحب أن يصيب محمدا شوكة وهو في مكانه والذي هو فيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب محمد من أصحابه،
159
ثم قتله فسطاط مولى صفوان المذكور، ولما قدم خبيب إلى الصلب استأذن فصلّى ركعتين قبل قتله وقال لولا أنكم تظنون أني جزعت من الموت لزدت في صلاتي، ثم قتله عقبة بن الحارث بيده، وهو أول من سن الصلاة عند القتل، وقال قبل قتله: اللهم لا أجد من يبلغ سلامي لرسولك فأبلغه سلامي، ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شقّ كان في الله مضجعي
وفي رواية: مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزّع
أي مفرّق، والشلو العضو من الإنسان، قالت بنت الحارث: لما كان خبيبا موثقا في البيت استعار مني موسى ليستحد به (يزيل شعر عانته لئلا يعيروه بعد صلبه وكانت هذه عادة عندهم فكل من يعرف أنه يقتل صلبا يفعل ذلك) قالت فدرج إليه غلامي فوضعه على فخذه، ففزعت، فقال أتخشين أن أقتله لأني مقتول، لا إن شاء الله، فصارت تقول ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب، ولقد رأيته يأكل من قطف وما بمكة يومئذ تمرة، وما هو إلّا رزق ساقه الله إليه. وهذا من نوع الكرامة التي أكرم الله بها مريم بنت عمران رضي الله عنهما، ولما بلغ محمدا صلّى الله عليه وسلم ذلك قال لأصحابه: أيكم ينزل خبيبا من خشبته وله الجنة؟ وذلك أنهم بعد أن قتلوه صلبوه تشهيرا، وكان ذلك من عادتهم، ولهذا فإن الحجاج لما قتل ابن الزبير صلبه وأبقاه حتى جاءت أمه وقالت أما آن لهذا الفارس أن يترجّل؟
لأن الحجاج عليه ما يستحق حلف لا ينزله من المصلبة حتى تشفع فيه أمه، وقد أبت أن تشفع به أو ترجو إنزاله، ولما نقل إليه قولها هذا قال أنزلوه فإن قولها ذلك بمنزلة الاستشفاع به. فقال الزبير بن العوام أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود فطفقا يمشيان الليل ويركنان النهار حتى أتيا التنعيم ليلا فرأيا خبيبا معلقا وحوله أربعون من المشركين نيام سكارى، فأنزلاه، فإذا هو رطب يتثنى ويده على جراحته لم يتغير، فحمله الزبير على فرسه تنفّس جراحته دما كريح المسك، وسارا به نحو المدينة، فلما حس المشركون ولم يروه أخبروا قريشا، فلحق بهما سبعون فارسا فقذفه الزبير عن فرسه والتفت إليهم، فقال ما بالكم أنا الزبير بن صفية بنت
160
عبد المطلب، وهذا المقداد بن الأسود أسدان ضاريان يدفعان عن أشبالهما، فإن شئتم ناضلناكم، وإن شئتم نازلناكم، وإن شئتم انصرفتم، فنظروا فلم يجدوا معهم خبيبا، فرجعوا ثم إنهما تحريا جثة خبيب فلم يجداها، فسمي البليع أي الذي ابتلعته الأرض، وقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبراه، قالا وكان عنده جبريل يقول له يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك، وأنزل الله فيهما هذه الآية لأنهما باعا أنفسهما في طاعة رسول الله طلبا لرضاء الله، والحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة لا يختلف في المعنى عن هذا، غير أن المذكورين كان أرسلهما رسول الله عينا في سرّية الربيع بعد وقعة أحد، ثم ساق القصة بأطول من هذا وقال بعض المفسرين إنها نزلت في صهيب بن سنان بن النمر بن قاسط الرومي وسبب نسبته للروم مع أنه عربي الأصل أن منازلهم كانت بأرض الموصل فأغارتهم الروم وسبوه فيمن سبوا فنشأ عندهم وبعد أن كبر لحق بمكة، حينما هاجر من مكة وتبعه المشركون ليردّوه، فقال والله لن تصلوا إلي إلا أن أرمي بكل سهم معي رجلا ثم أضرب بسيفي ما بقي بيدي، وإن شئتم دللتكم على مال لي دفنته في مكة تأخذونه وتخلون سبيلي، فرضوا منه ودلهم على موضع المال، فرجعوا عنه، ولما وصل إلى المدينة أخبر حضرة الرسول بهذا فنزلت، وكناه صلّى الله عليه وسلم بأبي يحيى، إذ قال له ويح أبي يحيى. وكل من هذه القصص صالحة لأن تكون سببا للنزول، وأصحها أولها، ويليها الأخيرة، والله أعلم، لأن الآية عامة في كل من يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلّب، وكل من يأمر بمعروف وينهى عن المنكر فيعذب أو يهان من أجله، وكل من يبذل نفسه في طاعة الله ورسوله ويجهدها في العبادة. أخرج الترمذي عن أبي سعد قال: قال صلّى الله عليه وسلم من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر. لأن العادل يحب أن ينصح ويأخذ بالنصيحة ولا تهابه الناس أن ترشده، أما الجائر فإنه يخاف منه ولا يحرؤ أحد على نصحه، لذلك أخبر حضرة الرسول بعظيم ثواب من يقدم على نصحه، لأنه من قبيل الجهاد لما فيه من تعريض النفس للبلاء. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» السلم بفتح السين وكسرها الاستسلام التام والطاعة العامة، أي ادخلوا
161
أيها المسلمون الموقنون في شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه، وهذا كالتحذير من عدم القيام بما تقدم من أحكام الإسلام وتأكيدا لأمرهم بالتقوى فيها.
ومن قال إن الخطاب فيها لكفار أهل الكتاب أو المنافقين يبعده تصوير الخطاب بتسميتهم مؤمنين.
مطلب لا يصح نزول الآية في عبد الله بن سلام وبحث قيم في آيات الصفات وأن المزين في الحقيقة هو الله تعالى:
وكذلك ما قيل إنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أقاموا بعد إسلامهم على تعظيم البيت وكراهة لحوم الإبل وألبانها وقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن هذا مباح في الإسلام وواجب في التوراة، وطلبوا أن يقيموا صلاتهم ليلا وانها إعلام بإبطال حكم التوراة وأمر بإقامة شرائع الإسلام كافة، لأن عبد الله لم يسلم بعد ولو فرض إسلامه ففيه من الطعن ما فيه، وهو رضي الله عنه براء من ذلك والآية عامة مطلقة لم تخصص ولم تقيد مبنى ولا معنى كما هو ظاهر من سياقها وسياق ما قبلها، وعليه فتكون مخاطبا بها كل مؤمن بأن يعمل بجميع أحكام الإسلام وشرائعه، ويؤيد هذا قوله تعالى «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» ووساوسه ودسائسه لأنه يوقعكم في الخطأ فيحن لكم ما هو قبيح في الإسلام ويقبح لكم ما هو حسن، لأن كل إخلال بشيء مما تقدم يكون في متابعة الشيطان «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ٢٠٨ ظاهر العداوة يزين لكم المعاصي ويلقي عليكم الشبهات ليؤثمكم وينتقم منكم بسائق عداوته مع أبيكم آدم عليه السلام، ثم هددهم وأوعدهم على الإخلال بما وصاهم بعد أن نصحهم وحذرهم من المخالفة بقوله عز قوله «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ» الواضحات المفصلات للأحكام والحدود «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» غالب لا يعجزه شيء «حَكِيمٌ ٢٠٩» لا ينتقم إلا بحق وإلا بعد إقامة البراهين على المجرمين ممن كان في قلبه شك أو شبهة في شيء مما جاءهم فما ينتظرون بعد تلك الدلائل الناصعة الباهرة «هَلْ يَنْظُرُونَ» هؤلاء الذين لم يؤمنوا المصرون على متابعة خطوات الشياطين «إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ» السحاب الأبيض الرقيق وسمي
162
غماما لأنه يغم ويستر ما فوقه وما تحته «وَالْمَلائِكَةُ» بالرفع عطف على لفظة الجلالة، وقيل بالجر عطف على الغمام، وهذا على حد قوله (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) الآية ٢٢ من سورة الفجر في ج ١، ولا يكون هذا إلا في يوم القيامة، أي ما ينظرون هؤلاء بعد ما قدمناه لهم من الهدى والإرشاد والآيات المخوّفات إلا ذلك اليوم بأن يموتوا وينقضي أجل برزخهم فيبعثوا ويحاسبوا على أعمالهم «وَقُضِيَ الْأَمْرُ» بفصل القضاء وبيان أهل الجنة من أهل النار يوم يقول الله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية ٦٠ من سورة يس في ج ١، «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ٢١٠» لا إلى غيره فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار، وهذه الآية من آيات الصفات المنوه بها في الآية ١٥٨ من سورة الأنعام في ج ٢، وإن مذهب السلف من أعلام السنه كالكلبي وسفيان بن عيينة والزهري والأوزاعي وسفيان الثوري وإسحق بن راهويه وابن المبارك والليث بن سعد ومالك وأحمد بن حنبل وجوب الإيمان بها على ظاهرها والتسليم لما جاء بها دون تأويل أو تفسير، وأن يوكل علمها الحقيقي إلى الله ورسوله مع الاعتقاد بأن الله تعالى منزه عن سمات الحدوث من حركة أو سكون، وأن تقرأ على ما هي عليه، وبه قال أبو حنيفة مع نفي التشبيه والكيف، وقال قائلهم في معنى هذه الآيات:
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ولا ذاته شيء عقيدة صائب
فسلم آيات الصّفات بأثرها وأخبارها للظاهر المتقارب
ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا وتأويلنا فعل اللبيب المغالب
ونركب للتسليم سفنا فإنها لتسليم دين المرء خير المراكب
وإن مذهب الخلف الذي ذهب إليه جمهور العلماء المتأخرين والمتكلمين وأصحاب النظر على تأويلها وتفسيرها بما يناسب المقام، لأن الله تعالى منزه عن الذهاب والإياب والمجيء والإتيان، وأن تكون له يد أو رجل أو وجه وغيرها مما يوافق سمات خلقه وصفات الحدوث، لأنها لا تنفك عن الحركة والسكون المستحيلة عليه، وهو المبرأ عنها، ولهذا جنحوا إلى تأويل اليد بالقوة والرحمة مثلا، والمجيء والإتيان نسبوه لملائكته وعلمه لاعتقادهم أن المراد بها غير ظاهرها، ويستدلون بما يناسب
163
هذا كقوله تعالىَ لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)
الآية ٣٤ من سورة النحل في ج ٢، لأن فيها تفصيلا مفسرا لما أجمل في الآية المفسرة هذه، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويقولون إن في مثل هذه الآيات حذفا، أي يأتيهم الله بما أوعدهم من العقاب على ما اقترفوه من الذنوب، وما وعد به من الثواب على ما قدموه من الخير، وسبب الحذف زيادة التهويل وبلاغته في الكلام زيادة في فصاحته، إذ لو ذكر لكان أسهل في باب الوعيد. وقال بعض المفسرين إن (فِي) هنا بمعنى الباء أي بظلل من الغمام، ويراد بالغمام العذاب، لأن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان أعظم دهشة وأشد وقعا وأنفع في العظة وأنفع في القلب، وفي هذا ما لا يخفى من التكلّف، ومذهب السلف أسلم، والله أعلم.
وكما يقال في الآيات يقال في الأحاديث أيضا، راجع الآيتين المذكورتين من الأنعام والنحل في ج ٢.
قال تعالى «سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ» الموجودين معك يا سيد الرسل في المدينة وغيرهم «كَمْ آتَيْناهُمْ» أي آتينا أسلافهم «مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ» على صدق رسالة موسى عليه السلام فأنكروها وبدلوها «وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ» آياته التي أنعم بها على عباده، وسميت الآيات نعما لأنها من أعظمها «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ» فلم يعمل بها ولم ينته عن غيه «فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ٢١١» عليه يعذبه بما لا تطيقه قواه، وجاء اللفظ الكريم بالإظهار مع أن موقعه الإضمار بسبب تقدم ذكره لتربية الهيبة وإدخال الروعة في قلوب المتجاسرين على التبديل، لأن الآيات بعد أن وصلت إليهم وعرفوها بدلوها إذ لا يتصور التبديل قبل المجيء ثم ألمع إلى سبب إقدامهم عليه بقوله عز قوله «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا» فاغتروا بها ولهوا بزخارفها «وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» لفقرهم وقلة ذات يدهم من حطامها وليس لديهم إلا تقوى الله «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا» الشرك والكفر واجتنبوا المعاصي والمناهي وآمنوا بالله ورسوله وكتابه «فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» لأنهم يكونون في عليين وأولئك في سجين «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ٢١٢» رزقا كثيرا لا يحصى، باق لا ينفد ولا ينقص، لأن كل ما يدخل تحت الحساب قليل نافد، وخزائن
164
الله تعالى لا تنفد، ولا يقال لم أعطى هذا ومنع هذا، لأنه لا يسأل عما يفعل، وأفعاله لا تعلل. واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ثلاث آيات مبدوءة بحرف الزاي:
هذه والآية ١٣ من آل عمران الآتية والآية ٧ من سورة التغابن الآتية أيضا، وقد نزلت هذه الآية والتي قبلها في المنافقين ورؤساء اليهود الذين يكتمون آيات الله لقاء ما يأخذونه من مال الدنيا الفاني، وفي أبي جهل وأضرابه الذين ينكرون البعث ويكذبون آيات الله ويتنعمون بما بسط لهم من نعيم الدنيا، وفي الحقيقة أن الله تعالى هو الذي زين لهم ذلك كما ألمعنا إليه في مواضع كثيرة، ويؤيد قراءة زين بالمعلوم أي بما أظهره لهم من زهرة الدنيا ابتلاء وامتحانا لهم، وبما ركب في أطباعهم من الميل والحب والرغبة إلى المجرمات، أي أن هذه الدنيا حسنت لهم الحياة فيها وتشربوا في محبتها حتى تغلغلت في قلوبهم، ولكن لا على سبيل الإلجاء والقسر بل على سبيل التحبب للنفس مع إمكان ردها، ولكن الناس نظروا إلى الدنيا بأكثر من قدرها فأعجبهم حسنها ففتنوا بها وعكفوا على الإقبال إليها والانهماك فيها، فرموا بكليتهم عليها، وأن الله تعالى زاد في إمالهم وكثر عليهم نعمه ومتعهم بالصحة والمال والجاه لعلهم يرجعون فلم ينجع بهم، وكان هذا من جملة التزيين للدنيا في أعينهم وقلوبهم. وقيل إن المزين لهم شياطين الإنس والجن الغواة الذين يحببون لهم الدنيا وما فيها من المحرمات حتى تهالكوا عليها وتفانوا فيها ويغفلونهم عن ذكر الآخرة والاعتراف بوجودها، ويقولون لهم إن القول بذلك حديث خرافة لينصرفوا إليها الضمير يعود للدنيا ويضمحلوا في حبها، ولكنه من الضعف بمكان، لأن غواة الإنس والجن والشياطين داخلون في هذا التزيين، وكلهم مزيّين لهم، والمزين لا بد وأن يكون مغايرا للمزين له. روى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ألا أخبركم بأهل الجنة:
كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل (فظ غليظ شديد لا ينقاد إلى الخير) جواظ (فاجر محتال قصير بطين) جغطريّ (متمدّح بما ليس فيه) مستكبر. ورويا عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد (الحظ والغنى)
165
محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار فإذا عامة من دخلها النساء.
ثم أعذر الله تعالى إليهم في إخلالهم بالأحكام فقال «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» متفقة على دين واحد زمن آدم عليه السلام، ولم يزل هو وذريته مسلمين لله حتى قتل قابيل هابيل فاختلفوا، ثم استمروا على شريعة واحدة شريعة شيث عليه السلام، ثم على شريعة إدريس إلى مبعث نوح عليه السلام، ثم اختلفوا فأقام نوحا ومن معه في السّفينة على دينه الحق وأهلك الآخرين، وهو أول رسول بعث لمن نجى معه من الغرق بعد الطوفان، ولهذا سمي أبا البشر الثاني.
مطلب الأنبياء والرسل المتفق عليهم والمختلف فيهم ورسالتهم وعددهم وعدد الكتب المنزلة عليهم:
ثم اختلفوا بعد وفاته «فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ» بعده لذرّيته «مُبَشِّرِينَ» المتقين برضوان الله «وَمُنْذِرِينَ» العاصين بسخطه إذا استمروا على طغيانهم، وقد جاء في الحديث: لا أحد أحب إليه العذر من الله. ولهذا أنزل الكتاب وأرسل الرسل، وجميع الأنبياء على ما قيل مئة ألف وأربعة وعشرون ألفا، منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة أو أربعة عشر، جاء في القرآن العظيم ذكر خمسة وعشرين منهم المتفق على نبوتهم وهم: آدم إدريس نوح هود صالح شعيب إبراهيم إسحق يعقوب إسماعيل يوسف أيوب يونس موسى هرون لوط داود سليمان الياس اليسع ذو الكفل- على القول بأنه غير الياس وهو الصحيح راجع الآية ١٣٠ من الصافات ج ٢- وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. أما عزير وذو القرنين فمختلف في نبوتهم، راجع الآية ١٧٧ المارة والآية ٨٢ من الأنعام والآية ٨٣ من سورة الكهف في ج ٢، ولبحثهم صلة في الآية ١٦٣ من النساء الآتية. والنبي هو من أمره الله تعالى بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أمر بتبليغه.
ومنهم من أرسل إلى أهل بيته خاصة، ومنهم إلى عشيرته، ومنهم إلى قومه، ولا رسالة عامة لجميع من على وجه الأرض من مبدئها لآخرها إلا لمحمد صلّى الله عليه وسلم، كما أن شفاعته عامة، لأنه خص بما لم يخص به غيره من إخوانه كما مرّ في الآية ٧٩ من سورة الإسراء ج ١، وقد ذكرنا في الآية ٢٦ من سورة هود في ج ٢ أن
166
رسالة نوح عليه السلام مبدأها خاص وآخرها عام، فراجعها. «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ» يشمل الكتب المنزلة كلها لأن ال فيه للجنس وهي مئة وأربعة عشر فقط، أنزل منها على آدم عشرة، وعلى شبث ثلاثين، وعلى إدريس خمسين، وعلى إبراهيم عشرة، وعلى موسى عشر صحف والتوراة والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين. وذكرنا في الآية ١٨٤ المارة أنها كلها نزلت في رمضان إنزالا ملابسا «بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ» كل نبي بكتابه المنزل عليه بالعدل «بَيْنَ النَّاسِ» حسما لمادة الخلاف ليعملوا فيها هم أيضا من بعده «فِيمَا اخْتَلَفُوا» أي الناس المذكورين في صدر الآية «فِيهِ» من الحقوق الجارية بينهم «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ» في نفس الكتاب الذي يجب أن يتحاكموا إلى نصوصه فيما يقع بينهم من الخصومات «إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ» كاليهود والنصارى الذين في زمانك يا سيد الرسل، مع أنهم أهل لأن يتفقوا على أحكام كتبهم ولكنهم يا للأسف كفّر بعضهم بعضا، وتواطئوا على إنكار ما في كتبهم مما هو موافق لشريعتك وما هو مظهر نعتك وصفة كتابك وموجب للإيمان بك، ولم يزل الخلاف بينهم «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» المزيلة لهذا الاختلاف «بَغْياً بَيْنَهُمْ» وحسدا إذ لا عذر لهم في العدول عنك وعما جئت به لا حب بقاء الرياسة والحصول على حطام الدنيا «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» من أصحابك وأمتك «لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ» الذي هو رسالتك، واختلفوا في الجمعة فهداك الله وأمتك إليها، واختلفوا في الصيام وفي القبلة فهداكم إليهما، واختلفوا في إبراهيم وفي عيسى فهداكم الله للإيمان بهما كغيرهما من الأنبياء.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه، فغد لليهود، وبعد غد للنصارى. وفي رواية سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له. زاد النسائي:
يعني يوم الجمعة (ثم اتفقا) فالناس لنا تبع اليهود غد والنصارى بعد غد. وروى
167
مسلم عن حذيفة ما بمعناه «بِإِذْنِهِ» أمره وإرادته وفاقا لما هو في سابق علمه «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ٢١٣» ومن يشاء إلى الطريق المعوج لسابق شقائه أيضا. قال تعالى «أَمْ حَسِبْتُمْ» أيها الناس «أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ» بمجرد إيمانكم أو إسلامكم «وَلَمَّا يَأْتِكُمْ» يصيبكم بلاء ومشقة «مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» من المحن والإحن والامتحان والاختبار إذ «مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ» وذاقوا من الفقر والفاقة والزمانة والخوف «وَزُلْزِلُوا» أزعجوا في حياتهم إزعاجا شديدا يشبه في عظمته الزلازل في الهول وبقوا على اضطرارهم «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ» أي لم يبق لهم صبر مع أنهم أثبت الناس على الأهوال، حتى إذا استبطؤا نصر الله لهم حثّوا قومهم على الصبر وصرحوا لهم بأن الإيمان وحده وإن كان كافيا لدخول الجنة إلا أنه لا يكفي لإعلاء كلمة الله وقهر أعدائه ما لم ينضم إليه بذل النفس والنفيس في سبيل الله، وذلك لشدة الضيق وكثرة دواعي الضنك، وهؤلاء الممتحنون إذا أخلصوا لله تعالى يجابون فيقول لهم الله «أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ٢١٤» فياتيهم ما وعدهم به حالا، لأن الأمر بلغ معهم غاية ما وراءها غاية في الشدة والضنك، قال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) الآية ١١١ من سورة يوسف في ج ٢، فكونوا أنتم أيها المؤمنون مثلهم واستنصروا ربكم حالة كربكم، فإنه لا بد أن يأخذ بيدكم وينصركم بمقتضى عهده إليكم وهو لا يخلف الميعاد (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) الآية ١١٢ من التوبة الآتية، قال المفسرون رحمهم الله لما هاجر الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة اشتدت فاقتهم لأنهم تركوا أموالهم في مكة واستولى عليها المشركون، وأظهرت اليهود العداوة لحضرة الرسول وأصحابه وآثر قوم من أهل المدينة النفاق على الإيمان، وأثّرت عليهم غزوة أحد التي وقعت قبل نزول هذه الآية في السنة الثالثة التي أشار الله تعالى إليها بقوله (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية ١٣٩ من آل عمران الآتية، وسنذكر القصة هناك إن شاء الله.
فأنزل الله تعالى هذه الآية تطيببا لقلوبهم وتسلية لما وقر في صدورهم. روى البخاري
168
ومسلم عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا ألا تنتصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون. فاعتبروا أيها المؤمنون في هذا العصر كيف كان أسلافكم وكيف أعقب صبرهم الظفر، فهل لكم أن تتحملوا الأذى والمشقة الآن ولا تجبنوا ولا تيأسوا لتنالوا حقكم المغصوب، فهمّوا وجدوا وجاهدوا في القول والفعل والمال والنفس، ولا تستبطئوا نصر الله فإنه قريب منكم إذا اتقيتم وتوكلتم وآمنتم بما وعدكم ربكم من العز والظفر.
مطلب في الإنفاق والجهاد وفوائدهما وما يترتب على القعود عنهما من البلاء:
هذا، وبعد أن ذكر الله تعالى أحكام القصاص والوصية والصيام والحج والجهاد، وحذّر من الإخلال بشيء منها وحظر من اتباع وساوس الشيطان الذي يريد بكم الانتقام بسبب ما حل به من المخالفة لأمر الله لعدم سجوده لأبيكم آدم عليه السلام شرع يبين أحكام الإنفاق فقال تعالى قوله «يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ» لما فرض الله تعالى الزكاة على عباده فرضت مطلقة لم تقدر بقدر، ولذلك سألوا حضرة الرسول عن القدر الذي يجب عليهم إنفاقه من أموالهم والصنف الذي يجب أن ينفقوا منه من أموالهم هل هو عن النقد فقط أو يشمل الأنعام والحبوب، وكان أول من سأل على ما قيل عمر بن الجموح وكان متمولا وطاعنا في السن، فأنزل الله هذه الآية جوابا للغاية التي هي مصرف المال، ولم يكن الجواب بالسبب الذي هو القدر المنفق أو النوع المنفق منه كما تقدم في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية ١٩٠ المارة، قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين وغيرهم من ذوي الأموال «ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ» هذا وإن كان يطلق على المال الكثير كما مرّ في الآية ١٨٠، إلا أنه هنا تعظيما للصدقة يطلق على مطلق المال قليلا كان أو كثيرا، من أي نوع كان «فَلِلْوالِدَيْنِ» أولا إذا كانا محتاجين أداء لواجب حقهما عليكم
169
لأنهما السبب الظاهري في وجودكم «وَالْأَقْرَبِينَ» منكم بعدهما لأنهم أولى بمعروفكم من غيرهم «وَالْيَتامى» الأولاد القاصرين ذكورا أو إناثا إذا لم يكن لهم مال متروك من أبيهم لعدم قدرتهم على الكسب وعدم وجود من يقوم بنفقتهم فهم بعد الأقربين أولى من غيرهم راجع الآية ١٧٧ المارة «وَالْمَساكِينِ» الذين لا يكفيهم كسبهم فهم أرجح من غيرهم «وَابْنِ السَّبِيلِ» أي الغريب المنقطع عن بلاده لفراغ ذات يده ولا يستطيع الاستدانة لعدم الوثوق به وإنما ذكر الله تعالى هؤلاء وخصهم بالنفقة لأن الإنسان لا يقدر أن يقوم بمصالح الفقراء كافة فعلمه أنه إذا لم يستطع أن يبذل الغني من ماله للكل فيقتصر على الأقرب والأولى والأحوج بترتيب بديع، وإذا كان عنده ما ينفق على غيرهم فيقول الله تعالى له «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ» تطيب به أنفسكم طلبا لمرضاة الله لغير هؤلاء «فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ٢١٥» لا يخفى عليه ما تنفقونه وسيدخر لكم ثوابه ويجازيكم عليه ويزيدكم من فضله. وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة قيل لا يلتفت إليه، إذ ليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة حتى ينسخ به، ولأن الله تعالى ذكر في هذه الآية متى تجب عليه النفقة أي من تلزمه نفقته من الوالدين والأقربين ومن هم أولى بالصدقة من غيرهم. قال الشافعي رحمه الله:
إن الصنيعة لا تعد صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع
قال تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» من تصور الطبع لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الموت، إلا أن من عرف ما أعده الله تعالى للمجاهدين من الفضل والكرامة والذكر الحسن هان عليه كل ذلك، ولا سيما إذا وعى قوله تعالى (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الآية ١٧٠ من آل عمران الآتية، وعرف مغزى قوله جل قوله (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ) الآية ٩٥ من سورة النساء، تأمل مرمى قوله عز قوله (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ) الآية ١٢٢ من سورة التوبة الآتية أيضا فضلا عن أنه إنما يكون فرضا على الأمة لإعلاء كلمة الله ونصرة رسوله وحفظ الأوطان وصيانة النفوس والأعراض، وإذلالا لأعداء الله ورسوله أعداء الإسلام، ولهذا يقول الله تعالى «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا
170
شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»
كالجهاد، لأن فيه إحدى الحسنيين الظفر والغنيمة أو الشهادة والجنة، ويدخل في معنى هذه الآية الجليلة كل ما كان شاقا في الحال نافعا في المآل كشرب الدواء مثلا فإن النفس تكرهه، وإنما تقدم عليه لما تتوخاه فيه من حصول الشفاء وتمام العافية، وكذلك العبادات كالصوم والحج فإن النفس قد تكرههما مع أنه في عاقبتهما الخير والرضاء وكذلك سائر العبادات، لأن لفظ (شَيْئاً) في الآية يشمل كل ما تكرهه النفس، لأنه نكرة والنكرة تعم «وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» كترك الجهاد وسائر العبادات والإنفاق والتخلف عن الغزو، لأن العدو إذا رآكم جبنتم ومللتم وجنحتم إلى الكسل وملتم إلى الراحة، تحداكم وغزاكم في عقر داركم ونال من بلادكم وأموالكم وأعراضكم، وسيطر عليكم فأذلكم وأهانكم، وإذا علم صلابتكم وثباتكم ودوام مهاجمتكم عليه ورآى حزمكم وحبكم للموت في سبيل شرفكم جبن وكف عنكم، ووقع في قلبه الخوف، فيدين لكم، وكذلك كل ما نهى الشرع عنه، فإن النفس تحبه، وتطمع فيه وتطمح عليه فتميل لارتكابه لقضاء نهمتها الخبيثة وشهوتها الخسيسة ولذتها الفانية، مع أن عاقبتها وخيمة في الدنيا لما يلحقه من مذمة الناس وسوء ذكره بينهم، وفي الآخرة لما يترتب عليها من العقاب الأليم، لأن الدنيا بما فيها فانية والعاقبة المحمودة لأهل التقوى، فلينظر الإنسان الأمر الذي يريد الإقدام عليه قبل فعله، فإن كان يرجو فيه خيرا فليقدم عليه ولو فيه مشقة، لأن الجنة حفت بالمكاره، وإن كان شرا فليتباعد عنه ولا يغتر في لذاته وشهواته، فإن النار حفت بالشهوات، قال صلّى الله عليه وسلم: إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته- أي بحسب اجتهادك وعقلك واستشارة من تعتقد صلاحه ونصحه لك وأمانته ودينه ومودته لك- واستخر الله تعالى فما خاب من استشار ولا ندم من استخار. «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» خوافي الأمور وبواطنها وعواقبها «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ٢١٦» إلا ظواهرها ولا تعلمون شيئا إلا بتعليم الله إياكم، فاتبعوا ما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه. وقد ذكرنا أن لفظ عسى في القرآن إذا كانت من الله فهي لليقين، وإذا كانت من الغير فهي للتوهم والشك مثل لعل. واعلم أن الحكم الشرعي في الجهاد هو فرض عين على كل مسلم
171
إذا هاجم العدو بلاد الإسلام، وفرض كفاية إذا كانوا في بلادهم وتحدوكم قبل الوصول إليكم، وفي هذه الصورة إذا قام به البعض من المسلمين سقط الإثم على الباقين، أما في الصورة الأولى فكلهم آثمون، ومسنون في كل وقت، ومن السنة أن نبدأهم به. أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا. وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية ١٩٠ المارة أولاد وجه لقول من قال أن المخاطب بهذه الآية هم أصحاب محمد الموجودون في زمانه فقط، لأن الخطاب فيها عام لا يقيد بهم، إذ لا مخصص لذلك، ولم يقصد به أناس دون آخرين ولا زمان ومكان لأن سياق الآية يدل على التعميم وهي مؤيدة بالأحاديث الصحيحة فيدخل في خطابها كل الأمة إلى
يوم القيامة. وما قيل إنها منسوخة بآية التوبة ١٢٢ التي مطلعها (ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) إلخ لا وجه له أيضا، لأن هذه الآية خاصة مقيدة نافية وجوب الجهاد على العموم والتي نحن في صددها عامة مطلقة، وقد ذكرنا غير مرة بأن المقيد مخصص لا ناسخ، وأن المقيد دائما يحمل على المطلق، والخاص على العام. وكذلك لا يتجه القول بأنها ناسخة للعفو عن المشركين، إذ لم تتعرض لشيء من ذلك، وإنما هي عبارة عن إخبار الله تعالى عباده بأن الجهاد الذي أمرناكم به مفروض عليكم، لأنه مكتوب في أزله كذلك، لئلا يقوهم الغير بأنه مندوب أو مباح بدليل قول (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) إلخ، تأمل قوله تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» إثمه، عظيم جرمه، وهذا على طريق إرخاء العنان بالاعتراف بعظم القتال فيه، ولكن الذي ارتكبوه فيه أكبر إثما وأعظم وزرا من القتال فيه، وهو المبين بقوله تعالى «وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» ومنع المسلمين من سلوكه ومن التمسك بدين الإسلام الحنيف وتفرعاته «وَكُفْرٌ بِهِ» وجحود بالإله الكبير الذي شرعه لعباده «وَ» صدّ المؤمنين عن دخول «الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ومنعهم من الطواف به «وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ» وإجلاؤهم عنه
172
وإلجاؤهم إلى الهجرة وترك أوطانهم وأموالهم ونسائهم «أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ» إثما وأعظم وزرا من القتال في الشهر الحرام وقد سماهم الله تعالى أهله لأنهم كانوا قائمين به كما يريد الله تعالى، أي هذه الأمور التي اقترفتموها نواء لأهل الإسلام وعداء لرسولهم وجحودا لدينهم وربهم «وَالْفِتْنَةُ» التي هي الشرك الذي أنتم عليه لتفتنوا الناس به «أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» الذي يحتجون به وهو قتل الحضرمي الآتي ذكره لأن ذلك كان خطأ وظنا أن اليوم الذي قتلوه فيه آخر جمادى الآخرة المباح فيه، ذلك لا على أنه يقين بأنه أول رجب الحرام. ثم بين إصرارهم على الفتنة بقوله «وَلا يَزالُونَ» هؤلاء الكفرة «يُقاتِلُونَكُمْ» أيها المؤمنين «حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ» الحق إلى دينهم الباطل «إِنِ اسْتَطاعُوا» وهيهات ذلك، لأن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب الطاهرة لا يبتغي صاحبه به بديلا، وأن الله تعالى إنما حذر عنه تأكيدا لتشربه في قلوبهم وتعظيما لشأنه عندهم فقال «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» فيبقى مرتدا «فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ» ولم يتدارك نفسه بالتوبة قبل حالتي اليأس والبأس «فَأُولئِكَ» المرتدون المصرون على ارتدادهم «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا» إذ تبين زوجة المرتد ويحرم ميراث أقاربه ويقتل حدا ويكون ماله فيئا للمسلمين لأن أقاربه يحرمون منه إذ لا توارث بين المؤمن والكافر إجماعا «وَالْآخِرَةِ» لأن الكفر يمحق ثوابها كما أن الإيمان يجب ما قبله «وَأُولئِكَ» المرتدون الخاسرون الدارين الممقوتون عند الله هم «أَصْحابُ النَّارِ» لأنهم عملوا في الدنيا لأجلها فقط وفعلوا ما يؤهلهم لها ولذلك «هُمْ فِيها خالِدُونَ ٢١٧» لا يخرجون منها أبدا.
مطلب متعلقات الجهاد وقصة قتل الحضرمي وأمر النبي رسله بعدم فتح الكتاب إلا بعد يومين من استلامه:
وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش أميرا على سرية في جمادى الآخرة السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بدر، مما يدل على أن هذه الآية متأخر نزولها عن سورتها. وهو جائز كما يتقدم النزول على الحادثة أو يقارنها. وكتب له كتابا وقال سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير
173
يومين، فإذا نزلت فافتح الكتاب فاقرأه على أصحابك، ثم امض لما أمرتك به ولا تستكره أحدا منهم على السير معك فسار يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أما بعد فسر على بركة الله بمن معك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فارصد بها عيرا لقريش لعلك تأتينا منها بخير) فقال سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه ذلك وقال لهم إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق، ومن كان يكره فليرجع، ثم مضى وبقي أصحابه معه، وهم ثمانية رهط ولم يتخلف عنه أحد، حتى إذا كانوا بمعدن فوق الفرع بموقع في الحجاز يقال له نجران والفرع مجرى الماء إلى الشعب، وفرع كل شيء أعلاه، وفرع القوم شريفهم، والمعدن كمجلس منبت الجواهر من الذهب وغيره، فلا يختص بمكان دون آخر، ولا يختص بالذهب والفضة بل بكل شيء يخرج من الأرض كالنحاس والحديد والرصاص وغيرها. أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غروان بعيرا لهما كانا يتعاقبانه فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله بقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة موقع بين مكة والطائف، بينما هم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ومن تجارة الطائف ومعها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله ابن المغيرة ونوفل بن عبد الله المخزوميان، فلما رأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هابوهم ونزلوا قريبا منهم، فقال عبد الله بن جحش وهو ابن عمة رسول الله لقومه:
إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم، وليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقا أمنوا، فحلقوا رأس عكاشة بن محصن، ثم أشرف عليهم، فلما رأوه أمنوا، وقالوا قوم عمّار فلا بأس علينا، وكان ذلك آخر يوم من جمادى الآخرة، وكانوا يرونه أول رجب، فتشاور القوم فيهم وقال بعضهم لبعض متى تركتموهم هذه الليلة ليدخلن رجب الحرام وليمتنعن منكم، فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرا الحضرمي بسهم فقتله، فكان أول قتيل من المشركين، وأسروا الحكم وعثمان، وهما أول أسيرين في الإسلام، وأفلت نوفل فأعجزهم، واستاق المسلمون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام وسفك الدماء، وأخذ الحرائب أي المال،
174
وعيروا المسلمين الموجودين في مكة بذلك، فبلغ ذلك حضرة الرسول، فجاء بعبد الله وأصحابه، وقال ما أمرتكم أن تقاتلوا في الشهر الحرام، ووقف العير والأسيرين ولم يأخذ شيئا منها، وعنفهم المسلمون على ذلك أيضا، فعظم هذا عليهم وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم، فقالوا يا رسول الله إنا قتلنا الحضرمي ثم أمسينا فرأينا الهلال فلا ندري أصبناه فيه أم في جمادى الآخرة، وأكثر الناس في ذلك أي في انتقاد واقد ورفقائه لإقدامهم على قتل الحضرمي في الشهر الحرام الذي لا يجوز فيه استعمال السلاح ولو على قاتل أحدهم، فأنزل الله هذه الآية وأخذ رسول الله الخمس من هذه الغنيمة وهي أول غنيمة في الإسلام وقسم الباقي على أصحاب السرية، ثم بعث أهل مكة بفداء أسيريهما فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يأتي سعد وعتبة الذين ذهبا بطلب بعيرهما حذرا من أن قريشا أصابتهما فلما جاءا فداهما فأسلم الحكم ثم استشهد في بئر معونة رحمه الله، ورجع عثمان إلى مكة فمات كافرا ثم أنزل الله تعالى في عبد الله بن جحش وأصحابه حينما قالوا لحضرة الرسول هل نؤجر على غزوتنا هذه ونطمع أن نعد غازين إذ يقول الناس إن لم يؤزروا لم يؤجروا قوله جل قوله «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢١٨» بهم يعفو عن هفوتهم ولا يؤاخذهم عليها أما الكفرة الذين يموتون على كفرهم فلهم الخيبة واللعنة وسوء العاقبة.
مطلب في الخمر والميسر ومخالطة اليتامى والنظر إليهم وبحث في النفقة أيضا وحفظ بيت المال
: قال تعالى و «يَسْئَلُونَكَ» يا سيد الرسل «عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ» القمار بجميع أنواعه وكافة أصنافه «قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ» ينتج عنهما مضار خطيرة ديفية ودنيوية «وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» من أرباحهما والاتجار بهما، لأن الخمر يحتاج إلى اعمال ينتفعون بما يأخذونه من الأجرة، وفي بيعه وشرائه ينتفع آخرون لكثرة تصريفه بسبب كثرة استعماله، لأنه كان يقدم للناس كما تقدم القهوة الآن والشاي للقادمين الزائرين. والميسر هو نيل المال دون تعب ولا كد ولا جهد وربما من يكسب يعطي منه كما هو المعتاد الآن عند من يتعاطاه، فينتفع
175
الغير منه ايضا، لأن المال الذي يأتي عن غير طريق التعب يهون على النفس إنفاقه.
وقيل في هذا:
ومن أخذ البلاد بغير حرب يهون عليه تسليم البلاد
فالمنافع المذكورة في الآية عبارة عن هذا لا غير. وسبب حرمة القمار هو أكل أموال الناس بالباطل، وقال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) الآية ١٨٩ المارة ومثلها الآية ٢٩ من سورة النساء الآتية، وهو داخل في قوله صلّى الله عليه وسلم: إن رجالا يتخوضون في مال الغير بغير حق فلهم النار روى البخاري ومسلم أنه صلّى الله عليه وسلم قال: من قال لصاحبة تعال أقامرك فليتصدق.
فإذا كان مطلق القول يقتضي الكفارة والصدقة تنبيء عن عظيم ما وجبت أو سنّت له، فما ظنك بالفعل مباشرة؟، ويدخل في الحديث الأول ما يسمونه الآن (يا نصيب) ألا فليحذره وليتجنّبه من يتق الله، لأنه تخوض في مال الغير وهو من الباطل المنصوص عليه بالآية المارة. قال عمر ابن الخطاب ومعاذ بن جبل: أفتنا يا رسول الله في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل والمال، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقد أنزل الله تعالى في الخمر أربع آيات الأولى مكية وهي قوله تعالى (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) الآية ٦٧ من سورة النحل في ج ٢ فراجعها فقد بينا فيها ما يقتضي هذا البحث، والثانية هذه مدنية فتركها جماعة كراهية الدخول في الإثم المشار إليه فيها لوصفه بالعظم، واستمر عليها الباقون لعدم الأمر باجتنابها وعدم قدرتهم على منع أنفسهم وقمع شهواتها، وقد ذكرنا ما يتعلق فيها بالمقدمة وسنأتي على تمام البحث في الآيتين ٤٣ من النساء و ٩٠/ ٩١ من المائدة بصورة مفصلة إن شاء الله القائل «وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» ولهذا اجتنبها ذو والنفوس الطاهرة والإيمان القوي، لأنهم فهموا منها أن ما كثر إثمه كثر وزره وما عظم عقابه حرم فعله «وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ» من أموالهم إذ لم يبين لهم الله القدر اللازم إنفاقه ليعملوا به، وإنما كرروا السؤال لأن الجواب في السؤال الأول لم يأت على قصدهم بل كان للغاية من الإنفاق كما مر، وكذلك لم يبين حضرة الرسول لهم ذلك، ولكنه يكثر من ترغيبهم بالإنفاق «قُلْ» يا سيد الرسل أنفقوا «الْعَفْوَ»
176
أي الزائد على حوائجهم وذلك أنهم كانوا رضي الله عنهم لما سمعوا حضرة الرسول يكثر من الحث على الانفاق ويطنب في فضله صار منهم لشدة حرصه على ثواب النفقة ينفق جميع ما عنده، حتى إن منهم لا يبقي ما يحتاج إليه للأكل، فأمرهم في هذه بإنفاق الفاضل عن حاجتهم لكثرة ذوي الحاجة إذ ذاك من المهاجرين والأنصار في بداية الإسلام، وكان السؤال في الآية ٢١٠ السابقة عن المنفق والمصرف فوقع هنا عن المقدار والكيفية. وكلمة العفو يجوز فيها الضم والفتح. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. وأخرج بن خزيمة مثله بزيادة تقول المرأة أنفق علي أو طلقني، ويقول مملوكك أنفق علي أو بعني، ويقول ولدك إلى من تكلني. وأخرج بن سعيد عن جابر قال: قدم أبو حصين السّلمي بمثل بيضة الحمامة من ذهب، فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن (هو ما ذكر بيانه آنفا) فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه صلّى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول. فاشترط حضرة الرسول العنى عن الحاجة للمتصدق، فصاروا يمسكون ما يكفيهم ويتصدقون بالفاضل إلى أن حدد لهم حضرة الرسول القدرة الواجب إنفاقه في الزكاة، فمنهم من اقتصر عليه، ومنهم من داوم على إنفاق ما يفضل عن حاجته لقوة إيمانه ورغبة فيما أعده الله تعالى للمتصدقين من الأجر. ومن عقل تفسير هذه الآية على نحو ما ذكرنا علم أن القول بالنسخ لا وجه له. «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشافي «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» الموضحات لما تسألون عنه «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ٢١٩ فِي الدُّنْيا» فتعلمون أنها زائلة فتأخذون منها قدر ما يكفيكم وتنفقون الفاضل فتنتفعون بثوابه في الدنيا «وَالْآخِرَةِ» التي يجب أن تتفكروا فيها بعاقبة أمركم فتكثروا من الإنفاق مما تجود به نفوسكم من انعام الله عليكم وتزودوا لها من أعمال الخير رجاء ما أعده الله تعالى لأهل الخير،
177
قالوا حينما أراد الملك الظاهر وضع ضريبة لأجل نفقات الحرب، واستفتى الإمام النوري فقال لا تتحقق هذه الحاجة إلا بعد بيع ما في قصر الملك من المماليك والأواني الذهبية والفضية التي هي من بيت المال، فإذا لم تكف فله وضع الضريبة المذكورة. ومن هذا القبيل قدمت مذكرة إلى (سالاز) رئيس وزارة البرتقال بطلب اعتماد إعانة لفرقة المغنين العازمة على السفر، فوقع بما نصه: كيف أعطي مالا للمغنين في الوقت الذي لا أجد ما أعطيه للباكين
!. فاعتبروا أيها الناس وقيسوا بين هذا ووضعنا الحاضر مما تصرفه الحكومة من بيت المال على ولائم لا علاقة لها بالحرب ولأناس لا يستحقونها وفيها ما فيها. ألا فليتقوا الله ولينفقوا مما أنعم الله عليهم في وجوه البر والخير وإن كانوا لأبد فاعلين فليكن من مال أنفسهم ويتركوا مال بيت المال لما خصص له ولحاجة الجيش عند الحاجة لحفظ ثغور المسلمين وأموالهم وأنفسهم وأعراضهم. قال تعالى «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى» قال ابن عباس لما أنزل الله (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) الآية ٣٤ من الإسراء في ج ١، صاروا يتحرجون حتى عن مخالطتهم فأنزل الله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ» أي مخالطتكم لهم وإرشادكم إياهم لما فيه صلاحهم خير من مجانبتكم لهم وإعراضكم عنهم وأكثر أجرا لأن في ذلك النظر إلى أحوالهم ومناظرة أموالهم وتعليمهم كيفية استرباحها لهم لئلا تأكلها الزكاة، لأن ما لا يزيد ينقص فيسبب أضرارا لهم في المستقبل «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ» وتجالسوهم فيتعلموا طرق المعاش والمعاشرة مع الناس والتخلق بالأخلاق الحسنة واجتناب السيئة ويأنسوا بكم ويعرفوا ما يضرهم وينفعهم «فَإِخْوانُكُمْ» أولئك اليتامى ومن واجب الأخوة المخالطة والملازمة لا التقاطع والمباعدة «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ» لأحوالهم «مِنَ الْمُصْلِحِ» لها فكونوا مصلحين بتعليمهم الأخلاق العالية وأحوال البيع والشراء وسائر العقود التي من شأن البشر أن يتعلمها، وإن تركهم وشأنهم قد يوجب لهم الفساد والإفساد فتأثموا وتصيبكم منهم معرة، والله مطلع على نياتكم، فأحسنوا إليهم بما يفضي لخيرهم ومثوبتكم «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ» بأن شدد عليكم الأمر وضيقه في وجود المخالطة وتنية أموالهم وحرمكم من ربحها، بأن يجعلكم
178
كالخدم لهم، ولكن رحمة بكم وبحال اليتيم لم يشأ ذلك توسعة عليكم لاحتياج بعضكم إلى الربح بمال الغير لقلة ذات يده «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يعجزه شيء قادر على التضييق عليكم في ذلك «حَكِيمٌ ٢٢٠» يأمر بالتوسعة على عباده بما فيه صلاحهم من احتياج بعضهم إلى بعض لأن التعاون في هذه الدنيا مطلوب فجعل للخلق رابطة فيما بينهم لا غنى لهم عنها. وبعد أن ذكر الله تعالى ما يتعلق بالأيتام والإنفاق شرع يذكر ما يتعلق بالنكاح الذي هو من ضروريات البشر أيضا، لأن غالب ما ينزل في المدينة عبارة عن أحكام وحدود وغالب ما ينزل بمكة عقائد وأخبار مما هو بمنزلة التخلية والأحكام بمثابة التحلية ولا تكون التحلية إلا بعد التخلية تأمل
قوله تعالى «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ» حرة حسنة «وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ» تلك الكافرة بما لها وجمالها ونسبها «وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ» حر قوي «وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ» ما له ونسبه وجاهه وشجاعته «أُولئِكَ» المشركون والمشركات «يَدْعُونَ إِلَى» الشرك والكفر المؤديين إلى «النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى» الإيمان به ورسوله وكتابه المؤدية إلى «الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ» وإرادته وتوفيقه «وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٢٢» بمعانيها فيعرفون معزاها ويتعظون بمرماها. فيتباعلون بمن مخافتها. كان صلّى الله عليه وسلم بعث أبا مرشد يسار بن حصين أبي مرشد الفنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من لمسلمين سرا، فلما قدمها سمعت به خليلته عناق فجاءته وكافته أن يواقعها كما كان في الجاهلية، فقال لها ويحك إن الإسلام حال دون هذا، فقالت له تزوجني، فقال لها حتى استأذن رسول الله، فقالت له أبي تتبرّم واستعانت عليه بزبائنها، فضربوه، فلما رجع أعلم حضرة الرسول بما وقع له معها واستأمره بزواجها، فأنزل الله هذه الآية في هذه الكافرة، أما المؤمنة فهي خنساء وليدة حذيفة بن اليمان أعتقها وتزوجها وقال لها لقد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك. وقيل نزلت في عبد الله بن رواحه لأنه كان أعتق أمة وتزوجها، فعاتبه العرب وعرضوا عليه حرة مشركة، فأبى ولا مانع من تعدد أسباب النزول واعلم أن الشق الأخير من الآية
179
خطاب إلى أولياء النساء عامة ينبئهم به أن لا يزوجوا المسلمات إلى المشركين، ولا يتزوجوا المشركات، لذلك السبب. الحكم الشرعي: يحرم على القطع زواج المسلم بالكافر والكافرة بالمسلم ولا ينعقد النكاح بإجماع الأمة، وحكم المجوس حكم المشركين لأنهم ليسوا بأهل كتاب، ويجوز أن يتزوج المسلم كتابية لأنه مؤمن بنبيا ونبيّها وكتابه وكتابها لا العكس، لأن الكتابي يجحد نبي المسلمة وكتابها ويوشك أن يحملها على الارتداد عن دينها، لأن الرجال قوامون على النساء وخاصة النصارى فلا طلاق عندهم إلا بالزنى ويوشك أن يضارها ولا سبيل للتخلص منه إذ لا مساغ للتفريق عندهم إلا بالزنى وهو محرم تأباه المسلمة، فيضطرها الحال على البقاء في الشقاء وتحمل الضيم والأذى والذل والهوان مما لا يلتئم وعزة المؤمنة وهذه الأشياء محتملة الوقوع مع الكتابية أيضا إلا أن حملها على الإسلام خير عند الله وعند زوجها، وإذا لم تعجبه يطلقها، وإذا ضارها فلها طلب التفريق، فاحتمال بقاء الضرر عليها معنى معدوم، لأن الشريعة الإسلامية كفلت لها حقها وساوتها بالمسلمة. وهذه الآية محكمة لأن اسم الشرك لا يتناول إلا عبدة الأوثان ولا وجه للقول بنسخها في حق الكتابيات لعدم دخولهن فيها، وما قيل إن اصحاب الشرك يتناولهن لأن اليهود تقول عزير بن الله والنصارى تقول المسيح بن الله لا يطرق على جميع أهل الكتاب بل هو مقتصر على من يقول ذلك بمعنى غير قابل للتأويل والتفسير، ولهذا قال تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) الآية ٢٠ من سورة المائدة وهي مكررة فيها لأن الله جلت قدرته هو الأب الأكبر لجميع البشر ولكن لا على المعنى المتحقق بالأبوة تعالى الله وتنزه عن ذلك، كما أن الخلق كلهم أولاده وعياله، ولكن لا على المعنى المتحقق في البنوة كما سنأتي على تفصيل هذا في الآية المذكورة في محلّها إن شاء الله القائل «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ» لهم يا حبيبي «هُوَ أَذىً» للذين يقربون زوجاتهم معه لقذارته «فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ» أيها الناس إن أردتم المحافظة على صحتكم وطاعة ربكم «فِي الْمَحِيضِ» مدة وجوده، فإنه يسبب لكم الأذى، قيل هو الجذام ولا داء أقبح منه، فقد جاء بالأخبار من أتى حائضا وجذم فلا يلومن إلّا نفسه.
180
فاحذروا أيها الناس قربان نسائكم معه «وَلا تَقْرَبُوهُنَّ» مبالغة في عدم المجامعة، وإلا فالقربان بلا جماع غير ممنوع كما ستعلم فلا تجامعوهن «حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ» بانقضاء مدة الحيض واغتسلن منه «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» أي في القبل محل الحرث «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ» عما نهوا عنه بعد أن فعلوه جهلا أو عمدا ثمّ تابوا فتركوه، ولم يعودوا إليه امتثالا لأمره «وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ٢٢٢» من الأقذار الظاهرة والباطنة والمعاصي الحسية والمعنوية.
مطلب في الحيض والنفاس وما يجوز معهما وما يمتنع وكفارة من يقرب الحائض وفي الإتيان في الدبر:
روى مسلم عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسألوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية فقال صلّى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حفير وعباد بن بشير فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن، فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي لكراهة ما سمع منهما بعد نزول هذه الآية، فقال الحاضرون هذه الحادثة غضب رسول الله حتى ظننا أنه قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما أي لم يغضب، وإنما غضب من سؤالهما الأخير لمغايرته ما جاء في الآية الشريفة وهو لا يغضب إلا لله، لذلك أبان لهما بفعله هذا أنه لم يجد عليهما إلا أنه أفهمهما بأن سؤالا كهذا تجد قول الله يوجب غضبه، لينتهي الآخرون عن مثله، وليعلموا أن نهيه عن عدم قربان الحائض ليس لمخالفة اليهود وإنما هو اتباع لوحي الله الواجب إتباعه وافق شرع اليهود أم خالفه، لأن شرعنا ناسخ لما تقدمه من الشرائع كلها.
الحكم الشرعي: أجمع المسلمون على تحريم الجماع زمن الحيض وعلى كفر من يستحله لمخالفته القرآن، فقد أخرج الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من أتى حائضا أو امرأة في دبرها، أو كاهنا (أي أو جاء كاهنا يستشيره) فقد كفر بما أنزل على محمد. أي إذا استحل
181
ذلك ولم ير بأسا به. وأخرج الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم في الرجل يقع على امرأته وهي حائض قال يتصدق بنصف دينار. وفي رواية إن كان دما أحمر (أي في أول الحيض) فدينار، وإن كان أصفر (أي في أواخره) فنصف دينار، وهذه كفارته إذا لم يستحل، أما إذا استحله فلا كفارة فيه، وإنما فيه الكفر والعياذ بالله وعليه التوبة والرجوع الى الله وإلا فيقتل. وأجمعوا على جواز الاستمتاع بالحائض بما فوق السرة ودون الركبة، وجواز مضاجعتها، فقد أخرج في الصحيحين عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم من إناء واحد وكلانا جنب وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض، أي يستمتع بي. وأجمعوا على أن الحائض يحرم عليها الصوم والصلاة ودخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف وحمله، ووجوب قضاء الصوم لعدم تكرره، وعدم قضاء الصلاة لتكررها. وقد أخرج في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يأمرها بقضاء الصوم دون الصلاة، وأجمعوا على عدم ارتفاع شيء مما حرمه الحيض عنها حتى تغتسل أو تتيمم الا الصوم فإنه إذا انقطع دمها بالليل ونوت صيام النهار صح. وقال أبو حنيفة يجوز جماعها بعد مضي أكثر مدة الحيض إذا فاتها وقت صلاة ولم تعتسل، وظاهر الآية يؤيد الإجماع وقراءة التشديد في يطهّرن يؤكده، وانما جعلت كفارة من يجامع زوجته وهي حائض دينارا أو نصف دينار، لأنه والله أعلم يقابله دفع البلاء المتوقع حدوثه الوارد بالحديث الشريف المار ذكره، لأن الصدقة تدفع البلاء. قال تعالى «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ» مزرع ومنبت الولد كما أن الأرض مزرع ومنبت الحب شبه جل جلاله قبل المرأة بالأرض، والنطفة بالبذر، والولد بالنبات، تشبيها بليغا «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» من قيام وقعود واستلقاء وعلى طرف مقبلة أو مدبرة وعلى أي صورة وحالة ومكان وزمان شئتم، ولكن في القبل، لأنه محل الزرع المعبّر عنه بالحرث كالأرض الطيبة المنبتة، فإن الله تعالى أحل لكم ذلك كله كيف شئتم عدا أيام الصوم والحج والحيض والنفاس والأمكنة المحترمة. وتشير هذه الآية الى تحريم إتيان النساء في أدبارهن، ولهذا المغزى عبر عنه تعالى بالحرث ويؤيد هذا ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ملعون من أتى المرأة في دبرها
182
- أخرجه أبو داود- راجع الآية ٢٦ فما بعدها من العنكبوت في ج ٢ وما ترشدك إليه من المواضع. وقد أجمع العلماء على تحريم إتيان النساء في أدبارهن لأن الله تعالى حرم الفرج حال الحيض للأذى العارض وهو الدم، فمن باب أولى أن يحرم الدبر الملازم للنجاسة دائما المولدة للأمراض التناسلية، أعاذنا الله من ذلك، وقاتل فاعليه ولأن الله تعالى نص على ذكر الحرث وهو محل النبات فلا يجوز العدول عنه الى غيره، ولا يجوز بل يحرم على القطع تأويل محل الحرث بالدبر، لأنه سباخ لا ينبت، ولقوله تعالى (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) الآية السابقة، والله قد أمر أن يكون بالفرج دائما إلا وقت الحيض والنفاس للأذى والقذارة، والدبر محل الأرجاس دائما والأذى متحقق فيه، فالإتيان بالدبر مخالف للقرآن والحديث ويكفر مستحله وهذا هو الحكم الشرعي فيه. وما قيل إن الإمام مالك استدل في هذه الآية على جواز إتيان النساء في أدبارهن مكذوب عليه، وحاشاه من ذلك وتنزهت ساحته رضي الله عنه عما هنالك، وكذلك ما حكاه زيد بن أسلم عن نافع ومحمد بن المنكدر لا حقيقة له لمخالفته إجماع الفقهاء الذين أجمعوا على أن الحرث لا يكون الا بحيث يكون النسل فيجب أن يكون الوطء حيث يكون النسل، راجع تفسير هذه الآية في الجزء الأول، ص ٣٢١ في تفسير مجمع البيان للطبري.. وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ومسلم عن جابر قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها فمن ورائها جاء الولد أحول، وفي
رواية للترمذي: كانت اليهود تقول من أتى المرأة في قبلها من دبرها وذكر الحديث، وما قيل إنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن يرده ما رواه عبد الله بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد الله بن عمر فقال له يا عم ما حديث يحدثه نافع عن عبد الله أنه لم يكن ير بأسا في إتيان النساء في أدبارهن فقال كذب العبد وأخطأ وإنما قال عبد الله يؤتون في فروجهن من أدبارهن، وعلى هذا يؤول ما رواه ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم حينما قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم هلكت، قال وما أهلكك؟ قال حولت رحلي الليلة فلم يرد عليه حتى أوحى الله لرسوله في هذه الآية والحديث هذا أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وحاشا عمر أن يصدر منه غير الإتيان في القبل، إذ لا يميل الى ذلك المحل الخبيث عاقل فكيف
183
بمعدن العقل والمروءة؟ هذا واعلم أن كل ما ورد من الأحاديث في هذا الشأن محمول على هذا ولا يقول بغيره إلا منافق خبيث، وما قاله بعض الإمامية فهو من هذا القبيل استنادا على تأويل الحديث بما ليس مطلوب في معناه فلا يلتفت إليه والأكثر منهم على خلافه، وكل من له مكة من علم أو لمعة من إدراك أو ذرة من إيمان يقول بحرمته ولا يتردد في تأويل هذه الآية وتفسير هذه الأحاديث إلا على ما ذكرنا فضلا من أن الطبع السليم والغيرة الإنسانية يمجّانه ويقبحانه ويلعنان فاعله «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ» الأولاد الذين هم مظنة الانتفاع بهم في الدنيا والآخرة بإتيان النساء في فروجهن كما أمركم الله وإياكم أن تجعلوا نطفكم في غير محل الحرث فتهلكوا في الدنيا بالأمراض السارية الناشئة عن قذارة المحل، وفي الآخرة بالطرد من رحمة الله والتعرض لعذابه الأليم. ومما يؤكد قوله تعالى «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أن تتجاوزوا ما أمرتم به الى ما نهيتم عنه، وهذه الجملة مما تؤيد ما جرينا عليه في تفسير هذه الآية، إذ لا معنى للتقديم هنا غيره، لأنه معدوم في الأدبار. قال تعالى مهددا لمن خالف ذلك «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ» أيها العصاة بعد الموت فيجازيكم على مجاوزة أوامره «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ٢٢٣» الذين يمتثلون أوامر الله بالكرامة والرضوان. قال تعالى «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) وهذه الآية جاءت كالمعترضة بين أحكام النساء التي هي من تنمة معاملات النكاح، وذلك أنه كان بين عبد الله بن رواحة وختنه بشير بن النعمان شيء، فحلف لا يدخل عليه ولا يكلمه، وكلما قيل له فيه يقول حلفت فلا أتداخل في أمره الا أن تبرّ يمني فأنزل الله هذه الآية له ولغيره الى قيام الساعة، أي لا تجعلوا أيها المؤمنون الحلف سببا مانعا للبر والتقوى والإصلاح بين الناس وموجبا للقطيعة بينكم ولا تحلفوا على شيء من ذلك ومن حلف فعليه أن يكفر عن يمينه ويفعل ما هو الأحسن لقوله جلّ قوله «أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالكم كلها الموثقة بالإيمان وغيرها «عَلِيمٌ ٢٢٤» بما هو الأصلح لكم، ولذلك ينهاكم عن الحلف وعن أن تجعلوه سببا حائلا لأعمال البر والخير. تشير هذه الآية الى النهي عن الإقدام على كثرة الحلف لما فيه من
184
الجرأة عليه. وقد ذم جلّ شأنه مكثره بقوله (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) الآية ١٠ من سورة نون في ج ١ وقوله تعالى (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) الآية ٩٢ من سورة المائدة الآتية. وترك الحلف والتباعد عنه محمود عند العرب حتى إنهم يصفون قليله بأقوالهم، قال كثير:
قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الأليّة برّت
أي كان لم يقصد الحلف، ولكن سبق لسانه به، ومع هذا فإنه يبر بها احترام لشأنها، ولهذا يقول الله تعالى إنما نهيتكم عن الحلف إرادة أن تبروا به لأن توقيه من البر والتباعد عنه من التقوى والرجوع الى ما هو الأحسن من الإصلاح.
وقال بعض المفسرين إن الآية على حذف حرف الجر، أي من أن تبروا إلخ من حيث لا حاجة لتقدير من أوفى على قول الآخر أي في أن تبروا، أو تقدير أي أن لا تبروا لجواز حذفها في لغة العرب لمعلوميتها، قال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي
أي لا أبرح تدبر. روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من حلف علي يمين فرأى خيرا منها فلياتها وليكفّر.
مطلب في الأيمان وكفّارتها والإيلاء والطلاق والعدة وكلمات من الأضداد وما يتعلق بحقوق الزوجين:
وترمي هذه الآية إلى النهي عن الحلف بالله لما ذكرنا ما فيه من الجرأة عليه، ألا فليحذر المكثرون من الحلف وليعظموا أسماء الله لأن في الإكثار من الحلف تهاونا يؤاخذ عليه العبد، أما الذين لا يتهاونون بالأيمان وقد يقع منهم ذلك بمعرض الكلام مما هو غير مقصود فيقول لهم ربهم «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» أي مما لم يكن عن فكر وروية وما لا عقد له ولم يكن مقصودا كقول الرجل لا والله ما الأمر هكذا وبلى والله كان ذلك مما قد يكون من الإنسان بمعرض الكلام والمخاطبة من غير عقد اليمين ونيته، فلا كفارة عليه ولا إثم، أما الذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب فيه ليرضي الناس أو ليعتذر لهم أو يقتطع بيمينه مال أحد فهو أعظم وأعظم من أن يكون فيه كفارة، وإنما
185
الكفارة على من حلف أن لا يفعل شيئا مباحا ثمّ فعله، أو أن يفعله ثمّ لا يفعله.
قال مالك في موطأه: أحسن ما سمعت أن اللغو هو حلف الإنسان على الشيء يتيقن أنه كذلك ثمّ يوجد بخلافه، فهذا لا كفارة عليه ولا إثم، وما عدا ذلك فقيه الكفارة والإثم، أما اليمين الغموس التي فيها هضم حقوق الناس فلا كفارة فيها لعظمها عند الله كالقتل العمد لا دية فيه لعظمه أيضا «وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» أي ما وقع منكم عن قصد وعزم ونية وجزمتم على فعله وعقدتم عليه، وهذا هو معنى كسب القلب المراد بالآية. الحكم الشرعي:
لا ينعقد اليمين إلا باسم الله تعالى أو بصفة من صفاته، فمن حلف باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته على نحو ما تقدم ولم يبر بيمينه فعليه الكفارة وهي عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام ثلاثة أيام على التخيير كما سيأتي في الآية ٩٣ من المائدة، ومن حلف بغير ذلك فهو آثم، لأنه عظم المخلوق به وهو غير معظّم تعظيم من يحلف به، ولهذا فلا كفارة عليه إهانة للمخلوق به. روى ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو يسير في ركب ويحلف بأبيه فقال صلّى الله عليه وسلم:
إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت.
- أخرجاه في الصحيحين- «وَاللَّهُ غَفُورٌ» للأغي ومن كان يمينه غير مقصود، ومن حلف على شيء سابق يتحققه «حَلِيمٌ ٢٢٥» بقبول كفارة من يخطئ في حلفه لا يعامل فاعل هذين النوعين وما ألحق بهما بالشدة، ولا يعاجل من يكذب بيمينه المعقودة بالنية والقصد، كما لا يعاجل العصاة بالعقاب، فهو رءوف بعباده لا يستفزه الغضب، ولا يستخفه جهل الجاهلين قال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية آخر سورة فاطر في ج ١ ومثلها الآية ١١ من سورة النحل في ج ٢. قال تعالى «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ» أي انتظار «أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ» رجعوا عن يمينهم وآتوا نسائهم «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» للزوج الحالف إذا تاب وأناب إلى ربه وآب عن إضرار زوجته «رَحِيمٌ» (٢٢٦) بعباده إذ يقبل توبتهم وكفارتهم ما دامت روحهم في جسدهم غير حالتي اليأس والبأس «وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ» بأن أصروا على
186
إبلائهم وأرادوا إيقاع الطلاق على زوجاتهم فلم يقربوهم طيلة هذه المدة «فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لإيلائهم «عَلِيمٌ» (٢٢٧) بنياتهم، وفي هذه الجملة وعيد على عدم الفيئة، وقد جاءت هذه الآية بمناسبة الأيمان. الحكم الشرعي: الإيلاء والحلف على ترك وطء الزوجة أربعة أشهر فأكثر، قال ابن عباس كانت الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا فلم تفعله حلف لا يقربها السنة والسنتين، فيدعها لا أيما ولا ذات زوج، فلما جاء الإسلام جعله الله تعالى أربعة أشهر وأنزل هذه الآية، فإذا مضت ولم يطأها خلالها بانت منه بطلقة واحدة، لأنه عزم بذلك على طلاقها، وإن وطئها فيها بقيت في عصمته ووجبت عليه الكفارة وهي ما تقدم بيانها آنفا، وإذا حلف لأقل من أربعة أشهر فلا يعد موليا، فإن وطئها قبل هذه المدة المحلوف عليها فعليه الكفارة، وإلا فلا شيء عليه وتبقى في عصمته. قال تعالى «وَالْمُطَلَّقاتُ» سواء بالإيلاء أو بإيقاع الطلاق عليهن أو بتفريق الحاكم أو باليمين «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» أي حيضات لقوله صلّى الله عليه وسلم: دعي الصلاة أيام أقرائك، ولهذا صرف معناه إلى الحيض، وإطلاقه على الطهر غير مراد هنا، لأن نص الحديث يكون حقيقة على الحيض، ومن أراد المجاز وصرفه الى الطهر بعد هذا لا عبرة بقوله إذ لا محيد عن هذا وان كان يطلق على الطهر لأنه من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود والأبيض، والسدفة تطلق على الظلمة والضياء، والجلل على الكبير والصغير، والنبل على الصغار والكبار، والناهل على العطشان والريان والرهوة على الارتفاع والانحدار، والظن على الشك واليقين، والمفرع في الجبل على المصعد والمنحدر، وفعل مسر بمعنى أخفى وأعلن، وأخفى بمعنى أظهر وكتم، وباع بمعنى اشترى وشبع بمعنى جمع وفرق. الحكم الشرعي: إذا أوقع الرجل الطلاق على زوجته بعد الخلوة بها وقبل الدخول فعليها العدة، وإذا طلقها قبل الخلوة فلا عدة عليها ولا يحل لها الزواج قبل مضي العدة على اليقين في الحالة الأولى، ولهذا قال تعالى «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ» من تكون الولد لما فيه من انقطاع نسبه لأبيه وتوريثه منه ما لا يستحق من غيره لأن كتمان عدم انقضاء الحيض فيه ابطال حق الزوج من الرجعة إذا كان الطلاق
187
رجعيا، إذ له مراجعتها ما دامت في لعدنى، وله تجديد النكاح عليها بعدها إذا كان الطلاق دون الثلاثة، أو بالإيلاء أو بالتفريق والفسخ «إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فلا يكتمن ذلك لأنه يفضي الى زواجهن بالغير ويضيع نسب الولد.
وهذه الآية تشير الى أن هذا من باب كتم الأمانة، فإن الصدق فيه من فعل المؤمنات، وكما لا يجوز لهن كتمان عدم انقضاء مدة الحيض الأخير، لأنه ثلاث حيضات لا يجوز لهن أن يكتمن الطهر لما فيه من المحاذير وهو الرجعة، فتكون بغير محلها وامتداد النفقة من حيث لا يجوز لها أخذها، وكل الزوجات في هذه الأحكام سواء المؤمنة والكتابية وحتى الكافرة قبل تحريم زواجها «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ» من أجل العدة إذا كان الطلاق رجعيا أو بالفسخ أو التفريق أو بائنا دون الثلاث «إِنْ أَرادُوا» أي الرجال «إِصْلاحاً» مع مطلقاتهن وعزموا على حسن معاشرتهن «وَلَهُنَّ» أني النساء من الحق على الأزواج «مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ» من حقوق الزوج وكل ذلك يجب أن يكون «بِالْمَعْرُوفِ» من غير إضرار لأن الزوجية لا تتم إلا بمراعاة الحقوق بينهما، فيجب على الزوج أن يقوم بما تحتاجه زوجته حتى الزينة وأن يطعمها مما يطعم ويكسوها بنسبة أمثالها، وحاله ويقوم بمصالحها ويتزين لها ويسأل العلماء عما يتعلق بأمر دينها إن لم يعرف هو ذلك، وإلا فلها الذهاب بنفسها للعالم ليعرفها ما لها وعليها. - ويجب عليها طاعته والانقياد الى عصمته، وأن تحافظ على ما له وولده ونفسها، ولا تتزين إلا له ولا تبد زينتها لغيره، وتحفظه إذا غاب فلا تدخل أحدا ولا تجلس أحدا على فراشه، وتفعل كل ما يرضيه مما لا يكون فيه معصية لله وتتجنب كل ما يسوءه إلا فيما يرضي الله. روى مسلم عن جابر أنه ذكر خطبة النبي صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال فيها: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانات الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهون، أي لا يؤذن لأحد بالدخول ليتحدث معهن (وكان هذا عند الجاهلية لا بأس به، ولا يتصور فيه معنى آخر كالزنى مثلا، لأن فيه الحد والرجم) يؤيده قوله (فإن فعلن ذلك فاضربوهن) (وقد أجمع العلماء على أن
188
المراد بهذا الضرب) ضربا غير مبرح (فلو كان المراد به الزنى لقال عليهن الحد والرجم) تدبر. وكما لكم عليهن ذلك، فإن لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف «وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» منزلة عالية، لأنه أعقل منها وأكمل شهادة وأكثر حقا في الإرث والدية وأتم دينا، ولأنه صالح للقضاء دونها. قال صلّى الله عليه وسلم:
ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، ولجواز تزويجه وتسرّيه عليها، ولأن طلاقها بيده ويملك الرجعة بعد الطلاق الرجعي شاءت أم أبت، ولأنه المكلف بنفقتها فضلا عما يسوقه إليها من المهر «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» غالب عليكم أيها الزوجين إن هضمتم حق بعضكم، فإنه ينتقم منكم «حَكِيمٌ ٢٢٨» بتفضيله الرجال على النساء للأسباب المتقدمة وأسباب أخرى هو يعلمها، لأنه لا يأمر إلا لمنفعة الخلق ولا ينهى إلا عما يضرهم وإن كانوا لا يعقلون بعض المنافع المأمور بها والمضار المنهي عنها. قال تعالى «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ» بعدهما بالمراجعة قولا أو فعلا «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» بأن تطلقوهن طلقة ثالثة وتتركوهن بمعروف مثل ما أخذتموهن، إذ لا يحل لكم إمساكهن قبل الطلاق إضرارا بهن ولا بعده، لأنهن حرمن عليكم.
وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يطلقون ما شاءوا ويرجعون على نسائهم دون عدد معلوم بالغ ما بلغ، إلا أنهم يتقيدون بالعدة فقط من حيث الرجوع، بحيث لو طلقها مرارا كثيرة له مراجعتها في العدة وهكذا، وكان هذا أيضا جاريا في بداية الإسلام إلى يوم نزول هذه الاية، حتى إن رجلا قال لامرأته والله لا أطلقك فتبيني ولا آويك أبدا، قالت كيف؟ قال أطلقك وكلّما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت وأخبرت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، فسكتت حتى جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته، فسكت حتى أنزل الله هذه الآية فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يطلق. الحكم الشرعي: يملك الحر على زوجته ثلاث تطليقات متفرقات ولو في مجلس واحد فإنها تبين منه بينونة كبرى (خلافا لما جرى عليه المصريون حديثا من اعتبار الطلقات المتعددات في مجلس واحد طلقة واحدة استنادا لما أن هذا كان متاعارفا في بداية الإسلام، على أن سيدنا عمر رضي الله عنه أقر الأول وعمل به وأمر به، ولكن الناس سائرون إلى
189
ما تستخفه نفوسهم ويحبذون ذلك، ولعل هذا ينجز وتعمد الحكومة على العمل به لأن الناس ميالون إلى كل ما فيه يسر ولو خالف عمل السلف الصالح، وفيه إشارة إلى قوله صلّى الله عليه وسلم: لتتبعن سبل من قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه، ولتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع. كان صلّى الله عليه وسلم ناظر إلى ما تحدثة أمته من بعده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) وله مراجعتها بعد طلقة أو طلقتين في العدة دون رضاها، وله تجديد العقد عليها بمهر جديد ورضاها بعدها.
ويملك على زوجته الأمة طلقتين فيراجعها بالعودة بعد الواحدة دون رضاها وبعدها برضاها وعقد ومهر جديدين. وفي الطلاق البائن دون الثلاث يجوز العقد عليها ضمن العدة وبعدها برضاها ومهر جديد. ثم حذر الله تعالى الرجال من أن يضارّوا النساء كي يأخذوا ما أعطوه لهنّ من المهر بقوله عز قوله «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ» أيها الرجال «أَنْ تَأْخُذُوا» على الطلاق «مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» أبدا من مهر أو غيره إذا طلقتموهن برضاكم، وهذا في غير المخالعة إذ يجوز أخذ شيء من المهر أو كله إذا كانت لا تريده، أما هو إذا كان لا يريدها فلا يحل له أخذ شيء أصلا «إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» من واجبات الزوجية المارة الذكر والمحبة والألفة والمودة القلبية، إذ النفرة فيها موجبة لعدم القيام بحقه كالنفرة منه «فَإِنْ خِفْتُمْ» يا أولياء الزوجين «أَلَّا يُقِيما» الزوجان منكم «حُدُودَ اللَّهِ» بينهما كما هما مكلفان بها وتحققتم أن كلا منهما لا يقوم بواجبه تجاه الآخر كما هو مطلوب منه دينا ومروءة «فَلا جُناحَ» لا إثم «عَلَيْهِما» إذا طلب كل منهما أو أحدهما فراق صاحبه ولا بأس على المرأة «فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» نفسها من المال الذي تعطيه لزوجها بمقابل خلعها، ولا إثم على الزوج في أخذ ذلك، لأنه تكبّد مهرها أولا وفراقها ثانيا لأنها لم تألفه وقد أخذها على حب بها، وعلى الحكام أن يقوموا بذلك وأن يمكن الأولياء صلاحية التفريق بينهما إذا لم يمكن الإصلاح وبقاء الزوجية على ما يريد الله، إذ لا يجوز أن تبقى المرأة مضارة لزوجها، ولا الزوج مضارا لها، ولا أن يبقى مع امرأة لا تألفه، والدين يسر لا عسر فيه، والشريعة غراء سمحة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين ٣٥ و ١٢٨
190
من سورة النساء الآتية. «تِلْكَ» الأحكام المارة الذكر هي «حُدُودَ اللَّهِ» الواجب عليكم أيها المؤمنون الوقوف عندها «فَلا تَعْتَدُوها» وتعرضوا أنفسكم للشقاق والخصومة في الدنيا والعقاب والعذاب في الآخرة، ولهذا يهددكم ربكم بقوله جل قوله «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ» التي حدها لعباده «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٢٢٩» أنفسهم بما يحيق بهم من النزاع والنفرة في الدنيا، والجزاء في العقبى لتجاوزهم على الله ذاته بعدم اتباعهم أوامره، ومن أظلم ممن يتجاوز عليه.
نزلت هذه الآية في جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى أو في حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها، فشكت لأبيها بأنه يضربها ويشتمها، فقال ارجعي إلى زوجك فإني أكره أن تشكو المرأة زوجها، قالت فرجعت المرة بعد الأخرى وأبوها لا يسمع لها، فذهبت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، وقالت يا رسول الله لا أنا ولا هو، فأرسل إليه وسأله، فقال يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبيا ما على وجه الأرض أحب إلي منها غيرك، فقال لها ما تقولين؟ فكرهت أن تكذب، فقالت صدق وهو أكرم الناس حبا لزوجته، وما كنت أحدثك حديثا ينزل عليك خلافه، وإني أبغضه، فسأله فقال أعطيتها حديقة نخل، فقال لها تردين عليه حديقته وتملكين أمرك؟ قالت نعم، فرضي وطلقها. وروى البخاري عن ابن عباس ما يؤيد هذا وإنما أمرها بإعادة المهر لأن القصور كله منها، وكان هذا متعارفا في الجاهلية، ومعمول به في الإسلام حتى الآن عند عرب البادية بلا نكير. وعليه العمل بالمحاكم الشرعية أيضا أما إذا كان القصور من الجهتين فلا ينبغي أن يعاذ كل المهر بل بعضه ولا يجوز أخذ الكل إلا إذا كان كلّه منها وبطلبها التفريق كما في هذه القضية، لأنه مغبون مظلوم، ولذلك قال لها صلّى الله عليه وسلم تردّين عليه حديقته، ولهذا فإذا كان هو الذي لا يريدها فلا يجوز له أخذ شيء منه أصلا كما سيأتي في الآية ٢١ من سورة النساء أيضا لما فيه من الوعيد والتهديد. ومع هذا إذا احتمل الزوج سوء خلق زوجته وهي كذلك فهو أولى وأثوب ولهما الأجر العظيم عند الله تعالى، لأن أبغض الحلال إلى الله الطلاق كما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه أبو داوود عن ابن عمر،
191
وكذلك إذا كان دميما وهي وسيمة، أو بالعكس فللصابر على صاحبه ثواب عظيم عند الله. وجاء أيضا أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة- أخرجه أبو داود والترمذي عن ثوبان- ولا يجدر بالمرأة العاقلة أن تكون كالمتاع والدابة تباع من واحد إلى آخر وإن كان حلالا، فلو تحملت زوجها على سوء خلقه ودمامته خير لها، من أن تطلقه وتأخذ غيره خلوقا وضيئا ولا تدري هل تنشرح عنده أم لا، وقد يهون عليها فراق الآخر أيضا، وقد تندم على الأول، ومهما كانت شريفة عليها أن تتواضع لزوجها مهما كان إذا تقيد بحقوقها وراعى شروط الإسلام معها، فقد روي عن معاذ في حديث ساقه عن النبي صلّى الله عليه وسلم لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت أن تسجد المرأة لزوجها. وما بعد هذا تحريض على طاعة الزوجة لزوجها وناهيك به «فَإِنْ طَلَّقَها» ثلاثا «فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ» هذا الطلاق البات «حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» نكاحا حقيقيا بالدخول الشرعي المنبئ عنه قوله صلّى الله عليه وسلم الآتي بعدا. نزلت هذه الآية في تميمة أو عائشة بنت عبد الرحمن القرضي لما روى البخاري ومسلم عن عائشة، قالت جاءت امرأة رفاعة القرضى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت إني كنت عند رفاعة فطلقني بت الطلاق، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وانما معه مثل هدية الثوب فتبسم صلّى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته. أي أن العقد ووجود الخلوة لا يكفيان لحل الرجوع إلى الزوج الأول بل لا بد من الدخول حقيقة «فَإِنْ طَلَّقَها» الزوج الثاني بعد وطئها على الوجه المار ذكره «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا» بعقد ومهر جديدين، وهذه الرجعة معلقة على الشرط المبين بقوله تعالى «إِنْ ظَنَّا» تيقنا «أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» بينهما من حقوق الزوجية المارة وإلا فلا إذ لا فائدة من المراجعة «وَتِلْكَ» الأحكام المبينة أعلاه هي «حُدُودَ اللَّهِ» الواجب مراعاتها على الزوجين والتقيد بها «يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (٢٢٠) ماهيتها ويفهمون مغزاها ويفقهون مرماها فيعملون بها. الحكم الشرعي: يشترط للزوجة التي تريد الرجوع إلى مطلقها باتا أن تتزوج بغيره بعد انقضاء عدتها منه، ثم يشترط أن تمكن الزوج
192
الثاني من الدخول بها حقيقة، وبعد طلاقها منه وانقضاء عدتها تعود لزوجها الأول بعقد ومهر جديدين، وإلا فلا تحل له إذا فقد أحد هذه الشروط. واعلم
أنه لا يجوز أن تزوج نفسها لمدة معلومة، لأن هذا نكاح باطل وعقد فاسد، لأن النكاح إذا لحقه شرط كهذا أفسده، وعقد النكاح عندنا معشر أهل السنة والجماعة لا يكون موقتا كمن يذهب مذهب حل المتعة، والزواج لمطلق التحليل مشئوم مذموم فاعله. روى ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له. - أخرجه الترمذي- وورد أنه قال هو التبس المستعار. وقال نافع أتى رجل إلى ابن عمر فقال إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فانطلق أخ له من غير مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول، فقال لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله، وإنما قرن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا الفعل باللعن لأنه ليس من أخلاق المؤمن لمنافاته الشروط المطلوبة فيه والغيرة على نفسه، والمؤمن عزيز لا ينبغي أن يعمل ما فيه هو انه بين الناس.
كراهة الطلاق وجواز الخلع على مال وحرمة أخذه إن كان لا يريدها ووقوع الطلاق الثلاث:
قال تعالى «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» طلاقا رجعيا أو بائنا دون الثلاث «فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» شارهن على انقضاء العدة، والذي يؤيد أن معنى بلغن هنا قاربن قوله تعالى «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» أرجعوهن لعصمتكم وأبقوهن عندكم وعاملوهن بالحسنى، ولو كان معناه قضين عدتهن وخلفها لما أمر الله تعالى بإمساكهنّ إذ لا يجوز لأن الطلاق يصير بائنا والبائن لا بد له من عقد ومهر جديدين. وجاء في القرآن بالألفاظ الصريحة للطلاق، وهناك ألفاظ تعورف عليها بوقوع الطلاق كالحرام وغيره مما عده بعض العلماء من الكناية عن الطلاق، وعده غيرهم من الصريح. ومن الكنايات المتفق عليها لفظ (تراكي طالق فقد جاء في فتاوى الخليلي من الشافعية ص ١٣٠ ما نصه لا ريب أن هذه الصيغة كناية طلاق.
ولا بد في الكنايات من النيّة، فلو نوى الرجل إيقاع الطلاق على زوجته بما ذكره
193
وقع، وإن لم ينو فلا. وهناك كنايات اصطلح عليها مبينة في كتب الفقه مثل روحي وأنت خلية برية، فكلها تحتاج إلى النية، أما صريح الطلاق فلا يحتاج بل يقع بمجرد صدوره وهو من الثلاث التي جدهن جد وهزلهن جد، والطلاق الثلاث بلفظ واحد قد تعارفوا على وقوعه ثلاثا مع أنه لا يعتبر ظاهرا إلا طلاقا واحدا ولو تكرر في مجلس واحد يعتبر واحدا أيضا كما عليه الآن محاكم حكومة مصر اتباعا لما كان في بداية الإسلام، وإن إيقاعه ثلاثا كان بخلافة عمر رضي الله عنه زجرا للناس من أن يلوكوا بألسنتهم كلما تغالطوا أو تخالفوا على شيء حلقوا بالطلاق الثلاث أو أوقعوا الطلاق الثلاث على زوجاتهم بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة.
ولكن مع الأسف لم يؤثر فيهم هذا، فتراهم كلما قاموا أو قعدوا حلفوا بالطلاق أو طلقوا، ولهذا فإن ما ذهبت إليه حكومة مصر فيه وسعة للعوام ورحمة بالنساء الغائلات، إذ يطلقن بلا سبب. وجاء في صحيح مسلم أن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنهما طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كان فيه إتاءة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه. أي أوقعه ثلاثا زجرا لهم، وكان ذلك زمن الأصحاب والخلفاء الراشدين ومن بعدهم، واستمر عليه العمل حتى الآن، واعتبار الثلاث واحدة مأخوذ من قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) باعتبار أن ما يوقعه المطلق من الطلاق مهما كان متعددا يعتبر مرة واحدة، وعليه الفخر الرازي وجماعة من المفسرين.
راجع الجزء السادس ص ٥ من المبسوط للإمام السرخسي. هذا، وحكم الرجعة أن يشهد رجلين على قوله راجعت زوجتي فلانة لعصمة نكاحي ضمن العدة أو يعاملها معاملة الأزواج خلال العدة، فيكون راجعها فعلا «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» بأن تتركوهن بلا رجعة حتى تنقضي عدتهن، فيملكن أمرهن، وهذا مما يؤكد أن معنى بلغن قاربن كما مر «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً» بهنّ لا رغبة «لِتَعْتَدُوا» عليهن فيضطررن لفداء أنفسهن بأن تراجعوهن لهذه الغاية لا للإمساك بالمعروف، ولهذا يقول الله تعالى «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» الإمساك بقصد الإضرار «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» وعرضها لعذاب الله بمخالفته حدوده التي نهى عنها ومخالفة أمره
194
من الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان «وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ» التي بينها لكم في حق النساء وغيرهن «هُزُواً» لعبا وسخرية من غير مبالاة بها ولا تدبر لما يترتب على الإعراض عنها من العذاب. وهذه الجملة والتي قبلها جاءت بالتهديد والوعيد لمن يقدم على مخالفة ما حده الله في أمر النساء خاصة، لأن الإضرار بقصد أخذ الفداء عظيم عند الله، لا سيما إذا كانت المرأة فقيرة، فإنها تضطر للبقاء تحت ظلمه، والله تعالى لا بد أن يغتار للمظلوم في الدنيا والآخرة. وسبب نزول هذه الآية أن الجاهليين كانوا يكثرون من الطلاق والمراجعة بقصد إضرار الزوجة وإلجائها لرد ما دفعوه لها من المهر بعد قضاء شهوتهم منها، وإذا عوتوا على فعلهم هذا قالوا إنا لا عبون غير جادين بما نوقعه على أزواجنا، فمنعهم الله من ذلك وأوعدهم وهددهم لئلا يعودوا لمثله. أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة. وعن أبي الدرداء: ثلاث اللاعب فيهن كالجاد النكاح والطلاق والعتاق. وعن عمر رضي الله عنه:
أربع مقفلات النذر والطلاق والعتق والنكاح. ومعنى مقفلات أنه متى نطق بهن الرجل وجين عليه إذا لم تعلق على شرط فإنهن لا يقعن إلا بوقوعه «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» فيما بين لكم مما لا بد لكم منه والزموا أنفسكم الأخذ بها لتظهر عليكم آثار هذه النعمة «وَ» اذكروا نعمة «ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ» واعملوا بها لأن الله «يَعِظُكُمْ بِهِ» لتنتفعوا بامتثال ما أمركم به وبانتهاء ما نهاكم عنه في كتابه وعلى لسان رسوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس خافوه واخشوا عقاب عدم امتثال أمره «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٢٣١» لا يخفى عليه حالكم ونيتكم، فأحسنوا قلبا وقالبا وإلا فإنه سيصب عليكم بلائه من حيث لا تشعرون ولا مخلص لكم منه. نزلت هذه الآية في ثابت بن يسار الأنصاري لأنه طلق امرأته حتى إذا شارف أجل انقضاء عدتها راجعها بقصد إضرارها وإلجائها لإعادة ما أخذته من المهر. قال تعالى «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» أي انقضت عدتهن، ويدل على أن المراد هنا من (بلغن) قضين قوله جل قوله «فَلا تَعْضُلُوهُنَّ» أيها الأولياء فتمنعوهن
195
من الزواج، لأن معنى العضل هو المنع والضيق والشدة، قال أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك إن ولّى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
أي لا تمنعوهن «أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ» الأول بعقد جديد إذا كان الطلاق دون الثلاث لأن الآية مصدرة بطلقتين والذي مر كله مفرع عنها، ومما يدل على أن المراد بالأزواج هم الأول قوله تعالى «إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» أي بعد ما وقع بينهم النفار والشقاق وحلوا الاختلاف فيما بينهم «ذلِكَ» الذي وعظكم الله به «يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ويعلم أن الله سيعاقبه فيه، فمن لا يتعظ بموعظة الله لا يؤمن به ولا يؤمن باليوم الآخر، فيكون خارجا عن حدود الله مخالفا أوامره مقترفا نواهيه دون تأويل «ذلِكُمْ» الذي أمر، به من ترك العضل والإضرار والإمساك بالمعروف والإحسان «أَزْكى لَكُمْ» أيها الناس عند الناس، لئلا يقال فيكم ما يثلب كرامتكم من الانتقاد، ومظنة أخذ الفداء من النساء، أو زواجهن ثانيا لأخذ مهورهن في حالة العضل «وَأَطْهَرُ» لقلوبكم وقلوب الناس مما يحوك فيها من ذمكم وغيبتكم، وأجمع للمودة وأقرب للثناء الذي هو خير من الغنى، وأبعد من أن تمزّقوا أعراضكم بما تلوكه ألسنة الناس فيكم، وأزكى لكم عند الله تعالى لرضاه عليكم بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه وزواجره رغبة لا رهبة، ومن هنا أخذ العلماء اشتراط رضى الولي بالنكاح قريبا كان أو بعيدا ثيبا كانت أو بكرا، ولهذا البحث صلة في الآية ٢٥ من سورة النساء الآتية «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» بأن الذي حده لكم في هذه الآيات هو خير لكم في دينكم ودنياكم وعاقبة أمركم «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ٢٣٢» عواقب الأمور وما يترتب على الامتثال في الإصلاح بينكم وما ينجم عن الخلاف من عواقب سيئة، لأنكم تجهلون النتائج وما ينشأ عنها. وليعلم أن حكم هذه الآيات كلها عام مطلق، وأن نزولها بسبب خاص لا يخصص عمومها ولا يقيد إطلاقها، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، والآية الأخيرة نزلت في معقل بن يسار المزني إذ منع أخته جميلة من الرجوع إلى زوجها عاصم بن عدي أبي القداح
196
لأنه زوجها إليه رغم طلبها من الكثيرين، فطلقها وتركها عنده حتى انقضت عدتها وخطبت من قبل الغير، فكلفه أن يرجعها إليه فأبى لأنه تركها حتى خطبت وقال والله لا أنكحها لك أبدا وهي تريد الرجوع إلى زوجها الأول، فلما نزلت الآية كفر عن يمينه وأنكحها إياه لإرشاد الرسول له ولغيره بأن من حلف يمينا ورأى أن في حنثه خيرا فعل ما هو الخير وكفر عن يمينه كما مر، وقد أخرج هذا الحديث البخاري والنسائي وغيرهما في معقل المذكور، وقيل نزلت في جابر بن عبد الله لما طلق ابنة عمه زوجها وأراد إرجاعها فأبى عليه قائلا أتطلق ابنة عمي ثمّ تريد أن أرجعها إليك. كأنه أنف من ذلك تعظما عليه ولا مانع من تعدد الأسباب.
مطلب في الرضاع وعدة الوفاة والطلاق وما يجب فيهما ونفقة الأولاد والمعتدات:
قال تعالى «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ» من مطلقهن «حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» أي يبلغ غايتها، لأن أقل الحمل ستة أشهر، فأكثر الرضاع سنتان لقوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) راجع الآية ١٥ من سورة الأحقاف في ج ٢ تجد تفصيل هذا البحث وما يتعلق به، وهذا الأمر للندب لأن المطلقة لا تجبر على إرضاع ابن مطلقها إلا إذا لم يأخذ ثدي غيرها، وكذلك لا تجبر على الإرضاع حال قيام الزوجية، لأنه لو كان واجبا عليها لما استحقت الأجرة عليه المبينة بقوله تعالى «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» بقدر حالة الطرفين قدر الاستطاعة لا ضرر فيه ولا إضرار بالنسبة لليسار والإعسار وأمثالهما «لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها» قدر طاقتها «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها» بأن ينزع منها إذا كانت تريد إرضاعه وتربيته، لأنها خير له وأسفق من يغرها مهما كانت قريبة له وهي أرفق به ولبنها أحسن له من لبن غيرها ومن اللبن المجمد أو الميبس لأن الله خلق لكل ما يليق به ويحسنه، وهو الذي أحسن كل شيء خلقه، وفي أخذه منها إضرار بها لانشغال فكرها عليه وضيق صدرها من فراقه وَلا» يضار «مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» بأن يكلف أن يعطيها أكثر من أجر مثلها أو خارجا عن وسعه وطاقته، وأن لا تلقيه عليه بعد أن ألف إرضاعها فيكلف على المراجعة بإرغامها على إرضاعه
197
لأن الولد يتضرر أيضا في هذه الحالة علاوة على ضرر أمه «وَعَلَى الْوارِثِ» لأبي ولي الصغير «مِثْلُ ذلِكَ» مثل ما على أبيه لو كان حيا، إذ يجب عليه أن يقوم مقام أبيه بحقه، وإذا كان للولد مال فنفقته من ماله لا على وليه ووارث أبيه، إلا أن الولي عليه أن يتولى ما له ويحافظ عليه وينميه له «فَإِنْ أَرادا» الوالدان أو الولي والأم «فِصالًا» فطاما قبل الحولين «عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ» بينهما ومع الغير وظهر لهما بعد التروي أن فطامه بالسن الذي بلغ إليه حين إرادة الفصال لا يضره وتحقق ذلك لديهما بإخبار العارفين بذلك، واتفقا عليه «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما» في فطامه ولا حرج ولا إثم، ولوليه أخذه منها إذا أسقطت حقها في حضانته أو سقطت بوجه من الوجوه الشرعية كزواجها بأجنبي أو تحقق عدم أمنها عليه، لأن الولد له لا لأمه، وقيل في المعنى:
لا تزدري بفتى من أن يكون له أم من الروم أو سوداء عجماء
فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللأبناء آباء
وإن تبين أن فطامه يضرّه فلا يجوز وتحبر على إمساكه إذا كان لا يقبل ثدي غيرها حتى يستغني، وإلا فيرضعه غيرها، ولهذا قال تعالى «وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ» غير أمهاتهم لعلة أو لغير علة وكان يقبل ثدي المرضعة «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» في ذلك ولا إثم إذا كانت أمه راضية بذلك ولا مانع يمنعها من حضانته، لأن هذا جائز حتى حال قيام الزوجية فلأن يجوز بعدها أولى بشرط عدم تحقق الضرر بالولد وبما «إِذا سَلَّمْتُمْ» أمه ما تراكم عليكم من نفقة وأعطيتم «ما آتَيْتُمْ» الظئر الذي ترضعه ما تستحقه من الأجرة إذا لم تكن متبرعة حتى يأمنوا على الولد من الضرر، وليكن تسليمكم الأجرة لأمه أو لمرضعته «بِالْمَعْرُوفِ» عن طيب نفس وليطيب قلب المرضعة وتزداد رغبة في النظر إلى الولد والمحافظة عليه كابنها فلا تفرط فيه، ولا تعتذر من عدم إرضاعه، ولا تهمله، ولا تنصرف عنه لما يشغلها عنه، وتراعيه حق رعايته «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الآباء والأولياء والمرضعات والأمهات في حقوق الأولاد، فإن في مخالفتها ضياع الولد وهضم حقوق والديه وأوليائه إذا كان القصور من أمه، وحقوق أمه إذا كان
198
القصور من أبيه أو وليه، وعلى المقصر الآثم «وَاعْلَمُوا» أيها الأولياء والأمهات والمرضعات «أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ» في الأولاد وغيرهم «بَصِيرٌ» (٢٣٣) في ظواهر أعمالكم وبواطنها فاحذروه وأحسنوا نياتكم. وفي هذه الجملة من التهديد ما هو غني عن البيان، وهذا هو الحكم الشرعي في الرضاع والحضانة وقد علمتم مدة الرضاع. أما الحضانة فهي سبع سنين للولد، وتسع للبنت على أصح الأقوال، والأصل فيها الاستغناء عن الخدمة عرفا بأن يستغنيا عن خدمة الأم في نظافتهما ولباسهما وأكلهما وشربهما، وإلا فلا، ولهذا الأمر في هذا الشأن للقاضي النقي الأمين ويفهم من الآية أن كلا من الأب والولي مكلف بنفقة المرضعة وكسوتها علاوة على حوائج الولد الضرورية حتى نهاية مدة الرضاع، أما في الحضانة فيكلف الولي بنفقة كافية للولد كافلة بجميع لوازمه وأجرة الحاضنة بمثابة خادمة له، وتختلف النفقة والأجرة باختلاف الأشخاص والأمكنة، ويراعى فيها قوله تعالى آنفا (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وقوله عزّ قوله (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الآية الآتية والأحسن أن يكون باتفاق الطرفين ليعطيها المعطي عن طيب نفس ويأخذ الآخذ كذلك، وهي أحسن من التقدير بمعرفة الخبراء، لأن كلا منهما يميل لطرف غالبا، وقد لا يرضى بتقديرهما أحدهما أو كلاهما، والنفقة تثبت ويلتزم بها بالتراضي أو بحكم القاضي، وتعتبر من يوم الطلب سواء كانت في ماله أو في مال وليه لئلا يتضرر بالتسويف والمماطلة التي قد تكون من الولي أو من الحاكم قال تعالى «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ» يتركون «أَزْواجاً» واحدة فأكثر أحرارا أو إماء «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» من الأيام. وجاء عشر بلفظ التأنيث لأن العرب إذا أبهمت في العدد من الليالي والأيام غلبوا الليالي حتى أن أحدهم يقول صمت عشرا من الشهر وذلك لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام، فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا عشرة أيام «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» بانقضاء هذه المدة «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» أيها الأولياء «فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ» من الزينة وغيرها حتى انقضت مدة حدادهن على أزواجهن أما في أثناء العدة فليس لهن التزيّن ولا الخضاب ولا غيره، وإذا فعلن أثمن وإذا لم ينههن أولياؤهن أثموا أيضا لما فيه من مخالفة أمر
199
الله وإغضاب أولياء أزواجهن المتوفين «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (٢٣٤) لا يخفى عليه شيء من أحوالكم، قد أعلم الله تعالى عباده في هذه الآية أن عدة الوفاة غير عدة الطلاق، لأن الحزن فيها أشد منه، ولأن في الطلاق أمل المراجعة ولو بعد زوج آخر، وهذا الأمل منعدم في الوفاة، ولأن الطلاق قد يكون عن شقاق وعداوة ونفرة وهذه أيضا منعدمة في الوفاة غالبا، وجاءت عامة في كل من توفى عنها زوجها، إلا أن هذا العموم مخصوص فيما إذا كانت حاملة فإن عدتها تنقضي بوضع حملها حرة كانت أو أمة كما سيأتي في الآية ٥ من سورة الطلاق، إذ جاءت مطلقة لم تقيد بقيد ما وعامة لما تخصص ومتأخرة في النزول عن غيرها إذ لم ينزل بعدها شيء في أمر
العدة فيدخل في إطلاقها المعتدة عن طلاق أيضا فإنها بالوضع تنتهي عدتها كالمتوفى عنها زوجها. ويشترط لعدة الوفاة الإحداد وهو ترك الزينة حتى الكحل والطيب واللباس غير المعتاد للبيت والحلي وغيره، وعلى كل امرأة فقدت عزيزها أن تحد عليه على أن لا تزيد على ثلاثة أشهر إلا بالوفاة، فتكون أربعة أشهر وعشرة أيام. روى مسلم عن عائشة قالت: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا.
وهذا إذا مات عندها، أما إذا مات في غير بلد فتحد من يوم بلوغها خبر وفاته، لأن الغائب عنها زوجها لا تتزين عادة إذ يحرم عليها الزينة لغير زوجها. وقال أكثر العلماء إن الإماء عدتهن نصف عدة الحرائر سواء في الوفاة والطلاق. قال تعالى «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ» أشرتم ولوحتم، لأن التعريض هو أن يضمن المتكلم كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده وغير مقصوده، ولكن إشعاره بجانب المقصود أتم وأوضح، وأصله إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه أي جانب منه، وكان يحول حوله ولا يظهره، كقول المحتاج جئت لأسلم عليك ويذكر حاجته تلويحا بما يريده، بخلاف الكتابة لأنها الدلالة على الشيء يذكر لوازمه وروادفة كقولك طويل النجاد لا طويل، وكثير الرماد للكريم، وعريض الوساد للبليد، وكقول المحتاج للغني أنا كالذي أي ان لفظ الذي يحتاج إلى الصلة كي يتم الكلام به، والفقير يحتاج للصلة ليسد عوزه فكل ما يوعز به «مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ» المتوفّى رجالهن بطريق
200
التعريض جائز، أما التصريح أثناء العدة فمحظور. هذا، وقد قال الشرنبلالي في حاشيته على الدرر هذا إذا كانت عن وفاة وكذلك إذا كانت عن طلاق فلا يجوز التعريض أيضا ولو كان بائنا كما في البيتين أي ضمن عدة الطلاق فقط وذلك والله أعلم حرمة لمطلقها الحي لأنه قد يتأذى والأذى معدوم في الميت، وحرمة الميت دون حرمة الحي، لأنه أفضل منه بما يصنع من عبادته لربه وخيره لخلقه وصلة لرحمه.
والتعريض هو أن يقول فلانة صالحة جميلة فمن يرغب في نكاحها ويطلب تزويجها وأني محتاج للزواج إذا يسر الله لي مثلها، ويجوز أن يسمعها هذا القول بنفسه أو بالواسطة، فإذا كانت ترغب فيه حبست نفسها له وردت خطبة غيره. والخطبة بكسر الخاء كالجلسة من الخطيب بمعنى الشان أو من الخطاب بمعنى الاستلطاف بالقول. أما الخطبة بضم الخاء فهي خطبة الجمعة وشبهها. والتعريض بما ذكر مباح، وكذلك بما يتصوره في فكره أو يتخيله بقلبه لقوله تعالى «أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ» بأن عزمتم على زواج من توفى عنها زوجها وأصررتم عليه، فلا حرج ولا إثم في ذلك الإضمار مهما كان نوعه، لأنه غير منهي عنه، وهو عبارة عن حديث النفس الذي لا يؤاخذ عليه العبد وإنما أباح الله تعالى لكم هاتين الطريقتين ولم يؤثمكم عليهما لأنه «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ» بين للناس وبين أنفسكم وفي قلوبكم بسائق الشهوة والتمني الذين لا يخلو أحد منهما «وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا» بأن تتصلوا بهن وتقولوا لهن صراحة بأنكم تريدون الزواج بهن أو تأخذوا منهن عهدا أو ميثاقا على التزوج بكم وإذا كان هذا في السر منهيا عنه ففي الجهر من باب أولى وقال أكثر المفسرين ان كلمة (سِرًّا) هنا بمعنى نكاحا وزواجا أو جماعا أو زنى وكله خلاف الظاهر لأن الله تعالى أذن أول الآية بالتعريض ونهى في آخرها عن التصريح يؤيده قوله جل قوله «إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً» بما يشابه الألفاظ المتقدمة ويجوز أن تتذاكروا مع وليها بمثل تلك الألفاظ وتزيدوا عليه بأنكم تحبون الانتساب إليه وترغبون بمصاهرته في المتوفى عنها زوجها لكمالها وأدبها ونسبها وحسنها فكل هذا لا إثم فيه ولا حرج في فعله «وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ» في العدة أو تحقنوا إجراءه أو تصمموا عليه فيما بينكم إذ ترك العزم على العقد
201
واجب عليكم «حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ» سمى الله العدة كتابا لأنها فرضت فيه وكتبت على البشر فإذا قضيت فلا محذور عليكم في الخطبة تصريحا وإجراء العقد علنا «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ» فضلا عما تتكلمون به شفاها «فَاحْذَرُوهُ» أيها الناس لا تخالفوا أمره أو تروغوا عن تعاليمه «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما سبق منكم في هذا الشأن لأنكم لا تعلمون تحريمه ولم يسبق النهي عنه من قبل نبيكم لعدم تلقيه وحيا عنه «حَلِيمٌ» (٢٣٥) يستر على عباده ما يقع منهم ولا يستفزه الغضب فيفضحهم حال ارتكابهم ما حرم عليهم بل يمهلهم ويؤخر عقوبتهم لعلهم يتوبون. قال تعالى «لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ» تجامعوهن «أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً» فلم تسموا لهن صداقا وهذه الجملة معطوفة على العقد المخفي وهذا التفسير أولى من جعل (أَوْ) بمعنى إلا لأنه خلاف الظاهر وأن هذا النوع من أنواع الطلاق آت في الآية التالية وهو فيما إذا كان العقد لم يسم فيه مهرا وقد نزلت في رجل من الأنصار تزوج من بني حنيفة امرأة ولم يسم لها مهرا ثمّ طلقها فقال صلّى الله عليه وسلم أمتعها ولو بقلنسوة، ووجه نفي الحرج مع أنه لا حرج بالطلاق قبل المس أو بعده لما فيه من سبب قطع الوصلة ولهذا قال تعالى «وَمَتِّعُوهُنَّ» تطييبا لخاطرهن بما تطيب به نفوسكم أيها المطلقون من أنواع المتاع لا تضييق عليكم فيما تعطونه لها «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ» بحسب إمكان الرجل ومكانته وإمكانه «مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ» من غير حيف ولا عنف بلين ورفق وطيب نفس. واعلموا أن تمتع المطلقات كان ولا يزال «حَقًّا» واجبا لازما لا ندبا ولا مباحا «عَلَى الْمُحْسِنِينَ» (٢٣٦) معاملة النساء الذين يراعون حقوقهن ويرغبون فى إرضائهن إجابة لإرادة ربهم وهذه المتعة هي المسماة الآن بنفقة العدة ويجبر الزوج عليها في كل الأحوال إلا إذا لم يختل بها إذ لا عدة عليها ولا نفقة عليه لأنها شرعت بمقابل حبس المرأة نفسها عن الزواج خلالها، أما إذا طلقت على هذه الصورة فينبغي أن يعطيها المتعة سواء اختلى بها أم لا لإطلاق الآية ولأنها عبارة عن تطييب قلبها لأنها قد يلحقها حيف وتهمة بسوء خلقها أو خلقها أو نسبها هذا إذا لم يكن الطلاق على طلبها وإلا لا. قال تعالى «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
202
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ»
أي يلزمكم نصف «ما فَرَضْتُمْ» على أنفسكم
من المهر المسمى عند العقد لا مهر المثل لأنه لا يرجع إليه إلا عند عدم التسمية «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ» عنكم أو يسامحونكم به أنفسهن أو أولياؤهن برضائهن والنون في (يَعْفُونَ) ضمير جمع المؤنث ولهذا لم يسقطها الناصب إذ يستوي فيه الرفع والنصب، ومن قال إنه ضمير الرجال قال إن النون علامة الرفع ولم يسقطها الناصب لأن الفعل مبني لا يؤثر فيه الناصب كما لم تسقط الواو التي هي ضمير المذكر وإنما سقطت الواو التي هي لام الفعل وإسناده للنساء أولى بالمقام، يؤيده قوله تعالى «أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» من أوليائهن إن كن قاصرات أو غير حائزات شروط التصرف لأن الولي هو القيّم عليها وقد يكون هو الذي زوجها وهو الذي ألزم الزوج مهرها ولذلك له أن يعفو عن المهر وغيره «وَأَنْ تَعْفُوا» أيها الأولياء والنساء البالغات الحائزات حق التصرف عن نصف المهر المذكور أو عن بعضه فتبرئوا ذمة الأزواج منه فهو «أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» من أن تأخذوه وفي حالة العفو ينبغي للزوج أن يمتعها بما تسمح به نفسه تطييبا لخاطرها، ثم بين سبب العفو بقوله عز قوله «وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ»
لأنكم تقاربتم بسبب هذا الزواج فليدم بينكم الإحسان لأن في الأخذ قطيعة له وسبب للتخاصم وفيه حث الطرفين على كرم الأخلاق وإذا عفى الزوج وترك المهر كله فهو أولى والفضل لمن تسمح نفسه بما يستديم به مودة الآخر إذ قد يؤدي هذا التسامح إلى الرجعة فلا يبقى محل للحقد والبغضاء والمشاحنة وهذا هو المعروف والإحسان المطلوبين في التفريق «إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (٢٣٧) لا يضيع عمل عامل منكم فاعملوا خيرا لأنفسكم لتجدوا ثوابه عند ربكم القائل «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ» المكتوبات «وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» خاصة وهي صلاة الصبح على أصح الأقوال لمزيد الاعتناء بها ولزوم المحافظة عليها لأنها ثقيلة على من لم يوفقه الله لفضلها، لأن من الناس من يغفل عنها ويعرضها للضياع فيصليها قضاء وهيهات الأجر بين القضاء والأداء، وإنما رجح كونها الصبح لأنها تصلّى بمفردها سفرا وحضرا لا تقصر ولا تجمع مع غيرها ولأنها واقعة بين جمعين الظهر والعصر والمغرب والعشاء،
203
ولأنها في وقت يتكاسل فيه الناس للذة النوم ورطوبة الهواء في الصيف وشدة البرد بالشتاء وفتور الأعضاء وتمادي النعاس وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين المقدرين عظيم ثوابها فهي عليهم خفيفة سهلة يسرة يأتونها برغبة وطيب نفس، وهناك أقوال بأنها العصر أو الظهر وقد بيناها في الآية ٧٩ من سورة الإسراء في ج ١ فراجعها.
وحجة من قال إنها العصر وقوعها بين صلاتي نهار وليل: الصبح والظهر، والمغرب والعشاء. وحجة من قال إنها الظهر وقوعها وقت اشتغال الناس ولأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي محمد عليهما الصلاة والسلام ولأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين كما ذكره بعضهم، إلا أنه لا يتجه لأن الصلاتين اللتين قبلها وبعدها مختلفتان.
وحجة من قال إنها المغرب لضيق وقتها وانشغال الناس عنها بالأعمال والطعام والنزهة.
وحجة من قال إنها العشاء كراهية الحديث بعدها إلا بخير وسنيّة تأخيرها إلى ثلث الليل لما فيه من قطع السمر المنهي عنه. ولكل وجهة وأحسنها أو لها لقوله تعالى (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الآية المارة من الإسراء، أي يدونها ملائكة الليل والنهار لرؤيتهم لها بخلاف سائر الأوقات، وقال الشيخ محي الدين في فتوحاته إنها الوتر لقوله صلّى الله عليه وسلم: إن الله زادكم صلاة وهي الوتر ألا فصلوها إلخ، وقوله: الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني وكرره، ولختمه تعالى الآية بقوله:
(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) وفيها القنوت في بحث مطول فراجعه. ومن أراد أن يصيبها يقينا فعليه المحافظة على كل الصلوات لأن الحكمة من إخفائها هذا كساعة الإجابة من يوم الجمعة وليلة القدر من رمضان والاسم الأعظم من الأسماء الحسنى ليستغرق العبد أوقاته في الدعاء والذكر والصلاة وإحياء الليالي فيصيب الهدف.
«وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ» (٢٣٨) خاشعين خاضعين لهيبته وعظمته في صلاتكم وصيامكم وذكركم وقيامكم ودعائكم مطيعين له في كل ما يأمر وينهى، وفي هذه الجملة إشارة إلى أنها الصبح لأن القيام من النوم يكون فيها، والقنوت الذي أخذ به الإمام الشافعي فيها، والخشوع فيها أكثر من غيرها لأن الإنسان ينتبه من نومه صافي القلب لم يشغله شاغل عدا ذكر الله، وإنما ذكر الله تعالى الصلوات في تضاعيف أحكام الزواج والطلاق والنفقات والرضاع إيذان بشدة الاعتناء بها والمثابرة عليها
204
من غير اشتغال عنها بشأن أنفسهم وغيرهم، وتشير إلى لزوم المحافظة عليها.
«فَإِنْ خِفْتُمْ» حال وقت أداء الصلوات من عدو أو غيره ولم تقدروا على الإتيان بها كاملة الأركان والشروط «فَرِجالًا» أي ائتوا بها قياما لأنه أبلغ في الجواز «أَوْ رُكْباناً» إذا لم تأمنوا على أنفسكم حالة القيام وفي فعلها حيثما توجهت به دوايكم ماغ لكم أيضا، وسيأتي لهذا البحث تفصيل في الآية ١٠١ من سورة النساء فراجعها «فَإِذا أَمِنْتُمْ» من خوفكم هذا «فَاذْكُرُوا اللَّهَ» صلوا كعادتكم وعبر بالذكر عن الصلاة لا شتمالها عليه ولأنه معظم أركانها «كَما عَلَّمَكُمْ» من إكمال ركوعها وسجودها وإتمام خشوعها وخضوعها «ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» (٢٣٩) شيئا قبل واحمدوا الله على ما علمكم، ويؤذن ذكر الصلاة وما يتعلق فيها بين تلك الآيات المتعلقة بالطلاق وتفرعاتها بالحث على العفو والنهي عن الترك وأخذ الفضل من المهور والإضرار بالنساء وغيره من جميع ما نهى عنه وأمر به، لأن الصلاة تهيء النفس لفضائل الأعمال كما يكمل بها فواضل الملكات لكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد جيء بها هنا كالاعتراض بين البحثين ليجمع بين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلقه بالإعلام بأنها حقيقة هي معظم الدين المستعان بها على فروعه، وقد جاء في الحديث أنها عماد الدين ومعراج المؤمنين فمن قام بها حق القيام امتنع من الضرر والإضرار وأقدم على العفو والرفق والإحسان بخلق الله أجمع فضلا عمن كان بينه وبينهم صلة. قال تعالى «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً» ويوصون «وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ» بأن يمتعن «مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ» ويبقين في بيوتهن «غَيْرَ إِخْراجٍ» منها فهؤلاء تجب نفقتهن في ماله إذا أوفين بوصية أزواجهن طيلة تلك المدة «فَإِنْ خَرَجْنَ» من تلقاء أنفسهن إذ لا يجوز للورثة إخراجهن تنفيذا لوصية الميت المطلوب اتباعها «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» أيها الوارثون ولا إثم وإنما يكون عليكم الإثم إذا أخرجتموهن وخالفتم الوصية أو قطعتم عنهن النفقة في تلك المدة ولا حرج عليكم بعد خروجهن قبل إكمال الحول أو بعده «فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ» كزينة معتادة ولباس طيب وغيره، لأن الحداد مطلوب في أربعة أشهر
205
وعشرة أيام فقط التي هي مدة العدة بالنص المتقدم فإذا قضين هذه المدة فلهن أن يفعلن ما يشأن مما هو متعارف من زينة وطيب وأن يتزوجن بعدها ولا يجبرن على تنفيذ هذه الوصية للسبب الآتي «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٢٤٠» فيما شرع من الأحكام لعباده وما بين لهم من شرائعه. نزلت هذه الآية في حكيم بن الحارث الطائفي لما هاجر إلى المدينة وأبواه وزوجته وأولاده فلما مات رفع أمرهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فأعطى ميراثه لأبويه وأولاده ولم يعط امرأته شيئا لأن آية الميراث لم تنزل بعد وكانوا لا يورثون الزوجة وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها سنة كاملة إذ كانت العادة مطردة بأن الزوج بوصي لزوجته بذلك إذا أحبت البقاء سنة أو إلى تاريخ خروجها بإرادتها من بيت زوجها، لأن قضية التمتع إلى الحول ليس واجبا عليها بصريح هذه الآية بل مندوبا ومتوقفا على وصية الميت به فإن لم يوص فلا، ومما يؤكد الندب قوله تعالى «فَإِنْ خَرَجْنَ» فلو كان واجبا لكان عليهن الإثم ولجاز منعهن من الخروج ولهذا فإنهن بالخيار من تنفيذ وصية زوجها ببقائها سنة أو خروجها بعد إكمال الأربعة أشهر وعشرة أيام إلا أن إكمال السنة أولى بحقها رعاية لحق زوجها. ومن قال إن هذه الآية منسوخة بالآية الأولى المبينة أن عدة الرفاة أربعة أشهر وعشرة أيام لأن الأمر فيها للوجوب لا وجه له لأن المقدم لا ينسخ المؤخر إجماعا، وما احتج به القائل بالنسخ على ظن أن هذه الآية التي نحن يصددها متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول عن الآية الأولى عدد ٢٣٥ كآية (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) فإنها متأخرة في النزول عن آية (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) المتقدمة في التلاوة يحتاج إلى دليل قطعي ولا شيء من ذلك، وغاية ما قاله المفسرون انها متقدمة في المعنى، وهذا لا يضر ولا ينطبق عليه ما نحن فيه، راجع الآية ١٤٢ المارة تعلم أنها متقدمة في النزول والتلاوة والمعنى كهذه أيضا، لأن القائل لا يستند إلى دليل يؤيد قوله ولا إلى نقل صحيح، ولو فرضنا جدلا وقلنا إنها متقدمة في المعنى لا نقول بالنسخ لعدم وجود شرطه وهو التقدم نزولا وتلاوة ورتبة. ولا يقال أيضا إن هذه الآية
ناسخة للآية الأولى لأن الأولى جاءت بلفظ الأمر وهذه على الندب وهو أدنى حالا من الأمر والأدنى لا ينسخ الأعلى لأنه أضعف منه بدرجات
206
والضعيف لا ينسخ القوي كما أوضحناه في المقدمة في بحث النسخ. وغاية ما في هذه الآية الدلالة على أمر بن إعطائها النفقة والسكنى من مال زوجها حسب وصيته كما كان الأمر في الجاهلية وفي بداية الإسلام، وإبقائها في بيته سنة كاملة باختيارها تنفيذا لوصية زوجها، وهذا غير العدة الواجبة عليها لأنها على القطع وهذه على التخيير، فلو فرض أن أوصى الآن زوج زوجته بذلك ورضيت فلا مانع من تنفيذ وصيته شرعا كسائر وصاياه وعلى كل حال الأحسن أن تقضي الزوجة عدتها في بيت زوجها سواء كانت عدة طلاق أو عدة وفاة، ولكن الأمر الآن جار على خلافه فلا تجد مطلقة تبقى في بيت مطلقها يوما واحدا والقصور من الطرفين في هذا.
قال تعالى: «وَلِلْمُطَلَّقاتِ» كلهن على اختلاف أنواع الطلاق «مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا» واجبا مفروضا «عَلَى الْمُتَّقِينَ ٢٤١» ما نهى الله عنه كلّا أو جزءا وعليهم أن يتسامحوا في هذه المتعة ما استطاعوا تطييبا لقلوبهن وجبرا لخاطرهن، وقد أمتع الحسن بن علي رضي الله عنهما احدى مطلقاته بثمانية آلاف درهم وكان جوابها له متاع قليل من حبيب مفارق «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الواضح «يُبَيِّنُ» اللَّهُ لَكُمْ «آياتِهِ» المتعلقة بينكم وبين أزواجكم في حالتي الطلاق والوفاة ويمتنّ عليكم بتوضيحه «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٢٤٢» معانيها فتعملوا فيها وتعلموا الغزي منها أيها المؤمنون. هذا وقد جاءت هذه الآية مبالغة في زيادة البيان لجميع ما تقدم. وخلاصة الحكم الشرعي في هذا أن الرجل إذا تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ولم يسم لها مهرا ولم يختل بها فعليه المتعة فقط وأقلها ثوب وإزار وخمار، ولا حد لأكثرها بحسب ما تسمح به نفسه إذ لا عدة له عليها توجب حبسها عن الزواج بغيره كي يجبر على النفقة ولها أن تتزوج يوم طلاقها وانما كانت المتعة تفضلا وكرما منه إذا كان الطلاق وقع بطلبها وان كان عفوا منه كان عليه تطييب خاطرها بما تسمح به نفسه. ثانيا إذا تزوجها وسمى لها مهرا وطلقها قبل الدخول والخلوة فلها نصف المهر المسمى فقط ولا عدة عليها ولا نفقة لها عليه وله أن يمتعها بما تجود به نفسه أيضا.
ثالثا إذا تزوجها ولم يسم لها مهرا وطلقها بعد الدخول والخلوة الشرعية فعليه مهر مثلها كأختها أو عمتها المشابهة لها بالحسن والبكارة والنسب والحسب
207
وعليها العدة وعليه نفقتها وجوبا ما دامت في العدة. رابعا إذا تزوجها وسمى لها مهرا ودخل بها ثمّ طلقها فلها تمام المهر وعليه نفقة العدة وتسمى هذه المتعة في الحالات التي يجب على الزوجة فيها العدة نفقة عدة وفي الحالات التي لا تجب فيها العدة متعة.
مطلب قصة ذي الكفل ونادرة السلطان سليم وقصة أشمويل عليه السلام:
ثم طفق جل شأنه يقص علينا ما جرى على بعض أنبيائه فقال جلّ قوله:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» وذلك أنه حلّ فيهم الطاعون فهربوا من بلدهم خوف إصابتهم به وهذا استفهام تعجب أي أرأيت يا سيد الرسل حالة هؤلاء أشاهدت مثلهم «فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا» بأن أمر ملائكته أن يصيحوا بهم صيحة هائلة فماتوا كلهم دفعة واحدة «ثُمَّ أَحْياهُمْ» بدعوة نبيهم ذي الكفل عليه السلام واسمه حز قيل ابن بوذي ثالث خلفاء بني إسرائيل وسمي ذا الكفل لأنه كفل سبعين نبيا وخلصهم من القتل ويسمى ابن العجوز لأنها كانت عقيما وسألت ربها بعد الكبر والهرم فأعطاها إياه وكانوا في قرية تسمى «ادواردان» وقد وقع بهم الطاعون فخرج قسم منهم وبقي الآخر ففتك بالباقين وعقب انقطاعه عاد النازحون فقال بقية المتخلفين منهم لو نزحنا معهم ما أصابنا ما أصابنا من فقد أولادنا وآبائنا ونسائنا وأقاربنا فإذا عاد الطاعون سنفعل مثلهم فعاد الطاعون الكرة عليهم فخرجوا جميعا من تلقاء أنفسهم دون رضاء نبيهم المشار اليه ونزلوا بواد (أفيح) فأرسل الله إليهم ملكين فصاحا بهم فماتوا عن آخرهم وقد فعل الله ذلك بهم ليعلموا هم والذين من بعدهم أن من قدر عليه الموت لا مناص له منه، فصار نبيهم يبكي ويقول يا رب كانوا يعبدونك معي وبقيت وحيدا وبقي يدعو ويتضرع الى ربه مدة أسبوع فأوحى الله إليه أني قد جعلت حياتهم بيدك فقال لهم أحيوا بإذن الله فحيوا كلهم معجزة له عليه السلام فقاموا وعاشوا معه دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم، وكان موتهم هذا الذي استمر ثمانية أيام على ما قيل عقوبة لهم لما صدر منهم من القول المار ذكره فلا يقال كيف ماتوا مرة ثانية في الدنيا لأن إحياءهم كان لاستيفاء
208
آجالهم المقدرة عند الله تعالى ولذلك أحياهم، فلا يرد عليه ما جاء في قوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) الآية ٥٧ من سورة الدخان في ج ٢ لأن معجزات الأنبياء من خوارق العادات والآية عامة مخصصة بمعجزات الأنبياء كموت سيدنا عزير عليه السلام وإحيائه كما سيأتي في القصة الآتية بعد وفيها رد على منكري البعث، إذ ثبتت الحياة بعد الإماتة بصراحة هذه الآية بلا تعريض ولا تلويح، والذي يقدر على إحيائهم في الدنيا ألا يقدر على إحيائهم في الآخرة؟ بلى وهو على كل شيء قدير وهو أهون عليه وله المثل الأعلى. روى البخاري ومسلم عن عمر أنه خرج فلما جاء (سرع) بلغه أن الوباء قد وقع بها فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه، فحمد الله عمر ثمّ انصرف. «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» يبصرهم بما يعتبرون به كما بصر أولئك ليتعظوا «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ٢٤٣» أفضال الله عليهم فالكافر لا يشكر والمؤمن قليل شكره، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الآية ١٤ من سورة سبأ في ج ٢. قال تعالى «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يا أيها الذين أحييناكم بعد الموت «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (٢٤٤) بمن يتعلل منكم عن القتال قولا ونية وأن الله تعالى يعامل الإنسان بمقتضى طويته. وفي هذه الآية تمهيد للقتال الذي سيفرضه الله تعالى على رسوله وأمته وتشجيع عليه وإعلام بأنه لا مفرّ لأحد من الموت، وأحسن أنواعه أن يكون في سبيل الله، وقيل فيه:
من لم يمت بالسيف مات بغيره توعت الأسباب والموت واحد
وقيل أيضا:
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جبانا
ثم أكد جل شأنه الأمر في تضاعيف الترغيب بالعمل الصالح بالوعد بمضاعفة ثواب المجاهد على وجه يتضمن تسلية الإنسان في بذل نفسه في سبيل الله وبذل ماله لعيال الله فقال «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ» نفسه وماله «قَرْضاً حَسَناً» عن طيب نفس وحسن نية وإخلاص قلب «فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً»
209
لا حساب لها لأن عطاء الله لا يدخل تحت الحساب فضلا عن وصفه بالكثرة لأنه يبارك له في نفسه وماله وولده «وَاللَّهُ يَقْبِضُ» الرزق فيقتره على من يشاء لا بسبب الإنفاق «وَيَبْصُطُ» يوسعه ويكثره على من يشاء لا بسبب البخل «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٢٤٥» فرادى كما بدأكم أول مرة وتتركون ما خولكم إياه من مال وولد وراءكم في الدنيا وتحاسبون عليهما في الآخرة، فقدموا لأنفسكم ما استطعتم من الخير تربحوا وتنجحوا. أمر الله تعالى قوم ذي الكفل المذكورين بالجهاد بعد أن أحياهم وأخبرهم بفضله تمهيدا لشكره على ما أنعم به عليهم وقد نسبها لهم مع أنها من جملة أفضاله تكريما، قال عطاء الله الاسكندري: ومن فضله عليك أنه خلق ونسب إليك وقد أخبرهم أن من جاهد فكأنما أقرض الله نفسه وماله وقد تعهد الله بمضاعفة هذا القرض ومن أوفى بعهده من الله ومن يتعهد له الله يغنيه ويكفيه عن غيره. ويطلق القرض على كل ما أسلفه الرجل من خير أو شر، قال أمية ابن الصلت:
كل امرئ سوف يجزى فرضه حسنا أو سيئا أو مدينا كالذي دانا
وإن القبض والبسط في الرزق لحكمة تقتضيها إرادة الله لا لكون الرجل تقيا أو شقيا، فمن عرف هذا وأيقن بأن الخير فيما يختاره الله لعبده لا فيما يتصوره هو هان عليه ذلك ورضي بما عنده واستراح، قال القائل:
إذا ما تمنى الناس روحا وراحة تمنيت أن أشكو إليك وتسمع
فمن يشكو إلى الله ما يلاقيه منه يسمع خيرا ويصرف النظر عن الدنيا وينكب للآخرة، وقيل في المعنى:
تزود من الدنيا فإنك راحل وبادر فإن الموت لا شك نازل
وإن امرأ قد عاش سبعين حجة ولم يتزود للمعاد لجاهل
ودنياك ظل فاترك الحرص بعد ما علمت فإن الظل لا بد زائل
وعليه فليثق الإنسان بربه، وليقنع بما أعطاه، وليتيقن أن الخير في الواقع، وليحذر أن يكثر على ربه الأماني، فالكيس من دان (حاسب) نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. وليعلم هذا وأمثاله أن:
210
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
نادرة: - نزل السلطان سليم الأول العثماني سامحه الله في قارب يريد العبور من الآستانة إلى اسكدار، وكان معه أستاذه شيخ الإسلام العلامة شمس الدين أحمد چلبي الشهير بابن كمال فخاطبه السلطان أثناء جريان القارب فيها بقوله:
فيم اقتحامك لج البحر تركبه وأنت يكفيك منه مصّة الوسل
فأجابه فورا من بحر بيته بقوله:
أريد بسطة كف أستعين بها على قضاء حقوق للملا قبلي
فتعجب من حسن جوابه وأحسن إليه. ثم ذكر جل ذكره على طريق الاستفهام التقريري والتعجب التذكيرين بقصة أخرى من عجائب أفعاله البديعة وصنائعه الغريبة فقال تعالى يا سيد الرسل «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ» من أشرافهم من أهل الحل والعقد في المملكة وهؤلاء المتعجب منهم كانوا «مِنْ بَعْدِ» موت «مُوسى» عليه السلام «إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ» هو على ما قيل شمعون ابن يوشع عليه السلام، ومقول القول «ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» معه «قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا» مع ذلك الملك الذي تريدون أن يبعثه الله إليكم لأني أتوقع أن لا توفوا بوعدكم «قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» معه «وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا» من قبل الذين غلبونا ألا نريد أن نأخذ بثارنا منهم فلا بد لنا من قتالهم لننتقم منهم، فسأل نبيهم ربه عز وجل فبعث لهم ملكا وفرض عليهم القتال معه «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا» عنه وأعرضوا عن الجهاد معه وأخلفوا عهدهم وضيعوا أمر الله «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» ثبتوا على عهدهم مع الملك وظلم المخالفون أنفسهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ٢٤٥» الذين ينكثون عهدهم ويخلفون وعدهم. وخلاصة القصة الثانية قالوا إن يوشع بن نون عليه السلام كان أقام في بني إسرائيل خليفة لسيدنا موسى وسيدنا هرون عليهما السلام ومن بعده كالب بن يوقنا ثم حز قيل المار ذكره آنفا بالقصة المبينة في الآية ٢٤٢ المارة، فأقاموا أوامر الله تعالى فيهم بحكم التوراة بعد موت ذي الكفل حز قيل (وهذا
211
غير الياس المسمى ذا الكفل راجع الآية ٢١٣ المارة وما ترشدك إليه من المواضع) عظمت فيهم الأحداث وغيروا أوضاع الدين وبدلوا قسما من التوراة ونسوا عهد الله فيهم على ما فيها وعبدوا الأصنام، فبعث الله تعالى إليهم الياس ليجدد عهده فيهم ويأمرهم أن يطيعوا الله ويعملوا بأحكام التوراة، ومن بعده اليسع، فأقاموا فيهم ما شاء الله تعالى ومن بعدها عظمت الأحداث فيهم والخطايا فسلط الله عليهم العمالقة قوم جالوت ويسمون (الباشانا) يسكنون ساحل الروم بين مصر وفلسطين فغلبوهم على أراضيهم وسبوا ذراريهم وضربوا عليهم الجزية وأهلكوهم حتى لم يبق من سبط النبوة إلا امرأة حبلى فأمسكوا بها لئلا تبدل مولودها بذكر إن كان أنثى، فدعت الله تعالى فرزقها غلاما سمته شمعون ومعناه سمع الله دعائي، وكانوا ينطقون السين شيئا ومعناه بالعبرانية إسماعيل، فكبر وترعرع وتسلم التوراة بكفالة شيخ من كبارهم، فلما بلغ أتاه جبريل عليه السلام وهو نائم جانب الشيخ لأنه كان لا يأمن عليه أحدا فيظل ملازما له فدعاه بلحن الشيخ يا اشمويل فقام فزعا إلى الشيخ وقال يا أبتاه رأيتك تدعوني إفكره أن يقول له لا خوفا عليه، فناداه ثانيا فقال يا أبتاه تدعوني فقال له نم ولا ترد علي إن دعوتك، فناداه الثالثة وظهر له وقال اذهب إلى قومك وبلغهم رسالة ربك فإن الله قد بعثك فيهم نبيا، فلما أتاهم كذبوه وقالوا له إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل معه آية على نبوتك، ولهذا لم يقل لهم إن بعثت لكم ملكا لا تقاتلون معه كما التمسوا منه مع أنه أظهر مبالغة في إظهار تخلفهم عنه لأنهم إذا كانوا لا يقاتلون عند فرض القتال عليهم فلأن لا يقاتلون عند عدم فرضه من باب أولى. قالوا فدعا الله تعالى فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل له ان الملك الذي يجب أن يقاتلوا معه يشترط أن يكون من بني إسرائيل وأن يكون بطول العصا وإذا أدخل عليك نش الدهن بالقرن، وكان طالوت بن قيس من سبط بنيامين بن يعقوب مستوفيا لهذين الشرطين بعد أن استعرض كثيرا منهم على مرأى من قومه ولما أدخل عليه نش الدهن بالقرن فاستجمعت فيه الشروط الثلاثة فقال لهم هذا هو ملككم، وكان دباغا وسمي طالوت مبالغة في طوله فملكه عليهم وكان قوام منك بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعتهم طاعة أنبيائهم وكانت الملوك تنقاد
212
إلى الأنبياء فلا يعملون شيئا إلا بإرشادهم. قال تعالى «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً» حسب طلبكم فتهيأوا للقتال معه «قالُوا أَنَّى» من أين «يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا» وكيف يستحقه «وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ» لأنه ليس من سبط الملوك وفينا من
سبطه سبط يهوذا بن يعقوب كداود بن ميشا وغيره ولا هو من سبط النبوة سبط لاوى بن يعقوب الذي كان منه موسى وهرون وغير هما لهذا فانا لا نقبله ملكا علينا إذ يشترط أن يكون من أحد السبطين المذكورين فضلا عن أنه رجل دباغ فقير «وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ» فكيف نملكه علينا لأن الملك يحتاج للمال أكثر من احتياجه للسطوة بالرجال ويجب أن يكون من سبط الملك أو النبوة، قاتلهم الله على عنادهم هذا، الله يخبر نبيهم بأن طالوت أهل للملك وهم يقولون نحن أحق به منه «قالَ» نبيهم عليه السلام لا تعترضوا «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ» وكان أعلم بني إسرائيل في زمنه «وَالْجِسْمِ» وهذه فضيلة أخرى ينشأ عنها شدة القوة وهي مع العلم ركنان عظيمان لحفظ الملك والمال وليدلهما «وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ» من عباده لم يخصه بسبط ولم يجعله إرثا ولم يشترط له الغنى إذ قد يمكنه الله منه «وَاللَّهُ واسِعٌ» الرزق ويده أبوابه «عَلِيمٌ ٢٤٧» بمن يؤهله للملك والرزق لأنهما من فضله وسعته يفيضهما على من يشاء من عباده.
مطلب في التابوت ومسيرهم للجهاد ومخالفتهم توصية نبيهم بالشرب من النهر وقتل جالوت وتولية داود عليه السلام:
ثم إنهم طلبوا من نبيهم علامة على ملكية طالوت من قبل الله تعالى بعد أن لم يقبل منهم ما طعنوه به فدعى الله ربه فأخبره بعلامته «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ» الذي فقد منكم وآل فيه للعهد لأنه كان معروفا عند أسلافهم وعندهم بالاستقراء من أنبيائهم وهو على ما قالوا أنزل على آدم عليه السلام وكان فيه صور الأنبياء وهو من خشب الشمشام وكان طوله ثلاثة أذرع وعرضه ذراعين ولم أقف على نوعه وماهيته بأكثر من هذا،
213
وورثه شيث عليه السلام وتداوله أولاده من بعده إلى أن صار إلى ابراهيم وإسماعيل فيعقوب ثمّ وصل إلى موسى عليه السلام وكان يضع فيه التوراة وبعض الأشياء المقدسة وورثه أنبياء بني إسرائيل وكانوا يستنصرون به على أعداءها ويستشفون به «فِيهِ سَكِينَةٌ» قالوا هي كناية عن روح من روحه تعالى تخبرهم بلسان نبيهم عما يختلفون فيه وطمأنينة يسكنون إليها عند خوفهم وجزعهم هي لكم يا بني إسرائيل أمن «مِنْ رَبِّكُمْ» يوقعه في قلوبكم عند الخوف فتأمنوا وتخبتوا وتطمئنوا عند الجزع والفزع وتتسع قلوبكم عند الضيق وتنشرح له «وَبَقِيَّةٌ» فيه أيضا «مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ» من رضاض الواح التور والعصا وأشياء أخر محترمة عندهم تلقوها من الأنبياء الأقدمين، ويدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم: أوتيت مزمارا من مزامير آل داود. أي داود نفسه، وهذه النساء جارية عند بعض العرب فيقولون آل فلان للشخص نفسه (وإن أهل قضاء الميادين من أعمال محافظة دير الزور تستعمل هذه النسبة حتى الآن) وهناك أقوال أخر في معنى التابوت والسكينة والبقية لا يركن إليها لعدم الوثوق بصحتها. قالوا وكانت العمالقة المار ذكرهم حينما غزوهم وسبوهم أخذوه منهم، وإنما سلطهم ان عليهم لتركهم تعاليم دينهم وإرشادات أنبيائهم وانشغالهم بشهواتهم واستحلالهم ظلم بعضهم ولما وضعوه في بيت أصنامهم رأوها تنكست فتشاءموا منه، ثم وضعوه في ناحية من مدينتهم فأصاب أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم، فطرحوه في قرية من قراهم فسلط الله على أهلها الفأر حتى صارت الفأرة تبيت مع أحدهم فيصبح ميتا ثم دفنوه في فناء البلد قصار كل من يتبرز هناك يصاب بالباسور، فتحيروا في أمره فقالت لهم امرأة من بنات الأنبياء لا يزال المكروه فيكم ما زال عندكم، قالوا نعمل؟ فأمرتهم أن يأتوا بعجلة فيضعوه فيها ويربطوه لئلا يقع ويعلقوا العجلة بثور ويضربو هما ضربا مبرحا حتى يخرجا من حدود مدينتهم، ويتركوهما على وجههما ففعلوا ذلك ورجعوا، فأرسل الله أربعة من ملائكته يسوقونهما حتى أو صلاهما أراض بني إسرائيل، فلما رأوه كسروا نير الثورين وقطعوا حبالهما وأخذوا التابوت وانصرف الثوران لأهلهما، وإنما قال تعالى «تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ» لأنهم هم الذين وجهوا
214
الثورين إلى جهة بني إسرائيل، قالوا فصار بنو إسرائيل يهللون ويكبرون ويحمدون الله تعالى ودانوا لملكهم بعد أن رأوا هذه العلامة التي أخبر عنها نبيهم، وهناك أقوال أخر بأنهم رأوه نازلا من السماء وأن الملائكة أتتهم به من أرض التيه حتى أوصلته إلى بيت طالوت فأراهم إياه، والله أعلم، لأن القصة معلومة والكيفية مجهولة.
قالوا ولبث فيهم أشمويل عليه السلام أربعين سنة يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه إلى أن مات عليه السلام بعد قتل جالوت كما سيأتي «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إتيان التابوت بما فيه من السكينة والبقية بواسطة الملائكة «لَآيَةً لَكُمْ» عظيمة وبرهانا ساطعا على نبوة أشمويل وملكية طالوت «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٢٤٨» بربكم ورسالة نبيكم وتصديق ملككم، فلما رأوا الدليل القاطع أذعنوا وصدقوا، ثم أمرهم بالجهاد ليسترد لهم شرفهم من العمالقة فأجابوه ولم يتخلف منهم إلا العاجز والمعذور والصغير وساروا معه إلى العمالقة. قال تعالى «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ» لهم نبيهم أشمويل «إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ» تعبرونه لأن عدوكم وراءه وقد يلحقكم العطش عنده وإن الله تعالى يمتحنكم هناك فيعلم الطائع منكم من العاصي له وسيقول لكم لا تشربوا من هذا النهر «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي» ولست منه لمخالفة أمر الله «وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ» يذقه بتاتا «فَإِنَّهُ مِنِّي» وأنا منه لا نقياده لأمر الله «إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» فشربها منه فلا بأس عليه لأنها رخصة له فيبقي من أهل بيتي وداخلا في طاعتي وتظهر طاعته لله وإلا فقد بارزه بالمعصية، ولما دخلوا النهر المذكور وكان قد لحقهم العطش كما أخبرهم نبيهم «فَشَرِبُوا مِنْهُ» خلافا لتوصية نبيهم وأمر ملكهم «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» لم يشرب قالوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. روى البراء بن عازب قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتحدثون أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزه إلا مؤمن بضعة عشر رجلا وثلاثمائة- أخرجه البخاري-. قالوا وكان من اغترف منه بكفه كفته تلك الغرفة لنفسه ودابته وقوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالما لأنها معجزة نبي، ومن شرب منه رأسا فعبّ عبّا غلبه العطش فلم يروه ما كرع منه واسودت شفتاه وجبن وبقي ملقى على الشاطئ، وقالوا إن الشرب بعد العطش
215
والتعب يورث الاستسقاء ولهذا منعهم نبيهم وتراهم لكثرة ما شربوا منه انتفخت بطونهم وعجزوا عن المشي والعبور مع رفاقهم، وهذا النهر بين الأردن وفلسطين «فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا» المتخلفون الذين خالفوا أمر ملكهم وتوصية نبيهم عند ما شاهدوا كثرة العدو من وراء النهر «لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» وذلك لما عرفوه من سطوتهم قبل وشدة بأسهم التي ذاقوها، ثم «قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ» الذين عبروا النهر مع ملكهم طالوت واكتفوا بغرفة من النهر وتمسكوا بتعاليم نبيهم وقد ازداد يقينهم بالله لما نفث في روعهم من القوة والإيمان بعد أن رأوا المعجزة بغرفة الماء بلى إن لنا من شدة صبرنا وإيقاننا بتحقق وعد الله لنا بالنصر والغلبة عليهم فإنا نقابلهم ولا نبالي بكثرتهم، قال تعالى «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ٢٤٩» بالنصر والمعونة والصبر ثمّ تأمروا بينهم على لقاء عدوهم وأقدموا على قتاله «وَلَمَّا بَرَزُوا» طالوت وجنوده «لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» وصار بحيث كل منهم يرى الآخر لأن الأرض التي فيها الطرفان واسعة بارزة «قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» على لقاء عدونا واصرف الرعب عن قلوبنا بسبب كثرتهم وقلّتنا «وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ٢٥٠» فأجاب الله دعاءهم بأن أزال الخوف عنهم وملأ قلوبهم بالإيمان وحبب إليهم الغلبة وألقى الرعب في قلوب أعدائهم ونصرهم عليهم
«فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ» حين التقى الجمعان وردوهم إلى الوراء فكسروهم «وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ» ملك العمالقة على ما هو عليه من القوة والعظمة وما معه من العدة والعدد «وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ» أي النبوة والحكم بين الناس ولم يجتمعا لأحد قبله من بني إسرائيل لأن الملك كان في سبط والنبوة في سبط كما تقدم آنفا فهو أول عظيم تولى السلطتين الدينية والزمنية، راجع الآية ٥٠ من سورة ص المارة في ج ١، «وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» من صنعة الدروع وغيرها زيادة على علومه في الدين والحروب والسياسة وكان عليه السلام مع ما أوتي من الملك الكبير لا يقتات إلا من كد يده وأنزل عليه الزبور المشتمل على الأدعية والاستغاثات والحكم والأمثال
216
وخصّه بحسن الصوت والألحان حتى كانت الوحوش تدنو منه عند ما يتلو الزبور وتظلله الطيور حنانا لسماع صوته وتسكن الرياح وتركد المياه عند ذلك، وكان بارعا في سياسة الملك وضبط أموره بتعليم الله تعالى إياه لأنه ليس في بيت الملك ولم يتلق تعاليمه من أحد ولم يختلط مع الساسة لأنه كان راعيا حتى تولى الملك وهو ابن ميشا أصغر أخواته الثلاثة عشر ولم يظن به ما ظهر منه قالوا أوتي سلسلة متصلة بالمجرة تأتي له بالأخبار الهوائية من كل مكان وكان يحاكم بعض الناس إليها عند عدم وجود الأدلة الظاهرة وكان إذا لمسها ذو العاهة شفي ثمّ رفعت عند ما ظهر المكر والخداع بين الناس فتمسكوا بالحيل مما يغر الناس في ظاهر القول وإبطان ضده فمن ذلك أن رجلا أودع آخر جوهرة ليردها إليه عند حاجته إليها فلما استحسنها الوديع وعمد على إنكارها نقر عكازه وجعلها فيه وسده عليها ولما جاءه المودع وطلبها منه قال رددتها لك فتحا كما إلى داود ولما لم يكن بينة لديه كلف الوديع أن يمس السلسلة فقال لصاحب الجوهرة إذ كلفتني هذا فامسك عصاي هذه كي أتقدم إلى السلسلة فأمسكها وهو لا يعلم أن جوهرته فيها فتقدم إلى السلسلة وقال يا رب إن كنت تعلم أن الوديعة وصلت لصاحبها هذا فقرب مني السلسلة فتقربت ولمسها إذا وصلت حقيقة لصاحبها باعتبارها في يده ضمن العكاز ثمّ رفعت السلسلة لهذه الحيلة. ثم إن الله تعالى زاد سيدنا داود على ذلك كله بأن علمه كلام الطيور والدواب وكل شيء كما أشرنا إليه في الآية ١٧ من سورة النحل ج ١ والآية ١٠ من سورة سبأ ج ٢ «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ» بدل من الناس المنصوب بالمصدر وقرىء دفاع مصدر دافع «بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» وبطلت منافعها من الحرث والنسل لأن هذه الأشياء لا تتم إلا بالأمن والأمن لا يكون إلا بالسلطان ولهذا ينصر الله الصالحين لعمارتها على المفسدين فيها وقضى يبقاء أهلها لأجل مسمى عنده. واعلم أن صدر هذه الآية يضاهي الآية ٤١ من سورة الحج الآتية فراجعها «وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ ٢٥١» بإرسال الرسل وتنصيب الملوك لإزالة الفساد ونشر الصلاح بين الناس ولو لم يكفّ بالصالحين طغيان المفسدين وبغي العابثين لأهلك القوي الضعيف ودمر الفجار الأبرار وأعدم السخفاء الشرفاء وهكذا لو لم يدفع الله تعالى بجنوده
217
المسلمين وأصحاب حضرة الرسول الأعظم عدوان الكفرة والمنافقين لتعطلت معالم الدين وفسد الكون بانتشار المعاصي وإعلان الملاهي والمناهي، وقد ذكر الله تعالى لنبيه هذه القصة وما قبلها تذكيرا لأصحابه وإعلاما بأنه تعالى ينصر المؤمنين ويدحض الكافرين، وإيذانا بأنهم إذا صبروا وأطاعوا تكون لهم الغلبة والعاقبة الحسنة في الدنيا كما كانت من قبلهم وهذه العاقبة تفضي إلى العاقبة الحسنى بالآخرة أيضا. هذا وخلاصة هذه القصة على ما ذكره الأخباريون أنه لما خضع الإسرائيليون لطالوت وانتدبهم للقتال كان الوقت قيظا وسلكوا في طريقهم مفازة لحقهم على أثرها التعب والعطش، ولما طلبوا الماء من نبيهم قال لهم الماء أمامكم وان الله سيختبركم فيه على ما مر آنفا وكان من جملة الذين عبروا النهر سيدنا داود عليه السلام وكان يرمي بالقذافة (المقلاع) وكان يقول لأبيه لا أرمي شيئا إلا أصبته، فقال له قد جعل الله رزقك في قذافتك، ثم قال لأبيه يا أبت وجدت أسدا رابضا بين الجبال فأخذت بإذنه وركبته فقال هذا خير يريده الله بك، ثم قال يا أبت أرى الجبال تسبح معي إذا
سبحت فقال هذا خير أعطاه الله. ثم نادى طالوت في معسكره من قتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي، فلم يجبه أحد هيبة منه فاستشار النبي شمعون فيمن يبرز له، وذلك أن جالوت قال لطالوت لا حاجة للقتال واهراق الدماء فليبرز لي واحد فإن قتلني أخذ ملكي وإن قتلته أخذت ملكه (ومن هنا قال عمرو بن العاص إلى معاوية لماذا تهريق دماء المسلمين فابرز إلى علي فإن قتلته كفيته وإن قتلك كان الملك له، فلم يفعل لعلمه أنه ليس من رجاله، ثم قال معاوية ابرز له أنت ولك ملك مصر إن قتلته فقبل وتقدم إلى البراز فخطفه علي ورض به الأرض ونزل ليقطع رأسه فكشف له عن سوءته لأنه يعرفه كرم الله وجهه لا ينظر حتى إلى سوأة نفسه فتركه، وفيه يقول أبو فراس الحمداني في معرض الذم لأمثاله:
ولا خير في دفع الردى بمذلة كما ردها يوما بسوءته عمرو)
فأوحى الله إلى شمعون أن يأتي بقرن فيه دهن القدس وتنور حديد ثمّ يدخل الناس في التنور ويضع على رؤوسهم القرن فالذي يسيل دهنه على رأسه حتى يصير كهيئة الإكليل ويملأ التنور وجوده بحيث لا يتغلغل فيه هو الذي يقتل جالوت، فدعا
218
عامة بني إسرائيل فلم تظهر تلك العلامة على أحد منهم فسأل هل بقي أحد قالوا لم يبق إلا أولاد ميشا وهم ثلاثة عشر فأحضرهم واختبرهم فظهرت العلامة على داود عليه السلام، فقال له طالوت هل لك أن تقتل جالوت؟ قال نعم، قال هل آنست من نفسك ما يدل على هذا؟ قال نعم إني أرى الغنم فيما بينها الأسد والنمر والذئب فيأخذ منها فألحقه فأفتح لحييه وأخرجها من قفاه واستخلص ما يأخذه، فقال أنت لها وكان رآه حينما سال الوادي يحمل شاتين شاتين ويخلصهما من السيل فقال الذي يرحم البهائم يكون بالناس أرحم فيجهد نفسه في تخليصهم من ضنك جالوت الغاشم، فأخذه إلى المعسكر وأمره بالبروز إلى جالوت فأخذ قذافته ووضع أحجارا في مخلاته، قالوا إنها كلمته بذلك بأن قالت له خذنا واحذف بنا جالوت فإنك تقتله ولهذا فإنه ترك السلاح الذي أعطاه له الملك طالوت قائلا إن لم ينصرني ربي لا ينصرني سلاح طالوت، فلما برز قال له جالوت أتيتني بأحجار كما يؤتى الكلب، قال نعم وأنت شر منه، فقال جالوت مهلا لأقسمنّك شطرين، وكان متأهبا بأعظم السلاح فضلا عن أنه مشهور بعظمته وجبروته وقوته وأن الملوك تخشاه وتهابه وتخاف لقاءه وتفزع منه الجيوش فلا تقابله أبطالها، فلما هجم عليه تلقاه داود بثلاثة أحجار متتابعة من قذافته أصابته كلها وخرقت دماغه وخرجت من قفاه وأصابت من وراءه فأماتته أيضا، فتقدم إليه وجره كالجيفة وألقاه بين يدي طالوت، ففرح وابتهج كل بني إسرائيل وهزم جيش جالوت واستسلم لطالوت فاستولى عليهم جميعا فقال داود لطالوت أنجز لي وعدك، قال هات الصداق، قال وما هو؟ قال لنا أعداه غلف (غير مطهرين) تقتل منهم مئتي واحد وتأتيني يقفهم، ففعل فزوجه ابنته وشاطره ملكه، فمال الناس إليه وأحبوه لما هو عليه من كريم السجايا والتقوى كيف وقد أهله الله تعالى الملك والنبوة، فلما رأى ذلك طالوت أحس بمفارقة الملك فصار يدبّر له المكائد ليمكر به فيقتله ليتخلص منه حرصا على ملكه وبقاء الرياسة في عقبه، فبلغ ذلك زوجته فقالت يا داود إنك لمقتول الليلة من قبل أبي وإني لا أقدر على ردّه، قال وما جرى؟ قالت لا علم لي إلا ميل الناس إليك، فملأ زقا من خمر ووضعه على تخته وسجاه ونام تحته، فجاء طالوت ليلا وقال لابنته
219
أين داود، قالت هو ذاك على التخت، فجرد سيفه وضربه تلقاء رقبته فانشق الزق وفاح ريح الخمر، فقال رحمه الله ما أكثر شربه للخمر وخرج، فلما أصبح عرف أنه لم يفعل شيئا فخاف منه أن يأخذ بثأره فأكثر حرسه وحجابه وأحكم غلق أبوابه، وتوارى داود عن الأنظار حتى سنحت له فرصة تمكن معها من الدخول على طالوت ليلا فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وخرج، فلما أفاق ورأى ما رأى هاله ذلك وعرف أنه لو أراد قتله لقتله فقال رحم الله داود هو أرحم مني ظفر بي فكف عني وظفرت به فأردت قتله فهو خير مني، ثم شدد على حجابه وحرسه وأحكم أبوابه، فدخل عليه ثانيا وأخذ كوزه الذي يشرب به وقطع شعرات من لحيته وشيئا من طرف ثوبه وتركه وخرج، فلما أفاق ورأى ذلك تحير من أمره وعرف أنه لا يقدر على الاحتراز منه فسلط العيون عليه وأمر شرطته بطلبه وصار يتعقبه بنفسه فأدركه يوما بالبرية يلحقه فدخل غارا فتبعه فلم يجده وصار هو وجنوده يتحرونه فلم يجده ورأى العنكبوت معشعشا على الغار الذي اختبأ به، وهذه معجزة له تضاهي معجزة محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه أعطي معجزات الأنبياء كلهم فقالوا لو دخله لتخرق، ثم إن العلماء والعباد طعنوا على طالوت بملاحقة داود فقتل منهم خلقا كثيرا ليرتدع الباقون عن لومه فلم ينجع بهم ثمّ أتي بامرأة تعلم الاسم الأعظم فأمر خبازه بقتلها لأنها لم تعلمه به وقد تحقق أنها تعرف مكانه بسبب معرفتها الاسم الأعظم
فرحمها الخباز ولم يقتلها وأمرها بالتواري عن الأنظار وقال في نفسه لعلنا نحتاج إليها، ثم. أوقع الله الندم في قلب طالوت على ما وقع منه فاختلى عن الناس وطفق يحاسب نفسه على ما فعل بداود والعلماء والعباد وصار يبكي حتى رحمه الناس من كثرة بكائه وصار يذهب إلى المقابر فيسمع منها صوتا لا تؤذينا أمواتا كما أذيتنا أحياء، فازداد همه وحزنه وبكاؤه وصار يصيح ويقول من يعلم لي توبة أتوبها فيسمح الله لي ما فعلته، فقال له خبازه إن دللتك على عالم يقبل توبتك قتلته؟ قال لا والله فدله على الامرأة فذهب إليها وكانت مرابطة على قبر أشمويل عليه السلام الذي مات بعد قتل جالوت، فقالت يا صاحب القبر قم باسم الله الأعظم وذكرته فقام من قبره ينفض عن رأسه التراب وخرج فقال ما فعلت من بعدي يا طالوت لا تقبل
220
توبتك حتى تخرج من ملكك وتقاتل في سبيل الله أنت وولدك العشرة فتقتلوا جميعا ثم سقط ميتا وأعيد إلى حفرته وطم عليه التراب فقام طالوت أشد ما كان حزنا لعلمه أن أولاده لا يطاوعونه على ذلك فظل يبكي حتى سقطت أسفاره، فسأله أولاده فأخبرهم بما قال له النبي، فقالوا لا خير لنا بالحياة بعدك فتجهزوا وصاروا يقاتلون في سبيل الله حتى قتلوا عن آخرهم عليهم الرحمة والرضوان، فهذه والله أعلم حكمة قبول التوبة ظاهرا والحكمة الباطنة التي أرادها الله خلو الحكم لداود حتى لا يطالبه به أحد من أولاده بحسب الإرث الجاري عندهم بمقتضى العادة والتوارث، وكانت مدة ملكه أربعين سنة فملك بعده داود، وقد مرت قصته في الآية ٨٢ من سورة سبأ في ج ٢ فراجعها.
مطلب التفاضل بين الأنبياء واختصاص كل منهم بشيء وتفضيل محمد على الجميع وإعطائه ما أعطاهم كلهم من المعجزات:
قال تعالى «تِلْكَ» القصص العظيمة والأخبار الهامة هي «آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» الواقع الذي لا يشك به أهل الكتاب الذين في بلدك وغيرهم لثبوته في كتبهم «وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ٢، ٢» حقا الفرد العلم الغنيّ عن التعيين وقد أمرناك بتلاوة هذه القصص والأخبار عليهم مع علمهم بأنك أمي ولم تتعلم من أحد ليعترفوا بصدقك لأن سماعها منك معجزة واضحة كافية على رسالتك «تِلْكَ» الجماعات الكرام الذين قصصنا عليك أخبارهم يا أكمل الرسل هم إخوانك «الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» في الرّتب والمعجزات وهذا ردّ لمن قال إنهم متساوون لأن التفاضل موجود بين عوام البشر فلأن يكون بين خواصهم من باب أولى، ثم بين الله تعالى هذا التفاضل بقوله عز قوله «مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ» شفاها بلا سفير كموسى عليه السلام وقد خصّه به، لأن التكليم من أفضل معجزاته وأعظمها فلا تقاس باليد والعصا ورفع الجبل وفلق البحر وإخراج الماء من الصخر وغيرها لأنها دونها بكثير «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ» فوق بعض «دَرَجاتٍ» كثيرة وخص بعضهم بما لم يخص به الآخر وهذا ما عليه إجماع الأمة، وأو لو العزم أفضل من غيرهم ومحمد أفضل من الجميع لعموم رسالته
221
وشفاعته ولاحتواء كتابه على ما في كل الكتب والصحف المنزلة وعلى ما سيكون إلى يوم القيامة ولكونه خاتم الأنبياء ودوام حكمه لآخر هذا الكون ولإتيانه بمعجزات الأنبياء كافة وزاد عليهم بانشقاق القمر وحنين الجذع فضلا عن كلام الحجر والبهائم وغيرها مما لا يحصى، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية ٧٤ من سورة يونس والآية ٢٨ من سورة سبأ في ج ٢ والآية ١٥٨ من الأعراف في ج ١ وأشرنا إلى ذلك بمواضع أخرى منها ما مر وما سيمر عليك إن شاء الله فراجعها.
واعلم أن الله تعالى رمز في هذه الآية له صلّى الله عليه وسلم من غير تصريح لأن في الإبهام والرمز تعظيما وتفخيما ولأن رفع الدرجات التي صارت له ليلة المعراج لم تكن لنبي قبله، راجع الآيتين ٨/ ٧٩ من سورة الإسراء في ج ١، وقد سئل الحطيئة من أشعر الناس قال زهير والنابغة. ثم قال لو شئت لذكرت الثالث يعني نفسه. وقد يقول القاضي في حكم قضى القاضي وحكم بكذا يريد نفسه. ويفعل الرجل من الجماعة الأمر ويقول فعله أحدكم وهو أبلغ من أن يقول أنا «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى علامة دالة على رسالته إليهم من قبلنا لما قضت إرادتنا بإرساله إلى بني إسرائيل ليجدد لهم العهد «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام فكان معه منذ ولد حتى رفع وهو نفسه معجزة لكونه من غير أب ولهذا خصه بالذكر، وقد أسند جل جلاله الضمير هنا لذاته الكريمة وفي صدر الآية لاسمه المبارك مع أن المقام كله فيها مقام خطاب لتربية المهابة العظمى، ولوح عن موسى بالتكليم لاختصاصه به، وصرح باسم عيسى لرد ما بين أهل الكتابين فيه من التفريط والإفراط وأشار بالرفع لمحمد الدال عليه قوله وإنك لمن المرسلين زيادة في تبجيله واحترامه «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ» اجتماع أتباعهم على كلمة واحدة لفعل و «مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» وما اختلفوا فيما بينهم «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» على أيدي رسلهم «وَلكِنِ اخْتَلَفُوا» لأمر أراده الله تعالى تأييدا لمشيئته التي أرادها أول الخلق ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير «فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ» وأوفى بعهده الذي عاهد الله عليه في عالم الذر ففاز بفضل ربه في جنته «وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ» عمدا لنقض عهده بعد قيام الحجة عليه بسخط الله
222
فزج في جهنم «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا» ولا اختلفوا «وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ٢٥٣» بخلقه حسبما خلقهم عليه يوفق من يشاء ويخذل من يشاء ليردهم لسابق علمه فيهم، سأل رجل عليا كرم الله وجهه عن القدر قال: طريق مظلم فلا تسلكه، فأعاد عليه السؤال قال بحر عميق فلا تلجه، فأعاد عليه الثالثة، قال سر قد خفي عليك فلا تغشاه. فقد ظهر في هذه الآية أن الرسل متفاضلون واختلاف أممهم من بعدهم وتعدد أديانهم واختلافهم فيما بينهم عما أراده الله تعالى فيهم منذ خلقهم وأن اتحادهم على طريقة واحدة محال، وفيها تسلية لحضرة الرسول محمد مما يجده من الحزن والغم لعدم اهتداء قومه وقبولهم وحي الله وعدم التفاتهم إليه.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ» أي لا تنفع فيه الصحبة والمودة والصداقة ولا تقبل فيه الفدية وقد سمي الفداء هنا بيعا لأنه شراء النفس من الهلاك «وَلا شَفاعَةٌ» لأحد تخلصه من عذاب الله إلا لمن ارتضى وأذن فهو عام مخصوص، راجع الآية ٢٣ من سورة سبأ في ج ٢ «وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٢٥٤» لأنهم وضعوا الأشياء في غير محلها. واعلم بأن هذه الآية تشير إلى أن في الإنفاق في سبيل الله تأليف القلوب في الدنيا والنفع في الآخرة. وبعد أن ذكر جل شأنه الأحكام المتعلقة بخلقه أردفها بذكر ما تفرد به من الشؤون الجليلة الموجبة للعمل بأحكامه وتخصيصه بالعبادة بقوله «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ» الدائم بعد كل حي كما هو قبل حي «الْقَيُّومُ» على كل شيء القائم بتدبير كل شيء «لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ» السنة الفتور الذي يتقدم النوم والوسنان الذي هو بين النائم واليقظان فيكون الوسن نوما خفيفا يسهو فيه الإنسان ويغفل، والنوم الحقيقي هو المزيل للشعور والقوة والحس، وهذا كله نقص وتغيير وآفة لأنها تفضي إلى عدم العلم بما يقع والله تعالى منزه عن النقص والآفات والتغيير، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) الآية ٤٣ من سورة فاطر ج ١ ومثلها الآية ٦٦ من سورة الحج الآتية، فلو وقعت منه سنة تعالى عن ذلك لسقطت السموات على الأرض وخرب الكون لأنه قائم بقيومته. روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطيبا بخمس كلمات
223
فقال إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط (الميزان) ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور- وفي رواية النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وهذا من أحاديث الصفات راجع بحثها في الآية ٢١٠ المارة «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا لا ينازعه فيهما وما فيهما أحد، وقد أجرى هنا لفظ ما تغليبا لمن لا يعقل على من يعقل لأن الغالب فيهما ما لا يعقل «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» استفهام بمعنى النفي أي لا يشفع أحد لأحد قط إلا بإذنه والاستفهام الإنكاري كهذا لا يجاب إلا بلا «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» مما هو أمام خلقه في الدنيا «وَما خَلْفَهُمْ» ما وراء خلقه كافة بالآخرة «وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ» لا يعلم أحد البتة من هؤلاء المخلوقات كلها كنه شيء ما من معلوماته «إِلَّا بِما شاءَ» أن يحيط علمهم به بأن يعلم من شاء من خلقه الخواص الخلص كالأنبياء والعارفين بعض معلوماته مما فيه معجزة أو كرامة، قال تعالى (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الآية ٢٧ من سورة الجن في ج ١، قال الغزالي رحمه الله: إن الله عالم بكل معلوم وعلمه محيط بكل شيء وليس شيء من العلى إلى الثرى إلا وقد أحاط به علمه لأن الأشياء بعلمه ظهرت وبقدرته انتشرت.
مطلب عظمة العرش والكرسي وأفضل آية في القرآن والأحاديث الواردة في ذلك والإكراه في الدين:
قال تعالى «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» الكرسي هو ما يجلس عليه وسط العرش وهما أي الكرسي وللعرش اسمان للسرير لا يعرف كيفيتهما وعظمتهما إلا هو فكما أنه جل علاه لا مثل له فلا مثل لكرسيه وعرشه، راجع الآية ٧ من سورة هود في ج ٢ وما ترشدك إليه عن هذا البحث، ويدلك على عظمتهما ما أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن السموات السبع والأرضين السبع لو بسطن ثمّ وصلن بعض ما كن في سعته (أي الكرسي) إلا بمنزلة الحلقة في المفازة. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه
224
عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال: يا أبا ذر ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة وان فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة. وفي رواية الدارقطني والخطيب عن ابن عباس قال:
سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية قال كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره «وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما» لا يثقل عليه ولا يشق ولا يجهده حفظ السموات والأرض وما فيهما وبينهما «وَهُوَ الْعَلِيُّ» الرفيع الذي لا يدانيه أحد ولا يقرب من رفعته شيء «الْعَظِيمُ» (٢٥٥) الذي دل لهيبته كل عظيم وخضع لعظمته كل كبير، وقد أتت جمل هذه الآية بلا عطف لأنها على سبيل البيان كما ترى، وقد جاء في فضلها أحاديث كثيرة نذكر منها ما رواه مسلم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إلخ، فضرب في صدري وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة القرآن آية الكرسي. وأخرج أبو داود عن وائلة بن الأصقع أن النبي صلّى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم؟ فقال صلّى الله عليه وسلم (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إلخ. وذلك لجمعها بين أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقيّومية والملك والقدرة والإرادة، لأن الله تعالى أعظم مذكور في القرآن فما كان ذكرا له توحيد وتمجيد كان أعظم الأذكار، فطهر لك من هذا أن هذه أعظم آيات القرآن. وأما أجمع آية فيه فهي الآية ٩٠ من سورة النحل، وأرجى آية فيه الآية ٥٤ من سورة الزمر في ج ٢. واعلم أن هذه الآية توجب على العباد الإخلاص في العمل لله تعالى وحده وعدم الاعتماد على غيره لأن الشفاعة وإن كانت مرجوّة من الرسول ومن يؤهله الله لها فلا تكون إلا بإذنه كما علمت ولا بد أن تكون مصحوبة بالأعمال الصالحة لأن الذين يخلطون بأعمالهم الصالحة عملا سيئا يرجى لهم، راجع الآية ١٠٦ من سورة التوبة الآتية، مع لعلم بأن الله تعالى لا قيد عليه في شفاعة ولا غيرها قد يغفر لمن يشاء مع كثرة ذنوبه،
225
ويعذب من يشاء مع كثرة حسناته لا يسأل عما يفعل. قال تعالى «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» والحق من الباطل والهدى من الضلال والإيمان من الكفر، فيقال لمن أصاب ووفق رشد وفاز، ولمن خاب وخسر ضل وغوى، قال الشاعر:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لم يعدم على الغي لائما
تصرح هذه الآية الجليلة بأن الله تعالى لم يجر أمر الإيمان على الإجبار بل على الاختيار إذ من حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل يختار الخير لنفسه بلا تردد أو تلعثم، قال تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية ٣٠ من سورة الكهف في ج ٢، إذ ترك فيها الخيار لخلقه بعد أن دلهم على الأحسن وأرسل إليهم من يرشدهم للأصلح، قال تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الآية ١٠٠ من سورة يونس ج ٢، فقد أشار في هذه الآية إلى رسله أن لا يقسروا أممهم على الإيمان وإنما عليهم أن يبينوا لهم طريقه ومنافعه في الدنيا والآخرة ويتركوهم وشأنهم إذ ليس عليهم إلا الإنذار كما نص عليه فى آيات كثيرة من القرآن العظيم، وهذه الآية نزلت في المجوس وأهل الكتاب إذ تقبل منهم الجزية ولا يكرهون على الإسلام بخلاف مشركي العرب إذ لا يقبل منهم إلا الإسلام، قال تعالى (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) الآية ١٧ من سورة الفتح الآتية، وأو فيها بمعنى إلا، كما سيأتي في تفسيرها لأن المشركين لا دين لهم ولا يجوز أن يتركوا همجا هملا وهم من البشر وقد أعطاهم الله تعالى العقل ومن حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل هو نفسه بمقتضى عقله يختار الدين الحق لوضوح الحجة فيه، وبما أن أهل الكتاب يزعمون أن دينهم الحق ولم يوصلهم عقلهم إلى غيره فيتركون وشأنهم، قال تعالى (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) الآية ٣٩ من سورة فاطر في ج ١، وهذه الآية محكمة غير منسوخة لأنها جارية مجرى الأخبار وهي لا يدخلها النسخ. قال ابن عباس: كانت الجاهلية إذا كانت امرأتهم لا يعيش لها ولد تنذر إذا عاش لتهودنه أو تنصرنه وجاء الإسلام وفيهم من هؤلاء فلما جلت بنو النضير أرادت الأنصار استرداد أبنائهم الذين من هذا القبيل فأبوا،
226
قال لما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلم خيّروهم فإن اختاروكم فهم لكم وإلا فاجلوهم معهم، وقال ابن عباس إن هذه الآية نزلت في هؤلاء فعلى فرض صحة قوله هذا فلا تكون أيضا منسوخة. على أن الواقع ينفي صحة نزولها فيهم لأن حادثة بني النضير كانت بعد نزول هذه الآية بكثير لكونها في السنة الرابعة من الهجرة، وما قيل إنها نزلت في ولدي الحصين المتنصرين قبل بعثة الرسول حينما كلفهما أبوهما بالإسلام، وقال يا رسول الله أيدخل بعضي في النار وأنا أنظر، على فرض صحته أيضا لا تكون منسوخة لأن هؤلاء كلهم يعدون أهل الكتاب، فلا وجه لقول من قال بالنسخ البتة. قال زيد بن أسلم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا على الدين، وكذلك في المدينة لم يكره أحدا من أهل الكتابين على الإسلام وإنما أكره عليه مشركي العرب ولم يقبل منهم إلا السيف أو الإيمان «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ» مبالغة الطغيان وهو كل ما يطغي الإنسان من شيطان وإنسان كالسحرة والكهنة وغيرهم وكل ما عبد من دون الله «وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» تأنيث الأوثق أي السبب الموصل إلى دين الإسلام المفضي إلى جنة الله فمن كان متمسكا بها فقد صح إيمانه واعتصم به وأوفى بالعهد الذي أخذه عليه في عالم الذر «لَا انْفِصامَ لَها» ولا انقطاع لأنه عقد نفسه مع ربه عقدا وثيقا لا تحله الشبهة، وهذا تمثيل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لإيمان المؤمن وكفر الكافر «عَلِيمٌ» (٢٥٦) بنيتهما فيعلم الإيمان عن رغبة أو إكراه، ومن هو منافق في إيمانه أو مخلص فيه، كما يعلم المكره على الكفر من الراغب فيه. وهذه الآية ترشد إلى أن الإيمان لا يقبل إلا عن رغبة فيه وقناعة في صحته وأخيريته، لأن المكره على الإيمان لا يعمل بما يقتضيه له من الأعمال. والحكم الشرعي هو هذا. وما روي عن ابن مسعود أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) الآية ٧٥ من سورة التوبة والآية ١٠ من سورة التحريم الآتيتين لا محل له لأن الدين عقيدة ذاتية عريقة في نفس الإنسان لا سلطان لأحد عليهما غير الله تعالى القائل (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)
ولأن من آمن بلسانه قبل منه وعومل معاملة المسلمين ودفن في مقابرهم
227
وقد كف الشرع عما في القلب لعدم الاطلاع عليه إلا من قبل الله. قال تعالى «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» يتولى أمورهم ولا يكلهم إلى غيره ومن عنايته بهم أنه «يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» أفرد لفظ النور لوحدة الحق وجمع الظلمات لتنوع فنون الباطل. وأعلم أن كل ما في القرآن من لفظ الظلمات من هذا القبيل يراد به الكفر ومن لفظ النور يراد به الإيمان، إلا في سورة الأنعام فإن المراد بهما اللّيل والنّهار كما بيناه أولها في ج ٢، وسمي الكفر ظلمة لأنه يحجب القلب عن إدراك الحقيقة والإيمان نورا لوضوح طريقه وبيان أدلته «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ» إذ فوضوا أمورهم إليها واتكلوا عليها وتمادوا في طاعة أوثانهم ورؤسائهم الذين يميلون بهم إلى البغي والطغيان، وكل ما يؤدي إلى الشقاء الأخروي يسمى طاغوت وهؤلاء الأولياء «يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ» الإيمان المؤدي إلى الجنة في الآخرة ويردونهم «إِلَى الظُّلُماتِ» الكفر الموصل إلى النار بسبب ما يسولونه لهم من طرق الإغواء والإغراء والصد عن طريق الهدى والرشد «أُولئِكَ» الكافرون وأولياؤهم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (٢٥٧) إلى ما لا نهاية عقوبة لهم على كفرهم.
مطلب محاججة النمروذ مع إبراهيم عليه السلام وقصة عزير عليه السلام وسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى وجوابه عليها:
قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ» وهو النمروذ إذ جادل خليله إبراهيم بما يزعمه من القوة من «أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ» بأن جعله ملكا على طائفة من خلقه وانه بدل أن يشكر نعمته طغى وتجبر وبغى وتكبر حتى ادعى الربوبية، وهو أول من ادعاها ثمّ تبعه من بعده أخوه فرعون، وقيل أول من ادعى هذه الدعوى شداد بن عاد كما تقدم في الآية ٧٠ من سورة الأنبياء ج ٢ تطفلا عليه لعنه الله ومن اتبعه في كفره، وهو أول من لبس التاج أيضا، وهذه المحاججة بعد أن كسر الأصنام وقبل أن يلقى في النار إذ كان النمروذ أخرجه من السجن وقال له من هو ربك الذي تدعونا إليه؟ فأجابه بما ألهمه الله بقوله «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ» وإذ هنا منصوبة بفعل مقدر أي أذكر يا محمد لقومك ما قاله الخليل
228
إلى النمروذ حينما سأله عن ربه فقال «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» أي ينشىء الحياة والموت، فلم ينتبه الطاغي إلى المعنى المراد من السيد إبراهيم عليه السلام بل انتبه وانتقل لمعنى آخر ليبرر حجته أمام قومه «قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» فقال إبراهيم هيا افعل، فأخرج رجلين من السجن حكم عليهما بالموت فقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فزعم ذلك الضال على قصر عقله وقلة فهمه أن الإحياء والإماتة هما ما فعله لأنه وأمثاله ينظرون إلى الظاهر أو أنه فعل ذلك تجاهلا كما مر، وكان على السيد إبراهيم أن يقول له أمام قومه أحي من قتلت ليعلموا أن المراد من قوله هذا لا ما فعله ولكنه عليه السلام لم يلتفت إلى حمقه فضرب صفحا عن مجادلته بالحقائق لأنه ليس من أهلها وانتقل إلى حجة أخرى أوضح من الأولى بالنسبة لنمروذ لا تقبل الالتواء وهي ما ألهمه الله أيضا «قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ» وهو ربي «فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ» إن كنت ربا لقومك كما تزعم، فدهش الخبيث من هذا وانقطعت حجته كما أشار بهذا قوله تعالى «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» إذ لم يقدر على ما يجاوب به لتمحضه بالكفر «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (٢٥٨) إلى الصواب ويعميهم عما يدحضون به خصمهم إذ لو كان موفقا لقال له سل ربك يفعل ذلك أولا لأفعل ذلك بعده، ولكن الكافر ضعيف الرأي قد حجبت ظلمة كفره نور بصيرته وغشت أصداء الجهل رؤية بصره لذلك لا يهتدي إلى الرشد على أنه لو قال لفعل الله ذلك لإبراهيم خليله كما فعل لأنبيائه وأحبابه ما هو أكبر من هذا ولما لم يجد بدا وقد حنقه الغضب فأمر بزجه في النار فزج فيها ونجاه الله كما مر في الآية ٧١ من سورة الأنبياء في ج ٢، وقد استشهد الخليل عليه السلام في هذه الآية على ولاية الله للمؤمنين وأن الكافرين أولياؤهم الشياطين على طريقة ذكر القصتين المارقين في الآيتين ٢٤١/ ٢٤٦ وأشار في هذه أن الله تعالى إذا تولى عبدا ألهمه الصواب والرشد ودله على الفلاح والفوز في أقواله وأعماله وأن من يعدل عن معونة ربه يمنى بالإخفاق والخسار فى الدنيا ويكون مصيره الدمار في الآخرة، وترمي هذه الآية إلى جواز المحاججة في الدين لإظهار كلمة الله واستعمال الحجج العقلية والدلائل الكونية على
229
إثبات دعواه. وقد استشهد جل شأنه على ولايته للمؤمنين خاصة بقوله «أَوْ» هل رأيت يا سيد الرسل أحدا «كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ» هي بيت المقدس بعد أن خرّبها بختنصر، راجع قصته في الآية ٦ من الإسراء في ج ١ «وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» في هذه الجملة حذفان أي خالية من السكان وساقطة حيطانها على سقوفها بأن تهدمت جدرانها بعد خرور سقوفها فصارت الجدران فوقها «قالَ» ذلك المار وهو عزير عليه السلام «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها» أي كيف يكون ذلك ومتى يكون على طريق الاستبعاد لا الإنكار بل لما كان فيها من البناء الرفيع المحكم استبعد إعادتها على ما كانت عليه «فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» أحياه بعدها و «قالَ له كَمْ لَبِثْتَ» ميتا وكانت إماتته وقت الضحى «قالَ لَبِثْتُ يَوْماً» ثم لما رأى بقية من الشمس وكان إحياؤه آخر النهار قال «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» ظانا أنه أميت الضحى وأحيي العصر قبل المغرب «قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ» ميتا وإذا أردت يا عبدي تحقيق ذلك لتقنع بحسب الظاهر «فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ» قالوا كان تينا «وَشَرابِكَ قالوا
كان عصيرا تزود بهما وكان كل منهما «لَمْ يَتَسَنَّهْ»
لم يتغير ولم ينتن مع أنه مما يتغير سريعا وليس من الأطعمة والأشربة التي تدخر فلا تتغير سريعا كمعمولان الحلويات في دمشق وحلب والأشربة الأوربية فإنها قد تبقى أشهرا إلا أنها مهما كانت ومهما وضع فيها من الأجزاء فلا تبقى معشار هذه المدة على حالها، وقد رآها عليه السلام كما تركها حين أميت لم يطرأ عليها شيء وقد مر عليها تلك المدة وهذه معجزة له عليه السلام على القول بنبوته وكرامة على القول بولايته «وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ» إذ رآه عظاما بالية مفككة بعضها عن بعض وهذا الدليل الظاهري على قدم لبثه ميتا المدة التي ذكرها الله «وَلِنَجْعَلَكَ» أيها الإنسان الكامل ببقائك حيا «آيَةً لِلنَّاسِ» يستدلون بها على البعث بعد الموت لأن من يحي الميت في الدنيا بعد هذه المدة لا غرو يحييه في الآخرة «وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ» من حمارك «كَيْفَ نُنْشِزُها» ترفعها من الأرض فتردها إلى أماكنها من الجسد ونركبها بعضها مع بعض كما كانت «ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» كحالتها الأولى «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ» ذلك «قالَ
230
أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ»
الذي أحياني وأحيا حماري على الصورة المارة وأبقى زادي وشرابي على حاله طيلة تلك المدة ليحيي بيت المقدس ويعيد بناءه كما كان وأحسن ويحيي الموتى في الآخرة ويجمع أجزاءهم المتفرقة ورفاتهم المبددة والمنمحقة ويعيدهم على ما كانوا عليه في الدنيا وهو «عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (٢٥٩) مما يتصوره البشر وما لا يسعه عقله ولا يخطر على باله، ويعلم من هذا أنه تعالى لا يتقيد في الخلق والتكوين والحياة والموت بالأسباب الظاهرة والعادات المتعارفة والسنن المعقولة والتجارب المعمولة وأن كل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك، وهذه قصة أخرى قصها الله تعالى على رسوله من عجائب قدرته. وما قيل إن المار ارميا بن حلفيا من سبط هرون ويعنون به الخضر عليه السلام، لا يصح لأن الخضر اسمه بليا ابن ملكان على أصح ما قيل فيه، وكذلك ما قيل إن القرية (دير سابرآباد) بفارس ليس بشيء، وأضعف من هذين القيل بأن المار رجل كافر شاك بالبعث لأن الله أجلّ من أن يخاطب كافرا مهانا كما لا يليق أن يجعل الله الكافر آية ليعتبر بها الناس لذلك فإن ما جرينا عليه هو الأولى والأليق والأصوب والأصح، وهذا الخلاف كالخلاف في ذي القرنين الذي نوهنا به في الآية ٩٩ من سورة الكهف ج ٢، فراجعه ففيه ما لا تجده في غيره. وليعلم أن ليس القصد معرفة المار أو معرفة القرية بل القصد تعريف منكري البعث قدرة الله تعالى، وفي هذه القصة دلالة على قول من قال بنبوته حيث أخبر اليهود بما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعلم من أحد، ومن هنا ادعت اليهود بأنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك وقاتلهم على بهتهم، وذلك لأن الله أحياه بعد موته ولأنه أملى عليهم التوراة عن صدر غيب بعد أن أحرقها بختنصر على مرأى منهم، فقالوا لو لم يكن ابن الله لما جعلها في قلبه وهو لم يعرفها، ولم يحيه بعد ما أماته ويحيي حماره كرامة له، ولم يجزم جمهور العلماء بنبوته كلقمان وذي القرنين والكل متفقون على ولايتهم. قالوا وبعد موت عزير بسبعين سنة أرسل الله ملكا إلى بوشك ملك الفرس وأمره أن يعمر بيت المقدس وايليا ويعيد هما كما كانا فانتدب الملك الف قهرمان مع كل واحد الف عامل فعمرو هما على ما كانا عليه وعادت بنو إسرائيل مع عزير إليهما كما هو مفصل بالقصة
231
المشار إليها في سورة الإسراء آنفا. قال تعالى «وَ» اذكر يا سيد الرسل لقومك قصة أخرى «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ» تعالى «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ» بذلك يا خليلي، وقد رأيت ما رأيت من عظمتي وكبريائي وبطشي وإنقاذي لك وأفعالي وصنايعي مع غيرك وآثار أعمالي في ملكوتي «قالَ بَلى» يا رب رأيت وصدقت وآمنت وعرفت كيف أهلكت أعداءك وأنجيت أولياءك وخاصّك «وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» بالمعاينة كي يصير عندي علم اليقين عين اليقين، راجع الفرق ما بينهما في الآية ٩٥ من الواقعة في ج ١، وهذا الاستفهام للتقرير ولذلك أجابه ببلى قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى للعالمين بطون راح
أي ألستم كذلك وتسمى هذه الهمزة همزة إثبات وإيجاب. وخلاصة هذه القصة أنه عليه السلام رأى رجلا ميتا بساحل طبريا (بحيرة ما بين فلسطين والأردن وسورية ينصب عليها نهرا الليطاني وبانياس إذ يجتمعان ببحيرة الحولة وينسابان إليها، عرضها عشرة أميال وطولها عشرون ميلا تقريبا بيضوية الشكل ويخرج منها نهر يلتقي مع نهر الأردن ونهر الشريعة الجاري بواد اليرموك ويختلطان معه فتمر هذه الأنهار تحت جسر يسمى جسر المجامع لذلك المعنى وينساب إلى بحيرة لوط المسماة بالبحر الميت حيث لا يعيش به حيوان) قد توزع لحمه ذئاب البر والبحر فإن مد البحر انتابه حيتانه، وان جزر نهشته السباع فإذا ذهبت عنه تناولته الطيور، فقال يا رب قد علمت أنك تجمعها، أي لحرم الأموات من بطون السباع وأجواف الحيتان وحواصل الطير فأرني كيف تحييها فأزداد يقينا، فعاتبه الله على ذلك، فقال يا رب ليس الخبر كالمعاينة، وهو عليه السلام لم يكن شاكا وحاشاه ولكنه أحب ذلك كحب المؤمنين رؤية ربهم في الآخرة، ونبيهم في الدنيا والآخرة، ويسألونها بدعائهم فكان عليه السلام طامعا بإجابة دعائه فسأله ذلك لأنه خليله، وقد وعده بإجابة دعائه وقيل في المعنى:
ولكن للعيان لطيف معنى له سأل المشاهدة الخليل
ولما نزلت هذه الآية قال قوم شك إبراهيم ولم يشك محمد صلّى الله عليهما وسلم
232
فقال نحن أحق بالشك من إبراهيم، أي أن الشك مستحيل في حق إبراهيم لأن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء لكنت أحق به، وكيف يتصور الشك له وقد وقع لعيسى بن مريم وله ولمن قبله من الأنبياء عليهم السلام، ومن المعلوم أنه لم يشك البتة ففيه أي في هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم نفي الشك عنهما، وقوله صلّى الله عليه وسلم (أنا أحق بالشك) إلخ على سبيل التواضع وهضم النفس، وكذلك ما وقع لسائر الأنبياء فليس بالشك الذي نعرفه نحن، وفي شرح هذا الحديث (بقية) ولفظه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) إلخ. ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي «قالَ» تعالى مجيبا طلب خليله بعد أن قال له من أي نوع تريد الإحياء وقال من نوع الطير، قال جل قوله «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ» أي أملهن واضممهن وقربهن «إِلَيْكَ» ثم قطعهن وفرقهن ومزقهن واخلطهن «ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ» من هذه الجبال البعيدة بعضها عن بعض «مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ» إليك بعد ذلك فإنهن «يَأْتِينَكَ سَعْياً» مسرعات عائشات كما كانت، ولم يقل طيرانا لأنه أبلغ حكمة وأبعد للشبهة إذ لو جاءت طائرة لتوهم أنها غيرها أو أن أرجلها غير سليمة «وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» منيع لا ينال ولا يغلب ولا يرضى لمناصريه الخذلان لأنه يؤيدهم بمختلف الوسائل ويلهمهم فصل الخطاب من حيث لا يشعرون من أين يأتهم النصر «حَكِيمٌ» (٢٦٠) لم يجعل لغيره تأثيرا في الإحياء والإماتة بالغ الحكمة في جميع أموره متناء في مراميها غير متناهية مراميه فأخذ عليه السلام طاوسا إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه، ونسرا إعلاما بشدة شغفه في الأكل، وديكا إيذانا بكثرة ولعه بالنكاح، وغرابا تنبيها إلى تمكن حرصه في الدنيا، وإنما اختص الطيور من الحيوانات لأن همته عليه السلام في العلو إلى الملكوت والوصول إلى عالم الجبروت، لأنه عليه السلام سبّاح في مجال اللاهوتية سوّاح في ميدان الناسوتية فشاكلت معجزته همته وفي انتقاء هذه الأصناف من الطيور مشابهة إلى ما في الإنسان من أوصافها، وفيها إشارة إلى أن
233
الإنسان إذا ترك هذه الشهوات الذميمة لحق بالعالم العلوي وارتقى أعلى الدرجات بنيل السعادة ومال إلى ما أمره به ربه وجانب ما نهاه عنه. قالوا ثم ذبحها عليه السلام وقسم كل طائر أربعة أجزاء ووضع كل جزء من الأربعة على جبل، قالوا وضع الأجزاء بعد أن خلطها بعضها ببعض، والجبال واحد بجهة الشرق، والآخر بالغرب، والثالث بالقبلة، والرابع بالشمال، بالنسبة للمكان الذي هو فيه، وتباعد عنها وأمسك رءوسها بيده ثم قال لها تعالين بإذن الله تعالى فصارت كل قطرة من دم وجزء من لحم وقطعة من عظم وملزم ريشة ومشعر أسر تنطاير إلى أصل طيرها وتلتصق به، وهو عليه السلام ينظر حتى إذا لقيت كل جثه بعضها وتكاملت أجزاؤها قامت وطارت في السماء بغير رأس، وهو جالس في مكانه ينظر عظمة فعل ربه وكبير قدرته وجليل عمله ونزلت إلى الأرض من قمم الجبال وأقبلت تمشي إليه متجهة نحو رءوسها حتى وصلت إليه فلاقت كل جثة رأسها الذي بيده واتصلت به فكان كل منها كما كان قبل الذبح، وطارت في السماء، فوقع ساجدا على الأرض إجلالا وتقديسا لربه جل وعلا، سبحان من حير في صنعه العقول، سبحان من أعجز بقدرته الفحول ومن هنا يعلم أنّ الله تعالى إذا تولى عبده بذاته وكان ذلك العبد قد فوض أمره إليه، فإنه لا يرد طلبه ويمنحه سلطة وإرادة تنقاد إليه بسببها العظماء بما يظهره على أيديهم من المعجزات التي يعجز عن مثلها البشر. وتؤذن هذه الآية أن سر الحياة وطريقة الإحياء والإماتة منحصرة به تعالى لا تكون أبدا إلا بإرادته وتومىء إلى أن قوة الإيمان بالله تعالى قد ينشأ منها العجائب، وانظر قوله صلّى الله عليه وسلم: رب أشعث أغبر لو أقسم
على الله لأبره.
مطلب في الصدقة الخالصة والتوبة وما يتعلق بهما وبيان أجرها وعكسه:
وبعد أن ذكر الله تعالى لحبيبه أوائل هذه السورة وأواخرها من القصص الغريبة ليقصها على قومه وعلى أهل الكتابين ليعلموا أن ذلك كله بتعليم الله تعالى إياه، ولعلهم أن يؤمنوا به ويصدقوه شرع يحث على التصدق في سبيله على عياله والمجاهدين لإعلاء كلمة الله، فقال جل قوله «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ
234
فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ»
قد لا توجد سنبلة فيها مائة حبة ولا حبة تنبت سبع سنابل غالبا وقد يكون ذلك نادرا لعدم الاستحالة ولذلك جاز ضرب المثل فيه على الدخن والذرة والسمسم وشبهها فقد تنبت الحبة أكثر من ذلك إذا حلت بركة الله «وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ» زيادة على هذا لأن رزقه بغير حساب وخزانته لا تنفد وهذا كله ترغيب للمتصدقين وعبرة للمقتصدين وتعليم للعالمين، فكما أن التاجر إذا علم أنه يربح بالحية إذا اشتراها أو زرعها ذلك الربح يقدم للشراء والزرع عن رغبة، فكذلك من يطلب الأجر عند الله تعالى في الدار الدائمة إذا علم تضاعف الواحد إلى عشرة أو إلى سبعمئة وإلى أن يشاء الله يسارع إلى النفقة بطيب نفس وانشراح صدر طلبا لنيل ثواب ربه المضاعف الموصل إلى الجنة الدائمة ذات النعيم الأبدي الذي هو أوثق من ما يتوخى التاجر لأن ثواب الله مكفول بوعده الصادق الذي لا شك فيه، بخلاف التاجر فإنه مظنون، وقد يعتريه آفات تحول دون ربحه وقد يضيع رأس ماله «وَاللَّهُ واسِعٌ» في قدرته على مجازاة عباده بأكثر مما يرجونه، كثير الفضل عليهم عظيم الجود «وَاللَّهُ واسِعٌ» في قدرته على مجازاة عباده بأكثر مما يرجونه، كثير الفضل عليهم عظيم الجود «عَلِيمٌ (٢٦١) » بالقدر الذي يضاعفه لعباده يعلم من منهم من يتفق عن رغبة وطيب قلب ممن ينفق سمعة ورياء، فالصدقة إذا كانت عن رغبة فيما عند الله من مال حلال، كانت عند الله بمكان عظيم، يربيها له كما يربي أحدكم فلوه، وإذا كانت عن سمعة ورياء أو من مال حرام أو مما يكره أو من فيها أو عنف آخذها فقد يستوفي ثوابه عنها في الدنيا من مدح أو ذم وماله في الآخرة من نصيب كما ستعلم مما يأتي. واعلم أن هذه الآية ولآيات الثلاث عشرة الآتية نزلت كلها في الصدقة والمتصدقين ولم تجمع هكذا آيات إلا في هذه السورة المباركة وأن الأولى منها ترمي إلى ترغيب وتشويق الناس إلى الإقدام على الصدقات والخمس التي تليها فيمن يتصدق مخلصا بصدقته لوجه الله تعالى والتي بعدها في بيان المخلص في صدقته من غيره، قال تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً» بأن تقول لمن تعطيه أعطيتك كذا أو تعيّره بحاجته وفقره وأخذه للصدقة
235
أو يجاهر بها أمامه على ملأ من الناس، والمنّ في اللغة الإنعام قال الأنباري:
فمنّى علينا بالسلام فإنما كلامك يا قوت ودرّ منظم
قال صلّى الله عليه وسلم: ما من الناس أحد أمنّ علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة.
والمنة النعمة، ومن صفاته تعالى المنّان بمعنى المتفضل على عباده المحسن إليهم، وهو هنا بمعنى النقص والعيب وفيه قال بعضهم:
طعم الآلاء أحلى من المنّ وهو أمر من الآلاء مع المن
وقال بعضهم: صنوان من المن من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضن.
وقيل في هذا المعنى:
وإن امرأ أسدى إلي صنيعة وذكّرنيها مرة للئيم
والمقصودون في هذه الآية «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) » قالوا إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه جهز غزاة المسلمين إلى تبوك الذي أطلق عليهم جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وجاء أيضا بألف دينار عداها فصبّها في حجر النبي صلّى الله عليه وسلم، قال عبد الرحمن بن سمرة: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يدخل يده فيها ويقلبها ويقول ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم. وقال بعض المفسرين نزلت في عبد الرحمن بن عوف إذ أتى حضرة الرسول بأربعة آلاف درهم وقال يا رسول الله عندي ثمانية أمسكت أربعة لنفسي وعيالي وهذه أربعة لربي، فقال له بارك الله لك فيما أمست وفيما أنفقت. وإن السيدين عثمان وعبد الرحمن لهما مآثر في النفقة والصدقة كثيرة لا ينكرها إلا معاند، كيف وهما من العشرة المبشرين في الجنة ولعثمان خاصة اليد البيضاء في شراء بئر رومة ووقفها على المسلمين ومساعدة المسلمين بماله ونفسه بمواقف جمة، والآية لا شك عامة يدخل فيها كل متصدق مخلص، وإن من يحمل على سيدنا عثمان على ما وقع منه إبان خلافته لا حق له بذلك لأنه مجرد اجتهاد وهو صاحب الأمر إذ ذاك فليس لأحد الخوض بما عزي إليه والأعمال بالنيات ولا عبرة بما يقوله الغلاة الذين يهرفون بما لا يعرفون ويتقولون بما يظنون. أخرج ابن ماجه وغيره عن علي كرم الله وجهه وأبي الدرداء وغيرهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من أرسل بنفقته في سبيل
236
الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمئة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمئة ألف درهم، ثم تلا هذه الآية. أي أن له من الأجر بقدر ذلك. وعن معاذ بن جبل: أن غزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد. واعلم أن هذه الآيات تشير إلى إنفاق المال في وجوه البر ومصالح المسلمين تزيد في ثروة المنفق وسعة رزقه في الدنيا ويضاعف له الأجر في الآخرة إذا خلا من أمرين المنّ على المتصدق عليه وإلحاقه ما يؤذيه قولا أو فعلا، وتؤذن بتحريم المن على المنفق عليه والتشهير به، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك. وبعد أن بين الله تعالى ثمرة الصدقة المخلصة من الشوائب حذّر تعالى مما يوجب الشحناء مع المتسئلين إذا لم يرد أن يعطيهم أو لم يكن لديه ما يعطيهم أن يعتذر لهم بما ذكره وهو «قَوْلٌ مَعْرُوفٌ» للفقير ورد جميل وحسن اعتذار له «وَمَغْفِرَةٌ» بأن تستر عليه سؤاله ولا تفضح حاله والصفح عما يقابلك به والتغاضي عما يصدر منه إذا تأثر من خيبة طلبه «خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً» وكل كلام ثقيل على النفس أو ينكمش منه الوجه فهو أذى، ففظاظة الكلام والتعنيف من الأذى أيضا فليجتنبه المتصدق جهد استطاعته «وَاللَّهُ غَنِيٌّ» عن عباده كلهم وقادر على رزق الفقراء ومن دونهم ولكنه يريد إثابة عباده بما أنعم عليهم وتحليتهم بالتصدق منه ولا سيما إذا كانت على المجاهدين فإنها أعظم أجرا وأدوم ذكرا «حَلِيمٌ (٢٦٣) » لا يعجل عقوبة البخيل والمانّ بالصدقة والمؤذي المتصدّق عليه بكلامه واكفهرار وجهه بل يمهلهم ليتوبوا ويرجعوا ويقول لهم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى» وذلك لأن النفوس طبعت على حب الثناء وكثيرا ما ينكر الخلق الجميل فيما بينهم ويجحدون الإحسان عليهم وهذا مما يوغر بعض الصدور الضيقة فتنفجر بالمن والأذى على منكري المعروف، لهذا حذرهم الله تعالى من أن يقولوا ما يبطل أجر صدقاتهم وإنما رغبهم بالتجمل لهؤلاء الثقلاء كي لا يكونوا «كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ» فيبطل أجر نفقته بسبب حب السمعة والصيت فيها «وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» الذي يثاب فيه المخلص ويعاقب المرائي، لأن هذه الآية تومىء
237
بأن التصدق رياء من سمات المنافقين لا المؤمنين ولهذا وصمهم بعدم الإيمان ثم وصفهم بقوله «فَمَثَلُهُ» أي المنفق المرائي «كَمَثَلِ صَفْوانٍ» حجر أملس «عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ» مطر شديد «فَتَرَكَهُ صَلْداً» لا تراب عليه ولا غبار وهؤلاء «لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ» من
ثواب نفقاتهم «مِمَّا كَسَبُوا» في الدنيا لأنهم كفروا نعمة الله «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) » إلى سبيل الخير، وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المرائي المانّ بصدقته أو المقطب وجهه عند السؤال فالنفقة هي التراب والمن والأذى هو المطر إذ يذهب به ولا يبقى له أجرا فكذلك هؤلاء يعدمون ثواب صدقاتهم يوم القيامة ويعاقبون على فضول أموالهم وعدم إحسانهم على عيال الله والمجاهدين في سبيله فيندمون على ما كان منهم ولات حين مندم. قال تعالى «وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ» على الإنفاق في طاعته تصديقا لثوابه ورغبة بوعده «كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ» مكان مرتفع عن الأرض إذ يكون ثمرها أزكى وزرعها أزهى من غيره قال الأبوصيري:
كأنهم في ظهور الخيل نبت ربى من شدة الجزم لا من شدة الحزم
وهذه الربوة «أَصابَها وابِلٌ» غيث غزير نافع «فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ» مثلين عن غيرها «فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ» مطر خفيف أو ندى فإنه يكفيها ولا ينقص ثمرها ولا يخل بزهرتها «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) » لا يخفى عليه شيء من نفقاتكم ونياتكم، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفقة المخلص فكما أن هذه الجنة تزكوا في كل حال ولا تختلف قل مطرها أو كثر فكذلك نفقة المؤمن الخالصة ينميها الله تعالى له قلت أو كثرت، وقد جاء عنه صلّى الله عليه وسلم:
إن الله ليربي صدقة أحدكم كما يربي أحدكم فلوه. وإنما قال فلوه ولم يقل ولده لأن من له ولع بتربية الخيل يصرف جهده على نسلها ويتعاهده بنفسه أكثر مما يتعاهد ولده وهو واقع مشاهد لا ينكره أحد. هذا وما نقلناه من سبب نزول الآية ٢٦٢ المارة بما قام به عثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما من تقديم المال في غزوة تبوك لا يوثق به لأن غزوة تبوك كانت في السنة التاسعة من الهجرة بعد نزول هذه الآية بسبع سنين تقريبا لأنها نزلت في السنة الثانية تقدمة لآية فرض
238
الزكاة التي تتعقبها، وما قيل إن الزكاة فرضت بآية براءة ١٠٣ فبعيد عن الصواب كما سنذكره في تفسير هذه الآية إن شاء الله، لذلك فإن ما ذكرناه من أن الآية ٢٦٢ عامة في المومى إليهما وغيرهما أولى لأن سياقها ينافي ما ذكروه من الأسباب والله أعلم. واعلم أن هذه الآية تشير إلى أن خير البر ما كان قصد به وجه الله طلبا لمرضاته وأن الخير الذي يرجى ثوابه في الآخرة، ما كان منبعثا عن طيب النفس وخلوص النية للذين هما ملاك سعادة الإنسان لأن الإخلاص لله تعالى في كل شيء واجب، وليتحقق هذا المخلص أنّ الله تعالى سيخلفه عليه وأن الإحسان للناس مطلوب، قال أحمد بن المتيم النحوي:
إذا ما نلت في دنياك حظا فأحسن للغني وللفقير
ولا تمسك يديك عن قليل فإن الله يأتي بالكثير
قال تعالى «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» أي صاحب هذه الجنة وهو معطوف بالمعنى على أيود كأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة «وَأَصابَهُ الْكِبَرُ» ولم يكن له غيرها ولا قدرة له على الكسب مع غاية احتياجه إليها «وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ» صغار عاجزون عن الكسب أيضا «فَأَصابَها إِعْصارٌ» ريح مستديرة مرتفعة إلى السماء كالعمود «فِيهِ نارٌ» عظيمة بدليل التنكير الدال على التهويل والتكبير «فَاحْتَرَقَتْ» تلك الجنة بسببها «كَذلِكَ» مثل البيان الواضح «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» على النفقة المقبولة وغير المقبولة «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) » فيهما فتعملون ما لا تندمون عليه يوم القيامة يوم لا ينفع الندم، وهذا مثل ثالث ضربه الله تعالى لعمل المنافق المرائي الذي يعدم ثواب نفقته في الآخرة، فالعمل في حسنة كالجنة المنتفع بها، واحتياجه لها في الدنيا كاحتياج الرجل يوم القيامة للثواب، وإحراقها وقت عجزه وهو بحالة يكون أحوج إليها من غيرها، كإبطال الثواب عند ما يكون أشد حاجة له يوم القيامة، فيلحقه من الغم والخسرة أكثر مما يلحق صاحب الجنة المحترقة لأنه قد يأمل إخلاصها بعد وفي الآخرة تنقطع الآمال. قال الحسن هذا مثل قلّ والله
239
من يعقله من الناس شيخ كبير ضعف جسمه وكثر عياله أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا، قال ابن عباس نزلت هذه الآية مثلا لرجل غني يعمل الحسنات ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها. وترمي هذه الآية إلى أن الفرق بين المرائي والمنّان في النفقة من حيث وقع المصيبة وتأثيرها في النفس لأن المرائي لم يبرح ثوابا على نفقته فلا يحزن لحرمانه من ثوابها لأن قصده إظهارها للناس وحمده عليها وقد حصل على ذلك في الدنيا، والمنّان كان يرجو ثواب صدقته فحرمه الله بسبب منّه وأذاه.
وتشير إلى أن كل ما يغضب الله تعالى بسبب زوال النعم وإلى عدم الاغترار بنعم الله لأنه يؤدي إلى سلبها وأن عدم وجود النعمة مبدئيا خير من وجودها وسلبها، فعلى العاقل أن يحذر من نقم الله أكثر مما يتطلب من نعمه وأن يتلبس بالطاعة كلما زاده الله خيرا لأن المعصية تسبب الزوال.
مطلب أدل آية على فرض الزكاة ومعنى الحكمة والحكم الشرعي في الزكاة والنذر:
هذا وبعد أن حذر الله جل شأنه المنفقين مما لا ينبغي فعله ليتنزهوا عنه بين ما ينبغي مراعاته في المنفق ليكون الإحسان متناسبا مع شرف الغاية التي أنفق المال من أجلها فقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ» من تجارة وصناعة أو جرايه وزراعة أي أنفقوا من أطيب ما تحرزون من ذلك وأحسنه وأكمله «وَ» أنفقوا أيضا «مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» من أنواع الحبوب والثمار والفواكه والخضار التي تدخر «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ» تقصدون الرديء «مِنْهُ تُنْفِقُونَ» على الفقراء وغيرهم «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ» أي ذلك الخبيث لو فرض إعطاؤه لكم من قبل الغير «إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ» بأن تتسامحوا بأخذه وقت الحاجة فأولى لكم أن لا تأخذوه بغيرها لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يراه فيأخذه حياء أو غصبا أو عند اليأس من أخذ غيره إذا تركه فيأخذه مكرها عن غير رضا وطيب قلب «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ» عن صدقاتكم وقادر على رزق الفقراء من فضله دونكم بل واغنائهم عنكم ولكن إظهار فضلكم على الغير وتفاضلكم بينكم وبيان أثر نعمه عليكم
240
«حَمِيدٌ (٢٦٧) » لما تتصدقون به وأنه يظهر حمدكم على لسان عباده فيثنون عليكم، ثم حذرهم خوف فقدان ذات اليد بسبب التصدق، فقال عز قوله «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ» يخوفكم به كي لا تتصدقوا ليحول دون ما أعده الله لكم من الثواب حسدا وليظهر على ألسنة الناس ذمكم «وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» هذه الكلمة في جميع القرآن بمعنى ما يستقبح فعله ويفحش كالزنى واللواطة إلا هنا فإنها بمعنى البخل الذي هو منع الزكاة لأن هذه الآية من أوضح الآيات الدالة على فرض الزكاة على النقود والحبوب وغيرها لعموم لفظها وشموله، والعرب تسمي البخيل فاحشا قال طرفة بن العبد:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
«وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا» خلفا لما تتصدقون به مع العفو عن ذنوبكم «وَاللَّهُ واسِعٌ» العطاء لا تنفذ خزائنه يعطي من يشاء بغير حساب وهو «عَلِيمٌ (٢٦٨) » بمن يتصدق لوجهه ممن يتصدق لغيره. تنبه هذه الآية إلى أن ما يحصل في قلب المنفق من خوف الفقر هو من الشيطان فينبغي أن لا يلتفت إليه لأنه من جملة مكايده، وأن ما يقع في قلبه من رجاء توسعة الرزق بسبب النفقة هو من الله فليثق به فإنه لا بد أن يزيده من فضله، وتشير إلى أن الشيطان يغري البشر على البخل لئلا ينفق والله جل جلاله يغريكم على الكرم مع وعد الخلف، فعلى العاقل أن يكون حكيما فيميل إلى ما به النفع الدائم لأن الله تعالى «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ» من عباده ممن هو أهل لأن يتبصر بها لأنها لا تكون بالكسب ولا بالجهد ولا بالتعليم بل هي من الله الذي يبصر عبده بطرق الخير ويهديه لسلوكها، ويعرفه طرق الشر ويصرفه عنها، وهذا هو معنى الحكمة وهي أعظم ما يؤتى العبد بعد الإيمان «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ» الحقيقة التي هي النبوة «فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» لأنها ملاك خير الدنيا والآخرة «وَما يَذَّكَّرُ» بمواعظ الله وعبره وأمثاله «إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) » لأنهم هم المنتفعون بها العالمون بما ينتج عنها. قالوا إن الحكمة بمطلق معناها لا التي بمعنى النبوة بنيت على ثلاث: أيدي الصين وأدمغة اليونان وألسنة العرب. واعلم أن هذه الآية تشير إلى
241
أن من عرف حبائل الشيطان ولم يركن إليها وأيقن بوعد الله فهو من أهل الحكمة الجامعة كل خير المتيقن في قلوبهم صدق كل ما سمعوه عن الله ورسوله، قال تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) الآية ٣٨ من سورة ق في ج ١، لأن القلب ملك الجوارح إذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت. واعلم أن مغزى هذه الآية وما قبلها جعل ما يتصدق به الإنسان لوجه الله وأن يكون خير ما له إذ لا يليق بالمحسن أن يعطي ما ينكف عن أخذه وتعافه نفسه، راجع قوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) الآية ٦٣ من سورة النحل في ج ٢، وتحذير الأخذ بقول من يقول إن النفقة تورث الفقر لأنه من وساوس الشيطان وخداعه وان يأخذ بقول من يقول إن النفقة تورث توسع الرزق وتزيد في العمر وأن الكرم من صفات الله التي يجب على الغني الاتصاف بها، والبخل من صفات الشيطان الذي يجب الاجتناب عنه، وترمي إلى أن الحكمة هي من مواهب الله تعالى ولا طريق لها إلا الإلهام ومن يرد الله به خيرا يفقهه في معانيها وعواقبها ومراميها لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها. وقالوا القلوب تحتاج إلى أقواتها من الحكمة كما تحتاج الأبدان إلى الغذاء. وقال بعض الحكماء ليهنه طعام من أكله ما حله وعاد على ذوي الحاجات من فضله. وقال آخر احذر مذلة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع. وقال ما أكلته وأنت مشتهيه فقد أكلته وما أكلت وأنت لا تشتهيه فقد أكلك وقال قصير ما الحيلة فيما أعي إلا الكفّ عنه ولا الرأي فيما لا ينال إلا اليأس منه وقال الإسكندر لا توجد لذة الملك إلا بإسعاف الراغبين واغاثة الملهوفين ومكا المحسنين، وقال البغي ذميم العقبى، وهدم البيوت القديمة غير محمود، والحرب مأمون العاقبة، ودماء الملوك لا يجوز إراقتها، وسلطان العقل على باطن العاقل أشد من سلطان السيف على ظاهر الأحمق، والسعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه، والملوك إذا دبرت ملكها بمال رعيتها كانت بمنزلة من يعمر سطح بيته بما ينفقه من أساسه وقال رجل لكسرى ثلاث كلمات بألف دينار وهي: ليس في الناس كلهم خير ولا بد منهم، فالبسهم على قدر ذلك. وقال اردشير الدين أساس، والملك حارس وما لم يكن له أساس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع، وقال لا شيء أضر
242
على الملك من معاشرة الوضيع ومداناة السفيه، وقال كما تصلح النفس بمعاشرة الشريف تفسد بمخالطة السخيف، وكتب له رجل ينصحه بأن قوما سبّوك، فقال إن كان سبهم بألسنة شتى فقد جمعت ما قالوه في ورقتك. فجرحك أعجب ولسانك أكذب.
راجع الآية ١٧ من سورة النمل في ج ١ فيما يتعلق بالحكم والأمثال. ثم ذكر جل شأنه حكما آخر شاملا لكل أنواع النفقات فقال «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ» خالصة لله أو مشوبة بشيء مما ذكر «أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ» مطلق للخير والشر فاوجبتموه على أنفسكم «فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ» ويجازيكم عليه بحسب نيتكم، فإما أن يخلف عليكم ما هو خير منه في الدنيا ويثيبكم عليه في الآخرة، وإما أن يكافيكم عليه بالدنيا بإشاعته على ألسن الناس، ويؤزركم عليه في الآخرة لأنكم لم تريدوا بها وجهه فتكونوا ظالمي أنفسكم «وَما لِلظَّالِمِينَ» المانعين رفدهم ولم يوفوا بنذورهم في الدنيا «مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) » يدفعون عنهم عذاب الله يوم الجزاء في الآخرة. وقد قرر الله تعالى الوعيد على البشر في هذه الآية لبيان فظاعة حال البخيل الذي لم يؤد حق الله من ماله إلى عياله، وقد أيأسه من المعين والخليل عند ما يكون أحوج إليهما، واعلم أن الأمر في هذه الآية للوجوب لأنها أدلّ وأعم وأشمل آية على فرض الزكاة، فيدخل فيها الذهب والفضة وأرباح النجارات وحاصلات الزروع والأشجار وغيرها من كل ما يقتات به ويدّخر وما يكتسب من هذا وغيره، أما الذي لا يدّخر كالبطيخ بأنواعه والخيار بأصنافه وبعض الفواكه والخضار فلا زكاة فيها، وتفصيل ما يجب زكاته وما لا، ونصاب كل منها في المال والعروض والحيوان والحبوب مفصل في كتب الفقه فراجعها. قال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله إن المراد بهذه النفقة التي أمرنا الله باختيارها من الطيبات هي الزّكاة المفروضة، لأن الأمر فيها للوجوب. وقال مالك إن المراد بها مطلق الصدقة، والأول جرى عليه أكثر العلماء والمفسرين، إذ لا نهي في الآية عن التصدق بالرديء، وهو مخصوص بصدقة الفرض. قال عبيدة السلماني سألت عليا كرم الله وجهه عن هذه الآية فقال نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه الرديء، فقال تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا
243
الْخَبِيثَ)
إلخ، وقال بعض المفسرين نزلت في أناس من الأنصار كانوا يتصدقون بأردأ تمرهم على اهل الصفة فنهاهم الله عن ذلك، وأعلمهم بأنهم لو كانوا هم الآخذين لم يأخذوه إلا عن إغماض وحياء فكيف يعطونه؟ وعليه فإن التصدق بالحرام لا يجوز لأنه أخبث من الرديء. روى الأثرم في سننه عن عطاء بن السائب قال: أراد عبد الله ابن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طليحة من الخضراوات صدقة، فقال له موسى ليس لك ذلك إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول ليس في ذلك صدقة، وهذا الحديث من أقوى المراسيل لاحتجاج من أرسله وهو دليل من قال إن هذه الآية نزلت في الزكاة المفروضة، ومن قال إنها في صدقة التطوع استدل بما أخرج في الصحيحين عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة. وهذا ليس بشيء وإن كان الحديث صحيحا لأنه لا يدل على أن هذه الآية نزلت في صدقة التطوع، وتفيد الآية الأخيرة هذه وهي العاشرة من آيات الصدقة المشار إليها في الآية ٢٦١ إلى أن الله تعالى يعلم برّكم ونفقاتكم ونذوركم وأن من لم يوف بها فهو ظالم لنفسه التي أمر بتطهيرها وتزكيتها، وفيها وعيد وتحذير وتهديد لمن لم يوف بنذره لأنه هو الذي أوجبه على نفسه فصار من قبيل العهد، وقد أمر الله تعالى بالوفاء به كما مر في الآية ١٥٢ من سورة الأنعام في ج ٢، وما أشير إليه فيها من المواضع. والحكم الشرعي: وجوب الزكاة على من ملك النصاب فاضلا عن حوائجه كلها المبين تفصيلها في كتب الفقه المشحونة بكل ما يخطر على بالك بشرط حول الحول على النقدين وأموال التجارة وكل ما يعد عروضا، أما الزروع والحبوب فبنمو اسمها وعلى ما يفضل من نصابها. والحكم الشرعي في النذر إذا كان خيرا وجب الوفاء به، وإن كان شرا كفر عنه. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه. وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا في معصية الله فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين،
244
ومن نذر نذرا فأطاقه فليف به. وأخرج النسائي عن عمران بن حصين: لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم. وروى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير، وإنما يتخرج به من البخيل.
وسبب النهي كون الناذر يلزم بنذره فيأتي به تكلفا من غير نشاط على سبيل المعاوضة.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن النذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر. فخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج.
مطلب الهداية من الله، وفضل إخفاء وإعلان الصدقة، والربا وما يتعلق به والحكم الشرعي فيه:
قال تعالى مبينا الحكم فيما تقدم من النفقات «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ» فتعطوها جهارا علنا «فَنِعِمَّا هِيَ» الخصلة الحميدة فيها «وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ» سرا عن الناس «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» من الجهر لمظنة الإخلاص ودفع خواطر الرياء والسمعة، لما فيها من الستر على الفقير وخاصة المتعفّف، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الإخفاء أفضل وإن كان الأمران جائزان إذ قد بوجد من هو محتاج للنفقة ولا يقبلها علنا خوف الفضيحة أو حياء من أن يطلع الغير على حاجته لها، فإعطاؤها له سرا فيه جبر لخاطره وسد لخلته وصيانة لماء وجهه، وفيها كرامة للمتصدق أيضا، وفضيلة له وبعدا عن شوائب المنّ والأذى، لأن من يتصف بهاتين المثلبتين لا يتصدق سرا. واعلم أن نفقة السر على الوجه المار ذكره فيها فضيلة أخرى بينها تعالى بقوله «وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ» بمقابل إخفائكم صدقاتكم بقصد أخذها عن طيب نفس كإعطائها عن طيب نفس وأجرها عند الله أكبر من الصدقة العلنية «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) » لا يخفى عليه تصدقكم ونيتكم فيه. وتؤذن هذه الآية بأن النفقات يثاب عليها صاحبها أخفاها أم أعلنها إذا صلحت النية إلا أن الإسرار بها أحسن، وتشير إلى أن المرء في أعماله وأقوله وأفعاله مراقب من قبل ربه فليحرص على أن تكون حالاته كلها خالصة له، وإلى أن النية متى خلصت في العبادة فإظهارها وإخفاؤها سواء لا يحط
245
من قيمتها ولا ينقص من ثوابها. قال تعالى «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ» بأن تلزم أن تجعلهم كلهم مخلصين في نفقاتهم غير ماتين بها ولا مؤذين آخذيها ولا كونهم مراثين بها ولا أن لا ينقفوا من الرديء، وإنما عليك يا سيد الرسل تبليغهم ما نوحيه إليك وإرشادهم للعمل به فقط «وَلكِنَّ اللَّهَ» الذي أرسلك وجعلك هاديا بإرشادك إياهم «يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ويوفقه لما يشاء من الطرق المخلوق إليها «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ» مطلق مال قل أو كثر حسنا أو ردينا خالصا أو مشوبا سرا أو علنا «فَلِأَنْفُسِكُمْ» ثوابه «وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ» أي لا تنفقوا إلا خالصا لوجه ربكم، وجاء النفي هنا بمعنى النهي مبالغة فيه، لأن ظاهر هذه الآية خبر ومعناها نهي «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ» أجره في الآخرة وافيا ويخلفه عليكم في الدنيا مضاعفا. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا.
ورويا عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أنفق ينفق عليك. ورويا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي (تشحّي) فيوعي الله عليك. وفي معناه ما قاله الشيخ حسير رمضان الخالدي مدرس الفرات في بعض قصائده:
وكالدرهم الدينار صرفا وإن تكن دراهم نوعي أو دنانير تمنع
فقد أشار فيه إلى المنع الشرعي والمنع النحوي أيضا. وأخرج الترمذي عن خولة الأنصارية قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن هذا المال خضر حلو من أصابه بحق بورك له فيه، وربّ متخوض (الذي يأخذ المال من غير حله أو من غير وجهه) فيما شاءت له نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار يحث هذا الحديث على طلب الحلال من الكسب ويحذر على الابتعاد عن الحرام روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن حلال أم من حرام. وروى البخاري أيضا عن المقداد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل
246
من عمل يده، وان نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده. هذا وان الله تعالى يوف لكم أجور صدقاتكم «وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) » فلا تنقصون شيئا من ثوابها الذي وعدكم إياه بل يجزيكم جزاء وافيا ويضاعفه لكم إن شاء على حسب نياتكم فيها، والقصد من هذا تهيج المتصدقين إلى التصدق والعمل بأحكام هذه الآيات ليتم غرض المتصدق عليهم الموجب لفوز المتصدقين. قالوا إن أناسا كانوا يتصدقون على قراباتهم من أهل الكتاب ثم ان النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن التصدق على المشركين ليحملهم على الإسلام رأفة بهم، فصار بعضهم يتأثم من ذلك، فأنزل الله هذه الآية. أي ليس عليك يا محمد هداية من خالفك في ذلك المنع، لأن الهداية من خصائص ربك وأجرها لمنفقها. وقد ذكر الله أنه لا يقبل إلا الخالص منها، فدعهم يا سيد الرسل وما يفعلون، فإنهم إذا تصدقوا على المسلمين لوجه الله لا لإعانتهم على الكفر فهو يثيبهم عليها، وإلا فيعاقبهم، لأن الجزاء من جنس العمل، والأعمال بالنيات، قال تعالى (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) الآية ٦٠ من سورة الرحمن الآتية، وقال جل قوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) الآية ١٢٢ من سورة النساء الآتية، وقال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) آخر سورة الزلزلة الآتية أيضا، فعلى قدر العمل وبحسب النية يكون الثواب والعقاب.
وليعلم أن القصد من النفقة صلة الرحم وسد خلّة المحتاج وليست للأغنياء ولا لغير المحتاجين الذين تودون إعطاءهم إياها وإنما هي خاصة «لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي حبسوا أنفسهم للجهاد وبقصد إعلاء كلمة الله ثم الفقراء والمساكين الأحوج فالأحوج وبقية الأصناف الثمانية الآتي ذكرهم في الآية ٦٠ من سورة التوبة الآتية، وإنما خص هؤلاء لأنهم «لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ» لأنهم غير مطلقين ليسلكوا سبل العمل والتجارة والزراعة والصيد وغيرها من طرق الرزق لتأمين معاشهم بسبب عجزهم مادة ومعنى، ومن هذا الصنف الذين يحبسون أنفسهم على عبادة الله ليل نهار لا يخرجون للأسواق والطرقات، والذين هم بعدم تصديهم للسؤال من هذا القبيل أيضا إذ «يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ» أمرهم وشأنهم «أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» عن المسألة وعدم إظهار الذلة والمسكنة وظهورهم بالتجمل والعفة
247
«تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ» السيما والسمة والسميا بمعنى العلامة وهي ما يظهر على وجه الإنسان من الاصفرار بسبب الجوع، وما يرى من ثيابهم الخلقة، وتلبسهم بالخضوع والخشوع لله، كل هذا مما ينم عن شدة حاجتهم مما يغني اللبيب عن احتياجهم لسؤاله، بل يتفرس فيهم ويعطيهم كفايتهم، فهم أكثر أجرا من غيرهم «لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً» إلحاحا فيكررون الطلب المرة بعد المرة، ولا يبارحون المحل حتى يأخذوا منه، ومنهم من يغلظ القول عند عدم الإعطاء، كسؤال زماننا لهذا عليكم أن تفعلوا الخير ما استطعتم معهم «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) » تفيد هذه الآية عدم الميل إلى التصدق إلى المؤمن فقط، إذ يجوز أن يعطيها لذوي الحاجة من غير المؤمنين، لأن الخير للخيّر أن يتحرى بصدقته الأحوج إلا عند التساوي يرجح المؤمن، كما أنه يرجح الطائع على العاصي والقريب على البعيد. لما نزلت هذه الآية بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة لأهل الصفة لأنها نزلت فيهم، وكانوا أربعمائة رجل لا مال لهم ولا مأوى ولا قرابة يأوون إليهم، وإنما ركنوا إلى المسجد يتلون القرآن ويخرجون مع كل سر للجهاد في سبيل الله، لذلك حث الله عباده للإنفاق عليهم ومواساتهم، لأنهم كانوا مع فقرهم لا يظهرون للناس بصفة المعدمين مع ظهور علامة الفقر عليهم، وهذا من غنى القلب. واعلم أن هذه الآية توعز بحرمة السؤال في غير الضرورة له قال صلّى الله عليه وسلم المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لأنه دم موجع. وقد بينا آنفا أن الصدقة تعطى للمسلم وغيره من ذوي الحاجة ونعني بها صدقة التطوع، أما صدقة الزكاة المفروضة فقد أجمع العلماء على صرفها للمسلمين من الأصناف الثمانية خاصة لقوله صلّى الله عليه وسلم أمرت أن آخذ الصدقة من أغنياء وأردها على فقرائكم، لأن تخصيص الأخذ في هذا الحديث من الأغنياء يخصصه الزكاة المفروضة، لأن غيرها تكون من الغني وغيره من كل من عنده فضل حوائجه ولو لم تجب عليه الزكاة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغني غنى النفس. ورويا الحسن: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين
248
الذي لا يجد غناء يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم لمسألته الناس. فأمثال هؤلاء يجب أن يتصدق عليهم لأنهم مع عوزهم لا يطلبون من الناس، لا سؤال زماننا الذين لولا قول الله تعالى (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) وقوله صلّى الله عليه وسلم: لو صدق السائل ما أفلح من رده. لما أعطينا أحدا منهم لقمة، لأنا بعد اطلاعنا على أحوال بعضهم وتيقننا من غناهم ووجوب الزكاة عليهم صرنا نشك في كل سائل، ولكن قال صلّى الله عليه وسلم اعطوا السائل ولو جاء على فرس، وما علينا إلا الامتثال، وإلا لأفتينا بعدم جواز التصدق على من لم يتحقق فقره، لأن فيه إعانتهم على الكسل والمعصية، لأن من عنده وجبة يوم يحرم عليه السؤال، فكيف بمن عنده قوت سنة، ومن يسأل وببيع ما يحصله بالسؤال، ومن يتجر ويرابي، فقد اختلف علينا الأمر ولم نقدر نفرق بين المحتاج وغيره، ولم نتبين لنا من اتخذ السؤال حرفة ممن هو محتاج إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. سمع عمر رضي الله عنه سائلا يسأل بعد المغرب، فقال لواحد من قومه عش الرجل فعشاه، ثم سمعه ثانيا يسأل، فقال ألم أقل لك عش الرجل؟ قال قد عشيته، فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا، قال له لست سائلا ولكنك تاجر، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، وضربه بالدرة. ولهذا صار بشك في أحوال السؤال وصاروا يعملون لهم محالا للأكل والشرب والنوم قطعا لمادة السؤال. هذا ومن أعمال الوليد الممدوحة أنه فرض للمجذومين نفقة خاصة كي لا يسألوا، وعين لكل أعمى قائدا، ولكل مقعد خادما، ونفقة لحفظة القرآن، وبنى دورا للضيافة. روى البخاري ومسلم عن ابن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل الناس وله ما يغنيه (عن المسألة) جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش أو خموش أو كدوح، قيل يا رسول الله ما يغنيه؟ قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب- أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي-. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: من سأل الناس تكثرا فإنما سأل جمرا فليستقل أو ليستكثر. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
249
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل وله قيمة اوقية (أربعون درهما) فقد ألحف.
أخرجه أبو داود، وأخرج النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل الناس وله أربعون درهما فهو ملحف، قال تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) » على ما فاتهم من الدنيا والله يخلف لهم ما أنفقوه فلا يخشون الفقر في الدنيا، وثواب نفقاتهم يقيهم أهوال يوم القيامة. هذه الآية خاتمة الآيات الأربع عشرة المشار إليها قبل، بأنها كلها في أنواع الصدقات وحال أهلها، وهذه الأخيرة نزلت في علي كرم الله وجهه، إذ بعث بوسق لأهل الصفة ليلا ومثله نهارا، وكان ذات يوم يملك أربعة دنانير فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبالثالث سرا وبالرابع علنا، وهي عامة جار حكمها في كل متصدق بمقتضاها، لأن أكثر آي القرآن العظيم عام، وهذه الآية تؤيد ما ذكر في الآية ٢٧١ المارة من أن نفقة السر أفضل من العلانية، لأن الله قدم فيها نفقة الليل على نفقة النهار، ونفقة السرّ على العلانية ضمنا، وتشير هذه الآية صراحة إلى الأفضلية. هذا وقد أجمع العلماء على أن إظهار صدقة الفرض أحسن، للاقتداء بفاعليها، وإخفاء صدقة التطوع أجمل لما فيها من جبر خاطر آخذها بحالة لا ذل فيها ولا انكسار قلب، بل بطيب نفس وقلب منشرح. أخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه، إمام عادل وشاب نشأ في طاعة الله ورجل قلبه معلق بالمجسد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تابا في الله تعالى اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه من خشية الله ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٦٢ من سورة براءة إن شاء الله، وقدمنا ما يتعلق بها في الآيتين ٢١٥/ ٢١٩ والآية ١١٩ قبلهما أيضا فراجعها واعلم أن هذه الآية الأخيرة من آيات الصدقة تدل على أن أفضل أنواع الخير ما كان متتابعا متواصلا، وأن الأحسن أن لا يخصص الرجل صدقته بأناس دون
250
آخرين، ولا بوقت دون وقت، لأن صدقة التطوع لا وقت لها، أما صدقة الفرض فوقتها وقت وجوبها وهو حولان الحول وصدور المواسم، ولا يتحتم على من تجب عليه أن ينفقها حالا بل يتريث ليجد من ينفقها عليه ويختار الأحوج والأدين والأقرب والأتقى، لما جاء في الخبر اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطقكم. ولما رغب الله في الصدقة فرضها ونفلها التي هي بذل المال بلا عوض رجاء منّه عليهم طفق ينفر عن الربا وهو أخذ المال بلا عوض بقوله جل قوله «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا» ويعاملون الناس فيه ويأكلون فضله، لأن المال يحرز ويصرف ولا يؤكل وإنما ذكر الأكل دون اللباس والسكن الذين هما من المال أيضا لأنه معظم الأمر المقصود في المال، ولأنه لا يستغنى عنه استغناء اللباس والسكن، فهؤلاء المرابون «لا يَقُومُونَ» من قبورهم يوم يقوم الناس لرب العالمين عند الصيحة الثانية ليذهبوا إلى المحشر فيحاسبوا ويثابوا أو يعاقبوا «إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ» أي يصرعه ويخبطه بالأرض، لأن الخبط ضرب على غير استواء ومنه قولهم خبط عشواء مثلا للرجل الذي يتصرف في الأمور على غير هدى وروية وتدبر بسبب ما أصابه «مِنَ الْمَسِّ» الجنون يقال مس الرجل إذا كان به جنون، أي يبعثه مجنونا مخبلا مختلا، وهذه علامتهم في الموقف العظيم فيفضحون بين الناس كغيرهم من الزناة وشربة الخمر والمقامرين لأن ذلك اليوم يوم الفضيحة، أجارنا الله من ذلك، وقد مثلوا لحضرة الرسول ليلة الإسراء بكبر بطونهم كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، لأن الربا ربا في قلوبهم والعياذ بالله فلا يستطيعون الإسراع يوم يحشر الناس سراعا كما بيناه أول سورة الإسراء في ج ١ «ذلِكَ» الذي يحل بهم يوم القيامة. «بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» أي أنه حلال، لأنه مبادلة مال بمال كالبيع وقد قاسوه بمقياس إبليس الذي ذكرناه في الآية ١٢ من سورة الأعراف في ج ١ وهم من أتباعه لأنهم يسببون لهلاك الناس بإحراز أموالهم دون مقابل، وهو يسبب إهلاكهم بما يسول لهم «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا»
وليس الحلال كالحرام، وقد كذبوا بقياسهم هذا لأن الربا فيه زيادة نفس المال بمقابل
251
تأخير الأجل فقط، والبيع ليس كذلك، لأن البدل فيه من غير جنس المبدل منه، ولأن الريح في قيمة المال البيع لا بنفس المال ولا من جنسه، فإذا باع ثوبا قيمته عشرة بأحد عشر، فقد جعل ذات الثوب بمقابل الأحد عشر، وجعل التراضي عليه، فلم تكن هذه الزيادة بغير عوض، وفي الربا يكون الزائد بغير عوض، لأنه يعطيه عشره ويأخذ منه أحد عشر مثلا، فتكون هذه الزيادة بمقابل الإمهال فقط، والإمهال لا يكون عوضا مقابلا لهذه الزيادة لأنه ليس مالا ولا شيئا من جنس المال المعطى. وأعلم أن ما حرم بالنقدين حرم بغير هما من مكيل وموزون من الأشياء الستة المبينة بالأحاديث الآتية، لأن العبرة بالفضل، فكل ما كان متفاضلا لا يجوز كما سنيينه بعد «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى» وامتنع عما نهي عنه «فَلَهُ ما سَلَفَ» قبل النهي فلا يؤاخذ عليه البتة «وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ» فإنه يعفو عنه بامتثاله وامتناعه عن تعاطيه، فلا يطالبه بما تقدم عن زمن النهي «وَمَنْ عادَ» إلى فعل ما نهي عنه واستحل أخذ الزيادة عن رأس ماله وأمر على تعاطيه «فَأُولئِكَ» الذين تمادوا على الربا هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (٢٧٥) لا يخرجون منها أبدا وهكذا كل مستحل ما حرم الله عليه، لأنه يكون كافرا بالاستحلال، فيستحق الخلود كالكافرين بالله المشركين به. واعلم أن آية الربا هذه من آخر آيات القرآن نزولا إذ لم ينزل بعدها إلا آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية ٤ من سورة المائدة الآتية، وآية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) ٢٨٤ الآتية. روى مسلم عن جابر قال:
لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء.
وسبب تحريمه منع الناس من الاتجار بأموالهم بأنفسهم وبالواسطة، وانقطاع المعروف بين الناس، لأن المرائي لا تطيب نفسه أن يقرض أخاه دون فائدة تعود عليه، ويؤدي إلى حرمان الناس من أجر القرض الذي هو أفضل من الصدقة، ويسبب زيادة المال بلا تعب أو مشقة، ويأمن من خوف التلف والخطر في الأجل والسفر، فضلا عن هذه الأسباب فإن ما حرمه الله نصا وجب الانتهاء عنه اتباعا لأمر الله وامتثالا له توا دون الوقوف على سببه، لأن الله تعالى مالك الخلق، والمالك
252
المطلق له أن يتعبد خلقه بما شاء، ويحكم فيهم بما يريد، وليس للمخلوق إلا الانقياد لأمره والخضوع لحضرته، وسواء كان له سبب أم لا، وسواء علمت الحكمة منه أو لم تعلم، لأن أفعال الله لا تعلل، ولأن العلة لا تدور مع المعلول، راجع الآية ٩٢ من سورة يونس ج ٢، لذلك فإن الحكم الشرعي التحريم البات، وعلى الإمام حبس المصر عليه حتى يتوب عن تعاطيه، وإذا لم ينته لقوته وجب على المسلمين محاربته كالبغاة، فإذا قدروا عليه وأصر على تعاطيه ضربوا عنقه بسبب استحلاله ما حرم الله، وهو في أشياء مخصوصة بينها رسول صلّى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبرّ بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلم الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى. وروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد، فقد نص عليه السلام على هذه الأصناف الستة فقط، وعليه فإن ما عداها لا ربا فيه، فلو باع ثوبا بثوبين أو كتابا بكتابين، أو إناء بإناءين، فلا ربا ولا حرمة فيه. والقرض الذي فيه زيادة يعد من الربا المحرم لأن كل قرض جرّ نفعا فهو ربا، وكذلك لو أقرضه شيئا واشترط عليه أن يردّ له أحسن منه فهو ربا لوجود العلة وهي الفضل بلا مقابل، يدل على هذا ما روي عن مالك قال: بلغني أن رجلا أتى ابن عمر فقال إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته، فقال عبد الله فذلك الربا- أخرجه مالك في الموطأ-.
فإن لم يشترط جاز، لما روي عن مجاهد أن ابن عمر استلف دراهم فقضى صاحبها خيرا منها، فأبى أن يأخذها لأنها خير من دراهمه، فقال ابن عمر قد علمت، ولكن نفي بذلك طيبة- أخرجه مالك في موطأه-. فمن استقرض مثلا ليرة حميدية ذهبا فأدى ليرة رشادية، جاز لأن وزنهما واحد وقيمتهما الأصلية واحدة،
253
ولكن يشترط عدم الشرط من المقرض وطيب النفس من المستقرض. والربا نوعان:
ربا فضل أي زيادة وربا نسيئة أي تأخير بالأجل، فإذا باع جنسا من الأشياء الستة بجنسه نفسه اشترط فيه التماثل والمساواة إن كان موزونا أو مكيلا، واشترط التقايض بالمجلس، وإذا باع جنسا بآخر كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير جاز فيه التفاضل، واشترط أن يكون يدا بيد بالمجلس فإذا زاد في الأول وأخر في الثاني وقع الربا كما هو صريح الأحاديث المارة والآتية. قال تعالى «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا» يذهب بركة مال المرابي ويعرض صاحبه للخسران والهلاك، وإن طال به الزمان فقل أن ينتقل لأحفاده، وكثر أن يكون الحق في زمنه وأولاده «وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» ينميها ويبارك في المتصدق منه ويضاعف الأجر لصاحبه إذا كان حلالا، قال تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الآية ٩٢ من آل عمران الآتية، والتصدق بالحرام فضلا عن أنه لا ثواب فيه فقيل إن من يتصدق فيه طلبا للأجر يكفر لما فيه من معنى الاستحلال. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيده وإن كانت تمرة فتربوا في كنف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله. ثم ألمع جل شأنه إلى أن أكل الربا بعد هذا النهي لا يكون إلا من الانهماك في الإثم المؤدي إلى الكفر بقوله جل قوله «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) » مصر على كفره مستحل لأكل الربا وغيره من المحرمات متماديا في الإثم مستمرا عليه، وتشعر هذه الآية بأن من هذا شأنه يكون كثير الكفر عظيم الإثم يكرهه الله تعالى ومن كان كذلك فالنار أولى به. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» تقوية لإيمانهم وإشعارا بإخلاصهم «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليهم بشروطها وأركانها، وهذا هو معنى الإقامة «وَآتَوُا الزَّكاةَ» المفروضة عن طيب نفس لأهلها مع الكلام الطيب والإعطاء بالمعروف «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» واف كامل مضاعف «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» مما يخافه غيرهم من الذين لم يقوموا بذلك كله «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) » على ما فاتهم من حطام
254
الدنيا وزخارفها، لأن الله تعالى عوضهم خيرا منها في الآخرة. وبعد ما أباح لهم ما أكلوه من الربا قبل نزول هذه الاية بين لهم حكم ما عقدوه منه قبل النهي ولم يستوفوه بعد، فقال عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا» على الذين أخذوا منكم مالا وهو ما فضل عن رءوس أموالكم فقط «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) » قولا وفعلا قلبا وقالبا فخذوا رءوس أموالكم واتركوا بقايا الربا حتى تقوا أنفسكم من عقابه، واعلم أن ذروا لا ماضي له، وكذلك ما تصرف منه مثل: تذر ويذر وتذررون إلخ وهما مكرران كثيرا في القرآن.
«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا» ما أمرتم به ولم تتركوا ما نهيتم عنه «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» لأن إصراركم على ما حرم عليكم وعدم انتهاءكم عما نهيتم عنه إعلام بطلب المبارزة والمحاربة مع الله ورسوله وهو مما لا قبل لكم به، وهذا كناية عن التشديد في الزجر والكف عن الربا في الدنيا، وعدم أخذ الفضل المعقود عليه قبل النهي والمبالغة في الوعد والتهديد في الآخرة. قال أهل المعاني حرب الله النار وحرب رسوله السيف. وقد بينا آنفا وجوب محاربة المصرّ عليه على الإمام، «فَإِنْ تُبْتُمْ» ورجعتم فإن الله تعالى يقبل إنابتكم ويعفو عما سلف منكم، وإذا فعلتم هذا وطابت نفوسكم بترك الفضل مما عقدتموه قبل النهي ولم تستوفوه، أما بعده فالعقد باطل من أساسه حرام ملاحقته لا يجوز تقاضيه، وفي كلا الحالتين «فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ»، الغريم بأخذ الزيادة منه عنها «وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) » بنقص شيء من رأس المال، بل تأخذونه كما أعطيتموه كاملا. وهذا البحث بحث بحت واسع في الآية ١٣١ من سورة آل عمران الآتية فراجعها. كان العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان يتعاطيان الربا، فقال لهما بعض مدينهما إن أخذتم حقكما كله مني لم يبق لدي ما يكفي عيالي، فخذ النصف وأضعف لكما النصف الثاني إذا أخرتماه، وذلك قبل النهي، ففعلا فلما حلّ الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، فقالا سمعا وطاعة، وأخذا رأس مالهما وهناك أقوال أخر في أن سبب نزولها في العباس وخالد بن الوليد أو في أربع اخوة من ثقيف كانوا يتعاطون الربا، ولا مانع من تعدد الأسباب، والمعنى واحد
255
وان كلا منهم قال نتوب إلى الله، ولا قوة لنا على محاربة الله ورسوله، وصار كل من كان له دين مرابيا به يكلف دائنه بدفع رأسماله فقط قبل حلول الأجل، لأن الدين أصبح قرضا مستحقا، والقرض لا أجل له، إذ يحق للمقرض مطالبة المستقرض متى شاء، فشكا بعضهم الإعسار لأنهم كانوا يستدينون على المواسم ولم ينتهوا لإدائه قبل حلوله، فأنزل الله «وَإِنْ كانَ» المدين فاقد المال «ذُو عُسْرَةٍ» لا قدرة له على أداء ما عليه «فَنَظِرَةٌ» عليكم أيها الدائنون «إِلى مَيْسَرَةٍ» مدينكم بأن تمهلوهم إلى وقت وحالة يتمكنون من الأداء.
مطلب فائدة انظار المعسر وتحذير الموسر عن المماطلة بالأداء وأجر العافي عن الدين والتوبة عن الربا وآخر آية نزلت فيه:
وهذه الآية وإن كانت في حق الربا فيدخل في عمومها كل دين مستحق عجز عجز المدين عن أدائه لما فيه من الأجر العظيم، لأن هذه الآية جاءت مستأنفة بدليل قوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) إلخ إذ أثبت الفاعل ولم يضمره ليعود قطعا على المستدين ربا. وكان في الآية تامة بمعنى وجد إذ لو كانت خاصة بدين الربا لقال وإن كان ذا عسرة إلخ ليعود ضمير الفاعل الذي هو اسم كان على المستدين بالربا، ولكانت ناقصة، روى مسلم عن أبي قتادة أنه طالب غريما له فتوارى عنه ثم وجده، فقال إني معسر، قال آلله قال آلله، قال فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من سره أن ينجيه الله من كروب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه. وروى مسلم عن أبي اليسر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من أنظر معسرا أو وضع عنه أظلّه الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أخذ أموال النّاس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله، وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال مطل الغني ظلم. ورويا عنه أيضا أنه صلّى الله عليه وسلم قال كان فيمن قبلكم تاجر يداين الناس، فإن رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه. وأخرج أبو داود عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه به
256
عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء. ورويا عن كعب بن مالك أنه تعاطى ابن أبي حدود دينا كان له في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى، فقال يا كعب قلت لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، فقال كعب قد فعلت يا رسول الله، قال قم فاقضه. ورويا عن أبي هريرة أنه كان لرجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنّ من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال أعطوه، فطلبوا سنا فلم يجدوا إلا سنا فوقها فقال أعطوه، فقال أوفيتني وفاك الله، فقال صلّى الله عليه وسلم إن خيركم أحسنكم قضاء. وفي رواية أنه أغلظ لرسول الله حتى همّ به بعض أصحابه، فقال دعوه فإن لصاحب الحق مقالا. وأخرج النسائي عن محمد بن جحش قال كنا جلوسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع يده على جبهته، ثم قال سبحان الله ماذا نزل من التشديد، فسكنا وفزعنا، فاما كان من الغد سألته يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه. ثم طفق جل جلاله يحتهم على ما هو خير لمن هو مستغن عن دينه بقوله «وَأَنْ تَصَدَّقُوا» بالفضل ورأس المال على المعسر «فهو خَيْرٌ لَكُمْ» عند الله من استيفائه من المعسر «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) » ما أعد الله تعالى في الآخرة من الخير الجزيل لمن يفعل هذا فصلا عما يناله من الثناء الجميل في الدنيا من الناس والدعاء الكثير من المتصدق عليه. واعلم أن آيات الربا هذه تثبت أن المرابين محكوم عليهم بالجنون مهما كانوا عليه من العقل لأنهم استحلوا ما حرم الله ولم يمتثلوا أمره بالكف عنه، ولأنهم آثروا البطالة على العمل واستعملوا ما أنعم الله به عليهم من المال لغير ما خلق له من طرق التجارة، وتومئ إلى أن الربا يوجب التقاطع والعداء بين الناس ويحملهم على التخاصم، ويولد القسوة في القلوب، وينزع منها الشفقة والرأفة، ويلقي بذور الحقد والحسد في نفوس الفقراء لما يروا من شدة الحرص والشح من الأغنياء، ويؤدي إلى ارتكاب الجرائم المخلة بالأمن، وقد يؤدي أيضا إلى الانتحار المنهي عنه في أصعب المواقف، وينذر بمحو
257
ثروة المرابين وحرمانهم لذة الكسب الحلال ونزع صفات الحمد والشكر منهم، وإنزال نعوت الذم والقدح فيهم. هذا ويشترط للتوبة
عن الربا أربعة شروط: الإقلاع فورا، والندم على ما سلف، والعزم على عدم العودة إليه، ورد الفضل لأهله إذا كان بعد نزول النهي وبعد بلوغ الدعوة النبوية، فمن كان منه ذلك ونوى رد فضل الربا لأهله ثم عجز عنه أو تعذر عليه معرفة من أخذ منهم أو ورثتهم فالله تعالى أكرم بأن يعفو عنه ويرضي خصومه، أما الكافر إذا أسلم وكان يتعاطى الربا فلا يطالب بالردّ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله، كما لا يطالب بالزكاة على ما قبل الإسلام، هذا هو الحكم الشرعي فيه. وإذا كان للمسلم حديثا ربا على الكفرة وكانوا محاربين جاز له استيفاؤه منهم، كما يجوز لغيره أخذ ما لهم بالربا والقمار والبيوع الفاسدة وشبهها. واعلم أن الله تعالى ذكر في القرآن العظيم الربا في أربعة مواضع مرة في مكة وهو قوله تعالى (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً إلخ ٧٩ من سورة الروم، وثلاث مرات في المدينة في هذه الآيات المارات، وفي الآية ١٣٠ من آل عمران، وسنأتي على تمام البحث فيها إن شاء الله، والخمر كذلك نزلت فيه أربع آيات مرة في مكة وثلاث في المدينة، راجع الآية ٢١٧.
قال تعالى «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ٢٨١» لأن العمل فيه جار على قانون العدل الحقيقي، وهذه الآية الجليلة نزلت بعد آية المائدة ٤ التي نزلت في مكة يوم النحر في حجة الوداع، وهي آخر آية نزلت في القرآن ووضعت في هذه السورة بمكانها هذا بإشارة من النبي صلّى الله عليه وسلم وإخبار من الأمين جبريل عليه السلام وعاش بعدها رسول الله واحدا وعشرين يوما، وما جاء من أن آخر آية نزلت هي آية الربا فيه تسامح، إذ المراد بها أنها من آخر ما نزل من العقود ويراد بهذه آخر ما نزل من آيات القرآن، أما آخر ما نزل من السور فهو سورة النصر متفق عليه. ولهذا البحث صلة في الآية ٣ من سورة المائدة الآتية فراجعه، وعليه يكون انقطاع الوحي في ١١ صفر سنة ١١ من الهجرة، ومنهم من قال عاش بعدها تسع ليال، فيكون ختم الوحي ٢٣ صفر سنة ١١، ومنهم من قال سبع ليال، فيكون آخر الوحي في ٢٥ صفر
258
سنة ١١، ومنهم من قال ثلاث ساعات، وسنوفي هذا البحث في الآية المذكورة آنفا من سورة المائدة إن شاء الله تعالى.
مطلب في الكتابة والشهادة على الدين وتحذير الكاتب والشاهد من الإضرار بأحد المتعاقدين وحجر القاصر ومن هو بحكمه:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ» بيعا كان أو قرضا أو سلفا وغيره، وهذا الأمر للندب، لأن الله تعالى يقول بعد (الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهذا الشرط صرفه عن الوجوب «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ»، من غير زيادة ولا نقص ولا تقديم ولا تأخير، وفي هذا حفظ لحق الطرفين، فيأمن المدين من طلب زيادة أو تقديم في الأجل، ويأمن الدائن من جحود الدين وتذرعه بزيادة المبلغ وظن الدائن بنقصه، ومن نسيان شهادة الشهود «وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ» وتفضل به عليه في معرفة الكتابة وليكتب كما شرعه الله وأمره به من عدم الزيادة والنقص، وهذا الأمر للندب أيضا والصارف له عن الوجوب قوله تعالى (وَلا يُضَارَّ) إلخ، لأن الوجوب لا يقيد ولا يخصص ولا يعلق على شرط، ومتى وجد في الأمر أحد هذه انصرف من الوجوب إلى الندب، وهذه الآية على حد قوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) الآية ١٨ من سورة القصص في ج ١، لأن من خصه الله تعالى بفضيلة علم أو مال أو جاه ينبغي أن ينفع بها عباده كما نفعه بها. وبعد أن نهاه الله عن الإباء أمره بقوله «فَلْيَكْتُبْ» هذا الكاتب الذي اختاره الطرفان وائتمنا به ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة، ويراعى حالة الطرفين ولا يخص أحدهما بالاحتياط ويهمل الآخر، بل يحافظ على حقهما معا، وعلى هذا الكاتب أن يجتنب الألفاظ التي لها معان تنصرف لضرر أحدهما والكلمات التي هي من الأضداد لئلا يقع النزاع من أجلها، لأن القصد من الكتابة رفع ما يتوقع من النزاع ودفع ما يتوهم من الخلاف وتأمين حق الطرفين، فكل كلمة يتوقع منها حصول شقاق بسبب تعدد معانيها يجب عليه اجتنابها.
وينبغي لمن يتصدى لهذه الكتابة أن يكون عالما باللغة التي يكتب بها عربية
259
أو غيرها، وبالفقه وأصول المدانيات، والبيوع والسلم وغيرها، ليدمج الشروط المقتضية لكل منها فيما بكتبه «وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» أي المدين، لأن الكتاب يلزمه وحده، فهو الذي يعترف فيه ويبين قدره ونوعه وجنسه وصفته وأجله، ورب الدين يسمع ذلك، فإذا اختلفا فعليه أن يتوقف عن تدوينه حتى يتم الوفاق بينهما عليه، وأن لا يكتب شيئا لم يتفقا عليه صراحة لا ضمنا وتلويحا ولا تعريضا ولا سكوتا، وأن يكون عن رضى منهما واختيار وإيجاب وقبول لا غضبا ولا إكراها ولا تلعثما «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» في كل ما يكتبه، وقد جمع جل شأنه بين اسمه ووصفه الجليلين في هذه الجملة مبالغة في الحث على التقوى.
وضمير الفاعل يعود إلى المملي أي يحذّره ربه من أن يزيد أو ينقص شيئا مما أراده الطرفان، وأكد هذا الأمر بقوله «وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً» أي من ذلك الحق الذي اتفق عليه الطرفان، بأن يكتبه حرفيا وانتهي عن البعض يشمل الكل «فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً» مبذرا لماله أو مجنونا أو معتوها أو جاهلا بالإملاء «أَوْ ضَعِيفاً» طفلا صغيرا أو شيخا هرما «أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ» بنفسه لمرض أو عمى أو كان محبوسا لا يمكنه الحضور أو غائبا يتعذر عليه المجيء أو لا يعرف ماله وما عليه، فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم، ولذلك قال تعالى «فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ» الأمين عليه والمحافظ لماله أو وكيله أو وصيه المختار أو المنصوب من قبل القاضي أو المترجم إذا كان يحسن اللغة أو أخرس إملاء ملابسا «بِالْعَدْلِ» الواجب إجراؤه، أي الحق بين صاحب الحق والمولى عليه، فلا يزيد ولا ينقص، وعلى المترجم عن الذي لا يعرف اللغة وعن الأخرس أن يوقعا معهما «وَاسْتَشْهِدُوا» أيها المتعاقدان على عقودكم كلها «شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» أيها المؤمنون لا من غيركم، وقد يجوز أيضا استشهاد الغير في بعض الحالات كما سيأتي في الآية ١٠٦ من سورة المائدة الآتية «فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» وتأمنون بهم على حقكم وتطمئنون بهما، والسبب في عدم كفاية المرأة الواحدة نقصان عقلها ودينها وكثرة نسيانها المنبئ عنه قوله تعالى «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما»
260
الشهادة وتنساها «فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى» التي لم تنس بسبب التداول بينهما والمذاكرة فيها حتى يؤدياها معا لا على الانفراد ولا متعاقبتين «وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا» لتحمل الشهادة أو لأدائها عند الحاكم وهي واجبة على النصاب إذا لم يكن لإثبات الحق نصاب غيره «وَلا تَسْئَمُوا» أيها المتعاقدون من «أَنْ تَكْتُبُوهُ» أي الدين قليلا «صَغِيراً» كان «أَوْ كَبِيراً» كثيرا «إِلى أَجَلِهِ» أي لا تملّوا أو تضجروا من كتابته مهما كان فإنه يعود عليكم بالنفع، قال زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبالك يسأم
أي يمل «ذلِكُمْ» إثبات الدين بالكتابة والشهود «أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ» أعدل واثبت وأعون «لِلشَّهادَةِ» لأن الشاهد إذا رأى خطه تذكر الحادثة وشهد بالحق عن يقين بلا تردد «وَأَدْنى» أقرب إلى «أَلَّا تَرْتابُوا» تشكوا بمقدار الدين والأجل وكيفية الشهادة بهما، وهذا واجب عليكم أو مندوب في كل العقود «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ» ولم يعين لعقدها أجل وهي بين أيديكم جميعا وتحت تصرفكم أيها المتعاقدون «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ» إثم ولا حرج من أن «أَلَّا تَكْتُبُوها» بعد التجاحد في مثل هذه الحالة، لأن كلا منهم واضع يده عليها، وظاهر الحال يدل على كونها لهما معا، ولتمكن كل منهما من أخذ حقه منها أي وقت شاء. وعود الضمير إلى المداينات المذكورة سابقا المعبر عنها بالعقود كما جرينا عليه أولى من عودها إلى التجارة، وعليه يكون الاستثناء متصلا، وكذلك يكون متصلا إذا أعدت الضمير إلى الاستشهاد أي أشهدوا في كل المداينات والعقود إلا في عقد التجارة التي تتعاطونها معا.
وقال بعض المفسرين يعود الضمير إلى التجارة وجعل الاستثناء منقطعا وفيه عود الضمير إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة وهو جائز في فصيح الكلام، ولكن الأول أولى.
واعلم أن من كان عنده شهادة لأحد وقد مات رب الدين والورثة لا تعلم ذلك فيترتب عليه إعلام الورثة بذلك دون دعوة من الحاكم أو من أحد منهم لإظهار الحق، وما جاء في الآية من لزوم دعوة الشهود لأداء الشهادة في غير هذه القضية
261
وما شاكلها من معلومية الشهود عند المدعي، لأن الشاهد ترد شهادته إذا تبرح لأدائها دون تكليف، ولهذا فإن/ ما/ في قوله تعالى (إِذا ما دُعُوا لا تعالى زائدة لما فيها من ثم النفي لمثل هذه الحالة، راجع الآية ١٢٤ من سورة براء الآتية في بحث ما هذه. وكذلك من يتسرع بحلف اليمين قبل أن يكلف الحلف فلا عبرة بحلفه لمظنة التهمة في هاتين القضيتين وما شابههما، تدبر قوله تعالى «وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ» أيها الناس لتكون عقودكم صحيحة ظاهرا وباطنا فيما بينكم أنفسكم وفيما بينكم وبين الله سواء كان البيع ناجزا أو معلقا أو لأجل خوفا من وقوة التجاحد والاختلاف في البيع والثمن والشرط والأجل أو في الكل «وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ» بأن يقسر على الكتابة وهو لا يضار أيضا بإملائه بأن يزيد أو ينقص ويضع بعض كلمات متضادة أو لها معان قد تضر بأحدهما «وَلا شَهِيدٌ» يجبر على الشهادة أو يمتنع بعد تحملها عن أدائها أو يزيد أو ينقص فيها، هذا وجد غيرهما إذ الوجوب كفائيا، والأمر على الندب أو الاحتمال كون الكاتب والشاهد مشغولين بما يهمهما، وأن تكليف الكتابة أو الشهادة يضرّ بهما فيصار لغيرهم أما إذا لم يوجد غيرهما فيجب حينئذ عليهما وجوبا عينيا بأن يكتب الكاتب ويشهد الشاهد لما في الامتناع من الضرر بغيرهما، لأن وجوب العين يتأكد ويلزم الرحمن بعينه، والكفائي إذا أقام البعض به سقط عن الآخرين كغسل الميت وتكفينه وو حمله والصلاة عليه. ثم أكد النهي عن الإضرار الذي هو خروج عن الطاعة اللاحق أثره بهم غالبا بقوله «وَإِنْ تَفْعَلُوا» ما نهيتم عنه أو تمتنعوا عما أمرتم به «فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ» وخروج عن الطاعة التي ينتج عنها وقوع الشحناء بينكم ثم هذا التأكيد بقوله عن قوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فيما نهيتم عنه وأمرتم به وفي محق حقوق بعضكم كحقكم، فإن التقوى بهذا كغيره أزكى لكم وأطهر لقلوب «وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» إذا اتقيتموه أشياء كثيرة من أمور دينكم ودنياكم مما هو لكم فيها وعند ربكم «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) » لا تخفى عليه أموركم هذه الجملة تهديد ووعيد لمن يجحد شيئا من العقود أو يخالف فيها وللشهود أيضا لا يكتموا شيئا من الشهادة وتشير إلى أن تقوى الله تورث العلم بما لا يعلم،
262
أطول آية في القرآن العظيم وأقصر آية فيه آية (ثُمَّ نَظَرَ) ٢٢ من سورة المدثر في ج ١. واعلم أن الأمر بالكتابة عند وجود الكاتب في حالة الحضر ولهذا يقول تعالى «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ» بعيدا أو قريبا «وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً» أو آلة الكتابة أو ما يكتب عليه ويكتب به وأردتم أن تتعاقدوا أو تتداينوا «فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ» لنثقوا على أموالكم وليس الغرض جواز الرهن في السفر، وإنما الفرض التوثق من الدين في حالة عدم وجود الكاتب والشهود، وإلا فالرهن جائز سفرا وحضرا، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على طعام أخذه منه لأجل، وإنما أشار الله إليه مبالغة في تحفظ الناس على أموالها من أن يأخذها من لا يؤديها فتسبّب الأحقاد والأضغان بينهم، لأن المال عديل الروح وكثيرا ما يقتل الرجل عند ماله أو من أجله، وقد أباح الشارع الدفاع عنه فقال قاتل دون مالك. ولأجل شدة المحافظة على المال التي يتأتى من عدم إيفائه الشحناء ولهذا قال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) الآية ٥ من سورة النساء الآتية، وقال صلّى الله عليه وسلم احترسوا على أموالكم بسوء الظن أي لا تؤتوها من يغلب على ظنكم عدم الوفاء بل توثقوا من حسن معاملة من تدينونه بالتحقيق عن أحواله من كل الجهات «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» لحسن ظن فيه أو تجربة أو كان قريبا أو صديقا متوغل الصداقة معكم ولم تجدوا كاتبا ولا شهودا وليس عنده رهن وأعطيتموه مالكم ثقة منكم به، فإن الله تعالى يأمره بقوله «فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ» أي دينه وإنّما سمي أمانة لأنه صاحبه وقد أمن من جحوده فأعطاه إياه بلا سند ولا شهود
ولا رهن، فصار كأنه أمانة، والأمانة لا يجب عليها الإشهاد ولا الكتابة ولا الرهن، لأن الأمين مصدق بردّها له في قوله. وتومئ هذه الآية إلى حث المدين أن يكون عند حسن ظن دائنه فيه، وحمله على أدائه عند حلول أجله دون مطل أو تعلل. ثم أكد الله تعالى على المدين لزومه التأدية بقوله «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» بعدم الجحود وأن يفيه له بالحسنى مقابلة لفعله معه بقضاء حاجته في حالة يمكنه الامتناع فيها عن أن يدينه بحجة عدم وجود كاتب أو شهود أو رهن.
وبعد أن ندبه وحذره من المطل والتسويف ولزوم أداء الأمانة عند طلبها امتثالا
263
لأمره خاطب الشهود بقوله عز قوله «وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ» إذا دعيتم إليها لأنها أمانة فى أعناقكم وفي كتمانها إبطال الحق وضياع المعروف، ولهذا بالغ في الوعيد والتهديد على كتمانها فقال «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» مخطئ فاجر، وأضاف الإثم إلى القلب لأن كل أمر أول ما يحدث يحدث في القلب ثم ينطق به اللسان أو تنفذه الجوارح إلا من عصم الله، لأن القلب رئيس الأعضاء إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله- كما في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير عن البخاري- ولذلك فإن إثمه أعظم الآثام، قال ابن عباس أكبر الكبائر الإشراك بالله وشهادة الزور وكتمان الشهادة. وقال لما حرم الله الربا أباح السلف وقال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى (أياما أو شهورا أو سنين) قد أحله الله تعالى في كتابه وأدن فيه، وهذا سبب نزول هذه الآية، وله شروط معلومة في كتب الفقه يجب التقيد بها لصحة عقده ولئلا يدخله الربا. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون من التمر العام والعامين، فقال لهم من أسلف في تمر ففي كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) » لا يعزب عنه شيء من أعمالكم. وتومئ هذه الآية إلى تحذير من يكتم الشهادة ولم يؤد ما ائتمن عليه، وان المراد بإثم القلب مسخه والعياذ بالله، ومن هنا قيل: ما أوعد الله على شيء كإبعاده على كتم الشهادة، فانظر رحمك الله ما أعجب نظم هذه الآيات في تنظيم الإدارة الإنسانية، لأن عدم المضارة المذكورة من الطرفين والكاتب والشهود جزء من أجزاء الإدارة اللازمة للبشر، ومع هذا فإن الله جل جلاله قد بالغ في التأكيد على القيام بها بالعدل والتشديد على من يخرم شيئا منها، وقد كرر لفظ التقوى فيها لأنها تقي الإنسان من الوقوع فيما لا يرضي الله، لأنه قد يفرط في أمور يظنها من التقوى وليست منها، وقد يتسامح في أمور يظنها من التقوى وليست منها أيضا، بل قد تؤدي لما يحذر منه كمن يعطي ماله لسفيه أو يدين غيره بلا سند ولا شهود مع القدرة عليها، إذ ليس من الدين تفريط المرء في حفظ ماله إذ يعرضه لضياعه ومن ترك أمرا من أمور الدين أحوجه الله إليه، ولهذا أوجب الشارع الحجر
264
على الإنسان في الأحوال المارة الذكر في الآية السابقة، لأن الدين يأمر باتخاذ الوسائل لصيانة المال كما يأمره باتخاذها لصيانة النفس، ولهذا وضع الله تعالى أسسا للتعامل لانتظام معاملة الناس فالتوثق بها خير ضمان لمصلحة العامة. والحكم الشرعي في المداينات ما ذكرناه في تضاعيف تفسير الآيتين المارتين، ويفهم منها أن تصرف السفيه والمجنون وغير كامل التمييز غير مقبول شرعا، وأن إقرار الولي والوصي والقيم يعتبر عمن هو تحت الولاية والوصاية، لأنه محجور شرعا عن التصرف بماله ولا تعتبر عقوده، لأنه بحكم القاصر، ويعلم قوله تعالى (مِنْ رِجالِكُمْ) اشتراط كون الشاهد في الحقوق مسلما على مثله والكافر على مثله، بخلاف الجنايات فإنها تقبل فيها شهادة غير المسلم على المسلم، وقد رجم صلّى الله عليه وسلم يهوديا بشهادة يهود عليه في الزنى، وأن يكون العاقد حرا لأن العبد لا يملك عقود المداينات، وترمي إلى أن لا يكتفى بشاهد واحد، أما ما جاء بالاكتفاء بشاهد ويمين فهو مما لم يذكره الله تعالى في كتابه، ولهذا قال (وَامْرَأَتانِ) أي في حال عدم وجود رجلين، وقال بالائتمان عند عدم وجود الشاهد والكاتب والرهن، وان قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي يثبت عند الشافعي رحمه الله ومالك وأحمد بشاهد ويمين، فهو من خصوصياته إذا تحقق ثبوته. قال تعالى «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا في تضاعيف ملكه بجميع الكائنات، وإذا علمتم ذلك فإن قوله جل قوله «وَإِنْ تُبْدُوا» أيها الملوان الذين فيهما «ما فِي أَنْفُسِكُمْ» فتظهروه ليطلع عليه بعضكم فيمدحوكم على الخير أو يذموكم على الشر علنا أو جهرا «أَوْ تُخْفُوهُ» لئلا يطلع عليه أحد، فهو معلوم ومدون عنده في لوحه قبل خلقكم، ولذلك فإنكم يوم تحشرون إليه «يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ» أظهر
الاسم الكريم مع تقدم ذكره لإدخال الروعة والمهابة في قلوب عباده، أي أنه يحاسبكم عليه خيرا كان أو شرا، وقد عنون عن العمل بقوله (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) لأن العمل مسبوق بالعزم وهو من النفس.
265
مطلب المحاسبة غير المعاقبة ومعنى الخطأ والنسيان والهمّ والطاقة والإصر وغيرهما:
ومن رحمته بكم لم يقل يعاقبكم أو يؤاخذكم، لأن المحاسبة عبارة عن المعاتبة وتعريف الشخص بأن الله تعالى مطلع على سره وخواطر نفسه وضمائر قلبه، فضلا عما يفعله جهارا ويقوله علنا، وبعد أن يطلع عبده على ذلك يغفره له بمقتضى فضله كما يعذب عبده على ما يبديه إن شاء يحكم عدله. يدل على هذا ما رواه صفوان ابن محرز المازني قال: بينما عمر يطوف إذ عرض له رجل، فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم في النجوى، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول أعرف ربي أعرف مرتين، فيقول الله سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم تطوى صحيفة حسابه، وأما الآخرون، وهم الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين- أخرجاه في الصحيحين-. وان حديث اهمّ المقدم ذكره في الآية ٨٤ من سورة القصص في ج ١ يؤيد هذا لأن إخفاء ما في النفس عبارة عما يحدث في القلب. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت نفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا.
ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة، لأنها خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ كما بيناه في بحث النسخ في المقدمة وعند كل بادرة، وحجة من قال بنسخها هو ما رواه أبو هريرة من أن هذه الآية لما نزلت على رسول اشتد ذلك على أصحابه وقالوا كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والصدقة، وقد أنزلت هذه الآية ولا نطيقها، فقال أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا، فأنزل الله في أثرها «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) »
كامل القدرة بالغ المغفرة يغفر للمؤمنين بفضله ويعذب الكافرين بعدله. قال تعالى «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» آمنوا بما آمن به رسولهم «كُلٌّ منهم «آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ» نحن معاشر
266
المؤمنين «بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» كما فعل من قبلنا إذ آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما أشرنا إليه في الآية ٨٥ المارة، بل نؤمن بجميع الأنبياء والرسل وما أنزل الله عليهم من صحف وكتب وما ذكروه لنا عن ربهم وآمنوا به إيمانا خالصا «وَقالُوا» هؤلاء المؤمنون «سَمِعْنا» قول ربنا «وَأَطَعْنا» أمره نطلب «غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ» نعلم بأنه «إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) » في الآخرة فأحسن مآبنا إليك، ثم أنزل بعدها «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» قدرتها وطاقتها، فخرج هنا حديث النفس والوسوسة، لأنهما خارجان عن الوسع فهما خارجان عن التكليف، لأن دفعها فوق الطاقة، وفي المؤاخذة عليها حرج، وقد قال تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية ٧٧ من سورة الحج الآتية، والله أكرم من أن يتعبدنا بما لا نطيق، وأجلّ من أن يضيق علينا في الدين، وهذا لا يكون حجة في دعوى النسخ لما ذكرنا، ولأن الله لم يرتب عليه عقابا ليخففه في هذه الآية، وعلى فرض صحة حديث أبي هريرة فإن الأصحاب الذين راجعوا حضرة الرسول هم من عوام الصحابة أمثاله، ولهذا خاطبهم صلّى الله عليه وسلم بقوله (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين) أي الآية ٩٣ المارة، ولأنهم ظنوا أن الله يعاقبهم على ما يخطر بقلوبهم، ولذلك قالوا «لَها» أي لكل نفس ثواب «ما كَسَبَتْ» من أعمال الخير «وَعَلَيْها» وزر «مَا اكْتَسَبَتْ» من أفعال الشر، ثم علّم الله تعالى عباده كيف يدعونه بقوله قولوا «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» أمرا من أمورك أو نهيا من نواهيك، لأنا لا تخلو من أحدهما فاغفر لنا تقصيرنا في هاتين الحالتين أيضا زيادة عما تحدثه نفوسنا، فإنك واسع المغفرة بالغ الرحمة. هذا وقد قال العلماء إن التصور إذا وصل حد التصميم والعزم يؤاخذ عليه الإنسان لقوله تعالى (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) الآية ٢٥٥ المارة لأن هذا من الكيفيّات النفسانية التي تلحق بالملكات بخلاف سائر ما يحدث بالنفس وعليه قوله:
267
واعلم أن هؤلاء لو كانوا من خواص الصحابة لما خطر لهم ذلك ولعرفوا المغزى من قوله تعالى (يُحاسِبْكُمْ) ولم يثقل عليهم ذلك هذا وليعلم أن النسيان ضد التذكر والخطأ ضد العمد ولما كان التحرز عنهما ممكنا وأنهما إنما ينشآن من التفريط وقلة المبالات ونحوهما مما يدخل تحت التكليف جازت المؤاخذة عليهما ولولا هذا لما كان لسؤال عدم المؤاخذة عنهما معنى إلا أنه تعالى خفف عن هذه الأمة فرفع عنها المؤاخذة بهما بما ألهمهما من هذا الدعاء، وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. ولفظ رفع يشير إلى ذلك، ويفهم من هذه الآية والحديث أن الأمم السالفة كانت تؤاخذ بهما وأن عدم المؤاخذة بهما من خصائص هذه الأمة، يدل على هذا ما قيل إن بني إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطأوا فيما نهوا عنه عجلت لهم العقوبة فيخرم الله عليهم بها شيئا مما كان حلالا لهم من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم على شيء من ذلك، قال تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الآية ١٨٥ المارة، وعلى هذا فإن ما يصدر من التفريط وقلة المبالاة وسبق اللسان يدخل تحت العسر ويوشك أن لا يؤاخذنا الله عليه برحمته «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» فلم يقدروا على الوفاء به فعذبتهم عليه، والإصر هو العهد والميثاق الثقيلان الغليظان مثل قتل النفس لأجل قبول التوبة، وقطع العضو المخطئ وطرف الثوب للنجاسة وأداء ربع المال في الزكاة، والفضيحة بالذنب إذ يجدها المذنب مكتوبة على باب داره وغيرها من التكاليف الشاقة التي ابتلى الله بها اليهود لسوء أعمالهم، لأننا لا نستطيع تحملها لما ترى من ضعفنا «رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» من أمثال تلك الأشياء، «وَاعْفُ عَنَّا» ما سبق من كبائر ذنوبنا وامحها عنا بفضلك «وَاغْفِرْ لَنا» صغائرها وما وقع منا سهوا وخطأ ونسيانا وإكراها برأفتك، ولا تفضحنا بشيء فعلناه «وَارْحَمْنا» رحمة عامة شاملة تطهر قلوبنا بها من وساوس الشيطان وخطرات النفس وحديث القلب وما يحوك في الصدر، ونجنا من عقابك وعذابك وعتابك.
وهذه الثلاثة بمقابل الثلاثة قبلها، وفي معناها قيل:
268
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
أنا مذنب أنا مسرف أنا عاصي هو راحم هو غافر هو عافي
قابلتهن ثلاثة بثلاثة وستغلبن أوصافه أوصافي
«أَنْتَ مَوْلانا» وناصرنا ومؤيدنا لا مولى لنا غيرك ولا عمدة لنا سواك «فَانْصُرْنا» بفضلك ولطفك وكرمك «عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦) » أعدائك وأعدائنا المناوئين لرسولك الجاحدين كتابك. قال أبو هريرة قال ابن عباس في حديث طويل يرويه عنه مسلم في هذه الآية قال تعالى قد غفرت لكم ولا أؤاخذكم ولا أحمل عليكم ولا أحملكم إصرا، قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم.
واعلم أيها العبد أن الله تعالى لو لم يرد إجابة الدعاء ما علمه عباده، وفيه قيل:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من فيض جودك ما علمتني الطلبا
فاغتنم هذا وتبتل إلى ربك صباح مساء، واسأله فإنه جواد كريم، لأن هذه الآية تدل صراحة على جواز غفران الذنوب لأصحاب الكبائر من المؤمنين، فكن عظيم الثقة بالله دائم الاستعانة به، كثير الرجاء، فإنه عند ظن عبده. روى البخاري ومسلم عن بن مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه، أي من كل ما يحذر منه ومن كل هامة وشيطان، فلا يقربه تلك الليلة شيء وقيل إذا قرئ على المصروع أربع آيات من أول البقرة إلى المفلحون وثلاث من وسطها آية الكرسي والآيتان بعدها وثلاث من آخرها من (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) إلى آخر السورة برىء بإذن الله تعالى، وهو من المجرب إذا صحت النية والعقيدة وطهرت النفس، لأن لآيات الله تعالى في مثل هذه الأمراض تأثيرا شديدا، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا في تفسير الآية ٨٢ من سورة الإسراء ج ١.
وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوق فيقبض منها، قال (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) قال فراش من ذهب، قال فأعطي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثا، أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا المقتحمات أي الذنوب العظام التي تولج مرتكبها النار. وأصل الاقتحام الولوج. وروى مسلم
269
Icon