تفسير سورة يونس

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة يونس من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها تسع ومائة

﴿ أن لهم قدم صدق ﴾ القدم : السابقة والسالفة. والعرب تسمى كل سابق في خير أو شر قدما. وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة، كما في مسجد الجامع، فتفيد المدح، وما قدموه هو الإيمان. أو الأعمال الصالحة المستتبعة للثواب. أي أن لهم سابقة فضل ومنزلة رفيعة عند ربهم.
أو أجرا حسنا. أو ثوابا كريما بما أسلفوا. وسمي قدما لأنه لا ينال إلا بالسعي وهو لا يحصل إلا بالقدم، فسمي المسبب باسم السبب.
﴿ خلق السماوات والأرض ﴾( آية ٥٤ الأعراف ص ٢٦٢ ). ﴿ يدبر الأمر ﴾ يقضى ويقدر شئون جميع الكائنات على وفق الحكمة والوجه الأكمل. وأصل التدبير : النظر في أدبار الأمور وأعقابها، لتقع على الوجه المحمود.
﴿ وعد الله حقا ﴾ وعدكم بالبعث والرجوع إليه وعدا، وحق ذلك الوعد حقا، أي ثبت ووجب ثباتا ووجوبا لا شك فيه، فيجازيكم على جحودكم، ﴿ إنه يبدأ الخلق... ﴾ دليل على قدرته، وهو كالتعليل لما قبله. ﴿ والذين كفروا ﴾ أي وليجزي الذين كفروا بكفرهم ﴿ لهم شراب من حميم ﴾ أي ماء حار بالغ نهاية الحرارة. والجملة بيان لجزائهم في الآخرة.
﴿ جعل الشمس ضياء... ﴾ شروع في بيان أدلة كمال قدرته تعالى وعظيم حكمته وتدبيره، ردا على منكري البعث. أي هو الذي جعل الشمس ذات ضياء في النهار، والقمر ذا نور في الليل، وقدر سير القمر في منازله الثمانية والعشرون في كل شهر وتقديرا بديعا محكما، ليعرف بذلك ابتداء وانتهاء الشهور والسنين وعددها والحساب بالأوقات من الأشهر والأيام. وبذلك تنتظم مصالح العباد في العبادات والمعاملات وسائر الشئون المعاشية. وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة يتعاقبان دائما بحسب طلوع الشمس وغروبها، ويتفاوتان بحسب الأمكنة طولا وقصرا.
﴿ إن الذين لا يرجون لقاءنا.. ﴾ لا يتوقعون لقاء حسابنا، فلا يأملون ثوابنا، ولا يخشون عقابنا، لإنكارهم البعث. والرجاء في الأصل : توقع الخير، كالأمل. ويستعمل في الخوف وتوقع الشر، وفي مطلق التوقع الشامل للأمل والخوف، وهو المراد هنا.
﴿ دعواهم فيها سبحانك ﴾أي دعاؤهم في الجنة التسبيح والتنزيه، الذي هو إشارة إلى وصفه تعالى بصفات الجلال، فيقابلون بالتحية منه تعالى، أو من الملائكة بالسلام، أي بالدعاء لهم بالسلامة من كل مكروه والتحية : التكرمة بالحالة الجليلة. وأصلها من الحياة، أي أحياك الله حياة طيبة. ثم يختمون دعاءهم بالتحميد، الذي هو إشارة إلى وصفه بنعوت الجمال والإكرام.
﴿ ولو يعجل الله للناس ﴾ نزلت في المشركين حين استعجلوا العذاب الذي اوعدوا به، استهزاء وتكذيبا لإنكارهم البعث، فقالوا :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو اثتنا بعذاب أليم ﴾١. أي ولو يعجل الله لهم الشر الذي استعجلوه ﴿ استعجالهم بالخير ﴾ أي تعجيله لهم بالخير. فوضع الاستعجال بالخير، حتى كان استعجالهم بالخير تعجيل له، لسبق رحمته تعالى لعباده. ﴿ لقضى إليهم أجلهم ﴾ أهلكوا جميعا. يقال إليه اجله، أي أنهى إليه مدته التي قدرها لموته فهلك. ولكنه تعالى لا يعجل الشر لهم، ولا يقضى آجالهم استدراجا لهم.
﴿ في طغيانهم ﴾ وهو إنكارهم البعث، وما يتفرغ عليه من الأعمال الفاسدة. ﴿ يعمهون ﴾ يترددون ويتحيرون. أو يعمون عن الرشد. والجملة حالية ( آية ١٥ البقرة ص ١٨ ).
١ آية ٣٢ الأنفال.
﴿ و إذا مس الإنسان... ﴾ أي إذا أصاب الإنسان أي شدة ومكروه- ولو قليلا يسيرا- دعانا لكشفه في كل أحواله، فإذا استجبنا له استمر على حالته الأولى ونسي ما كان فيه من البلاء، كأنه لم يدعنا إلى كشفه. والمراد جنس الإنسان، أو الكافر من الناس باعتبار حال بعض أفراده، وهو من يذكر الله عند البلاء وينساه عند الرخاء. والآية بيان لكذب الذين استعجلوا العذاب، لأنهم سيضرعون إلى الله عند نزوله، لكشفه وعجزهم عن احتماله.
﴿ أهلكنا القرون ﴾ الأمم الماضية ( آية ٢ الأنعام ص ٢١٠ ).
﴿ خلائف ﴾ خالفين لمن سبقكم. جمع خليفة ( آية ١٦٥ الأنعام ص ٢٥١ ). ﴿ لننظر كيف تعملون ﴾ أي لنعلم أي عمل تعملون، خيرا أو شرا. والمراد : لنعاملكم معاملة من يطلب العلم بما يكون منكم لنجازيكم بحسبه، وإلا فهو تعالى عالم بما يكون منهم.
﴿ من تلقاء نفسي ﴾ من قبل نفسي ومن عندي. مصدر على تفعال، ولا نظير له غير تبيان.
﴿ ولا أدراكم به ﴾ ولا أعلمكم الله بالقرآن على لساني. يقال : دريته وبه أدرى دريا ودراية، علمته. أو علمته بضرب من الحيلة. وأدراه به : أعلمه. و ﴿ لا ﴾ مؤكدة للنفي.
﴿ فمن أظلم... ﴾ أي وإذا كان القرآن بمشيئته تعالى وأمره، فمن اختلق من تلقاء نفسه كلاما
وقال هو من عند الله. أو بدل بعض آياته ببعض، كما يجوزون ذلك في شأني. أو كذب ببعض آياته كما يفعلون، فهو أظلم من كل ظالم. و﴿ افترى ﴾ اختلق. يقال : افترى الكذب اختلقه، ومنه الفرية أي الكذب. والفري : الأمر المختلق المصنوع. وزيادة ﴿ كذبا ﴾ مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك، للإشارة إلى أن ما نسبوه صلى الله عليه وسلم مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه.
﴿ و يقولون هؤلاء شفعاؤنا ﴾ كان المشركون ينكرون البعث، وقد حاجهم الله في ذلك في غير
آية. وكانوا يقولون :﴿ لا يبعث الله من يموت ﴾. ويقولون :﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ﴾. ومع ذلك قالوا :﴿ هؤلاء ﴾ أي الأصنام﴿ شفعاؤنا عند الله ﴾ وروي عن بعضهم القول بشفاعة اللات والعزى لهم يوم القيامة. فذهب الجمهور إلى أنه إنما قيل على سبيل الفرض
والتقدير، أي إن كان هناك بعث كما تزعمون فهؤلاء يشفعون لنا. وذهب الحسن إلى أن مرادهم الشفاعة في الدنيا لإصلاح المعاش لا في الآخرة لإنكارهم البعث. والحق أنهم في أمر مريج من البعث، وأنهم فيه حيارى مضطربون، ولذلك اختلفت كلماتهم. وسيأتي لذلك تتمة في موضعه.
﴿ قل أتنبئون الله ﴾ أي قل لهم تبكيتا : أتخبرونه بما لا وجود له أصلا وهو شفاعة الأصنام عنده، إذ لو كان موجودا لعلمه، وحيث كان غير معلوم له تعالى استحال وجوده، لأنه لا يعزب عن علمه شيء.
﴿ ويقولون لولا انزل عليه آية ﴾ أي هلا أظهر الله على يديه آية من الآيات التي اقترحناها، كآية موسى وعيسى عليهما السلام. ولم يردعهم عن هذا القول ما يرون من المعجزات الباهرة، التي أعلاها القرآن العظيم، المعجز للبشر على وجه الدهر إلى يوم القيامة، وأي آية من الآيات السابقة تدانيه. و لكنه الضلال والعناد ؟.
﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة ﴾ ينعى على كفار مكة غلوهم في كفرهم، فقد ابتلاهم بحبس المطر عنهم سبع سنين حتى كادوا يهلكون. فطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالخصب ووعدوه بالإيمان، فلما دعا لهم ورحمهم الله بالحياة طفقوا يطعنون في آيات الله، وذلك قوله تعالى :﴿ إذا لهم مكر في آياتنا ﴾ أي بالطعن فيها وعدم الاعتداد بها.
﴿ قل الله أسرع مكرا ﴾ أعجل عقوبة وأشد أخذا، جزاء لكم على مكركم السيئ.
﴿ هو الذين يسيركم ﴾ تفسير لما أجمل في قوله تعالى :﴿ و إذا أذقنا ﴾، وضرب مثل ليظهر ما هم عليه. ﴿ الفلك ﴾ السفن ﴿ طيبة ﴾ لينة الهبوب موافقة للمقصد. ﴿ جاءتها ريح عاصف ﴾ أي ذات عصف، على النسب كلابن وتامر. والعصف : الكسر والنبات المتكسر. والمراد : شديدة الهبوب.
﴿ يبغون في الأرض يفسدون فيها، متجاوزين إلى غير ما أمر الله به. يقال : بغى الجرح، إذا تراخى في الفساد وجاوز الحد فيه. { بغير الحق ﴾ تأكيد لما يفيده البغي.
﴿ إنما مثل الحياة الدنيا... ﴾ بيان لشأن الحياة الدنيا وقصر مدة التمتع بها مهما طالت، وقرب زمان الرجوع الموعود به. أي إنما حالها في سرعة تقضيها وانصرام ملاذها، بعد كثرتها
و الاغترار بها، كحال ماء أنزلناه... ﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ﴾ استكملت حسنها
وبهائها ﴿ و ازينت ﴾ بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة. وأصل الزخرف : الزينة المزوقة. ﴿ فجعلناها حصيدا ﴾ فجعلنا زرعها كالمحصود من أصله بالمناجل، من الحصد وهو قطع الزرع. يقال : حصد الزرع يحصده ويحصده حصدا وحصادا، قطعه بالمنجل، فهو حصيد ومحصود. ﴿ كأن لم تغن ﴾ كأن لم تمكث تلك الزروع قائمة على ظهر الأرض في الماضي القريب، من غنى بالمكان – كرضى -، إذا طال مقامه به مستغنيا عن غيره. أي فكذلك الدنيا في سرعة تقضيها وانصرام نعيمها، بعد إقبالها واغترار الناس بها.
﴿ والله يدعو إلى دار السلام ﴾ ترغيب في الآخرة بعد التوهين من شأن الدنيا.
﴿ للذين أحسنوا الحسنى ﴾ أي لهم المثوبة الحسنى، وهي الجنة. والعرب توقع هذه اللفظة على الخلة المحبوبة، والخصلة المرغوب فيها، ولذلك ترك موصوفها. ﴿ و زيادة ﴾ هي النظر إلى وجه الله الكريم. وهي المغفرة والرضوان. ﴿ ولا يرهق وجوههم... ﴾ الرهق : الغشيان. يقال : رهقه يرهقه، إذا غشيه بقهر. والقتر : الدخان الساطع من الشواء والعود ونحوهما، يصيب الوجوه فتغبر وتسود. والذلة : الهوان، أي لا يصيبهم ما يصيب أهل النار من ذلك.
﴿ كأنما أغشيت وجوههم ﴾ أي أن وجوهم في شدة سوادها كأنما ألبست ﴿ قطعا ﴾ أي أجزاء من الليل المظلم الحالك السواد. و ﴿ مظلما ﴾ حال من الليل، وقرئ ﴿ قطعا ﴾ أي الأصنام حتى تنظروا ما يفعل بكم وبهم.
﴿ مكانكم ﴾الزموا مكانكم في الموقف، ﴿ أنتم وشركاؤكم ﴾أي الأصنام حتى تنظروا ما يفعل بكم وبهم.
﴿ فزيلنا بينهم ﴾ فرقنا بين المشركين وشركائهم، وقطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا. وذلك حتى يتبرأ كل معبود ممن عبده، من زيل، بمعنى فرق وميز، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية، لأن ثلاثية متعد بنفسه. تقول : زيلت الضأن من المعز، إذا فرقت بنيهما. وزلت الشيء عن مكانه أزيله زيلا، إذا أزلته.
﴿ هنالك تبلوا... ﴾ في هذا الموقف الدحض الزلق – وهو موقف الحشر- تختبر وتعلم كل نفس ما قدمت من عمل وتعاينه بكنهه، متتبعة لآثاره من خير أو شر، من البلو وهو الاختبار. تقول : بلوته أي اختبرته. وأصله من بلى الثوب بلى وبلاء، إذا خلق، فكأن المختبر للشيء أخلقه من كثرة اختباره له. وقرئ ﴿ تتلو ﴾ بتاءين، أي تقرأ كل نفس كتاب حسناتها وسيئاتها.
﴿ قل من يرزقكم... ﴾ هذه ثمانية أسئلة أجابوا عن خمس منها. وأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن اثنين منها بتعليم الله إياه، لعدم قدرتهم على الإجابة عنهما. ولم يذكر جواب الأخير منهما لشهرته والعلم به، وهو قوله :﴿ أفمن يهدي إلى الحق ﴾.
﴿ فأنى تصرفون ﴾ فكيف مع ذلك تصرفون عن الحق إلى الضلال، وعنت التوحيد إلى الشرك.
﴿ كذلك حقت ﴾ كما حقت كلمة الربوبية لله تعالى. أو كما صرفوا عن الحق بعد الإقرار به، حقت ﴿ كلمة ربك ﴾ على هؤلاء المتمردين في الكفر ﴿ أنهم لا يؤمنون ﴾ أي وجب وثبت حكمه عليهم بذلك. يقال : حق الأمر يحق ويحق حقة، وجب ووقع بلا شك، وحق الشيء أوجبه، كأحقه. لازم متعد.
﴿ فأنى تؤفكون ﴾ فكيف تصرفون مع ذلك عن الحق إلى الضلال، وعن التوحيد إلى الشرك ( آية ٧٥ المائدة ص ٢٠٢ )
﴿ أمن لا يهدي.. ﴾ هذه قراءة حفص ويعقوب أي لا يهتدي أبدلت التاء دالا – لاتحاد
مخرجهما- وأدغمت في الدال، وكسرت الهاء تخلصا من التقاء الساكنين. والمعنى : وإذا كان شركاؤكم لا يهدون إلى الحق فأنا أسألكم : آلله الذي يهدي إلى الحق حقيق بالإتباع أم الأوثان التي لا تهتدى إلا أن تهدى ؟ أي لا تنتقل من مكان إلى مكان إلا أن تحمل وتنقل. فبين الله بهذا عجز الأوثان والأصنام حتى عن حالها في أنفسها.
﴿ وما كان هذا القرآن... ﴾ زعم المشركون أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد اختلق القرآن من تلقاء نفسه، فأخبر الله تعالى أن هذا القرآن وحي أنزله عليه، وأنه مبرأ عن الاختلاق
والافتراء، وأنه لا يقدر عليه أحد إلا الله. ثم ذكر ما يؤكد ذلك بقوله :﴿ ولكن تصديق الذي بين يديه ﴾ أي ما سبقه من الكتب المنزلة، فهو موافق لها في أصولها. ﴿ و تفصيل الكتاب ﴾ أي تفصيل ما كتب وأثبت من الشرائع. ﴿ لا ريب فيه ﴾ أي لا شك فيه أنه كذلك.
﴿ أم يقولون افتراه ﴾ ﴿ أم ﴾ منقطعة بمعنى بل التي للانتقال والهمزة التي للإنكار، عند الجمهور. أي بل أيقولون افتراه واختلقه ؟ وهو قول منهم في غاية الشناعة. ﴿ قل ﴾ إن كان الأمر كما تزعمون﴿ فأتوا بسورة مثله ﴾ أي فأتوا من عند أنفسكم، أو ممن سبقكم من فصحاء العرب وبلغائهم بسورة مماثلة له في صفاته وخصائصه، فحيث عجزتم عن ذلك دل على أنه ليس من كلام البشر.
﴿ وادعوا من استطعتم ﴾ دعاءه والاستعانة به من آلهتكم أو من غيرها. ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في أني افتريته.
﴿ بل كذبوا... ﴾أي فما أجابوا وما قدروا، بل سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه،
و يقفوا على ما في تضاعيفه من الأدلة على صدقه، وأنه كلام رب العالمين. ومسارعة الإنسان إلى تكذيب ما لم يحط به علما من أفحش الجهل. ﴿ و لما يأتهم تأويله ﴾ أي ولم يعرفوا معانيه المنبئة عن علو شأنه مع انسياقها إلى النفوس بنفسها بمجرد التأمل والتدبر. فالتأويل : بمعنى التفسير. والإتيان مجاز عن المعرفة. أو ولم ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة مع توقعه. ومسارعتهم إلى التكذيب دون انتظار ذلك مع قيام تلك الأدلة على صدقه – غاية في الجهالة. فالتأويل : بمعنى وقوع مدلوله، وهو عاقبته وما يئول إليه.
﴿ لي عملي ولكم عملكم ﴾ لي ثمرة عملي، ولكم ثمرة أعمالكم من الثواب والعقاب يوم الحساب.
﴿ ويوم يحشرهم... ﴾ ويوم يجمعهم في موقف الحساب كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا برهة يسيرة من نهار. والمراد بهذا التشبيه : بيان تأسفهم وتمنيهم طول مكثهم قبل ذلك، لهول ما يرون مما لم يكونوا متوقعين له. ﴿ يتعارفون بينهم ﴾ يعرف بعضهم بعضا في هذا الموقف، كأنهم لم يتعارفوا إلا قليلا.
﴿ و إما نرينك.... ﴾ أي وعن أريناك في حياتك بعض ما نعدهم به من العذاب فذاك، وإن توفيناك قبل أن نريك فسنريكه في الآخرة.
﴿ ولكل أمة رسول... ﴾ ولكل أمة مكلفة بشريعة رسول يأتي يوم القيامة يشهد عليها بالبلاغ
و الكفر والإيمان، فإذا شهد بذلك قضي بينهما وبينه بالعدل، فحكم بنجاة المؤمن وعقاب الكافر﴿ وهم لا يظلمون ﴾ شيئا أصلا في ذلك القضاء.
﴿ لكل أمة أجل ﴾ جواب آخر عن استعجالهم العذاب ( آية ٣٤ الأعراف ص ٢٥٨ ).
﴿ أرأيتم إن أتاكم..... ﴾أي قال لهم : إن عذابكم أمر محتوم، له أجل معلوم، سنة الله في الذين خلوا من قبلكم، فأخبروني إن حل بكم بغتة، في أي وقت وفي أي حالة كنتم عليها :- أي نوع من أنواعه تطلبونه على عجل ؟ والمراد تقريعهم على الاستهزاء بالوعيد وعلى استعجال العذاب، وتهويل أمر العذاب الذي سيحل بهم عما قريب. و﴿ بياتا ﴾ أي وقت بيات، وهو الليل. ( آية ٤ الأعراف ص ٢٠٢ ).
﴿ أثم إذا ما وقع ﴾ أي أبعد ما وقع العذاب وحل بكم﴿ آمنتم به الآن ﴾ حين لا ينفعكم الإيمان ﴿ وقد كنتم به تستعجلون ﴾ والمقصود الإنكار عليهم في تأخير الإيمان إلى هذا الحد. وهمزة الاستفهام داخلة على ﴿ ثم ﴾ المفيدة للتراخي، والاستفهام للتقريع والتوبيخ.
﴿ و يستبئونك ﴾ يستخبرونك عن العذاب الموعود. يقال : استنبأت زيدا عن عمرو، أي طلبت منه أي يخبروني عنه. ﴿ إي وربي لحق ﴾ أي نعم وربي إنه لحق واقع. ولا تستعمل﴿ إي ﴾ حرف جواب بمعنى نعم إلا مع القسم خاصة. ﴿ و ما أنتم بمعجزين ﴾ ( راجع آية ١٣٤ الأنعام ص ٢٤٣ ).
﴿ و أسروا الندامة ﴾ أي أخفوا آثار الغم والأسف على ما فعلوا من الظلم، كالبكاء والعويل وعض الأيدي، فلم يظهروها لشدة حيرتهم وذهولهم حين رأوا الأهوال الشداد.
﴿ أرأيتم... ﴾ أخبروني ما خلقه الله لأجل نفعكم من الأرزاق فبعضتموه، وجعلتم منه حراما كالبحيرة والسائبة، وحلالا كالميتة، أأذن لكم الله منه ؟ أم تفترون على الله الكذب بنسبة ذلك إليه ؟ و﴿ قل ﴾ الثانية للتأكيد.
﴿ وما تكون في شأن ﴾ في أمر معتنى به، من شأنه – بالهمز- يشأنه، إذا قصده، فهو مصدر بمعنى المفعول. ﴿ وما تتلوا منه من القرآن ﴾ أي وما تتلوا قرآنا من أجل الشأن الذي نزل بك. و﴿ من ﴾ الأولى تعليلية، والثانية مزيدة للتأكيد. ﴿ ولا تعملون من عمل ﴾ أي عمل كان
﴿ إلا كنا عليكم شهودا ﴾ رقباء مطلعين عليه حافظين له، لإحاطة علمنا بكل شيء. ﴿ إذ تفيضون فيه ﴾ تشرعون فيه، وتتلبسون به. وأصل الإفاضة : الاندفاع بكثرة أو شدة. ثم أقام – جل شأنه – البرهان على إحاطة علمه بالجزئيات أو الكليات بقوله :﴿ وما يعزب عن ربك ﴾ ما يغيب ويخفى عنه تعالى أصغر شيء في الوجود والإمكان يقال : عزب الشيء يعزب ويعزب، غاب وخفي فهو عازب.
والمثقال : ما يوازن الشيء. والذرة : النملة الحمراء الصغيرة جدا. أو الهياءة التي ترى في شعاع الشمس الداخل من النافذة.
﴿ إن أولياء الله ﴾ بيان لأحوال أولياء الله المخلصين، وهم عباده الذين يتولونه بالطاعة
و يتولاهم بالكرامة. جمع ولي، وهو ضد العدو، فهو المحب، ومحبة العباد لله طاعتهم له. ومحبته لهم إكرامه إياهم. وأصله من الولي بمعنى القرب. وهؤلاء لا يخافون حين يخاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس يوم القيامة.
﴿ لا تبديل لكلمات الله ﴾ لا تبديل لأقواله تعالى، التي من جملتها ما بشر به المؤمنين المتقين.
﴿ إن العزة لله جميعا ﴾كلام مستأنف لتعليل النهي عن الحزن. أي إن الغلبة الشاملة، والقوة الكاملة، والقدرة التامة لله تعالى وحده، فهو ناصرك ومعينك، فلا يحزنك ما يقولون فيك وفي القرآن، وما يدبرونه في أمرك.
﴿ وما يتبع الذين يدعون.... ﴾ أي ما يتبع هؤلاء المشركون شركاء في الحقيقة، وإن ظنوها شركاء جهلا منهم وسفها. ﴿ وإن هم إلا يخرصون. ﴾يحزرون ويقدرون أنهم شركاء، فهو مجرد تخمين. أو يكذبون فيما نسبوه إلى الله من ذلك ( آية ١١٢ الأنعام ٢٣٩ ).
﴿ هو الذي جعل لكم الليل.. ﴾ بيان لتفرده تعالى بالقدرة الكاملة، والنعمة الشاملة، ليدلهم على تفرده باستحقاق العبادة.
﴿ إن عندكم من سلطان بهذا ﴾ أي ما عندكم حجة، وبرهان على ما زعمتم من اتخاذه تعالى ولدا، حيث قلتم : الملائكة بنات الله. وقالت اليهود : عزيز ابن الله، وقالت النصارى : المسيح ابن الله.
﴿ كبر عليهم مقامي ﴾ عظم وشقت عليكم قيامي، أي وجودي بينكم، أو إقامتي بين أظهركم، أو على دعوتكم مدة طويلة، فهو اسم مكان، أو مصدر ميمي. ﴿ فأجمعوا أمركم ﴾ أعزموا
وصمموا على إهلاكي. يقال : كأجمع أمره وأجمع عليه، أي عزمه وصمم عليه. وأصله جعل أمره مجموعا بعد ما كان مفرقا. ﴿ و شركاءكم ﴾ أي مصاحبين لهم في العزم على إهلاكي. ﴿ ثم لا يكن أمركم ﴾ ثم لا يكن أمركم مستورا عليكم بل أظهروه وجاهروني به، فإن الستر إنما يصار إليه اتقاء الهرب أو نحوه، وذلك محال في حقي، فلم يكن للستر وجه. والغمة : الستر، من غمه إذا ستره. و ﴿ عليكم ﴾ متعلق ب﴿ غمة ﴾.
﴿ ثم اقضوا إلي.... ﴾ أدوا إلى ذلك الأمر الذي تريدون بي، كما يؤدى الرجل دينه إلى غريمه، من القضاء بمعنى الأداء. يقال : قضى دينه، إذا أداه. ﴿ ولا تنظرون ﴾ ولا تمهلوني بل عجلوا أشد ما تقدرون عليه. والكلام خارج مخرج التهكم.
﴿ وجعلناهم خلائف ﴾ وصيرنا الناجين يخلفون في الأرض من هلكوا بالطوفان.
﴿ نطبع ﴾ أي مثل ذلك الطبع المحكم نطبع على قلوب المتجاوزين للحدود في الكفر والفساد، وذلك بخذلانهم وتخليتهم وشأنهم لانهماكهم في الضلال والطبع : الختم والاستيثاق.
﴿ لتلفتنا ﴾ لتصرفنا وتلوينا﴿ عما وجدنا عليه آباؤنا ﴾ من الدين. و اللفت : الصرف واللي.
يقال : لفته يلفته لفتا، صرفه إلى ذات اليمين أو الشمال. ولفت الشيء وفتله : لواه عنه وصرفه.
﴿ وملئهم ﴾ أي أشراف قومهم. ﴿ أن يفتنهم ﴾أي يبتليهم ويعذبهم ليحملهم على الرجوع عن الإيمان، من الفتن( آية ١٠٢ البقرة ص ٤٠ ).
﴿ لا تجعلنا فتنة ﴾ أي موضع عذاب لهم، بأن تسلطهم علينا فيعذبونا أو يفتنونا عن ديننا.
﴿ أن تبوأ لقومكما ﴾ أي اتخذا لهم مباءة، أي بيوتا بمصر يسكنون فيها، يقال : بوأت له مكانا، سويته وهيأته له. وتبوأ المكان : اتخذه مباءة، ومنه ﴿ تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ﴾
﴿ و اجعلوا بيوتكم قبلة ﴾ أي مصلى تصلون فيها سرا بعد أن خرب فرعون كنائسكم، حتى تأمنوا وتظهروا على فرعون وقومه.
﴿ اطمس على أموالهم ﴾ أهلكها. أو أمح أثرها. يقال طمس يطمس ويطمس طموسا، درس
وأمحى أثره. ﴿ واشدد على قلوبهم ﴾ أربط عليها واطبع وقسها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان، من الشد على الشيء للإستيثاق منه.
﴿ بغيا وعدوا ﴾ ظلما واعتداء، يقال : بغى عليه بغيا، إذا علا وظلم. وعدا عليه عدوا وعدوانا، ظلمه، كتعدى واعتدى.
﴿ الآن ﴾ أي آلآن تؤمن حين يئست من الحياة وأيقنت الموت ؟ فالظرف متعلق بمحذوف يقدر.
مؤخرا. والاستفهام للتوبيخ والإنكار، لتأخيره الإيمان إلى وقت لا يجدي فيه نفعا لعدم قبوله.
﴿ بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ﴾ أسكناهم وأنزلناهم منزل كرامة، ومكانا صالحا مرضيا.
و إضافته إلى الصدق للمدح، كما في : قدم صدق، ورجل صدق.
﴿ فإن كنت في شك ﴾ الخطاب في هذه الآية وفي قوله بعد ﴿ فلا تكونن ﴾ و﴿ لا تكونن ﴾ للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، كما في نظائرها.
﴿ فلولا كانت قرية ﴾ ﴿ لولا ﴾ للتحضيض كهلا، وفيه معنى التوبيخ والنفي. أي فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكت هلاك الاستئصال، آمنت قبل معاينة العذاب ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته كما أخر فرعون إيمانه – فنفعها ذلك. بأن يقبله الله منها ويكشف عنها العذاب بسببه. لكن قوم يونس لم يجروا على سنة أسلافهم، بل بادروا إلى الإيمان قبل نزول العذاب حين رأوا أمارته، فقبل الله إيمانهم، وكشف عنهم العذاب ومتعهم إلى حين.
﴿ ولو شاء ربك ﴾ أي لكنه لم يشأ ذلك، لكونه مخالفا للحكمة التي بني عليها أساس التكوين
و التشريع.
﴿ وما كان لنفس.... ﴾أي وما كان لنفس علم الله تعالى أنها لا تؤمن، أن تؤمن في حال من الأحوال، كسلامة العقل وصحة البدن وغيرهما – إلا في حال ملا بستها إرادة الله أن تؤمن. و إرادته تابعة لعلمه به، وعلمه به محال، لتعلقه بنقيضه وهو عدم الإيمان، فيلزم انقلاب العلم جهلا، فتكون إرادته ذلك محالا، فيكون إيمانها محالا، إذ الموقوف على المحال محال ذكره العلامة الآلوسي.
﴿ ويجعل الرجس ﴾ العذاب أو الكفر، أو الخذلان الذي هو سبب العذاب. وأصله الشيء المستقذر.
﴿ وأن أقم وجهك... ﴾ وأوحي إل أن أقم نفسك على دين الإسلام، مقبلا بوجهك عليه غير ملتفت إلى سواء. ﴿ حنيفا ﴾ مائلا إليه.
﴿ وما أنا عليكم بوكيل ﴾ أي بحفيظ أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا بشير ونذير والله اعلم.
Icon