تفسير سورة الكهف

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة الكهف
مكية إلا آية ٣٨ ومن آية ٨٣ إلى غاية آية ١٠١ فمدنية
وآياتها ١١٠ نزلت بعد الغاشية

سورة الكهف
مكية إلا آية ٣٨ ومن آية ٨٣ إلى غاية آية ١٠١ فمدنية وآياتها ١١٠ نزلت بعد الغاشية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الكهف) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ العبد هنا هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، ووصفه بالعبودية تشريفا له، وإعلاما باختصاصه وقربه، والكتاب القرآن وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً العوج بكسر العين في المعاني التي لا تحسن، وبالفتح في الأشخاص كالعصا ونحوها، ومعناه عدم الاستقامة، وقيل فيه هنا: معناه لا تناقض فيه ولا خلل، وقيل: لم يجعله مخلوقا، واللفظ أعم من ذلك قَيِّماً أي مستقيما، وقيل قيما على الخلق بأمر الله تعالى، وقيل، قيما على سائر الكتب بتصديقها، وانتصابه على الحال من الكتاب، والعامل فيه أنزل، ومنع الزمخشري ذلك للفصل بين الحال وذي الحال، واختار أن العامل فيه فعل مضمر تقديره جعله قيما لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً متعلق بأنزل أو بقيما، والفاعل به ضمير الكتاب أو النبي صلّى الله عليه وسلّم، والبأس العذاب، وحذف المفعول الثاني وهو الناس، كما حذف المفعول الآخر من قوله: وينذر الذين لدلالة المعنى على المحذوف مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده، والضمير عائد على الله تعالى أَجْراً حَسَناً يعني الجنة ماكِثِينَ فِيهِ أي دائمين، وانتصابه على الحال من الضمير في لهم وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً هم النصارى لقولهم في عيسى، واليهود لقولهم في عزير، وبعض العرب لقولهم في الملائكة وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ الضمير عائد على قولهم، أو على الولد.
كَبُرَتْ كَلِمَةً انتصب على التمييز على الحال ويعني بالكلمة قولهم اتخذ الله ولدا:
وعلى هذا يعود الضمير في كبرت فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي قاتلها بالحزن والأسف، والمعنى تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عن عدم إيمانهم عَلى آثارِهِمْ استعارة فصيحة: كأنهم من فرط
إدبارهم قد بعدوا فهو يتبع آثارهم تأسفا عليهم، وانتصب أسفا على أنه مفعول من أجله، والعامل فيه باخع نفسك
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها يعنى ما يصلح للتزين كالملابس والمطاعم، والأشجار والأنهار وغير ذلك لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي لنختبرهم أيّهم أزهد في زينة الدنيا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً المعنى إخبار بفناء الدنيا وزينتها، والصعيد هو التراب، والجرز: الأرض التي لا نبات فيها: أي سيفنى ما على الأرض من الزينة وتبقى كالأرض التي لا نبات فيها، بعد أن كانت خضراء بهجة.
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً أم هنا استفهام، والمعنى أحسبت أنهم عجب، بل سائر آياتنا أعظم منها وأعجب، والكهف الغار الواسع، والرقيم: اسم كلبهم، وقيل: هو لوح رقمت فيه أسماؤهم على باب الكهف، وقيل كتاب فيه شرعهم ودينهم، وقيل هو القرية التي كانت بإزاء الكهف، وقيل: الجبل الذي فيه الكهف، وقال ابن عباس: لا أدري ما الرقيم إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ نذكر من قصتهم على وجه الاختصار ما لا غنى عنه، إذ قد أكثر الناس فيها مع قلة الصحة في كثير مما نقلوا، وذلك أنهم كانوا قوما مؤمنين، وكان ملك بلادهم كافرا يقتل كل مؤمن، ففروا بدينهم، ودخلوا الكهف ليعبدوا الله فيه ويستخفوا من الملك وقومه، فأمر الملك باتباعهم، فانتهى المتبعون لهم إلى الغار فوجدوهم، وعرفوا الملك بذلك فوقف عليه في جنده وأمر بالدخول إليهم، فهاب الرجال ذلك وقالوا له: دعهم يموتوا جوعا وعطشا، وكان الله قد ألقى عليهم نوما ثقيلا، فبقوا على ذلك مدّة طويلة ثم أيقظهم الله، وظنوا أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما بدراهم كانت لهم، فعجب لها البائع وقال:
هذه الدراهم من عهد فلان الملك في قديم الزمان من أين جاءتك؟ وشاع الكلام بذلك في الناس، وقال الرجل: إنما خرجت أنا وأصحابي بالأمس فأوينا إلى الكهف، فقال: هؤلاء الفتية الذين ذهبوا في الزمان القديم فمشوا إليهم فوجدوهم موتى، وأما موضع كهفهم، فقيل إنه بمقربة من فلسطين «١» وقال قوم: إنه الكهف الذي بالأندلس بمقربة من لوشة من جهة غرناطة، وفيه موتى ومعهم كلب، وقد ذكر ابن عطية ذلك، وقال: إنه دخل عليهم ورآهم وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء يقال له الرقيم قد بقي بعض جدرانه، وروى أن الملك الذي كانوا في زمانه اسمه دقيوس، وفي تلك الجهة آثار مدينة يقال لها مدينة دقيوس والله أعلم.
(١). لقد كشف موضعهم قرب مدينة عمان. [.....]
ومما يبعد ذلك ما روي أن معاوية مر عليهم وأراد الدخول إليهم، ولم يدخل معاوية الأندلس قط، وأيضا فإن الموتى التي في غار لوشة يراهم الناس، ولم يدرك أحد منهم الرعب، الذي ذكر الله في أصحاب الكهف
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ عبارة عن إلقاء النوم عليهم، وقال الزمخشري: المعنى ضربنا على آذانهم حجابا ثم حذف هذا المفعول سِنِينَ عَدَداً أي كثيرة ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم من نومهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي لنعلم علما يظهر في الوجود، لأن الله قد كان علم ذلك، والمراد، بالحزبين الذين اختلفوا في مدة لبثهم، فالحزب الواحد: أصحاب الكهف والحزب الآخر القوم الذين بعث الله أصحاب الكهف في مدتهم وقيل: إن الحزبين معا أصحاب الكهف إذ كان بعضهم قد قال: لبثنا يوما أو بعض يوم، وقال بعضهم: ربكم أعلم بما لبثتم، وأحصى فعل ماض، وأمدا مفعول به، وقيل: أحصى اسم للتفضيل، وأمدا تمييز، وهذا ضعيف، لأن أفعل من التي للتفضيل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ.
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي قوينا عزمهم وألهمناهم الصبر، يحتمل أن يريد قيامهم من النوم بين يدي الملك الكافر لما آمنوا ولم يبالوا به لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي لو دعونا من دونه إلها لقلنا قولا شططا، والشطط الجور والتّعدي لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ تحضيض بمعنى التعجيز، أنهم لا يأتون بحجة بينة على عبادة غير الله وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خطاب من بعضهم لبعض حين عزموا على الفرار بدينهم وَما يَعْبُدُونَ عطف على المفعول في اعتزلتموهم: أي تركتموهم وتركتم ما يعبدون إِلَّا اللَّهَ أي ما يعبدون من دون الله، وإلا هنا بمعنى غير، وهذا استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، ومنقطع إن كانوا لا يعبدون الله، وفي مصحف ابن مسعود «وما يعبدون من دون الله» فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ هذا الفعل هو العامل في إذ اعتزلتموهم، والمعنى أن بعضهم قال لبعض إذا فارقنا الكفار فلنجعل الكهف لنا مأوى، ونتكل على الله فهو يرحمنا ويرفق بنا مِرفَقاً بفتح الميم وكسرها ما يرتفق به وينتفع
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ قيل: هنا كلام محذوف تقديره فأوى القوم إلى الكهف ومكثوا فيه، وضرب الله على آذانهم، ومعنى تزاور تميل وتزوغ، ومعنى:
تقرضهم تقطعهم: أي تبعد عنهم، وهو بمعنى القطع، وذات اليمين والشمال أي جهته، ومعنى الآية: أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها، ولا عند غروبها لئلا يحترقوا بحرها، فقيل: إن ذلك كرامة لهم وخرق عادة، وقيل: كان باب الكهف شماليا يستقبل بنات نعش، فلذلك لا تصيبهم الشمس، والأول أظهر لقوله ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي في موضع واسع، وذلك مفتح لإصابة الشمس، ومع ذلك حجبها الله عنهم ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الإشارة إلى حجب الشمس عنهم إن كان خرق عادة، وإن كان لكون بابهم إلى الشمال فالإشارة إلى أمرهم بجملته وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ أيقاظا جمع يقظ، وهو المنتبه، كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون، فيحسبهم من يراهم أيقاظا وفي قوله: أيقاظا ورقود مطابقة، وهي من أدوات البيان وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أي نقلبهم من جانب إلى جانب، ولولا ذلك لأكلتهم الأرض، وكان هذا التقليب من فعل الله وملائكته، وهم لا ينتبهون من نومهم، وروي أنهم كانوا يقلبون مرتين في السنة، وقيل من سبع سنين إلى مثلها وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ قيل إنه كان كلبا لأحدهم يصيد به، وقيل كان كلبا لراع فمروا عليه فصحبهم وتبعه كلبه وأعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضيّ لأنه حكاية حال.
بِالْوَصِيدِ أي بباب الكهف، وقيل عتبته وقيل البناء وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ذلك لما ألبسهم الله من الهيبة، وقيل: لطول أظافرهم وشعورهم وعظم إجرامهم. وقيل: لوحشة مكانهم، وعن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف، فأراد الدخول إليه فقال له ابن عباس: لا تستطيع ذلك، قد قال الله لمن هو خير منك: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا، فبعث ناسا إليهم، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحا فأحرقتهم
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي كما أنمناهم، كذلك بعثناهم ليسأل بعضهم بعضا، واللام في ليتساءلوا لام الصيرورة قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ هذا قول من استشعر منهم أن مدة لبثهم طويلة، فأنكر على من قال يوما أو بعض يوم، ولكنه لم يعلم مقدارها فأسند علمها إلى الله. فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ الورق: الفضة، وكانت دراهم تزودوها حين خروجهم إلى الكهف، ويستدل بذلك على أن التزود للمسافر أفضل من تركه، ويستدل ببعث أحدهم على جواز الوكالة، فإن قيل: كيف اتصل بعث أحدهم بتذكر مدة لبثهم؟.
فالجواب أنهم كانوا قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم، ولا سبيل لكم إلى العلم بذلك، فخذوا فيما هو أهم من هذا وأنفع لكم فابعثوا أحدكم إِلَى الْمَدِينَةِ قيل: أنها طرسوس
أَزْكى طَعاماً قيل: أكثر، وقيل: أحل، وقيل: إنه أراد شراء زبيب، وقيل: تمر وَلْيَتَلَطَّفْ في اختفائه وتحيله إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أي: إن يظفروا بكم يقتلوكم بالحجارة، وقيل: المعنى يرجموكم بالقول، والأول أظهر وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي كما أنمناهم وبعثناهم أطلعنا الناس عليهم لِيَعْلَمُوا الضمير للقوم الذين أطلعهم الله على أصحاب الكهف: أي أطلعناهم على حالهم من انتباههم من الرقدة الطويلة ليستدلوا بذلك على صحة البعث من القبور إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ العامل في إذ أعثرنا أو مضمر تقديره أذكر، والمتنازعون هم القوم الذين كانوا قد تنازعوا فيما يفعلون في أصحاب الكهف، أو تنازعوا هل هم أموات أو أحياء، وقيل: تنازعوا هل تحشر الأجساد أو الأرواح بالأجساد؟ فأراهم الله حال أصحاب الكهف ليعلموا أن الأجساد تحشر فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي على باب كهفهم إما ليطمس آثارهم أو ليحفظهم ويمنعهم ممن يريد أخذهم أو أخذ تربتهم تبركا، وإما ليكون علما على كهفهم ليعرف به.
قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ قيل: يعني الولاة «وقيل: يعني المسلمين لأنهم كانوا أحق بهم من الكفار، فبنوا على باب الكهف مسجدا لعبادة الله
سَيَقُولُونَ الضمير لمن كان في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود أو غيرهم ممن تكلم في أصحاب الكهف رَجْماً بِالْغَيْبِ أي ظنا وهو مستعار من الرجم بمعنى الرمي سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قال قوم: إن الواو واو الثمانية لدخولها هنا وفي قوله: سبع ليال وثمانية أيام، وفي قوله في أهل الجنة:
«وفتحت أبوابها»
وفي قوله في براءة «والناهون عن المنكر» وقال البصريون: لا تثبت واو الثمانية وإنما الواو هنا كقوله: جاء زيد وفي يده سيف.
قال الزمخشري: وفائدتها التوكيد. والدلالة على أن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم صدقوا وأخبروا بحق، بخلاف الذين قالوا ثلاثة ورابعهم كلبهم، والذين قالوا خمسة وسادسهم كلبهم، وقال ابن عطية: دخلت الواو في آخر إخبار عن عددهم لتدل على أن هذا نهاية ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام، وكذلك دخلت السين في قوله سيقولون الأول، ولم تدخل في الثاني والثالث استغناء بدخولها في الأول ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ أي لا يعلم عدتهم إلا قليل من الناس، وهم من أهل الكتاب، قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم، لأنه قال في الثلاثة والخمسة: رجما بالغيب ولم يقل ذلك في سبعة وثامنهم كلبهم فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً لا تمار: من المراء وهو
462
الجدال والمخالفة والإحتجاج، والمعنى لا تمار أهل الكتاب في عدة أصحاب الكهف إلا مراء ظاهرا، أي غير متعمق فيه من غير مبالغة ولا تعنيف في الردّ عليهم وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً أي لا تسأل أحدا من أهل الكتاب عن أصحاب الكهف، لأن الله قد أوحى إليك في شأنهم ما يغنيك عن السؤال وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ سببها أن قريشا سألوا اليهود عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا لهم: اسألوه عن فتية ذهبوا في الزمان الأول وهم أصحاب الكهف، وعن رجل بلغ مشارق الأرض ومغاربها وهو ذو القرنين، وعن الروح، فإن أجابكم في الإثنين وسكت عن الروح فهو نبي، فسألوه فقال غدا أخبركم ولم يقل إن شاء الله، فأمسك عنه الله الوحي خمسة عشر يوما، فأوجف به كفار قريش وتكلموا في ذلك، فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم جاء جبريل بسورة الكهف فقص عليه فيها قصة أصحاب الكهف وذي القرنين، وأنزل الله عليه هذه الآية تأديبا لهم وتعليما، فأمره بالاستثناء بمشيئة الله في كل أمر يريد أن يفعله فيما يستقبل، وقوله: غدا يريد به الزمان المستقبل، لا اليوم الذي بعد يومه خاصة، وفي الكلام حذف يقتضيه المعنى وتقديره: ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول: إن شاء الله أو تقول إلّا أن يشاء الله، والمعنى أن يعلق الأمر بمشيئة الله وحوله وقوته، ويبرأ هو من الحول والقوة، وقيل: إن قوله إلا أن يشاء الله بقوله لا تقولنّ. والمعنى لا تقولنّ ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه، فالمشيئة على هذا راجعة إلى القول لا إلى الفعل، ومعناها إباحة القول بالإذن فيه، حكى ذلك الزمخشري، وحكاه ابن عطية، وقال إنه من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكي. وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ. قال ابن عباس:
الإشارة بذلك إلى الاستثناء، أي استثن بعد مدة إذا نسيت الاستثناء أولا، وذلك على مذهبه، فإن الاستثناء في اليمين ينفع بعد سنة، وأما مذهب مالك والشافعي فإنه لا ينفع إلا إن كان متصلا باليمين، وقيل معنى الآية: اذكر ربك إذا غضبت، وقيل اذكر إذا نسيت شيئا ليذكرك ما نسيت، والظاهر أن المعنى اذكر ربك إذا نسيت ذكره أي إرجع إلى الذكر إذا غفلت عنه، واذكره في كل حال، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر الله على كل أحيانه وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً هذا كلام أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله، والإشارة بهذا إلى خبر أصحاب الكهف، أي عسى الله أن يؤتيني من الآيات والحجج ما هو أعظم في الدلالة على نبوّتي، من خبر أصحاب الكهف اللفظ يقتضي أن المعنى: يعني أن يوقفني الله تعالى من العلوم والأعمال الصالحات لما هو أرشد من خبر أصحاب أهل الكهف وأقرب إلى الله، وقيل: إن الإشارة بهذا إلى المنسي أي إذا نسيت شيئا فقل عسى أن يهديني الله إلى
463
شيء آخر هو أرشد من المنسيّ
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً في هذا قولان أحدهما: أنه حكاية عن أهل الكتاب يدل على ذلك ما في قراءة ابن مسعود: وقالوا لبثوا في كهفهم. وهو معطوف على سيقولون ثلاثة فقوله قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا رد عليهم في هذا العدد المحكي عنهم، القول الثاني أنه من كلام الله تعالى، وأنه بيان لما أجمل في قوله: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً، ومعنى قوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا على هذا أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم، وقد أخبر بمدة لبثهم، فإخباره هو الحق لأنه أعلم من الناس، وكان قوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ احتجاجا على صحة ذلك الإخبار، وانتصب سنين على البدل من ثلاثمائة أو عطف بيان، أو على التمييز وذلك على قراءة التنوين في ثلاثمائة وقرئ بغير تنوين «١» على الإضافة ووضع الجمع موضع المفرد أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي ما أبصره وما أسمعه، لأن الله يدرك الخفيات كما يدرك الجليات ما لَهُمْ الضمير لجميع الخلق أو للمعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً هو خبر في قراءة من قرأ بالياء، والرفع وقرئ بالتاء والجزم «٢» على النهي لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يحتمل أن يراد بالكلمات هنا القرآن، فالمعنى لا يبدل أحد القرآن ولا يغيره، ويحتمل إن يريد بالكلمات القضاء والقدر مُلْتَحَداً أي ملجأ تميل إليه.
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي احبسها صابرا مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ هم فقراء المسلمين:
كبلال وخباب وصهيب وكان الكفار قد قالوا له: اطرد هؤلاء نجالسك نحن، فنزلت الآية بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قيل: المراد الصلوات الخمس، وقيل: الدعاء على الإطلاق وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا، وقال الزمخشري: يقال عداه إذا جاوزه، فهذا الفعل يتعدى بنفسه دون حرف، وإنما تعدى هنا بعن لأنه تضمن معنى: نبت عينه عن الرجل إذا احتقره تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا جملة في موضع الحال فهي متصلة بما قبلها، وهي في معنى تعليل الفعل المنهي عنه في قوله: ولا تعد عيناك عنهم: أي لا تبعد عنهم من أجل إرادتك لزينة الدنيا أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي جعلناه غافلا أو وجدناه غافلا، وقيل: يعني أنه عيينة بن حصن الفزاري، والأظهر أنها مطلقة من غير تقييد فُرُطاً من التفريط والتضييع، أو من الإفراط والإسراف
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي هذا هو الحق فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ
(١). وهي قراءة حمزة والكسائي والباقون بالتنوين.
(٢). هي قراءة ابن عامر فقط: تشرك.
464
لفظه أمر وتخيير: ومعناه أن الحق قد ظهر فليختر كل إنسان لنفسه: إما الحق الذي ينجيه، أو الباطل الذي يهلكه، ففي ضمن ذلك تهديد سُرادِقُها السرادق في اللغة: ما أحاط بالشيء كالسور والجدار، وأما سرادق جهنم فقيل: حائط من نار، وقيل: دخان كَالْمُهْلِ وهو دردي الزيت إذ انتهى حره روى ذلك عن النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وقيل:
ما أذيب من الرصاص وشبهه مُرْتَفَقاً أي شيء يرتفق به، فهو من الرفق، وقيل: يرتفق عليه فهو من الارتفاق بمعنى الاتكاء أُولئِكَ لَهُمْ خبر إن، وإنا لا نضيع: اعتراض، ويجوز أن يكونا خبرين أو يكون إنا لا نضيع الخبر، وأولئك استئناف، ويقوم العموم في قوله: من أحسن مقام الضمير الرابط أو يقدر من أحسن عملا منه، وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إنها نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم أَساوِرَ جمع أسوار وسوار، وهو ما يجعل في اليد، وقيل: أساور جمع أسورة وأسورة جمع سوار مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ السندس: رقيق الديباج، والإستبرق الغليظ منه الْأَرائِكِ الأسرة والفرش.
وَاضْرِبْ لَهُمْ الضمير للكفار الذين قالوا: أطرد فقراء المسلمين، وللفقراء الذين أرادوا طردهم: أي مثل هؤلاء وهؤلاء كمثل هذين الرجلين، وهما أخوان من بني إسرائيل:
أحدهما مؤمن، والآخر كافر: ورثا مالا عن أبيهما، فاشترى الكافر بماله جنتين، وأنفق المؤمن ماله في طاعة الله حتى افتقر، فعيره الكافر بفقره فأهلك الله مال الكافر، وروي أن اسم المؤمن تمليخا، واسم الكافر فطروس، وقيل: كانا شريكين اقتسما المال، فاشترى أحدهما بماله جنتين وتصدق الآخر بماله أُكُلَها بضم الهمزة اسم لما يؤكل، ويجوز ضم الكاف وإسكانها وَلَمْ تَظْلِمْ أي لم تنقص وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ بضم الثاء والميم، أصناف المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، قاله ابن عباس وقتادة، وقيل: هو الذهب والفضة خاصة، وهو من ثمّر ماله إذا أكثره ويجوز إسكان الميم تخفيفا، وأما بفتح الثاء والميم، فهو المأكول من الشجر، ويحتمل المعنى الآخر وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يراجعه في الكلام وَأَعَزُّ نَفَراً يعني الأنصار والخدم وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أفرد الجنة هنا، لأنه إنما دخل الجنة الواحدة من الجنتين، إذ لا يمكن دخول الجنتين دفعة واحدة وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ إما بكفره وإما بمقابلته لأخيه، فإنها تتضمن الفخر والكبر والاحتقار لأخيه
465
قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً يحتمل أن تكون الإشارة إلى السموات والأرض وسائر المخلوقات، فيكون قائلا ببقاء هذا الوجود كافرا بالآخرة أو تكون الإشارة إلى جنته، فيكون قوله إفراطا في الاغترار وقلة التحصيل
وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي إن كان هذا على سبيل الفرض والتقدير كما يزعم أخي:
لأجدن في الآخرة خيرا من جنتي في الدنيا، وقرئ خيرا منهما «١». بضمير الإثنين للجنتين، وبضمير الواحد للجنة مُنْقَلَباً أي مرجعا أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي خلق منه أباك آدم، وإنما جعله كافرا لشكه في البعث سَوَّاكَ رَجُلًا كما تقول سوّاك إنسانا، ويحتمل أن يقصد الرجولية على وجه تعديد النعمة في أن لم يكن أنثى لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي قرأ الجمهور بإثبات الألف في الوقف وحذفها في الوصل، والأصل على هذا لكن أنا، ثم ألقيت حركة الهمزة على الساكن قبلها، وحذفت ثم أدغمت النون في النون، وقرأ ابن عامر بإثبات الألف في الوصل والوقف، ويتوجه ذلك بأن تكون لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا، ثم أدغمت النون في النون وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ الآية: وصية من المؤمن للكافر، ولولا تحضيض فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ يحتمل أن يريد في الدنيا أو الآخرة حُسْباناً أي أمرا مهلكا كالحر والبرد ونحو ذلك صَعِيداً زَلَقاً الصعيد: وجه الأرض، والزلق الذي لا يثبت فيه قدم يعني أنه تذهب أشجاره ونباته.
غَوْراً أي غائرا ذاهبا وهو مصدر وصف به وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ عبارة عن هلاكها يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عبارة عن تلهفه وتأسفه وندمه وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها يريد أن السقف وقعت وهي العروش، ثم تهدمت الحيطان عليها، والحيطان على العروش وقيل: إن كرومها المعروشة سقطت على عروشها، ثم سقطت الكروم عليها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ قال ذلك على وجه التمني لما هلك بستانه، أو على وجه التوبة من الشرك هُنالِكَ ظرف يحتمل أن يكون العامل فيه منتصرا، أو يكون في موضع خبر الْوَلايَةُ لِلَّهِ بكسر الواو «٢» بمعنى الرياسة والملك، وبفتحها من الموالاة والمودة وَخَيْرٌ عُقْباً «٣»
(١). وهي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر، وأما الباقون فقرأوا: منها.
(٢). قراءة حمزة والكسائي والباقون بفتح الواو.
(٣). قرأ عاصم وحمزة: عقبا بسكون القاف والباقون بالضم.
أي عاقبة
فَاخْتَلَطَ الباء سببية، والمعنى: صار به النبات مختلطا: أي ملتفا بعضه ببعض من شدة تكاثفه فَأَصْبَحَ هَشِيماً أي متفتتا، وأصبح هنا بمعنى صار تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي تفرقه ومعنى المثل: تشبيه الدنيا في سرعة فنائها بالزرع في فنائه بعد خضرته.
الْمالُ وَالْبَنُونَ الآية: هذا من الجمع بين شيئين في خبر واحد، وذلك من أدوات البيان، وقرئ زينتا بالتثنية لأنه خبر عن اثنين، وأما قراءة الجمهور فأفردت فيه الزينة لأنها مصدر وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. هذا قول الجمهور، وقد روى ذلك عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وقيل الصلوات الخمس، وقيل: الأعمال الصالحات على الإطلاق «١» نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي نحملها، ومنه قوله: وهي تمر مر السحاب، وبعد ذلك تصير هباء وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً أي ظاهرة لزوال الجبال عنها وَحَشَرْناهُمْ قال الزمخشري: إنما جاء حشرناهم بلفظ الماضي بعد قوله: نسير للدلالة على أن حشرناهم قبل تسيير الجبال ليعاينوا تلك الأهوال فَلَمْ نُغادِرْ أي لم نترك فًّا
أي صفوفا فهو إفراد تنزل منزلة الجمع، وقد جاء في الحديث: إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون صفا «٢» قَدْ جِئْتُمُونا
يقال هذا للكفار على وجه التوبيخ ما خَلَقْناكُمْ
أي حفاة عراة غرلا [غير مختونين] وَوُضِعَ الْكِتابُ يعني صحائف الأعمال، فالكتاب اسم جنس كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف جرى مجرى التعليل لأباية إبليس عن السجود، وظاهر هذا الموضع يقتضي أن إبليس لم يكن من الملائكة، وأن استثناءه منهم استثناء منقطع، فإن الجن صنف غير الملائكة، وقد يجيب عن ذلك من قال: إنه كان من الملائكة بأن كان هنا بمعنى صار: أي خرج من صنف الملائكة إلى صنف الجن، أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن وهم الذين خلقوا من نار فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ: أي خرج عن ما أمر به، والفسق في اللغة: الخروج أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ: هذا توبيخ ووعظ، وذرية إبليس هم الشياطين واتخاذهم أولياء بطاعتهم في
(١). انظر الطبري لدى تفسيره لهذه الآية فقد أسند هذه الأقوال لابن عباس وغيره.
(٢). أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود ج أول ص ٥٦٧.
عصيان الله والكفر به
ما أَشْهَدْتُهُمْ الضمير للشياطين على وجه التحقير لهم أو للكفار أو لجميع الخلق، فيكون فيه ردّ على المنجمين وأهل الطبائع وسائر الطوائف المتخرصة وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أي معينا ومعنى المضلين: الذين يضلون العباد وذلك يقوّي أن المراد الشياطين وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ يقول هذا للكفار على وجه التوبيخ لهم، وأضاف تعالى الشركاء إلى نفسه على زعمهم، وقد بين هذا بقوله: الذين زعمتم مَوْبِقاً أي مهلكا، وهو اسم موضع أو مصدر من: وبق الرجل إذا هلك، وقد قيل: إنه واد من أودية جهنم، والضمير في بينهم للمشركين وشركائهم فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها الظن هنا بمعنى اليقين مَصْرِفاً أي معدلا ينصرفون إليه جَدَلًا أي مخاصمة ومدافعة بالقول ويقتضي سياق الكلام ذم الجدل، وسببها فيما قيل مجادلة النضر بن الحارث، على أن الإنسان هنا يراد به الجنس.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا الآية: معناها أن المانع للناس من الإيمان والاستغفار هو القضاء عليهم بأن يأتيهم سنة الأمم المتقدمة، وهي الإهلاك في الدنيا، أو يأتيهم العذاب يعني عذاب الآخرة، ومعنى قبلا معاينة وقرئ بضمتين «١» وهو جمع قبيل: أي أنواعا من العذاب لِيُدْحِضُوا أي ليبطلوا وَما أُنْذِرُوا هُزُواً يعني العذاب وما موصلة، والضمير محذوف تقديره: أنذروه أو مصدرية إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً هذه عقوبة على الإعراض المحكي عنهم، أو تعليل لهم والأكنة جمع كنان وهو الغطاء، والوقر الصمم وهما على وجه الاستعارة، في قلة فهمهم للقرآن وعدم استجابتهم للإيمان فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً يريد به من قضى الله أنه لا يؤمن
لَوْ يُؤاخِذُهُمْ الضمير لكفار قريش أو لسائر الناس لقوله: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ [النحل: ٦١] والجملة خبر المبتدأ والغفور ذو الرحمة صفتان اعترضتا بين المبتدأ والخبر توطئة لما ذكر بعد من ترك المؤاخذة، ويحتمل أن يكون الغفور هو الخبر، ويؤاخذهم بيان لمغفرته ورحمته، والأول أظهر بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ قيل:
(١). قرأ عاصم وحمزة والكسائي: قبلا. وقرأ الباقون: قبلا.
468
هو الموت وقيل: عذاب الآخرة وقيل: يوم بدر مَوْئِلًا أي ملجأ يقال: وئل الرجل إذا لجأ.
وَتِلْكَ الْقُرى يعني: عادا وثمود وغيرهم من المتقدمين، والمراد هنا: أهل القرى ولذلك قال: أهلكناهم وفي ضمن هذا الإخبار تهديد لكفار قريش وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أي وقتا معلوما، والمهلك هنا بضم الميم وفتح اللام اسم مصدر من أهلك، فالمصدر على هذا على مضاف للمفعول لأن الفعل متعدي، وقرئ «١» بفتح الميم من هلك، فالمصدر على هذا مضاف للفاعل.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ هذا ابتداء قصة موسى مع الخضر، وهو موسى بن عمران نبي الله، وفتاه هو يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وهو من ذرية يوسف عليه السلام، والفتى هنا بمعنى الخديم وسبب القصة فيما روي عن النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم في الحديث الصحيح: أن موسى عليه السلام خطب يوما في بني إسرائيل فقيل له:
هل تعلم أحدا أعلم منك؟ فقال لا: فأوحى الله إليه أن بل عبدنا الخضر أعلم منك فقال: يا رب دلني على السبيل إلى لقائه فأوحى الله إليه أن يحمل حوتا في مكتل [زنبيل] ويسير بطول سيف [شاطئ] البحر حتى يبلغ مجمع البحرين، فإذا فقد الحوت فإن الخضر هناك، ففعل موسى ذلك حتى لقيه لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ قال موسى هذا الكلام وهو سائر أي: لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، فحذف؟؟؟ خبر لا أبرح اختصارا لدلالة المعنى عليه، ومعنى لا أبرح هنا لا أزال، لأن حقيقة لا أبرح تقتضي الإقامة في الموضع، وكان موسى حين قالها على سفر لا يريد إقامة، ومجمع البحرين: عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه، وهو بحر الأندلس وقيل: هو مجمع بحر فارس وبحر الروم في المشرق أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أي زمانا طويلا، والحقب بضم القاف وإسكانها ثمانون سنة، وقيل زمان غير محدود وقيل: هي جمع حقبة وهي السنة فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما الضمير في بلغا لموسى وفتاه والضمير في بينهما للبحرين نَسِيا حُوتَهُما نسب النسيان إليهما، وإنما كان النسيان من الفتى وحده كما تقول فعل بنو فلان كذا: إذا فعله واحد منهم وقيل: نسى الفتى أن يقدمه ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً فاعل اتخذ الحوت، والمعنى أنه سار في البحر فقيل: إن الحوت كان ميتا مملوحا ثم صار حيا بإذن الله، ووقع في الماء فسار فيه.
(١). مهلك: بفتح الميم وكسر اللام هي قراءة حفص وقرأ أبو بكر عن عاصم: بفتح اللام. وقرأ الباقون:
بضم الميم وفتح اللام.
469
وقال ابن عباس: إنما حيي الحوت لأنه مسه ماء عين يقال لها عين الحياة ما مست قط شيئا إلا حيي، وفي الحديث أن الله أمسك جرية الماء عن الحوت فصار مثل السراب، وهو المسلك في جوف الأرض، وذلك معجزة لموسى عليه السلام وقيل: اتخذ الحوت سبيله في البحر سربا حتى وصل إلى البحر فعام على العادة، ويرد هذا ما ورد في الحديث
فَلَمَّا جاوَزا أي جاوزا الموضع الذي وصف له، وهو الصخرة التي نام عندها فسار الحوت في البحر، بينما كان موسى نائما وكان ذهاب الحوت أمارة لقائه للخضر، فلما استيقظ موسى أصابه الجوع، فقال لفتاه: آتنا غداءنا نَصَباً أي تعبا قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ قال الزمخشري:
أرأيت هنا بمعنى أخبرني ثم قال، فإن قلت ما وجه التئام هذا الكلام، فإن كل واحد من أرأيت وإذ أوينا وفإني نسيت الحوت لا متعلق له؟ فالجواب أنه لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه، وما اعتراه من نسيانه، فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك فكأنه قال: أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت فحذف بعض الكلام نَسِيتُ الْحُوتَ أي نسيت أن أذكر لك ما رأيت من ذهابه في البحر وتقديره: نسيت ذكر الحوت أَنْ أَذْكُرَهُ بدل من الهاء في أنسانيه وهو بدل اشتمال.
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع، أي اتخذ الحوت سبيله في البحر عجبا للناس أو اتخذ موسى سبيل الحوت عجبا أي تعجب هو منه وإعراب عجبا مفعول ثان لاتخذ مثل سربا وقيل: إن الكلام تم عند قوله في البحر ثم ابتدأ التعجب فقال عجبا وذلك بعيد قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي فقد الحوت هو ما كنا نطلب لأنه أمارة على وجدان الرجل فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أي رجعا في طريقهما يقصان أثرهما الأول لئلا يخرجا عن الطريق فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا هو الخضر آتَيْناهُ رَحْمَةً يعني النبوة على قول من قال: إن الخضر نبيّ. وقيل: إنه ليس بنبيّ ولكنه وليّ، وتظهر نبوته من هذه القصة. أنه فعل أشياء لا يعملها إلا بوحي، واختلف أيضا هل مات أو هو حيّ إلى الآن؟ ويذكر كثير من الصلحاء أنهم يرونه ويكلمهم وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً في الحديث أن موسى وجد الخضر مسجّى بثوبه فقال له: السلام عليك فرفع رأسه وقال:
وأنى بأرضك السلام قال له: من أنت؟ قال: أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال: نعم قال: أو لم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا؟ قال: بلى. ولكني أحببت لقاءك وأن أتعلم منك. قال: إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه أنا قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ الآية: مخاطبة فيها ملاطفة وتواضع وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان مع من يريد أن يتعلم منه رُشْداً قرئ
بضم الراء وإسكان الشين وبفتحها «١» والمعنى واحد، وانتصب على أنه مفعول ثان بتعلمني أو حال من الضمير في أتبعك.
فَانْطَلَقا الضمير لموسى والخضر. وفي الحديث أنهما انطلقا ماشيين على سيف البحر، حتى مرت بهما سفينة فعرفها الخضر فحمل فيها بغير نوال أي بغير أجرة خَرَقَها روي أن الخضر أزال لوحين من ألواحها شَيْئاً إِمْراً أي عظيما وقيل: منكرا فَانْطَلَقا يعني بعد نزولهما من السفينة فمرا بغلمان يلعبون، وفيهم غلام وضيء الصورة فاقتلع الخضر رأسه، وروي أن اسم الغلام جيسورا بالجيم، وقيل بالحاء المهملة قال الزمخشري:
إن قلت لم قال خرقها بغير فاء، وقال فقتله بالفاء والجواب أن خرقها جواب الشرط، وقتله من جملة الشرط معطوف عليه والخبر: قال أقتلت نفسا، فإن قيل: لم خولف بينهما؟
فالجواب: أن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام نفسا زاكية «٢» قيل: إنه كان لم يبلغ، فمعنى زكية ليس له ذنب وقيل: إنه كان بالغا، ولكنه لم ير له الخضر ذنبا بِغَيْرِ نَفْسٍ يقتضي أنه لو كان قد قتل نفسا لم يكن بقتله بأس على وجه القصاص، وهذا يدل على أن الغلام كان بالغا فإن غير البالغ لا يقتل وإن قتل نفسا شَيْئاً نُكْراً أي منكرا وهو أبلغ من قوله: إمرا ويجوز ضم الكاف وإسكانها قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ بزيادة لك فيه من الزجر والإغلاظ ما ليس في قوله أولا: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً بَعْدَها الضمير للقصة وإن لم يتقدم لها ذكر، ولكن سياق الكلام يدل عليها قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي قد أعذرت إليّ فأنت معذور عندي، وفي الحديث كانت الأولى من موسى نسيانا
أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ قيل: هي أنطاكية، وقيل برقة.
وقال أبو هريرة وغيره: هي بالأندلس ويذكر أنها الجزيرة الخضراء وذلك على قول أن مجمع البحرين عند طنجة وسبتة اسْتَطْعَما أَهْلَها أي طلبا منهم طعاما جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أن يسقط وإسناده الإرادة إلى الجدار مجاز، ومثل ذلك كثير في كلام العرب،
(١). قرأ أبو عمرو: رشدا. وقرأ الباقون: رشدا.
(٢). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: زاكية. وقرأ الباقون: زكية بدون ألف.
وحقيقته أنه قارب أن ينقضّ ووزن ينقضّ ينفعلّ وقيل: يفعلّ بالتشديد كيحمرّ فَأَقامَهُ قيل: إنه هدمه ثم بناه وقيل مسحه بيده وأقامه فقام لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي قال موسى للخضر: لو شئت لاتخذت عليه أجرا أي طعاما نأكله قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ إنما قال له هذا لأجل شرطه في قوله: «إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني» على أن قوله «لو شئت لاتخذت عليه أجرا» ليس بسؤال ولكن في ضمنه أمر بأخذ الأجرة عليه لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام، والبين هنا ليس بظرف وإنما معناه الوصلة والقرب، وقال الزمخشري: الأصل هذا فراق بيني وبينك بتنوين فراق ونصب بيني على الظرفية، ثم أضيف المصدر إلى الظرف والإشارة بقوله هذا إلى السؤال الثالث، الذي أوجب الفراق.
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ قيل: إنهم تجار، ولكنه قال فيهم: مساكين على وجه الإشفاق عليهم، لأنهم كانوا يغصبون سفينتهم أو لكونهم في لجج البحر، وقيل:
كانوا إخوة عشرة منهم خمسة عالمون بالسفينة، وخمسة ذوو عاهات لا قدرة لهم وقرئ مسّاكين بتشديد السين، أي يمسكون السفينة وَكانَ وَراءَهُمْ قيل: معناه قدامهم، وقرأ ابن عباس أمامهم، وقال ابن عطية: إن وراءهم على بابه ولكن روعي به الزمان فالوراء هو المستقبل والأمام هو الماضي كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً عموم معناه الخصوص في الجياد والصحاح من السفن، ولذلك قرأ ابن مسعود: يأخذ كل سفينة صالحة، وقيل: إن اسم هذا الملك هدد بن يدد وهذا يفتقر إلى نقل صحيح، وفي الكلام تقديم وتأخير، لأن قوله فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها. مؤخر في المعنى عن ذكر غصبها لأن خوف الغصب سبب في أنه عابها وإنما قدم للعناية به.
وَأَمَّا الْغُلامُ روي أنه كان كافرا، وروي أنه كان يفسد في الأرض، فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما المتكلم بذلك الخضر وقيل: إنه من كلام الله وتأويله على هذا فكرهنا، وقال ابن عطية: إنه من نحو ما وقع في القرن «١» من عسى ولعل، وإنما هو في حق المخاطبين ومعنى: يرهقهما طغيانا وكفرا: يكلفهما ذلك، والمعنى أن يحملهما حبه على اتباعه أو يضر بهما لمخالطته مع مخالفته لهما خَيْراً مِنْهُ أي غلاما آخرا خيرا من الغلام المذكور المقتول زَكاةً أي طهارة وفضيلة في دينه وَأَقْرَبَ رُحْماً أي رحمة وشفقة، فقيل: المعنى أن يرحمهما، وقيل يرحمانه
لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ اليتيم من فقد أبويه قبل البلوغ، وروي أن اسم الغلامين أصرم وصريم، واسم أبيهما كاشح وهذا
(١). القرن كذا ولعل الصواب: الفرق.
يحتاج إلى صحة نقل كَنْزٌ لَهُما قيل مال عظيم، وقيل: كان علما في صحف مدفونة، والأول أظهر وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قيل: إنه الأب السابع، وظاهر اللفظ أنه الأقرب فَأَرادَ رَبُّكَ أسند الإرادة هنا إلى الله لأنها في أمر مغيب مستأنف لا يعلم ما يكون منه إلا الله، وأسند الخضر إلى نفسه في قوله فأردت أن أعيبها لأنها لفظة عيب، فتأدب بأن لا يسندها إلى الله وذلك كقول إبراهيم عليه السلام وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: ٨٠] فأسند المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تأدبا، واختلف في قوله: فأردنا أن يبدلهما هل هو مسند إلى ضمير الخضر أو إلى الله، وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي هذا دليل على نبوّة الخضر، لأن المعنى أنه فعل بأمر الله أو بوحي.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ السائلون اليهود، أو قريش بإشارة اليهود، وذو القرنين هو الإسكندر الملك، وهو يوناني وقيل رومي «١» وكان رجلا صالحا، وقيل كان نبيا، وقيل كان ملكا بفتح اللام والصحيح أنه ملك بكسر اللام واختلف لم سمي ذو القرنين فقيل: كان له ضفيرتان من شعرهما قرناه، فسمى بذلك وقيل: لأنه بلغ المشرق والمغرب وكأنه حاز قرني الدنيا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ التمكين له أنه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلهم آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً أي علما وفهما، يتوصل به إلى معرفة الأشياء والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو غير ذلك فَأَتْبَعَ سَبَباً أي طريقا يوصله وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قرئ بالهمز على وزن فعلة أي ذات حمأة وقرئ بالياء «٢» على وزن فاعلة وقد اختلف في ذلك معاوية وابن عباس فقال ابن عباس: حمئة وقال معاوية حامية فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهما بالأمر فقال: أما العربية فأنتما أعلما بها مني، ولكني أجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين، فوافق ذلك قراءة ابن عباس ومعنى حامية حارة، ويحتمل أن يكون بمعنى حمية ولكن سهلت همزته ويتفق معنى القراءتين. وقد قيل: يمكن أن يكون فيها حمئة ويكون حارة لحرارة الشمس فتكون جامعة للموضعين، ويجتمع معنى القراءتين قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ استدل بهذا من قال إن ذا القرنين نبيّ لأن هذا القول وحي ويحتمل أن يكون بإلهام فلا يكون فيه دليل على نبوته إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً كانوا كفارا فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل، أو يدعوهم إلى الإسلام، فيحسن إليهم وقيل: الحسن هنا هو الأسر، وجعله حسنا بالنظر إلى القتل
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ اختار أن يدعوهم إلى الإسلام، فمن تمادى على الكفر قتله ومن أسلم
(١). لا يصح فاسكندر المقدوني كان وثنيا وأما المذكور في القرآن فكان مؤمنا. والله أعلم.
(٢). قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر: حامية وقرأ الباقون: حمئة. [.....]
473
أحسن إليه، والظلم هنا الكفر والعذاب القتل وأراد بقوله: عذابا نكرا عذاب الآخرة فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى المراد بالحسنى الجنة أو الأعمال الحسنة وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً وعدهم بأن ييسر عليهم وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً هؤلاء القوم هم الزنج وهم أهل الهند ومن وراءهم، ومعنى لم نجعل الآية أنهم ليس لهم بنيان إذ لا تحمل أرضهم البناء وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب تحت الأرض وقال ابن عطية: الظاهر أنها عبارة عن قرب الشمس منهم وقيل: الستر اللباس فكانوا على هذا لا يلبسون الثياب كَذلِكَ أي أمر ذي القرنين كذلك، أي كما وصفناه تعظيما لأمره وقيل:
إن كذلك راجع لما قبله أي لم نجعل لهم سترا، كما جعلنا لكم من المباني والثياب، وقيل: المعنى وجد عندها قوما كذلك، أي مثل القوم الذين وجدوا عند مغرب الشمس وفعل معهم مثل فعله بَيْنَ السَّدَّيْنِ أي الجبلين وهما جبلان في طرف الأرض، وقرئ بالفتح «١» والضم وهما بمعنى واحد، وقيل ما كان من خلقة الله فهو مضموم وما كان من فعل الناس فهو مفتوح وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً قيل هم الترك لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا عبارة عن بعد لسانهم عن ألسنة الناس، فهم لا يفقهون القول إلا بالإشارة أو نحوها يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قبيلتان من بني آدم في خلقهم تشويه، منهم مفرط الطول ومفرط القصر مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ لفسادهم بالقتل والظلم وسائر وجوه الشر، وقيل: كانوا يأكلون بني آدم.
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا هذا استفهام في ضمنه عرض ورغبة، والخرج الجباية يقال فيه خراج وقد قرئ بهما، فعرضوا عليه أن يجعلوا له أموالا ليقيم بها السد قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي ما بسط الله لي من الملك خير من خرجكم، فلا حاجة لي به ولكن أعينوني بقوة الأبدان وعمل الأيدي رَدْماً أي حاجزا حصيبا، والردم أعظم من السد ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي بين الجبلين قالَ انْفُخُوا يريد نفخ الكير أي أوقدوا النار على الحديد قِطْراً أي نحاسا مذابا وقيل هو الرصاص، وروى أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل البنيان من زبر الحديد حتى ملأ به ما بين
(١). قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بضم السين وقرأ الباقون بالفتح.
474
الجبلين ثم أفرغ عليه النحاس المذاب
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أصل اسطاعوا استطاعوا حذفت التاء تخفيفا، والضمير في يظهروه للسدّ، ومعنى يظهروه يعلوه ويصعدوا على ظهره فالمعنى أن يأجوج ومأجوج لا يقدرون أن يصعدوا على السدّ لارتفاعه ولا ينقبوه لقوته قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي القائل ذو القرنين وأشار إلى الردم فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي يعني القيامة جعله دكا أي مبسوطا مسوى بالأرض وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ الضمير في تركنا لله عز وجل، ويومئذ يحتمل أن يريد به يوم القيامة، لأنه قد تقدم ذكره فالضمير في قوله بعضهم على هذا لجميع الناس، أو يريد بقوله يومئذ يوم كمال السد، والضمير في قوله: بعضهم على هذا ليأجوج ومأجوج، والأول أرجح لقوله بعد ذلك:
ونفخ في الصور فيتصل الكلام ويموج عبارة عن اختلاطهم واضطرابهم وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الصور هو القرن الذي ينفخ فيه يوم القيامة حسبما جاء في الحديث، ينفخ فيه إسرافيل نفختين إحداهما للصعق والأخرى للقيام من القبور وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أي أظهرناها كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عبارة عن عمى بصائرهم وقلوبهم، وكذلك لا يستطيعون سمعا أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ يعني أنهم لا يكونون لهم أولياء، كما حكي عنهم أنهم يقولون أنت ولينا من دونهم، والعباد هنا من عبد مع الله ممن لا يريد ذلك كالملائكة وعيسى ابن مريم أَعْتَدْنا أي يسرنا نُزُلًا ما ييسر للضيف والقادم عند نزوله، والمعنى أن جهنم لهم بدل النزل كما أن الجنة نزل في قوله «كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا» ويحتمل أن يكون النزل موضع النزول.
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الآية في كفار العرب كقوله: كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ وقيل: في الرهبان لأنهم يتعبدون يظنون أن عبادتهم تنفعهم وهي لا تقبل منهم، وفي قوله: يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ تجنيس وهو الذي يسمى تجنيس التصحيف فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي ليس لهم حسنة توزن لأن أعمالهم قد حبطت جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ هي أعلى الجنة حسبما ورد في الحديث ولفظ الفردوس أعجمي معرب حِوَلًا أي تحوّلا وانتقالا قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي الآية إخبار عن اتساع علم الله تعالى
والكلمات هي المعاني القائمة بالنفس وهي المعلومات، فمعنى الآية لو كتب علم الله بمداد البحر لنفد البحر ولم ينفد علم الله، وكذلك لو جيء ببحر آخر مثله وذلك لأن البحر متناه وعلم الله غير متناه بِمِثْلِهِ مَدَداً أي زيادة والمدد هو ما يمد به الشيء أي يكثر
فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ إن كان الرجاء هنا على بابه فالمعنى يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضا وقبول، وإن كان الرجاء بمعنى الخوف فالمعنى يخاف سوء لقاء ربه، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً يحتمل أن يريد الشرك بالله وهو عبادة غيره فيكون راجعا إلى قوله يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أو يريد الرياء لأنه الشرك الأصغر واللفظ يحتمل الوجهين، ولا يبعد أن يحمل على العموم في المعنيين والله أعلم.
Icon