ﰡ
هى مكية، وآياتها أربع وأربعون، نزلت بعد الحاقة، وهى كالتتمة لها فى وصف القيامة وعذاب النار.
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١ الى ١٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨)
شرح المفردات
سأل سائل: أي دعا داع، من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، كما جاء فى قوله:
«يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ» ليس له دافع: أي إنه واقع لا محالة، والمعارج: واحدها معرج، وهو المصعد (أسّنسير) كما قال: «وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ»
أي أعرض عن الطاعة، جمع فأوعى: أي جمع المال فجعله فى وعاء.
المعنى الجملي
كان أهل مكة يقول بعضهم لبعض: إن محمدا يخوّفنا بالعذاب، فما هذا العذاب؟ ولمن هو؟ وكان النضر بن الحرث ومن لفّ لفّه يقولون إنكارا واستهزاء:
«اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم» فنزلت هذه الآيات.
الإيضاح
(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي طلب طالب عذابا واقعا لا محالة، سواء طلب أم لم يطلب، لأنه نازل بالكافرين فى الآخرة لا يدفعه عنهم أحد، فلماذا هم يطلبونه استهزاء؟.
(مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ) أي ليس لذلك العذاب الصادر من الله دافع من جهته إذا جاء وقته، فإذا اقتضت الحكمة وقوعه امتنع ألا يفعله، وهو ذو النعم التي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة، ودرجات متفاوتة.
وقد نظم سبحانه العوالم فجعل منها مصاعد، ومنها دركات، فليكن هؤلاء فى الدركات، وليكن المؤمنون والملائكة فى الدرجات طبقا عن طبق على نظم ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة.
ثم بيّن مقدار ارتفاع تلك الدرجات فقال:
(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي تصعد فى تلك المعارج الملائكة وجبريل عليه السلام إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقى فى ذلك الصعود خمسين ألف سنة، لكنهم يصعدون إليها فى الزمن القليل، وليس المراد من ذكر الخمسين تحديد العدد، بل المقصد أن مقام القدس الإلهى بعيد المدى عن مقام العباد، فهم فى المادة مغموسون، وهناك عوالم ألطف وألطف، درجات بعضها فوق بعض، وكل عالم ألطف مما قبله، وكلما لطف العالم العلوي كان أشد قوة وهكذا: «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى».
(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا) أي إذا سألوا استعجال العذاب على سبيل الاستهزاء والتكذيب بالوحى، وكان هذا يورث ضجرك أيها الرسول- فاصبر صبرا جميلا بلا جزع ولا شكوى، لأنه أمر محقق، وكل آت قريب.
ثم بيّن أن هذا اليوم آت لا شك فيه فقال:
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) أي إنهم يرون هذا اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة- بعيدا غير ممكن، ونحن نراه قريبا هيّنا غير بعيد علينا ولا متعذر.
ثم ذكر وقت حدوثه فقال:
(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) أي إن العذاب واقع بالكافرين يوم تكون السماء كأنها عكر الزيت، والمراد أنها تكون واهية ضعيفة غير متماسكة.
(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي ولا يسأل قريب مشفق قريبا عن حاله، ولا يكلمه لابتلاء كل منهما بما يشغله كما جاء فى قوله: «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» وقوله: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (يُبَصَّرُونَهُمْ) من قولك بصّرته بالشيء إذا أو ضحته له حتى يبصره، أي يتعارفون ثم يفرّ بعضهم من بعض بعد ذلك ثم أرشد إلى هول ذلك اليوم فقال:
(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي يتمنى الكافر لو ينفع أعز الناس إليه فدية، لينجيه من ذلك العذاب، فيؤدّ لو كان أبناؤه أو زوجته أو أخوه أو عشيرته التي تضمه إليها، أو أهل الأرض جميعا فداء له ليخلص من ذلك العذاب.
والخلاصة- يتمنى الكافر لو كان هؤلاء جميعا فى قبضة يده ليبذلهم فدية عن نفسه، ثم ينجيه ذلك- هيهات.
(كَلَّا) أي لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض، أو بأعزّ ما يجده من مال ولو بملء الأرض ذهبا، أو بولده الذي كان حشاشة كبده فى الدنيا، أو بزوجته وعشيرته.
(إِنَّها لَظى. نَزَّاعَةً لِلشَّوى. تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعى) أي إنها النار الشديدة الحرارة التي تنزع جلدة الرأس وتفرقها، ثم تعود إلى ما كانت عليه وأنشدوا قول الأعشى:
قالت قتيلة ماله... قد جلّلت شيبا شواته
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١٩ الى ٣٥]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥)
شرح المفردات
الهلع: سرعة الحزن عند مسّ المكروه، وسرعة المنع عند مسّ الخير، من قولهم:
ناقة هلوع: إذا كانت سريعة السير. وسأل محمد بن طاهر ثعلبا عن الهلع فقال:
قد فسره الله، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره سبحانه- يعنى قوله:
«إِذا مَسَّهُ» الآية. والجزع: حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه،
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه هو ذو المعارج والدرجات العالية، والنعم الوفيرة التي يسبغها على عباده الأخيار- أردف هذا بذكر المؤهّلات التي توصل إلى تلك المراتب وتبعد عن ظلمة المادة التي تدخل النفوس فى النار الموقدة التي تنزع الشوى، وبيّن أنها عشر خصال تفكّه من السلاسل التي تقيده بها غرائزه التي فطر عليها، وعاداته التي ألفها وركن إليها، وهى ترجع إلى شيئين: الحرص، والجزع. وهذه الخصال هى:
(١) الصلاة.
(٢) المداومة عليها فى أوقاتها المعلومة.
(٣) إقامتها على الوجه الأكمل بحضور القلب، والخشوع للربّ، ومراعاة سننها وآدابها.
(٤) التصديق بيوم الجزاء بظهور أثر ذلك فى نفسه اعتقادا وعملا (٥) إعطاء صدقات من أموالهم للفقراء والمحرومين.
(٦) مراعاة العهود والمواثيق.
(٧) أداء الأمانات إلى أهلها.
(٨) حفظ فروجهم عن الحرام.
(٩) أداء الشهادة على وجهها.
(١٠) الخوف من عذاب الله.
(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) أي إن الإنسان جبل على الهلع، فهو قليل الصبر، شديد الحرص، فإذا افتقر أو مرض أخذ فى الشكاة والجزع، وإذا صار غنيّا أو سليما معافى منع معروفه وشح بماله، وما ذاك إلا لاشتغاله بأحواله الجسمانية العاجلة، وقد كان من الواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال الآخرة، فإذا مرض أو افتقر رضى بما قسم له، علما بأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وإذا وجد المال والصحة صرفهما فى طلب السعادة الأخروية، وقد استثنى من هذه الحال من اتصفوا بالصفات الآتية:
(١) (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي إن الإنسان بطبعه متصف بصفات الذم، خليق بالمقت إلا من عصمهم الله ووفقهم، فهداهم إلى الخير ويسر لهم أسبابه، وهم المصلون الذين يحافظون على الصلوات فى أوقاتها، لا يشغلهم عنها شىء من الشواغل.
وفى هذا إيماء إلى فضيلة المداومة على العبادة،
أخرج بن حبّان عن أبى سلمة قال: حدثتنى عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ «خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملّوا، قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول الله ﷺ ما داوم عليه وإن قلّ، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها، وقرأ أبو سلمة: الذين هم على صلاتهم دائمون
(٢) (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي والذين فى أموالهم نصيب معين لذوى الحاجات والبائسين، تقربا إلى الله وإشفاقا على خلقه، سواء سألوا واستجدوا، أو لم يسألوا تعففا منهم.
والمراد بهذا الحق المعلوم: ما يوظفه الرجل على نفسه، فيؤديه كل جمعة أو كل شهر أو كلما جدت حاجة تدعو إلى بذل المال، كإغاثة فرد أو إغاثة أمة طرأ عليها
(٣) (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي والذين يوقنون بالمعاد والحساب، فيعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب وتظهر آثار ذلك فى أفعالهم وأقوالهم ومعتقداتهم، فينيبون إلى الله ويخبتون إليه.
(٤) (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي والذين هم خائفون وجلون من تركهم للواجبات، وإقدامهم على المحظورات، ومن يدم به الخوف والإشفاق فيما كلف به يكن حذرا من التقصير، حريصا على القيام بما كلف به من علم وعمل.
ونحو الآية قوله: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» وقوله: «الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ».
ثم ذكر الداعي لهم إلى هذا الخوف فقال:
(إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي لا ينبغى لأحد أن يأمن عذاب الله وإن بالغ فى الطاعة، ومن ثم أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا كثيرى الخوف والوجل كما يشعر بذلك قول بعضهم: ليت أمي لم تلدنى. وقول آخر: ليتنى شجرة تعضد، إلى أشباه ذلك مما يعبر عن شديد الوجل والخشية.
(٥) (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) راجع تفسير هذا بتوسّع فى سورة المؤمنين (٦) (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا.
(٧) (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي والذين يقومون بأداء الشهادة عند
(٨) (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي والذين يحافظون على صلاتهم، ويراعون شرائطها، ويكملون فرائضها فيجتهدون قبل الدخول فيها فى تفريغ القلب من الوساوس والالتفات إلى ما سوى الله، مع حضور القلب حين القراءة، وفهم ما يتلى فيها من آي الذكر الحكيم.
ثم وعد هؤلاء بحسن المآل فقال:
(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال فى بساتين يكرمون فيها بأنواع اللذات والمسرات، وإلى ذلك أشار الحديث «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٤]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)
قبلك: أي فى الجهة التي تليك، مهطعين: أي مسرعين نحوك، مادّى أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك، ليظفروا بما يجعلونه هزوا، وأنشدوا:
بمكة أهلها ولقد أراهم | إليه مهطعين إلى السماع |
فجاءوا يهرعون إليه حتى | يكونوا حول منبره عزينا |
أي ذليلة، ترهقهم: أي تغشاهم.
المعنى الجملي
بعد أن وعد المؤمنين بجنات النعيم مع الكرامة والإجلال- أردف ذلك بذكر أحوال الكافرين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبان لهم خطأهم فيما يرجون من جنات النعيم على ما هم عليه من كفر وجحود، ثم توعدهم بالهلاك، ولن يستطيع أحد دفعه عنهم، ثم أمر رسوله أن يدعهم وشأنهم حتى يوم البعث، يوم يخرجون من قبورهم مسرعين كأنهم ذاهبون إلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان، (وقد كان من دأبهم أن يسرعوا حين الذهاب إليها) وهم فى هذا اليوم تكون أبصارهم ذليلة، وترهق وجوههم قترة، لما تحققوا من عذاب لا منجاة لهم منه، وقد أوعدوه فى الدنيا فكذبوا به.
الإيضاح
(فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي فما بالهم يسرعون إليك، ويجلسون حواليك، عن يمينك وعن شمالك، جماعات متفرقة، نافرين منك، لا يلتفتون إلى ما تلقيه عليهم من رحمة الله وهديه، ونصحه وإرشاده، وما فيه سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.
ونحو الآية قوله: «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ».
أخرج مسلم وغيره عن جابر قال: دخل علينا رسول الله ﷺ المسجد ونحن حلق متفرقون، فقال: «مالى أراكم عزين، ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الاول ويتراصّون فى الصف»
وقد كانت عادتهم فى الجاهلية أن يجلسوا حلقا مجتمعين.
قال شاعرهم:
ترانا عنده والليل داج | على أبوابه حلقا عزينا |
(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟ كَلَّا) أي أيطمع هؤلاء وهم نافرون من الرسول صلى الله عليه وسلم، معرضون عن سماع الحق- أن يدخلوا جنتى كما يدخلها المؤمنون المخبتون الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا؟ كلا لا مطمع لهم فى ذلك مع ما هم عليه.
(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون، وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يكملها بذلك فهو بمعزل عن أن يتبوأ متبوأ الذين أخلصوا لله وحده، وبعدت نفوسهم عن دنس الشرك والمعاصي.
ثم توعدهم بأنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم أهلكهم واستبدل بهم قوما غيرهم خيرا منهم فقال:
(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي أقسم برب الكواكب ومشارقها ومغاربها، إنا لقادرون على أن نخلق أمثل منهم يستمعون دعوة الداعي ونصح الناصح، ونهلك هؤلاء، ولن يعجزنا ذلك، لكن مشيئتنا اقتضت تأخير عقوبتهم.
والخلاصة- إن هؤلاء المشركين فى تناقض واضطراب فى الرأى، فكيف ينكرون البعث ثم يطمعون فى دخول الجنة، وكيف ينكرون الخالق وقد خلقهم أوّلا مما يعلمون، وهو قادر على خلق مثلهم ثانيا.
وفى هذا تهكم بهم وتنبيه إلى تناقضهم فى كلامهم، فإن الاستهزاء بالساعة ودخول الجنة مما لا يقبله إلا من عنده دخل فى العقل، ومجانفة لصواب الرأى.
ثم سلّى رسوله عما يقولون ويفعلون فقال:
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي دعهم فى تكذيبهم وعنادهم إلى يوم البعث، وحينئذ يعلمون عاقبة وبالهم، ويذوقون شديد نكالهم، حين يعرضون للحساب والجزاء، يوم تجزى كل نفس بما عملت، لا شفيع ولا نصير، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ثم فصل أحوالهم فى هذا اليوم فقال:
(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يوم يخرجون من قبورهم إذا دعاهم الداعي لموقف الحساب- سراعا
ثم ذكر أن ذلك العذاب الذي وقعوا فيه، كانوا قد أنذروا به، ولم يأتهم بغتة فقال:
(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي ذلك اليوم وما فيه من أهوال عظام كانوا قد أنذروا فى الدنيا أنهم ملاقوه وكانوا به يكذبون، فلا عذر لهم فيما سيموا به من سوء العذاب.
خلاصة ما جوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد:
(١) وصف يوم القيامة وأهواله.
(٢) وصف النار وعذابها.
(٣) صفات الإنسان التي أوجبت له الجحيم، وكيف يجتهد لإزالة ما به من النقص حتى يرتقى إلى المعارج، ويخرج من عالم المادة.
(٤) وعيد الكافرين على ما يلاقونه فى ذلك اليوم.