تفسير سورة سورة فصلت من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة فصلت
آياتها أربع وخمسون وهي مكية
ﰡ
﴿ حم { ١ ﴾ } إن جعلته مبتدأ فخبره ﴿ تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { ٢ ﴾ } وإن جعلته تعديد الحروف فتنزيل خبر محذوف.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:﴿ حم ﴿ ١ ﴾ ﴾ إن جعلته مبتدأ فخبره ﴿ تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿ ٢ ﴾ ﴾ وإن جعلته تعديد الحروف فتنزيل خبر محذوف.
قال الأخفش تنزيل مبتدأ لتخصيصه بالصفة وخبره ﴿ كتاب ﴾ وهو على الأولين بدل منه أو خبر آخر أو خبر محذوف.
قال الأخفش تنزيل مبتدأ لتخصيصه بالصفة وخبره ﴿ كتاب ﴾ وهو على الأولين بدل منه أو خبر آخر أو خبر محذوف.
ولعل افتتاح هذه السور السبع بحم وتسميتها به لكونها مصدرة ببيان الكتاب متشاكلة في النظم والمعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أعطيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى " رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي عن معقل بن يسار، وإضافة التنزيل للرحمان الرحيم للدلالة على أنه مناط المصالح الدينية والدنيوية ﴿ فصلت آياته ﴾ أي بينت بالأحكام والقصص والمواعظ ﴿ قرآنا عربيا ﴾ نصب على المدح أو الحال من الضمير المجرور في آياته فإنه أضيف إليه فاعل فصلت مثل ميتا في قوله تعالى :﴿ يأكل لحم أخيه ميتا ﴾ وفيه امتنان عليهم بسهولة قراءته وفهمه فإنه لو كان بغير لغتهم لما فهموه ﴿ لقوم يعلمون ﴾ نزل منزلة اللازم أي لقوم ذوي علم ونظر لا لمن أعرض عنها، أو يقال مفعوله محذوف منوى أي لقوم يعلمون معانيه ويفهمونه أو يكون على طريقة من يسمع يخل بتقدير مفعوليه أي لقوم يعلمونه حقا، والجملة صفة أخرى لقرآنا أوصلة لتنزيل أو لفصلت والأول أولى لوقوعه بين الصفات
﴿ بشيرا ﴾ لأولياء الله ﴿ ونذيرا ﴾ لأعدائه ﴿ فأعرض أكثرهم ﴾ عن تدبره وقبوله عطف على فصلت ﴿ فهم لا يسمعون ﴾ أي لا يستمعون تعنتا وعنادا أو لا يقبلون يقال شفعت إلى فلان فلم يسمع قولي يعني لم يقبل والجملة بيان للإعراض.
﴿ وقالوا ﴾ يعني مشركي مكة عطف على إعراض ﴿ قلوبنا في أكنة ﴾ أغطية جمع كنان ﴿ مما تدعونا إليه ﴾ من التوحيد فلا نفقه ما تقول ﴿ وفي آذاننا وقر ﴾ ثقل وصمم لا نسمع ما تقول والمعنى أنا في ترك القبول عنك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع ﴿ ومن بيننا وبينك حجاب ﴾ خلاف في الدين يمنعنا من التواصل وللدلالة على أن الحجاب مبتدأ منهم ومنه بحيث استوعب المسافة المتوسطة ولم يبق فراغ أصلا.
وهذه تمثيلات لامتناع القبول والمواصلة والمعنى أنا في ترك القبول والتواصل منك بمنزلة من بينهما حاجز قوي ﴿ فاعمل ﴾ على دينك أوفي إبطال أمرنا ﴿ إننا عاملون ﴾ على ديننا أو في إبطال أمرك
﴿ قل ﴾ يا محمد في جوابهم ﴿ إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ﴾ قال الحسن علمه الله التواضع يعني ما أنا إلا واحد منكم لولا الوحي لم يكن عندي من العلم ما ترونه ولكن أوحي إلي ﴿ أنما إلهكم إله واحد ﴾ فعليكم بإصغائه وتلقيه أو المعنى لست بملك ولاجني لا يمكنكم التلقي منه ولا أدعوكم إلى ما يأبى عنه العقول بل أدعوكم إلى التوحيد إلى الدليل يدل عليه العقل والنقل ﴿ فاستقيموا إليه ﴾ أي توجهوا إلى الله بالطاعة ولا تميلوا عن طاعته ﴿ واستغفروه ﴾ مما أنتم عليه من الشرك وسوء الأعمال ثم هددهم على ذلك بقوله ﴿ وويل ﴾ كلمة عذاب مبتدأ خبره
﴿ للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ﴾ قال ابن عباس الذين لا يقولون لا إله إلا الله وهي زكاة الأنفس والمعنى لا يطهرون أنفسهم عن الشرك بالتوحيد، وقال الحسن وقتادة لا يقرون بالزكاة ولا يرونه واجبا وكان يقال الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخالف عنها هلك.
وقال مقاتل والضحاك لا ينفقون في الطاعة ولا يتصدقون وقال مجاهد لا يزكون أعمالهم، قال البيضاوي فيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع وقد ذكرنا هذه المسألة في تفسير سورة المدثر في قوله تعالى ﴿ لم نك من المصلين ﴾ الآية.
﴿ للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ﴾ قال ابن عباس الذين لا يقولون لا إله إلا الله وهي زكاة الأنفس والمعنى لا يطهرون أنفسهم عن الشرك بالتوحيد، وقال الحسن وقتادة لا يقرون بالزكاة ولا يرونه واجبا وكان يقال الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخالف عنها هلك.
وقال مقاتل والضحاك لا ينفقون في الطاعة ولا يتصدقون وقال مجاهد لا يزكون أعمالهم، قال البيضاوي فيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع وقد ذكرنا هذه المسألة في تفسير سورة المدثر في قوله تعالى ﴿ لم نك من المصلين ﴾ الآية.
﴿ وهم بالآخرة هم كافرون ﴾ حال مشعر بأن امتناعهم من الزكاة مبني على إنكارهم للآخرة فإن من لم يعتقد بالآخرة وثواب الزكاة فيها اعتقد إعطاء المال للفقير إضاعة لا محالة جعل الله سبحانه منع الزكاة مقرونا بالإشراك والكفر بالآخرة لأن المال أحب الأشياء إلى الأنفس فبذله في سبيل الله أول دليل على إيمانه ففيه حث للمؤمنين على إيتاء الزكاة وتهديد شديد على منعه.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ { ٨ ﴾ } قال ابن عباس غير مقطوع، وقال مقاتل غير منقوص، وقيل غير ممنون لي لا يمن به عليهم من المن، وقال مجاهد غير محسوب.
وقال السدي نزلت الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة يكتب لهم الأجر على حسب ما كانوا يعملون في الصحة، عن عبد الله عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به أكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه " رواه البغوي في شرح السنة والتفسير، وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا " رواه البخاري، وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا ابتلي المسلم ببلاء في جسده قال للملك أكتب له صالح عمله الذي كان يعمل فإن شفاه غسله وطهره وإن قبضه غفر له ورحمه " رواه البغوي في شرح السنة، وعن ابن مسعود أنه قال يكتب للعبد من الأجر إذا مرض ما كان يكتب له قبل أن يمرض فمنعه من المرض، رواه رزين.
﴿ قل أئنكم ﴾ إستفهام توبيخ، والجملة الإستفهامية مستأنفة في جواب ما أقول لهم إن لم يستقيموا ولم يستغفروا ﴿ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ أي في مقدار يومين سميا بيوم الأحد والإثنين ﴿ وتجعلون له أندادا ﴾ ولا يجوز له ند ﴿ ذلك ﴾ الذي خلق الأرض في يومين ﴿ رب العالمين ﴾ أي خالق لجميع ما وجد من الممكنات ومرب لها، جمع العالم " لاختلاف أنواعه " بالياء والنون تغليبا للعقلاء وجملة ذلك رب العالمين تعليل للتوبيخ
﴿ وجعل فيها ﴾ أي في الأرض ﴿ رواسي ﴾ جبالا ثوابت ﴿ من فوقها ﴾ أي فوق الأرض مرتفعة ليظهر للناظرين ما فيها من وجوه الاستبصار ويكون منافعها معرضة للطلاب ﴿ وبارك فيها ﴾ أي في الأرض بما خلق فيها من البحار والأنهار والثمار والأشجار والحيوانات ﴿ وقدر فيها أقواتها ﴾ أي أقوات أهلها أو الإضافة لأدنى ملابسة أي أقوات خلق فيها، قال الحسن : قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم بأت عين لكل ما يصلحه ويعيش به وقد قرأ ابن مسعود " وقسم فيها أقواتها " وقال عكرمة والضحاك قدر في كل بلد ما لم يجعل في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد، قال الكلبي قدر الخبز لأهل قطر والذرة لأهل قطر والسمك لأهل قطر والتمر لأهل قطر ﴿ في أربعة أيام ﴾ أي في تتمة أربعة أيام يعني في يومين يوم الثلاثاء والأربعاء ومتصلين باليومين الأولين فهو كقولك سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة وعلى كوفة في خمسة عشر ولم يقل في يومين للإشعار باتصالهما باليومين الأولين ﴿ سواء ﴾ بالنصب أي استوت سواء بمعنى استواء وقدر تقديرا سواء الجملة صفة أيام، ويدل عليه قراءة يعقوب بالجر صفة لأربعة، وقيل حال من الضمير في أقواتها أوفي فيها، وقرأ أبو جعفر سواء بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو ﴿ للسائلين ﴾ متعلق بمحذوف أي هذا الحصر مبين للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها كذا قال قتادة والسدي أو بقدر أي قدر فيها الأقوات للطالبين لها.
﴿ ثم استوى إلى السماء ﴾ أي قصد نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلوي على غيره والظاهر أن ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في المدة لقوله تعالى ﴿ والأرض بعد ذلك دحاها { ٣٠ ﴾ } فإن دحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها ﴿ وهي دخان ﴾ لعله أراد مادتها والأجزاء المتصغرة التي ركبت منها وكان مادة السماء دخانا بخارا للماء كذا قال البغوي﴿ فقال لها وللأرض ائتيا ﴾ بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة أو ليأت كل منكما في حدوث ما أريد توليده منكما، قال طاووس عن ابن عباس أي أعطيا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد، وقال ابن عباس قال الله عز وجل أما أنت يا سماء فاطلعي شمسك وقمرك ونجومك وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك ﴿ طوعا أوكرها ﴾ منصوب على الحال أي طائعتين أو كارهتين أو على الظرف، أي ائتيا وقت طوع أوكره أو على المصدر من طريق ضربته سوطا أي إيتيا إتيان طوع أوكره، قال ابن عباس قال الله تعالى لهما افعلا ما أمرتكما وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه كرها فأجابتا بالطوع وقالتا أتينا و﴿ قالتا أتينا طائعين ﴾ ولم يقل طائعتين لأنه ذهب به إلى المساوات والأرض ومن فيهن مجازه أتينا بما فينا طائعين، فيه تغليب للعقلاء أولما وصفهما بالقول أجراهما في الجمع مجرى من يعقل والأظهر أن الكلام وارد مورد التمثيل وأراد بقوله ﴿ إئتيا طوعا أوكرها ﴾ إظهار كمال قدرته ووجوب وقوع مراده وبقوله ﴿ قالتا أتينا طائعين ﴾ سرعة تأثرهما بالذات فهو تمثيل بأمر المطاع وإجابة المطيع الطائع كقوله ﴿ كن فيكون ﴾.
﴿ فقضاهن سبع سماوات ﴾ أي فخلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن والضمير للسماء على المعنى أو مبهم وسبع سماوات حال على الأول وتميز على الثاني في يومين يوم الخميس والجمعة، قال المحلي ففرغ منها في آخر ساعة منه وفيها ﴿ خلق آدم ﴾ ولذلك لم يقل هاهنا سواء، قلت : لعل قول المحلى هذا مبنى على ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة أنه قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال :" خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة في آخر الخلق وآخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل " والظاهر أن هذا الحديث وهم فيه الراوي فإن الثابت بالقرآن خلق السماوات والأرض في ستة أيام وذكر في هذا الحديث سبعة أيام، والصحيح أن بدء الخلق من يوم الأحد وهذا الحديث يدل على أنه من يوم السبت ومنطوق هذه الآية أن الله خلق الجبال رواسي وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يوم الثالث والرابع وهذا الحديث يدل على أنه خلق الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين، والظاهر من سياق قصة آدم عليه السلام أن خلق آدم كان بعد زمان طويل من خلق السماوات والأرض ﴿ إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ الآيات، وفي قصة خلق آدم تعجين طينه أربعين يوما فلو صح خلق آدم في آخر ساعة من الجمعة فذلك الجمعة بدء الخلق والله أعلم ﴿ وأوحي في كل سماء أمرها ﴾ قال عطاء عن ابن عباس خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار والجبال والبرد وما لا يعلم إلا الله، وقال قتادة والسدي، يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها، وقال مقاتل أوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي وقيل أوحى في كل سماء الأمر الذي أمر به من فيها من الطاعة ﴿ وزينا السماء الدنيا بمصابيح ﴾ أي كواكب ﴿ وحفظا ﴾ أي وحفظناها من الآفات أومن المسترقة حفظا، وقيل مفعول له على المعنى كأنه قال وخصصنا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظا ذلك الذي ذكرت من صنعه ﴿ تقدير العزيز ﴾ في ملكه ﴿ العليم ﴾ بخلقه.
﴿ فإن أعرضوا ﴾ عطف على قل أئنكم يعني إن أعرضوا أي كفار مكة عن الإيمان بعد هذا البيان ﴿ فقل أنذرتكم صاعقة ﴾ أي فحذرهم أن يصيبهم عذاب شديد مهلك والصاعقة المهلكة من كل شيء ﴿ مثل صاعقة عاد وثمود { ١٣ ﴾ }
﴿ إذ جاءتهم ﴾ يعني عادا وثمود ﴿ الرسل ﴾ جملة إذ جاءتهم الرسل حال من صاعقة عاد ولا يجوز جعله صفة لصاعقة أو ظرفا لأنذرتكم لفساد المعنى ﴿ من بين أيديهم ومن خلفهم ﴾ أي من جميع جوانبهم وابتهدوا بهم من كل جهة أومن جهة الزمان الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار ومن جهة المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة وكل من اللفظين يحتملهما، أومن قبلهم ومن بعدهم إذ قد بلغهم خبر المتقدمين وأخبرهم هود وصالح عن المتأخرين داعين إلى الإيمان بهم أجمعين ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله :﴿ ألا تعبدوا ﴾ أن مخففة من الثقيلة بإضمار ضمير الشأن أو مفسرة لأنه بعد ذكر الرسالة وفيه معنى القول أو مصدرية والباء مقدرة أي بأن لا تعبدوا ﴿ إلا الله قالوا ﴾ أي عاد وثمود ﴿ لو شاء ربنا ﴾ إرسال الرسل لأنزل ﴿ ملائكة ﴾ برسالته ﴿ فإنا بما أرسلتم به ﴾ على زعمكم ﴿ كافرون ﴾ إنما أنتم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا.
روى البغوي عن جابر بن عبد الله قال : قال الملأ من قريش وأبو جهل قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فأتاه فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي إن كان كذلك.
فأتاه فلما خرج إليه قال أنت يا محمد خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما تريد الرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رأسا ما بقيت وإن كان بك الباءة زوجناك عشرة نسوة تختار من أي بنات قريش وإن كنت تريد المال جمعنا لك من ما تستغني أنت وعقبك من بعدك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت فلما فرغ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا ﴾ إلى قوله ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ { ١٣ ﴾ } الآية فأمسك عتبة على فيه، فناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم.
فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وقد أعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه، فانطلقوا إليه فقال أبو جهل والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم لأن لا يكلم محمدا أبدا وقال والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ السورة إلى قوله تعالى :﴿ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود { ١٣ ﴾ } فأمسكت به وناشدته بالرحم أن يكف ولقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب.
وقال : قال محمد بن كعب القرظي حدثت أن عتبة بن ربيعة كان سيدا حليما قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد قال يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد وأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل منا بعضهن فنعطيه ويكف عنا " وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون " قالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه، فقام عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسيطة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت بأمر عظيم فرقت جماعتهم وسفهت أحلامهم وعبت آلهتهم وكفرت من مضى من آبائهم فاستمع مني أعرض عليك أمورا لتنظر فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد، فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت المال جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثر منا مالا وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا وإن كان هذا الذي بك مهيأ تراه لا تستطيع رده طلبنا لك الطب أو لعل هذا الشعر جاش به صدرك فإنكم لعمري بني عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا يقدر عليه غيركم، حتى إذا فرغ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال نعم.
قال فاستمع مني قال أفعل فقال :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ ﴿ حم تنزيل من الرحمان الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا ﴾ ثم مضى فيها يقرأ فلما سمع عتبة أنصت وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد، ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد ؟ فقال ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت بمثله قط ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة يا معشر قريش أطيعوني خلوا ما بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوا لله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب به فملكه ملككم وعزه عزكم فأنتم أسعد الناس به، فقالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم.
﴿ فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق ﴾ أي تعظموا على أهل الأرض بغير استحقاق ﴿ وقالوا ﴾ لما خوفوا بالعقاب اغترارا بقوتهم وشوكتهم ﴿ من أشد منا قوة ﴾ يعني ليس أحد أشد قوة منا ندفع العذاب بقوتنا كان أحدهم يقلع الصخرة العظيمة من الجبل يجعلها حيث يشار فقال الله تعالى ردا عليهم ﴿ أولم يروا ﴾ الاستفهام للإنكار والعطف على محذوف تقديره أقالوا ذلك ولم يروا أي لم يعلموا ﴿ أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا ﴾ أي بمعجزاتنا ﴿ يجحدون ﴾ أي يعرفون أنها حق وينكرونها عطف على قالوا
﴿ فأرسلنا ﴾ عطف على كانوا ﴿ عليهم ريحا صرصرا ﴾ عاصفا شديد الصوت شديد البرد من الصر بمعنى البرد أي يصر أي يجمع ويقبض أو الصرة بمعنى الصيحة ﴿ في أيام نحسات ﴾.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب بسكون الحاء والباقون بكسرها أي مشؤومات ذات نحوس في حقهم، قال الضحاك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ودامت الرياح عليهم من غير مطر، قيل كان آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وما عذب قوم إلى يوم الأربعاء ﴿ لنذيقهم عذاب الخزي ﴾ أي عذاب الهوان أضاف العذاب إلى الخزي إضافة الموصوف إلى الصفة مثل رجل الحرب وحاتم الجود بدليل ﴿ ولعذاب الآخرة أخزى ﴾ وهو في الأصل في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى عطف على أرسلنا وهو في الأصل صفة المعذب وصف به العذاب للمبالغة مجازا ﴿ وهم لا ينصرون ﴾ بدفع العذاب عنهم
﴿ وأما ثمود فهديناهم ﴾ أي دللناهم على الخير والشر بإرسال الرسل وبيناهم سبيل الهدى كذا قال ابن عباس ﴿ فاستحبوا العمى على الهدى ﴾ أي اختاروا الجهل والكفر على الإيمان ﴿ فأخذتهم صاعقة العذاب الهون ﴾ أي صيحة من السماء مهلكة للعذاب والهوان والذل وإضافتها إلى العذاب ووصفه بالهون للمبالغة ﴿ بما كانوا يكسبون ﴾ من اختيار الضلالة
﴿ ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون { ١٨ ﴾ } من تلك الصاعقة.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ يوم يحشر ﴾ قرأ نافع ويعقوب بفتح النون وضم الشين على صيغة المتكلم المبني للفاعل ﴿ أعداء الله ﴾ بالنصب على المفعولية والباقون بضم الياء وفتح الشين على البناء للمفعول وأعداء الله بالرفع ﴿ إلى النار فهم يوزعون ﴾ أي يساقون ويدفعون إلى النار، وقال قتادة والسدي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، قال البيضاوي وهي عبارة عن كثرة أهل النار
﴿ حتى ﴾ ابتدائية ﴿ إذا ما جاءوها ﴾ إذا حضروها وما زائدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور ﴿ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ قال السدي وجماعة المراد بالجلود الفروج وقال مقاتل ينطق جوارحهم، روى مسلم عن أنس قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال هل تدرون مما أضحك ؟.
قلنا الله ورسوله أعلم، قال من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول بلى، قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فينطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن أناضل " وفي حديث أبي هريرة عند مسلم " فيختم على فيه ويقول لفخذه أنطق فينطق فخذه ولحمه وعظمه بعمله "
﴿ وقالوا ﴾ أي الذين يحشرون إلى النار ﴿ لجلودهم لم شهدتم علينا ﴾ بعدا لكن وسحقا فعنكن أناضل وهذا السؤال سؤال توبيخ ﴿ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ﴾ ذي نطق ﴿ وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون ﴾ قدم الظرف للحصر والإهتمام ورعاية الفواصل وهذه الجملة يحتمل أن يكون من تمام كلام الجوارح وأن يكون استئنافا مثل ما بعده.
روى الشيخان في الصحيحين والبغوي عن ابن مسعود قال :" اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر يسمع ما جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا "
قال البغوي قيل الثقفي عبد يا ليل والقرشيان ختنا ربيعة صفوان ابن أمية فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾﴿ وما كنتم تستترون ﴾ أي آية، قال البغوي معناه تستخفون عند أكثر أهل العلم، وقال مجاهد تتقون، وقال قتادة تظنون يعني ما كنتم تستترون الفواحش من جوارحكم مخافة ﴿ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ ﴾ كما كنتم تستترونها عن الناس مخافة الفضيحة، فالمعنى ما كنتم تظنون أن جوارحكم تشهد عليكم وفيه تنبيه ﴿ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ فلذلك أجرأتم على ما فعلتم
﴿ وذلكم ﴾ أي ظنكم هذا مبتدأ وقوله ﴿ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ﴾ أي أهلككم خبران له ويجوز أن يكون ظنكم بدلا من اسم الإشارة وأرداكم خبره ﴿ فأصبحتم من الخاسرين ﴾ ثم أخبر عن حالهم فقال ﴿ فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ﴾
﴿ فإن يصبروا ﴾ في النار ﴿ فالنار مثوى لهم ﴾ ﴿ فإن يصبروا ﴾ في النار ﴿ فالنار مثوى لهم ﴾ لا خلاص لهم عنها ﴿ وإن يستغيثوا فما هم من المعتبين ﴾ أي إن طلبوا العتبى وهو الرجوع إلى ما يحبون ويسترضون ربهم فما هم بمجابين إلى ذلك
﴿ وقيضنا ﴾ أي بعثنا ووكلنا، وقال مقاتل هيأنا عطف على قوله في صدر السورة ﴿ فأعرض أكثرهم ﴾ ﴿ وقالوا قلوبنا في أكنة ﴾ وبينهما معترضات ﴿ لهم ﴾ أي للكافرين ﴿ قرناء ﴾ جمع قرين ككرماء جمع كريم يعني نظراء من الشياطين يستولون عليهم استيلاء القيض على البيض وهو القشر وقيل أصل القيض البدل ومنه المقايضة للمعاوضة ﴿ فزينوا لهم ما بين أيديهم ﴾ من أمر الدنيا وأتباع الشهوات ﴿ وما خلفهم ﴾ من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب وإنكار البعث ﴿ وحق عليهم القول ﴾ أي كلمة العذاب ﴿ في أمم ﴾ حال من الضمير المجرور أي كائنين في جملة أمم ﴿ قد خلت من قبلهم ﴾ صفة لأمم ﴿ من الجن والإنس ﴾ وقد عملوا مثل أعمالهم صفة أخرى لأمم ﴿ إنهم كانوا خاسرين ﴾ بإيثار موجبات العذاب على موجبات الرحمة تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم أو للأمم.
﴿ وقال الذين كفروا ﴾ من أهل مكة ﴿ لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ﴾ قال ابن عباس كان بعضهم يوصي إلى بعض إذا رأيتم محمدا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو، وقال مجاهد ألفوا فيه بالمكاء والصفير، وقال الضحاك أكثروا الكلام فتخلطوا عليه ما يقول، وقال السدي صيحوا في وجهه ﴿ لعلكم تغلبون ﴾ محمدا على قراءته
﴿ فلنذيقن الذين كفروا ﴾ وضع المظهر موضع الضمير تسجيلا للكفر وللدلالة على شمول هذا الحكم لهم ولغيرهم ﴿ عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ أي سيئات أعمالهم أو المعنى لنجزينهم جزاء كفرهم الذي هو أسوأ ما كانوا يعملون في الدنيا
﴿ ذلك ﴾ مبتدأ أي الأسوأ ﴿ جزاء أعداء الله ﴾ خبره ﴿ النار ﴾ عطف بيان للجزاء أو خبر محذوف ﴿ لهم فيها دار الخلد ﴾ أي دار الإقامة ﴿ جزاء ﴾ منصوب على المصدرية لفعله المقدر أي يجزون والجملة تأكيد لما سبق ﴿ بما كانوا بآياتنا ﴾ أي القرآن ﴿ يجحدون ﴾ أي ينكرون الحق أو المعنى يلغون عند قراءة القرآن وذكر الجحود الذي هو سبب اللغو
﴿ وقال الذين كفروا ﴾ عطف على مضمون الكلام السابق أي عذبوا ذاك العذاب، وقالوا يعني يقولون بعدما يلقون في النار ﴿ ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس ﴾ يعنون شيطاني النوعين الحاملين إياهما على الضلال والعصيان، وقيل هما إبليس وقابيل بن آدم لأنهما سنا الكفر والمعصية، قرأ ابن عامر وابن كثير ويعقوب أبو بكر والسوسي أرنا بالتخفيف أي بسكون الراء هاهنا خاصة وقرأ الدوري باختلاس كسرة الراء والباقون بإشباعها ﴿ نجعلهما تحت أقدامنا ﴾ في النار ﴿ ليكونا من الأسفلين ﴾ أي في الدرك الأسفل من النار قال ابن عباس ليكونا أشد عذابا منا.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ اعترافا بربوبيته وإقرارا بوحدانيته ﴿ ثم استقاموا ﴾ أي التزموا المنهج المستقيم، قال المحلى نزلت في أبي بكر الصديق وثم لتراخيه عن الإقرار قي الرتبة والمراد بالاستقامة الاعتدال وعدم الزيغ والانحراف عن الحق بوجه من الوجوه لا في الاعتقاد ولا في الأخلاق ولا في العمال، قال في القاموس استقام اعتدل وقومته عدلته فهو قويم ومستقيم ومنه الصراط المستقيم للطريق السوي الذي يوصل سالكه إلى المطلوب البتة، فالاستقامة لفظ مختصر شامل لجميع الشرائع من الإتيان بالمأمورات والاجتناب عن المنهيات على سبيل الدوام والثبات، ومن هاهنا أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سفيان بن عبد الله الثقفي حين قال يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ؟ وفي رواية غيرك، قال " قل آمنت بالله ثم استقم " رواه مسلم، قال البغوي سئل أبو بكر الصديق عن الاستقامة فقال أن لا تشرك بالله شيئا، وقال عمر بن الخطاب الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب، وقال عثمان بن عفان أخلصوا العمل لله، وقال علي أدوا الفرائض، وقال ابن عباس استقام على أداء الفرائض، وقال الحسن استقاموا على أمر الله فاعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته، وقال مجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى تلحقوا بالله، وقال مقاتل استقاموا على المعرفة فلم يرتدوا، فكلها عبارات عما ذكرنا فإن قول عمر ليستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب وقول علي وابن عباس، وكذا قول الحسن شامل لجميع ما فرض الله إتيانه أو الاجتناب عنه في العقائد والأخلاق والأعمال، وقول أبي بكر لا تشرك بالله شيئا وقول عثمان أخلصوا لله العمل بيان لعدم الرياء والسمعة في شيء من الأعمال وهو المعنى من قول مجاهد وعكرمة، فالاستقامة لا تتصور بدون فناء القلب والنفس وحصول المعرفة بالله على ما اصطلح عليه الصوفية وذلك قول مقاتل، وقال قتادة كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة وكان الحسن رأس الصوفية ينتهي أكثر السلاسل إليه.
﴿ تتنزل عليهم الملائكة ﴾ عند الموت كذا قال ابن عباس، وقال قتادة ومقاتل إذا قاموا من قبورهم، وقال وكيع بن الجراح البشرى تكون في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث ﴿ ألا تخافوا ﴾ أن مفسرة لأن ﴿ تتنزل عليهم ﴾ يتضمن معنى الوحي الذي فيه معنى القول أو مخففة من الثقيلة اسمه ضمير الشأن أو مصدرية يعني لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة كذا قال مجاهد ﴿ ولا تحزنوا ﴾ على ما خلفتم من أهل وولد فإنا نخلفكم في ذلك فالخوف غم يلحق لتوقع مكروه والحزن غم يلحق لوقوعه في مكروه من فوات نافع أو حصول ضار، وقال عطاء بن أبي رباح لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم يعني لا تخافوا العقاب ولا تحزنوا على صدور العصيان فإن الله يغفرها لكم ﴿ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ في الدنيا على لسان الرسل، أخرج أبو نعيم عن ثابت البناني أنه قرأ حم السجدة حتى بلغ إلى قوله تتنزل عليهم الملائكة فقال بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعث من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان لا تخف ولا تحزن وأبشر بالجنة التي كنت توعد قال فيأمن الله خوفه ويقر عينه
﴿ نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا ﴾ يعني كنا معكم في الدنيا نحفظكم من الشياطين ونلهمكم بالخيرات ﴿ و ﴾ نحن أولياؤكم ﴿ في الآخرة ﴾ لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة ﴿ ولكم فيها ﴾ أي في الجنة ﴿ ما تشتهي أنفسكم ﴾ من اللذات والكرامات ﴿ ولكم فيها ما تدعون ﴾ أي ما تتمنون من الدعاء بمعنى الطلب وهو أعم من الأول.
﴿ نزلا ﴾ كائنا ﴿ من غفور رحيم ﴾ نزلا حال من ما تدعون وفيه إشعار بأن من ما يتمنون بالنسبة إلى ما يعطون مما لا يخطر ببالهم كالنزل للضيف، أخرج البزار وابن أبي الدنيا والبيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا " وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة " إن الرجل من هل الجنة ليشتهي الطير في الجنة فيخر مثل البختي حتى يقع على خوانه لم تصبه دخان ولا تمسه نار فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير " وأخرجه الترمذي وحسنه والبيهقي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي " وعند هناد في الزهد عن أبي سعيد قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة ؟ فقال إذا اشتهى إلى آخره، وأخرج الأصبهاني في الترغيب عن أبي سعيد الخدري ولم يرفعه قال إن الرجل من أهل الجنة يتمنى الولد فيكون حمله ورضاعه وفطامه وشبابه في ساعة واحدة، وأخرج البيهقي مرفوعا بلفظ إن الرجل يشتهي الولد في الجنة فيكون إلى آخره، وأخرج في التاريخ والبيهقي نحوه.
﴿ ومن أحسن ﴾ يعني لا أحد أحسن ﴿ قولا ممن دعا ﴾ الناس ﴿ إلى الله ﴾ إلى عبادة الله وتوحيده ﴿ وعمل صالحا ﴾ فيما بينه وبين ربه ﴿ وقال إنني من المسلمين ﴾ تفاخرا أو اتخاذا للإسلام دينا ومذهبا من قولهم هذا قول فلان لمذهبه، قال محمد بن سيرين والسدي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن هو المؤمن أجاب الله في دعوته ﴿ وعمل صالحا في إجابته وقال إنني من المسلمين ﴾ وقالت عائشة أرى هذه الآية نزلت في المؤذنين وقال أبو أمامة الباهلي دعا إلى الله يعني أذن وعمل صالحا صلى ركعتين بين الأذان والإقامة، قال قيس بن حازم عمل صالحا هو الصلاة بين الأذان والإقامة، من عبد الله بن معقل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة قال في الثالثة بين كل أذانين صلاة لمن شاء " متفق عليه، وعن أنس بن مالك قال لا أعلم وقد رفعه أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة " رواه أبو داود والترمذي.
فصل في فضل الأذان :
عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة " رواه مسلم، وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة " رواه البخاري، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة وأغفر للمؤذنين " .
رواه أحمد وأبو داود والترمذي والشافعي، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أذن سبع سنين محتسبا كتب له براءة من النار " رواه الترمذي وابن ماجه وأبو داود، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثلاثة على كثبان المسك عبد أدى حق الله وحق مولاه ورجل أم قوما وهم به راضون ورجل ينادي بالصلوات الخمس كل يوم وليلة " رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس وشاهد الصلاة يكتب له خمس وعشرون صلاة ويكفر عنه ما بينهما " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثنتان لا تردان أو قلما تردان الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا " وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة وبكل إقامة ثلاثون حسنة " رواه ابن ماجه، وعنه قال كنا نؤمر بالدعاء عند أذان المغرب، رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
فصل في جواب الأذان :
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي " رواه مسلم، وعن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر " الحديث، يعني يقول مثل ما يقول المؤذن " وحين يقول حي على الصلاة وحي على الفلاح يقول لا حول ولا قوة إلا بالله دخل الجنة " رواه مسلم، وعن عبد الله بن عمر قال رجل يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعطه " رواه أبو داوود.
﴿ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ﴾ في الجزاء وحسن العاقبة ولا الثانية مزيدة لتأكيد النفي يعني مهما أمكن للإنسان فلا بد أن يختار الخصلة الحسنة على الخصلة السيئة فليختر الصبر على الغضب والحلم على الجهل والعفو على الانتقام والسخاء على البخل والشجاعة على الجبن والعفة على العنت ﴿ ادفع بالتي ﴾ أي بالخصلة التي ﴿ هي أحسن ﴾ المراد بالأحسن هاهنا الزائد في الحسن مطلقا إذ لا حسن في السيئة أصلا، قال ابن عباس أمر بالصبر في مقابلة من يغضب عليه وبالحلم في مقابلة من يجهل عليه وبالعفو في مقابلة من يسيء إليه، وقيل معناه لا تستوي الحسنة في جزئياتها ولا تستوي السيئة في جزئياتها بل بعضها فوق بعض في الحسن والسوء فإذا اعترضك من بعض أعدائك سيئة فأدفعها بأحسن الحسنات كما لو أساء إليك رجل فالحسنة أن تعفو عنه والتي أحسن أن تحسن إليه ﴿ فإذا الذي بينك وبينه عداوة ﴾ إذا للمفاجأة أضيف إلى الجملة والعامل فيه معنى المفاجأة والمعنى فوجئ ذلك وقت صيرورة الذي بينك وبينه عداوة ﴿ كأنه ولي حميم ﴾ الذي مبتدأ وكأنه خبر وإذا ظرف لمعنى التشبيه، وقوله إدفع إلى آخره جملة مستأنفة كأنه قيل كيف أصنع إذا أساء أحد إلي فقال ادفع، قال مقاتل بن حبان نزلت في أبي سفيان بن حرب وليس بسديد لأن الآية مكية وإسلام أبي سفيان كان بعد الفتح
﴿ وما يلقاها ﴾ جملة معترضة أي ما يؤتى هذه الخصلة وهي مقابلة الإساءة بالإحسان ﴿ إلا الذين صبروا ﴾ على مخالفة النفس والهوى ﴿ وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ﴾ من التجليات الصفاتية والذاتية فإن النفس إذا تجلت عليها الصفات الحسنى انسلخت من صفاتها السوأى
﴿ وإما ينزغنك ﴾ عطف على ادفع وما زائدة اتصلت بأن الشرطية ﴿ من الشيطان نزغ ﴾ النزغ شبه النخس والشيطان ينزغ كأنه ينخس ويبعث على المعصية، وفي القاموس نزغه كمنعه طعن فيه ونزغ بينهم أفسد وأغرى ووسوس وهو فعل الشيطان أسند إلى نزغه مجازا على طريقة جد جده وعلى هذا من للابتداء أو أريد بالنزغ المسند إليه الفارغ وصفا للشيطان بالمصدر مبالغة ومن الشيطان بيان له حال منه والمعنى وإن وسوس فيك الشيطان وحملك على الانتقام ومقابلة الإساءة بالإساءة ﴿ فاستعذ بالله ﴾ من شره ولا تطعه هذا جواب الشرط وجواب الأمر محذوف أي يدفع الله عنك ﴿ إنه هو السميع ﴾ لاستعاذتك ﴿ العليم ﴾ بنيتك وصلاحك.
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾ فإن كل واحد منها تدل على وجوب وجود صانعها وصفاته الكاملة ووحدانيته ﴿ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ ﴾ لأنهما مخلوقان مأموران مثلكم ﴿ واسجدوا لله الذي خلقهن ﴾ الضمير للأربعة المذكورة والمقصود تعليق الفعل بهما إشعارا بأنهما من عداد ما لا يعلم ويختار ﴿ إن كنتم إياه تعبدون ﴾ فإن السجود يختص لله تعالى وهذا موضع السجود عند الشافعي رحمه الله لاقتران الأمر به وهو مروي عن ابن مسعود وابن عمر، أخرج الطحاوي بسنده عن عبد الرحمان بن يزيد يذكر أن عبد الله ابن مسعود كان يسجد في الآية الأولى من ﴿ حم { ١ ﴾ } وأخرج بسنده عن نافع عن ابن عمر مثله
﴿ فإن استكبروا ﴾ عن الامتثال والسجود وشرط حذف جزاؤه وأقيم علته مقامه تقديره فإن استكبروا لا يضره ﴿ فالذين ﴾ أي لأن الذين ﴿ عند ربك ﴾ عندية غير متكيفة وهم الأنبياء والملائكة والأولياء ﴿ يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون ﴾ عطف أو حال أي لا يملون بل يتلذذون به قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحني يا بلال، قال أبو حنيفة رحمه الله هذا موضع السجود وهو المروي عن ابن عباس، أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه والطحاوي عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يسجد في الآية الأخيرة من ﴿ حم { ١ ﴾ } تنزيل، وزاد في رواية رأى رجلا يسجد عند قوله :﴿ إن كنتم إياه تعبدون ﴾ فقال له قد عجلت، وأخرج الطحاوي عن مجاهد قال سألت عن ابن عباس عن السجود الذي في ﴿ حم { ١ ﴾ } قال اسجد بآخر الآيتين، وروى الطحاوي أيضا بسنده عن أبي وائل أنه كان يسجد في الآية الأخيرة من حم وروي عن ابن سيرين مثله، وعن قتادة مثله قال صاحب الهداية هذا قول عمر، قال ابن همام كونه قول عمر غريب وأخذ أبو حنيفة هذا القول للاحتياط فإنه إن كان السجود عند تعبدون لا يضره التأخير إلى الآية الأخيرة وإن كان عند لا يسئمون لم يكن السجود قبله مجزيا.
وقال الطحاوي ما حاصله إن السجود في الآية الأخيرة هو مقتضى النظر وذلك أنا رأينا السجود المتفق عليه هو عشر سجدات منها الأعراف وموضع السجود منها قوله ﴿ إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ٢٠٦ ﴾ }.
ومنها الرعد وموضع السجود منها ﴿ ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ﴾ ومنها النحل وموضع السجود منها عند قوله ﴿ ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة ﴾ إلى قوله ﴿ يؤمرون ﴾ ومنها بني إسرائيل وموضع السجود منها قوله و﴿ يخرون للأذقان سجدا ﴾ على قوله ﴿ خشوعا ﴾ ومنها مريم وموضع السجود منها عند قوله ﴿ إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا ﴾ ومنها الحج والمتفق عليه فيها عند قوله ﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض ﴾ الآية ومنها الفرقان وموضع السجود منها عند قوله ﴿ وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان ﴾ الآية ومنها النمل وموضع السجود منها ﴿ ألا يسجدوا لله الذي يخرج. . . ﴾ الآية ومنها ﴿ الم { ١ ﴾ } تنزيل وموضع السجود منها عند قوله ﴿ إنما يؤمن بآياتنا ﴾ الآية ومنها ﴿ حم { ١ ﴾ } تنزيل وموضع السجود منها مختلف فيه فقال بعضهم ﴿ يعبدون ﴾ وبعضهم ﴿ وهم لا يسئمون ﴾.
وكان كل موضع من المواضع المذكورة موضع إخبار يعني من استكبار المتكبرين أومن خشوع الخاشعين ولزمنا مخالفة المتكبرين وموافقة الخاشعين وليس شيء منها بموضع أمر بالسجود وقد رأينا السجود مذكورا في مواضع أخر بصيغة الأمر منها قوله تعالى :﴿ اقنتي لربك واسجدي ﴾ ومنها ﴿ كن من الساجدين ﴾ وليس هناك سجود بالإجماع فالنظر يقتضي أن يكون كل موضع فيها الأمر بالسجود يحمل على الأمر بالعبادة والسجود الصلاتية وكل موضع فيها الأخبار يكون هناك سجدة التلاوة وهذا النظر يقتضي أن لا يكون في الحج سجدة ثانية لأنه بلفظ الأمر حيث قال الله تعالى :﴿ اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم ﴾ ومن ثم قال أبو حنيفة هي سجدة صلاتية يدل عليها المقارنة بالركوع وأن لا يكون في هذه السورة عند الآية الأولى سجدة لكونه بصيغة الأمر وأن يكون عند الآية الأخيرة لكونه بصيغة الإخبار، وهذا النظر يقتضي أن يكون في سورة ﴿ ص ﴾ سجدة تلاوة كما قال أبو حنيفة خلافا لغيره لأن موضع السجود منها إخبار ليس بأمر وهو قوله ﴿ فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ﴾ وكذا في سورة إذا السماء انشقت في قوله ﴿ فما لهم لا يؤمنون{ ٢٠ ﴾ } وإذا قرئ عليهم القرآن ﴿ لا يسجدون ﴾ فإنه موضع إخبار وليس بأمر، غير أن هذا النظر يقتضي أن لا يكون في سورة النجم واقرأ سجدة لأن موضع السجود منها قوله تعالى :﴿ فاسجدوا لله واعبدوا { ٦٢ ﴾ } وقوله تعالى :﴿ واسجد واقترب ﴾ وهما بصيغة أمر لكن أبو حنيفة رحمه الله ترك النظر هناك لاتباع ما قد ثبت عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا هناك وقد قال مالك لا سجود في المفصل، قلت وقد ذكرنا في سورة الحج ما يدل على أن فيها سجدتين والله أعلم.
﴿ ومن آياته ﴾ أي دلائل قدرته ﴿ أنك ترى الأرض خاشعة ﴾ يابسة غبراء لا نبات فيها مستعار من الخشوع بمعنى التذلل ﴿ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت ﴾ أي تحركت ﴿ وربت ﴾ أي علت وانتفخت بخروج النبات ﴿ إن الذي أحياها ﴾ أي أحيا نباتها ﴿ لمحيي الموتى ﴾ يوم القيامة ﴿ إنه على كل شيء ﴾ من الإحياء والإماتة ﴿ قدير ﴾.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا ﴾ قال مجاهد يلحدون في آياتنا بالمكاء والتصدية واللغو واللغط، وقال قتادة يكذبون آياتنا، وقال السدي يعاندون ويشاقون، قال مقاتل نزلت في أبي جهل، قلت : واللفظ يعم من يلحد بالتكذيب والإلغاء ومن يلحد بالتحريف والتأويل الباطل المخالف لتأويل السلف ﴿ لا يخفون علينا ﴾ فلا يأمنوا عن الجزاء والانتقام ﴿ أفمن يلقى ﴾ الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره يفتخر هؤلاء الكفار ويعجبون بأنفسهم أفمن يلقى ﴿ في النار ﴾ أبو جهل وأمثاله ﴿ خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة ﴾ أخرج ابن المنذر عن بشير بن فتح قال نزلت هذه الآية في أبي جهل وعمار بن ياسر وقيل من يأتي آمنا هو حمزة وقيل عثمان واللفظ يعمهم وغيرهم، ذكر الله سبحانه الآيتان آمنا في مقابلة الإلقاء في النار مبالغة وكان القياس أن يقال أفمن يلقى في النار خير أم من يدخل الجنة لأن مفاد الكلام أن الآتي آمنا خير ممن يلقى في النار فكيف من يكرم ويدخل الجنة ﴿ اعلموا ﴾ أيها الكفار ﴿ ما شئتم ﴾ من الكفر والمعاصي ﴿ إنه بما تعملون بصير ﴾ فأجازيكم على ما تعملون فيه تهديد شديد.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ ﴾ أي القرآن ﴿ لما جاءهم ﴾ أن مع جملتها بدل من قوله إن الذين يلحدون أو مستأنف وخبر إن محذوف مثل معاندون أو هالكون أو يجازيهم بكفرهم وقيل خبره قوله من بعد ﴿ أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ ﴿ وإنه ﴾ أي القرآن ﴿ لكتاب عزيز ﴾ حال أو استئناف، قال الكلبي عن ابن عباس أي كريم على الله، وقال قتادة أعزه الله فلا يجد الباطل إليه سبيلا
﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾ قال قتادة والسدي الباطل هو الشيطان لا يستطيع أن يغيره أو يزيد فيه أو ينقص منه، قلت : وهو يعم شياطين الإنس والجن كما أن الروافض زادوا في القرآن عشرة أجزاء فلم يستطيعوا ورد الله كيدهم وزادوا في بعض الآيات وبعض الألفاظ كما قالوا في قوله تعالى ﴿ إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ﴾ على ﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ﴾ ونحو ذلك فإنهم فعلوا ذلك وأبطل الله عملهم فلم يلتحق بالقرآن، قال الزجاج معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه وعلى هذا معنى الباطل الزيادة والنقصان، وقال مقاتل لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يجيء بعده كتاب يبطله أو ينسخه ﴿ تنزيل من حكيم ﴾ كامل الحكمة ﴿ حميد ﴾ يحمده كل مخلوق بما ظهر عليه من نعمة وهو حميد في نفسه لا يحتاج إلى أن يحمده غيره
﴿ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ﴾ قيل هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما يقول لك كفار مكة قد قيل مثله للأنبياء من قبلك أنه ساحر كذاب فاصبر كما صبروا ولا تغتم به، وقيل معناه ما أوحي إليك إلا مثل ما أوحي إليهم من التوحيد وأصول الدين والوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين وقيل مقول القول قوله ﴿ إن ربك لذو مغفرة ﴾ للمؤمنين ﴿ وذو عقاب أليم ﴾ للكافرين والجملة على الأول مستأنفة.
ولما قال الكفار اقتراحا وتعنتا هل أنزل القرآن بلغة العجم يعنون كما أنزلت التوراة والإنجيل نزلت ﴿ ولو جعلناه ﴾ أي لو جعلنا هذا الذكر الذي تقرأه على الناس ﴿ قرآنا عجميا ﴾ أي مقروءا بلغة العجم ﴿ لقالوا ﴾ يعني أهل مكة ﴿ لولا ﴾ هلا ﴿ فصلت ﴾ بينت ﴿ آياته ﴾ بلغة العرب حتى فهمناها هذه الجملة متصلة بجمل واردة في صدر السورة في مدح القرآن أعني كتاب آياته ﴿ ءأعجمي وعربي ﴾ قرأ هشام أعجمي بهمزة واحدة من غير مد على الخبر يعني كتاب أعجمي ورسول عربي والباقون بهمزتين على الاستفهام للإنكار فقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بهمزتين محققتين والباقون بهمزة ومدة وقالون وأبو عمرو يشبعانها لأن من قولهما إدخال الألف بين الهمزة المحققة والملينة وورش على أصله في إبدال الهمزة الثانية الفا من غير فاصل بينهما وابن كثير أيضا على أصله في جعل الثانية بين بين من غير فاصل وهكذا قرأ حفص وابن ذكوان في هذا المقام خاصة، قال مقاتل وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على يسار غلام لعامر الحضرمي وكان يهوديا يكنى أبا فكيهة فقال المشركون إنما يعلمه يسار فضربه سيده وقال إنك تعلم محمدا فقال يسار هو يعلمني فأنزل الله هذه الآية، وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال قالت قريش لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا فأنزل الله لقالوا لولا فصلت آياته الآية وأنزل الله بعد هذه الآية فيه لكل لسان، قال ابن جرير والقراءة على هذا أعجمي بلا استفهام ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ هو ﴾ أي القرآن ﴿ للذين آمنوا هدى ﴾ من الضلالة ﴿ وشفاء ﴾ التنكير للتعظيم أي من الأمراض والأوجاع ﴿ والذين لا يؤمنون ﴾ مبتدأ خبره ﴿ في آذانهم وقر ﴾ أي ثقل لقوله ﴿ وهو عليهم عمى ﴾ أي ظلمة وشبهة، قال قتادة عموا عن القرآن وصموا عنه فلا ينتفعون به والأخفش جوز العطف على معمولي عاملين والمجرور مقدم فالموصول عنده عطف على الموصول في ﴿ للذين آمنوا هدى وشفاء ﴾ ﴿ أولئك ينادون من مكان بعيد ﴾ تمثيل لهم في عدم قبولهم وعدم إستماعهم له بمن يصاح به من مسافة بعيدة.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ﴾ جواب لقسم محذوف يعني اختلف قوم موسى بالتصديق والتكذيب كما اختلف قريش في القرآن ﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ ﴾ في تأخير العذاب عن المكذبين إلى يوم القيامة أو إلى أجل معلوم ﴿ لقضي بينهم ﴾ لفرغ من عذابهم وعجل إهلاكهم ﴿ وإن هم ﴾أي المكذبين ﴿ لفي شك منه ﴾ أي من التوراة أومن القرآن ﴿ مريب ﴾ موقع في الريبة
﴿ من عمل صالحا فلنفسه ﴾ نفعه ﴿ ومن أساء فعليها ﴾ مضرته ﴿ وما ربك بظلام للعبيد ﴾ فلا يضيع عمل المحسنين ولا يزيد على جزاء المسيئين أورد صيغة المبالغة تعريضا على الكفار بأنهم هم الظلامون المبالغون في الظلم والله سبحانه لا يتصور منه الظلم أصلا لأن الظلم أن يتصرف أحد في ملك غيره بغير إذنه.
﴿ إليه يرد علم الساعة ﴾ أي علم وقت قيامها يرد إليه يعني يجب على كل من سئل عنها أن يقول الله أعلم إذ لا يعلمها إلا هو﴿ وما تخرج من ثمرات من أكمامها ﴾ أي من أوعيتها جمع كم بالكسر، قرأ نافع وابن عامر وحفص ثمرات على الجمع والباقون ثمرت على التوحيد بإرادة الجنس، وما نافية ومن الأولى مزيدة للاستغراق وثمرات في محل الرفع ويحتمل أن يكون ما موصولة معطوفة على الساعة ومن بيانية بخلاف قوله ﴿ وما تحمل من أنثى ﴾ فإنها نافية ومن زائدة البتة ﴿ ولا تضع ﴾ أي أنثى ﴿ إلا بعلمه ﴾ أي إلا مقرونا بعلمه حسب تعلقه به والمراد أنه كما لا يعلم بالساعة غيره كذلك لا يعلم بما يخرج من الثمرات وما تحمل أنثى إلا هو، قوله إلا بعلمه استثناء مفرغ يتوجه إلى الأفعال الثلاثة على سبيل التنازع أعمل الأخير وقدر في الأولين ﴿ ويوم يناديهم ﴾ أي يوم ينادي الله المشركين بقوله ﴿ أين شركائي ﴾ قرأ ابن كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها يسألهم الله تهكما وتوبيخا أين شركائي التي كنتم تزعمونها آلهة ﴿ قالوا ﴾ أي المشركون ﴿ آذناك ﴾ أعلمناك الآن ﴿ ما منا من شهيد ﴾ أي من يشهد لهم بالشرك الجملة حال يعني يتبرءون عنهم لما عاينوا العذاب أو المعنى ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم غابوا عنا
﴿ وضل عنهم ﴾ يعني لا ينفعهم أو غاب عنهم فلا يرون ﴿ ما كانوا يدعون ﴾ أي يعبدون ﴿ من قبل ﴾ ذلك اليوم يعني في الدنيا ﴿ وظنوا ﴾ أي أيقنوا ﴿ ما لهم من محيص ﴾ أي مهرب، الظن معلق عنه بحرف النفي وقيل جملة النفي سد مسد المفعولين.
﴿ لا يسئم ﴾ أي يمل ﴿ الإنسان ﴾ الكافر ﴿ من دعاء الخير ﴾ لا يزال يسأم الله تعالى المال والغنى والصحة ﴿ وإن مسه الشر ﴾ أي الشدة من الفقر والمرض ﴿ فيؤس ﴾ أي فهو يؤس من روح الله ﴿ قنوط ﴾ من رحمته
﴿ ولئن أذقناه ﴾ أي الكافر جواب قسم محذوف ﴿ رحمة ﴾ مالا وعافية ﴿ منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي ﴾ جواب للقسم لفظا وللشرط معنى يعني هذا حقي لما في من الفضل والعمل والعلم، أو هذا لي دائما لا يزول ﴿ وما أظن الساعة قائمة ﴾ أي تقوم ﴿ ولئن رجعت إلى ربي ﴾ قرأ أبو عمرو ونافع بخلاف عن قالون بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ إن لي عنده للحسنى ﴾ يعني لئن قامت القيامة على التوهم لكان لي عند الله الحالة الحسنة من الكرامة وذلك لاعتقاده أن ما له من الدنيا إنما هو لاستحقاقه الكرامة الغير المنفك عنه ﴿ فلننبئن الذين كفروا ﴾ جواب قسم محذوف والفاء للسببية ﴿ بما عملوا ﴾ قال ابن عباس لنفتنهم على مساوئ أعمالهم ﴿ ولنذيقنهم من عذاب غليظ ﴾ لا يمكنهم التقصي عنه
﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان ﴾ الكافر ﴿ أعرض ﴾ عن الشكر ﴿ ونآ بجانبه ﴾ أي ثنى عطفه، وقيل الجانب كناية عن النفس كالجنب في قوله تعالى :﴿ جنب الله ﴾ يعني ذهب بنفسه وتباعد عنه بكليته لكمال الغفلة ﴿ وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ﴾ أي كثير مستعار مما له عرض وسيع للإشعار بكثرته والعرب يستعمل الطول والعرض في الكثرة، يقال أطال في الكلام والدعاء وأعرض أي الكثر والعريض أبلغ من الطويل إذ الطول أطول الاتدادين فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله من ثم قال الله تعالى :﴿ جنة عرضها السماوات ﴾ ولا منافاة بين قوله ﴿ وإذا مسه الشر فيؤس قنوط ﴾ وبين قوله ﴿ فذو دعاء عريض ﴾ لأن الأولى في قوم آخرين ولعل الأولى في الكفار و﴿ لا يايئس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ و﴿ من يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون ﴾ والثانية في الغافلين من المؤمنين، وجاز أن يكون كلا الآيتين في الكفار والمراد أنهم إذا مسهم شر دعوا مخلصين له الدين فإذا رأوا تأخرا في الإجابة يئسوا وقنطوا بخلاف المؤمنين الصالحين فإنهم لا يقنطون ويرون في تأخير الإجابة حكمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إما أن يعجلها لهم وإما أن يدخرها لهم " أو يقال يؤس قنوط بالقلب وذو دعاء عريض باللسان أو قنوط الصنم وذو دعاء من الله تعالى.
مسألة :
من أحب أن يستجاب دعاؤه في الشدة فليكثر الدعاء في الرخاء كذا ورد في الحديث رواه،
﴿ قل أرأيتم ﴾ أخبروني ﴿ إن كان ﴾ القرآن ﴿ من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد ﴾ هذه الجملة متصلة بقوله تعالى :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ﴾ كان الأصل من أضل منكم فوضع الموصول موضع الضمير شرحا لحالهم وتعليلا لمزيد ضلالهم لأنه في تأويل قوله إن كان القرآن من عند الله كان حقا بلا شبهة وكان الكفر به شقاقا بعيدا من الحق وأنتم قد كفرتم به فلا أضل منكم
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق ﴾ قال ابن عباس يعني منازل الأمم الخالية ﴿ وفي أنفسهم ﴾ يعني يوم بدر وكذا قال قتادة، وقيل في أنفسهم البلايا والأمراض، وقال مجاهد والسدي في الآفاق ما يفتح القرى على محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين ﴿ وفي أنفسهم ﴾ فتح مكة، وقال عطاء وابن زيد في الآفاق يعني في أقطار السماوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والأنهار وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، قال البيضاوي في الأفاق يعني ما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية وما يسر له ولخلفائه من الفتوح والظهور على ممالك الشرق والغرب على وجه خارق للعادة ﴿ وفي أنفسهم ﴾ ما ظهر في ما بين أهل مكة وما حل بهم، أو ما في بدن الإنسان من عجائب الصنع الدالة على كمال القدرة ﴿ حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾ أي القرآن من عند الله والرسول مؤيد من الله أو التوحيد مؤيد من الله ودين الله حق أو الله هو الحق ﴿ أو لم يكف بربك ﴾ الباء زائدة وربك في محل الرفع على الفاعلية ولا تزاد الباء في الفاعل إلا مع كفى ﴿ أنه على كل شيء شهيد ﴾ بدل من الفاعل والمعنى أولم يكف أن ربك على كل شيء شهيد، والاستفهام للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره أتشك في عاقبة أمرك ولم يكف أنه تعالى على كل شيء شهيد محقق فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة أو لأنه تعالى مضطلع فيعلم حالك وحالهم أو المعنى ألم ينتهي الإنسان عن المعاصي ولم يكف له رادعا أنه تعالى مضطلع على كل شيء لا يخفى عليه خافية فيجازيه عليها، وقال مقاتل أولم يكف بربك شاهدا على أن القرآن من الله شهادته على ذلك جعله معجزا، وقال الزجاج معنى الكفاية أن الله تعالى قد بين من الدلائل ما فيه كفاية يعني أولم يكف بربك شاهدا لأنه على كل شيء شهيد لا يغيب عنه شيء.
﴿ ألا إنهم ﴾ يعني كفار مكة ﴿ في مرية ﴾ أي شك ﴿ من لقاء ربهم ﴾ أي من البعث والجزاء ﴿ ألا إنه بكل شيء محيط ﴾ علما بإجمالها وتفصيلها مقتدر عليها لا يفوقه شيء منها أو أنه محيط بكل شيء إحاطة ذاتية غير متكيفة لا يفوته شيء منها.