٢ مكية بإجماع المفسرين. انظر: الإيضاح ٤٠١، والمحرر الوجيز ١٤/١٦١، وتفسير ابن كثير ٤/٩١، والإتقان ١/١٠..
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فصلتسورة حم السجدة مكية
قوله تعالى: ﴿حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم﴾ - إلى قوله - ﴿ذَلِكَ رَبُّ العالمين﴾. قد تقدم القول في حم.
وقوله: ﴿تَنزِيلٌ﴾، أي: هو تنزيل، يعني: هذا القرآن تنزيل من الله الرحمن الرحيم على عبده محمد ﷺ.
ثم قال: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾، أي: هو كتاب فصلت آياته بالحلال والحرام، والفرائض والأحكام. وهو قول قتادة.
(وقال الحسن): فصلت بالوعد والوعيد.
وقيل: " كتاب " ارتفع على أنه خبر لتنزيل.
وقيل: معنى فصلت آياته: أنزلت شيئاً بعد شيء، ولم تنزل إلى الدنيا مرة واحدة.
ثم قال تعالى: ﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾، نصب " قرآناً على الحال، أي: فصلت آياته في حال جمعه، وقيل: نصبه على المدح، والمعنى أنه ليس بأعجمي بل هو عربي.
وهذا يدل على بطلام قول من قال: إن فيه من لغة العبريانية والنبطية ما لم تعرفه العرب. بل الذي فيه من ذلك قد أعربته العرب وغيرته بلسانها فصار من لغتها.
ويدل أيضاً هذا على بطلان قول من قال: إن في معاني باطنة لا تعلمها العرب فكيف ينزل بلغتها وهي لا تفهمه.
ثم قال تعالى: ﴿بَشِيراً وَنَذِيراً﴾، أي: يبشرهم - إن آمنوا وعملوا بما أمروا - بالخلود في الجنة وينذرهم - إن عصوا أو كفروا - بالخلود في النار.
وقوله: ﴿لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، معناه: لقوم يعقلون ما يقال لهم.
وهذا يدل على أن الله جل ذكره إنما خاطب العقلاء البالغين، وإن من أشكل عليه شيء من أمر دينه وجب عليه أن يسأل من يعلم.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾، أي: فأعرض كثير منهم عن الإيمان واستكبروا عن قبول ما جاءهم به محمد عليه السلام؛ فهم لا يصغون له فيسمعون ما فيه، استكباراً.
وقيل: معنى لا يسمعون، لا يقبلون ما جاءهم من عند الله تعالى.
" ويروى أن قريشاً اجتمعت في أمر النبي ﷺ فقال لهم عتبة بن ربيعة - وكان مقدماً في قريش، قد قرأ الكتب وقال الشعر وعرف الكهانة والسحر - أنا أمضي إلى محمد فاستخبر أمره لكم. فأتى النبي ﷺ وهو عند المقام بمكة، فقال: يا محمد، إن كنت
فقالت قريش: صبأ عتبة إلى دين محمد! امضوا بنا إليه. فجاؤوا منزل عتبة فدخلوا وسلموا وسألوه. فقال: يا قوم، قد علمتم أني من أكثركم مالا وأوسطكم حسباً، وأني لم أترك شيئاً إلا وقد علمته وقرأته وقلته، والله يا قوم، لقد قرأ علي محمد كلاماً ليس بشعر (ولا رجز) ولا سحر ولا كهانة، ولولا ما ناشدته الرحم ووضعت يدي على فمه لخفت أن ينزل بكم العذاب ".
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾، أي: وقال المشركون لمحمد ﷺ قلوبنا في أوعية قد تغطت بها فلا تفهم عنك ما تقول لها كقول اليهود للنبي ﷺ: قلوبنا لف وواحد الاكنة كنان.
﴿وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ﴾، أي: صمم، فلا تسمع منك ما تقول كراهة لقولك.
قال مجاهد: في أكنة: " كالجعبة للنبل "، وقال السدي: في أكنة: في أغطية.
ثم قال تعالى: حكاية عنهم: ﴿" وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ "، أي: حاجز فلا نجامعك على شيء مما تقول، نحن نعبد الأصنام وأنت تعبد الله سبحانه. فهذا هو الحاجز الذي بينهم وبين النبي ﷺ.
ثم قالوا له: ﴿فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾، أي: فاعمل يا محمد بدينك، إننا عاملون بديننا، ودع ما تدعونا إليه من دينك وندع دعاءك إلى ديننا.
وقيل: المعنى: فاعمل في هلاكنا وضرنا إنا عاملون في مثل ذلك منه.
﴿فاستقيموا إِلَيْهِ﴾، أي استقيموا على عبادته ولا تعبدوا غيره.
﴿واستغفروه﴾ على ما سلف من فعلكم في عبادتكم الأصنام من دونه وتوبوا إليه من ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة﴾، أي: (وقيوح) وصديد أهل النار لمن ادعى أن لله شريكاً لا إله إلا هو.
وقوله: ﴿الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة﴾، (معناه: الذين لا يعطون لله طاعة تطهرهم من الذنوب وتزكي أعمالهم، وهذا معنى قول ابن عباس وروي عنه أنه قال: الذين لا يؤتون الزكاة، أي): لا يشهدون ألا إله إلا الله.
وقال قتادة: معناه: الذين لا يقون بفرض زكاة أموالهم ولا يؤمنون بفرض ذلك عليهم، وكان يقال: إن الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك، وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنهـ أهل الردة على منعهم الزكاة مع إقرارهم بالصلاة. وقال رضي الله عنهـ: والله لو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه.
قال السدي: لو زكوا وهم مشركون لم تنفعهم.
وروى نافع عن ابن عمر: الذين لا يؤتون الزكاة: التوحيد.
وقال الربيع بن أنس: معناه، الذين لا يزكون أعمالهم فينتفعون بها.
قال الحسن: " عظم الله تعالى شأن الزكاة فذكرها. فالمسلمون يزكون والكفار لا يزكون، والمسلمون يصلون والكفار لا يصلون ".
ثم قال تعالى: ﴿وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ﴾، أي: وهم مع تركهم لإخراج زكاة أموالهم وكفرهم بأن الزكاة واجبة لا يصدقون بالبعث والجزاء.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالم﴾، أي: إن الذين صدقوا، الله ورسوله وعلملوا بما أمرهم الله تعالى ورسوله ﷺ وانتهوا عما نهوا عنه لهم الجنة.
قال ابن عباس: غير ممنون: غير منقوص، وقال مجاهد: " غير محسوب ".
وقيل: غير مقطوع، بل نعيمهم أبداً لا ينقطع.
يقال: (مننت الحبل) إذا قطعته، (وقد منه السفر إذا) قطعه.
وقيل معناه: لهم أجر لا يمن عليهم به من أعطاهم إياه، لأنه قد وعدهم به، ووعده تعالى ذكره حق عليه إتمامه. فلا منة تلحقهم في إتمام ما وعدهم به.
والمعنى: أتكفرون (بالله الذي) ابتدع خلق الأرضين السبع في يومين.
﴿وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً﴾، أي: أمثالاً تعبدونهم (من دون الله) ﴿ذَلِكَ رَبُّ العالمين﴾، أي: الذي ابتدع خلق الأرضين السبع في يومين مع غلظها وعظمها، وطولها وعرضها، وثبتها تحت أقدام الخلق حتى تصرفوا عليها، فهو خالق جميع الخلق ومالكهم، وله تصلح العبادة لا لغيره، واليومان هما: يوم الأحد والإثنين.
قال النبي ﷺ لليهود حين سألوه عن ذلك:
" خلق الله الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين) وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب. فهذه أربعة أيام " وهو قوله " ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ﴾ [فصلت: ١٠] "، أي: لمن سأل عن ذلك. " وسواء " مصدر عند سيبويه، أي: استوت استواء.
وقرأ أبو جعفر بالرفع على معنى: هي سواء.
قوله تعالى: ﴿" وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا﴾ - إلى قوله - ﴿طَآئِعِينَ "﴾.
أي: وجعل في الأرض جبالاً تثقلها أن تميل) بمن فوقها، وذلك يوم الثلاث على ما تقدم ذكره عن النبي ﷺ.
وروي عنه ﷺ أنه قال لليهود حين سألوه: " وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات (بقين) منه،
وروي عنه ﷺ أن اليهود قالت له بعدما أجابهم بهذه الجوابات، ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى (على) العرش قالوا (قد أصبت) لو أتممت فقلت: ثم استراح! فغضب النبي ﷺ من قولهم غضباً شديداً وأنزل الله تعالى عليه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فاصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ [ق: ٣٨ - ٣٩].
وقال ابن عباس: خلق الله يوماً واحداً سماه الأحد، ثم خلق ثانياً سماه الأثنين، ثم خلق ثالثاً سماه الثلاثاء، ثم رابعاً (سماه الأربعاء)، ثم خامساً سماه
وقال أبو هريرة: " أخذ رسول الله ﷺ بيدي فقال: " خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه، يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة "، وعن ابن عباس
. قال ابن عباس: ولذلك سميت يوم الجمعة لأنها اجتمع فيها الخلق.
قال ابن سلام: فقضاهن سبع سماوات وفي آخر ساعة من يوم الجمعة، ثم خلق آدم فيها على عجل وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة.
قال مجاهد: كل يوم كألف سنة مما تعدون.
قال بعض العلماء: لو أراد الله تعالى ذكره لخلقها كلها في وقت واحد، ولكنه أراد ما فيه الصلاح، وذلك لتتبين ملائكته أثر الصنعة شيئاً بعد شيء فتزداد في
وقوله تعالى / ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾، معناه: جعلها دائمة الخير لأهلها.
وقال السدي: بارك فيها، أي أنبت شجرها.
وقيل: معناه: زاد فيها من صنوف ما خلق من الأرزاق وثبته فيها.
والبركة: الخير الثابت.
وقوله: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا﴾، أي قدر فيها أرزاق أهلها ومعايشهم قاله الحسن وابن زيد.
وقال قتادة: أقواتها: صلاحها.
وعن قتادة أيضاً: وقدر فيها أقواتها، أي: خلق فيها جبالها وبحارها وشجرها وساكنها من الدواب كلها.
وقال مجاحد: وقدر فيها أقواتها، يعني: من المطر (الذي به تنبت) الأقوات
وقال عكرمة: " وقدَّر فيها أقواتها "، معناه: قدر في كل بلد منها ما لم يجعله في الآخر منها ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد، ينقل من بلد إلى بلد ما ليس في أحدهما من المتاع والطعام وغيره.
وروي مثل هذا عن مجاهد أيضاً، وهو قول الضحاك.
وقوله: ﴿في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾، أي: خلق (ذا وذلك) في أربعة أيام؛ أي: خلق الأرض والجبال، وبارك في الأرض وقدر فيها أقواتها، كل ذلك خلقه في أربعة أياك، أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الأربعاء.
وقد غلط قوم فأضافوا أربعة أيام كاملة إلى اليومين المتقدمين. وهذا
ولو قلت: اشتريت الدار في يومين، والعبيد والثياب في أربعة أيام، لم تدخل اليومان في الأربعة لاختلاف أنواع المشترى، ولا يكون ذلك إلا ستة أيام. فاعرف الفرق.
وقوله: ﴿سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ﴾ "، أي: سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض والجبال والشجر والأنهار والبحار وقدر الأقوات وغير ذلك من المنافع، قاله قتادة والسدي، وهو معنى قول ابن عباس.
وقيل: معناه: سواه لمن سأل ربه شيئاً مما به الحاجة إليه من الأرزاق، فإن الله
وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين. وإليه نزع ابن زيد في قوله. وهو اختيار الطبري.
فالمعنى: وقدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم الحاجة إليه وما يصلحهم، وقد تقدم الكلام في إعراب " سواء " وقراءته.
ولو شاء رجل جل ذكره لخلق جميع ذلك وأضعافه في وقت واحد، وهو الوقت الذي لا وقت أسرع منه، ولا أقل تقضياً منه، فهو على ذلك قادر، وإنما خلق جميع ذلك شيئاً بعد شيء لتستدل ملائكته استدلالاً بعد استدلال على قدرته. والله أعلم بذلك.
ثم قال تعالى: ﴿" ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ﴾، أي: ثم ارتفع إلى السماء ارتفاع قدرة لا ارتفاع نقلة.
" وهي دخان "، روي أن الدخان كان من تنفس السماء.
ومعنى إخباره تعالى عن السماء والأرض بالقول أنه جعل تبارك وتعالى فيهما ما يمزان به ويجيبان عما قيل لهما وذلك لا يعجزه تعالى إذا أراده.
وقال المبرد: هذا إخبار عن الهيئة، أي: صارتا في هيئة من قال ذلك بتكوينه تعالى لما أراد فيهما، كقول الشاعر: امتلأ الحوض، وقال: قطى، أي: صار في هيئة من يقول ذلك.
وقيل: إنما جاء ذلك بالياء والنون لأنه أخبر عنهما كما يخبر عمن يعقل من الذكور فجاء على لفظ الإخبار عمن يعقل.
قال ابن عباس: خلق الله الأرض أولاً، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، فلذلك قال: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠].
قال وهب بن منبه: خلق الله تعالى الريح فسلطها على الماء فضربت الماء حتى صار أمواجاً وزبداً، فجعل يفور من الماء دخان ويصعد في الهواء، فأمر الله تبارك وتعالى الزبد فجمد فمنه الأرض، وأمر الأمواج فجمدت فجعلها جبالاً رواسي، {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ /
قوله تعالى: ﴿فقضاهن سَبْعَ سماوات فِي يَوْمَيْنِ﴾ - إلى قوله - ﴿وَكَانُواْ يتَّقُونَ﴾، أي: فأحكمهن، وفرغ من خلقهن سبع سماوات في يومين، وذلك: يوم الخميس ويوم الجمعة.
قال السدي: ثم استوى إلى السماء وهي دخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها، فجعلها سبع سماوات في يوم الخميس ويوم الجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيها خلق السماوات والأرض.
وقوله: ﴿وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا﴾، معناه: وألقى. في كل سماء ما أراد. من الخلق. قال مجاهد، معناه: وألقى في كل سماء ما أمر به وأراده.
وقال قتادة: معناه: وخلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها.
وقيل: المعنى: وأوحى في كل سماء من الملائكة بما أراد من أمرها.
ثم قال تعالى: ﴿وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح﴾، يعني: بالكواكب.
قال السدي: جعل النجوم زينة وحفظاً من الشياطين.
وانتصب " حفظاً " على المصدر. قال الأخفش: معناه: وحفظناه حفظاً. لأن جعله فيها الكواكب يدل على أنه حفظها، لأنه اسم عطف على فعل فلا بد من إضمار فعل لتعطفه على الفعل الذي قبله وتنصب به حفظاً.
وقيل: التقدير: وجعلنا المصابيح حفظاً من استراق السمع. وهذا كله مردود على أول الكلام في المعنى. والتقدير: قل ائنكم لتكفرون بمن هذه قدرته، وتجعلون له
وقوله: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم﴾، أي: جميع ما ذكر من الخلق والآيات من تدبير العزيز في نقمته من إعدائه العليم بسرائر خلقه وبكل شيء، لا إله إلا هو.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾، أي: فإن أعرض قومك من قريش يا محمد عنك وعما جئتهم به، فلم يؤمنوا به، فقل لهم: أنذرتكم أيها الناس صاعقة تهلككم مثل صاعقة عاد (وثمود.
وقرأ أبو عبد الرحمن والنهعي: صعقة مثل صعقة عاد).
والصعقة: كل ما أفسد الشيء وغيره عن هيئته. وكذلك الصاعقة.
قال قتادة: معناه: فقل (لهم يا محمد): أنذركم وقيعة مثل وقيعة عاد وثمود.
وقال السدي: معناه: أنذركم عذاباً مثل عذاب عاد وثمود.
﴿إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾.
والمعنى: حين جاءتهم الرسل من بين أيدي الرسل ومن خلف الرسل (يعني: جاءت الرسل أبناء الذين أهلكوا بالصاعقة ومن خلف الرسل) الذين بعثوا إلى آبائهم. وذلك أن الله جل ذكره بعث إلى عاد: هوداً، فكذبوه من بعد رسل قد كانت تقدمت إلى آبائهم أيضاً فكذبوها فأهلكوا.
قال ابن عباس: معناه: أنه يريد الرسل التي كانت قبل هود، (والرسل التي كانت بعد هود)، بعث الله تعالى قبله رسلاً، (وبعده رسلاً) بأن لا يعبدوا إلا الله فقالوا: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة يدعوننا إلى الإيمان به ولم يرسلكم وأنت بشر مثلنا، ولكنه رضي بعبادتنا، فنحن بما أرسلتم به كافرون.
وقال الضحاك: الرسل الذين من بين أيديهم: من قبلهم، والذين من خلفهم، يعني: الذين بحضرتهم.
وقيل: الذين بين أيديهم، يعني: الذين بحضرتهم، (والذين من خلفهم، يعني:) الذي من قبلهم.
وقيل: هذا على التكثير، والمعنى: جاءتهم الرسل من كل مكان بأن لا يعبدوا إلا الله.
وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ أي: استكبروا عن أمر ربهم وتجبروا وأعجبهم بطشهم وقوتهم، وما أعطاهم الله من عظم الخلق وشدة البطش، ونسوا أن الذي خلق ذلك فيهم وأعطاهم إياه هو أشد منهم قوة، فجحدوا بآيات / الله تعالى وكفروا بها.
فقوله: ﴿وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ معطوف على " فاستكبروا " " وقالوا " وما بينهما اعتراض.
قال الله جل ذكره: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً﴾.
قال مجاهد: أرسل ريحاً شديدة (السموم) عليهم.
وأصل الصر في كلام العرب: البرد.
قال ابن القاسم: قال مالك: سئلت امرأة من بقية قوم عاد يقال لها: هرطة: أي عذاب الله أشد؟ قالت: كل عذاب الله شديد، وسلامته ورحمته: ليلة لا ريح فيها، ولقد رأيت العير تحملها الريح فيما بين السماء والأرض.
ويقال: ما فتح عليهم إلا مثل حلقة الخاتم، ولو فتح عليهم مثل منخر الثور لأكسبت الأرض.
قال ابن عباس: نحسات: متتابعات. وقال مجاهد: نحسات: مشائم.
وقال قتادة: نحسات: (مشائم نكدات).
وقال ابن زيد: نحسات/ ذات شر، ليس فيها من الخير شيء.
وقال الضحاك: نحسات: شداد.
﴿لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا﴾، أي: عذاب الهوان في الدنيا.
﴿وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى﴾، أي: أشد (هواناً).
﴿وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ﴾، أي: لا ينصرهم ناصر من عذاب الله فينقذهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾، أي: وأما ثمود) فبينا لهم سبيل الحق وطريق الرشاد.
قال ابن عباس: فهديناهم: بينا لهم ".
(وقال قتادة: فهديناهم: بينا لهم سبيل الخير) والشر.
وقال الضحاك: فهديناهم: أخرجنا لهم الناقة تصديقاً لما دعاهم إليه صالح، فاستحبوا الكفر على الإيمان.
وقال السدي: فاختاروا الضلالة والعمى على الهدى، وهو قول ابن زيد وغيره.
والرفع في " ثمود " عند سيبويه مثل: زيد ضربته.
وقيل: إن النصب الإختيار، لأن " أما " فيها معنى الشرط.
والشرط بالفعل أولى، وبه يكون، فلا بد من إضماره، فيعمل في ثمود
وقرأ ابن أبي إسحاق بالنصب. ورويت أيضاً عن الأعمش وعاصم وذلك على إضمار فعل مثل: زيداً ضربته.
ثم قال: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون﴾، أي: فأخذهم العذاب (المذل المهين)، فأهلكهم بما كانوا يكسبون من الكفر.
ثم قال: ﴿وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ﴾، أي: ونجينا المؤمنين من العذاب الذي نزل بالكفار من عاد وثمود.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار﴾ - إلى قوله - ﴿مِّنَ المعتبين﴾، أي: واذكر يا محمد نحشر هؤلاء المشركين وغيرهم من أعداء الله إلى نار جهنم.
﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾، أي: يحبس أولهم على آخرهم قاله السدي وقتادة وغيرهما.
قال أبو عبيدة: يوزعون: يدفعون.
يقال: وزعه يزعه، ويزعه، إذا كفه وحبسه.
ثم قال تعالى: ﴿حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم﴾. هذا الكلام فيه حذف مفهوم، واختصار بليغ، (وهذا أمر معجز) القرآن.
والتقدير: حتى إذا جاءوا النار سئلوا عن كفرهم وجحودهم، فأنكروا بعد أن شهد عليهم النبيئون والمؤمنون، فعند ذلك تشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون في الدنيا.
وأكثر المفسرين على أن الجلود هنا: الفروج. كنى عنها كما كنى عن
وقيل عنى بها الجلود بعينها، وهو اختيار الطبري لأنه الأشهر المستعمل في كلام العرب، ولا يحسن نقل المعروف في كلامها إلى غيره إلا بحجة ودليل يجب له التسليم.
قال ابن مسعود (Bهـ) يجادل المنافق عند الميزان ويدفع الحق ويدعي الباطل فيختم على فيه، ثم تستنطق جوارحه فتشهد عليه، ثم يطلق عنه فيقول: بعداً لكن وسحقاً، إنما كنت أجادل عنكن.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا﴾، (أي: وقال المشركون
﴿أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ فنطقنا.
" روى أنس أن النبي ﷺ ضحك ذات يوم يا رسول الله؟ قال: عجبت من مجادلة العبد ربه سبحانه يوم القيامة: قال: يقول: أي رب، أليس وعدتني ألا تظلمني؟! قال: (ذلك لك) قال: فإني لا أقبل علي شاهداً إلا من نفسي. قال: أو ليس كفي بي شهيداً وبالملائكة الكرام الكاتبين! قال: فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل. قال: فيقول لهم بعداً وسحقاً، عنكم، كنت أجادل ".
" وروى حكيم بن معاوية عن أبيه أن النبي ( ﷺ) قال: وأشار بيده إلى
وعن عقبة بن عامر أنه سمع النبي ﷺ يقول: " أول عظم يتكلم من الإنسان (يوم يختم على الأفواه " فخذه من رجل الشمال "، وفي حديث آخر) " فخذه وكفه ".
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، أي: تردون بعد مماتكم.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ﴾.
قال السدي: معناه: وما كنتم تستخفون من جوارحكم.
وقال مجاهد: معناه: " وما كنتم تتقون "، وقال قتادة: معناه: وما كنتم تظنون.
قال قتادة: والله إن عليك يا ابن آدم لشهوداً غير متهمة من بدنك فراقبهم واتق الله في سر أمرك وعلانيتك، فإنه لا تخفى عليه خافية، الظلمة عنده (ضوء، والسر) عنده علانية من استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل، ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: ﴿ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي: ولكن حسبتم أيها العاصون حين ركبتم المعاصي في الدنيا أن الله لا يعلم أعمالكم فلذلك
قال ابن مسعود: كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر: ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي، كثير شحوم أبدانهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أفهمه. فقال أحدهم، أترون أن الله يسمع ما نقول. فقال الرجلان: إذا رفعنا أصواتنا سمع، وإذا لم نرفع أصواتنا لم يسمع. فأتيت النبي ﷺ فذكرت له ذلك، فنزلت هذه الآية: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ...﴾ الآية.
ثم قال تعالى: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ﴾ أي: وذلك الذي جنيتم في الدنيا على أنفسكم من معاصي الله هو ظنكم الذي ظننتم أن الله لا يعلم ما تعملون، أهلككم ذلكم الظن فأصبح في الآخرة من الذين خسروا أنفسهم.
وذكر معمر أنه بلغه أنه: " يؤمر برجل إلى النار فيلتفت فيقول: يا رب، ما كان هذا ظني بك. قال: (وما كان ظنك) قال: كان ظني بك أن تغفر لي ولا تعذبني قال: فإني عند ظن عبدي ".
وقوله عن قول الكافرين: ﴿إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً﴾ [الجاثية: ٣٢] مثله.
قال قتادة: وذكر لنا أن نبي الله عليه وسلم كان يقول ويروي عن ربه تعالى: " عبدي أنا عند ظنه بي وأنا معه إذا دعاني ".
فمعنى الآية: وهذا الظن الذي ظننتم بربكم أنه لا يعلم كثيراً مما تعملون هو الذي أهلككم لأنكم من أجل هذا الظن الخبيث تجرأتم على محارم الله سبحانه، وركبتم ما نهاكم عنه فأهلككم ذلك وأصبحتم في القيامة من الذين خسروا أنفسهم فهلكوا.
وقد روى جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال: " من استطاع منكم ألا يموت إلا وهو يحسن الظن بالله فليفعل. ثم تلا " {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ " الآية.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ﴾، المعنى فإن يصبروا على النار أولا يصبروا فالنار مسكن ومأوى لهم.
﴿وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين﴾، أي: وإن يسألوا الرجعة إلى الدنيا والتخفيف من العذاب فما هم ممن يخفف عنهم ما هم فيه ولا يرجعون إلى الدنيا.
وقيل: المعنى: فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار فالنار مسكن لهم في الآخرة كما قال: ﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار﴾ [البقرة: ١٧٥].
وقيل: المعنى: وإن يستعتبوا في الدنيا وهم مقيمون على كفرهم فما هم من المعتبين.
والاستعتاب إنما يكون من الجزع. فهذا يدل على أنه في النار يكون ذلك.
ويقال: إن هذا جواب لقولهم: ﴿أَنِ امشوا وَاْصْبِرُواْ على آلِهَتِكُمْ﴾ فقال الله تعالى جل ذكره إن يصبروا على آلهتهم، أي: على عبادتها ﴿فالنار مَثْوًى لَّهُمْ﴾، وإن يستعتبوا يوم القيامة / فلن يعتبوا.
قوله تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ﴾ - إلى قوله - ﴿مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾.
أي: ونصبنا لهم نظراء من الشياطين فجعلناهم لهم قرناء يزينون لهم قبائح أعمالهم.
قال ابن عباس: القرناء هنا: الشياطين.
وحقيقة قيضنا سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا.
وقوله: ﴿فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾.
يعني: من أمر الدنيا فحسنوا ذلك، وحببوه لهم حتى آثروه على
وقوله: ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ قال مجاهد: حسنوا لهم أيضاً ما بعد مماتهم فدعوهم إلى التكذيب بالمعاد، وأنه لا ثواب ولا عقاب، وهو أيضاً قول السدي.
وقيل: معنى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ﴾، يعني: في النار فزينوا لهم أعمالهم في الدنيا.
والمعنى: قدرنا عليهم ذلك أنه سيكون وحكمنا به عليهم.
وقيل: المعنى: أخرجناهم إلى الاقتران فأحوجنا الغني إلى الفقير ليستعين به، وأحوجنا الفقير إلى الغني لينال منه، فحاجة بعضهم إلى بعض تقيض من الله تعالى لهم ليتعاونوا على طاعته فزين بعضهم لبعض المعاصي.
قال ابن عباس: ما بين أيديهم هو تكذيبهم بالآخرة والجزاء والجنة والنار،
وقيل: ما بين أيديهم: ما هم فيه، وما خلفهم: ما عزموا أن يعملوه.
ثم قال تعالى: ﴿وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾، أي: وجب لهم العذاب بكفرهم وقبولهم ما زين لهم قرناؤهم من الشياطين.
وقوله: ﴿في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس﴾، معناه: ووجب عليهم القول في أمم قد مضت قبلهم.
(أي ووجب عليهم من العذاب مثل ما وجب على أمم مضت قبلهم) من الجن والإنس لكفرهم وعملهم مثل عملهم.
وقيل: " في " هنا، بمعنى " مع ".
فالمعنى: ووجب عليهم العذاب بكفرهم مع أمم مضت قبلهم بكفرهم
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ﴾، أي: قال الملأ من قريش لأهل طاعتهم من العامة: لا تسمعوا لقارئ هذا القرآن إذا قرأه ولا تتبعوا ما فيه. وألغوا فيه بالباطل (من القول). إذا سمعتم قارئه يقرأه لا تسمعوا ولا تفقهوا) ما فيه. هذا قول ابن عباس.
وقال مجاهد: اللغو هنا: المكاء والتصفيق والتخليط (في المنطق) على رسول الله ﷺ، إذا قرأ القرآن أمروا سفهاءهم بذلك.
وقال قتادة: والغوا فيه، أي: اجحدوا وأنكروه وعادوه.
يقال: لغى يلغى، (ويلغو لغواً، ولغى ولغي يلغى لغى)
وقرأ ابن أبي إسحاق: " والغوا فيه " على لغا يلغو، واللغو في الكلام ما كان على غير وجهه مما يجب أن يطرح ولا يعرج عليه. واللغو أيضاً مما لا يفيد معنى من الكلام.
قال ابن عباس: كان النبي ﷺ إذا قرأ رفع صوته فتطرد قريش عنه الناس ويقولون: لا تسمعوا والغوا فيه لعلكم تغلبون، وإذا خافت لم يسمع من يريد، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا﴾ [الإسراء: ١١٠].
وعن ابن عباس أيضاً أن أبا جهل هو الذي قال هذا: إذا رأيتم محمداً يصلي فصيحوا في وجهه وشدوا أصواتكم بما لا يفهم حتى لا يدري ما يقول.
وروي أنهم إنما فعلوا ذلك لما أعجزهم القرآن، ورأوا من (يكرهه) يؤمن به لإعجازه بفصاحته، وكثرة معانيه وحسنه ورصفه.
﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ "، أي ولنجازينهم على قبيح أعمالهم في الدنيا.
ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ﴾، أي: جزاء المشركين في الآخرة النار، لهم فيها دار المكث أبداً.
﴿جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ﴾، أي: فعلنا بهم ذلك جزاء لهم بجحودهم في الدنيا بآياتنا، وكفرهم بها.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس﴾، أي: وقال الكفار يوم القيامة بعد دخولهم النار: ربنا أرنا اللذين أضلانا من خلقك من جهنم وإنسهم نجعلهما تحت أقدامنا في النار، لأن أبواب / جهنم بعضها تحت بعض فكل ما سفل كان أشد عذاباً مما علا، نعوذ بالله منها.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: هما إبليس الأبالسة وابن آدم الذي قتل
" روى أنس أن النبي ﷺ قرأ: ﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا﴾ - الآية " فقال: " قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم. فمن مات عليه فهو ممن استقام ".
وقيل: معناه: ثم لم يشركوا به شيئاً. قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنهـ.
وروي عنه أنه هذه الآية قرئت عنده فقال: هم الذين لم يشركوا به شيئاً، فقالوا: لم يعصوا الله؟ فقال أبو بكر: لقد ضيقتم الأمر، إنما هو: ثم استقاموا (على ألا
وعنه أنه قال: ثم استقاموا: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان.
وقال مجاهد: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله، ثم لم يشركوا حتى لقوه.
وروى الزهري أن عمر رضي الله عنهـ تلا هذه الآية فقال: استقاموا - والله - على طاعة الله ولم يروغوا روغان الثعلب.
وقال قتادة: استقاموا على طاعة الله تعالى.
وكان الحسن إذا قرأها قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الإستقامة.
وقال ابن زيد: استقاموا على (عبادة الله وعلى طاعته).
وقيل: لم يحدثو بعد إيمانهم كفراً. لأن المشركين قالوا: ربنا الله وعبدوا الأصنام وقالوا: الملائكة بنات الله سبحانه، وقالت اليهود: ربنا الله، ثم كفروا فقالوا: عزير ابن الله سبحانه وكفروا بمحمد، (وقالت النصارى: ربنا الله ثم كفروا وقالوا
وقوله ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة﴾، معناه: تتهبط عليهم الملائكة من عند الله عند نزول الموت بهم. قاله مجاهد والسدي.
يقولون لهم: لا تخافوا مما قدامكم، ولا تحزنوا على ما خلفكم، وأبشروا بالجنة التي وعدكموها الله تعالى، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وقرأ ابن مسعود: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة﴾ لا تخافوا، أي: قائلة لهم: لا تخافوا مما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم.
وقال السدي: معناه: لا تخافوا مما أمامكم ولا تحزنوا على ما بعدكم.
وقال مجاهد: معناه: ألا تخافوا مما تقجمون عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتم من جنياكم من أهل، وولد، ودار فإنا نخلفكم في ذلك كله.
قال زيد بن أسلم: البشارة في ثلاثة مواطن: عند الموت، وعند القبر، وعند البعث.
فالمعنى: تقول لهم الملائكة: نحن كنا نتولاكم في الدنيا وهم الحفظة الكتبة، قاله السدي، قال: هم الحفظة وهم أولياء المؤمن في الآخرة كما كانوا أولياءه في الدنيا.
﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ﴾، أي: لكم ذلك في الجنة.
﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾، أي ما تريدون، وتدعون ما شئتم يأتكم.
وقوله: ﴿نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾، أي: أنزلهم الله تعالى تعالى ذلك نزلاً، فهو مصدر، وقيل: في موضع الحال. والمعنى: منزلين ﴿نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ﴾ للذنوب لمن تاب منها، ﴿رَّحِيمٍ﴾ بمن آمن وتاب.
قال ثابت البناني: بلغنا أن المؤمن يتلقاه ملكاه - اللذان كانا معه في الدنيا
قوله تعالى ذكره ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله﴾ - إلى قوله - ﴿وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ﴾ معناه: لا أحد أحسن قولاً ممن هذه صفته، أي: ممن قال: ربنا الله ثم استقام على الإيمان به والقبول لأمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال به وما عمل. وقرأ الحسن يوماً هذه الآية فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي والله، هذا صفوة الله، هذا خير الله، هذا أحب الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال إنني من المسلمين؛ فهو خليفة الله سبحانه.
فالآية عند الحسن لجميع المؤمنين.
وقال قتادة: هذا عبد صدق قوله عمله، ومولجة مخرجه، وسره علانيته وشاهد مغيبه، ثم قال: وإن المنافق عبد خالف قوله عمله ومولجه مخرجه، وسره
قال السدي: عني بهذه نبي الله محمداً ﷺ، دعا إلى الله جل ذكره، وعمل صالحاً، وقاله ابن زيد وابن سيرين).
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: نزلت في المؤذنين.
وقال عكرمة: قوله: ﴿مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله﴾، يعني: المؤذنين. ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً﴾، قال: صلى وصام.
وذكر في حديث يرفعه: " أول من (يقضي) الله له بالرحمة يوم القيامة المؤذنون، وأول المؤذنين مؤذنو مكة. قال: والمؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة. والمؤذنون إذا خرجوا من قبورهم أذنوا فنادوا بالآذان، والمؤذنون ولايدودون في قبورهم.
وقال قيس بن أبي حازم: ﴿مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله﴾، قال: هو المؤمن ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً﴾، قال: الصلاة بين الأذان إلى الأقامة.
وهذه الآية تدل على أنه جائز أن يقول المسلم: أنا مسلم بلا استثناء، أي: قد استسلمت لله تعالى وخضعت له بالطاعة جلة عظمته.
ثم قال تعالى ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة﴾ " لا " الثانية زائدة للتأكيد.
والمعنى: لا يستوي الإيمان بالله تعالى، والعمل بطاعته سبحانه، والشرك بالله تعالى والعمل بمعصيته تعالى.
قال عطاء: الحسنة هنا: لا إله إلا الله، والسيئة الشرك.
وقال ابن عباس في الآية: أمر الله تعالى المسلمين بالصبر عند الغضب والحلم والعفو عند الإساءة. فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم حتى يصير كأنه ولي حميم.
وقال مجاهد: معناه: ادفع بالسلام إساءة من أساء إليك، تقول له إذا لقيته السلام عليكم، وقاله عطاء.
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: هما الرجلان يسب أحدهما الآخر، فيقول المسبوب للساب: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، فيصير الساب كأنه صديق لك، قريب منك. والحميم: القريب.
قال المبرد: " الحميم: الخاص ".
وقيل: المعنى: ما يلقى شهادة ألا إله إلا الله إلا الذين صبروا على المكاره والأذى في الله تعالى، وما يلقى ذلك إلا ذو حظ عظيم في الآخرة.
ونزل هذا كله بمكة والمؤمنون يؤذون على الإيمان، ويمتحنون ويعذبون حتى فروا إلى أرض الحبشة.
وقيل: إنها والتي قبلها نزلتا في أبي بكر رضي الله عنهـ. ثم هي عامة في كل من كان على طريقته ومنهاجه.
وقال قتادة: الحظ العظيم هنا: الجنة: وقاله ابن عباس أيضاً.
" وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنهـ شتمه رجل ورسول الله ﷺ شاهد فعفا عنه ساعة؛ ثم إن أبا بكر جاش به الغضب فرد عليه، فقام النبي ﷺ، فاتبعه أبو بكر وقال: يا نبي الله شتمني الرجل فعفوت عنه وصفحت وأنت قاعد؛ فلما أخذت أنتصر
ثم قال تعالى ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله﴾، أي: وإما يلقين الشيطان - يا محمد - في نفسك وسوسة من العزيمة على مجازاة المسيء بإساءته فاستجر بالله واعتصم به من عمل الشيطان.
﴿إِنَّهُ هُوَ السميع﴾ لاستعاذتك واستجارتك به.
﴿العليم﴾ بما ألقى الشيطان في نفسك من نزعاته هذا قول السدي وقال ابن زيد: هو الغضب.
ثم قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر﴾، أي: ومن علاماته وأدلته التي تدل على وحدانيته وقدرته وحجته على خلقه وعظيم سلطانه اختلاف الليل والنهار، ومعاقبة كل واحد منهما الآخر. والشمس والقمر مسخرات لا يدرك أحدهما الآخر.
ثم قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر﴾، فإنما هما خلق
وقوله: ﴿خَلَقَهُنَّ﴾ جاء بلفظ التأنيث، والجمع رد على الليل والنهار والشمس والقمر وأنث، كما يؤنث جمع ما لا يعقل وإن كان مذكراً إذا كان من غير بني آدم.
وقيل: الضمير يعود على الشمس والقمر، وأتى الجمع في موضع التثنية لأن الاثنين جمع.
وقيل: الضمير يعود على معنى الآية.
وقوله: ﴿إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، أي: أخلصوا لله وحده إن كنتم / إياه تعبدون، وهذا موضع السجدة عند مالك.
ثم قال تعالى ﴿فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ باليل والنهار﴾، أي: فإن استكبر هؤلاء الذين أنت - يا محمد - بين أظهرهم، عن السجود والخضوع لله الذي خلقهم وخلق الشمس، فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك: على جلالة قدرهم، بل يسبحون له ويصلون ليلاً ونهاراً.
﴿وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ﴾، أي: لا يفترون ولا يملون.
ومعنى ﴿عِندَ رَبِّكَ﴾، أي: في طاعته وعبادته، لم يعن القرب من مكانه لأن المكان على الله تعالى لا يجوز ولا يحتاج إلى مكان لأن المكان محدث وقد كان تعالى ذكره ولا مكان. فالمعنى: فالذين في طاعة ربك وعبادته يسبحون له.
قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً﴾ - إلى قوله - ﴿مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾.
﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء﴾، يعني: المطر.
﴿اهتزت﴾ يعني: بالنبات.
﴿وَرَبَتْ﴾، أي: انتفخت وارتفعت. قال قتادة: خاشعة، أي: غبراء متهشمة. وقال السدي: يابسة متهشمة. وأصل الاهتزاز: التحرك.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى﴾، أي: إن الذي أحيى الأرض الدراسة فأخرج منها النبات وجعلها تهتز بالزرع بعد يبسها، قادر على أن يحيي أموات بني آدم بالماء أيضاً بعد مماتهم.
قال السدي إنه كما يحيي الأرض بالمطر، كذلك يحيي الموتى بالمطر أيضاً وذلك مطر ينزله الله بين النفختين.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا﴾، أي: يميلون عن الحق في حججنا وأدلتنا ويعدلون عنه تكذيباً وجحوداً لا يخفون على الله سبحانه، بل هو عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها يوم القيامة.
قال مجاهد يلحدون في آياتنا يعني: المكاء والصفير واللغو عند القرآن، استهزاء منهم به، ومعارضة منهم للقرآن.
وقال قتادة: يلحدون: يكذبون.
وقال السدي: يلحدون " يعاندون ويشاقون ".
وقال ابن زيد: هم أهل الكفر والشرك بآيات الله سبحانه.
وقال ابن عباس: هم الذين يبدلون آيات الكتاب فيضعون الكلام في غير موضعه.
وأصل الإلحاد: الميل عن الحق، ومنه سمي اللحد لحداً لميله في جانب القبر.
قال عكرمة: أفمن يلقى في النار: هو: أبو جهل: ومن يأتي آمناً، هو: عمار ابن ياسر).
وقيل: هو حمزة رضي الله عنهما. وقيل هو عام.
والمعنى: الكافر خير أم المؤمن؟ وخوطبوا بذلك على دعواهم. ولا يجوز أن يخاطب بهذا المؤمنون، لأنهم قد علموا أنه لا خير في الكافر.
والمعادلة " بأم " لا تكون إلا بين شيئين متقاربين في المدح أو في الذم، ولا قرب بين الكافر والمؤمن في مدح ولا ذم. الذم كله للكافر، والمدح كله للمؤمن. فإنما جاءت هذه الآية وما أشبهها خطاباً للكفار، لأنهم كانوا يدعون أن فيهم خيراً
ثم قال تعالى: ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، هذا وعيد وتهدد وليس بإباحة لهم أن يعملوا ما يريدون، إنما هو تواعد وإعلام أن الله تعالى ذو خبر وعلم بما يعملون لا يخفى عليه شيء.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَآءَهُمْ﴾، يعني القرآن.
وخبر " إنَّ " عند الكسائي قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل " إنَّ " وهو قوله: " أفمن يلقى في النار " ونحوه.
وقيل: الخبر: ﴿أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾.
وقيل: الخبر محذوف، والتقدير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم خسروا وكفروا بمعجزه، ونحوه.
ودل على هذا اللفظ قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ (وهذا مذهب الفراء. وقيل: التقدير في المحذوف: أهلكوا.
قال قتادة: وإنه لكتاب عزيز أعزه الله لأنه كلامه وحفظه من الباطل.
وقيل: معنى النفي في (هذه: التكثير). والمعنى " لا يأتيه الباطل البتة.
وقال الطبري: معناه: لا يقدر (ذو باطل بكيده بتغيير ولا تبديل، وذلك هو الإتيان من بين يديه. ومعنى: " ولا من خلفه "، أي: ولا يستطيع ذو باطل أن يلحق فيه) ما ليس فيه.
وقيل: المعنى: لم يتقدمه كتاب يبطله، ولن يأتي بعده كتاب يخالفه. وهذا قول حسن.
ثم قال تعالى ﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، أي: من عند ذي حكمة بتدبيره عباده، محمود على نعمه على خلقه.
ثم قال تعالى: ﴿مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ﴾.
وقيل: عزيز، أي قاهر لا يقدر أحد أن يأتي بمثله.
وقوله تعالى: ﴿لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ قال / قتادة: الباطل الشيطان، لا يستطيع أن ينتقص منه حقاً، ولا يزيد فيه باطلاً ".
وقال السدي: الباطل: الشيطان، لا يستطيع أن ينتقص منه حقاً، ولا يزيد فيه باطلاً ".
وقال السدي: الباطل: الشيطانن لا يستطيع أن يزيد فيه حرفاً ولا ينقص.
وقال الضحاك وابن جبير: " معناه: لا يأتيه كتاب من قبله فيبطله ولا من بعده ".
فيكون الباطل على هذا القول بمعنى: (البطول). وفاعل يقع بمعنى المصدر مثل: عافاه الله عافية.
وقيل: معنى " من بين يديه ": بعد نزوله كله " ولا من خلفه " قبل تمامه.
وقيل: المعنى: لا يأتيه الباطل من قبل أن ينزل، لأن الأنبياء قد بشرت به فلم يقدر الشيطان أن يدحض ذلك.
ولا من خلفه بعد أن أنزل.
قال قتادة: في الآية: إن الله جل ذكره يعزي نبيه ﷺ بهذا. ومثله قوله: ﴿كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات: ٥٢].
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾، أي: لذو ستر على ذنوب التائبين من الكفر، العاملين بأمره، المطيعين له.
﴿وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ لمن دام على كفره.
فالناس يلقون الله تبارك وتعالى على طبقات أربع: مطيع مؤمن، يدخله الجنة، وتائب مؤمن، يقبل توبته ويدخله الجنة؛ ومصر على المعاصي، وهو في مشيئة الله تعالى إن شاء عاقبة، وإن شاء عفا عنه؛ وكافر يدخله النار حتماً، لقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨].
أي: خلقناهم لها.
ثم قال تعالى ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾، أي: ولو جعلنا هذا القرآن أعجمياً (لقال قومك: يا محمد هلا بينت آياته فنفهمهن أقرآ، أعجمي ونبي عربي. أي: لكانوا يقولون ذلك إنكاراً له.
قال ابن جبير: معناه: لو كان هذا القرآن أعجمياً لقالوا: القرآن أعجمي ومحمد عربي).
وقال السدي: معناه: لو كان هذا القرآن أعجمياً لقالوا: نحن قوم عرب، ما لنا وللعجمة.
قال ابن جبير: قالت قريش: هلا أنزل هذا القرآن أعجمياً وعربياً فأنزل الله تعالى " لقالوا ﴿لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾.
والأعجمي: المنسوب إلى اللسان الأعجمي، يقال: رجل أعجمي إذا كان لا يفصح - كان من العرب أو العجم، ويقال رجل عجمي إذا كان من الأعاجم فصيحاً كان أو غير فصيح.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ﴾، أي: قل يا محمد: هذا القرآن للذين آمنوا به وصدقوا بما فيه " هدى "، أي: بيان للحق " وشفاء "، (أي: دواء)
ثم قال تعالى: ﴿والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾، أي: والذين لا يؤمنون به وبما في آذانهم صمم عن استماع لا ينتفعون به.
﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾، أي: وهذا القرآن على قلوب المكذبين به عمى لا يبصرون حججه وما فيه من المواعظ.
قال قتادة: عموا وصموا عن القرآن، فلا ينتفعون به، ولا يرغبون فيه.
وقال السدي: عميت قلوبهم عنه.
قال ابن زيد: (العمى: الكفر).
وقرأ ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاص: وهو عليهم عم " على
ثم قال تعالى ﴿أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾.
هذا تشبيه لبعد قلوبهم عن قبول الحق والموعظة.
والعرب: تقول للرجل البعيد الفهم: " إنك لتنادي من بعد " ويقولون للفهيم: إنك لتأخذ الأمر من قريب.
قال مجاهد: معناه " بعيد من قلوبهم "، وقاله الثوري وقال ابن زيد: ضيعوا أن يقبلوا الأمر من قريب (ويتوبون ويؤمنون فيقبل) منهم فماتوا.
وقال الضحاك: هذا يوم القيامة، ينادون بأشنع أسمائهم ليفضحوا على رؤوس الخلائق / فيكون أعظم في توبيخهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ﴾ - إلى قوله -
والمعنى: ولقد أعطينا موسى التوراة كما آتينا يا محمد القرآن فاختلف بنو إسرائيل في العمل بما في التوراة كما اختلف قومك في الإيمان بما جئتم به.
﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ يا محمد فيمن كفر (بك، وهو أنه تقدم في علمه وقضائه تأخير عذابهم إلى يوم القيامة.
﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أي لجاءهم العذاب فيفصل بينهم فيما اختلفوا فيه فيهلك المبطلين، وينجي المؤمنين.
قال السدي: أخروا إلى يوم القيامة.
قال الزجاج: " الكلمة: وعدهم بالساعة، قال (الله تعالى ﴿بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ﴾ [القمر: ٤٦] ".
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾، أي: وإن الفريق المبطل منهم لفي (شك مما قالوا) فيه مريب يريبهم قولهم فيه، لأنهم قالوه بغير ثبت وإنما قالوه ظناً.
ثم قال تعالى: ﴿مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾، أي: من عمل صالحاً في
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بظلام لِّلْعَبِيدِ﴾ أي: وما ربك يا محمد يحمل ذنب مذنب على غير مكتسب بل لا يعاقب أحداً إلا على جرمه.
ثم قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة﴾، (أي: إلى الله يرد العالمون به علم الساعة)، لأنه لا يعرف متى قيامها غيره.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا﴾، أي: (وما يظهر) من ثمرة (الشجرة من الموضع) الذي هي مغيبة فيه إلا بعلمه.
قال السدي: من أكمامها: من طلعها.
قال المبرد: هو ما يغطيها. وواحد الأكمام. كم. ومن قال في الجمع أكمة قال في الواحد كمام.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾، (أي: ما تحمل من ولد حين
ثم قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي﴾، أي: واذكر يا محمد يوم ينادي الله تعالى هؤلاء المشركين فيقول لهم أين شركائي الذين كنتم تشركونهم في عبادتي؟
والمعنى: أين شركائي على قولكم.
ثم قال تعالى: ﴿قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ﴾، أي: أجابوه عن سؤالهم لهم، فقالوا: أعلمناك ما منا من شهيد أن لك شريكاً.
ثم قال تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ﴾، أي: وضل عن هؤلاء المشركين يوم القيامة آلهتهم التي كانوا يدعونها في الدنيا فأخذ بها عن طريقتهم فلم تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله سبحانه.
ثم قال تعالى: ﴿وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ﴾، أي: وأيقنوا أنه لا محيص لهم من عذاب الله تعالى ولا ملجأ منه جلت عظمته.
قال أبو عبيدة: يقال: حاص يحيص إذا حاد.
وقيل: " المحيص: المذهب الذي ترجى فيه النجاة ".
والوقف عند غيره على " محيص " لأن المعنى: أيقنوا أنه لا ينفعهم الفرار.
ثم قال تعالى ﴿لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير﴾، أي: لا يسأم الكافر من دعائه بالخير ومسألته إياه ربه تعالى.
والخير هنا: المال وصحة الجسم، (فهو لا يمل) من طلب ذلك والاستزادة منه.
﴿وَإِن مَّسَّهُ الشر﴾، أي: ضر في نفسه أو جهد في معيشته.
﴿فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾، أي: فهو يئوس من روح الله تعالى وفرجه، قنوط من رحمته، أي: لا يؤمل أن يكشف عنه ذلك.
ويقال: إن هذه الآية نزلتل في الوليد بن المغيرة.
وقال السدي وغيره: الإنسان هنا: الكافر.
وفي قراءة عبد الله " من دعاء بالخير ".
ثم قال تعالى جل ذكره: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي﴾، أي: ولئن كشفنا عنه الشر الذي نزل به ليقولن هذا لي عند الله لأن الله راض عني وعن عملي.
﴿وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً﴾: شك الكافر في قيام الساعة.
ثم قال: ﴿وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى﴾، أي: إن كان ثم بعث وحشر - على طريق الشك - فلي الحسنى عند ربي، أي: لي عنده - إن حشرت بعد موتي - غنى ومال.
فالمعنى أنه قال: لست أؤمن بالبعث ولا أصدق به، فإن كان الأمر على خلاف ذلك وبعثت بعد موتي، فلي عند ربي مال وغنى أقدم عليه.
ثم قال تعالى ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ﴾، أي: فلنخبرهم بما قصوا / من (الأباطيل وما عملوا من المعاصي).
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ على فعلهم وهو النار، والخلود فيها، لا يموتون (ولا يحيون).
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾، أي: وإذا كشفنا الضر
ومعنى " بجانبه ": قال السدي: أعرض: صد بوجهه، ونأى بجانبه: تباعد عن القبول.
ثم قال: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ﴾، أي: وإذا مسه الضر والفقر والجهد ونحوه فهو ذو دعاء (كثير إلى ربه. فأن الرجل إذا كان في نعمة تباعد عن ذكر الله ودعائه، فإذا مسه الشر فهو ذو دعاء) عريض، أي كثير.
قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله﴾ - إلى آخر السورة.
أي: قل يا محمد للمكذبين للقرآن، أرأيتم إن كان هذا القرآن الذي كذبتم به ولم تؤمنوا به من عند الله ثم كفرتم به ألستم في فراق للحق وبعد من الصواب. وهو معنى قوله: ﴿مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ إلا أنه جعل الخبر في مكان التقدير وفي الكلام حذف، والتقدير: ثم كفرتم به أمصيبون أنتم أم ضالون.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ﴾، أي: سنرى هؤلاء المكذبين بما أنزلنا آياتنا في الآفاق، يعني: وقائع النبي ﷺ بالمشركين.
وقال ابن زيد: آياتنا في الأفاق يعني: في السماوات ونجومها وشمسها وقمرها.
وقيل: معنى " وفي أنفسهم " هو: سبيل الغائط والبول وقيل المعنى: سيرون ما أخبرهم به (النبي ﷺ أنه سيكون من فتن وفساد وغلبة الروم فارس، وغير ذلك مما أخبرهم به) أنه سيكون لهم حتى يبين لهم أن كلما أخبرهم به أنه هو الحق.
وقيل: " المعنى: سنريهم آثار صنعتنا في الآفاق الدالة على أن لها صانعاً حكيماً، وفي أنفسهم من أنهم كانوا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن بلغوا وعلقوا حتى يتبين لهم أن الله هو الحق لا ما يعبدون من دونه ".
وقيل معنى الآية: سنريهم آثار من مضى من الأمم ممن كذب الرسل من قبلهم وآثار خلق الله تعالى في البلاد، وفي أنفسهم، يعني: أنهم كانوا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ثم كسيت لحماً، ثم نقلوا إلى التمييز والعقل. وذلك كله (يدل على) توحيد الله تعالى وقدرته حتى يعلموا أن ما أنزلنا على محمد ﷺ حق.
ثم قال تعالى ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، أي: أو لم يكف ربك أنه شاهد على كل شيء مما يفعله خلقه لا يعزب عنه علم شيء منه. و " إنه " في موضع رفع بدل من " ربك " على الموضع.
ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من " ربك " على اللفظ. ويجوز أن يكون في موضع " أن " نصباً على معنى الآية.
(وقيل: المعنى: أو لم يكف ربك في معاقبة الكفار وقيل: المعنى: أو لم (يكف ربك يا محمد) أنه شاهد على أعمال هؤلاء الكفار ففي ذلك كفاية لك.
ثم قال تعالى ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ﴾، أي: في شك من البعث بعد الموت، والمجازاة على الأعمال.
ثم قال تعالى ﴿أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيط﴾، أي: ألا إن الله محيط بعلمه بكل شيء خلقه، لا يعجزه علم شيء منه.