تفسير سورة الواقعة

تفسير آيات الأحكام
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب روائع البيان في تفسير آيات الأحكام المعروف بـتفسير آيات الأحكام .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

سورة الواقعة
[ ١ ] حرمة مس المصحف
التحليل اللفظي
﴿ بمواقع النجوم ﴾ : المواقع جمع موقع وهو المسقط الذي يسقط فيه الشيء، قال في « اللسان » : والموقع والموقوعة : موضعُ الوقوع، ويقال : وقع الشيء موقعه، ومواقع الغيث : مساقطه.
والمراد بمواقع النجوم : مواضعها ومنازلها من بروجها، فلكل نجم مدار يدور فيه، وموضع لا يتعدّاه ﴿ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٣ ].
﴿ مَّكْنُونٍ ﴾ : المكنون : المستور قال تعالى :﴿ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون ﴾ [ الواقعة : ٢٣ ] والمراد أنه مصون مستور عن غير الملائكة المقربين لا يطّلع عليه من سواهم، أو مصون محفوظ عن التبديل والتغيير بحفظ الله تعالى له :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحجر : ٩ ].
قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ.
وقال مجاهد وقتادة : هو المصحف الذي في أيدينا.
﴿ المطهرون ﴾ : الملائكة الأطهار، أو المطهّرون من الأحداث، من الجنابة والبول والغائط وأشباهها مما يمنع من الصلاة، والمراد على الثاني أنه لا يمسّ القرآن إلا طاهر من الجنابة والحدث.
﴿ مُّدْهِنُونَ ﴾ : متهاونون مكذّبون، قال القرطبي : والمدهن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبّه بالدهن في سهولة ظاهره ولهذا يقال للرجل المتهاون أو المتلاين في أمر الدين « مداهن » أي أنه يلين جانبه.
قال في « اللسان » : والمداهنة والإدهان : المصانعة واللين، وقيل : المداهنة إظهار خلاف ما يضمر.
﴿ بَلَغَتِ الحلقوم ﴾ : أي بلغت النفس أو الروح الحلقوم، ولم يتقدم لها ذكر لدلالة الكلام عليه ولأن المعنى معروف، وأنشدوا في ذلك :
أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
﴿ وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً ﴾ [ الواقعة : ٥ ] : أي محاسبين أو مجزيّين بأعمالكم، مأخوذ من دان بمعنى جازى ومنه الحديث الشريف :« اعمل ما شئت كما تدين تُدان » أي كما تفعل تُجزى.
وقال ابن قتيبة : غير مدينين أي غير مملوكين ولا مقهورين من قولهم : دنت له بالطاعة.
وقال الفراء : دنته أي ملكته وأنشد للحطيئة :
لقد دُيّنتِ أمرَ بنيكِ حتّى تركتهِم أدقّ من الطحين
﴿ تَرْجِعُونَهَآ ﴾ : ترجعون الروح إلى الجسد، والمعنى : إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم فهلاَّ تردّون هذه الروح إلى الجسد؟ فإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر بيد الله تعالى.
وجه الارتباط بالآيات السابقة
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة الأدلة والبراهين على ( الوحدانية ) وعلى البعث والنشور، ثمّ أعقب ذلك بذكر الأدلة على ( النبوّة ) ومصدر الرسالة، وصِدقِ هذا القرآن الذي نزل على خاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فكان معجزة خالدة له على مدى الزمان.
وقد بيَّن تعالى أنَّ هذا القرآن ليس - كما يزعم المشركون - من تأليف محمد ﷺ وإنما هو تنزيل الحكيم العليم، وقد أقسم على ذلك بهذا القسم العظيم، وهذا هو وجه الارتباط بين الآيات السابقة وبين هذه الآيات الكريمة.
547
المعنى الإجمالي
يقول جلّ ثناؤه ما معناه :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم ﴾ لا أقسم بهذه الأفلاك، لا أقسم بمواضعها ومنازلها، بمداراتها التي تدور فيها، فإنّ الأمر أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى قسم، والقسم بها - لو علمتم - شيء عظيم، لما فيه من الدلائل الباهرة على قدرة خالقها جلّ وعلا، ومع ذلك أقسم بأنّ هذا القرآن كتاب كريم، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو تنزيل الحكيم العليم، في كتابٍ مصونٍ عند الله تعالى، محفوظٍ عن الباطل، محفوظ عن التبديل والتغيير.
وهذا الكتاب العزيز لم تتنزّل به الشياطين، فالشياطين لا تمسّ هذا الكتاب المكنون في علم الله وحفظه، وإنما تنزّلت به الملائكة الأطهار، ولا ينبغي أن يمسّه إلاّ من كان مثلهم طاهراً، لأنه كلام ربّ العزّة جلّ وعلا، ومن تعظيم كلام الله ألاّ يمسّه إلا من كان طاهراً مطهّراً.
أفبهذا القرآن - أيها الناس - تكذّبون وتكفرون؟ وتجعلون شكر النعم أنكم تنكرون فضل الله المنعم المتفضّل عليكم؟ فماذا أنتم فاعلون حين تبلغ الروح الحلقوم، وتقفون في مفرق الطريق المجهول؟
هل تملكون العودة إلى الدنيا أو دفع الموت عنكم؟ أو تستطيعون أن تردّوا إلى أحد روحه بعد أن تنفصل عن جسده؟
فلو كنتم غير محاسبين، أو كان الأمر كما تقولون : لا حساب ولا جزاء، ولا بعث ولا نشوز، فأنتم حينئذٍ طلقاء غير مدينين ولا محاسبين، فدونكم إذن فلترجعوها - وقد بلغت الحلقوم - لتردّوها عما هي ذاهبة إليه من حساب وجزاء، وأنتم حولها تنظرون، وملائكتنا أقرب إليها منكم ولكن لا تبصرون، وهي ماضية إلى ( الدينونة الكبرى ) وأنتم ساكنون عاجزون، وهناك تلقون الجزاء الأوفى من أحكم الحاكمين.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : السرّ في القسم بمواقع النجوم هو الإشارة إلى عظيم قدرة الله، وكمل حكمته، وبديع صنعه، بما لا يحيط به نطاق البيان، فإنّ عظمة الصنعة تدل على عظمة الصانع فالسماء بما حوته من شموس وأقمار، أثر من آثار قدرة الله، التي تدل على وجود الخالق، المبدع، الحكيم، وهي آية على الوحدانية كما قال أبو العتاهية :
وفي كلّ شيءٍ له آيةٌ... تدل على أنّه واحدُ
اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ جاءت هذه الجملة الاعتراضية ( لو تعلمون ) بين الصفة والموصوف، وفائدة هذا الاعتراض هي التهويل من شأن القسم، والتنبيه إلى عظمة الكون كما قال تعالى :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ غافر : ٥٧ ].
والمقسم عليه هو ( القرآن العظيم ) وأصل الكلام :( وإنه لقسم عظيم، إنه لقرآن كريم ) فاعترض بين الصفة والموصوف لهذا السرّ الدقيق.
اللطيفة الثالثة : فإن قيل : أين جواب ( لَوْ ) في الجملة الاعتراضية؟
نقول : لا جواب لها لأنه أريد به نفي علمهم وكأنه قال : وإنه لقسم ولكن لا تعلمون، أو إنه محذوف ثقة بظهوره أي لو تعلمون حق العلم لعظّمتموه، أو لعملتم بموجبه، والفعل المضارع ( تعلمون ) ليس له مفعول على حدّ قولهم : فلانٌ يعطي ويمنع، وهو أبلغ وأدخل في الحسن ممّا لو كان له مفعول فتدبره.
548
اللطيفة الرابعة : قال الإمام الفخر : رحمه الله في قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ :« القرآن مصدر أريد به المفعول وهو المقروء، كما في قوله تعالى ﴿ هذا خَلْقُ الله ﴾ [ لقمان : ١١ ] أي مخلوق الله، ووصفُه بالكريم فيه لطيفة، وهي أنَّ الكلام إذا قرئ كثيراً يهون في الأعين، والآذان، ولهذا ترى من قال شيئاً في مجلس الملوك، لا يذكره ثانياً، ولو قيل لقائله لم تكرّر هذا؟
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ ﴾ إطلاق الحديث على القرآن الكريم، كثيرٌ بمعنى كونه ( اسماً ) لا ( وصفاً ) فإنّ الحديث اسمٌ لما يُتحدث به، وهو وصفٌ يوصف به ما يتجدّد، فيقال : أمر حادث، ورسم حديث أي جديد، ويقال : أعجبني حديث فلان بمعنى كلامه، والقرآن قديم له لذة الكلام الجديد، فصحّ أن يسمّى ( حديثاً ).
والإدْهان : تليين الكلام لاستمالة السامع، من غير اعتقاد صحة الكلام، كما يقول العدوّ لعدوّه : أنا أدعو لك، وأثني عليك، مداهنة منه وهو كاذب، فصار استعمال المدهن في المكذّب من هذا القبيل.
قال الزجّاج : معناه : أفبهذا القرآن أنتم تكذبون؟.
اللطيفة السادسة : المناسبة بين المقسم به وهو ( النجوم )، وبين القسم عليه وهو ( القرآن ) أنّ النجوم جعلها الله ليهتدي بها في ظلمات البرّ والبحر، وآيات القرآن يهتدي بها في ظلمات الجهل والغواية، وتلك ظلمات حسيّة، وهذه ظلمات معنوية، فالقسم هنا قد جمع فيه بين الهدايتين ( الحسيّة ) للنجوم، و ( المعنوية ) للقرآن فتدبّر هذا السرّ الدقيق.
اللطيفة السابعة : قوله تعالى :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ ظاهر الكلام النفي، ومعناه النهي كقوله تعالى :﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ [ النور : ٣ ] يراد منه النهي، وكقوله تعالى :﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] خبر بمعنى الأمر، والمراد بالآية أنهم المطهّرون من الأحداث.
قال ابن كثير : قوله تعالى :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ قال بعضهم : أي من الجنابة والحدث، قالوا : ولفظ الآية خبر، ومعناه الطلب، قالوا : والمراد بالقرآن هاهنا المصحفُ، كما روى مسلم في »
صحيحه « عن ابن عمر :» أن رسول الله ﷺ نهى أن يُسافَرَ بالقرآن إلى أرض العدو « مخافة أن يناله العدوّ، واحتجوا بما رواه مالك في الموطأ أنّ في الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ لعمر بن حزم :» ألاّ يمسّ القرآن إلاّ طاهر «.
اللطيفة الثامنة : قوله تعالى :﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ﴾ هو على حذف مضاف أي وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم بالقرآن، أي تضعون الكفر مكان الشكر، فهو على حد قول القائل :
549
« تحيةُ بينهم ضربٌ وجيع »... قال ابن عباس : في تفسير الآية : وتجعلون شكركم التكذيب.
قال الألوسي :« إنّ في الكلام مضافاً مقدّراً أي شكر رزقكم، أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو الشكر ».
وقال الثعلبي المعنى : وتجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذِّبون.
وجوه القراءات
١- قرأ الجمهور ﴿ فلا أقسم ﴾ بمدّ ( لا ) على أنها نافية، وقرأ الحسن ﴿ فلأقسم ﴾ بغير ألفٍ بين اللام والهمزة فتكون اللام ( لام القسم ) وهذا مبني على رأي بعض النحاة الذن يجوّزون القسم على فعل الحال فيقال : والله لَيَخرجُ زيد، وعليه قول الشاعر :« ليَعلمُ ربيّ أنّ بيتي واسع ».
٢- قرأ الجمهور ﴿ بمواقع ﴾ على الجمع، وقرأ حمزة والكسائي ﴿ بموقع ﴾ على الإفراد لأنه اسم جنس.
٣- قرأ الجمهور ﴿ المُطَهّرون ﴾ اسم مفعول من ( طهّر ) مشدّداً، وقرأ نافع ﴿ المُطْهَرون ﴾ مخففاً من أطهر، وقرأ سلمان الفارسي ﴿ المُطَّهَّرون ﴾ بشدّ الطاء والهاء أصله ﴿ المتطهرون ﴾ فأدغمت التاء في الطاء.
وجوه الإعراب
١- قوله تعالى :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ ﴾ لا زائدة والمعنى فأقسم، وهذا مذهب سعيد بن جبير، وقيل إنها ( لام القسم ) ومعناه فلأقسم وقد ردّه في « الكشاف ».
قال الزمخشري :« ولا يصح أن تكون اللام ( لام القسم ) لأمرين :
أحدهما : أنّ حقها أن تقرن بها النون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيح.
والثاني : أنّ لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال.
٢- قوله تعالى :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ جملة ( لا يمسّه ) صفة ل ( قرآنٌ كريمٌ ) وقيل صفة ل ( كتابٍ مكنون ) وعلى كلا القولين تكون ( لا ) نافية، وقيل إنها ناهية، بمعنى ( لا يمسَسْهُ ) مثل قوله عليه السلام :»
المسلمُ أخو المسلم لا يظلِمُهُ... « الحديث.
قال ابن عطية :»
والقول بأن ( لا يمسَّه ) نهي قول فيه ضعف، وذلك أنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة، وقوله بعد ذلك ﴿ تَنزِيلٌ ﴾ صفة، فإذا جعلناه نهياً جاء معناه أجنبياً معترضاً بين الصفات، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل في قسم حقيقي؟ وما هي طريقة هذا القسم؟
اختلف المفسرون في قوله تعالى :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ ﴾ وكيف نجمع بين هذا اللفظ الذي صورته « نفي القسم » وبين قوله :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ الذي هو صريح في إثبات القسم؟ على عدة أقوال :
١- قال بعضهم : وهم الجمهور إنّ ( لا ) زائدة زيدت للتأكيد، مثلها في قوله تعالى :﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٩ ] أي ليعلم، وقول الشاعر :
تذكَّرتُ ليلى فاعترتْني صَبَابةٌ وكان نياطُ القلب لا يتقطَّع
أي كاد يتقطع.
ب- وقال آخرون : إنّ ( لا ) هنا هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت الألف نظير الألف في قول الشاعر :« أعوذ بالله بمن العقراب » ويكون معنى الآية :« لأَقْسِمٌ ».
550
وهذا الرأي ضعيف لأن النحاة يقولون : إذا كان الفعل مستقبلاً في حيّز القسم وجب اتصال نون التوكيد به وحذفها ضعيف جداً تقول مثلاً « لأفعلنّ » ومثله قوله تعالى :﴿ وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٥٧ ] ولا تقول : لأفعلُ.
ج - وقال آخرون : هي ( للنفي ) وهو نفي لمحذوف هو ما كان يقوله الكفار : إن القرآن سحر، أو شعر، أو كهانة، ويكون حاصل لمعنى : لا صحة لما يقولون، أُقْسمُ بمواقع النجوم، ويكون الأمر فيه نفياً لكلام سابق، وابتداءً بكلام مستأنف.
وهذا الرأي ضعيف أيضاً لأن النحاة يقولون : إنّ اسم ( لا ) وخبرها لا يصح حذفهما إلاّ إذا كانا في جواب سؤال، ثم إنه في مثل هذه الحالة يتعين العطف بالواو كما يقال : هل شفي فلانٌ من مرضه؟ فيقال : لا وشفاه الله... إلخ.
د- واختار الفخر الرازي رأياً آخر خلاصته : أنّ ( لا ) نافية باقية على معناها، وأنّ في الكلام « مجازاً تركيبياً » وخلاصة المعنى أن نقول : لا حاجة إلى القسم لأنّ الأمر أظهر وأوضح من أن يقسم عليه، وهذا الرأي جميل لأنه لا يراد به نفي القسم حقيقة بل الإشارة إلى أنه من الجلاء والوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم.
الحكم الثاني : ما المراد بالكتاب المكنون في الآية الكريمة؟
اختلف الفسرون في المراد بالكتاب المكنون.
فقيل : هو ( اللوح المحفوظ ) ومعنى أنه مكنون أي أنه مستور عن الأعين، لا يطّلع عليه إلا بعض الملائكة، كجبريل وميكائيل عليهما السلام.
وقيل إن الكتاب : لا يراد به اللوح المحفوظ، وإنما يراد به القرآن الكريم « المصحف » فهذا القرآن العظيم كما أنه محفوظ في الصدور، كذلك هو مسجل في السطور كما قال تعالى :﴿ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ﴾ [ عبس : ١٣ ] وعلى هذا التفسير يكون معنى ﴿ مَّكْنُونٍ ﴾ أي أنه محفوظ من التبديل والتغيير، ويكون على حدّ قوله تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحجر : ٩ ].
الحكم الثالث : ما المراد من قوله تعالى :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ ؟
اختلف المفسرون في الضمير في هذه الآية الكريمة وهو قوله تعالى :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ ﴾ هل هو راجع إلى القرآن العظيم؟ أم إلى الكتاب الذي هو على رأي بعضهم ( اللوح المحفوظ ) فإذا أعيد الضمير على القرآن الكريم يكون المراد من قوله تعالى :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ ﴾ أي لا يمسّ هذا القرآن إلاّ طاهر من الحدثين : الأصغر والأكبر. ويكون النفي على معنى أنه لا ينبغي أن يمسه كما في قوله تعالى :﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ [ النور : ٣ ].
ويرى البعض أنّ ( لا ) ناهية وليست نافية، والضمة التي فيه للإتباع لا للإعراب، والذين قالوا إن المراد باللفظ هو اللوح المحفوظ فسروا المطهّرين بالملائكة واستدلوا بقوله تعالى :﴿ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾
551
[ عبس : ١٣ - ١٦ ] فقالوا هذه الآية تشبه تلك فالمراد بها إذاً الملائكة.
الحكم الرابع : ما هو حكم مسّ المصحف الشريف؟
القرآن الكريم كتاب الله المقدس يجب تعظيمه واحترامه، ومن تعظيمه وإجلاله ألاّ يمسه إلاّ طاهر، ومسألة عدم جواز مسّ المصحف للمحدث أمر يكاد يجمع عليه الفقهاء، ومن أجازه من الفقهاء فإنما أجازه لضرورة ( التعلم والتعليم ) فالمحدث والجنب، والحائض، والنفساء، كلّ هؤلاء يحرم عليهم مس المصحف لعدم الطهارة.
رأي ابن تيمية رحمه الله : استدل ابن تيمية على الحكم الشرعي من وجه لطيف فقال : إنّ الآية تدل على الحكم من باب « الإشارة » فإذا كان الله تبارك وتعالى يخبر أنَّ الصحف المطهَّرة في السماء لا يمسُها إلا المطهّرون فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألاّ يمسّها إلا طاهر « انتهى.
أقول : هذا هو الحق الذي ينبغي التعويل عليه، وهو ما اتفق عليه الفقهاء من حرمة مسّ المصحف الشريف بدون طهارة.
تنبيه هام
قلنا إن مسَّ المصحف لغير المتطهر حرام، وهذا الحكم لا اعتراض عليه، إنما الاختلاف بين الفقهاء هل هو مستنبط من الآية الكريمة؟ أم مأخوذ من دليل آخر؟
فيرى بعض الفقهاء أن الحكم الشرعي بحرمة مسّ القرآن مأخوذ من نفس هذه الآية الكريمة، لأنه ( خبر ) يقصد به ( النهي ) فكأنه تعالى يقول :»
لا تمسّوه إلاّ إذا كنتم على طهارة «.
وقال آخرون الحكم ثبت من السنة لا من الآية الكريمة وقد ذكروا بعض الوجوه التي يُرجَّح بها هذا الرأي منها :
أ- »
إنّ الآيات هاهنا مكية، ومعلوم أن القرآن في مكة كانت عنايته موجهة إلى أصول الدين لا إلى فروعه.
ب- قالوا الآية خبر وتأويلكم لها يخرجها عن ( الخبر ) إلى ( الإنشاء ) الذي يراد به النهي، والأصلُ أن يحمل اللفظ على الحقيقة.
ج - قالوا إنّ لفظ « المطهّرون » يشير إلى ما قلنا وهو الذي تكون طهارته ذاتية وهم ( الملائكة ) وأما المتطهرين فهم الذين تكون طهارتهم بعملهم نظراً لقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين ﴾ [ البقرة : ٢٢٢ ] فلو أراد الله سبحانه الإخبار عن وجوب الطهارة لقال :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ !!.
والخلاصة : فإن السنة والآثار تنصّ على وجوب الطهارة لمسّ القرآن فقد ثبت فيما رواه ابن حبان وأصحاب السنن أن النبي ﷺ كتب كتاباً إلى أهل اليمن وجاء فيه :« وألاّ يمسّ القرآن إلا طاهرٌ ».
وبهذا قال الجمهور من الفقهاء منهم :( مالك وأبو حنيفة والشافعي ) رحمهم الله وقد كان كثير من الصحابة يأمرون أولادهم بالوضوء لمس المصحف، وقصة عمر معروفة وفي هذا القدر كفاية وغُنيةٌ عن التطويل.
الحكم الخامس : ما هي الحكمة من القسم؟
جرت العادة عند العرب أن يستعملوا القسم عند إرادة توكيد الكلام، والقرآنُ الكريم نزل بلغة العرب، وقد كانت آياته الكريمة تحوي أنواعاً من القسم وضرورياً من التفنّن البديع في توكيد الكلام، وليس المراد من القسم إثبات الدعوى، فالدعاوى لها ما يثبتها من الأدلة القطعية التي ثبتت عن طريق الحجة والبرهان.
552
ثمّ إنّ المخاطب أحد رجلين : إمَّا مؤمن بالقرآن، أو مكذب به، فالمؤمن لا يحتاج إلى قسم فهو مصدِّقٌ بما أخبر عنه الله تعالى بدون يمين، والمكذّب الذي لم تغنه الآيات والنّذُر لن يصدّق بمجرد القسم بعد أن لم يؤثر فيه الدليل، فثبت أنّ المراد بالقسم إنما هو توكيد الكلام ليس إلاّ ولفتُ النظر إلى أهمية الموضوع، وأهمية الأمر، فحين يقسم الله تعالى بشيء من الأشياء تتوجه النفس إلى سرّ هذا القسم بهذا المخلوق متسائلة ما سرّه؟ وما معناه؟ ولم أقسم به دون غيره؟ وحينئذٍ تبحث عن الحكمة والسرِّ في ذلك القسم!!
الحكم السادس : ما هي أنواع القسم المذكورة في القرآن الكريم؟
ورد القسم في القرآن الكريم على أنواع عديدة، وضروب شتى، إمَّا من ناحية القسم نفسه، أو من ناحية المقسم عليه.
١- فجاء القسم بالذات العلية مثل قوله تعالى :﴿ فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢٣ ] وقوله :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الحجر : ٩٢ ].
٢- وجاء القسم بأشياء من خلقه سبحانه مثل :﴿ والتين والزيتون ﴾ [ التين : ١ ] ﴿ والشمس وَضُحَاهَا ﴾ [ الشمس : ١ ] ﴿ والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ ﴾ [ الفجر : ١ - ٢ ].
٣- وجاء القسم بالقرآن الكريم مثل :﴿ ص والقرآن ذِي الذكر ﴾ [ ص : ١ ] ﴿ حم* والكتاب المبين ﴾ [ الزخرف : ١ - ٢ ] ﴿ ق والقرآن المجيد ﴾ [ ق : ١ ].
٤- وجاء أيضاً على الشكل الذي معنا في الآيات الكريمة بلا النافية وفعل القسم مثل قوله تعالى :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس * الجوار الكنس ﴾ [ التكوير : ١٥ - ١٦ ] وقوله :﴿ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة ﴾ [ القيامة : ١ ] وقوله :﴿ لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد ﴾ [ البلد : ١ ] هذا من ناحية القسم.
أما من ناحية المقسم عليه فإمّا أن يكون.
١- أصول الإيمان كوحدانية الله سبحانه مثل قوله تعالى :﴿ والصافات صَفَّا... إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ ﴾ [ الصافات : ١ - ٤ ].
٢- أو يكون المراد إثبات أن القرآن حق مثل الآية التي معنا ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم... إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾. ٣- أو يكون المراد إثبات نبوته ﷺ مثل قوله تعالى :﴿ يس * والقرآن الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين ﴾ [ يس : ١ - ٣ ].
٤- أو يكون المراد نفي صفة ذميمة أتهم بها المشركون الرسول ﷺ مثل قوله :﴿ ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ [ القلم : ١ - ٢ ].
الحكم السابع : هل يجوز القسم بغير الله سبحانه؟
أجمع العلماء على حرمة القسم بغير الله سبحانه، أو صفةٍ من صفاته تعالى لقوله ﷺ :« من كان حالفاً فليحلف بالله أو فليذر » هذا بالنسبة للخلق، أما بالنسبة للخالق فله أن يقسم بما شاء من خلقه، لأن في القسم بالشيء تنبيهاً إلى عظمته وأهميته، والله سبحانه وتعالى قد أقسم بكثير من الآيات كما مر معنا تنبيهاً إلى شرفها وما حوت من إبداع وإتقان ليكون ذلك دليلاً على عظمة خالقها جل وعلا.
553
وقد قال ﷺ :« إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو فليذر ».
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : القسم بالنجوم والأفلاك تنبيه على عظمة الخالق، المدبّر الحكيم الذي أبدع هذا الكون.
ثانياً : القرآن كلام الله ليس بشعر، ولا بسحر، ولا كهانة، بل تنزيل الحكيم العليم.
ثالثاً : الكتاب العزيز لم تتنزّل به الشياطين، وإنما تنزّلت به الملائكة الأطهار، فلا ينبغي أن يمسّه إلا طاهر.
رابعاً : القرآن مصون عن التبديل والتغيير، محفوظ عن الباطل، لأنّ الله تعالى قد تكفّل بحفظه.
خامساً : ينبغي أن تقابل النعمة بالشكر والثناء لا بالجحود، والإنكار، والتكذيب.
سادساً : لو كان الإنسان غير مجازى بعمله لاستطاع أن يدفع عن نفسه شبح الموت.
سابعاً : لا بدّ من دار الجزاء وراء هذه الدنيا ليلقى فيها الإنسان نتيجة عمله.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
القرآن الكريم كتاب الله المجيد، ودستوره إلى عباده، ووحيه المنزل على خاتم المرسلين ﷺ، وهو آخر الكتب السماوية نزولاً، وأشرفها مكانة ومنزلة، أودع فيه منزلُهُ هداية البشرية، وسعادة الإنسانية، وجعله نوراً وضياء للعالمين.
ومن حقّ هذا القرآن المجيد أن يُعظم، ومن واجب المسلمين أن يطبّقوه في حياتهم، وأن يحلّوه محل الصدارة من أنفسهم، تلاوة، وعملاً وتطبيقاً؛ ليسعدوا كما سعد آباؤهم من قبل.
ومن تعظيم القرآن الكريم ألا يمسّه الإنسان إلاّ على طهارة، لأنه كلام الله، وكلام الله عظيم بعظمة الله، فلا يصح للمؤمن أن يتساهل في أمره، وأن يمسّه بدون وضوء، فقد كتب رسول الله ﷺ في وصيته لعمرو بن حزم « وألاّ يمسّ القرآن إلاّ طاهر » وكفى بتعظيم الرسول ﷺ لأمر القرآن تعظيماً، وكفى ببيانه بياناً!!
وإذا كان القرآن الكريم قد عظّم الله شأنه، فأنزله في أفضل الشهور ( شهر رمضان ) وفي أفضل الليالي ( ليلة القدر ) واختار الواسطة له الروح الأمين ( جبريل ) عليه السلام، وأخبر أنه ﴿ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [ عبس : ١٣ - ١٦ ] أفلا يكون من واجب المسلمين أن يعظّموا هذا الكتاب المبين غاية التعظيم، ويجلّوه غاية الإجلال؟!
وإذا كان الملائكة الأطهار، والسفرة الأبرار هم الذين تشرفوا بمسّ هذه الصحف المطهّرة، فأولى بأهل الأرض ألا يمسّوه إلى على طهارة، تشبهاً بالملائكة الأطهار، وتفخيماً لشأن هذا الكتاب العظيم الذي حفظه الله وصانه من التحريف والتبديل وصدق الله :﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤١ - ٤٢ ].
554
Icon