تفسير سورة ص

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة ص من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة ص
نحمدك يا من لا اله الّا أنت ونسبحك ونستعينك ونستغفرك ونشهد انّك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شىء قدير أنت ربّنا وربّ السّموات والأرض ومن فيهن ونصلّى ونسلّم على رسولك وحبيبك سيّدنا ومولانا محمّد وعلى جميع النّبيين والمرسلين وعلى عبادك الصّالحين سورة ص مكيّة وهى ثمان وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اخرج احمد والترمذي والنسائي والحاكم عن ابن عباس قال مرض ابو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي ﷺ فشكوه الى ابى طالب فقال ابن أخي ما تريد من قومك فقال أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم العجم جزية قال كلمة واحدة قال ما هى قال لا اله الا الله فقالوا اجعل الالهة الها واحدا انّ هذا الشيء عجاب فنزل.
ص الى قوله بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ- قيل هو قسم وقيل هو اسم السورة كما ذكرنا فى سائر حروف التهجي قال محمد بن كعب مفتاح اسمه الصمد وصادق الوعد- وقال الضحاك معناه صدق الله وروى عن ابن عباس صدق محمد رسول الله ﷺ وقيل هو امر من المصاداة ولذا قرئ بالكسر على وزن ناد ومعناه عارض من الصدى فانه تعارض الصوت الاول يعنى عارض القران بعملك والحق انه من المتشابهات وقد ذكرنا تحقيقها فى أوائل سورة البقرة وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) قال ابن عباس اى ذى البيان لما يحتاج اليه فى الدين من العقائد والشرائع والمواعيد او ذى عظة وقال الضحاك اى ذى الشرف كما فى قوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ والواو للقسم ان جعل ص اسم حرف مذكور للتحدى او الرمز لكلام صدق محمد ﷺ او غيره او لفظ الأمر وللعطف ان جعل
مقسما به قال الأخفش جواب القسم ان كلّ الّا كذّب الرّسل فحقّ عقاب وهذا بعيد جدّا والظاهر ان الجواب محذوف دل عليه ما فى ص من الدلالة على التحدي او الأمر بالمعادلة اى انه لمعجز او الواجب العمل به او ان محمد الصادق او ان الأمر ليس كما يقول الكفار ويدل عليه قوله.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ اى استكبار عن الحق وحمية جاهلية وَشِقاقٍ (٢) خلاف وعداوة لمحمد ﷺ ولاجل ذلك لا يؤمنون به او خلاف لما يقتضيه العقل والنقل والتنكير فيهما الدلالة على شدتهما فهو إضراب عن الجواب المقدر وقال قتادة هذا جواب القسم كما فى قوله تعالى ق والقرءان المجيد بل عجبوا وبل ابتدائية- وقال القتيبي بل لتدارك كلام ونفى اخر مجاز الاية ان الله اقسم بص والقرءان ذى الذّكر ان الذين كفروا من اهل مكة فى عزّة وشقاق..
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ وعيد لهم على كفرهم استكبار او شقاقا فَنادَوْا عند نزول العذاب استغاثة او توبة واستغفارا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) اى ليس الحين حين مناص جملة كم أهلكنا معترضة لبيان ما لهم بعد بيان حالهم يعنى انهم يهلكون كما هلك من قبلهم ولا هى المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب وثم وتغير حكمه فخصت بلزوم الأحيان وحذف أحد المعمولين اما الاسم واما الخبر والمحذوف هاهنا الاسم هذا مذهب الخليل وسيبويه وقال الأخفش هى النافية للجنس والخبر محذوف اى لا حين مناص كائن لكم وقيل هى نافية للفعل والنصب بإضماره تقديره لا ارى حين مناص حاصلا لهم والوقف على لات بالتاء عند الزجاج «وعند جميع القراء غير الكسائي- ابو محمد» وعند الكسائي لاه- بالهاء. وذهب جماعة الى ان التاء زيدت فى حين والوقف على لا ثم يبتدى تحين وهو اختيار ابى عبيد وقال كذلك وجدت فى مصحف عثمان رضى الله عنه وهذا كقول الشاعر والعاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم- والمناص مصدر ميمى من ناصه ينوصه إذا فاته وفى القاموس النوص التأخر والمناص الملجأ قال ابن عباس كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا فى الحرب قال بعضهم لبعض مناص اى اهربوا وخذوا حذركم فلما انزل الله بهم العذاب ببدر قالوا مناص فانزل الله عز وجل ولات حين مناص اى ليس الحسين حين هذا القول والجملة
حال من فاعل نادوا اى استغاثوا والحال ان لا ملجاء ولا مهرب ولا اعتبر بهم كفار مكة-.
وَعَجِبُوا عطف على الظرف المستقر اعنى فى عزّة وشقاق او حال من الضمير المستكن فيه بتقديرته تقديره بل الّذين كفروا كائنون فى عزّة وشقاق وقد عجبوا من أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ اى بشر من أنفسهم رسولا إليهم لينذرهم وَقالَ الْكافِرُونَ وضع الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وذمّا لهم واشعارا بان كفرهم جسرهم على ان قالوا هذا ساحِرٌ فيما يظهر من المعجزات كَذَّابٌ (٤) فيما يقول.
أَجَعَلَ محمول على حذف قالوا استئناف فى جواب ما قالوا حينئذ يعنى قالوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً الاستفهام للتعجب يعنى كيف جعل الالوهية التي كانت لجماعة لواحد إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) بليغ فى العجب فانه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا ما نشاهد ونعاهد ان الواحد لا يفئ علمه وقدرته بالأشياء الكثيرة- قال البغوي وذلك ان عمر بن الخطاب لما اسلم شق ذلك على قريش وفرح بها المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والاشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلا أكبرهم سنّا الوليد بن المغيرة قال امشوا الى ابى طالب فاتوا أبا طالب وقالوا أنت كبيرنا وشيخنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وانا اتيناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك فارسل ابو طالب الى النبي ﷺ فدعاه فقال يا ابن أخي هؤلاء قومك يسئلونك فلا تمل كل الميل على قومك فقال رسول الله ﷺ ماذا تسئلون قالوا ارفض ذكر متناوندعك وإلهك فقال النبي ﷺ أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال ابو جهل لله أبوك لنعطيكها وعشر أمثالها فقال رسول الله ﷺ قولوا لا اله الا الله فتفرقوا من ذلك وقاموا وقالوا اجعل الالهة الها واحدا كيف يسع الخلق كلهم اله واحد انّ هذا الشيء عجاب قيل التعجيب ما له مثل والعجاب مالا مثل له.
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ اى الاشراف من مجلس ابى طالب الذين كانوا فيه مِنْهُمْ اى من قريش وجملة انطلق عطف على قالوا اجعل الالهة الها واحدا أَنِ امْشُوا اى قائلين ان امشوا من مجلسكم هذه وَاصْبِرُوا اى اثبتوا عَلى عبادة آلِهَتِكُمْ حيث لا ينفعكم المكالمة
وان هى المفسرة لان الانطلاق عن مجلس التناول يشعر بالقول وقيل المراد بالانطلاق الاندفاع فى القول وامشوا من مشيت المرأة إذا كثرت ولادتها ومنه الماشية اى اجتمعوا إِنَّ هذا المذكور من التوحيد لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) منا هذه الجملة فى مقام التعليل على قوله امشوا قال البغوي وذلك ان عمر رضى الله عنه لما اسلم وحصل للمسلمين به قوة بمكانه قالت الكفار انّ هذا الشيء يراد قيل معناه هذا الذي نرى من زيادة اصحاب محمد ﷺ لشئ من الله يراد بنا فلا مرد له وقيل يراد باهل الأرض وقيل بمحمد ﷺ ان يملك علينا او يقال ان هذا الذي يدعيه محمد من التوحيد او الذي يقصد من الرياسة والترفع على العرب والعجم لشئ يتمنى او يريده كل أحد او ان دينكم يطلب ليؤخذ منكم.
ما سَمِعْنا بِهذا الذي يقوله محمد من التوحيد وكلمة هذا للتحقير فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ قال ابن عباس والكلبي ومقاتل يعنون بها النصرانية لانها اخر الملل وهم لا يوحدون بل يقولون ثالث ثلاثة وقال مجاهد يعنون ملة قريش ودينهم الذي هم عليه اى ما سمعنا بهذا فى الملّة التي أدركنا عليه آباءنا ويجوز ان يكون ظرفا مستقرا فى محل الحال اى ما سمعنا من اهل الكتاب ولا الكهان هذا اى التوحيد كائنا فى الملة المترقبة التي هى اخر الملل إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (٧) اى كذب اختلقه..
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ اى القران الاستفهام للانكار فهو بمعنى النفي فهو تأكيد لمضمون قولهم ان هذا الّا اختلاق مِنْ بَيْنِنا وليس بأكبرنا ولا اكثر منا فى المال والجاه وفيه دليل على ان منشأ تكذيبهم لم يكن الا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي قال الله تعالى بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي اى القران حيث كذبوا الجائى به إضراب للانكار واثبات للشك لميلهم الى التقليد واعراضهم عن الدليل يعنى ليس عندهم حجة يوجب علما يقينيا بما يقولون انه ساحر كذاب بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) ولو ذاقوا ما قالوا ذلك وسيذقونها وحينئذ يزول عنهم الشك ولا ينفعهم وبل للاضراب عن الشك واثبات يقينهم واعتقادهم بانتفاء حقيقة القران فاثبات الشك انما هو بالنظر الى انتفاء الحجة عندهم واثبات اليقين نظرا الى جهلهم المركب وزعمهم الفاسد تعنتا
وعنادا- وقيل بل في الموضعين ابتدائية ليست للاضراب فالجملة الاولى جواب لكلام الكفار والثانية تأكيد للاولى.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اى نعمة ربك يعنى مفاتيح النبوة يعطوها من يشاءوا يعنى ليس الأمر كذلك فان النبوة عطية من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده لا مانع لما أعطاه فانه الْعَزِيزِ الغالب الذي لا يغلبه شىء الْوَهَّابِ (٩) الذي يهب ما يشاء لمن يشاء أم منقطعة بمعنى بل والهمزة قيل للاضراب من دعوى الى دعوى اخر او الهمزة لانكار ذلك الدعوى وكذلك أم فى قوله.
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما لمّا أنكر عليهم التصرف فى النبوة بان ليس عندهم خزائن رحمته التي لا نهاية لها اردف ذلك بانه ليس لهم مدخل فى امر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائنه فمن اين لهم ان يتصرفوا فيها فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جواب شرط محذوف اى ان كان لهم ذلك فليصعدوا فى المعراج التي يتوصلون بها الى العرش حتى يستروا عليه ويدبروا امر العالم فينزلوا الوحى الى من يتصفون وهو غاية التهكم بهم والأمر للتوبيخ والتعجيز قال قتادة ومجاهد أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء الى سماء وكل ما يوصلك الى شىء من باب او طريق فهو سببه.
جُنْدٌ ما هُنالِكَ ما هذه للتقليل وجند خبر مبتدا محذوف اى هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند قليل مَهْزُومٌ عن قريب صفة لجند وكذا قوله مِنَ الْأَحْزابِ (١١) اى من احزاب الكفار المتحزبين على الرسل فى القرون الماضية فقهروا واهلكوا فمن اين لهم التدابير الالهية والتصرف فى الأمور الربانية او فلا تهتم بما يقولون قال قتادة اخبر الله تعالى نبيه ﷺ انه سيهزم جند المشركين وقال سيهزم الجمع ويولّون الدّبر فجاء تأويلها يوم بدر وهنالك اشارة الى بدر ومصارعهم والظاهر انه اشارة الى حيث وضعوا أنفسهم وأتوا بمثل هذا القول العظم وتكذيبهم إياك-.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ اى قبل اهل مكة قَوْمُ نُوحٍ تأنيث قوم من حيث المعنى وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) قال ابن عبّاس ومحمد بن كعب ذو البناء المحكم وقيل أراد الملك السديد الثابت قال القتيبي تقول هم فى العز الثابت الأوتاد يريدون انه
الدائم الشديد وقال الضحاك ذو القوة والبطش الشديد وقال عطية ذو الجنود والجموع الكثيرة يعنى انهم كانوا يقوّون امره ويشدون ملكه كما يقوى الوتد الشيء وايضا سميت الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها فى أسفارهم وهى رواية عطية عن ابن عباس وقال الكلبي ومقاتل الأوتاد جمع الوتد وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها وكان إذا غضب على أحد مدّه مستلقيا بين اربعة أوتاد وشد كل يد وكل رجل الى سارية وتركه كذلك فى الهواء بين السماء والأرض حتى يموت وقال مجاهد ومقاتل بن حبان كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ثم يشد يديه ورجليه على الأرض بالأوتاد وقال السدى كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات وقال قتادة كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب عليها بين يديه.
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ اى اصحاب الغيظة وهم قوم شعيب أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) اللام للعهد اى أولئك الأحزاب الذين مر ذكرهم فى قوله جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب الذين تحزبوا على الرسل ومشركوا مكة حزب منها.
إِنْ كُلٌّ اى ما كل حزب منهم فعل شيئا إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ بيان لما أسند إليهم من التكذيب على الإبهام مشتملا على انواع من التأكيد ليكون تسجيلا على استحقاقهم أشد العذاب ولذلك رتب عليه فَحَقَّ عِقابِ (١٤) اى وجب عليهم وانزل بهم عذابى الذي يستحق ان يعقب الكفر قرأ يعقوب عقابى بالياء وصلا ووقفا والباقون بحذفها والاكتفاء على الكسرة وفى قوله كلّ كذّب الرّسل اما مقابلة الجمع بالجمع او جعل تكذيب واحد منهم تكذيبا لكلهم لاتحاد كلمتهم..
وَما يَنْظُرُ اى ما ينتظر عطف على قوله وقال الكافرون او حال هؤُلاءِ اى كفار قريش إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً اى نفخة الصور يعنى لا يؤمنون حتى يرووا العذاب الأليم حين لا ينفعهم ايمانهم ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) صفة بعد صفة لصحيحة قرأ حمزة والكسائي «وخلف ابو محمد» بضم الفاء والباقون بفتحها وهما لغتان بالفتح لغة قريش وبالضم لغة تميم قال ابن عباس وقتادة معناه من رجوع وقال مجاهد نظرة وقال الضحاك مثنوية اى صرف وقال الفراء وابو عبيدة بالفتح بمعنى الراحة والافاقة كالجواب بمعنى الاجابة وذهب بها الى
افاقة المريض من غلبة المرض وبالضم ما بين الحلبتين وهى تحلب ناقة وتترك ساعة حتى يجتمع اللبن فى الضرع بين الحلبتين يعنى مالها مهلة مقدار ما بين الحلبتين قيل هما مستعاران من الرجوع لان اللبن يعود الى الضرع بين الحلبتين وافاقة المريض رجوعه الى الصحة يعنى لا رجوع الى الدنيا بعد الصيحة او إذا جاءت الصيحة لم ترد ولم تصرف او لا نظرة قدر ما بين الحلبتين او لا افاقة ولا راحة حينئذ قال الكلبي لمّا نزلت فى الحاقة فامّا من اوتى كتابه بيمينه وامّا من اوتى كتابه بشماله قالت كفار مكة استهزاء ربّنا عجّل لّنا قطنا فنزلت.
وَقالُوا عطف على قال الكافرون رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا والقطّ هى الصحيفة التي احصت كل شىء كذا قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يعنى عجل لنا كتابنا فى الدنيا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) وروى عن سعيد بن جبير انه قال يعنون عجّل لّنا حظنا ونصيبنا من الجنة التي يقول محمد وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدىّ يعنون عقوبتنا ونصيبنا من العذاب وقال عطاء هذا ما قاله النضر بن الحارث اللهمّ ان كان هذا هو الحقّ من عندك فامطر علينا حجارة من السّماء وعن مجاهد قال قطّنا حسابنا.
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ استهزاء وتكذيبا جملة مستأنفة وعطف عليه قوله وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ فان ذكر الأنبياء يقتضى الصبر على ما يكرهه الطبع وحبس النفس على الطاعة وعن المعصية ذَا الْأَيْدِ اى ذا القوة والبطش الشديد على الطاعة إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) اى رجّاع الى الله عما سواه والى الطاعة عن المعصية قال ابن عباس اى مطيع وقال سعيد بن جبير المسبّح بلغة الحبش وهو تعليل للايد دليل على ان المراد به القوة فى الدين روى الشيخان فى الصحيحين واحمد والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبي ﷺ قال أحب الصيام الى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وأحب الصلاة الى الله صلوة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام السدس الأخير من الليل..
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ جملة سخّرنا الى قوله فصل الخطاب بيان لكرامة داود عليه السلام عند الله فكانّه بدل اشتمال لداود اى اذكر كرامة داود عند الله حيث
سخرنا له الجبال الى آخره يُسَبِّحْنَ حال وضع موضع مسبّحات لاستحضار الحال الماضية والدلالة على تجدد التسبيح منه حالا بعد حال بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) قال الكلبي غدوة وعشيّا والاشراق هو ان تشرق ويتناهى ضؤها وفسره ابن عباس بصلوة الضحى روى البغوي بسنده عن ابن عباس فى تفسير هذه الاية قال كنت أمن بهذه الاية لا أدرى ما هى حتى حدثتنى أم هانى بنت ابى طالب ان رسول الله ﷺ دخل علينا فدعا بوضوء فتوضا ثم صلى الضحى فقال يا أم هانى هذا صلوة الاشراق- وأخرجه الطبراني فى الأوسط وابن مردوية واخرج ابن جرير والحاكم عن عبد الله بن الحرث عن ابن عباس انه قال ما عرفت صلوة الضحى الا بهذه الاية وأخرجه سعيد بن منصور.
وَالطَّيْرَ عطف على الجبال يعنى سخّرنا مَحْشُورَةً اى مجتمعة اليه من كل جانب تسبح معه كُلٌّ اى كل واحد من الجبال والطير لَهُ أَوَّابٌ (١٩) اى رجّاع الى التسبيح بتسبيحه والفرق بينه وبين ما قبله انه يدل على الموافقة فى التسبيح وهذا على المداومة عليها او المعنى كل واحد من داود والجبال والطير له اى لله تعالى اوّاب-.
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ اى قوّيناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود قال البغوي قال ابن عباس كان داود أشد ملوك الأرض سلطانا يحرس محرابه كل ليلة ست وثلاثون الف رجل روى البغوي عن عكرمة عن ابن عباس ان رجلا من بنى إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود ان هذا أغصبنى بقرا فسأله داود فجحد وسأل الاخر البينة ولم تكن له بينة فقال لهما داود قوما حتى أنظر فى أمركما فاوحى الله الى داود فى منامه ان يقتل الذي استعدى عليه فقال هذه رؤيا ولست اعجل حتى اثبت فأوحى اليه مرة اخرى فلم يفعل فاوحى اليه الثالثة ان يقتله او يأتيه العقوبة فارسل داود اليه فقال ان الله اوحى الىّ ان أقتلك قال تقتلنى بغير بينة قال نعم والله لانفذن امر الله فيك فلمّا عرف الرجل انه قاتله قال لا تعجل حتى أخبرك انى والله ما أخذت بهذا الذنب ولكنى كنت اغتلت والد هذا فقتلته فلذلك أخذت فامر به داود فقتله فاشتدت
هيبة فى بنى إسرائيل عند ذلك لداود واشتد به ملكه- وكذا روى عبد بن حميد وابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ اى النبوة وكمال العلم وإتقان العمل وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) قال البغوي قال على بن ابى طالب رضى الله عنه هو ان البينة على المدعى واليمين على من أنكر لان كلام الخصوم ينقطع وينفصل به- قال ويروى ذلك عن أبيّ بن كعب قال فصل الخطاب الشهود والايمان وهو قول مجاهد وعطاء بن ابى رباح وقال قال ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل هو البصيرة فى القضاء وقال قال ابن عباس هو بيان الكلام يعنى الكلام الذي يظهر به المقصود على المخاطب من غير التباس يراعى فيه الفصل والوصل والعطف والاستئناف والإضمار والإظهار والحذف والتكرار ونحوها على ما بين فى علم البلاغة ولا يكون فيه اختصار مخل وإشباع ممل كما جاء فى حديث أم معبد الذي ذكرناه فى سورة التوبة فى قصة الهجرة فى تفسير قوله تعالى فانزل الله سكينته عليه وايّده بجنود لّم نزوها فى وصف كلام رسول الله ﷺ فصل لا نزر ولا هذر اى لا قليل مخلّ ولا كثير مملّ وروى عن الشعبي ان فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه اما بعد إذا أراد الشروع فى كلام قال البيضاوي انما سمى به اما بعد لانه يفصل المقصود عمّا سبق مقدمة له من الحمد والصلاة..
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ استفهام ومعناه التعجب والتشويق الى استماع القصة والجملة معطوفة على اذكر والخصم فى الأصل مصدر ولذلك يصلح للاطلاق على المثنى والمجموع والمراد هاهنا متخاصمان وانما أورد صيغة الجمع فى قوله تعالى إِذْ تَسَوَّرُوا مجازا كما فى قوله تعالى فقد صنعت قلوبكما وهو تفعّل من السور كتسنم من السنام ومعناه إذ تصعدوا الْمِحْرابَ (٢١) اى القلعة سمى محرابا لانه يحرب عليه او المراد به المسجد لما انه يحرب فيه من الشيطان وجاز ان يكونوا جماعة كما يدل عليه الصيغة وضمائر الجمع وإذ متعلق بمحذوف اى نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا او بالنبا على ان المراد به الواقع فى عهد داود وان اسناد اتى اليه على حذف المضاف اى
161
قصة نبا الخصم او بالخصم لما فيه من معنى الفعل لا بأتى لان إتيانه الرسول ﷺ لم يكن حينئذ- وهذه امتحان داود عليه السلام قال البغوي اختلف العلماء فى سببه فقال قوم سبب ذلك انه عليه السلام تمنى يوما من الأيام منزلة ابائه ابراهيم وإسحاق ويعقوب وسال ربه ان يمتحنه كما امتحنهم ويعطيه من الفضل ما أعطاهم فروى السدىّ والكلبي ومقاتل عن أشياعهم دخل حديث بعضهم فى بعض قالوا كان داود قسّم الدهر ثلاثة اقسام يوم يقضى بين الناس ويوم يخلو فيه لعبادة ربه ويوم لنسائه وأشغاله قلت واخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن انه جزّ الدهر اربعة اجزاء فزاد ويوم للوعظ قالوا وكان داود يجد فيما يقرأ من الكتب فضل ابراهيم وإسحاق ويعقوب فقال يا رب ارى الخير كله قد ذهب به ابائى الذين كانوا من قبلى فاوحى الله اليه انهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها ابتلى ابراهيم بنمرود وبذبح ابنه وابتلى إسحاق بالذبح وبذهاب بصره وابتلى يعقوب بالحزن على يوسف فقال يا رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم لصبرت ايضا فاوحى الله اليه انك مبتلى فى شهر كذا فى يوم كذا فاحترس- فلمّا كان ذلك اليوم الذي وعده الله دخل داود محرابه وجعل يصلى ويقرأ الزبور فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل فى صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن وقيل جناحاه من الدر والزبرجد فوقفت بين رجليه فاعجبه حسنها فمديده ليأخذها فيريها بنى إسرائيل فينظروا الى قدرة الله تعالى فلمّا قصد أخذها طارت غير بعيد من غير ان تؤيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت فتبعها فطارت حتى وقعت فى كوة فذهب لياخذها فطارت من الكوة فنظر داود اين تقع فيبعث من يصيدها فابصر امراة فى بستان على شط بركة لها تغتسل هذا قول الكلبي وقال السدى راها تغتسل على سطح لها فراى امرأة من أجمل النساء خلقا فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاته فابصرت ظلة فنقضت شعرها فغطت بدنها فزاده ذلك عجبا فسال عنها فقيل هى تشائع بنت شائع امراة أوريا بن حنانا وزوجها فى غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن اخت داود عليه السلام
162
فذكر بعضهم انه أحب ان يقتل أوريا ويتزوج امرأته فكان ذنبه هذا القدر- وذكر بعضهم انه كتب داود الى ابن أخته أيوب ان ابعث أوريا الى موضع كذا وقدّمه قبل التابوت وكان من قدّم التابوت لا يحل له ان يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه او يستشهد وقدّمه ففتح له فكتب الى داود بذلك فكتب اليه ايضا ان ابعثه الى عدوّ كذا وكذا فبعثه ففتح له فكتب الى داود بذلك فكتب اليه ايضا ان ابعثه الى عدو كذا وكذا أشد منه بأسا فبعثه فقتل فى المرة الثالثة- فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود فهى أم سليمان عليهما السلام- قال البغوي وعن ابن مسعود انه قال كان فى ذنب داود انه التمس من الرجل ان ينزل عن امرأته قال اهل التفسير كان ذلك مباحا لهم غير ان الله لم يرض له ذلك لانه كان رغبة فى الدنيا وازدياد النساء وقد أغناه الله عنها بما أعطاه من غيرها قال البغوي وروى عن الحسن انه كان جزّ الدهر اربعة اجزاء كما ذكر عبد بن حميد وغيره وزاد فلمّا كان يوم وعظ بنى إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ويبكيهم ويبكونه فقالوا هل يأتى على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا فاضمر داود فى نفسه انه سيطيق ذلك وقيل انهم ذكروا
فتنة النساء فاضمر داود فى نفسه انه ان ابتلى اعتصم فلمّا كان يوم عبادته غلق أبوابه وامر ان لا يدخل عليه أحد وأكب على التوراة فبينا هو يقرا إذ دخلت عليه حمامة من ذهب كما ذكرنا قال وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه فكتب اليه ان يسير الى مكان كذا وكذا مكانا إذا سار اليه قتل ففعل فاصيب فتزوج امرأته قال فلمّا دخل داود بامراة أوريا لم يلبس الا يسيرا حتى بعث الله اليه ملكين فى صورة رجلين يوم عبادته فطلبا اى يدخلا عليه فمنعهما الحرس فتسورا المحراب عليه فما شعر وهو يصلى الا وهما بين يديه جالسين يقال كانا جبرئيل وميكائيل عليهما السلام-.
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ بدل من قوله إذ تسوّروا فَفَزِعَ مِنْهُمْ اى خاف داود من الخصم لانهما نزلا عليه من فوق فى يوم الاحتجاب والحرس على الباب لا يتركون من دخل عليه قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ اى نحن متخاصمان بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ
هذا الكلام على الفرض وقصد التعريض كانّهم قالوا ان كنا خصمين يعنى بعضنا على بعض فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ اى لا تجر يقال شط الرجل شططا وأشط أشطاطا إذا جار فى حكمه والمعنى مجاوزة الحد واصل الكلمة من شطت الدار واشطت إذا بعدت وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) سواء مصدر بمعنى الفاعل صفة للصراط أضيف اليه على طريقة اخلاق ثياب يعنى اهدنا الى طريق مستوى اى وسطه وهو العدل.
إِنَّ هذا أَخِي اى على دينى وطريقى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً اى امراة العرب تكنى المرأة بالنعجة وقال الحسن بن الفضل هذا تعريض للتنبيه والتفهيم إذ لم يكن هناك نعاج والجملة الظرفية خبر بعد خبر لان وَلِيَ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها نَعْجَةٌ واحِدَةٌ الجملة الظرفية منصوب على الحال والعامل فيه الظرف السابق فَقالَ عطف على قوله له تسع وتسعون نعجة أَكْفِلْنِيها قال ابن عباس اعطنيها وقال مجاهد انزل لى عنها يعنى طلقها لا تزوجها وحقيقته ضمها الىّ واجعلنى اكفّلها كما اكفّل ما تحت يدى وقيل معناه اجعلها كفلى ونصيبى وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) عطف على قال معناه غلبنى فى المخاطبة إياي محاجة قال الضحاك يعنى ان تكلم كان افصح منى وان حارب كان ابطش منى فالغلبة له لضعفى فى يده وان كان الحق معى وقيل معناه غلبنى فى خطبة المرأة اى خطبت المرأة وخطبها هو على خطبتى فغلبنى حتى تزوجها.
قالَ داود بعد اعتراف صاحبه بذلك لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وقيل معناه ان كان الأمر كما تقول فلقد ظلمك والجملة جواب قسم محذوف قصد به المبالغة فى انكار فعل خليطه وتهجين طمعه والسؤال مصدر مضاف الى مفعوله وتعديته الى مفعول اخر بالى لتضمنه معنى الاضافة اى ظلمك بسؤال ان يضيف نعجتك الى نعاجه وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ اى الشركاء الذين خلطوا امرا لهم جمع خليط لَيَبْغِي اى ليظلم بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فانهم لا يظلمون أحدا جملة وانّ كثيرا عطف على لقد ظلمك وَقَلِيلٌ ما هُمْ اى وهم قليل وما مزيدة للابهام والتعجب من قلتهم. فلمّا قضى بينهما داود نظر أحدهما الى صاحبه فضحك وصعدا
164
فى السماء وَظَنَّ داوُدُ اى علم وأيقن عطف على قال لقد ظلمك أَنَّما فَتَنَّاهُ يعنى ان الله ابتلاه وامتحنه بتلك الحكومة هل يتنبه بها أم لا.
قال السدى بإسناده ان أحدهما لمّا قال انّ هذا أخي الاية قال داود للاخر ما تقول فقال ان لى تسع وتسعون نعجة ولاخى نعجة واحدة وانا أريد ان أخذها منه فاكمّل نعاجى مائة وهو كاره قال إذا لا ندعك فان رمت ذلك ضربت هذا وهذا وهذا يعنى طرف الانف وأصله والجبهة. فقال يا داود أنت احقّ بذلك حيث لم يكن لاوريا الا امراة واحدة ولك تسع وتسعون امراة فلم تزل تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته فنظر داود فلم ير أحدا فعرف ما وقع فيه. وقال القائلون بتنزيه الأنبياء فى هذه القصة ان ذنب داود انما كان انه تمنى ان يكون امراة أوريا حلالا له فاتفق غزو أوريا وتقدمه فى الحرب فلمّا بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما كان يجزع على غيره من جنده إذا هلك ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك لان ذنوب الأنبياء ولو صغرت فهى عظيمة عند الله نظرا الى رفعة شأنهم وقيل كان ذنب داود ان أوريا كان خطب تلك المرأة ووطن نفسه عليها فلما غاب فى غزاته خطبها داود فزوجت منه لجلالته فاغتم لذلك أوريا فعاتبه الله على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسع وتسعون امراة- وذكر البغوي حديث انس بن مالك رضى الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ان داود النبي حين نظر الى المرأة فاهم قطع على بنى إسرائيل فاوصى صاحب البعث فقال إذا حضر العدو فقرب فلانا بين يدى التابوت وكان التابوت فى ذلك الزمان يستنصريه ومن قدم بين يدى التابوت لم يرجع حتى يقتل او ينهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة فنزل الملكان يقصان عليه القصة ففطن داود فسجد فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبهته وهو يقول فى سجوده ربّ ذل داود زلة ابعد ممّا بين المشرق والمغرب رب ان لم ترحم ضعف داود ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا فى الخلوف من بعده فجاءه جبرئيل من بعد أربعين ليلة فقال يا داود ان الله قد غفر لك الهم الذي هممت به فقال داود ان الرب قادر على ان يغفر لى الهمّ الذي هممت به وقد عرفت
165
انّ الله عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال رب دمى الذي عند داؤد فقال جبرئيل ما سالت ربّك عن ذلك وان شئت لا فعلن قال نعم فعرج جبرئيل وسجد داؤد فمكث ما شاء الله ثمّ نزل فقال سالت الله يا داؤد عن الذي أرسلتني فيه فقال قل لداؤد ان الله يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب لى دمك الذي عند داؤد ويقول هو لك يا رب فيقول ان لك فى الجنّة ما شئت وما اشتهيت عوضا عنه وروى عن ابن عباس وعن كعب الأحبار ووهب بن منبه قالوا جميعا ان داؤد لمّا دخل عليه الملكان فقضى على نفسه فتحولا عن صوريتهما فعرجا وهما يقولان قضى الرجل على نفسه وعلم داؤد انه انما عنى به فخرسا جدا أربعين يوما لا يرفع راسه الّا لحاجة ولوقت صلوة مكتوبة ثم يعود ساجدا تمام أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكى حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادى ربّه عزّ وجلّ ويسئله التوبة وكان من دعائه فى سجوده سبحان الملك الأعظم الذي يبتلى الخلق بما يشاء سبحان خالق النور سبحان الحائل بين القلوب سبحان خالق النّور الهى أنت خليت بينى وبين عدوى إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي سبحان خالق النور الهى أنت خلقتنى وكان من سابق علمك ما انا اليه صائر سبحان خالق النور الهى الويل لداؤد إذا كشف عنه الغطاء فيقال هذا داؤد الخاطئ سبحان خالق النور الهى باىّ عين انظر إليك يوم القيامة وانّما ينظر الظالمون من طرف خفى سبحان خالق النور الهى باىّ قدم امشى امامك وأقوم بين يديك يوم تزول أقدام الخاطئين سبحان خالق النور الهى من اين يطلب العبد المغفرة الا من عند سيّده سبحان خالق النور الهى انا الذي لا أطيق حرّ شمسك فكيف أطيق حرّ نارك سبحان خالق النور الهى انا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم سبحان خالق النور الهى الويل لداؤد من الذنب العظيم الذي أصاب سبحان خالق النور الهى قد تعلم سرّى وعلانيتى فاقبل عذرى سبحان خالق النور الهى برحمتك اغفر
لى ذنوبى ولا تباعدني من رحمتك لهواى سبحان خالق النّور الهى أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبى التي أوبقتني سبحان خالق النور الهى فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلنى من القانطين ولا تحزنى يوم الدّين
166
سبحان خالق النور- قال مجاهد فمكث داؤد أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتّى غطى رأسه فنودى يا داؤد اجائع فتطعم او ظمئان فتسقى او عار فتكسى فاجيب فى غير ما طلب قال فنحب نحبة هاج لها العود فاحترق من حرّ جوفه ثمّ انزل الله له التوبة والمغفرة- قال وهب ان داؤد أتاه نداء انى قد غفرت لك قال يا ربّ كيف وأنت لا تظلم أحدا قال اذهب الى قبر أوريا فناده فانا أسمعه نداءك فتحلل منه قال فانطلق وقد لبس المسوح حتّى جلس عند قبر أوريا ثم ناداه فقال لبّيك من هذا الّذى قطع عنّى لذّتى وأيقظني قال انا داؤد قال ما جاء بك يا نبى الله قال أسئلك ان تجعلنى فى حلّ ممّا كان منّى إليك قال وما كان منك الىّ قال عرضتك للقتل قال قد عرضتنى للجنة فانت فى حل فاوحى الله الى داود يا داود الم تعلم انى حكم عدل لا أقضي بالتعنت الا أعلمته انّك قد تزوّجت امرأته قال فرجع اليه فناداه فاجابه فقال من هذا الذي قطع عنى لذّتى قال انا داود قال يا نبى الله أليس قد عفوت عنك قال نعم ولكن انما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها قال فسكت ولم يجبه ودعاه فلم يجبه عاوده فلم يجبه فقام عن قبره وجعل يحثو التراب على رأسه ثم نادى الويل لداود ثم الويل لداود ثم الويل الطويل لداود سبحان خالق النور والويل لداود إذا نصب الموازين بالقسط سبحان خالق النور الويل لداود ثم الويل الطويل لداود حين يؤخذ بذقنه فيدفع الى المظلوم سبحان خالق النور الويل لداؤد ثم الويل الطويل لداؤد حين يسحب على وجهه مع الخاطئين الى النار سبحان خالق النّور- فاتاه نداء من السّماء يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت على بكائك واستجبت دعائك وأقلت عثرتك قال يا رب كيف وصاحبى لم يعف عنّى قال يا داؤد أعطيه من الثواب يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم يسمع أذناه فاقول له رضيت عن عبدى داود فيقول يا رب من اين لى هذا ولم يبلغه عملى فاقول هذا عوض عن عبدى داود فاستوهبك منه فيهبك لى قال يا ربّ الان قد عرفت انّك قد غفرت لى فذلك قوله عزّ وجلّ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ لذنبه وَخَرَّ راكِعاً اى ساجدا على تسمية السجود ركوعا لانه مبدؤه وقيل معناه خرّ اى سجد بعد ما كان راكعا كانه احرم بركعتى الاستغفار فسجد فى الصّلوة وَأَنابَ (٢٤) اى رجع الى الله بالتوبة-
167
واستدلت الحنفية لهذه الاية على انه من قرأ اية السجدة وركع على الفور بنية سجود التلاوة أجزأه لان الله سبحانه قال خرّ راكعا اطلق الركوع على السجود فعلم منه ان المقصود هو التعظيم لا خصوصية السجود ومعنى التعظم فيهما واحد والحاجة الى تعظيم الله تعالى اما اقتداء بمن عظّم او مخالفة لمن استكبر وهذا هو الظاهر فلهذا سمى قياسا- وقالت الائمة الثلاثة لعدم اجزاء الركوع عن السجود وهو الاستحسان وجه الاستحسان ان الواجب التعظيم بجهة مخصوصة وهى السجود بدليل انه لو لم يركع على الفور حتى طاعت القراءة ثم نوى ان يقع الركوع عن السجدة لا يجوز اجماعا وتسمية السجود بالركوع فى هذه الاية غير مسلم ولو سلم فهو مجاز محض وذلك لا يقتضى قيام أحدهما مقام الاخر- واختار ابو حنيفة رحمه الله هاهنا القياس على الاستحسان لقوة تأثيره وذلك باعتضاده بما روى عن ابن مسعود وابن عمر انهما كانا أجازا ان يركع عن السجود فى الصلاة ولم يرو من غيرهما خلاف ذلك ولا ترجيح للقياس الخفي بخفائه ولا للظاهر بظهوره بل يرجع فى الترجيح الى ما اقترن بهما من المعاني وقوة القياس الظاهر المتبادر بالنسبة الى الخفي المعارض له فى غاية العلة فلذا حصروا مواضع تقديم القياس على الاستحسان فى بضع عشر موضعا يعرف فى الأصول هذا أحدها ولا حصر لمقابله- (مسئلة) ولو ركع على فور تلاوة اية السجدة ولم ينو للتلاوة ثم سجد سقط سجدة التلاوة بالسجدة الصلاتية نوى او لم ينو وكذا لو قرأ بعد اية السجدة اية او ايتين عند ابى حنيفة
رحمه الله خلافا للجمهور وفى ثلاث آيات اختلفت الرواية عن ابى حنيفة وفيما زاد على الثلاث لا ينوبه ركوع ولا سجدة صلاتية سواء نوى او لم ينو- (مسئلة) ويجب عليه قضاء سجدة التلاوة ما دام فى الصلاة عند ابى حنيفة رحمه الله كذا قال جمهور الحنفية وظن محمد بن سلمة ان قيام السجدة الصلبية مقام سجدة التلاوة قياس وفى الاستحسان لا يجوز لان السجدة الصلاتية قائم مقام نفسها بأ فلا يقوم مقام غيرها كصوم يوم من رمضان لا يجوز ان يقوم عن نفسه وعن قضاء يوم اخر
168
فالقياس فيه مقدم على الاستحسان واما قيام الركوع مقام سجدة التلاوة فالقياس يأبى عنه وهو الظاهر وفى الاستحسان يجوز وهو الخفي فهو من باب تقديم الاستحسان على القياس- (مسئلة) يجب السجود على من تلا هذه الاية من ص عند ابى حنيفة رحمه الله وعند مالك سنة كقوله فى مطلق سجود التلاوة وكذا عند احمد فى احدى الروايتين وقال الشافعي واحمد فى الرواية المشهور عنه انها سجدة شكر يستحب فى غير الصلاة ولا يجوز فى الصلاة احتج ابن الجوزي على انها ليست من عزائم السجود بحديث ابن عباس قال رايت رسول الله ﷺ يسجد فى ص قال ابن عباس وليست من عزائم السجود- رواه ابن الجوزي من طريق الترمذي وقال قال الترمذي هذا حديث صحيح قلت ورواه البخاري فى الصحيح عن ابن عباس قال سجدة ص ليس من عزائم السجود وقد رايت النبي ﷺ يسجد فيها وفى رواية قال مجاهد قلت لابن عباس أاسجد فى ص فقرأ ومن ذرّيّته داود وسليمان حتى اتى على قوله فبهديهم اقتده فقال نبيكم ممن امر ان يقتدى بهم وهذا يقتضى الوجوب فهو حجة لنا لا علينا وقول ابن عباس ليست من عزائم السجود موقوف يعارضه قوله نبيكم ﷺ أمران يقتدى بهم والمرفوع فعله ﷺ واحتج ابن الجوزي ايضا بحديث ابى سعيد الخدري قال خطبنا رسول الله ﷺ يوما قرأ ص فلمّا مرّ بالسجود نزل فسجد وسجدنا معه وقرأها اخرى فلما بلغ السجدة نشرنا للسجود فلما رأنا قال انما هى سجدة توبة نبى ولكنى أراكم قد استعددتم للسجود فنزل فسجد وسجدنا- رواه ابن الجوزي من طريق الدار قطنى وهذا ايضا ممّا لا حجة علينا فيه غاية ما فى الباب ان يكون فيه دلالة على عدم وجوب سجود التلاوة مطلقا كما قال به الجمهور وهو المختار عندى للفتوى وبه قال الطحاوي من الحنفية خلافا لابى حنيفة رحمه الله ولنا ايضا حديث ابى هريرة ان النبي ﷺ سجد فى ص- رواه ابن الجوزي من طريق الدار قطنى وحديث ابى سعيد ان رسول الله سجد فى ص- رواه الطحاوي وابو داود والحاكم و
169
ذكر البيهقي عن جماعة من الصحابة انهم سجدوا فى ص عن السائب بن يزيد قال صليت خلف عمر الفجر فقرأ بنا سورة ص فسجد فيها فلمّا قضى الصلاة قال له رجل يا امير المؤمنين من عزائم السجود هذه فقال كان رسول الله ﷺ يسجد فيها- وعن ابى مريم قال لمّا قدم عمر الشام اتى محراب داود فصلى فيه فقرأ سورة ص فلمّا انتهى الى السجدة سجد وحديث ابن عباس ان النبي ﷺ سجد فى ص وقال سجدها داود توبة ونسجدها شكرا- رواه النسائي من حديث حجاج بن محمد عن عمر بن ذر موصولا ورواه الدار قطنى ورواه الشافعي فى الام عن ابن عيينة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي ﷺ وروى من وجه اخر من حديث عبد الله بن بزيع عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ﷺ وأعله بابن بزيع قال قال ابن عدى ليس ممن يحتج به وصححه ابن السكن كذا قال ابن حجر قال ابن همام غاية ما فيه انه ﷺ بين السبب فى حق داود والسبب فى حقنا كون الشكر سببا لا ينافى الوجوب فان الفرائض والواجبات انما وجبت شكرا لتوالى النعم وفى مسند ابى حنيفة روى ابو حنيفة عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري عن ابى موسى
ان النبي ﷺ سجد فى ص- واخرج احمد عن بكر بن عبد الله المزني عن ابى سعيد رضى الله عنه قال رايت رويا وانا اكتب سورة ص فلمّا بلغت السجدة رايت الدوات والقلم وكل شىء يحضرنى انقلب ساجدا قال فقصصتها على رسول الله ﷺ فلم يسجدها قال ابن همام فافادان الأمر صار الى المواظبة عليها كغيرها من غير ترك واستقر عليه بعد ان كان قد لا يعزم عليها فظهر ان ما رواه ان تمت دلالته كان قبل هذه القصة- (فصل) عن ابن عباس قال جاء رجل الى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله رايتنى الليلة وانا نائم كانى أصلي خلف شجرة فسجدتّ فسجدت الشجرة بسجودى فسمعتها تقول اللهم اكتب لى بها عندك اجرا وضع عنى بها وزرا واجعلها لى عندك زخرا وتقبلها منى كما تقبلتها من عبدك داود قال ابن عباس فسمعت رسول الله ﷺ قرأ سجدة
170
ثم سجد فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة- رواه الترمذي (وقال هذا حديث غريب) وابن حبان والحاكم وكذا روى ابن ماجة الا انه لم يذكر وتقبلها منى كما تقبلت من عبدك داود.
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ اى ما استغفر عنه وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا بعد المغفرة لَزُلْفى اى قربا غير متكيف ومكانة حصلت بكمال الندم والاستغفار بحيث لولا تلك الزلة لما حصلت وقيل معناه وانّ له زلفى اى زيادة خير فى الدنيا ومكانة وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) حسن مرجع ومنقلب فى الاخرة- قلت والظاهر ان من روى ان داود عليه السلام بعث مرة بعد مرة أوريا الى المغازي وأراد منه ان يقتل ليتزوج بعده زوجته فهو كذب مفترى حاشاه عن ذلك وعامة ما يدل عليه لفظ القران انه عليه السلام ودّ ان يكون له ما لغيره وكان له تسعا وتسعين من أمثاله فنبهه الله بهذه القضية فاستغفروا ناب عنه قال صاحب المدارك روى ان اهل زمان داود عليه السلام كان يسئل بعضهم بعضا ان ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته وكان لهم عادة فى المواساة بذلك كما كان الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك فاتفق ان عين داود عليه السلام وقعت على امراة أوريا فاحبها فساله النزول له عنها واستحيى أوريا ان يرد قوله ففعل فتزوجها- قلت ولم يفعل داود عليه السلام مثل ما فعل نبينا ﷺ حين أعجبته زينب حيث قال لزيد امسك عليك زوجك واتّق الله فزوجها الله إياه ولاجل ذلك عاتب الله داود عليه السلام فاستغفر ربّه وأناب ولفظ القران يؤيد هذه الرواية حيث ادعى المدعى بقوله قال أكفلنيها وعزّنى فى الخطاب ولم يقل أراد قتلى وحكم داود بانه قد ظلمك بسؤال لعجتك الى نعاجه والله اعلم- قال البغوي قال وهب بن منبه ان داود لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة ولا يرتى ادمعه ليلا ولا نهارا وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة فقسم الدهر بعد الخطيئة على اربعة ايام يوم للقضاء بين بنى إسرائيل ويوم لنسائه ويوم يسبح فى الفيافي والجبال ويوم يخلو فى داره فيها اربعة آلاف محراب فيجتمع اليه الرهبان فينوح
171
معهم على نفسه فيساعدونه على ذلك فاذا كان يوم سياحتهم يخرج فى الفيافي ويرفع صوته بالمزامير فيبكى ويبكى معه الجبال والحجارة والدواب والطير حتى يسيل اودية من بكائهم ثم يجئ الى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكى او يبكى معه الحيتان ودواب البحر وطير الماء والسباع فاذا امسى رجع فاذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه ان اليوم نوح داود على نفسه فليحضر من يساعده فيدخل الدار التي فيها المحاريب فبسط ثلاث فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها ويجئ اربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفى أيديهم العصا فيجلسون فى تلك المحاريب ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه ويرفع الرهبان معه أصواتهم فلا يزال يبكى حتى يغرق الفرش من دموعه ويقع داود فيها مثل الفرخ ويضطرب فيجئ ابنه سليمان عليهما السلام فيحمله فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ثم يمسح وجهه ويقول يا رب اغفر لى ما ترى فلو عدل بكاء داود ببكاء اهل الدنيا لعدله قال وهب ما رفع داود رأسه حتى قال له ملك أول أمرك ذنب وآخره مغفرة ارفع رأسك فرفع رأسه فمكث حياته لا يشرب ماء الا مزجه بدموعه ولا يأكل الطعام إلا بله بدموعه وذكر الأوزاعي مرفوعا الى رسول الله ﷺ ان مثل عينى داود كالقربتين تنفطان ماء ولقد خدت الدموع فى وجهه كخديد الماء فى الأرض- قال وهب لمّا تاب الله على داود قال يا رب غفرت لى فكيف لى ان لا انسى خطيئتى فاستغفر منها وللخاطئين الى يوم القيامة قال فرسم الله خطيئته فى يده اليمنى فما رفع فيها طعاما ولا شرابا الا بكى إذا راها وما كان خطيبا للناس الا بسط راحته فاستقبل الناس ليروا رسم خطيئته وكان يبدئ إذا دعا فاستغفر للخاطئين قبل نفسه- وقال قتادة عن الحسن كان داود بعد الخطيئته لا يجالس الا الخاطئين يقول تعالوا الى داود الخاطئ ولا يشرب شرابا الا مزجه بدموع عينيه وكان يجعل خبز الشعير اليابس فى قطعة فلا يزال يبكى حتى يبل بدموع عينيه وكان يذر عليه الملح والرماد فياكل ويقول هذا أكل الخاطئين- قال وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر فلمّا كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله وقام الليل كله وقال
172
ثابت كان داود إذا ذكر
عقاب الله تخلعت أوصاله فلا يشدها الا الاسر وإذا ذكر رحمة الله تراجعت- وفى القصة ان الوحوش والطير كانت تستمع الى قراءته فلمّا فعل ما فعل كانت لا تصغى الى قراءته فروى انها قالت يا داود ذهبت خطيئتك بحلاوة صوتك-.
يا داوُدُ تقديره وقلنا يا داود معطوف على قوله فغفرنا له ذلك إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ استخلفناك على الملك او جعلناك خليفة «١» ممن قبلك من الأنبياء العالمين بالحق فَاحْكُمْ الفاء للسببية بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ اى بحكم الله وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى عطف على فاحكم اى لا تتبع ما يهويه نفسك فَيُضِلَّكَ منصوب فى جواب النهى عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اى عن دلائله التي نصبها الله على الحق فيه دليل على انه من اتبع هواه اختل رايه وضل فى اجتهاده كما ترى فى اثنين وسبعين فرقة ممن يدعى الإسلام إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) اى بسبب نسيانهم يوم الحساب فان تذكر ذلك اليوم يقتضى ملازمته ومخالفة الهوى والجملة مستأنفة-.
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا لا حكمة فيه او ذوى باطل يعنى مبطلين عابثين او للباطل الذي هو متابعة الهوى بل للحق الذي هو الاستدلال على وجود الصانع وشكر نعمته بامتثال أوامره وانتهاء مناهيه جملة معترضة وكذلك قوله ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا حيث ينكرون البعث وينكرون ثواب المطيع لمن خلق وعذاب
(١) عن عمر بن الخطاب انه سال طلحة والزبير وكعبا وسلمان ما الخليفة من الملك فقال طلحة والزبير ما ندرى فقال سلمان الخليفة الذي يعدل فى الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على اهله ويقضى بكتاب الله فقال كعب ما كنت احسب ان فى المجلس أحدا يعرف الخليفة من الملك غيرى. وعن سلمان ان عمر قال له انا ملك او خليفة فقال سلمان ان أنت جئت من ارض المسلمين درهما او أقلّ او اكثر ثم وضعته فى غير حقه فانت ملك غير خليفة فاستعبر عمر- وعن سليمان بن ابى العوجاء قال قال عمر بن الخطاب ما أدرى اخليفة انا أم ملك قال قائل يا امير المؤمنين ان بينهما فرقا قال ما هو قال الخليفة لا يأخذ الا حقا ولا يضعه الا فى حق وأنت بحمد الله كذلك والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطى هذا فسكت عمر- وعن معاوية انه كان يقول إذا جلس المنبر يا ايها الناس ان الخلافة ليست بجمع المال ولا بتفريقه ولكن الخلافة العمل بالحق والحكم بالعدل وأخذ الناس بامر الله منه رحمه الله
العاصي وذلك يقتضى كون خلقها عبثا لا حكمة فيه فَوَيْلٌ التنكير للتعظيم والفاء للسببية لِلَّذِينَ كَفَرُوا وضع المظهر موضع الضمير للذم والتقبيح مِنَ النَّارِ (٢٧) من السببية.
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أم منقطعة بمعنى بل والهمزة لانكار التسوية بين الفريقين التي هى من لوازم خلقها باطلا ليدل على نفيه وبل للاضراب عما سبق من ظن بطلان خلق السماوات والأرض وكذا التي فى قوله أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) أنكر اولا التسوية بين المؤمنين والكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين والمجرمين منهم ويجوز ان يكون تكريرا للانكار الاول باعتبار الوصفين الأخيرين المانعين التسوية من الحكيم وهذه الاية برهان عقلى تدل على وجوب القول بالحشر إذ لا تفاضل بينهما فى الدنيا غالبا بل الغالب فيها عكس ما يقتضيه الحكمة فلا بد ان يكون لهم محل اخر يجازون فيها وقال مقاتل قال كفار قريش انا نعطى فى الاخرة من الخير ما تعطون فنزلت هذه الاية.
كِتابٌ اى هذا القران كتاب من الله أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ كثير خير ونفعة لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ اى ليتفكروا فيها يعنى تتفكر أنت وعلماء أمتك فيعرفوا ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني المستنبطة او يتفكر كل من له عقل فيعلم انه من الله ولا يتصور إتيانه من البشر قال الحسن تدبر آياته اتباعها وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) اى ليتعظ به ذوى العقول السليمة او يستحضروا ما هو المركوز فى عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل فان الكتب الالهية بيان لما لا يعرف الا من الشرع وارشاد الى ما لا يستقل به العقل ولعل التدبر للمعلوم الاول والتذكر للثانى..
وَوَهَبْنا عطف على قوله فغفرنا له وما بينهما معترضات لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ سليمان إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) تعليل للمدح لانه رجاع الى الله تعالى بالتوبة او الى التسبيح مرجع له.
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ ظرف لاوّاب او لنعم والضمير لسليمان بِالْعَشِيِّ اى فى العشى يعنى بعد الظهر الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) الصافن من الخيل
الذي يقوم على ثلاثة قوائم وطرف حافر الرابع وهى من الصفات المحمودة فى الخيل والجياد جمع جواد او جود وهو الذي يسرع فى جريه وقيل جمع جيد قال ابن عباس يريد الخيل السوابق قيل وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية اعنى إذا وقف كانت ساكنة مطمئنة فى مواقفها وإذا سارت كانت خفافا سراعا قال الكلبي غزا سليمان اهل دمشق ونصيبين وأصاب منهم الف فرس وقال مقاتل ورث سليمان من أبيه داود الف فرس ويرد هذا القول ما قال رسول الله ﷺ نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة- اخرج عبد بن حميد والفريابي وابن جرير وابن ابى حاتم عن ابراهيم التيمي قال كانت عشرين الف فرس ذات اجنحة فعقرها واخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عوف عن الحسن قال بلغني ان الخيل التي عقر سليمان كانت خيلا ذوات اجنحة أخرجت له من البحر لم يكن لاحد قبله ولا بعده- وذكر البغوي عن عكرمة قال كانت عشرين الف فرس لها اجنحة وقالوا فصلى سليمان صلوة الظهر وقعد على كرسيه وهى تعرض عليه فعرضت عليه تسع مائة فتنبه لصلوة العصر فاذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم لذلك..
فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ عطف على جمل محذوفة تقديره إذ عرض عليه بالعشيّ الصّافنات الجياد فاشتغل بها حتى فاته العصر فقال انّى أحببت حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي اى اثرت حب الخير اى المال الكثير والمراد به الخيل التي شغله او اطلق الخير على الخيل لان العرب تعاقب بين اللام والراء فيقول ختلت الرجل وخترته اى خدعته وقيل سميت الخيل خيرا لانه معقود فى نواصيها الخير قال رسول الله ﷺ الخيل معقود فى نواصيها الخير الى يوم القيامة الاجر والمغنم- روى هذا الحديث فى الصحيحين وغيرهما عن عدة من الصحابة وكان الأصل ان يعدى أحببت بمعنى اثرت بعلى لكن لمّا أنيب مناب أنبت عدى بعن وقيل أحببت بمعنى تقاعدت وحبّ الخير منصوب على العلية والمعنى تقاعدت لحب الخير فى القاموس أحب البقر برك فلم يثر حَتَّى تَوارَتْ اى الشمس أضمرت من غير ذكرها لدلالة العشىّ عليها بِالْحِجابِ (٣٢)
اى غربت واستترت بما يحجبها عن الابصار قال البغوي يقال الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة والشمس تغرب من ورائه.
رُدُّوها عَلَيَّ بتقدير القول عطف على قال انّى أحببت وقال ردّوها اى الصافنات علىّ فردوها عليه فَطَفِقَ اى أخذ عطف على قال ردّوها علىّ مَسْحاً اى يمسح السيف مسحا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) اى بسوقها وأعناقها يعنى قطعها من قولهم مسح علاوته إذا ضرب عنقه هذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل واكثر المفسرين اخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال عقرها بالسيف واخرج الطبراني فى الأوسط والإسماعيلي فى معجمه وابن مردوية بسند حسن عن ابى بن كعب عن النبي ﷺ قال قطع سوقها وأعناقها بالسيف وكان ذلك بإذن الله تعالى توبة عما غفل من ذكره وتقربا اليه وطلبا لمرضاته. قال الحسن فلمّا عقر الخيل أبدله الله خيرا منها واسرع وهى الريح تجرى بامره وقال بعض المفسرين انه ذبحها وتصدق بلحومها وكان لحوم الخيل حلالا كما هو فى شريعتنا عند الجمهور خلافا لابى حنيفة فانه قال يكره- وقال قوم معناه انه حبسها فى سبيل الله وكوى سوقها وأعناقها بكى الصدقة وقال البغوي حكى عن على كرم الله وجهه فى قوله ردّوها علىّ يقول سليمان بامر الله تعالى للملائكة المؤكلين بالشمس ردّوها اى الشمس علىّ فردوها عليه حتى صل العصر فى وقتها وذلك انه كان يعرض عليه الخيل للجهاد فى سبيل الله حتّى توارت بالحجاب وقال الزهري وابن كيسان يمسح سوقها وأعناقها بيده يكشف الغبار عنها حبّا لها وشفقة عليها قال البغوي هذا قول ضعيف والمشهور هو الاول قلت ويأبى عن هذا القول ما قال سليمان تأسفا انّى أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّى حتّى توارت بالحجاب..
وَلَقَدْ فَتَنَّا اى اختبرنا وابتلينا سُلَيْمانَ جواب قسم محذوف عطف على وهبنا وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ انه قال لاطرفن الليلة على تسع وتسعين امراة وفى رواية بمائة امراة كلهن يأتى بفارس يجاهد فى سبيل الله فقال له الملك قل ان شاء الله فلم يقل ونسى فطاف عليهن فلم تحمل منهن الا امراة واحدة جاءت يشق رجل وايم الذي نفس محمد بيده
176
لو قال ان شاء الله لجاهدوا فى سبيل الله فرسانا أجمعون. متفق عليه قيل فجاءت القابلة بذلك الشق فالقت على كرسيه فذلك قوله تعالى ولقد فتنّا سليمان وألقينا على كرسيّه جسدا ثُمَّ أَنابَ (٣٤) اى رجع عن ترك الاستثناء فى المستقبل كذا قال طاؤس وهذا التأويل اولى الأقاويل لقوة حديث الصحيحين والقول بتنزيه الأنبياء عن السوء ولان الجسد جسم لا روح فيه فيصدق على هذا التأويل بلا تمحل- واخرج الطبراني فى الأوسط وابن مردوية بسند ضعيف عن ابى هريرة انه قال ولد لسليمان ابن فقالت الشياطين ان عاش لم ننفك من السخرة فسبيلنا ان نقتله او نخبله فعلم ذلك سليمان فكان يقدوه فى السحاب خوفا من غرة الشياطين فما شعر به الا ان القى على كرسيه ميتا فتنة على زلته فى ان لم يتوكل فيه على ربه.
وقال البغوي ذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه قال سمع سليمان عليه السلام بمدينة فى جزيرة البحر يقال لها صيدون بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس اليه سبيل لمكانه فى البحر وكان الله قد اتى سليمان فى ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شىء فى بر ولا بحر انما يركب اليه الريح فخرج الى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والانس فقتل ملكها واستفاء ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها جرادة لم يروا مثلها حسنا وجمالا واصطفاها لنفسه ودعاها الى الإسلام فاسلمت على جفاء منها وأحبها حبّا شديدا لم يحب شيئا من نسائه وكانت على منزلتها عنده ولا تذهب حزنها ولا يرقى دمعها فشق ذلك على سليمان فقال لها ويحك ما هذا الحزن الذي لا تذهب والدمع الذي لا يرقى قالت ان ابى اذكره واذكر ملكه وما كان فيه وما أصاب به فيحزننى ذلك قال سليمان فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه وسلطانا هو أعظم من سلطانه وهداك الإسلام وهو خير من ذلك كله قالت ذلك كذلك ولكنى إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته فى دار التي انا فيها وأراها بكرة وعشية لرجوت ان يذهب ذلك حزنى وان يسلّى عنى بعض ما أجد فى نفسى فامر سليمان الشياطين فقال مثلو لها
177
صورة أبيها فى دارها حتى لا ينكر منها شيئا فماثلوه لها حتى نظرت الى أبيها بعينه الا انه لا روح فيه فعمدت اليه حين صنعوه فاردّته وقمّصته وعمّمته بمثل ثيابه التي كان يلبسها- ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه فى ولائدها حتى تسجد له ويسجدن له كما كانت تصنع فى ملكه وتروح عشية بمثل ذلك- وسليمان لا يعلم بشئ من ذلك أربعين صباحا فبلغ ذلك اصف بن برخياء وكان صديقا وكان لا يرد عن أبواب سليمان اى ساعة أراد دخول شىء من بيوته دخل حاضرا كان سليمان او غائبا فاتاه فقال يا نبى الله كبر سنى ورق عظمى ونفد عمرى وقد حان منى الذهاب فقد أحببت ان أقوم مقاما قبل الموت اذكر فيه من مضى من أنبياء الله واثنى عليهم بعلمي فيهم واعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم فقال افعل.
فجمع له سليمان الناس فقام فيهم خطيبا فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى واثنى على كل نبى بما فيه فذكر ما فضله الله حتى انتهى الى سليمان فقال ما أحلمك فى صغرك واورعك فى صغرك وأفضلك فى صغرك واحكم أمرك فى صغرك وأبعدك عن كل ما تكره فى صغرك ثم انصرف فوجد سليمان فى نفسه من ذلك شيئا حتى ملاه غضبا فلما دخل سليمان داره أرسل اليه فقال يا اصف ذكرت من مضى من أنبياء الله فاثنيت عليهم خيرا فى كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم فلما ذكرتنى جعلت تثنى علىّ الخير فى صغرى وسكتّ عما سوى ذلك من امرى فى كبرى فما الذي أحدثت فى اخر امرى فقال ان غير الله ليعبد فى دارك منذ أربعين صباحا فى هوى امراة فقال فى دارى فقال فى دارك فقال انّا لله وانّا اليه راجعون لقد عرفت انك ما قلت الذي قلت الا عن شىء بلغك ثم رجع سليمان الى داره وكسر ذلك الصنم وعاقب تلك المرأة ولايدها ثم امر شاب الطهارة فأتى بثياب لا يغزلها الا الابكار ولا ينسجها الا الابكار ولا تغسلها الا الابكار ولم تمسها امرأة قد رأت الدم ثم لبسها ثم خرج الى فلاة من الأرض وحده فامر برماد ففرش له ثم اقبل تائبا الى الله حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذلّلا لله وتضرعا اليه يبكى ويدعو ويستغفر مما كان هو فى داره فلم يزل كذلك حتى امسى ثم رجع الى داره-
178
وكانت له أم ولد يقال لها الامينة كان إذا دخل مذهبه او أراد إصابة امراة من نسائه ومنع خاتمه عندها حتى يتطهر وكان لا يمس خاتمه الا وهو طاهر وكان ملكه فى خاتمه فوضعه يوما عندها ثم دخل مذهبه- فاتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة سليمان لا تنكر منه شيئا فقال خاتمى يا امينة فناولته إياه فجعله فى يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان وعكفت عليه الطير والجن والانس- وخرج سليمان فاتى الامينة وقد غيرت حاله وهيئته عند كل من راه فقال يا امينة خاتمى فقالت من أنت فقال أنا سليمان بن داود قالت كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه فعرف سليمان ان خطيئته قد أدركته فجعل يقف على الدور من دور بنى إسرائيل فيقول انا سليمان بن داود فيحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون انظروا الى هذا المجنون اىّ شىء يقول يزعم انه سليمان فلمّا راى سليمان ذلك عمد الى البحر فكان ينقل الحيتان لاصحاب البحر الى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين فاذا امسى باع سمكة بارغفة وشوى الاخرى فمكث على ذلك أربعين صباحا عدة ما كان عبد الوثن فى داره- فانكر اصف وعلماء بنى إسرائيل حكم عدو الله الشيطان فى تلك الأربعين فقال اصف يا معشر بنى إسرائيل هل رايتم من اختلاف حكم ابن داود ما رايت قالوا نعم قال أمهلوني حتى ادخل على نسائه فاسئلهن هل انكرتن منه فى خاصة امره ما أنكرنا فى عامة امر الناس وعلانيته فدخل على نسائه فقال ويحكن هل انكرتن من ابن داود ما أنكرنا فقلن أشده ما يدع منا امراة فى دمها ولا يغتسل من الجنابة فقال انّا لله وانّا اليه راجعون انّ هذا لهو البلاء المبين ثم خرج على بنى إسرائيل فقال ما فى الخاصة أعظم ممّا فى العامة- فلمّا مضى أربعون صباحا طار الشيطان من مجلسه ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فاخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك حتى إذا كان العشى أعطاه سمكتيه وأعطاه السمكة التي أخذت الخاتم وخرج سليمان بسمكتيه فباع التي ليس فى بطنها الخاتم بالارغفة ثم عمد الى السمكة الاخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه فى جوفها فاخذه فجعله فى يده ووقع ساجدا وعكفت عليه الطير والجنّ واقبل عليه الانس وعرف ان الذي كان قد دخل عليه لما كان أحدث فى داره فرجع
179
ملكه واظهر التوبة من ذنبه وامر الشياطين فقال أتوني بصخر فطلبته الشياطين حتى أخذته فاتى به فحاب له صخرة «اى قطع وكل شىء قطع وسطه فهو محوب نهاية منه ره» فادخله فيها ثم شد عليه اخرى ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم امر به فقذف فى البحر هذا حديث وهب- وقال السدى كان سبب قصة سليمان انه كان له
مائة امراة وكانت امراة منهن يقال لها جرادة هى اثر نسائه وامنهن عنده وكان يأتمنها على خاتمه إذا اتى حاجته فقالت له يوما ان أخي بينه وبين فلان خصومة وانا أحب ان تقضى له إذا جاءك فقال نعم ولم يفعل فابتلى بقوله فاعطاها خاتمه ودخل المخرج فجاء الشيطان فى صورته فاخذه وجلس على مجلس سليمان وخرج سليمان فسالها خاتمه فقالت الم تأخذه قال لا وخرج مكانه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما فانكر الناس حكمه فاجتمع قراء بنى إسرائيل وعلماؤهم حتى دخلوا على نسائه فقالوا انا أنكرنا هذا فان كان سليمان فقد ذهب عقله فبكى النساء عند ذلك فاقبلوا حتى أحد قوابه ونشروا التورية فقرؤها فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب الى البحر فوقع الخاتم منه فى البحر فابتعله حوت واقبل سليمان حتى انتهى الى صياد من صياد البحر وهو جائع قد اشتد جوعه فاستطعمه من صيده وقال انى انا سليمان فقام اليه بعضهم فضربه بعصا فشجه فجعل يغسل دمه على شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فاعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم فشق بطنهما وجعل يغسلهما فوجد خاتمه فى بطن إحداهما فلبسه فرد الله عليه ملكه وبهاءه وحامت عليه الطير فعرف القوم انه سليمان فقاموا يعتذرون مما صنعوا فقال ما أؤاخذكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم هذا امر كان لا بد منه ثم جاء حتى اتى ملكه وامر حتى اتى بالشيطان الذي أخذ خاتمه، وجعله فى صندوق من حديد ثم أطبق عليه واقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه وامر به فالقى فى البحر وهو حيى كذلك حتى الساعة- وروى عن سعيد بن المسيب قال احتجب سليمان عن الناس ثلاثة ايام فاوحى الله اليه احتجبت عن الناس ثلاثة ايام فلم تنظر فى امور عبادى فابتلاه الله عزّ وجلّ وذكر حديث
180
الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما ذكرنا- وقال الحسن ما كان الله ليسلط الشيطان على نسائه انتهى كلام البغوي.
واخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وابن جرير عن السدى والنسائي وابن مردوية عن ابن عباس فذكروا القصة نحو حديث وهب بن منبه لكن فى بعض الطرق ان صخر الجنى لما جلس على سرير سليمان نفذ حكمه فى كل شىء الا فيه وفى نسائه وكذا قال الحسن فيما ذكر البغوي انه ما كان الله ليسلط الشيطان على نسائه- وقال بعض المفسرين حديث الخاتم والشيطان والوثن فى بيت سليمان من أباطيل اليهود لعنهم الله وقال البغوي ان فى بعض الروايات ان سليمان لمّا افتتن سقط الخاتم من يده وكان فيه لملكه فاعاده سليمان الى يده فسقط فايقن سليمان بالفتنة فاتى اصف وقال لسليمان انك لمفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك فى يدك اربعة عشر يوما ففر سليمان الى سربه وأخذ اصف الخاتم فوضعه فى إصبعه فثبت فهو الجسد الذي قال الله تعالى وألقينا على كرسيّه جسدا فاقام اصف فى ملكه على سيرته اربعة عشر يوما الى ان رد الله على سليمان ملكه فجلس على كرسيه فاعاد الخاتم فى يده فثبت قلت والدليل على بطلان رواية وهب ان فى تلك الرواية انه غزا جزيرة يقال لها صيدون بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس اليه سبيل لمكانه فى البحر فخرج سليمان الى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده- والقران ينطق ان تسخير الريح لسليمان انما كان بعد تلك الفتنة والانابة حيث قال الله تعالى فسخّرنا له الرّيح يعنى بعد الفتنة والانابة وقوله ربّ هب لى ملكا الى آخره- قلت وعلى تقدير صحة تلك القصة لا يلزم سليمان صدور معصية فان اتخاذ التماثيل كان جائزا وسجود الصورة بغير علمه لا يضره-.
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي بيان للانابة قدم الاستغفار على استيهاب الملك جريا على عادة الأنبياء والصالحين بتقديم الاستغفار على السؤال قرأ نافع وابو عمر «وابو جعفر- ابو محمد» من بعدي بفتح الياء والباقون بإسكانها- فى سياق هذا الكلام دلالة على ان فتنة سليمان انما كان ابتلاء من الله تعالى إياه لرفع درجاته فى الدنيا والاخرة كفتنة أيوب
181
عليه السلام ولم يكن فيها زلّة ومعصية من سليمان عليه السلام والا لبالغ فى الندم والاستغفار ولم يسئل غير المغفرة والتوبة ولقال الله سبحانه فغفرنا له ذلك كما قال فى قصة داود عليه السلام قال مقاتل وابن كيسان اى لا يكون من بعدي لاحد وقيل معنى من بعدي من سوائى كما فى قوله تعالى فمن يهديه من بعد الله وقال عطاء بن ابى رباح يريد هب لى ملكا لا تسلبنه فى اخر عمرى وتعطيه غيرى كما سلبته آنفا قيل سال سليمان ذلك ليكون اية لنبوته ومعجزة له قال مقاتل كان سليمان ملكا ولكنه أراد بقوله لا ينبغى لاحد من بعدي تسخير الرياح والطير والشياطين بدليل ما بعده عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ ان عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علىّ صلاتى فامكننى الله منه فاخذته فاردت ان اربطه على سارية من سوارى المسجد حتى ينظر له كلكم فذكرت دعوة أخي.
سليمان ربّ هب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدي فرددته خاسئا. متفق عليه قلت ويمكن انه أراد به لا ينبغى لاحد من بعدي فى المرتبة قال ذلك شفقة على الناس يعنى من كان مثلى فى انقطاع التعلقات عن الخلق واشتغال قلبه بحب الله ومعرفته لا يضره ولا يشغله عن الله شىء فكان له الدنيا وسيلة لكسب الحسنات ومن لم يكن كذلك كانت الدنيا له شاغلا عن الله فكانت له سمّا قاتلا- فان قيل الحديث يأبى عمّا قلت فان النبي ﷺ كان أعلى مرتبة من سليمان ولم يكن يعط ملكا مثله ولذلك لم يربط العفريت بالسارية قلنا نعم انه ﷺ كان أعلى مرتبة من سليمان ولكن لا نسلم انه لم يعط ملكا مثله لاجل دعائه بل الله سبحانه خيّره بين ان يكون نبيّا ملكا او يكون نبيا عبدا فاختار كونه نبيّا عبدا لكون الفقر أفضل عنده ودلّ هذا الحديث ايضا على ان الله تعالى مكنه على العفريت ان يربطه بالسارية لكنه ﷺ لم يربط باختياره حياء من سليمان عليه السلام وكان النبي ﷺ نافذا حكمه على الجن والانس
تأتى بدعوته الأشجار ساجدة تمشى اليه على ساق بلا قدم
لكن كان عيش الفقراء وزيّهم مرعوبا عنده- وكذا الخلفاء الراشدون جمعوا بين الخلافة والفقر وحازوا فضائل الفريقين صلى الله تعالى عليه وعلى خلفائه واله وأصحابه
182
أجمعين إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) المعطى ما تشاء لمن تشاء لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت..
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ قرأ أبو جعفر الرّياح على الجمع والباقون على الافراد بارادة الجنس والجملة معطوفة على جملة محذوفة تقديره فاستجبنا دعاءه فسخرنا له اى ذلّلنا لطاعته الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ الجملة صفة للريح على طريقة ولقد امر على اللئيم يسبنى او حال منه كقوله رُخاءً لينة لا تزعزع او لا تخالف إرادته حَيْثُ أَصابَ (٣٦) ظرف لتجرى يعنى حيث أراد يقول العرب أصاب الصواب فاخطا الجواب اى أراد الصواب.
وَالشَّياطِينَ اى وسخرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ يبنون الحصون والقصور وَغَوَّاصٍ (٣٧) يستخرجون له اللآلي من البحر وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر كلّ بدل من الشياطين.
وَآخَرِينَ عطف على كلّ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) مشددين فى القيود فصّل الشياطين الى عملة استعملهم فى الأعمال الشاقة كالبناء والغواص ومردة فرق بعضهم مع بعض فى السلاسل ليكفوا عن الشر قلت لعله لم يسلط على إبليس لما سبق له من الوعد بانّك من المنتظرين الى يوم الوقت المعلوم.
هذا عَطاؤُنا اى قلنا له هذا الذي أعطيناك من الملك والبسط والتسلط على ما لم يسلط عليه غيرك عطاؤنا فَامْنُنْ اى فاعط من شئت أَوْ أَمْسِكْ عمن شئت بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) حال من المستكن فى الأمر اى غير محاسب على منّه وإمساكه لتفويض التصرف فيه إليك قال الحسن ما أنعم الله على أحد نعمة الا عليه تبعة الا سليمان فانه ان اعطى اجر وان لم يعط لم يكن عليه تبعه وجاز ان يكون حالا من العطاء او صلة له وما بينهما اعتراض يعنى عطاء كثيرا لا يمكن احصاؤه وقال مقاتل هذا يعنى تسخير الشياطين عطاؤنا أعطيناكه فامنن يعنى خل منهم من شئت وامسك منهم فى وثاقك من شئت لا تبعة عليك فى إطلاقها ولا فى وثاقها.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى فى الاخرة مع ما له من الملك العظيم فى الدنيا وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وهو الجنة-.
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ عطف بيان لعبدنا والجملة عطف على واذكر عبدنا
داود إِذْ نادى رَبَّهُ بدل اشتمال من عبدنا أَنِّي مَسَّنِيَ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها وانّ مع جملته حكاية لكلامه الذي نادى به الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ قرأ ابو جعفر بضم النون والصاد ويعقوب بفتحهما والباقون بضم النون وسكون الصاد ومعنى الكل واحد اى بمشقة وضرّ وَعَذابٍ (٤١) اى والم قال مقاتل وقتادة بنصب فى الجسم وعذاب فى المال وقد ذكرنا قصة أيوب ومدة بلائه فى سورة الأنبياء عليهم السلام فلما انقضت مدة بلائه امره الله تعالى ان.
ارْكُضْ جملة مستأنفة بتقدير قلنا له اركض بِرِجْلِكَ اى اضرب برجلك الأرض هذا مُغْتَسَلٌ هذه الجملة مبنية على جملة محذوفة تقديره فركض فخرجت عين فقلنا له هذا مغتسل بارِدٌ اغتسل منه فذهب كل داء كان بظاهره وَشَرابٌ (٤٢) اشرب منه فذهب كل داء كان بباطنه وقيل نبعت عينان بركضتين حارة وباردة فاغتسل من إحداهما وشرب من الاخرى اخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد قال ركض برجله اليمنى فنبعت عين وضرب بيده اليمنى خلف ظهره فنبعت عين فشرب من إحداهما واغتسل من الاخرى.
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ عطف على مفهوم كلام سابق اى فشفيناه ووهبنا له اهله وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ عطف على اركض وعلى هذا وهبنا له الى آخره جملة معترضة او هى معطوفة على وهبنا بتقدير وقلنا له خذ بِيَدِكَ ضِغْثاً وهو ملأ الكف من الشجر والحشيش فَاضْرِبْ بِهِ امرأتك وَلا تَحْنَثْ فى يمينك وكان قد حلف ان يضربها مائة سوط فاخذ مائة عود من إذ خر او غيرها وضربها ضربة واحدة إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً فيما أصابه فى النفس والأهل والمال تعليل لما وهب ولا يخل شكواه الى الله تعالى من الشيطان فى كونه صابرا فانه لا يسمى جزعا كتمنى العافية وطلب الشفاء كما ذكرنا هناك ولشيخنا الشهيد رضى الله عنه هاهنا كلام رفيع وهو انه عليه السلام صبر على البلاء سنين على ما ذكر فى القصة ثم لمّا أراد الله سبحانه ان يكشف عنه الضرّ القى فى روعه ان الله سبحانه يريد منك التضرع والدعاء فى كشف البلاء واظهار عجزك وافتقارك الى جناب الكبرياء فاختار عليه السلام التضرع والدعاء على ما اقتضى طبعه من الصبر على البلاء ابتغاء لمرضاة
الله فارتقى من مقام الصبر الى معارج الرضاء فشكر الله سبحانه على صبره بقوله انّا وجدناه صابرا وعلى ارتقائه الى مقام الرضاء بقوله نعم العبد انّه اوّاب نِعْمَ الْعَبْدُ أيوب إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) اى مقبل بشراشره على الله تعالى-.
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ الثلاثة عطف بيان لعبادنا وقرا ابن كثير عبدنا بناء على وضع الجنس موضع الجمع او هو على معنى التوحيد وابراهيم عطف بيان له وإسحاق ويعقوب معطوفان عليه أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) اولى القوة فى الطاعة والبصيرة فى الدين والمعرفة بالله كذا قال ابن عباس وقتادة ومجاهد عبّر بالأيدي عن الأعمال فى الطاعة لان أكثرها بمباشرتها وبالأبصار عن المعارف لانها أقوى مباديها وفيه تعريض لبطلة الجهال فانهم كالزمنا والعماة.
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ اى جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة فيهم هى ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) فهو مرفوع او هو منصوب بتقدير اعنى او مجرور على البدل من خالصة اى تذكرهم للدار الاخرة دائما وتذكيرهم الناس كما هو داب الأنبياء وذلك التذكر سبب لخلوصهم فى الطاعة وذلك لان مطمح انظارهم فيما يأتون ويذرون جوار الله والفوز بلقائه وذلك فى الاخرة وجاز ان يكون المضاف محذوفا اى ذكرى صاحب الدّار وهو الله سبحانه واطلاق الدار على الاخرة للاشعار بانها هى الدار على الحقيقة والدنيا معبر لاقرار فيها وما لا قرار فيها لا يسمى دارا قرأ نافع، وهشام «وابو جعفر- ابو محمد» باضافة خالصة الى ذكرى للبيان او لانه مصدر بمعنى الخلوص فاضيف الى فاعله- قال مالك بن دينار ونزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الاخرة وذكرها وقال مقاتل كانوا يدعون الى الاخرة والى الله عزّ وجلّ وقال السدىّ أخلصوا بخوف الاخرة وقال ابن زيد معناه على الاضافة أخلصناهم بأفضل ما فى الاخرة وجملة انا أخلصناهم مع ما عطف عليه تعليل لما سبق.
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) لمن المختارين من أمثالهم المصطفين عليهم فى الخير والأخيار جمع خير كشر واشرار وقيل جمع خيّر على تخفيفه كاموات جمع ميت او ميّت.
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ هو ابن أخطوب استخلفه الناس على بنى إسرائيل ثم
استنبئ قرأ حمزة والكسائي والَّيسع بلام مشددة واسكان الياء تشبيها بالمنقول من ليسع والباقون بلام واحدة ساكنة وفتح الياء وَذَا الْكِفْلِ ابن عم اليسع او بشر بن أيوب اختلف فى نبوته ولقبه فقيل فرّ اليه مائة نبى من بنى إسرائيل فاواهم وكفلهم وقيل كفل لعمل رجل صالح كان يصلى كل يوم مائة صلوة وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) حال من مفعول اذكر-.
هذا اشارة الى ما تقدم من أمورهم ذِكْرٌ اى شرف لهم او هذا الذي تلى عليكم من القران ذكر جميل لهم- ثم شرع لما اعدّ لهم ولامثالهم فقال وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) مرجع.
جَنَّاتِ عَدْنٍ عطف بيان لحسن ماب او بدل منه وهى من الاعلام الغالبة لقوله تعالى جنّات عدن الّتى وعد الرّحمن عباده وانتصب عنها مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) على الحال والعامل فيها ما فى المتقين من معنى الفعل اى الكون والحصول وقوله لهم الأبواب مرفوع على انه أسند اليه مفتّحة والعائد الى ذى الحال محذوف اى مفتّحة لّهم منها الأبواب او اللام عوض عن المضاف اليه اى مفتّحة لّهم ابوابها او على انه بدل اشتمال من الضمير المستتر العائد الى الجنات.
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) اى وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول وقوله متّكئين ويدعون حالان مترادفان او متداخلان من الضمير فى لهم لا من المتقين للفصل والأظهر أن يدعون استئناف لبيان حالهم فيها ومتّكئين حال من ضميره والاقتصار على الفاكهة للاستعار بان مطاعمهم لمحض التلذّذ فان التغذي للتحلّل ولا تحلل ثمه.
وَعِنْدَهُمْ نساء قاصِراتُ الطَّرْفِ اى قاصرات أطرافهن على أزواجهن لا ينظرن الى غيرهم أَتْرابٌ (٥٢) مستويات الأسنان بنات ثلاث وثلاثين سنة جمع ترب وعن مجاهد متواخيات لا يتباغضن كما تتباغض الضرات فى الدنيا ولا يتغايرن الجملة الظرفية حال او خبر لضميرهم.
هذا ما تُوعَدُونَ قرأ ابن كثير هاهنا وفى ق بالياء التحتانية على الغيبة والضمير للمتقين ووافقه ابو عمرو هاهنا والباقون بالتاء الفوقانية فيهما على الخطاب للمؤمنين لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) اى لاجله فان الحساب علة الوصول الى الجزاء او المعنى
فى يوم الحساب.
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) اى انقطاع الجملة حال من رزقنا او خبر بعد خبر لانّ.
هذا اى الأمر هذا او هذا كما ذكرا وخذ هذا.
وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ اى الكافرين لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) مرجع.
جَهَنَّمَ بدل او عطف بيان لشرّ ماب يَصْلَوْنَها حال من جهنم فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) المهد والمفترش مستعار من فراش النائم والمخصوص بالذم محذوف اى جهنم او مهادهم جملة وانّ للطّاغين عطف او حال.
هذا العذاب منصوب بفعل مضمر يفسره فَلْيَذُوقُوهُ اى ليذوقوا هذا فليذوقوه او مبتداء خبره محذوف اى هذا نزلهم فليذوقوه او خبر مبتدا محذوف اى العذاب هذا فليذوقوه او مبتدا خبره حَمِيمٌ كذا قال الفراء وعلى هذا جملة فليذوقوه معترضة وعلى التأويلات السابقة حميم خبر مبتدا محذوف اى هو حميم والحميم هو الماء الحار الذي انتهى حره وَغَسَّاقٌ (٥٧) عطف على حميم قرأ حمزة والكسائي وحفص «وخلف- ابو محمد» بالتشديد على وزن فعّال كالخبّاز والطبّاخ وخفّفها الباقون على وزن فعال كالعذاب واختلفوا فى معناه قال ابن عباس هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرّها وقال مجاهد ومقاتل هو الذي انتهى برده وقيل هو المنتن بلغة الترك وقال قتادة هو ما يغسق اى يسيل من القيح والصديد من جلود اهل النار ولحومهم وفروج الزناة من قولهم غسقت اى انصبت والغساق انصباب اخرج البيهقي عن عطية قال الغساق الذي يسيل من صديدهم واخرج مثله عن ابراهيم وابى رزين واخرج ابن ابى حاتم وابن ابى الدنيا والضياء عن كعب قال الغساق عين فى جهنم تسيل إليها حمة كل ذى حمة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع يؤتى بالآدمي فيغمس غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده عن العظام وتعلق جلده ولحمه فى كعبيه فيجرّ لحمه كما يجرّ الرجل ثوبه.
وَآخَرُ قرأ ابو عمرو ابو جعفر بضم الهمزة على انه جمع اخرى «ويعقوب- ابو محمد لا هو بالفتح كنافع ابو محمد» مثل الكبرى وكبر واختاره ابو عبيد لانه نعته بالجمع فقال ازواج والباقون بفتح الهمزة والف بعدها على التوحيد اى عذاب اخر او مذوق اخر مِنْ شَكْلِهِ صفة لاخر او خبر له اى مثل الحميم والغسّاق وتوحيد الضمير على انه لما ذكر او للشراب الشامل للحميم والغساق
او للعذاب أَزْواجٌ (٥٨) أجناس خبر لاخر او صفة له او للثلاثة او مرتفع بالجار والمجرور والخبر محذوف اى لهم-.
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ قال ابن عباس هو كلام خزنة الناس للقادة من اهل النار وذلك ان القادة إذا دخلوا النار ثم دخل عليهم الاتباع قالت لهم الخزنة وقيل هو كلام القادة بعضهم لبعض اى هذا يعنى الاتباع فوج اى جماعة مقتحم معكم النار والاقتحام الدخول فى الشيء رميا بنفسه فيه قال الكلبي انهم يضربون بالمقامع حتى يوقعوا أنفسهم فى النار خوفا من تلك المقامع قلت وجاز ان يكون معناه ان النبي ﷺ وخلفاءه كانوا يحجزونهم عن النار ويمنعونهم عن ارتكاب موجبات دخولها وهم اقتحموا فيها حيث فعلوا موجبات دخولها عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ مثلى كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفرش وهذه الدواب التي تقع فى النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنّه فيقتحمنّ فيها قال فذلك مثلى ومثلكم انا أخذ يحجزكم عن النار هلمّ عن النار هلمّ عن النار فتغلبونى تقحمون فيها- متفق عليه وجملة هذا فوج مقتحم إلخ بتقدير القول استئناف تقديره يقول بعض الطاغين بعضا فى شأن بعض هذا فوج مقتحم معلم او يقال للرؤساء فى شأن الاتباع هذا فوج الى آخره فقالت القادة لا مَرْحَباً بِهِمْ اى بالاتباع دعاء من المتبوعين على اتباعهم فهذه الجملة بتقدير القول متصل بما سبق إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) تعليل بقوله لا مرحبا بهم اى داخلوها بأعمالهم مثلنا وجاز ان يكون لا مرحبا بهم صفة لفوج او حال اى مقولا فيهم لا مرحبا بهم يقال لمن يدعى له مرحبا اى أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا والرحب السعة وفيه تعظيم للجائى ويقال لمن يدعى عليه لا مرحبا تحقيرا له وبهم بيان للمدعو عليهم.
قالُوا استئناف اخر اى قال الاتباع للقادة بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ يعنى بل أنتم احقّ بما قلتم او بما قيل فينا لضلالكم واضلالكم إيانا وعللوا ذلك بقولهم أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ اى العذاب او الصلى لَنا بدعائكم إيانا الى الكفر فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) اى بئس المقر لنا ولكم جهنم.
قالُوا استئناف اخر اى قالت الاتباع رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) اى مضاعفا على ما بهم من العذاب..
وَقالُوا عطف على قالوا ربّنا من قدّم لنا يعنى قالت كفار قريش وهم فى النار ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ فى الدنيا مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) جملة لا نرى حال من ضمير المتكلم فى لنا والعامل معنى الفعل والأشرار جمع شرير والشر ضد الخير والخير ما يرغب فيه الكل والشر ما يكرهه يعنى كنا نكرههم ونحقرهم فى الدنيا يعنون فقراء المؤمنين نحو عمّار وخبيب وصهيب وبلال وابن مسعود رضى الله عنهم أجمعين يسترذلونهم ويسخرون منهم.
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرأ اهل البصرة وحمزة «وخلف وابو محمد» والكسائي بهمزة الوصل على انه صفة اخرى لرجالا او حال بتقدير قد او خبر اخر لكنّا وقرأ الحجازيون وابن عامر وعاصم بالقطع على الاستفهام على انه انكار على أنفسهم فى الاستسخار منهم وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين كما مرّ فى المؤمنين والباقون بكسرها أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) فلا نراهم قال الفراء هذا من الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتعجب وأم معادلة لهمزة فى جملة مقدرة مفهومة من قوله ما لنا لا نرى والتقدير ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتّخذناهم سخريا اليسوا هاهنا أم زاغت عنهم أبصارنا فلم نرهم وهم هاهنا- او الهمزة اتّخذناهم على القراءة الثانية بمعنى اىّ الأمر ما فعلنا بهم من الاستسخار منهم أم تحقيرهم فان زيغ البصر كناية عنه والمعنى إنكارهما على أنفسهم او منقطعة والمراد الدلالة على ان استرذالهم والاستخسار منهم كان لزيغ البصر منّا وقصور انظارنا على رثاثة حالهم وقال ابن كيسان يعنى أم كانوا خيرا منا ولم نعرفهم وكانت أبصارنا تزيغ عنهم.
إِنَّ ذلِكَ الذي حكينا عنهم لَحَقٌّ لا بد ان يتكلموا به ثم بين ما هو فقال تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) بدل من حق او خبر محذوف ولمّا شبه تقاولهم وما جرى بينهم من السؤال والجواب بما يجرى بين المتخاصمين سماه تخاصما ولان قول القادة لا مرحبا بهم وقول الاتباع بل أنتم لا مرحبا بكم تخاصم فسمى التقاول كله تخاصما لاشتماله
على ذلك-.
قُلْ يا محمد لمشركى مكة إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ جملة قل مع المقولة مستأنفة وانّما لقصر القلب متصل بقوله تعالى قال الكافرون هذا ساحر كذّاب يعنى لست بساحر كذاب انّما انا منذر أنذركم بعذاب الله وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ عطف على انّما متصل بقوله اجعل الالهة الها واحدا الْواحِدُ الذي لا يقبل الشركة فى ذاته ولا فى صفة من صفاته الْقَهَّارُ (٦٥) على كل شىء فيه وعيد للكفار.
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الذي لا يغلب إذا عاقب الْغَفَّارُ (٦٦) الذي يغفر ما يشاء من الذنوب صغائرها وكبائرها لمن يشاء وفى هذه الأوصاف تتميم وتقرير للتوحيد ووعد للموحدين ووعيد للمشركين ودفع لتوهم انحصار وصفه بالقهر.
قُلْ يا محمد هُوَ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة يعنى القران نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) وقيل يعنى القيامة لقوله تعالى عمّ يتساءلون عن النّبإ العظيم وقيل يعنى ما انبأ تكم به من انى نذير من عقوبة من هذا صفته وانه واحد فى الألوهية لا شريك له فهو متصل بقوله انّما انا منذر وما من اله إلّا الله الواحد.
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) صفة اخرى لنبأ اى أنتم لتمادى غفلتكم معرضون عنه مع ان العاقل لا ينبغى ان يعرض عن مثله وقد قامت عليه الحجج الواضحة اما على التوحيد فما مرّوا ما على النبوة فقوله.
ما كانَ لِي قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى اى الملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) فان الاخبار عن تقاول الملائكة وما جرى بينهم مطابقا لما ورد فى الكتب المتقدمة من غير سماع ومطالعة كتاب لا يتصور الا بالوحى- وقيل المراد باختصامهم اختصامهم فى شأن آدم عليه السلام حين قال الله تعالى انّى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يّفسد فيها ويسفك الدّماء وفى الحديث عن عبد الرحمان بن عائش الحضرمي يقول قال النبي ﷺ رايت ربى فى احسن صورة قال فيم يختصم الملا الأعلى يا محمد قلت أنت اعلم اى ربّ مرتين فقال وضع كفه
بين كتفى فوجدتّ برده بين ثديى فعلمت ما فى السماء والأرض ثم تلا هذه الاية وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السّموات والأرض وليكون من الموقنين ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت فى الكفارات قال وما هن قلت المشي بالاقدام الى الجماعات والجلوس فى المساجد خلف الصلوات وإسباغ الوضوء؟؟؟ أماكنه فى المكاره قال من يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ويكون خطيئته كيوم ولدته امه ومن الدرجات اطعام الطعام وبذل السلام وان تقوم بالليل والناس نيام قال قل اللهم انى أسئلك الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وان تغفر لى وترحمنى وتتوب علىّ وإذا أردت فتنة فى قوم فتوفنى غير مفتون فقال رسول الله ﷺ فو الذي نفس محمد بيده انهن لحق- رواه البغوي فى شرح السنة والتفسير ورواه الدارمي الى قوله وليكون من الموقنين وللترمذى عنه نحو ما روى البغوي وللترمذى عن ابن عباس ومعاذ بن جبل بمعناه مع تغير فى العبارة ولعل المراد باختصام الملا الا على فى الكفارات ان جمعا منهم يبتدرون ان يكتتبوها يريد كل منهم ان يهيا بها وجه الرحمان اوّلا كما فى حديث رفاعة بن رافع كنا نصلى وراء النبي ﷺ فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده فقال رجل وراءه ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فلما انصرف قال من المتكلم آنفا قال انا قال رايت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها ايّهم يكتبها أول- رواه البخاري إذ متعلق بعلم او بمحذوف والتقدير من علم بكلام الملا الأعلى إذ يختصمون ان.
يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) انما مع جملته أما فى محل الرفع على انه أسند اليه يوحى وأما فى محل النصب على العلّية ويوحى حينئذ مسند الى المصدر المفهوم من الفعل يعنى ما اوحى الى الّا الانذار المبين او ما اوحى الىّ وحيي الا لإجل الانذار فانه هو المقصود من الإرسال. وقيل المراد بالنبا العظيم قصة آدم وإبليس والانباء به من غير سماع والمراد بالملا الأعلى اصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس لانهم كانوا فى السماء وكان التقاول بينهم.
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) بدل من إذ يختصمون
مبين له فان القصة التي دخلت إذ عليها مشتملة على تقاول الملائكة وإبليس فى خلق آدم واستحقاقه- للخلافة والسجود على ما مرّ فى البقرة غير انها اختصرت اقتصارا على ما هو المقصود هاهنا وهو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي ﷺ بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم هذا ومن الجائز ان يكون مقاولته إياهم بواسطة ملك او ان يفسر الملا على بما يعم الله والملائكة وجاز ان يكون إذ منصوبا باذكر.
فَإِذا سَوَّيْتُهُ اى أتممت خلقه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أضاف الروح الى نفسه تشريفا لادم او تشريفا للروح فَقَعُوا فخروا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) وقد مر الكلام فيه فى البقرة.
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ عطف على قال ربّك كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣).
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ اى تعظم تعليل للاستثناء وَكانَ اى صار مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) باستكباره عن امر الله تعالى او استكباره عن المطاوعة او كان منهم فى علم الله تعالى.
قالَ ربك يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ كلمة بيدىّ من المتشابهات فالسلف لا يأولونه ويؤمنون به ويكلون مراده الى الله تعالى والخلف يأولونه ويقولون خلقته من غير توسط كاب وأم والتثنية لما فى خلقه من مزيد القدرة وترتب الإنكار عليه للاشعار بانه المستدعى للتعظيم او بانه الذي تشبثت به فى تركه وهو لا يصلح لكونه مانعا إذ للسيد ان يستخدم بعض عبيده لبعض سيما وله مزيد اختصاص أَسْتَكْبَرْتَ همزة الاستفهام للتوبيخ والإنكار دخلت على همزة الوصل يعنى اتكبرت من غير استحقاق أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) اى من الذين استحقوا التفوق توبيخ على الشق الاول وانكار للشق الثاني.
قالَ إبليس أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ابدا المانع واستدل عليه بقوله خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قد سبق الكلام عليه..
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها اى من الجنة وقيل من السماوات وقال الحسن وابو العالية من الخلقة التي أنت فيها قال الحسن بن الفضل هذا تأويل صحيح لان إبليس تجبّر وافتخر بالخلقة فغيّر الله خلقه فاسود وقبح بعد حسنه فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) مطرود لست بخير تعليل للامر بالخروج.
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي قرأ نافع «وابو جعفر ابو محمد» بفتح الباء والباقون بإسكانها
إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) لا يظن بان اللعنة منتهية بيوم الدين بل معناه ان عليه اللعنة وحدها الى يوم الدين ثم ينضم إليها العذاب.
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) الفاء للسببية فان طرده لعداوة آدم سبب لطلبه الانظار لاغواء بنى آدم.
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) الفاء للسببية فان سواله سبب لهذا المقال والجملة الاسمية تدل على ان انظاره كان محكوما عليه فى علم الله القديم قبل سواله لا اجابة لدعائه.
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) وهى النفخة الاولى وقد مرّ بيانه فى الحجر.
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) هذه الفاء ايضا للسببية فان انظاره تعالى إياه سبب لعزمه على اغوائهم ولو لم يكن من الله انظارا لم يقدر على اغوائهم أجمعين اقسم اللعين بعزته اى بسلطانه تعالى وقهرمانه حتى يكون وسيلة لتسلطه على ما يريد.
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم عن الضلالة او أخلصوا قلوبهم لله على اختلاف القرائتين فان ابن كثير وابو عمرو وابن عامر «ويعقوب وابو محمد» قرأوا بكسر اللام والباقون بفتحها.
قالَ فَالْحَقُّ قرأ عاصم وحمزة ويعقوب «وخلف ابو محمد» بالرفع «لا هو بالنصب كابى عمرو- ابو محمد» على انه خبر مبتدا محذوف اى انا الحق او مبتدا خبره محذوف والحق اسم من اسماء الله تقديره الحق يمينى او قسمى والباقون بالنصب بنزع الخافض اى حرف القسم كقوله تعالى لافعلن وجاز ان يكون تقديره فاحق الحق وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) جملة معترضة وقيل تكرار للقسم اقسم الله بنفسه وجواب القسم قوله.
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ اى من جنسك ليتناول الشياطين وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اى من بنى آدم أَجْمَعِينَ (٨٥) اى لا اترك منكم ومنهم أحدا والمراد بمن تبعك الكفار وان كان التقدير انا الحق او أحق الحق فهذه الجملة جواب قسم محذوف وأجمعين تأكيد للضميرين..
قُلْ يا محمد ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على الانذار او على القران مِنْ أَجْرٍ جعل وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) اى من المتقولين القران من تلقاء نفسه او المدعين لنفسه ما ليس له تكلفا على ما عرفتم من حالى يعنى لا ادعى النبوة بلا حقيقة
وجملة قل ما اسئلكم الى آخره مقرى لمضامين الجمل السابقة اخرج البخاري عن عمر قال نهينا عن التكلف. وروى البغوي عن مسروق قال دخلنا على ابن مسعود فقال يا ايها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله اعلم فان من العلم ان يقول لما لا يعلم الله اعلم قال الله تعالى لنبيه قل ما لسئلكم عليه من اجر وما انا من المتكلّفين قلت قوله ما انا من المتكلّفين تأكيد لمضمون قوله ما اسئلكم عليه من اجر فان من لا يسئل شيئا من الاجر لا ضرورة له فى ان يتكلف فى المقال.
إِنْ هُوَ اى القران إِلَّا ذِكْرٌ اى عظة لِلْعالَمِينَ (٨٧) للثقلين اوحى الىّ وانا ابلّغه.
وَلَتَعْلَمُنَّ يا كفار مكة جواب قسم محذوف نَبَأَهُ وهو ما فيه من الوعد والوعيد او صدقه بإتيان ذلك بَعْدَ حِينٍ (٨٨) قال ابن عباس وقتادة اى بعد الموت وقال عكرمة يوم القيامة قال الحسن ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين ثم تفسير سورة ص من تفسير المظهرى بتوفيق الله تعالى سادس رجب من السنة السابعة بعد الف ومائتين سنة ١٢٠٧ هـ- ويتلوه تفسير سورة الزمر ان شاء الله تعالى والحمد لله رب العالمين وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين.
Icon