تفسير سورة إبراهيم

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

سورة إبراهيم
في السورة تقرير لمهمة النبي، وحملة على كفار العرب وبخاصة زعمائهم وتذكير ببعض الرسل السابقين ومواقف أممهم منهم. وإنذار بالمصائر السيئة التي صاروا إليها وتقرير كون الإيمان هو أساس كل عمل صالح وطريق قويم وكون الكفر هو محبط لكل عمل ومورد للهلاك. وتنديد بما انطبع عليه الناس من الكفر والجحود لنعم الله وحكاية لمناجاة إبراهيم ربه وحملته على الأصنام وتقريع صارم للظالمين في معرض تثبيت النبي وتطمينه.
وفصول السورة مترابطة تبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة، أو فصولا متلاحقة. وقد روي أن الآيتين [٢٨ و ٢٩] مدنيتان ومضمونهما وانسجامهما مع السياق يسوغان الشك في الرواية.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
. (١) يبغونها عوجا: يريدون أن يجعلوا سبيل الله معوجة منحرفة أو يريدون أن يجعلوا الناس يسيرون على طريقة معوجة منحرفة.
ابتدأت آيات السورة بالحروف المتقطعة للتنبيه والاسترعاء على ما رجحناه
213
في أمثالها وتبعها تنويه بالقرآن جريا على أسلوب معظم المطالع المبتدئة بالحروف المتقطعة.
وعبارة الآيات واضحة. والمتبادر أن الآية الأولى في صدد تشبيه الناس بدون رسالة نبوية من قبل الله وكتاب رباني كمن هم في ظلمات دامسة لا يستبينون طريق الحق المستقيم الواضح في عقائدهم وسلوكهم، ثم في صدد التنويه بحكمة الله ورحمته التي اقتضت أن يرسل رسوله ويوحي إليه بآيات كتابه ليخرج الناس من تلك الظلمات وينير لهم سبيل الحق في كل ما يتعلق بأمور الدين والدنيا معا ويدعوهم إلى السير فيها.
وقد احتوت الآيتان الثانية والثالثة حملة قوية على الكافرين الذين يجعلهم حبّهم وتفضيلهم متع الحياة وشهواتها على الآخرة يقفون موقف الكفر والصدّ من كتاب الله ودعوة رسوله مع ما فيهما من قصد إخراجهم من الظلمات إلى النور ويبذلون جهدهم لإبقاء الأمور معوجة منحرفة.
وفي الآية الثالثة توكيد لما تكرر تقريره في القرآن ومرّ منه أمثلة من كون موقف الجحود والمناوأة الذي وقفه الكفار من الرسالة المحمدية متصل بجحودهم الآخرة وتعلقهم بالدنيا. وفي هذا تنطوي حكمة من حكم التنزيل فيما احتوته آيات عديدة من التهوين بالدنيا ومتاعها والترغيب في ما عند الله عزّ وجل، مما مرّ منه أمثلة ويأتي فيما بعد أمثلة عديدة أخرى.
وجملة وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تلهم أن الحملة موجهة بنوع خاص على الزعماء الذين يتولون كبر معارضة النبي ﷺ ويمنعون الناس عن اتباعه كما هو المتبادر.
دلالة جملة لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ على عموم الرسالة المحمدية
وتعبير النَّاسَ وإن كان يطلق على مختلف فئات السامعين أو أي مجتمع فإن وروده في الآيات مطلقا يتضمن معنى التقرير بأن دعوة النبي هي عامة لجميع
214
الناس في كل ناحية من أنحاء الأرض لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
وهذا المعنى مؤيد بآيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. بل أكثر من هذا فإن القرآن قد رشحها لتكون دين العالم جميعه الظاهرة على جميع الأديان ورشح معتنقيها ليكونوا خير أمة أخرجت للناس وخلفاء الأرض قاطبة كما ترى في هذه الآيات:
١- هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح: ٢٨].
٢- وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور: ٥٥].
٣- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: ١١٠].
٤- الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: ٤١].
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) [٤].
عبارة الآية واضحة، وقد احتوت تعليلا لإرسال الله رسله من قومهم حتى يبينوا لهم رسالة الله بلسانهم.
وقد يبدو في كلّ من فقرتي الآية إشكال، أما إشكال الفقرة الثانية فإنه يزول بالحملة الإنذارية بالعذاب والتعنيف للكافرين في الآيات السابقة واللاحقة وفيما ورد في آيات أخرى من تقييد بأن الله إنما يضلّ الفاسقين والظالمين ويهدي إليه من
215
أناب، على ما تكررت الإشارة إليه في المناسبات العديدة المماثلة. والراجح أنها هنا على سبيل تطمين النبي عليه السلام وتسليته. فمهمته هي مهمة الرسل من قبله، وهي التبيين فمن كانت فيه رغبة صادقة بالإيمان والإنابة اهتدى ومن فقدت فيه ضلّ فلا موجب لاهتمامه وحزنه. وقد تكرر هذا كذلك في سور عديدة لتكرر المواقف الداعية إليه.
تعليق على جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ
وإشكال الفقرة الأولى آت من إيهامها أن رسالة النبي محمد ﷺ إلى قومه وحسب في حين أن القرآن احتوى آيات كثيرة فيها صراحة قطعية على أنها لعموم البشر ومرشحة لتكون دين العالم أجمع على ما ألمعنا إليه آنفا. غير أن ما احتوته الآيات التالية من التمثيل والتذكير والموعظة أولا وكون السياق هو في نطاق الحملة الموجهة إلى كفار قوم النبي مباشرة يزيلان هذا الإشكال. ولقد كان العرب يحاجون في كون القرآن باللغة العربية في حين أن الكتب السماوية المعروفة بغير هذه اللغة، ويحاولون أن يدللوا بذلك على أن القرآن ليس من عند الله، على ما شرحناه في سياق تفسير سورة فصلت، فاقتضت حكمة التنزيل على ما هو المتبادر الإيحاء بالآية للتعليل والإفحام الجدلي.
وقد مرّ في سورتي الشورى والأنعام آيات تذكر أن الله أنزل الكتاب على نبيه عربيا لينذر أم القرى ومن حولها. وهذه من هذا الباب. وليس من شأنها أن تتعارض مع الآيات الصريحة القطعية بعموم الرسالة المحمدية.
ومن عجيب الأقوال التي قيلت في صدد التوفيق بين جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ وبين عموم الرسالة ما أورده السيوطي في الإتقان نقلا عن الواسطي أن في القرآن جميع لهجات العرب في الحجاز واليمن والشام والعراق ونجد واليمامة «١» كما أن فيه من اللغات الفارسية والرومية والقبطية
(١) في الإتقان تعداد لهذه اللهجات بأسماء قبائلها وقد بلغ عددها خمسين!.
216
والنبطية والحبشية والبربرية والعبرانية والسريانية من حيث إن الله أرسل نبيه إلى جميع الأقوام فاحتوى القرآن من جميع اللغات. وقد يكون حقا أن لهجة قريش التي كانت لهجة النبي ﷺ وبيئته في الدرجة الأولى والتي نزل بها القرآن متطورة مع الزمن عن لهجات العرب قبل نزول القرآن لأسباب وعوامل مختلفة. وقد يكون حقا أن في القرآن ألفاظا معربة من اللغات الأعجمية من فارسية ورومية وعبرانية وسريانية وقبطية أعلاما وغير أعلام دخلت على اللهجة العربية القرشية وجرت مجراها وصارت جزءا منها قبل نزول القرآن كذلك. غير أن العجيب في الأمر الذي لا يؤيده عقل ولا نقل أن يقرر كون ذلك للتوفيق بين عموم الرسالة المحمدية وبين نزول القرآن باللغة العربية واللهجة القرشية. والدراسات أثبتت أن هذه اللهجة كانت هي الشاملة إجمالا لجميع العرب في جميع أنحاء جزيرة العرب وأطرافها حين نزول القرآن بل قبل نزوله بمدة غير قصيرة ومن الأدلة القرآنية على ذلك وصف غير اللغة العربية التي نزل بها القرآن باللغة الأعجمية في آية سورة النحل هذه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) والآيات العديدة التي ذكر فيها أن الله قد جعله عربيا وأنزله عربيا لقوم يعلمون ويعقلون ولعلهم يعلمون ويعقلون كما جاء في آيات سور فصلت [٣ و ٤٣] والشورى [٧] والشعراء [١٩٣- ١٩٥] والرعد [٣٧] ويوسف [٢] والزمر [٢٧- ٢٨] وآيات الزمر مهمة في بابها حيث تنطوي على تقرير كون القرآن مأنوسا لا تعقيد فيه ولا عوج يفهمه جميع الناس على ما شرحناه في سياق تفسيرها. ومن الأدلة المتواترة اليقينية أن القرآن كان يتلى على مختلف فئات العرب على اختلاف منازلهم في أنحاء الحجاز وغير الحجاز من جزيرة العرب وأطرافها فكانوا يفهمونه ويجادلون فيه وأن النبي كان يتحدث إليهم ويكتب لهم بلسانه في العهد المكي ثم في العهد المدني وبدليل أن ما أثر وعرف يقينا من كلام العرب قبل الإسلام والعائد إلى مائة سنة هو مماثل في ألفاظه ومفرداته وتراكيبه لألفاظ ومفردات وتراكيب القرآن.
ولقد وقف المفسرون أمام إشكال كون القرآن عربيا وكون رسالة النبي محمد
217
التي يمثلها القرآن هي لجميع الأقوام فقالوا فيما قالوه إن الترجمة كفيلة بإبلاغ القرآن والرسالة المحمدية إلى غير العرب، وإنه لما كان من غير المعقول أن ينزل القرآن بلغات جميع الأمم فكان الأولى أن ينزل بلغة الرسول الذي أنزل عليه فيكون الناس تبعا للمؤمنين من قومه ويبلغون الرسالة بالترجمة «١». وهو حق. ويحسن أن يضاف إليه ما يكون في ذلك من وسيلة إلى انتشار اللسان العربي أيضا. فما دام القرآن قد رشّح الدين الإسلامي ليكون دين العالم أجمع على ما ذكرناه قبل قليل فإن اللسان العربي الذي هو لسان قرآن الله وسنّة نبيه يكون مرشحا بالتبعية ليكون لسان العالم أجمع أيضا. وقد تكون الترجمة الوسيلة الأولى للدعوة بالنسبة لمن يجهل العربية. ولقد باشر النبي ﷺ مهمة دعوة غير العرب ممن يعرفون العربية وممن لا يعرفونها معا، وأرسل لهؤلاء رسله وكتبه بالعربية اعتمادا على الترجمة بطبيعة الحال. وكان ملوك فارس والروم ومصر والحبشة من جملة من أرسل إليهم رسله وكتبه. وإذا كان التاريخ الوثيق لم يرو أنه قابل أناسا يجهلون اللغة العربية من كتابيين وغير كتابيين مواجهة، فمما لا شك فيه أن أصحابه الذين منهم من قاد حملات الفتح ومنهم من اندمج فيها قد قابلوا من أهل الشام ومصر والعراق وفارس أناسا لا يعرفون العربية وأنهم بلغوهم الرسالة المحمدية والقرآن العربي بالترجمة وأن من انضوى إلى الإسلام منهم وهم كثيرون قد انضووا نتيجة لذلك.
ثم استمر هذا بعد دور الخلفاء الراشدين وما يزال إلى اليوم مستمرا يبلغ المسلمون القرآن والسنّة المحمدية إلى غير العرب بطريق الترجمة فيقبل الناس على الانضواء إليها في مشارق الأرض ومغاربها.
ولقد حمّل القرآن الأمة العربية مهمة نشر الرسالة الإسلامية على ما شرحناه في سياق سورة الزخرف لأنهم هم الذين بعث النبي ﷺ منهم، ولسانهم هو لسانه ولسان القرآن الذي أنزله الله عليه. ولقد قام المسلمون الأولون من العرب بالمهمة خير قيام فدانت بالإسلام غالبية البلاد المفتوحة التي كانت ممتدة في أوائل القرن
(١) انظر تفسير الآية في الزمخشري والبغوي والخازن مثلا.
218
الثاني الهجري من المحيط الأطلسي غربا إلى حدود الصين والهند شرقا ومن جبال القفقاس وأرمينية وبحري قزوين والخزر وهضبة تركستان شمالا إلى بلاد السودان والحبشة والصومال جنوبا وشملت فيما شملت قسما من غرب أوروبا وسواحلها الجنوبية والغربية وجزر البحر الأبيض المتوسط. وكان انتشار اللغة العربية يسير سيرا سريعا في الوقت نفسه في مختلف أنحاء هذه المساحة الشاسعة والواسعة مع انتشار الإسلام لأنها لغة الدين الذي أقبل أهلها على اعتناقه والذي لا يفهم فهما صحيحا إلّا من منابعه وهي القرآن والحديث وبلغته الأصلية فضلا عن وجوب تلاوة القرآن باللسان العربي الذي أنزله الله به في الصلاة وفضلا عن أن هذا اللسان هو لسان الحكام في البلاد، حتى غدت اللغة العربية هي اللغة الوحيدة تقريبا لأهالي البلاد التي تمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي والتي ظلت تحت السلطان العربي بدون انقطاع وغدا نصف مفردات لغات الأمم الأخرى التي في شرق هذه الساحة وغربها وجنوبها وشمالها والتي حالت المنازعات والمنافسات بين العرب دون بقاء سلطانهم فيها حيث يبدو من هذا صحة ما قلناه من أن اللغة العربية كانت مرشحة لتكون لغة العالم تبعا لترشح الإسلام ليكون دين العالم.
ولم يتوقف انتشار الإسلام قط- واللغة العربية تبعا له- برغم ضعف السلطان العربي في القرن الثالث الهجري وبعده بل إن عدد الذين دانوا بالإسلام في هذا الدور بلغ أضعاف من دانوا به في دور قوة السلطان العربي وتجاوز الحدود التي وقف عندها إبّان قوة هذا السلطان إلى آفاق بعيدة في الصين والهند وجزر المحيط الهندي والمحيط الكبير مثل أندونيسيا والفلبين واليابان وفي أواسط إفريقية وفي أوروبا وأميركا الجنوبية والشمالية بفضل استمرار المسلمين العرب ومن غدا في حكمهم من المستعربين على القيام بالمهمة التي حملهم إياها القرآن لأن عناصر الاستجابة إليه ليست القوة والغلبة ولكنها المبادئ السامية الدينية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والإنسانية التي انطوت فيه وفي الأحاديث النبوية المتساوقة والتي لا تحتاج إلّا إلى قلوب صافية ونوايا حسنة ورغبة صادقة في الحق والهدى مجردة عن العناد والأنانية والمآرب ثم إلى دعاة مخلصين. ولسنا نشك في أن الله
219
سيظل يقيض لدينه الدعاة المخلصين وييسر الظروف والسبل حتى يتحقق وعده بإظهاره على الدين كلّه لأنه شرعه وأرسل نبيه به ليكون هدى ورحمة للعالمين، وستظل اللغة العربية تنتشر معه بإذن الله.
وواضح مما تقدم أن المسلمين الأولين من عرب ومستعربين لا بدّ من أنهم قد ترجموا القرآن إلى لغات عديدة لأن ذلك كان الوسيلة الأولى إلى عرضه على الأمم ودعوتها إلى الإسلام. غير أنه ليس هناك على قدر ما نعلم ترجمات قديمة يصح أن تكون مرجعا كما أننا لا نعلم أن الترجمات القديمة كانت للحروف أو المعاني. والفرق مهم بين الأمرين. وهناك من يقول قديما وحديثا باستحالة الترجمة الحرفية أو عدم جوازها. وقد يكون في هذا صواب ووجاهة غير أنه لم يمنع كثيرا من الأفراد مسلمين وغير مسلمين في زماننا وما قبله من ترجمة القرآن بلغات عديدة ترجمة حرفية في بعضها كثير من الأغلاط والتحريف المقصود وغير المقصود. ولما كان واجب عرض القرآن على الأمم غير العربية والدعوة إلى الإسلام هو واجب مستمر ثمّ لما كان كثير من المسلمين من غير العرب لا يزال يجهلون العربية وهم في حاجة لا مناص منها إلى فهم القرآن بلغاتهم فإن هذا وذاك يقتضيان أن يكون للقرآن ترجمات رسمية بلغات عديدة يوقف عندها وتكون مرجعا.
وهو ما يجب على الدول الإسلامية أن تتفق على تحقيقه حتى لا يظل الأمر فوضى ويترك الميدان لمن يقتحمه من أفراد مسلمين وغير المسلمين بحيث تؤلف هيئة إسلامية تنظر أولا في أمر جواز وإمكان الترجمة الحرفية ثم تشرف على الترجمة الحرفية أو ترجمة المعاني حسب ما تتفق عليه بعد التمحيص والدراسة إلى لغات عديدة فتكون الترجمات التي تنبثق عن ذلك هي الصحيحة الصادقة التي يوقف عندها.
مع التنبيه على أن هذه الترجمات هي للدعوة والفهم وليست للصلاة التي لا يجوز أن تؤدى بغير قرآن عربي مبين على ما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة الشعراء.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٥ الى ٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
220
(١) أيام الله: بمعنى عذاب الله في الأمم السابقة. وتعبير الأيام عند العرب يعني الحروب ووقائعها والشدائد والمصائب.
(٢) تأذّن: قطع على نفسه عهدا.
في الآيات تذكير برسالة موسى لقومه: فقد أرسله الله بآياته ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويذكرهم بأيام الله مع غيرهم. وقد قام بالمهمة فذكّر قومه بنعم الله عليهم حيث نجاهم من عذاب فرعون الذي كان من جملته تذبيح ذكورهم واستحياء نسائهم واستعبادهن. وقال لهم فيما قال إن الله قد أخذ عهدا على نفسه بأن يزيدهم من نعمه إذا هم أدوا حقه من الشكر كما أنه أعدّ لهم عذابه الشديد إذا كفروا، وقرر لهم أن شكرهم وكفرهم إنما يعود نفعهما وضررهما عليهم وحدهم وأنهم لو كفروا هم ومن في الأرض جميعا لما أزعجوا الله الذي هو غني عن كلّ أحد والذي هو المحمود بذاته سواء شكره الناس أم لم يشكروه.
والمتبادر أن الآيات جاءت بمثابة تعقيب على موقف الكفار العرب والحملة عليهم مما هو متسق مع أسلوب سياق القصص القرآنية. فكفار العرب انحرفوا عن الطريق الحق فأرسل الله رسولا منهم يخاطبهم بلغتهم ليهديهم- على ما جرت عليه سنّته- ومن ذلك رسالة موسى إلى قومه. ويلفت النظر إلى التشابه في الخطاب حيث احتوى مطلع السورة أن الله أنزل الكتاب على النبي ليخرجهم من الظلمات إلى النور وأن هذا كان شأن موسى أيضا. ولقد كان العرب يعرفون رسالة موسى وقصصه في قومه وفي فرعون فجاء التذكير محكما ملزما. وقد تكون حكمة التنزيل
221
استهدفت في حكاية الخطاب الذي وجهه موسى عليه السلام لقومه تنبيه السامعين من قوم النبي وجعلهم يأخذون منها عظة وعبرة. فإن شكروا زادهم الله نعمة وإن كفروا فإن الله غني عنهم وعن غيرهم. وإن صحّ استلهامنا هذا ففيه ما يدعم ما قررناه قبل من انطواء الآية السابقة على تسلية النبي ﷺ وتطمينه.
تعليق على جملة وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
وهذه الجملة جديرة بالتنويه لذاتها ولو أنها حكاية قول موسى عليه السلام لقومه. وورودها في القرآن مؤيد لنسبتها إلى الله. وقد تضمنت عهدا من الله بمقابلة الشاكرين لنعمه بالزيادة والرعاية. وفي ذلك ما فيه من بشرى ورحمة وحثّ على الشكر الذي يستوجب دوام نعم الله والمزيد منها ويستوجب إلى ذلك ذكر الله وتقواه وابتغاء رضائه. وفي ذلك تلقين جليل مستمر المدى يضاف إلى ما في الشكر مطلقا من تلقين وعلاج روحي على ما شرحناه في سياق سورة لقمان.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٩ الى ١٧]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
222
(١) فردّوا أيديهم في أفواههم: كناية عن منع الرسل من الكلام على ما يفعله المرء حينما يسمع شيئا غريبا أو حينما يستهزىء بشيء أو يكذبه. وقيل إنها بمعنى أن الكفار عضّوا على أصابعهم تعجبا.
(٢) سلطان: هنا وفي كثير من آيات القرآن بمعنى الدليل والبرهان.
(٣) استفتحوا: استنصروا وطلبوا الفتح والنصر على الأعداء. ويحتمل أن يكون ضمير الجمع راجعا إلى الكفار كما يحتمل أن يكون راجعا للرسل ويحتمل أن يكون راجعا للفريقين أي أن كلا منهما طلب النصر على خصمه فنصر الله رسله وخيّب كل جبّار عنيد.
(٤) ماء صديد: ماء نتن. والصديد هو السائل النتن الذي يخرج من البثور والجروح والدمامل.
قال الطبري: إن الآيات استمرار لحكاية خطاب موسى لقومه. وتابعه مفسرون آخرون وتوقف ابن كثير في ذلك ورجح أنه كلام مستأنف وليس من كلام موسى. وقال إن في كلام ابن جرير نظر فإنه قيل إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصصه عليهم لاقتضى أن تكون هاتان القصتان في التوراة ثم فوّض الأمر إلى علم الله. والعبارة القرآنية في حد ذاتها تحتمل القولين. وفي سورة غافر آية تحكي عن لسان مؤمن آل فرعون خطابا موجها إلى قومه فيه تذكير لهم بما وقع على قوم نوح وعاد وثمود بسبب كفرهم بالله ورسالاته. حيث يسقط بذلك ما حاول ابن كثير أن يتفاداه بسبب عدم ورود
223
قصة عاد وثمود في التوراة. ولقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير سورة غافر بما يغني عن التكرار.
وعبارة الآيات واضحة. وقد احتوت حكاية ما كان بين الرسل وأقوامهم من أخذ ورد وحجاج ولجاج وتحدّ وتهديد ووعيد وانتهت بتقرير خيبة كل جبار عنيد وخزيه في الدنيا وشدّة ما ينتظره في الآخرة من عذاب وأهوال. واستهدفت كما هو المتبادر تذكير السامعين الكفار بعاقبة الكفار العنيدين الأولين في الدنيا وما سوف تكون عاقبتهم في الآخرة وإثارة الخوف والارعواء فيهم، وفيها كما في سابقتها معنى التعقيب على آيات السورة الأولى التي حكت موقف كفار العرب كما هو المتبادر أيضا.
ويلفت النظر إلى التماثل بين ما تحكيه الآيات من موقف كفار الأمم السابقة وأقوالهم وما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها من موقف كفار العرب وأقوالهم ومجادلتهم وتهديدهم للنبي والمؤمنين بالإخراج وأذيتهم لمن يقدرون على أذيته منهم. وكذلك التماثل بين ما تحكيه من أقوال الأنبياء وردودهم وبين ما حكته آيات عديدة مرت أمثلة منها من موقف النبي وردوده على الكفار بلسان القرآن.
وواضح أن هذا التماثل يزيد في قوة تأثير الآيات في السامعين من جهة وفي تطمين النبي والمؤمنين وتسليتهم من جهة أخرى، وهو ما استهدفته الآيات كما هو المتبادر.
وجملة أَفِي اللَّهِ شَكٌّ جديرة بالتنويه. فكفار الأمم السابقة يقولون لأنبيائهم إننا في شك مما تدعوننا إليه ويطلبون برهانا على صحة دعوتهم فيحكي القرآن ردّ الأنبياء بأن دعوتهم إلى الله ولا يصح أن يكون في الله شكّ وهو فاطر السموات والأرض حتى يطلبوا برهانا على صحة الدعوة إليه.
وهذا مماثل لموقف القرآن من كفار العرب فكما طلبوا الآيات والخوارق كدليل على صحة رسالة النبي أجيبوا بما يفيد أن الدعوة إلى الله وأنها لا تحتاج إلى
224
آيات وخوارق لأن آيات الله الماثلة أمامهم والتي يرونها ويحسونها في مشاهد الكون العظيم ونواميسه وفي أنفسهم كافية شافية لمن كان حسن النية صادق الرغبة في الإيمان بالله وحده. والمتبادر أن هذا قد حكي على لسان الأنبياء السابقين ليكون فيه لكفار العرب الإلزام والإفحام.
والآيات الأخيرة بخاصة تضمنت تطمينا قويا للنبي والمؤمنين وبشرى تحققت معجزتها بعد الهجرة إلى المدينة حيث أهلك الله رؤساء الكفار وجبابرتهم العنيدين ومكّن للنبي والمؤمنين في الأرض وشملهم بعطفه ورحمته.
ولقد أورد الطبري في سياق الآية [١٧] حديثا نبويا بطرقه عن أبي أمامة جاء فيه: «أنّ رسول الله ﷺ قال في قوله وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله عز وجل وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد: ١٥] ويقول: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ [الكهف: ٢٩] » حيث ينطوي في الحديث توضيح نبوي استهدف الإنذار والترهيب فيما استهدفه كما هو شأن الآية.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٨]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨)
. في الآية تشبيه لأعمال الكفار بالرماد الذي يتعرض لريح شديدة. فكما أن الريح تذري ذرات الرماد فلا يبقى منها شيء فإن كفر الكفار يحبط كل عمل يصدر منهم ويذهب به فلا يكون لهم منه أي نفع وخير. وهذا خسران ليس بعده خسران وضلال ليس بعده ضلال.
والمتبادر أن الآية جاءت معقبة على سابقاتها وأن المقصود منها هو إيذان بحبوط أي عمل مهما كان فيه خير ومكرمة، أو أريد به ذلك ما دام صاحبه كافرا.
وقد تضمنت كما هو واضح تلقينا جليلا متصلا بالدعوة الإسلامية وهو أن كل عمل لا يكون صاحبه مؤمنا بالله متجها إليه وحده لا فائدة منه عند الله لأنه لا يكون
صادرا عن قلب طاهر سليم. وقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها.
ومن مفارقات غلاة مفسري الشيعة العجيبة قولهم في صدد هذه الآية إنها مثل مضروب لمن لم يقرّ بولاية علي فإنه يكفر ويبطل كل عمل له «١»... ومؤدى الرواية أن عليّا هو ربّ الناس.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)
. (١) عزيز: هنا بمعنى ممتنع أو متعذر.
المتبادر أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآية السابقة. والخطاب فيهما موجه إلى السامعين وإن كان جاء في أول الآية الأولى بصيغة المفرد وفي آخرها بصيغة الجمع بل ولعلّه موجه إلى الكفار منهم. والسؤال الذي بدأت به الآية الأولى في معنى تقرير أمر يعرفه أو يعترف به السامعون. وهكذا تكون الآية الأولى قد تضمنت تقريرا بكون السامعين يعترفون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض وبكون ذلك يستتبع أن يكون قد خلقهما بالحق وأن يكون قادرا على إفناء السامعين والناس والإتيان بخلق جديد، وأكدت الآية الثانية قدرة الله على ذلك وعدم عجزه عنه وامتناعه منه.
والمتبادر أن المقصود من كلمة الحق في مقامها تقرير كون الله عز وجل لم يخلق السموات والأرض عبثا وإنما خلقهما لحكمة سامية، وهو ما قررته آيات كثيرة مرّت أمثلة منها. وعلى ضوء الآية السابقة للآيتين وعلى ضوء تلك الآيات التي منها آيات سورة الذاريات هذه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما
(١) التفسير والمفسرون للذهبي، ج ٢ ص ٧٠. [.....]
أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) يمكن أن يقال إن هذا تضمن تقرير كون من حكمة الله أن يؤمن الناس بالله ويتجهوا إليه وحده فإذا لم يفعلوا ذهبت أعمالهم هباء عنده واستحقوا غضبه.
ولما كان كفار العرب يعترفون بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، على ما حكته عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها فتكون الحجة في الآيتين دامغة مفحمة لهم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
. (١) الضعفاء: هنا بمعنى العوام التابعين لتوجيه الزعماء والرؤساء، وهم الذين عنتهم جملة لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا.
(٢) مغنون عنا: نافعون لنا أو دافعون عنا.
(٣) ما لنا من محيص: ما لنا من مفرّ وخلاص سواء أجزعنا أم صبرنا.
(٤) ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ: بمعنى ما أنا بناصركم وما أنتم بناصريّ والتعبير من تعابير العرب القديمة ويعني الاستجابة إلى دعوة النصر وتلبية الصارخين في طلب المساعدة.
احتوت الآيات صورتين عما سوف يكون من مصير الكفار يوم القيامة:
227
١- فحينما يعرضون على الله ويقفون للقضاء والجزاء سيشعرون بالندم ويدركون هول ما هم مقبلون عليه فيبادر العوام الذين استجابوا لتوجيه الزعماء والكبار إلى زعمائهم قائلين لهم في معرض العتب والتثريب: إنا كنا لكم في الدنيا تبعا واستجبنا لتوجيهكم فكذبنا رسل الله وتصاممنا عن دعوتهم فهل أنتم دافعون عنا شيئا من عذابه؟ فيجيبهم هؤلاء يائسين: إنّا لو هدانا الله لهديناكم! فنحن وإياكم في الموقف سواء وليس لنا ولا لكم مفرّ منه سواء أجزعنا أم صبرنا.
٢- وحينما ينتهي القضاء الرباني فيهم ينبري لهم الشيطان فيخاطبهم قائلا في معرض التنديد والتبكيت أيضا: إن الله قد وعدكم وعد الحقّ وحقق ما وعد ووعدتكم فلم أحقق لكم شيئا. ولم يكن لي عليكم سلطان قاهر وقصارى ما فعلت أني دعوتكم إلى الانحراف والاعوجاج عن طريق الهدى والحق فسارعتم إلى الاستجابة فلا تلوموني ولوموا أنفسكم على ما صرتم إليه. وليس من أحد منا قادرا على إنقاذ الآخر ونصره، وإني أعلن براءتي من شرككم لي وأجحده.
وحينئذ يهتف الحق: ألا إن الظالمين الذين بغوا وأجرموا وجحدوا قد استحقوا عذاب الله الأليم.
والمتبادر أن الآيات متصلة بسابقاتها التي احتوت حكاية مواقف الكفار. وقد تضمنت كنتيجة لهذه المواقف بيان مصيرهم الأخروي. وأسلوبها قوي في اللذع والتصوير ومن شأنه إثارة الخوف والرهبة في الكافرين وحملهم على التذكر والتدبر والارعواء قبل مواجهة المصير الرهيب، وهذا مما استهدفته كما هو المتبادر مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي المغيب.
ولقد تكررت حكاية عتاب الضعفاء للزعماء والكبار والمحاورة بينهما بين يدي القضاء الرباني الأخروي مما يدل على ما كان لهؤلاء على أولئك من تأثير.
والمتبادر أنها تستهدف حمل الضعفاء على ليّ وجوههم عن الزعماء وجعلهم يدركون أنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا.
أما حكاية خطاب الشيطان للكفار فالمتبادر أن من المقصود بها دمغ الكفار
228
بدمغة اتباع الشيطان الذي له في أذهانهم صورة بغيضة، وتقرير كون الشيطان نفسه سوف يتبرأ منهم يوم القيامة، وفي هذا غاية التقريع والتبكيت.
والمتبادر أن مما استهدف من ذلك حمل الكفار على الارعواء عما هم فيه من ضلال، زعماؤهم وعوامهم على السواء.
وفي الآيات توكيد ضمني لمعنى متكرر في القرآن وهو حرية الناس في الاختيار واستحقاقهم لمصائرهم وفقا لهذا الاختيار.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين فقضى بينهم ففرغ من القضاء قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربّنا فمن يشفع لنا؟ فيقولون:
انطلقوا بنا إلى آدم فلم ير أن يتقدم للشفاعة ثم إلى الأنبياء الآخرين وحينما يصلون إلى عيسى يقول لهم هل أدلّكم على النبي الأمّي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمّها أحد قط حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظهر قدمي. ثم يقول الكافرون هذا قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلّا إبليس هو الذي أضلّنا فيأتون إبليس فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمّها أحد ثم يقول لهم ما حكته عنه الآية [٢٢] »
. والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة «١». فإذا صحّ فيكون من حكمة النبي ﷺ فيه ما استهدفته الآيات من إنذار وتبكيت للكفار وتطمين للمؤمنين. على أن خبر شفاعة النبي ﷺ يوم القيامة وارد في أحاديث صحيحة، أوردنا بعضها وعلقنا عليها في سياق سورة الإسراء.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٣]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣).
(١) أشار إلى هذا الحديث الطبري والبغوي أيضا ولكن نصه الكامل ورد في تفسير ابن كثير فقط فقلناه عنه.
احتوت الآية بيان مصير المؤمنين الصالحين في الآخرة مقابلة لمصير الكافرين الظالمين. وجاءت بصيغة الماضي للسياق السابق. ولا شك في أنها استهدفت فيما استهدفته بثّ الطمأنينة في نفوس المؤمنين وإثارة الرغبة في غيرهم وقد تكرر ذلك أسلوبا وصيغة كثيرا في حكاية المواقف المماثلة ومرّ منه أمثلة عديدة.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧)
. (١) أصلها: كناية عن جذورها.
(٢) فرعها: كناية عن ارتفاعها في الجو.
(٣) اجتثّت: اقتلعت. والجملة التي فيها الكلمة لبيان عدم إمكان استقرار الشجرة في الأرض حينما تكون رديئة الجنس والصنف وبيان سهولة اقتلاعها.
ولقد روى الطبري وغيره من المفسرين روايات متنوعة عن النبي ﷺ وبعض أصحابه وتابعيهم عن مدى بعض العبارات الواردة في الآيات. من ذلك حديث نبوي عن أنس رواه الترمذي أيضا بصيغة جامعة فنقلناها عنه. وقد جاء فيها:
«أتي رسول الله ﷺ بقناع عليه رطب فقال مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها قال هي النخلة. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار قال هي
230
الحنظل» «١». ومن ذلك في مدى كلمتي (الطيبة والخبيثة) حيث قيل إن الأولى هي كلمة التوحيد أو الإيمان أو المؤمن أو العمل الصالح مطلقا. وإن الثانية هي الشرك أو الجحود أو البغي والظلم، وكل هذه الأقوال وجيهة.
وعلى ضوء ذلك وضوء فحوى الآيات وروحها نقول إن الآيات الثلاث الأولى نبهت السامع إلى التشابه بين الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة وبين الكلمة الخبيثة والشجرة الخبيثة كمثل مضروب للتذكير والعظة. فكما أن الشجرة الطيبة الجنس هي التي ترسخ في الأرض وتعلو في الجو وتنمو على أحسن وجه وتؤتي ثمرا طيبا في كل موسم بدون إخلال كذلك الكلمة الطيبة هي التي تكون ذات أثر مفيد صالح ومستمر في كلّ وقت ومجال. وكما أن الشجرة إذا خبث جنسها لا ترسخ في الأرض ولا تعلو في السماء ولا تؤتي إلّا أردأ الثمر وتقتلع بسهولة، كذلك الكلمة الخبيثة فإنّها لا قرار ولا ثبات لها ولا نفع فيها.
أما الآية الرابعة فهي في مثابة التوجيه والتعقيب: فالذين آمنوا بالله يثبتهم الله بالقول الثابت الصالح النافع في الدنيا والآخرة. وأما الظالمون أي الذين فسدت قلوبهم ودرجوا على البغي والإجرام والانحراف فهم محرومون من هذه العناية الربانية بسبب ظلمهم. والذي يريده الله هو الذي يكون على النحو الذي يشاؤه.
وورود الآيات بعد بيان مصير كل من المؤمنين والكافرين في الآخرة يجعل الصلة بينها وبين ما قبلها قائمة كما هو المتبادر.
ويلفت النظر إلى أسلوب ومضمون الآية الأخيرة. فقد انطويا على إزالة ما يمكن أن يقوم من وهم تحتيم الله سبحانه بضلال ضالين وإيمان مؤمنين بأعيانهم، وعلى تقرير كون عناية الله وتثبيته قد كانا للمؤمن بعد إيمانه لأنه أثبت بذلك حسن نيته وصدق رغبته، وكون سخط الله وإضلاله قد كانا للظالم الكافر المنحرف لأنه اتصف بهذه الصفات أو درج عليها.
(١) التاج ج ٤ ص ١٣٦.
231
تعليق على آية يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وعلى ما ورد من أحاديث عن سؤال القبر
والآية في حدّ ذاتها جديرة بالتنويه بصورة خاصة. فهي تلهم أنها بسبيل تقرير أن من شأن الإيمان أن يشع في نفس صاحبه فيجعله يدرك الخير ويسير في طريقه فيسعد ويطمئن ويحظى برضاء الله وعنايته وتثبيته في كلّ موقف في الدنيا والآخرة بعكس الكفر الذي يغلق قلب صاحبه ويجعله مظلما قاتما فلا يتورّع عن اقتراف الآثام والشرور دون رادع ولا وازع فيكون شؤما على نفسه وغيره مستحقّا لسخط الله وغضبه وحرمانه من التسديد والتوفيق.
وننبه بنوع خاص إلى جملة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ حيث ينطوي فيها تقرير كون إضلال الله وعدم إسعاده وتوفيقه للظالمين، إنما كان لتحقق الظلم منهم. وحيث تكون من نوع الضوابط التي ما فتئنا ننبه عليها في مناسباتها لإزالة إشكال العبارات القرآنية المطلقة في هداية الله الناس وإضلالهم.
ومع أن مضمون الآية وروحها شاملان لمواقف الدنيا والآخرة فقد أورد البخاري في فصل التفسير من صحيحه حديثا رواه البراء عن النبي ﷺ يوهم أنه تفسير لهذه الآية وأنها في صدد السؤال الذي يوجه للموتى في قبورهم بعد دفنهم وجوابهم عليه حيث جاء فيه: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ» «١».
ولقد أورد المفسرون في سياق تفسير هذه الآية أحاديث أخرى بعضها يبدو أنها تفسير أو تطبيق للآية وبعضها في سؤال القبر ونعيمه وعذابه كما روى أصحاب
(١) انظر التاج ج ٤ ص ١٣٦.
232
كتب الأحاديث الصحيحة أحاديث عديدة في هذا الباب، من ذلك حديث رواه أبو هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ذلك إذا قيل له في القبر: من ربّك وما دينك ومن نبيّك؟
فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد جاءنا بالبيّنات من عند الله فآمنت به وصدّقت، فيقال له: صدقت، على هذا عشت وعليه متّ وعليه تبعث»
«١». ومن ذلك حديث عن البراء قال: «خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرّتين أو ثلاثا ثم قال: إنّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزلت إليه الملائكة من السماء بيض الوجوه كأنّ وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنّة وحنوط من حنوط الجنّة حتى يجلسوا منه مدّ البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيّتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرّون بها على ملأ من الملائكة إلّا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟
فيقولون: فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في علّيّين وأعيدوه إلى الأرض فإنّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربّك؟ فيقول: ربّي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: الإسلام، فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان: وما علمك؟ فيقول:
(١) انظر تفسير الآية في ابن كثير.
233
قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة. فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيّب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربّ أقم الساعة ربّ أقم الساعة. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجه معهم المسوح فجلسوا منه مدّ البصر ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: أيّتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون على ملأ من الملائكة إلّا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح. ثم يقرأ رسول الله لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: ٤٠] فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجين الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا، ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [الحجّ: ٣١] فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربّك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من السماء أن كذّب عبدي فافرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرّها وسمومها ويضيق عليه حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الذي يجيء بالشرّ؟ فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: ربّ لا تقم
234
الساعة» «١». وقد روى أصحاب كتب الصحاح الخمسة: البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي معا حديثا فيه بعض هذا الحديث عن أنس جاء فيه أن النبي ﷺ قال «إنّ العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل (أي محمّد) ؟ فأمّا المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النّار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنّة، فيراهما جميعا. وأمّا الكافر أو المنافق فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثّقلين» «٢».
ورووا كذلك حديثا عن أسماء قالت: «إنّ النبي ﷺ حمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما من شيء لم أكن أريته إلّا رأيته في مقامي هذا حتّى الجنة والنار فأوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجّال. يقال ما علمك بهذا الرجل فأمّا المؤمن أو الموقن فيقول هو محمّد رسول الله جاءنا بالبيّنات والهدى فأجبناه واتبعناه هو محمد ثلاثا، فيقال نم صالحا فقد علمنا إن كنت لموقنا به. وأمّا المنافق أو المرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» «٣».
ورووا أيضا حديثا عن ابن عمر قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ إن كان من أهل الجنّة فمن أهل الجنّة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» «٤». ورووا: «أنّ النبيّ ﷺ كان يدعو: اللهمّ إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة
(١) تفسير ابن كثير وقد ذكر المفسر أن هذا الحديث رواه أبو داود من حديث الأعمش والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال بن عمرويه.
(٢) انظر التاج ج ١ ص ٣٣٨- ٣٣٩.
(٣) انظر المصدر نفسه ص ٣٣٩- ٣٤٠.
(٤) انظر المصدر نفسه.
235
المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدّجال» «١». وروى الترمذي عن عثمان بن عفان قال: «إن رسول الله ﷺ قال: إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشدّ منه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظرا قطّ إلّا القبر أفظع منه» «٢».
وهناك أحاديث كثيرة أخرى غير ما أوردناه فاكتفينا بما أوردناه «٣». ونقول تعليقا على ما ورد منه كتفسير أو تطبيق للآية: إنه ما دام مضمون الآية وروحها يلهمان أنها أوسع شمولا وأنها تتناول كل موقف في الحياة الدنيا وفي الآخرة فالمتبادر أن ما جاء في الأحاديث هو من باب التمثيل لتثبيت الله للمؤمن واضطراب الكافر في موقف من المواقف.
ونقول في موضوع سؤال القبر ونعيمه وعذابه ما دام قد ورد فيه أحاديث صحيحة لا يصحّ المماراة فيها إن من واجب المسلم أن يؤمن بأخبار الغيب التي تثبت عن رسول الله ولو لم يدركها العقل العادي ويقف عند ذلك كما هو الشأن فيما جاء من ذلك في القرآن مع الإيمان بأن ذلك في نطاق قدرة الله وبأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. والمتبادر أن من الحكمة هنا تطمين المؤمن وتشويقه وتثبيته والحث على الإيمان وتخويف الكافر وتقبيح الكفر.
وهذا ما يمكن أن يستلهم من نصوص الأحاديث وبخاصة حديث البراء الطويل، والله أعلم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٨ الى ٣١]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١).
(١) انظر التاج أيضا ج ١ ص ٣٣٩- ٣٤٠.
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر المصدر نفسه وانظر تفسير الآية في كتب تفسير ابن كثير والطبري والبغوي والخازن.
236
(١) البوار: الهلاك.
(٢) خلال: جمع خلّة (بالضم) وهي الصداقة.
في الآيات الثلاث الأولى تنديد بزعماء المشركين وإنذار لهم بصيغة سؤال تقريري موجه إلى السامع أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقد قابلوا نعم الله عليهم بالكفر والجحود ووقفوا من دعوته التي يدعوهم إليها رسوله وهي من أجلّ نعم الله أيضا نفس الموقف فورطوا قومهم وعرّضوهم للمصير المهلك الذي ينتظر الكافرين وهو جهنم وبئست هي من مصير وقرار. وقد جعلوا لله شركاء وأندادا مماثلين له فضلوا عن سبيل الله وأضلوا غيرهم. فعلى النبي أن ينذرهم فلا يغتروا بمتاع الدنيا فهو قصير الأمد ثم يصيرون إلى النار إن هم ظلوا على موقفهم.
وفي الآية الرابعة أمر التفاتي للنبي ﷺ بحثّ عباده المؤمنين على إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله سرّا وعلنا وهم في فرصة من الحياة الدنيا وهي الفرصة الوحيدة الصالحة للعمل قبل أن تنتهي ويأتي اليوم الذي لا مجال فيه للعمل ولا فائدة فيه للصداقة.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيتين [٢٨ و ٢٩] مدنيتان. ويلحظ أن الانسجام بينهما وبين ما بعدهما قوي أولا وأن مضمونهما ينصرف أكثر إلى زعماء مكة وبالتبعية إلى صور العهد المكي مما يسوغ الشك في رواية مدنيتهما.
ولم نطلع في كتب التفسير على تأييد لذلك ولقد روى المفسرون «١» أقوالا مختلفة عن المقصودين بالآية الأولى منها عن عمر بن الخطاب أنهم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية. وعن ابن عباس أنه قال لعمر إنهم أخوالي وأعمامك. وعن علي أنهم الأفجران من بني أسد وبني مخزوم. ومنها عن ابن عباس وعلي أيضا
(١) انظر الطبري الذي استوعب جميع الأقوال.
237
أنهم مشركو قريش أو منافقوهم أو أهل مكة. ومنها رواية غريبة رواها الطبري عن ابن عباس أنهم جبلة بن الأيهم الذي ارتدّ عن الإسلام والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم «١».
والمتبادر أن الأقوال هي من قبيل الاجتهاد والتطبيق في العهد المدني وأن الآية تعني زعماء مشركي قريش. وأنها هي والآيات التي بعدها استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا. وفيها بيان لما كان من شدة مناوأة هؤلاء الزعماء للدعوة النبوية وتمكنهم من صرف الناس عنها.
ومع صلة الآيات بظروف السيرة النبوية فإنها تحتوي تلقينا مستمر المدى في تقرير مسؤولية الزعماء الفاسدين المنحرفين وما يمكن أن يقترفوه من إثم كبير في توجيه أمتهم إلى الفساد والانحراف اقتداء بهم أولا وفي توجيه المسلم إلى وجهة الخير الدائم في عبادة الله وإنفاق المال في شتى وجوه البرّ وفي السرّ والعلن ابتغاء رضاء الله ثانيا مما تكرر كثيرا ومرت منه أمثلة عديدة.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
. (١) دائبين: مواصلين لعملهما باستمرار.
احتوت الآيات تقريرا فيه تذكير وتنبيه للسامعين بنعم الله تعالى عليهم التي لا
(١) هذه القصة مذكورة في طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٣٠ وفتوح البلدان للبلاذري ص ١٤٢- ١٤٣.
يمكن أن يحصوها كثرة وتنوعا ومنها إنزال الماء من السماء وإخراج ثمرات الأرض بها وتسخير الفلك والبحار والأنهار والشمس والقمر والليل والنهار لمصالحهم وفائدتهم، وانتهت بتنديد لاذع للإنسان الظلوم الكفّار.
والتنديد وإن جاء مطلقا وقد ينطوي فيه التنديد بخلق عام في بني الإنسان وهو خلق الجحود لنعم الله إلّا أن روح الآيات تجعله مصروفا إلى الجاحدين لنعم الله المشركين به المناوئين لرسله الداعين إليه بنوع خاص. ولما كان الكفار المشركون موضوع تنديد في الآيات السابقة فتكون هذه الآيات متصلة بالسياق اتصال تنبيه وتنديد وتعقيب كما هو المتبادر.
وأسلوب الآيات رائع قوي نافذ إلى القلب والعقل وموجه إليهما في الوقت نفسه. ولقد جاء مثلها في سور سابقة. وعلقنا عليها كما علقنا على ما يفيده تعبير تسخير قوى الكون للناس بما يغني عن التكرار.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ الى ٤١]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
. (١) البلد: هنا كناية عن مكة.
(٢) بيتك المحرم: كناية عن الكعبة.
239
(٣) تهوى إليهم: تميل إليهم أو تسرع نحوهم.
في الآيات تذكير بقصة من قصص إبراهيم عليه السلام وحكاية لمناجاته ربّه ودعائه له بمناسبة إسكانه بعض ذريته في وادي مكة. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليق على آية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وما بعدها إلى آخر الآية [٤١]
والآيات هي الأولى في القرآن المكي التي تضمنت أولا الإشارة إلى صلة إبراهيم وبعض ذريته بمكة. وثانيا ذكر بنوة إسماعيل لإبراهيم بصراحة وقطعية. أما ما سبق من الآيات فقد كانت في صدد التنويه بملّة إبراهيم وصحفه وذريته بصورة عامة كما يستفاد من السور السابقة. وقد احتوى القرآن وبخاصة المدني منه آيات عديدة أخرى فيها توكيد للأمرين.
ومكية الآيات مجمع عليها ولذلك فإن فيها ردّا على من يقول «١» إن ذكر صلة إبراهيم بمكة والكعبة وبنوة إسماعيل لإبراهيم بصراحة لم يرد إلّا في القرآن المدني إذا كان يراد به أن النبي لم يكن يعرف ذلك إلّا بعد اتصاله باليهود في المدينة بعد هجرته إليها. وهذا فضلا عما هو يقيني من تواتر معرفة العرب قبل الإسلام بذلك، ولقد علقنا في المناسبات السابقة على هذا الموضوع. والمتبادر أن المقام هو الذي اقتضى ذكر بنوة إسماعيل لإبراهيم بهذه الصراحة في حين أن المقام في المناسبات السابقة لم يكن يقتضي هذا على ما ذكرناه في سياق هذه المناسبات.
وروح الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي ورد فيها ذكر إبراهيم تلهم أن العرب وبخاصة عرب الحجاز أو قريش كانوا يعرفون ويتداولون
(١) انظر كتاب في الأدب الجاهلي لطه حسين الطبعة الأولى. [.....]
240
ويشيدون بتلك الصلة وهذه البنوة قبل البعثة النبوية. وفي سورة البقرة آية تذكر أن في الحرم المكي مقاما كان معروفا باسم مقام إبراهيم وهذا دليل حاسم بدون ريب على تلك المعرفة والتداول، وهي هذه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥).
وقد جاء بعد هذه الآية آيات تحكي خبر دعاء إبراهيم لأجل أمن البيت وأهله وخبر رفعه مع إسماعيل لقواعده ودعائهما لذريتهما بأسلوب يلهم أن ما احتوته مما كان متداولا بين السامعين. وهي هذه: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(١٢٩).
وقد ذكر مقام إبراهيم مرة أخرى في آيات في سورة آل عمران مع زيادة هامة وهي أنه كان معروفا بعلامات واضحة ومع الإشادة بالبيت على أنه أول بيت وضع لعبادة الله مباركا وهدى للعالمين وهي هذه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧).
وبناء على ما تلهمه الآيات من أن ما احتوته كان متداولا مسلما به من السامعين العرب فالمتبادر أنه جاء للتذكير والتدعيم بعد آيات التنديد بمواقف العرب وجحودهم واتخاذهم الأنداد والشركاء مع الله: فإبراهيم الذي يعترفون بأبوته لهم كان يدعو الله أن يجنبه هو وبنيه عبادة الأصنام ويقرر أنها أضلت الناس ويدعو الله أن يجعله هو وذريته من القائمين بحق عبادة الله ويعلن إسلامه نفسه
241
وأمره إلى الله. وما يتمتع به أهل مكة من أمن بلدهم الحرام وتيسير الرزق واتجاه أفئدة الناس إليهم إنما كان من دعائه. وهو إنما أسكن بعض ذريته في وادي مكة الذي قدر الله أن يكون فيه بيته المحرم ليخلصوا له في العبادة. فأحرى بأبنائه العرب أن يسيروا على هداه وأن يحققوا أمنيته ودعاءه وأن يتجنبوا عبادة الأصنام التي تجنبها ودعا الله أن يجنبها ذريته.
وبهذا الشرح تبدو الصلة قائمة بين هذا الفصل وبين الآيات السابقة وبه تفسر مناسبته وحكمته.
ولقد كثر الخوض في حقيقة أبوة إبراهيم وإسماعيل للعرب أو بعضهم أي العدنانيين الذين منهم القرشيون وفي حقيقة سكنى إسماعيل وأمّه وادي مكة. وهو ما عنته الآيات حسب ما عليه جمهور المفسرين وما تلهمه روحها ومضمونها.
ولقد ورد في سفر التكوين المتداول اليوم بعض نصوص عن افتراق إسماعيل عن أبيه في السكن فحاول بعض المسلمين أن يستخرجوا من هذه النصوص دعائم لهاتين الحقيقتين. والذي ذكره سفر التكوين المتداول اليوم في إصحاحه (٢١) أن سارة زوجة إبراهيم الحرّة طلبت من زوجها طرد الأمة هاجر التي بنى إبراهيم عليها وأولدها إسماعيل مع ابنها من بيته فساءه ذلك ولكن الله أمره بإجابتها وقال له إني سوف أجعل ابن الأمة أمة من نسلك أيضا. وأنه أخذ خبزا وقربة ماء وجعلهما على منكبي هاجر وأعطاها الصبي وصرفها فمضت وتاهت في برية بئر السبع ثم استقرّ المقام بهما في برية فاران التي تفيد عبارة الإصحاح أنها جزء من برية بئر السبع أو سيناء أو في جهات خليج العقبة. وقد ذكر الإصحاح أن إسماعيل تزوج بامرأة من أرض مصر حيث يكون في هذا تأييد لذلك.
وواضح أن هذا النصّ لا يسوغ تفسير فاران بمكة وواديها وجبالها.
غير أن النص القرآني صريح في صدد خبر إسكان إبراهيم عليه السلام بعض ذريته عند بيت الله المحرم. ونقول من باب المساجلة إن هذا النص لا يمكن أن يكون جزافا. وهو يتلى علنا ويسمعه اليهود والعرب ولا بدّ من أن يكون هو
242
المعروف المتداول في أوساط اليهود والعرب. ويمكن أن يكون قد ورد صريحا أو ضمنا في أسفار أو قراطيس كانت في يد اليهود ولم تصل إلينا على ما ذكرناه في مسائل مماثلة ومناسبات سابقة. وفي الإصحاح (٣٣) من سفر التثنية هذه العبارة:
(أقبل الربّ من سيناء وأشرق لهم من سعير وتجلى من جبل فاران وأتى من ربى القدس وعن يمينه قبس شريعة لهم). وهذه مهابط الوحي على موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام. ويلحظ أنه استعمل هنا (جبل فاران) في حين أنّ الإصحاح (٢١) من سفر التكوين ذكر (برية فاران)، وهذه نقطة هامة في هذا الصدد. وفي تفسير البغوي في سياق تفسير الآية [٨] من سورة النمل عبارة مهمة في هذا الصدد كذلك وهي: (روي أنه مكتوب في التوراة جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبل فاران. فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ومن ساعير بعثه المسيح منها. ومن جبل فاران بعثه المصطفى منها وفاران مكة). والعبارة هي عبارة سفر التثنية بصيغة أخرى من المحتمل أن تكون هي الواردة في ترجمة هذا السفر إذ ذاك لأن الترجمة التي في يدنا هي ترجمة حديثة. وهذا يعني أن مفسري الأسفار كانوا يفسرون الأماكن كما فسرها البغوي.
ولقد روى الطبري وغيره من المفسرين في سياق هذه الآيات وغيرها روايات معزوة إلى ابن عباس وغيره في إسكان إبراهيم إسماعيل عليهما السلام في وادي مكة وفي ما جرى له وفي بنائه هو وإياه الكعبة «١». وهناك حديث طويل رواه البخاري عن ابن عباس في ذلك أورده مؤلف التاج في سياق تفسير الآية [١٢٧] من سورة البقرة هذا نصّه: (أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أمّ إسماعيل اتخذت منطقا لتعفّي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتّى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء. ثم
(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وغيرهم لتفسير هذه الآيات وآيات سورة البقرة [١٢٤- ١٢٩] وآل عمران [٩٧] والحج [٢٦- ٢٩].
243
قفّى إبراهيم منطلقا فتبعته أمّ إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا وهو لا يلتفت إليها فقالت:
الله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيّعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنيّة لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
حتى بلغ يَشْكُرُونَ، وجعلت أمّ إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوّى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الواد تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتّى إذا بلغت الواد رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الواد ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبيّ ﷺ فذلك سعي الناس بينهما. فلمّا أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت صه تريد نفسها ثم تسمّعت فسمعت أيضا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوّضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا. فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافوا الضيعة فإنّ هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيّع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله. فكانت كذلك حتى مرّت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا فقالوا إنّ هذا الطائر ليدور على ماء وعهدنا بهذا الواد ما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريّين فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا وأمّ إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حقّ لكم في الماء، قالوا نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحبّ الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى
244
إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبّ الغلام وتعلّم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شبّ فلما أدرك زوّجوه امرأت منهم. وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بشرّ نحن في ضيق وشدة فشكت إليه قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه انس شيئا فقال هل جاءكم أحد قالت نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا في جهد وشدة قال فهل أوصاك بشيء قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول لك غيّر عتبة بابك. قال ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك فطلّقها وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا. قال كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على الله فقال ما طعامكم قالت اللحم قال فما شرابكم قالت الماء. قال اللهمّ بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي ولم يكن لهم يومئذ حبّ، ولو كان لهم لدعا لهم فيه قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلّا لم يوافقاه. قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبّت عتبة بابه فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير قال فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبّت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث إبراهيم عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إنّ الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربّك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإنّ الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يا بني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يا بني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ربّنا
245
تقبل منا إنك أنت السميع العليم» «١».
وهذا الحجر هو الذي كان في المكان الذي عرف بمقام إبراهيم في عصر النبي ﷺ وبيئته قبل البعثة والمذكور في آيات البقرة وآل عمران التي أوردناهما قبل قليل.
ولقد أورد المفسرون بيانات كثيرة أخرى في صدد ما جاء في الحديث وفي صدد ما كان من إنشاء إبراهيم لتقاليد الحج في سياق آيات أخرى في سور الحج والبقرة وآل عمران عزوا إلى ابن عباس وغيره سنلمّ بها في مناسباتها الآتية حيث يؤيد كل هذا ما قلناه من أن أخبار إسكان إبراهيم لإسماعيل في واد مكة وزواج إسماعيل من قبيلة جرهم وانتساب ذريته من الأم العربية الجرهمية إليه وإلى إبراهيم بالتبعية وبناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة وإنشاء إبراهيم تقاليد الحج مما كان يتداوله العرب في بيئة النبي ﷺ وعصره جيلا بعد جيل. وفي أسفار العهد القديم ذكر للإسماعيليين أكثر من مرة في مقام الإشارة إلى القبائل العربية من ذرية إسماعيل حيث قد يكون في هذا تأييدا ما لذلك.
وفي سورة البقرة آيات تنطوي على إشارات أو قرائن على أن اليهود كانوا يعرفون قدم الكعبة وفضلها وصلتها بإبراهيم وكون اتخاذها قبلة هو الأولى والأحق. وقد جاءت هذه الآيات في سياق التنديد باليهود ومكابرتهم في الحق وهي: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)، وقد سبق هذه الآيات سلسلة فيها خبر مقام إبراهيم ورفعه قواعد البيت مع ابنه إسماعيل التي أوردنا آياتها
(١) التاج ج ٤ ص ٣٨- ٤٣، اكتفينا بهذا الحديث عن الروايات الأخرى التي يرويها المفسرون في صدد ما جاء فيه.
246
قبل قليل. ولقد جاءت آيات آل عمران [٩٦- ٩٧] التي أوردناها قبل والتي فيها ذكر مقام إبراهيم عقب آيات فيها تنديد ببني إسرائيل وتحدّ لهم بالإتيان بالتوراة بحيث يمكن القول إن صلة إبراهيم وإسماعيل بالكعبة وسكنى إسماعيل في وادي مكة وكونهما جدي العرب الأقدمين مما كان يتداوله اليهود ويذكرونه في بيئة النبي ﷺ وعصره، وفي هذا تأييد وتدعيم. والله أعلم.
ومهما يكن من أمر فالذي نراه هو الوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيراده في هذه الآيات وغيرها مما له صلة بإبراهيم وملّته والكعبة وتقاليد الحج وأبوة إبراهيم وإسماعيل للعرب مع ملاحظة هامة هي أن الآيات هنا وفي غير مكان قد استهدفت التذكير والتدعيم للدعوة النبوية. فالسامعون للقرآن كانوا يعرفون ويتداولون نسبتهم إلى إبراهيم وإسماعيل وكون دينهما هو التوحيد وخبر سكنى إسماعيل في مكة وصلة إبراهيم وإسماعيل بالكعبة وما يتمتعون به من أمن في حرمها. فالتذكير بذلك في معرض الدعوة النبوية والتنديد بالكفار السامعين لانحرافهم عن طريق أبويهم الأقدمين يكون ملزما ومحكما.
هذا، ولقد وقف المفسرون عند تعبير عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ فقالوا إن الكعبة كانت مبنية قبل الطوفان فهدمها الطوفان أو رفعها الله وإن إبراهيم إنما جدد بناءها ولذلك جاءت الجملة على اعتبار ما كان. كما قالوا إن الجملة هي على اعتبار ما سيكون بعد قيام البيت الذي عرف إبراهيم مكانه وأمر ببنائه بالوحي. والتعليل الأول ذكر أيضا في سياق آيات البقرة والحج وآل عمران المذكورة آنفا. ومثل هذا لا يصح أن يؤخذ به إلّا بأثر نبوي وثيق وليس هناك مثل هذا الأثر، والتعليل الثاني هو الأوجه كما هو المتبادر.
ولقد تعددت الأقوال في مدى كلمة (المحرّم)، فقيل إنها بمعنى الذي يحرّم عنده ما لا يحرم عند غيره. أو إنها بمعنى الذي يحرّم التعرض له والتهاون به أو إنها بمعنى العظيم الحرمة. أو إنها بمعنى الذي يمكن الناس من العبادة عنده والإقامة في كنفه آمنين محرم ظلمهم ودمهم والعدوان عليهم. وكل هذه الأقوال
247
واردة ووجيهة مع القول إننا نرجح أن هذه الصفة مما كانت توصف بها الكعبة قبل البعثة النبوية.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٢ الى ٥٢]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
. (١) مهطعين: مسرعين وقيل ذليلين.
(٢) مقنعي رؤوسهم: رافعي رؤوسهم محدقين بأبصارهم إلى مقام القضاء.
(٣) لا يرتدّ إليهم طرفهم: لا تطرف عيونهم من شدة الخوف والهلع والتحديق.
(٤) أفئدتهم هواء: هواء بمعنى خواء، أي فارغة، وقيل إنها كثيرة الحركة والاضطراب من شدة الخوف.
(٥) مقرنين في الأصفاد: مشدودين بعضهم إلى بعض بالأغلال والأصفاد.
(٦) سرابيلهم من قطران: ثيابهم أو كسوتهم التي فوق أبدانهم هي القطران ولقد كان العرب يطلون إبلهم الجرباء بالقطران فكانت تبدو كريهة المنظر فضلا عن
248
نتانة الرائحة. والعبارة بسبيل وصف منظر المجرمين بأخبث وأقبح منظر لونا وريحا.
وجّه الخطاب في الآيات إلى النبي ﷺ وفيها:
١- تطمين له: فلا يظنن أن الله غافل عن الظالمين الباغين فهو مراقبهم ومحص عليهم أعمالهم. وكل ما في الأمر أنه يؤخر حسابهم إلى يوم القيامة الذي سوف تضطرب فيه قلوبهم ويتولاهم الذل والذهول من شدّة الهول الذي يلقونه فيه.
٢- وتثبيت له: فليس عليه إلّا الاستمرار في الدعوة وإنذار الناس بذلك اليوم الذي سوف يستشعر الظالمون فيه بأشد الندم فيطلبون من الله إمهالهم مدة أخرى يتلافون فيها أمرهم ويجيبون دعوة رسله فيرد عليهم مؤنبا مقرعا مذكرا بما كان منهم من زهو وغرور واستكبار ومكر ضد دعوة رسوله تكاد تزول منه الجبال وبعدم تأثرهم بما كان يلقى إليهم من ضروب الأمثال والمواعظ وبما كانوا يرونه من آثار عذاب الله فيمن قبلهم وبعدم اتعاظهم بأخبارهم وبما كانوا يحلفونه من أيمان على سبيل التبجح بأن ما بهم من نعمة وعافية وقوة لن يزول.
٣- وتطمين آخر له: فلا يظنن أن الله مخلف وعده له فيهم فهو ذو القوة المنتقم من أمثالهم وحينما يأتي الوقت المعين في علم الله فتبدل الأرض غير الأرض ويقف الناس أمام الله ليقضي بينهم ويجزي كل نفس ما كسبت يقف المجرمون مشدود بعضهم إلى بعض بالقيود والأغلال وقد طليت أجسادهم بالقطران وغشيت وجوههم بالنار.
وانتهت الآيات بالهتاف بالسامعين: ففي هذا بلاغ للناس ونذير كاف.
فعليهم أن يعلموا أن إلههم واحد لا شريك له، وعلى ذوي العقول السليمة أن يتدبروا ويتذكروا ويتعظوا.
والآيات قد استهدفت كما هو واضح تطمين النبي وتثبيته وتبشيره بتحقيق
249
وعد الله له بالنصر وإنذار الكفار والتنديد بهم وتوكيد وعيد الله لهم. وأسلوبها قوي نافذ ومؤثر حقا.
وهي متصلة سياقا وموضوعا بالآيات التي سبقت مناجاة إبراهيم مما يسوغ القول إن آيات فصل إبراهيم قد جاءت استطرادية للتذكير والتدعيم كما قلنا وإنها غير منقطعة بدورها عن السياق السابق واللاحق لها.
وقد جاءت الآيات في ذات الوقت خاتمة قوية للسورة وطابع الختام المألوف في كثير من السور واضح عليها وبخاصة على الآية الأخيرة.
والآية الرابعة وإن كانت منسجمة في السياق مطلقة الخطاب للظالمين جميعا فإنها مما تلهم أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم السابقة ومصائرها ونكال الله وتدميره إياهم في الدنيا وأن منهم من وصل إلى بلادهم ورأى آثار ذلك فيها وهو ما تكررت الإشارة إليه في آيات أخرى مرّت أمثلة منها.
والصيحة الداوية في الآيات ضد الظالمين وتنبيهها إلى أن الله غير غافل عنهم تظل تقرع الآذان كل ما تلا القرآن تال لتثير في النفوس النقمة على الظالمين البغاة المستكبرين ولتبعث الأمل واليقين فيها بأن نقمة الله وسخطه لا بد أنهما حالّان فيهم مهما طال بهم الزمن.
ولقد أورد الطبري في سياق جملة وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ القصة التي أوردها المفسر في سياق جملة وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الرعد: ٤٢] في سورة النحل وأوردناها في مناسبتها بصيغة قريبة معزوة هذه المرة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وليس من سند وثيق لهذه الرواية. ولسنا نرى أي تناسب كذلك بين هذه الرواية وبين الجملة القرآنية في مقامها التي يتبادر أنها بسبيل وصف شدّة مكر المناوئين للدعوة النبوية.
ولقد روى المفسرون قراءات متعددة لكلمة لِتَزُولَ منها أنها بفتح اللام الأولى ورفع اللام الثانية ومنها أنها بكسر الأولى وفتح الثانية ومنها أنها في صيغة
250
(لا تزول) وهناك تخريجات متعددة للكلمة حسب ذلك. منها أنها بمعنى أن الجبال تكاد تزول من شدة مكرهم. ومنها أنها بمعنى أنهم مكروا لأجل أن تزول الجبال.
ومنها أنها بمعنى أنهم مما اشتدّ مكرهم لا يمكنهم أن يزيلوا الجبال وبالتالي لا يمكنهم أن يزيلوا الدعوة النبوية الراسخة القوية كالجبال. والأكثر على التخريج الأول الذي قالوا إنه من باب آيات سورة مريم هذه: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد أورد الطبري وغيره روايات عديدة في صدد جملة يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ استوعب الطبري معظمها أو كلها. منها حديث عن زيد قال: «أرسل رسول الله ﷺ إلى اليهود فقال: هل تدرون لم أرسلت إليهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإني أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله يوم تبدل الأرض غير الأرض إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة وكلما جاؤوا سألهم فقالوا تكون بيضاء مثل النقي» وحديث عن سهل بن سعد قال: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي». وحديث عن أبي هريرة قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يبدل الله الأرض غير الأرض والسموات فيبسطها ويسطحها ويمدّها مدّ الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة مثل مواضعهم في الأولى ما كان في بطنها ففي بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها وذلك حين يطوي السموات كطي السجلّ للكتاب ثم يدحو بها ثم تبدل الأرض غير الأرض والسموات».
وحديث عن عائشة بطرق عديدة وصيغ متقاربة جاء في إحداها: «قلت: يا رسول الله إذا بدل الأرض غير الأرض وبرزوا لله الواحد القهار أين الناس يومئذ؟
قال: على الصراط»
«١». وفي إحداها: «قال لها لقد سألت عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي قبلك قال هم يومئذ على جسر جهنّم». وعن ابن أيوب قال: «أتى
(١) هذا الحديث رواه مسلم والترمذي أيضا انظر التاج ج ٤ ص ١٣٧.
251
النبي ﷺ حبر من اليهود وقال: أرأيت إذ يقول الله في كتابه يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات فأين الخلق عندئذ؟ قال: أضياف الله فلن يعجزهم ما لديه».
وإلى هذه الأحاديث فهناك أقوال معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم منها أن الأرض تبدل بأرض لم يسل فيها دم ولم يعمل فيها خطيئة ومنها أن نار يوم القيامة تكون محل الأرض وجناتها محل السموات.
ولقد علق الطبري على هذه الأحاديث بقوله إنه لا قول يصحّ إلّا ما دلّ عليه ظاهر التنزيل وهو أن الأرض والسموات تتبدل على هيئة غير هيأتها وجائز أن تكون ما ذكر حيث يبدو أنه لم يثبت عنده شيء من الأحاديث وهذا الترجيح هو سنّة السلف الإسلامي الأول فيما ليس فيه نصّ قرآني صريح وليس فيه نصّ نبوي ثابت في الشؤون الغيبية التي منها الشؤون الأخروية على ما نبهنا عليه ووجهناه في مناسبات عديدة سابقة. مع القول إنه لا بدّ من أن يكون حكمة في الصيغة التي جاءت عليها الآيات بالإضافة إلى حقيقة المشاهد الأخروية الإيمانية وإن الآيات بجملتها قد استهدفت إنذار الكفار الظالمين وإثارة الرعب في قلوبهم وحملهم على الارعواء ولعل ذلك من تلك الحكمة.
هذا، وبمناسبة حديث عائشة الذي رواه الترمذي ومسلم ويعد من الأحاديث الصحيحة عن الصراط نقول إننا علّقنا على هذا الموضوع في سياق سورة مريم بما يغني عن التكرار.
252
Icon