تفسير سورة يس

اللباب
تفسير سورة سورة يس من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية١ وهي ثلاث وثمانون آية، وسبعمائة وتسع وعشرون كلمة، وثلاثة آلاف حرف.
١ بالإجماع. نقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٥/١..

مكية وهي ثلاث وثمانون آية، وسبعمائة وتسع وعشرون كلمة، وثلاثة آلاف حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: قوله: ﴿يس﴾ بسكون النون. وأدغم النون في الواو بعدها ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش بخلاف عنه. وكذلك النون من «نون والقلم» وأظهرهما الباقون فمن أدغم فاللخفّة، ولأنه لما وصل والنفي متقاربان من كلمتين أولهما ساكن وجب الإدغام كالمِثْلَيْن. ومن أظهر فاللمبالغة في تفكيك هذه الحروف بعضها من بعض، لأنه بنية الوقف وهذا أُجْرِيَ على القياس في لحروف المقطعة وكذلك التقى فيها الساكنان وصلاً ونقل إليهما حركة همزة الوصل على رأي نحو «الم. الله» كما تقدم تقريره.
(وأمال الياء من «يس» الأخَوَانِ، وأبُو بكرٍ؛ لأنها اسم من الأسماء كما تقدم تقريره) أَوَّلَ البقرة.
162
قال الفَارسيُّ: وإذا أمالوا «ياء» وهي حرف نداء فَلأَنْ يُمِيلُوا «يا» من «يس» أَجْدَرُ وقرأ عيسى وابن أبي إسْحَاقَ بفتح النون إمَّا على البناء على الفتح تخفيفاً ك «أَيْنَ وكَيْفَ» وإما على أنه مفعول ب «اتْلُ» وإما على أنه مجرور بحرف القسم، وهو على الوجهين غير منصرف للعملية والتأنيث ويجوز أن يكون منصوباً على إسْقاطِ حرف القسم كقوله:
٤١٦٧ -......................... أمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ
وقرأ الكلبي بضم النون، فقيل: على أنها خبرُ مبْتَدأ مُضْمَر، أي هذه يس ومُنِعَتْ من الصرف؛ لما تقدم.
وقيل: بل هي حركة بناء ك «حَيْثُ» فيجوز أن (يكون) خبراً كما تقدم وأن يكون مقسماً بها نحو: «عَهْدَ اللَّهِ لأَفْعَلَنَّ».
وقيل: لأنها منادى فبنيت على الضم، ولهذا فسَّرها الكلي القارئ لها ب «يَا إنْسَانُ» قال: وهي لغة طَيِّئ قال الزمخشري: إن صح مناه فوجهه أن يكون أصله يا أُنَيْسِينُ فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره كما قولا في القسم: «مُ اللَّهِ» في أَيْمُنُ اللَّهِ.
قال أبو حيان: الذي نقل عن العرب في تصغير إنسان أُنَيْسَان بياء بعدها ألف فدل أن أصله أُنْسِيَان؛ لأن التصغير يرد الأشياءَ إلى أصولها، ولا نعلم أنهم قالوا في تصيغره: أُنَيْسِين. وعلى تقديره أنه يصغر كذلك فلا يجوز ذلك إلا أنْ يُبْنَى على الضم لأنه
163
منادى مُقْبَلٌ عليه، ومع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير ويمتنع من ذلك في حق النُّبُوَّةِ.
قال شهاب الدين: أما الاعتراض الأخير فصحيح نصوا على أن التصغير لا يدخل في الأسماء المعظمة شرعاً، ولذلك يحكى أن ابْن قُبَيْبَةً (لمَّا قال) في المهَيْمِن إنه مصغر من «مُؤْمن» والأصل: مُؤَيْمِنٌ فأبدلت الهمزةُ هاءً قيل له: هذا يَقْرُبُ من الكفر فلْيَتَّقِ اللَّهَ قَائِلُه.
وتقدمت هذه الحكايات في المائدة وما قيل فيها. وقد تقدم للزمخشري في «طه» ما يقرب من هذا البحث وتقدم كلام الشيخ معه.
وقرأ ابْن أَبِي إسْحَاقَ أيضاً وأبو السَّمَّا يس بكسر النون، وذلك على أصل التقاء الساكنين ولا يجوز أن يكون حركة إعراب «وَالقُرْآنِ» إما قسم متسأنف إن لم تجعل ما تقدم قسماً وإما عطف على ما قبله إن كان مقسماً به وقد تقدم كلام عن الخليل في ذلك أوائلَ البقرة فاعتبرْهُ هنا فإنَّه حسنٌ جدَّا.
164

فصل


قد تقدمت في سورة العنكبوت ذكر حروف التهجي وأن كل سورة بدأ الله فيها يحروف التهجي كان في أوائله الذكر أو الكتاب أو القرآن. ولنذكر هَهُنا أن في ذكر الحروف أوائل السور أموراً تدل على أنها غير خالية عن الحكمة لكن علم الإنسان لا يصل إليها. والذي يدل على أن فيها حكمة من حيث الجملة هو أن الله تعالى ذلك من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفاً وهي نصفُ ثمانيةٍ وعشرينَ حرفاً هي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا: الهمزة ألف متحركة.
ثم إنه تعالى قسم الحروف ثلاثَة أقسام تسعةَ أحرف من الألف إلى الذال والتسعة الأخيرة من الفاء إلى الياء وعشرةً في الوسط من الراء إلى الغَيْن، وذكر من القسم الأول حرفين الألفَ والحاء وترك سبعةً ولم يترك فن القسم الأول من حروف الحلق والصدر إلا واحداً لم يذكره وهو الخاء ولم يذكر من القسم الأخير من حروف الشَّفَةِ إلا واحداً لم يتركه وهو الميم والعشر الأواسط ذكرمنه حرفاً وترك حرفاً، فترك الزاي وذكر الراء وذكر السين وترك الشِّين، وذكر الصاد وترك الضاد، وذكر الطاء وترك الظّاء وذكر العين وترك الغيْن. ولي هذا أمراً يقع اتفاقاً بل هو ترتيب مقصود وهو لحكمة لكنها غير معلومة وهب أن واحداً يدعي فيه شيئاً فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسُورة «ن» و «ق» و «ص» وبعضها بحرفين كسورة «حم» و «يس» و «طه» وبعضها بثلاثة أحرف كسورة «الم» و «طسم» و «الر» وبعضها بأربعة أحرف كسروة «المر» و «المص» وبعضها بخمسة كسورة «حمعسق» و «كهيعص» وهب أنَّ قائلاً يقول: إن هذا إشارة بأن الكلام إما حرف، وإما فعل، وإما اسمٌ، والحرف كثيراً ما جاء على حرف كواوِ العطف وفاء العقيب، وهمزة الاستفهام، وكاف التشبيه، وياء الإلصاق وغيرها، وجاء على حرفين كمِنْ للتبعيض و «أَوْ» للتخيير، و «أم» للاستفهام المتوسط، وإن للشرط وغيرها. والفعل والاسم والحرف جاء على ثلاثة أحرف كإلى وعلى في الحرف وإلى وعَلَى في الاسم وأَلا يألو وعَلاَ يعلو في الفعل، والاسم والفعل جاءا على أربعة أحرف، والاسم خاصة جاء على ثلاثة أحرف وأربعة وخمسة ك «عِجْل» وسنجل
165
وجرَحْل فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه الحروف على هذه الوجوه فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور بالحرف الواحد، والبعض بأكثر فلا يعلم ما السِّرُّ إلا الله من أعْلَمَهُ الله به وإذا علم هذا العبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جاريحة، وكل واحد منها قسمان:
قمس عُقِل معناه وحقيقته وقسم لم يُعْلَمْ.
أما القلبية مع أنها عن الشك والجهل ففيها ما لم يعلم دليله عقلاً وإنما وجب الإيمَانُ به والاعتقاد سمعاً كالصّراط الذي هو أرق من الشعر وأحدّ من السيف، ويمر عليه المؤمن كالبَرْق الخاطبف، والميزان الذي تزن به الأعمال الذي لا ثقل بها في نظر الناظر وكيفية الجنة والنار فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ووقوعها معلوم (و) مقطوع به بالمسع ومنها ما علم معناه وما لم يعلم كمقادير النصب وعدد الركعات والحكمة في ذلك أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعمل ما فيه من الفائدة لا يكون الإتيان إلا لمحض العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي بها لفائدة وإن لم يؤمن كما لو قال السيد لعبده: انقُل هذه الحجارة من ههنا ولم يعلمه بما في لانقل فنقها ولو قال انقلها فإن تحتها كنزاً هو لك فإنه ينقلها وإن لم يؤمَر وإذا علم ها فكذلك في العبادات الِّسانية الذكرية يجب أن يكون ما لم يفهم معناه إذا تكلم به العبد علم أنه لا يعقل غير الانقياد لأمر المعبود الإلهيّ. فإذا قال: حم، يس، طس علم أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل يتلفظ به امتثالاً لما أمر به.

فصل


قال ابن عباس: يس قسم، ووري عنه أن معناه يا إنسان بلغة طيئ. قيل: لأن تصغير إنسان أُنَيْسِين كما تقدم عن الزمخشري فكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز وقال: ياسين أي أُنَيْسِينُ.
قال أكثر المفسرين عين محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال الحسن وسعيد بن جبير وجماعة. وقال أبو (العالية: يا رَجُلُ. وقال أبو بكر الوراق: يا سيِّد البشر وقوله: {والقرآن
166
الحكيم} أي ذي) الحكمة ك ﴿فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١] أي ذات رضا، أو أنه ناطق بالحكمة وهو كالحيِّ المتكلم.
قوله: ﴿إنَّكَ﴾ و ﴿على صِرَاط﴾ يجوز أن يكون متعلقاً ب «المُرْسَلِين» يقول: أَرْسَلْتُ عليه، كما قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً﴾ [الفيل: ٣] وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنِّ في «لَمِنَ المُرْسَلِين» لوقوعه خبراً وأن يكون حالاً من «المُرْسَلِينَ» وأن يكون خبراً ثانياً ل «إنَّكَ».

فصل


أقسم بالقرآن على أن محمداً من المرسلين. وهو رد على الكفار، حيث قولوا: (لَسْتَ مُرْسَلاً).
فإن قيل: المطلب ثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة بالإقْسَام؟!.
فالجواب من وجوه:
الأول: إن العرب كانوا يتقون الإيمان الفادرة وكانوا يقولون بأن الأيْمَان الفاجرة توجب خراب العالم وصحح النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ذلك بقوله: «اليَمينُ الكَاذِبَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلاَقِعَ» ثم إنهم كانوا يقولون: إن النبي عليه - (الصلاة و (السلام - يصيبه عذاب آلهتهم، وهي الكواكب والنبي عليه (الصلاة و) السلام يحلق بأمر الله وإنزال كلامه عليه بأشياء مختلفة، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرْفَعَ شَأْناً وأمْنَعَ مَكَاناً، فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب.
الثاني: أن المُتَنَاظِرَ (يْنِ) إذا وقع بينهما كلام، وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المغلوب: إنك قدرت هذا بقوة جدالك، وأنت خبير في نفسك بضعف مقالتك، وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه الدليل صورة، وعجزت
167
أنا عن القدح فيه وهذا كثير الوقوع بين المُتَناظِرَيْنِ فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر؛ لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول، فلا يجد أمراً إلا باليمين فيقول: وَاللَّهِ إنِّي لَسْتُ مُكَابِراً، وإنَّ الأمر على ما ذكرت ولم علمت خلافه لرَجَعْتُ إليه فههنا يتعين اليمين، فكذلك النبي عليه (الصلاة و) السلام أقام البراهين، وقالت الكفرة: ﴿مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ﴾ [سبأ: ٤٣] وقالوا ﴿لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [الأحقاف: ٧] فالتمسك بالأيْمان لعدم فائدة.
الدليل الثالث: أن هذا ليس مجرد الحلف بل دليل خرج في صورة اليمين؛ لأن القرآن معجزة ودليل كَوْنه مُرْسَلاً هو المعجزة والقرآن كذلك.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر في صورة الدليل. وما الحكمة في صورة اليمين؟
فالجواب: أن الدليل إذا ذكر لا في صورة اليمين، قد لا يُقْبِلُ عليه السامع فلا يفيد فائدة، فإذا ابتدأ به على صورة اليمين لا يقع ولا سيما من العظيم إلا على عظيم، والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصْغاء إليه فلصروة اليمين تقبل عليه الأسماع لكونه دليلاً شافياً يتشربه الفؤاد فيقع في السمع وفي القلب.
قوله: ﴿على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم. والمسقيم أقرب الطرق الموصلة إلى المقصِد والدين كذلًك فإنه يوصل إلى الله وهو المقصد.
قوله: ﴿تَنزِيلَ العزيز الرحيم﴾ قرأ نافعٌ وابنُ كَثيروأبُو عمرو وأبو بكر برفع «تنزيلُ» على أنه خبر متبدأ مضمير أي هُو تنزيل. ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ إذا جعلت «يس» اسماً للسورة أي هذه السورة المسمّاة ب «يس» تنزيلٌ، أو هذه الأحرف المقطعة تنزيلٌ.
والجملة القسمية على هذا اعتراض. والباقون بالنصب على المصدر كأنه قال: نَزَلَ تَنْزِلَ العَزِيزِ الرحيم لتنذر. أو على أنه معفول بفعل مَنْوِيِّ كأنه قال والقرآن الحكيم أعين تَنْزِيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر وهذا اختيار الزمخشري
168
وهو المراد بقوله: «أو عَلَى المَدْح» وهو في المعنى كالرفع على خبر ابتداء مضمر و «تنزيل» مصدر مضاف لفاعله.
وقيل: هو بمعنى منزِّل وقرأ أبو حيوة واليزيدي وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة تَنْزِيل بالجر على النعت للقرآن أو البدل منه، كأن قال: والقُرْآن الحكيم تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين.
وقوله: ﴿العزيز الرحيم﴾ إشارة إلى أن الملك إذا أرسل فالمرسَلُ إليهم إما أن يخالفوا المرسل ويُعِينُوا المُرْسَل، وحينئذ لا يقدر الملك على الانتقام منهم إلا إذا كان عزيزاً، أو يخالفوا المُرْسِل ويكرموا المُرْسَل وحينئذ لا يقدر الملك. أو يقال: المُرْسَلُ يكون معه في رسالته مَنْعٌ عن أشياء وإطلاق لأشياء والمنع يؤكده العزة والإطلاق يدل على الرحمة.
قوله: ﴿لِتُنْذِرَ﴾ يجوز أن يتعلق ب «تَنْزِيلُ» أو بمعنى المرسلين يعني بإضمار فعل يدل عليه هذا اللفظ أي أرْسَلْنَاك لِتُنْذِرَ.
قوله: ﴿قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ﴾ يجوز أن تكون «ما» هذه بمعنى الذي، وأن تكون نكرة موصوفة والعائد على الوجهين مُقَّدرٌ.
أي ما أنذره آباؤهم فتكون ما وصلتها أو وصفتها في محل نصب مفعولاً ثانياً لقوله: ﴿لِتُنذِر﴾ كقوله: ﴿إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً﴾ [النبأ: ٤٠] أو التقدير لِتُنْذِرَ قَوْماً الذي أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ من العذاب، أو لتنذر قوماً عذاباً أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ.
ويجوز أن تكون مصدرية أي إنْذَار آبَائِهِم أي مثله. ويجوز أن تكون ما
169
نافية، وتكون الجملة المنفية صلة ل «قوماً» أي قوماً غير منذر آباؤهم. ويجوز أن تكون زاذدة أي قوماً أنذر آباؤهم. والجملة المثبتة أيضاً صفة ل «قوماً» قال أبو البقاء.
وهو مناف للوجه الذي قبله. فعلى قولنا ما نافية، فالمعنى ما أنذر آبَاؤُهُم الأَدْنونَ وإن قلنا: ما للإثبات فالمعنى ليُنْذَرُوا بما أنذر آباؤهم الأولون. وقوله: ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ أي عن الإيمان والرشد.
170
«وَالقُرْآنِ » إما قسم متسأنف إن لم تجعل ما تقدم قسماً وإما عطف على ما قبله إن كان مقسماً به١. وقد تقدم كلام عن الخليل في ذلك أوائلَ البقرة٢ فاعتبرْهُ هنا فإنَّه حسنٌ جدَّا.

فصل


قد تقدمت في سورة العنكبوت ذكر حروف التهجي وأن كل سورة بدأ الله فيها بحروف التهجي كان في أوائله الذكر أو الكتاب أو القرآن. ولنذكر هَهُنا أن في ذكر هذه الحروف أوائل السور أموراً تدل على أنها غير خالية عن الحكمة لكن علم الإنسان لا يصل إليها. والذي يدل على أن فيها حكمة من حيث الجملة هو أن الله تعالى ذكر من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفاً وهي نصفُ ثمانيةٍ وعشرينَ حرفاً هي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا : الهمزة ألف متحركة.
ثم إنه تعالى قسم الحروف ثلاثَة أقسام تسعةَ أحرف من الألف إلى الذال والتسعة الأخيرة من الفاء إلى الياء وعشرةً في الوسط من الراء إلى الغَيْن، وذكر من القسم الأول حرفين الألفَ والحاء وترك سبعةً٣، ولم يترك من القسم الأول من حروف الحلق والصدر إلا واحداً لم يذكره وهو الخاء ولم يذكر من القسم الأخير من حروف الشَّفَةِ إلا واحداً لم يتركه وهو الميم. والعشر الأواسط ذكرمنه حرفاً وترك حرفاً، فترك الزاي وذكر الراء وذكر السين وترك الشِّين، وذكر الصاد وترك الضاد، وذكر الطاء وترك الظّاء وذكر العين وترك الغيْن. وليس هذا أمراً يقع اتفاقاً بل هو ترتيب مقصود وهو لحكمة لكنها غير معلومة وهب أن واحداً يدعي فيه شيئاً فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسُورة «ن » و «ق » و «ص » وبعضها بحرفين كسورة «حم » و «يس » و «طه » وبعضها بثلاثة أحرف كسورة «الم » و «طسم » و «الر » وبعضها بأربعة أحرف كسورة «المر » و «المص » وبعضها بخمسة كسورة «حمعسق » و «كهيعص » وهب أنَّ قائلاً يقول : إن هذا إشارة بأن الكلام إما حرف، وإما فعل، وإما اسمٌ، والحرف كثيراً ما جاء على حرف كواوِ العطف وفاء العقيب، وهمزة الاستفهام، وكاف التشبيه، وياء الإلصاق٤ وغيرها، وجاء على حرفين كمِنْ للتبعيض و «أَوْ » للتخيير، و «أم » للاستفهام المتوسط٥، وإن للشرط٦ وغيرها. والفعل والاسم والحرف جاء على ثلاثة أحرف كإلى وعلى في الحرف وإلى وعَلَى في الاسم وأَلا يألو وعَلاَ يعلو في الفعل، والاسم والفعل جاءا على أربعة أحرف، والاسم خاصة جاء على ثلاثة أحرف وأربعة وخمسة ك «عِجْل »٧ وسنجل٨ وجرَدحْل٩. فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه الحروف على هذه الوجوه فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور بالحرف الواحد، والبعض بأكثر فلا يعلم ما السِّرُّ إلا الله من أعْلَمَهُ الله به وإذا علم هذا فالعبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارحية، وكل واحد منها قسمان :
قسم عُقِل معناه وحقيقته وقسم لم يُعْلَمْ.
أما القلبية مع أنها أبعد عن الشك والجهل ففيها ما لم يعلم دليله عقلاً وإنما وجب الإيمَانُ به والاعتقاد سمعاً كالصّراط الذي هو أرق من الشعر وأحدّ من السيف، ويمر عليه المؤمن كالبَرْق الخاطف، والميزان الذي توزن به الأعمال الذي لا ثقل لها في نظر الناظر وكيفية الجنة والنار فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ووقوعها معلوم ( و )١٠ مقطوع به بالسمع ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله وصدق الرسول وكذلك في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم كمقادير النصب وعدد الركعات والحكمة في ذلك أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة لا يكون الإتيان إلا لمحض١١ العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي بها لفائدة وإن لم يؤمن١٢ كما لو قال السيد لعبده : انقُل هذه الحجارة من ههنا ولم يعلمه بما في النقل فنقلها ولو قال انقلها فإن تحتها كنزاً هو لك فإنه ينقلها وإن لم يؤمَر. وإذا علم هذا فكذلك في العبادات اللِّسانية الذكرية يجب أن يكون ما لم يفهم معناه إذا تكلم به العبد علم أنه لا يعقل غير الانقياد لأمر المعبود الإلهيّ. فإذا قال : حم، يس، طس١٣ علم أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل يتلفظ به امتثالاً لما أمر به١٤.

فصل


قال ابن عباس : يس قسم، وروي عنه أن معناه يا إنسان بلغة طيئ. قيل : لأن تصغير إنسان أُنَيْسِين كما تقدم عن الزمخشري فكأنه حذف الصدر١٥ منه وأخذ العجز وقال : ياسين أي أُنَيْسِينُ.
قال أكثر المفسرين يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم - قاله الحسن وسعيد بن جبير وجماعة. وقال أبو ( العالية١٦ : يا رَجُلُ. وقال أبو بكر الوراق : يا سيِّد البشر١٧. وقوله :﴿ والقرآن الحكيم ﴾ أي ذي ) الحكمة ك ﴿ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٢١ ] أي ذات رضا، أو أنه ناطق بالحكمة وهو كالحيِّ المتكلم.
١ الدر المصون ٤/٤٩٢ و ٤٩٣ والتبيان ١٠٧٩..
٢ ذكر أن هذه أحرف مقطعة محكية لا تعرب، إلا أن تخبر عنها. وموضعها نصب بفعل محذوف تقديره اقرأ أو في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا. وإذا جعلت قسما كان موضعها خفض كما أخبر هنا. وانظر: الكتاب ٣/٢٥٧- ٢٥٩ واللباب ١/١٦ ب ميكروفيلم..
٣ في الرازي: وترك من القسم الآخر حرفين هما الفاء والواو وذكر سبعة ولم....
٤ مثل: أمسكت بزيد ومررت به والإلصاق إما أن يكون حقيقيا كما مثل والإلصاق معنى لا يفارق الباء. المغني ١٠١..
٥ مثل: "أضربت زيدا أم قتلته" ولما كانت تتوسط بين محتملي الوجود لشيئين: أحدهما: بالاستفهام قيل: إنها حرف عطف. وقد أنكرها أبو عبيدة "الهمع ٢/١٣٢"..
٦ في "ب" للشرطية..
٧ كذا في النسختين وفي الرازي ك "فجل"..
٨ في اللسان سنجال قرية بأرمينية..
٩ الجردحل من الإبل: الناقة الضخمة الغليظة، اللسان :"ج ر د ح ل"..
١٠ سقط من "ب"..
١١ في "ب" بمحض..
١٢ وفيها: يؤمر، وانظر في هذا الرازي ٢٦/٤٠..
١٣ الأولى من النمل..
١٤ ينظر هذا كله في التفسير الكبير للرازي ٢٦/٤٠..
١٥ في "ب" المصدر. خطأ وتحريف..
١٦ ما بين القوسين كله سقط من "أ"..
١٧ ذكر هذه الأوجه مجتمعة الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٥/٤..
قوله :﴿ إنَّكَ ﴾ جواب القسم١ و ﴿ على صِرَاط ﴾ يجوز أن يكون متعلقاً ب «المُرْسَلِين »٢ يقول : أَرْسَلْتُ عليه، كما قال تعالى :﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً ﴾ [ الفيل : ٣ ] وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنِّ في «لَمِنَ المُرْسَلِين » لوقوعه خبراً٣، وأن يكون حالاً من٤ «المُرْسَلِينَ » وأن يكون خبراً ثانياً ل «إنَّكَ »٥.

فصل


أقسم بالقرآن على أن محمداً من المرسلين. وهو رد على الكفار، حيث قالوا :( لَسْتَ٦ مُرْسَلاً ).
فإن قيل : المطلب ثبت٧ بالدليل لا بالقسم فما الحكمة بالإقْسَام ؟ !.
فالجواب من وجوه :
الأول : إن العرب كانوا يتقون٨ الأيمان الفاجرة وكانوا يقولون بأن الأيْمَان الفاجرة توجب خراب العالم وصحح النبي - عليه الصلاة والسلام٩- ذلك بقوله :«اليَمينُ الكَاذِبَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلاَقِعَ ». ثم إنهم كانوا يقولون : إن النبي عليه - ( الصلاة١٠ و ( السلام - يصيبه عذاب آلهتهم، وهي الكواكب والنبي عليه ( الصلاة و ) السلام يحلف بأمر الله وإنزال كلامه عليه بأشياء مختلفة، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرْفَعَ شَأْناً وأمْنَعَ مَكَاناً، فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب.
الثاني : أن المُتَنَاظِرَ ( يْنِ )١١ إذا وقع بينهما كلام، وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المغلوب : إنك قدرت هذا بقوة جدالك، وأنت خبير في نفسك بضعف مقالتك، وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه الدليل صورة، وعجزت أنا عن القدح فيه وهذا كثير الوقوع بين المُتَناظِرَيْنِ فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر ؛ لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول، فلا يجد أمراً إلا باليمين فيقول : وَاللَّهِ إنِّي لَسْتُ مُكَابِراً، وإنَّ الأمر على ما ذكرت ولم علمت خلافه لرَجَعْتُ إليه فههنا يتعين اليمين، فكذلك النبي عليه ( الصلاة و ) السلام أقام البراهين، وقالت الكفرة :﴿ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ ﴾ [ سبأ : ٤٣ ] وقالوا ﴿ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الأحقاف : ٧ ] فالتمسك١٢ بالأيْمان لعدم فائدة.
الدليل الثالث : أن هذا ليس مجرد الحلف بل دليل خرج في صورة اليمين ؛ لأن القرآن معجزة ودليل كَوْنه مُرْسَلاً هو المعجزة والقرآن كذلك.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر في صورة الدليل ؟ وما الحكمة في صورة اليمين ؟
فالجواب : أن الدليل إذا ذكر لا في صورة اليمين، قد لا يُقْبِلُ عليه السامع فلا يفيد فائدة، فإذا ابتدأ١٣ به على صورة اليمين لا يقع ولا سيما من العظيم إلا على عظيم، والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصْغاء إليه فلصورة اليمين تقبل عليه الأسماع لكونه دليلاً شافياً يتشربه الفؤاد فيقع في السمع وفي القلب.
١ وهو يس والقرآن الحكيم. انظر: الدر المصون ٤/٤٩٤..
٢ الكشاف ٣/٣١٤ والبيان ٢/٢٩٠..
٣ ذكره أبو البقاء في التبيان ١٠٧٨..
٤ الدر المصون للسمين الحلبي ٤/٤٩٤..
٥ رجحه الزجاج والفراء في معانيهما. انظر: معاني الزجاج ٤/٢٧٨ ومعاني الفراء ٢/٢٧٢ ومشكل إعراب القرآن لمكي ٢/٢٢١ والبيان لابن الأنباري ٢/٢٩٠. وقد قال الزجاج: "وأحسن ما في العربية أن يكون "لمن المرسلين" خبر إن ويكون "على صراط مستقيم" خبرا ثانيا". انظر معاني القرآن للزجاج ٤/٧٨..
٦ ما بين القوسين ساقط من "ب" وهي من الآية ٤٣ من سورة الرعد..
٧ في "ب" يثبت بالمضارعة..
٨ كذا هي في النسختين وفي الرازي: يتوقون..
٩ في "ب" صلى الله عليه وسلم..
١٠ ما بين القوسين زيادة من "ب"..
١١ في ب "المتناظر" فقط..
١٢ في "ب" والمتمسك..
١٣ وفيها ابتدىء للمجهول..
قوله :﴿ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم. والمسقيم أقرب الطرق الموصلة إلى المقصِد والدين كذلًك فإنه يوصل إلى الله وهو المقصد١.
١ في (ب) القصد وكذلك تنظر هذه الأشياء وفي الرازي ٢٦/٤١..
قوله :﴿ تَنزِيلَ العزيز الرحيم ﴾ قرأ نافعٌ وابنُ كَثيروأبُو عمرو وأبو بكر١ برفع «تنزيلُ » على أنه خبر مبتدأ مضمر٢ أي هُو تنزيل. ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ إذا جعلت٣ «يس » اسماً للسورة أي هذه السورة المسمّاة ب «يس » تنزيلٌ، أو هذه الأحرف المقطعة تنزيلٌ.
والجملة٤ القسمية على هذا اعتراض. والباقون بالنصب على المصدر٥ كأنه قال : نَزَلَ تَنْزِلَ العَزِيزِ الرحيم لتنذر. أو على أنه مفعول بفعل مَنْوِيِّ٦ كأنه قال والقرآن الحكيم أعني تَنْزِيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر. وهذا اختيار الزمخشري. وهو المراد بقوله :«أو عَلَى المَدْح »٧. وهو في المعنى كالرفع على خبر ابتداء مضمر. و «تنزيل » مصدر مضاف لفاعله٨.
وقيل : هو بمعنى منزِّل٩. وقرأ أبو حيوة واليزيدي وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة تَنْزِيل بالجر١٠ على النعت للقرآن أو البدل منه١١، كأن قال : والقُرْآن الحكيم تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين.
وقوله :﴿ العزيز الرحيم ﴾ إشارة إلى أن الملك إذا أرسل فالمرسَلُ إليهم إما أن يخالفوا المرسل ويُعِينُوا المُرْسَل، وحينئذ لا يقدر الملك على الانتقام منهم إلا إذا كان عزيزاً، أو يخافوا المُرْسِل ويكرموا المُرْسَل وحينئذ يرحمهم الملك. أو يقال : المُرْسَلُ يكون معه في رسالته مَنْعٌ عن أشياء وإطلاق لأشياء والمنع يؤكده العزة والإطلاق يدل على الرحمة١٢.
١ ينظر: حجة ابن خالويه ٢٩٧ و ٢٩٨ والنشر ٢/٣٥٣ والسبعة ٥٣٩ والإتحاف ٣٦٣ ومعاني الفراء ٢/٢٧٢ ومعاني الزجاج ٤/٢٧٨..
٢ إعراب القرآن للنحاس ٣/٣٨٣ والبيان ٢/٢٩٠ والتبيان ١٠٧٨ ومشكل إعراب القرآن ٢/٢٢١ ومعاني الزجاج ٤/٢٧٨..
٣ الدر المصون ٤/٤٩٤..
٤ في "ب" فالجملة..
٥ المراجع السابقة..
٦ الكشاف ٣/٣١٤ وانظر في الرفع والنصب على المصدر البحر المحيط ٧/٣٢٣..
٧ الكشاف ٣/٣١٤..
٨ البيان ٢/٢١٠..
٩ التبيان ١٠٧٨..
١٠ قراءة شاذة. انظر: البحر المحيط ٧/٣٢٣ ومختصر ابن خالويه ١٢٤..
١١ النحاس ٤/٣٨٣ والبيان ٢/٢٩٠ والمشكل ٢/٢٢٢ والتبيان ١٠٧٨ والكشاف ٣/٣١٤ والبحر ٧/٣٢٣ والدر المصون ٤/٤٩٤ والقرطبي ١٥/٦ والرازي ٢٦/٤٠..
١٢ الرازي ٢٦/٤٠..
قوله :﴿ لِتُنْذِرَ ﴾ يجوز أن يتعلق ب «تَنْزِيلُ »١ أو بمعنى المرسلين يعني بإضمار فعل يدل عليه هذا اللفظ أي أرْسَلْنَاك لِتُنْذِرَ.
قوله :﴿ مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ ﴾ يجوز أن تكون «ما » هذه بمعنى الذي٢، وأن تكون نكرة موصوفة والعائد٣ على الوجهين مُقَّدرٌ٤.
أي ما أنذره آباؤهم فتكون ما وصلتها أو وصفتها في محل نصب مفعولاً ثانياً لقوله :﴿ لِتُنذِر ﴾ كقوله :﴿ إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ﴾ [ النبأ : ٤٠ ] أو التقدير لِتُنْذِرَ قَوْماً الذي أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ من العذاب، أو لتنذر قوماً عذاباً أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ٥.
ويجوز أن تكون مصدرية٦ أي إنْذَار آبَائِهِم أي مثله. ويجوز أن تكون ما نافية٧، وتكون الجملة المنفية صفة ل «قوماً » أي قوماً غير منذر آباؤهم. ويجوز أن تكون زائدة أي قوماً أنذر آباؤهم. والجملة المثبتة أيضاً صفة ل «قوماً ». قاله أبو البقاء٨.
وهو مناف للوجه الذي قبله. فعلى قولنا ما نافية، فالمعنى ما أنذر آبَاؤُهُم الأَدْنونَ وإن قلنا : ما للإثبات فالمعنى ليُنْذَرُوا٩ بما أنذر آباؤهم الأولون. وقوله :﴿ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴾ أي عن الإيمان والرشد.
١ قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٧٨ والسمين في الدر المصون ٤/٤٩٤ وأبو حيان في البحر المحيط ٧/٣٢٣..
٢ نقله أبو حيان في المرجع السابق عن عكرمة، كما نقله الزمخشري ٣/٣١٤ وأبو البقاء في التبيان ١٠٧٩ والفراء في معانيه ٢/٢٧٢ والنحاس في إعرابه ٣/٣٨٣ والزجاج في معانيه أيضا ٤/٢٧٨..
٣ التبيان المرجع السابق وفي "ب" والفائدة تحريف..
٤ في "ب" تقدر تحريف أيضا..
٥ الدر المصون ٤/٤٩٥..
٦ البيان ٢/٢٩١ ومشكل إعراب القرآن ٢/٢٢٢ وهو قول عكرمة انظر: الدر المصون ٤/٤٩٥..
٧ وهو اختيار الزجاج والفراء والنحاس ومكي وأب البقاء والزمخشري انظر: المراجع السابقة..
٨ التبيان ١٠٧٩..
٩ في ب "لتنذروا"..
قوله: ﴿لَقَدْ حَقَّ القول﴾ وجب العذاب ﴿على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ﴾ وهذا كقوله: ﴿ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين﴾ [الزمر: ٧١] وفي الآية وجوه:
أشهرها: أن المراد من القول هو قوله تعالى: ﴿ولكن حَقَّ القول مِنِّي﴾ [السجدة: ١٣] ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ﴾ [ص: ٨٥].
والثاني: أن معناه لقد سبق في علمه أن هذا يؤمن وهذا لا يؤمن فحق القول أي وُجِد وثَبَتَ بحيث لا يُبَدَّل بغيره. لا يبدل القول لدي.
الثالث: المراد لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبانَ بُرْهَانُهُ، فإنهم لَمَّا لم يؤمنوا عندما ما حق القول واستمروا، فإن كانوا يريدون شيئاً أوضح من البرهان فهو العِنَاد وعند العناد لا يُفيد الإيمان. وقوله: ﴿على أَكْثَرِهِمْ﴾ على هذا الوجه معناه أن من لم تَبْلُغْه الدعوة والبُرْهَانُ قليلُون فحق القَول على أكثرهم هو من لم يوجد منه الإيمان وعلى الأول والثاني ظاهر، لأن أكثر الكفار ماتوا على الكفر.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً﴾ نزلت في أبي جهل وصاحِبَيْهِ، وذلك أن أبا جهل كان (قد) حلف لئن رأى محمداً يُصَلِّي ليَرْضَخَنَّ رأسه بالحجارة فأتاه وهو
170
يصلي ومعه حجر ليدمَغَهُ به فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه، ولزق الحجرُ بيده، فلما رَجَعَ إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر، فقال رجل من بين مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر، فأتاه وهو يصلَّي لِيَرْمِيَهُ بالحَجَر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يَرَهُمْ حتى نادوه فقالوا له: ماذا صنعت؟ فقال: ما رأيته، ولقد سمعت كلامه، وحال بيني وبينه كهيئة الفحْل يخطر بِذَنبِهِ لو دنوتُ منه لأَكَلَنِي، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً﴾.
ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال: ﴿لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ﴾ وتقدم أن المرادَ به البرهان قال بعده: بل عيانوا وأبصروا ما يقرب من الضّرورة حيث التزقت يده بعنقه ومُنع من إرسال الحَجَر، وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن على أنه لا يؤمن أصلاً.
وقال الفراء: معناه حبسْنَاهم عن الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩] معناه ولا تُمْسِكْها عن النفقة.
الرابع: قال ابن الخطيب وهو الأقوى وأنشد مناسبةً لما تقدم: إنّ ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وأما مناسبة قول الفراء لما تقدم أن قوله تعالى: ﴿فَهُمْ لاَ يُؤمِنُون﴾ يدخل فيه أنهم لا يصلون كقوله تعالى: ﴿لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣] أي صلاتكم عند بعض المفسرين، والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال: لا يُصَلّون ولا يُزَكون.
قوله: ﴿فَهِىَ إِلَى الأذقان﴾ في هذا الضمير وجهان:
أشهرهما: أنه عائد على الأَغْلاَل، لأنها هي المُحَدَّث عنها، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغُلَّ لِغِلَظهِ وعَرْضِهِ يصل إلى الذقن، لأنه يلبس العُنُقَ جَميعَهُ.
قال الزمخشري: والمعنى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثِقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يَتَمَكَّن المَغلُول معنا من أن يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ.
الثاني: أن الضمير يعود على «الأيدي» لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في العنق، واليدين، ولذلك سمي جامعة، ودَلَّ على الأيدي وإن لم تُذْكر للملازمة المفهومة من هذه الآلة
171
أعني الغُلّ، وإليه ذهب الطَّبَرِيُّ إلا أن الزمخشري قال: جعل الإقماح نتيجة قوله: ﴿فَهِىَ إِلَى الأذقان﴾ ولو كان للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهراً، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك للظاهر.
وفي هذا الكلام قولان:
أحدهما: أن جَعْل الأَغْلاَلِ حقيقة.
والثاني: أنه استعارة، وعلى كل من القَوْلين جماعة من الصَّحَابة والتابعين.
وقال الزَّمْخَشَرِيُّ: (مثل) لتصميمهم على الكفر، وأنَّه لا سبيل إلى ارْعِوَائِهِمْ بأن جعلهم كالمَغْلُولِينَ المُقْمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يُطَأْطِئُونَ رُؤُوسَهُمْ له، وكالحاصلين بين سدّين لا يبصرون ما قدامهم ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم تعامون عن آيات الله. وقال غيره. هذا استعارة لمنع الله إيَّاهم من الإيمان وحولهم بينهم وبينه (و) قال ابن عطية: وهذا أرجح الأقوال؛ لأنه تعالى لما ذكر أنهم لا يُؤْمِنون لما سبق لهم في الأول عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشَّقَاوة ما حالهم معه حال المغلوبين وتقدم تفسير الأّذْقان.
وقال ابن الخطيب: المانع إما أن يكون في النفس فهو الغُلّ وإما من الخارج فالسد، فلم يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] وذلك لأن المُقْمَحَ لا يرى (في)
172
نفسه ولا يقع بصره على بَدَنِهِ، ولا يقع نظرهم على الآفاق فلا يتبين لهم الآيات التي في الآفاق. وعلى هذا فقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ.... وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً﴾ إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في (الأنْفُسِ و) الآفاق. «فَهُمْ مُقْمَحُونَ» هذا الفاء لأحسن ترتيب، لأنه لما وصلت الأغلال إلى الأذقان لعرضها لزم عن ذلك ارتفاع رُؤُوسهم إلى فَوْق. أو ولما جمعت الأيدي إلى الأذقان وصارت تحتها لزم من ذلك رفعها إلى فوق فترتفعُ رُؤُوسُهُمْ.
والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع، وهو من قَمَحض البعيرُ رأسَه إذا رفعها بعد الشُّرْب، إما لبرودة الماء وإما لكراهة طعمه قُمُوحاً وقِمَاحاً - بكسر القاف وضمها - وأقمحتُه أَنَا إقْمَاحاً، والجَمْع قِماحٌ وأنشد:
٤١٦٨ - وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ... نَغُضُّ الطَّف كَالإبِلِ القِمَاحِ
يصف نفسه وجماعة كانوا في سفينة، فأصابهم المَيَدُ.
قال الزجاج قيل: الكَانُونَيْن شهراً قِماحٍ، لأن الإبل إذا وَرَدْنَ الماء رفعت رُؤُوسَها، لشِدة البرد وأنشد أبو زيد للهذلي:
٤١٦٩ - فَتًى مَا بْنُ الأَغَرِّ إِذَا شَتَوْنَا... وَحُبَّ الزَّادِ فِي شَهْرَيْ قمَاحِ
173
كذا رواه بضم القَاف، وابنُ السِّكِّيت بكسرها. وقال اللَّيْثُ القُمُوح رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكرية ثم يعود. وقال أبو عبيدة إذا رفع راسه عن الحوض ولم يشرب والمشهور أنه رفع الرأس إلى السماء كما قتدم تحريه.
وقال الحسن: القامح الطامح يبصره إلى موضع قدمه. وهذا ينبو عنه اللفظ والمعنى. وزاد بعضهم مع رفع الرأس غَضَّ البصر مستدلاً بالبيت المتقدم:
٤١٧٠ -.............. نغض الطرف كالإبل القماح
وزاد مجاهد مع ذلك وضع اليد على الفم. وسأل الناس أمير المؤمنين (علياً) - كرم الله وجهه - عن هذه الآية فجلع يده تحت لِحْيَتِهِ ورفع رأسه وهذه الكيفية ترجّح قول الطَّبَريِّ في عود «فَهيَ» على الأيدي.
قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً﴾ تقدم خلاف القراء في فتح السِّين وضمِّها والفرق بينهما مستوفًى آخرَ الكهف والحمد لله.
وأما فائدة السد من بين الأيدي فإنهم في الدنيا سالكُون فيبغي أن يَسْلُكُو الطّريقة المستقيةَ «مِنْ بَيْنِ أيْدِيهمْ سَدًّا» فلا يقدرون على السلوك وأما فائدة السد من خلفهم فهو أنَّ الإنسان له فِطْريَّة والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول: جَعَلْنَا من بين أيديهم سدًّا فلا يسلكون طريق الاهتداء الذي هو فطرية وجعلنا من خلفهم سداً فلا يرجعون إلى الهداية والجبلية التي هي فطرية، وأيضاً فإن الإنسان مبدأه منا لله ومصيره إليه فعمي الكافر لا يبصر ما بين من المصير إلى الله، وما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله وأيضاً فإنَّ السالك إذا لم يكن له بدّ من سلوك طريق، فإن اشتدَّ الطريقُ الذي قدامه يفوته المقصد ولكمنه ريجع، وإذا اشتد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا
174
يكون موضع إقامة يهلك. فقوله ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً﴾ إشارة إلى هَلاَكِهِمْ فصاروا بمنزلة من يبنى عليه الحائط وهو واقفٌ.
قوله: ﴿فأغشيناهم﴾ العامة على الغين المعجمة أي غَطَّيْنَا أبْصَارَهُمْ وهو على حذف مضاف. وابن عباس وعمرُ بن عبد العزيز، والحَسَنُ، وابنُ يعْمُرَ، وأبُو رَجَاءٍ في آخَرِينَ بالعين المهملة.
وهو ضعف البصر. يقال: عِشِيَ بَصَرُهُ، وأَعْشَيْتُهُ أَنَا.
وهذا يحتمل الحقية والاسْتِعَارَة.

فصل


قوله: ﴿فَأغْشَيْنَاهُمْ﴾ بحرف الفاء يقتضي أن يكون الإغشاء مرتباً على جعل السد فما وجهه؟ فيقال من وجهين:
أحدهما: أن ذلك بيان لأمور مرتبة لي بعضها سبباً في العبض فكأنه تعالى قال: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَلاَ يُبْصِرُون أنفسهم لإقماحهم، وجعلنا من بين أيديهم سداً ومِنْ خلفهم سداً فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يَروا السماء ما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله: جَعَلْنَا عَلَى أَبْصَارهم غشاوة فلا يبصرون شيئاً أصلاً.
والثاني: أن ذلك بيان لكون السدِّ قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغِشَاوة على أبصارهم، فإن من جعل من خلف وقدّامِهِ سدين مُلْتَزِقَيْن به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما يبثى عينه على سطح السد فلا يُبْصِرُ شيئاً، لأن شرط المرئيِّ أن يكون قريباً من العَيْن جِداً.
فَإنْ قيلَ: ذكر اسد من بين الأيدي ومن خَلْفٍ، ولم يذكر من اليَمِين والشِّمالِ فما الحكمة فيه؟.
فالجواب: إن قلنا: إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر. وأما على غير ذلك فيقال: إنه حصل العموم بما ذكر والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة، لأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا مُتَوَجِّهِينَ إلى شيء، ومُؤَلِّين
175
عن شيء فصار ما إليه توجُّهُهُمْ ما بين أيديهم فجعل الله السد هناك فمنعه من السوك فكيمفما توجه الكافر يجعل الله بين أيديه سداً وأيضاً (فإنَّا) لما بينا أن جعل السد سبباً لاستتار بصره فكان السد ملتزقاً به وهو ملتزق بالسدين، فلا قدره له على الحركة يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشِّمال.
وقوله: ﴿فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ أي لا يبصرون شئياً، أو لا يبصرون سبيلَ الحق؛ لأن الكافر مَصْدُورٌ عَنْ سبيل الهدى.
قوله: ﴿وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ﴾ تقدم الكلام عليه أول البقرة، بين أن الإنذار لا نيفعهم مع ما فعل الله بهم ن الغُلِّ والسدِّ والإغشاء والإعماء بقوله: ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ﴾ أي الإنذارُ وعَدَمُهُ سيَّان بالنسبة إلى إيمانهم.
﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب﴾ قال من قبل: ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً﴾ [يس: ٦] وذلك يقتضي الإنذار العام وقال هنا: «إنَّما تنذر» وهو يقتضي التخصيص، فكيف الجمع بينهما؟! وطريقة من وجوه:
الأول: أن قوله: «لتنذر» أي (كَيْفَ) ما كان سواء كان مفيداً أو لم يكن.
وقوله: ﴿إِنَّما تُنْذِرُ﴾ أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة لمن يتبع الذِّكْرَ وَيَخْشَى.
الثاني: (هو) أنّ الله تعالى لما بين أن الإرسال أو الإنزال للإنذار وذكر (أن) الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلأى أهل العناد قال نبيه: ليس إنذارك غيرَ مفيد من جمع الوجوه، فأنِذرْ على سبل العموم وإنما يُنْذَرُ بذلك الإنذارِ العَام من يتبع الذكر كأنه يقول: يا محمد أنذر بإنذارك وتَتَبَّعْ بذكرك.
الثالث: أن يقول: لتنذر أولاً فإذا أنذرت وبالغت (وبلغت) واستهزأ البعض وتولى واستكبر فبعد ذلك إنما تُنْذِرُ الِّذِينَ اتَّبَعُوك والمراد بالذكر: القرآن لتعريف الذكر الألف واللام. وقد تقدم ذرك القرآن في قوله تعالى: ﴿والقرآن الحكيم﴾ [يس: ٢] وقيل:
176
ما في القرآن من الآيات لقوله: ﴿والقرآن ذِي الذكر﴾ [ص: ١] فما جعل القرآن نفس الذكر. والمعنى إنما تُنْذِرُ العلماءَ الِّذِين يخشون ربهم. وقوله: ﴿وَخشِيَ الرحمن﴾ أي عمل صالحاً لقوله: ﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ وهذا جزاء العمل كقوله:
﴿فالذين
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾
[الحج: ٥٠] والمراد بالغيب: ما غاب وهو أحوال يوم القيامة. وقيل الوَحْدانية.
وقوله: ﴿فَبَشِّره﴾ إشارة إلى الرسالة، فإنَّ النَّبِيِّ بشيرٌ ونذيرٌ.
وقوله: «بمغفرة» على التنكير أي بمغفرة واسعةٍ تسيرُ من جميع الجوانب «وَأجْرٍ كريمٍ» أي ذي كرم كقوله: ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ «والمراد به الجنة.
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى﴾
عند البعث. لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بهم المكلف مؤمناً مسلماً ذكر أصلاً آخر وهو الحشر. ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله: ﴿فَبَشِّرهم بمغفرة﴾ ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال: إن لم يرد في الدنيا فاللَّه يحي الموتى وُيجْزَى المنذّرُونَ والمُبشرُونَ ووجه آخر وهو أن تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يكده وهو إحْيَاءُ الموتى.

فصل


» إنّا نحن «يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون مبتدأ وخبراً كقوله:
٤١٧١ - أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي... ومثل هذا يقال عند الشُّهْرَة العظيمة، وذلك لأنَّ من لا يُعْرَفُ يُقَال (لَهُ) : من أنت؟ فيقول: أنا ابنُ فُلاَنٍ فيُعْرَفُ، ومن يكون مشهوراً إذا قيل له: مَنْ أَنْتَ، يقول:
177
أنا ولا معرفة لي أظهر من نفسي فيقال: إنَّا نَحْنُ معروفون بأوصاف الكمال، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا ينكر قدرتنا على إحياء الموتى.
والثاني: أن الخبر» نُحْيِي «كأنه قال:» إِنَّا نُحِيي المَوْتَى «و» نحن «يكون تأكيداً.
وفي قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى﴾ إشارة إلى الوحيد؛ لأن الإشراك يوجب التمييز، فإن»
زيداً «إذا شاركه غيره في الاسم، فلو قال:» أنا زيد «لا يحصل التعريف التام،» لأن «للسامع أن يقول: أيُّمَا زيد؟ فيقول: ابنُ عمرو، (ولو كان هناك زيدٌ آخرُ أبو عمرو ولا يكفي قوله: ابن عمرو) فلام قال الله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى﴾ أي ليس غيرنا أحد يشركنا حتى يقول: أنا كذا فيمتاز، وحينئذ تصير الأصول الثلاثة مذكورة: الرسالة والتوحيد والحشر.
قوله: ﴿وَنَكْتُبُ﴾ العمة على بنائه للفاعل، فيكون»
مَا قَدَّمُوا «مفعولاً به و» آثَارهُمْ «عطف عليه وزِرّ ومسروقٌ قَرَآهُ مبنياً للمفعول، و» آثَارُهُم «بالرفع عطفاً على» مَا قَدَّمُوا لِقِيَامِهِ مَقَام الفَاعِل.

فصل


المعنى ماقدموا وأخروا، فكتفى بأحدهما، لدلالته على الآخر كقوله تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] أي وَالبَرْدَ. وقيل: المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحةً كانت أو فاسدةً، كقوله تعالى: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٩٥] أي بما قدمت في الوجود وأوجدته. وقيل: نكتب نِيَّاتِهِمْ فإنها قبل الأعمال و «آثَارَهُمْ» أي أعمالهم. وفي «آثارهم» وجوه:
أحدها: ما سنوا من سنة حسنة وسيئة.
فالحسنة كالكتب المصنّفة والقناظر المبنية، والسيئة كالظّلامة المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة. قال - عليه (
178
الصلاة و) السلام: «مَنْ سَنَّ فِي الإسلام سُنَّةً حَسَنَةً فَعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا ومِثْلُ أَجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهمْ شَيْئاً، وَمَنْ سَنَّ فِي الإسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَه كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شَيْئاً» وقيل: نكتب آثارهم أي خُطاهم إلى المسجد لما روي أبو سعيد الخُدْرِي قال: شَكَتْ بنو سلمة بُعْدَ منازِلهم من المسجد فأنزل الله: ﴿ونكتُبُ ما قدموا وآثارهم﴾ فقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «إنَّ اللَّه يَكْتُبُ خُطَوَاتِكُمْ وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ» وقال - عَلَيْهِ (الصَّلاَةُ وَ) السَّلاَمُ -: «أَعْظَمُ النَّاس أَجْراً في الصَّلاَةِ أبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالِّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةً حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإمَام أَعْظَمُ أجْراً في الصَّلاَةِ أبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالِّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإمَام أعْظَمُ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ» فإن قيل: الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال: ( «نُحْي» ) و «نكتُبُ» ولم يقل: نكتب ما قَدَّمُوا وَنُحْيِيهمْ؟.
فالجواب: أن الكتابة معظمة، لا من الإيحاء، لأن الإحياء إن لم يكن للحاسب لا يعظم، والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياءً وإعادة لا يبقى لها أثر أصلاً والإحياء هو المعتبر، والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء (و) لأنه تعالى قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ﴾ وذلك يفيد العظمة والجَبَرُوتَ، والإحياء العظيم يختص بالله، والكتابة دونه تقرير العريق الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم.
قوله: ﴿وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ﴾ العامة على نصب «كل» على الاشتغال وأبو السِّمِّال قرأه مرفوعاً بالابتداء والأرجحُ قراءةُ العامة، لعطف جملة الاشتغال على جملة فعليةٍ.
179

فصل


«أَحْصَيْنَاهُ» حفظناه وثبّتناه «فِي إمَامِ مُبينٍ» فقوله «أَحْصَيْنَاهُ» أبلغ من كتبناه، لأن كتب شيئاً مفرقاً يحتاج إلى جمع عدد فقال يحصي فيه وإمامٌ جاء جمعاً في قوله: ﴿يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء: ٧١] أي بأئمتهم وحنيئذ ف «إمَام» إذا كان فرداً فهو ككِتَاب وحِجَاب، وإذا كان جمعاً فهو كجِبَال. والمُبِينُ هو المظهر للأمور لكونه مُظْهراً (للملائكة ما) يفعلون وللناس ما يفعل بهم، وهو الفارق بينهم أوحوال الخلق فيجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير. وسمي الكتاب إماماً، لأن الملائكة يأتمون به، وتيبعونه، وهو اللوح المحفوظ. وهذا بيان لكونه ما قدموا وآثارهم أمراً مكتوباً عليهم لايُبدَّل، فإن القَلَم جَفَّ بما هو كائن، فلما قال «نَكْتُبُ مَا قَدًَّمُوا» بين أن قبل ذلك كتابةً أخرى، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه. وقيل: إن ذلك مؤكّدا لمعنى قوله: «وَنَكْتُبُ» ؛ لأن من يكتب شيئاً في ارواق ويرميها وقد لا يجدها، فكأنه لم يكتب فقالك نكتُبُ ونَحفَظُ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى:
﴿عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى﴾ [طه: ٥٢] وقيل: إنَّ ذلكَ تعميمٌ بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم، وليست الكتابة مقتصرةً عليه بل كل شيء مُحْصًى في إمام مبين، وهذا يفيد أن شيئاً من الأفعال والأقوال لا يَعزُبُ عن (علم) الله ولا يفوته وهو قوله تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ﴾ [القمر: ٥٢ - ٥٣] يعين ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب.
180
قوله تعالى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً ﴾ نزلت في أبي جهل وصاحِبَيْهِ، وذلك أن أبا جهل كان ( قد )١ حلف لئن رأى محمداً يُصَلِّي ليَرْضَخَنَّ رأسه بالحجارة فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمَغَهُ به فلما رفعه٢ انثنت يده إلى عنقه، ولزق الحجرُ بيده، فلما رَجَعَ إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر، فقال رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر، فأتاه وهو يصلَّي لِيَرْمِيَهُ بالحَجَر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يَرَهُمْ حتى نادوه فقالوا له : ماذا صنعت ؟ فقال : ما رأيته، ولقد سمعت كلامه، وحال بيني وبينه كهيئة الفحْل يخطر بِذَنبِهِ لو دنوتُ منه لأَكَلَنِي، فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً ﴾٣.
ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال :﴿ لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ ﴾ وتقدم أن المرادَ به البرهان قال بعد ذلك : بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضّرورة حيث التزقت يده بعنقه ومُنع من إرسال الحَجَر، وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن على أنه لا يؤمن أصلاً٤.
وقال الفراء : معناه حبسْنَاهم عن الإنفاق في سبيل الله٥ كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ] معناه ولا تُمْسِكْها عن النفقة.
الرابع : قال ابن الخطيب وهو الأقوى وأنشد مناسبةً لما تقدم : إنّ ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وأما مناسبة قول الفراء لما تقدم أن قوله تعالى :﴿ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُون ﴾ يدخل فيه أنهم لا يصلون كقوله تعالى :﴿ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] أي صلاتكم عند بعض المفسرين، والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال : لا يُصَلّون ولا يُزَكون٦.
قوله :﴿ فَهِىَ إِلَى الأذقان ﴾ في هذا الضمير وجهان :
أشهرهما : أنه عائد على الأَغْلاَل٧، لأنها هي المُحَدَّث عنها، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغُلَّ لِغِلَظهِ وعَرْضِهِ يصل إلى الذقن، لأنه يلبس٨ العُنُقَ جَميعَهُ.
قال الزمخشري : والمعنى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثِقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يَتَمَكَّن المَغلُول معها من أن يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ٩.
الثاني : أن الضمير يعود على «الأيدي »، لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في العنق، واليدين، ولذلك سمي جامعة، ودَلَّ على الأيدي وإن لم تُذْكر للملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغُلّ، وإليه ذهب الطَّبَرِيُّ١٠. إلا أن الزمخشري قال : جعل الإقماح نتيجة قوله :﴿ فَهِىَ إِلَى الأذقان ﴾ ولو كان للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهراً، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك للظاهر١١.
وفي هذا الكلام قولان :
أحدهما : أن جَعْل الأَغْلاَلِ حقيقة.
والثاني : أنه استعارة، وعلى كل من القَوْلين جماعة من الصَّحَابة والتابعين١٢.
وقال الزَّمْخَشَرِيُّ :( مثل )١٣ لتصميمهم على الكفر، وأنَّه لا سبيل إلى ارْعِوَائِهِمْ بأن جعلهم كالمَغْلُولِينَ المُقْمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يُطَأْطِئُونَ رُؤُوسَهُمْ له، وكالحاصلين بين سدّين لا يبصرون ما قدامهم ما خلفهم١٤ في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم متعامون عن آيات الله١٥. وقال غيره : هذا استعارة لمنع الله إيَّاهم من الإيمان وحولهم١٦ بينهم وبينه. ( و )١٧ قال ابن عطية : وهذا أرجح الأقوال ؛ لأنه تعالى لما ذكر أنهم لا يُؤْمِنون لما سبق لهم في الأول عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشَّقَاوة ما حالهم معه حال المغلوبين١٨. وتقدم تفسير الأّذْقان١٩.
وقال ابن الخطيب : المانع إما أن يكون في النفس فهو الغُلّ وإما من الخارج فالسد، فلم يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ ﴾ [ فصلت : ٥٣ ] وذلك لأن المُقْمَحَ لا يرى ( في ) نفسه ولا يقع بصره على بَدَنِهِ، ولا يقع نظرهم على الآفاق فلا يتبين لهم الآيات التي في الآفاق. وعلى هذا فقوله :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ. . . . وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ﴾ إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في ( الأنْفُسِ٢٠ و ) الآفاق. «فَهُمْ مُقْمَحُونَ » هذه الفاء لأحسن ترتيب، لأنه لما وصلت الأغلال إلى الأذقان لعرضها لزم عن ذلك ارتفاع رُؤُوسهم إلى فَوْق. أو لما جمعت الأيدي إلى الأذقان وصارت تحتها لزم من ذلك رفعها إلى فوق فترتفعُ رُؤُوسُهُمْ٢١.
والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع، وهو من قَمَح البعيرُ رأسَه إذا رفعها بعد الشُّرْب، إما لبرودة الماء وإما لكراهة طعمه قُمُوحاً وقِمَاحاً - بكسر القاف وضمها- وأقمحتُه أَنَا إقْمَاحاً، والجَمْع قِماحٌ٢٢ وأنشد :
٤١٦٨- وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ. . . نَغُضُّ الطَّرف كَالإبِلِ القِمَاحِ٢٣
يصف نفسه وجماعة كانوا في سفينة، فأصابهم المَيَدُ٢٤.
قال الزجاج قيل : الكَانُونَيْن شهراً قِماحٍ، لأن الإبل إذا وَرَدْنَ الماء رفعت رُؤُوسَها، لشِدة البرد٢٥ وأنشد أبو زيد للهذلي :
٤١٦٩- فَتًى مَا ابْنُ الأَغَرِّ إِذَا شَتَوْنَا. . . وَحُبَّ الزَّادِ فِي شَهْرَيْ قمَاحِ٢٦
كذا رواه بضم القَاف، وابنُ السِّكِّيت٢٧ بكسرها. وقال اللَّيْثُ٢٨ : القُمُوح رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود. وقال أبو عبيدة إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب٢٩. والمشهور أنه رفع الرأس إلى السماء كما تقدم تحريره.
وقال الحسن : القامح الطامح يبصره إلى موضع قدمه. وهذا ينبو عنه اللفظ والمعنى. وزاد بعضهم مع رفع الرأس غَضَّ البصر٣٠ مستدلاً بالبيت المتقدم :
٤١٧٠-. . . . . . . . . . . . . . نغض الطرف كالإبل القماح
وزاد مجاهد مع ذلك وضع اليد على الفم. وسأل الناس أمير المؤمنين ( علياً )٣١ - كرم الله وجهه - عن هذه الآية فجعل يده تحت لِحْيَتِهِ٣٢ ورفع رأسه. وهذه الكيفية ترجّح قول الطَّبَريِّ في عود «فَهيَ » على الأيدي٣٣.
١ سقط من "ب"..
٢ في "ب" رضحه..
٣ انظر: تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن ١٥/٧ والرازي ٢٦/٤٤ ومعاني الفراء ٢/٢٧٣..
٤ الرازي ٢٦/٤٤..
٥ معاني الفراء ٢/٢٧٣..
٦ انظر: تفسير الرازي ٢٦/٤٤..
٧ وبه قال الزمخشري في الكشاف ٣/٣١٥ ونقله أبو حيان في البحر ٧/٣٢٤ والسمين في الدر ٤/٤٩٥ والرازي في تفسيره ٢٦/٤٤..
٨ الدر المصون ٤/٤٩٥..
٩ الكشاف ٣/٣١٥..
١٠ جامع البيان ٢٢/٩٨. وذهب إليه من المتأخرين الزجاج في المعاني ٤/٢٧٩ والفراء كذلك في معانيه ٢/٢٧٢ والنحاس في الإعراب ٣/٣٨٣ والرازي في تفسيره ٢٦/٤٤..
١١ قال: الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك الحق الأبلج إلى الباطن اللجلج. انظر : الكشاف ٣/٣١٦..
١٢ قاله بالحقيقة عكرمة نقلا عن البحر ٧/٣٢٤ وقال ابن عباس وابن إسحاق استعارة لحالة الكفرة انظر: البحر المرجع السابق والقرطبي ١٥/٨..
١٣ سقط من "ب"..
١٤ في الكشاف : ولا ما خلفهم..
١٥ وفيه: عن النظر في... انظر الكشاف ٣/٣١٦ و ٣١٧..
١٦ في "ب" وحال بينهم وبينه. وفي البحر والدر المصون: وجوله وانظر: البحر ٧/٣٢٤ والدر المصون ٤/٤٩٦..
١٧ زيادة من "ب"..
١٨ في المرجعين السابقين: المغلولين، وفي "ب" المعلومين وهنا في "أ" المغلوبين..
١٩ عند الآية ١٠٧ من سورة الإسراء: ﴿يخرون للأذقان سجدا﴾ فإن "الأذقان" جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين..
٢٠ ما بين الأقواس زيادة من "أ" الأصل عن "ب"..
٢١ انظر: تفسير الإمام الفخر الرازي التفسير الكبير ٢٦/٤٥ والدر المصون للسمين الحلبي ٤/٤٩٦..
٢٢ لسان العرب لابن منظور: "ق م ح " ومجاز القرآن لأبي عبيدة ٢/١٥٧ قال: "المقمح والمقنح واحد تفسيره أي يجذب الذقن حتى يصير في الصدر ثم يرفع رأسه. وانظر أيضا غريب القرآن لابن قتيبة ٣٦٤ والقرطبي ١٥/٨ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٧٩ ومعاني الفراء ٢/٢٧٣ والبحر المحيط ٧/٣٢٥..
٢٣ من تمام الوافر لبشر بن أبي خازم يصف ركبان السفينة بالغثيان والدوار عند اضطراب الموج.
وشاهده: كالإبل القماح فهم رافعون رؤوسهم في اضطراب كما ترفع الإبل رؤوسها إذا أصيبت بداء القماح، وانظر: ديوانه ٤٨، ومجاز القرآن ٢/٥٧ وغريب القرآن ٣٦٤، والقرطبي ١٥/٨، واللسان: "ق م ح" وديوان المفضليات ٨٤٤..

٢٤ وهو ما يصيب من الحيرة عن السكر أو الغثيان أو ركوب البحر. اللسان "م ي د"، وفي "ب" البيد. وهو تحريف..
٢٥ معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٧٩ والشهران الشديدا البرد كانون الأول وكانون الثاني أي ديسمبر ويناير وقماح ككتاب وغراب..
٢٦ من الوافر لمالك بن خالد الهذلي وفتى ما أي أي فتى؟ والشاهد: شهري قماح فهما شهران تعاف الإبل الماء فيهما لشدة برودته. انظر: الإنصاف ٦٦ واللسان: "ق م ح" والبحر ٧/٣٢٥ وديوان الهذليين ٣/٥..
٢٧ يعقوب بن إسحاق أبو يوسف النحوي اللغوي توفي سنة ٢٤٦ انظر: إنباه الرواة ٤/٥٠-٥٧..
٢٨ الليث بن نصر بن يسار الخراساني صاحب العربية، انظر: البغية ٢/٢٧٠. وانظر رأيهما في اللسان: "ق م ح" والبحر ٧/٣٢٤ و ٣٢٥..
٢٩ عبارته: "يجذب الذقن حتى يصير في الصدر ثم يرفع رأسه" المجاز ٢/١٥٧..
٣٠ قاله الفراء في معانيه ٢/٣٧٣..
٣١ سقط من "أ"..
٣٢ في "ب" لحييه..
٣٣ وانظر: البحر المحيط ٧/٣٢٤، فقد جمع هذه الأقوال..
قوله :﴿ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً ﴾ تقدم خلاف القراء في فتح السِّين وضمِّها والفرق بينهما مستوفًى آخرَ الكهف١ والحمد لله.
وأما فائدة السد من بين الأيدي فإنهم في الدنيا سالكُون فينبغي أن يَسْلُكُوا الطّريقة المستقيمةَ «مِنْ بَيْنِ أيْدِيهمْ سَدًّا » فلا يقدرون على السلوك. وأما فائدة السد من خلفهم فهو أنَّ الإنسان له فِطْريَّة والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول : جَعَلْنَا من بين أيديهم سدًّا فلا يسلكون طريق الاهتداء الذي هو فطرية وجعلنا من خلفهم سداً فلا يرجعون إلى الهداية والجبلية التي هي فطرية، وأيضاً فإن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه فعمي الكافر لا يبصر ما بين من المصير إلى الله، وما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله وأيضاً فإنَّ السالك إذا لم يكن له بدّ من سلوك طريق، فإن اشتدَّ الطريقُ الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع، وإذا اشتد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة يهلك. فقوله ﴿ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً ﴾ إشارة إلى هَلاَكِهِمْ٢ فصاروا بمنزلة من يبنى٣ عليه الحائط وهو واقفٌ.
قوله :﴿ فأغشيناهم ﴾ العامة على الغين المعجمة أي غَطَّيْنَا أبْصَارَهُمْ وهو على حذف مضاف. وابن عباس وعمرُ بن عبد العزيز، والحَسَنُ، وابنُ يعْمُرَ، وأبُو رَجَاءٍ في آخَرِينَ بالعين المهملة٤.
وهو ضعف البصر. يقال : عِشِيَ بَصَرُهُ، وأَعْشَيْتُهُ أَنَا٥.
وهذا يحتمل الحقية والاسْتِعَارَة.

فصل٦


قوله :﴿ فَأغْشَيْنَاهُمْ ﴾ بحرف الفاء يقتضي أن يكون الإغشاء مرتباً على جعل السد فما وجهه ؟ فيقال من وجهين :
أحدهما : أن ذلك بيان لأمور مرتبة ليس بعضها سبباً في العبض فكأنه تعالى قال : إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَلاَ يُبْصِرُون أنفسهم لإقماحهم، وجعلنا من بين أيديهم سداً ومِنْ خلفهم سداً فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يَروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله : جَعَلْنَا عَلَى أَبْصَارهم غشاوة فلا يبصرون شيئاً أصلاً.
والثاني : أن ذلك بيان لكون السدِّ قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغِشَاوة على أبصارهم، فإن من جعل من خلفه وقدّامِهِ سدين مُلْتَزِقَيْن به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما يبقى عينه على سطح السد فلا يُبْصِرُ شيئاً، لأن شرط المرئيِّ أن يكون قريباً من العَيْن جِداً.
فَإنْ قيلَ : ذكر السد من بين الأيدي ومن خَلْفٍ، ولم يذكر من اليَمِين والشِّمالِ فما الحكمة فيه ؟.
فالجواب : إن قلنا : إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر. وأما على غير ذلك فيقال : إنه حصل العموم بما ذكر والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة، لأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا مُتَوَجِّهِينَ إلى شيء، ومُوَلِّين٧ عن شيء فصار ما إليه توجُّهُهُمْ ما بين أيديهم فجعل الله السد هناك فمنعه٨ من السلوك فكيفما توجه الكافر يجعل الله بين أيديه سداً وأيضاً ( فإنَّا )٩ لما بينا أن جعل السد سبباً لاستتار بصره فكان السد ملتزقاً به وهو ملتزق بالسدين، فلا قدره له على الحركة يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشِّمال.
وقوله :﴿ فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ أي لا يبصرون شئياً، أو لا يبصرون سبيلَ الحق ؛ لأن الكافر مَصْدُورٌ عَنْ سبيل الهدى١٠.
١ عند قوله: ﴿حتى إذا بلغ بين السدين﴾ من الآية ٩٣ والآية ٩٤ ﴿على أن تجعل بيننا وبينهم سدا﴾وضم الشين في "يس" هنا ابن كثير ونافع، وأبو عمرو وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وفتحها عاصم فيما رواها عنه حفص وفتحها أيضا حمزة والكسائي. وهما لغتان. ولافرق بينهما (بين المضموم والمفتوح) أن المضموم ما كان من صنع الله، والمفتوح من البشر. ومن قائل: إن المفتوح المصدر، والمضموم الشيء المسدود وذهب في يس إلى أن الضم بمعنى سدة العين. انظر: السبعة ٥٣٩ وحجة ابن خالويه ٢٣١ والكشاف ٢/٧٥ و ٧٦..
٢ في "ب" إهلاكهم..
٣ وفيها: تبنى عليه الحائط..
٤ ذكرها ابن خالويه وقال: إنها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم انظر: مختصر ابن خالويه ١٢٤ والمحتسب ٢/٢٠٤ ومعاني الفراء ٢/٣٧٣، وزاد المسير ٧/٨ ومعاني الزجاج ٤/٢٨٠ والقرطبي ١٥/١٠ والكشاف ٣/٣١٦..
٥ في "أ" أغشى بصره وأغشيته. والتصحيح أعلى من "ب"..
٦ كذا في "ب" وفي "أ" قوله بدل فصل. والتصحيح من "ب"..
٧ في "ب" متولين..
٨ وفيها: فيمنعه..
٩ ما بين القوسين سقط من "ب"..
١٠ وانظر في هذا كله تفسير العلامة الرازي ٢٦/٤٦، ٤٧..
قوله :﴿ وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ ﴾ تقدم الكلام عليه أول البقرة١، بين أن الإنذار٢ لا ينفعهم مع ما فعل الله بهم من الغُلِّ والسدِّ والإغشاء والإعماء٣ بقوله :﴿ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ﴾ أي الإنذارُ وعَدَمُهُ سيَّان بالنسبة إلى إيمانهم.
١ من الآية ٦ منها وهي قوله تعالى: ﴿سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون﴾ وقد بين هناك أن "سواء" مبتدأ، وما بعده الخبر وهو جملة في صيغة التأويل بالمفرد أي سواء عليك أو عليهم الإنذار وعدمه. انظر: اللباب ١/٣٦ ب..
٢ في "ب" الأنداد..
٣ في "ب" الإغماء..
﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب ﴾ قال من قبل :﴿ لِتُنذِرَ قَوْماً ﴾ [ يس : ٦ ] وذلك يقتضي الإنذار العام وقال هنا :«إنَّما تنذر » وهو يقتضي التخصيص، فكيف الجمع بينهما ؟ ! وطريقه من وجوه :
الأول : أن قوله :«لتنذر » أي ( كَيْفَ )١ ما كان سواء كان مفيداً أو لم يكن.
وقوله :﴿ إِنَّما تُنْذِرُ ﴾ أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة لمن يتبع الذِّكْرَ وَيَخْشَى.
الثاني :( هو )٢ أنّ الله تعالى لما بين أن الإرسال أو الإنزال للإنذار وذكر ( أن )٣ الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى أهل العناد قال لنبيه : ليس إنذارك غيرَ مفيد من جميع الوجوه، فأنِذرْ على سبيل العموم وإنما يُنْذَرُ٤ بذلك الإنذارِ العَام٥ من يتبع الذكر كأنه يقول : يا محمد أنذر بإنذارك وتَتَبَّعْ بذكرك.
الثالث : أن يقول : لتنذر أولاً فإذا أنذرت وبالغت ( وبلغت )٦ واستهزأ البعض وتولى واستكبر فبعد ذلك إنما تُنْذِرُ الِّذِينَ اتَّبَعُوك٧. والمراد بالذكر : القرآن لتعريف الذكر بالألف واللام. وقد تقدم ذكر القرآن في قوله تعالى :﴿ والقرآن الحكيم ﴾ [ يس : ٢ ]. وقيل : ما في القرآن من الآيات لقوله :﴿ والقرآن ذِي الذكر ﴾ [ ص : ١ ] فما جعل القرآن نفس الذكر. والمعنى إنما تُنْذِرُ العلماءَ الِّذِين يخشون ربهم. وقوله :﴿ وَخشِيَ الرحمن ﴾ أي عمل صالحاً لقوله :﴿ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾ وهذا جزاء العمل كقوله :﴿ فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [ الحج : ٥٠ ] والمراد بالغيب : ما غاب وهو أحوال يوم القيامة. وقيل الوَحْدانية٨.
وقوله :﴿ فَبَشِّره ﴾ إشارة إلى الرسالة، فإنَّ النَّبِيِّ بشيرٌ ونذيرٌ.
وقوله :«بمغفرة » على التنكير أي بمغفرة واسعةٍ تسيرُ من جميع الجوانب «وَأجْرٍ كريمٍ » أي ذي كرم كقوله :﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ والمراد به الجنة.
١ سقط من "ب" لفظ كيف فقط..
٢ سقط من "ب"..
٣ سقط من "ب"..
٤ سقط من "ب" لتنذر..
٥ في "أ" العالم..
٦ زيادة للسياق..
٧ في "ب" يتبعوك..
٨ انظر: الرازي ٢٦/٤٧ وزاد المسير ٧/٨..
قوله تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى ﴾ عند البعث. لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بهم المكلف مؤمناً مسلماً ذكر أصلاً آخر وهو الحشر. ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله :﴿ فَبَشِّرهم بمغفرة ﴾ ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال : إن لم ير في الدنيا فاللَّه يحيي الموتى وُيجْزَى المنذّرُونَ والمُبشرُونَ ووجه آخر وهو أنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحْيَاءُ الموتى١.

فصل


«إنّا نحن » يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مبتدأ وخبراً كقوله :
٤١٧١- أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي٢. . .
ومثل هذا يقال عند الشُّهْرَة العظيمة، وذلك لأنَّ من لا يُعْرَفُ يُقَال٣ ( لَهُ )٤ : من أنت ؟ فيقول : أنا ابنُ فُلاَنٍ فيُعْرَفُ، ومن يكون مشهوراً إذا قيل له : مَنْ أَنْتَ، يقول٥ : أنا ولا معرفة لي أظهر من نفسي فيقال : إنَّا نَحْنُ معروفون بأوصاف الكمال، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا ينكر قدرتنا على إحياء الموتى.
والثاني : أن الخبر«نُحْيِي » كأنه قال :«إِنَّا نُحِيي المَوْتَى » و «نحن » يكون تأكيداً.
وفي قوله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى ﴾ إشارة إلى الوحيد ؛ لأن الإشراك يوجب التمييز، فإن «زيداً » إذا شاركه غيره في الاسم، فلو قال :«أنا زيد » لا يحصل التعريف التام، «لأن »٦ للسامع أن يقول : أيُّمَا زيد ؟ فيقول : ابنُ عمرو، ( ولو٧ كان هناك زيدٌ آخرُ أبو عمرو لا يكفي قوله : ابن عمرو ) فلما قال الله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى ﴾ أي ليس غيرنا أحد يشركنا حتى يقول : أنا كذا فيمتاز، وحينئذ تصير الأصول ٨ الثلاثة مذكورة : الرسالة والتوحيد والحشر٩.
قوله :﴿ وَنَكْتُبُ ﴾ العامة على بنائه للفاعل، فيكون «مَا قَدَّمُوا » مفعولاً به و «آثَارهُمْ » عطف عليه. وزِرّ ومسروقٌ قَرَآهُ مبنياً للمفعول، و «آثَارُهُم »١٠بالرفع عطفاً على «مَا قَدَّمُوا » لِقِيَامِهِ مَقَام الفَاعِل١١.

فصل


المعنى ما قدموا وأخروا، فاكتفي بأحدهما، لدلالته على الآخر كقوله تعالى :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ] أي وَالبَرْدَ. وقيل : المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحةً كانت أو فاسدةً، كقوله تعالى :﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾١٢ [ البقرة : ٩٥ ] أي بما قدمت في الوجود وأوجدته. وقيل : نكتب نِيَّاتِهِمْ فإنها قبل الأعمال و «آثَارَهُمْ » أي أعمالهم. وفي «آثارهم » وجوه :
أحدها : ما سنوا من سنة حسنة وسيئة.
فالحسنة كالكتب المصنّفة والقناطر المبنية، والسيئة كالظّلامة١٣ المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة. قال- عليه ( الصلاة١٤ و ) السلام :«مَنْ سَنَّ فِي الإسلام سُنَّةً حَسَنَةً فَعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا ومِثْلُ أَجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهمْ شَيْئاً، وَمَنْ سَنَّ فِي الإسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَه كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شَيْئاً »١٥ وقيل : نكتب آثارهم أي خُطاهم إلى المسجد١٦ ؛ لما روي أبو سعيد الخُدْرِي قال : شَكَتْ بنو سلمة بُعْدَ منازِلهم من المسجد فأنزل الله :﴿ ونكتُبُ ما قدموا وآثارهم ﴾ فقال - عليه ( الصلاة و ) السلام- :«إنَّ اللَّه يَكْتُبُ خُطَوَاتِكُمْ وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ »١٧. وقال - عَلَيْهِ ( الصَّلاَةُ وَ ) السَّلاَمُ- :«أَعْظَمُ النَّاس أَجْراً في الصَّلاَةِ أبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالِّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةً حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإمَام أَعْظَمُ أجْراً من الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ »١٨ فإن قيل : الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال :( «نُحْي » )١٩ و «نكتُبُ » ولم يقل : نكتب ما قَدَّمُوا وَنُحْيِيهمْ ؟.
فالجواب : أن الكتابة معظمة، لا من الإيحاء، لأن الإحياء إن لم يكن للحساب٢٠ لا يعظم، والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياءً وإعادة لا يبقى لها أثر أصلاً والإحياء هو المعتبر، والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء. ( و )٢١ لأنه تعالى قال :﴿ إِنَّا نَحْنُ ﴾ وذلك يفيد العظمة والجَبَرُوتَ، والإحياء العظيم يختص بالله، والكتابة دونه تقرير العريف الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم.
قوله :﴿ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ ﴾ العامة على نصب «كل » على الاشتغال٢٢. وأبو السِّمِّال قرأه مرفوعاً بالابتداء٢٣ والأرجحُ قراءةُ العامة، لعطف جملة الاشتغال على جملة فعليةٍ٢٤.

فصل


«أَحْصَيْنَاهُ » حفظناه وثبّتناه «فِي إمَامِ مُبينٍ ». فقوله «أَحْصَيْنَاهُ » أبلغ من كتبناه، لأن كتب شيئاً مفرقاً يحتاج إلى جمع عدده٢٥، فقال يحصي٢٦ فيه. وإمامٌ جاء جمعاً في قوله :﴿ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾ [ الإسراء : ٧١ ] أي بأئمتهم٢٧ وحنيئذ ف «إمَام » إذا كان فرداً فهو ككِتَاب وحِجَاب، وإذا كان جمعاً فهو كجِبَال. والمُبِينُ هو المظهر للأمور لكونه مُظْهراً ( للملائكة٢٨ ما ) يفعلون وللناس ما يفعل بهم، وهو الفارق بين أحوال الخلق فيجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير. وسمي الكتاب إماماً، لأن الملائكة يأتمون به، ويتبعونه، وهو اللوح المحفوظ. وهذا بيان لكونه ما قدموا وآثارهم أمراً مكتوباً عليهم لا يُبدَّل، فإن القَلَم جَفَّ بما هو كائن، فلما قال «نَكْتُبُ مَا قَدًَّمُوا » بين أن قبل ذلك كتابةً أخرى، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه٢٩. وقيل : إن ذلك مؤكّد لمعنى قوله :«وَنَكْتُبُ » ؛ لأن من يكتب٣٠ شيئاً في أوراق ويرميها قد لا يجدها، فكأنه لم يكتب فقال : نكتُبُ ونَحفَظُ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى :
﴿ عِلْمُهَا٣١ عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ﴾ [ طه : ٥٢ ]. وقيل : إنَّ ذلكَ تعميمٌ بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم، وليست الكتابة مقتصرةً عليه بل كل شيء مُحْصًى في إمام مبين، وهذا يفيد أن شيئاً من الأفعال والأقوال لا يَعزُبُ عن ( علم )٣٢ الله، ولا يفوته وهو قوله تعالى :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ﴾ [ القمر : ٥٢-٥٣ ] يعني ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب٣٣.
١ الرازي المرجع السابق..
٢ من الرجز لأبي النجم.
والاستشهاد بالبيت على أن "أنا أبو النجم" مبتدأ مؤخر ك "إنا نحن" من الآية الكريمة. والبيت في الخصائص ٣/٣٣٧ والمنصف ١/١٠ وأمالي الشجري ١/٢٤٤ وشرح ابن يعيش ١/٩٨ و ٩/٨٣ والمغني ٣٢٩ و٤٣٧ و ٦٥٧ والهمع ١/٦٠ و ٢/٩٥ والدرر اللوامع ١/٣٥ و ٢ /٧٦ والأشموني ١/١٥٥ والرازي ٢٦/٤٨.
ومن الإمكان –وهو الأرجح- أن يكون التنظير بالبيت في "وشعري شعري" ومعنى: وشعري شعري المعروف الموصوف كما بلغت وعرفت فكذلك: "إنا نحن" أي معروفون بأوصاف الكمال فالمبتدأ والخبر معرفتان..

٣ في "ب" فيقال..
٤ سقط من (ب)..
٥ في "ب" فيقول..
٦ ما بين الأقواس ساقط من (ب) و (أ) وتكملة من الرازي..
٧ ما بين الأقواس ساقط من (ب) و (أ) وتكملة من الرازي..
٨ في "ب" الأمور..
٩ وانظر في هذا كله تفسير الفخر الرازي ٢٦/٤٨و ٤٩..
١٠ في "ب" وآباؤهم تحريف..
١١ من القراءات الشاذة ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٤ وابن الجوزي في زاد المسير ٧/٨ منسوبة إلى إبراهيم المخعي والجحدري وذكرها في الكشاف دون نسبة. الكشاف ٣/٣١٧..
١٢ الآية ٩٥ من سورة البقرة و٦٢ من سورة النساء و٤٧ من سورة القصص و ٤٨ من سورة الشورى و ٧ من سورة الجمعة. وقد ذكر هذه الآراء الثلاثة الفخر الرازي في تفسيره ٢٦/٤٩ ورجح الفراء والزجاج في معانيهما الرأي الثاني. انظر معاني الفراء ٢/٣٧٣ والزجاج ٤/٢٨١ والكشاف ٣/٣١٦..
١٣ كذا في "ب" والرازي وفي "أ" كالطلابات. واختار هذا الرأي ابن عباس وابن جبير والفراء وابن قتيبة والزجاج. انظر زاد المسير ٧/٩..
١٤ زيادات من "ب"..
١٥ رواه مسلم في صحيحه ٨/٦١ عن جرير بن عبد الله من حديث طويل..
١٦ زاد المسير ٧/٩ والرازي ٢٦/٤٩..
١٧ الرازي السابق..
١٨ عن أبي موسى رواه البخاري في صحيحه ١/١٢٠..
١٩ سقط من ب..
٢٠ كذا في "أ" والرازي وما في "ب" المصاب..
٢١ سقط من "ب"..
٢٢ ذكرت في القرطبي ١٥/١٣ ومعاني الفراء ٢/٣٧٣ ومشكل الإعراب ٢/٢٢٢ والتبيان ٨١٥و ١٠٧٩ والبيان ٢/٢٩١ وإعراب القرآن للنحاس ٣/٣٨٦ والبحر المحيط ٧/٣٢٥ والدر المصون ٤/٤٩٩. والكل رجح النصب..
٢٣ مختصر ابن خالويه ١٢٤ والبحر المحيط ٧/٣٢٥ وزاد المسير ٧/٩ بنسبتها إلى ابن السميقع وابن أبي عبلة. وانظر: الكشاف أيضا ٣/٣٧٧ والقرطبي ١٥/١٣..
٢٤ المراجع السابقة..
٢٥ قاله أبو عبيدة في المجاز ٢/١٥٩..
٢٦ في "ب" نحصي..
٢٧ في "ب" بأمتهم..
٢٨ سقط من "ب"..
٢٩ انظر في هذا تفسير العلامة الرازي ٢٦/٤٩و ٥٠..
٣٠ في "ب" كتب بصيغة الماضي..
٣١ لفظة "علمها" سقطت من "ب"..
٣٢ سقط من "ب"..
٣٣ تفسير الفخر الرازي ٢٦/٥٠..
قوله تعالى: ﴿واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية﴾ تقدم الكلام على نظيره في
180
البقرةِ والنحل والمعنى واضرب لأجلهم مثلاً، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلاً أي مثهم عند نفسك بأصحاب القرية. فعلى الأول لمَّا قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ [يس: ٣] وقال: ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً﴾ [يس: ٦] قال: قل لهم ما أنا بدعاً من الرسل بل (قبلي) بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة. وعلى الثاني لما قال تعالى: إن الإنذار لا ينفع من أضله اللَّهُ وكتب عليه أنه لا يؤمن قال للنبي عليه (الصلاة و) السلام: فلا بأس واضرب لنفسك ولقومك «مثلاً» أي مَثِّلْ لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية، حيث جاءهم ثلاثةُ رُسُل فم يؤمنوا، وصبر الرسل عل القتل والإيذاء وأنت جئتهم واحداً وقومك أكثر من قوم الثلاثة، فإنهم جاءوا قريةً وأنت بعثت إلى العالم.
قوله: ﴿أَصْحَابَ القرية﴾ أي واضرب لهم مثلاً (مَثَلَ) أصحاب القرية، فترك «المَثَلَ» وأقيم «الأصحاب» مُقامة في الإعراب كقوله: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
قال الزمخشري: وقيل: لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً أو مثل أصحاب القرية بهم قال المفسرون: المراد بالقرية أنْطَاكية.
قوله: ﴿إِذْ جَآءَهَا﴾ بدل اشتمال. قال الزمخشري: «إذْ» منصوبة لأنها بدل أصْحَابِ القَرْيَة كأنه تعالى قال: واضْرِب لهم وقت مجيء المرسلين ومثل ذلك الوقت بوقتِ مُحَمَّد.
وقيل: منصوب بقوله: «اضْرِبْ» أي اجعل الضرب كأنه حين مجيئهم وواقع
181
فيه والمرسلون من قوم عيسى وهم أقرب مُرْسَلٍ أُرْسل إلى قوم إلى زمان محمد - عليه (الصلاة و) السلام - وهم ثلاثة.
قوله: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَآ﴾ بدل من «إذ» الأولى، كأنه قال: اضْرب لهم مثلاً إذ أرسلنا إلى اصحاب القرية اثنين. قال ابن الخطيب: والأصح الأوضح أن يكون «إذا» ظرفاً والفعل الواقع فيه «جَاءَها» أي جاءها المرسلون حينَ أرْسَلْنَاهُمْ إلَيْهِمْ.
وإنما جاءوهم حيث أمروا. وهذا فيه لطيفة أخرى وهي أن في القصة أن الرسلَ كانوا مبعوثين من جهة عيسى - عليه (الصلاة و) السلام - أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى: إرسال عيسى (عليه السلام -) هو إرسالنا رسول رسول الله بإذن الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا رُسُلَ الرسل وإنما هم رُسُلُ الله، فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَآ﴾ ويؤيد هذا مسألة فِقْهِيَّةٌ وهي أن وَكيلَ الوكيل بإذن الموكل وَكيلُ المُوَكّل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل (الأول) وهذا على قولنا: «واضرب لهم مثلاً» ضرب المثل لأجل محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ظاهر وقوله: «إذا أرسلنا إليهم اثنين» في بعثة الاثْنَيْنِ حكمةٌ بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى عليه (الصلاة و (السلام) (بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ) فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قَوْلُهُمَا على قومهما عند عيسى حجَّةً.

فصل


قال ابن كثير: وروى ابن إسحاق عن ابن عباس وكعب الأحْبار ووهب بن منبّه ورُوِيَ عن بُريدةَ بْنِ الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري أن هذه القرية أنطاكية وكان اسم ملكها انطيخش، وكان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صَادِق وصَدُوق وسلومُ فكذبهم وهذا ظاهر (هـ) أنهم رسل الله - عَزَّ وَجَلَّ - وزعم قتادة أنهم كانوا رسلاً من عند المسيح وكان اسم الرسولين الأولين شمْعون ويوحَنّا واسم الثالث
182
بُولص والقرية أنطاكية. وهذا القول ضَعِيف جداً؛ لأن أهل أنطاكية لما بَعث إليهم المسيحُ ثلاثةً من الحواريين كانوا أول مدينة آمن بالمسيح في ذلك الوقت، ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فيها مباركة النصارى وهي أنطاكية والقدس واسكندرية رومية، ثم بعدها قسطنطينية، ولم يهلكوا (إذا) أهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا لقول الله تعالى: ﴿إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ [يس: ٢٩] لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورة في القرآن بعثوا لأهل أنطاكية قديماً فكذبوهم فأهلكهم الله ثم عُمِّرت بعد ذلك فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله فيجوز والله أعلم.
قوله: ﴿فَعَزَّزْنَا﴾ قرأ أبو بكر بتخفيف الزاي بمعنى غَلَبْنا، ومنه: ﴿وَعَزَّنِي فِي الخطاب﴾ [ص: ٢٣] ومنه قولهم: عَزَّ وبَزَّ أي ص له بَزّ.
والباقون بالتشديد بمعنى قَوَّيْنَا يقال: عَزَّز المَطَرُ الأَرْضَ أي قواها ولَبدها، ويقال لِتِلْكَ الأرْضِ العَزاء وكذا كل أرض صُلْبَة. وتعَزَّزَ لَحْمُ النَّاقَة أي صلُبَ وقَوِيَ وعلى كلتا القراءتين المفعول محذوف أي فَقَوّيناهما (أو فغلبناهما بثالث) ؛ لأن المقصود من البعثة نُصرة الحق، لا نصرتهما، والكل كانوا مقوين للدين والبرهان.
وقرأ عبد الله «بالثُّالثِ» بألفٍ ولام.
قوله: ﴿إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُون﴾ جرد خبر «إنّ» هذه من لام التوكيد، وأدخلها في خبر الثانية، لأنهم في الأولى استكملوا مجرد الإنكار فقابلتهم الرسل بتوكيد واحد وهوا لإتيان ب «إنَّ» وفي الثانية بالَغُوا في الإنكار فقابلتهم (الرسل) بزيادة التأكيد، فأتوا ب «إنَّ» وب «اللاَّم».
قال أهل البيان: الأخبار ثلاثة أقسام: ابتداءٌ وطلبيُّ وإنكاريُّ.
183
فالأول: (يقال) لمن لك يتردد في نسبة أحد الطرفين إلا الآخر نحو: زَيْدٌ عَارَفٌ.
والثاني: لمن هو مترد في ذلك طالبٌ له منكِرٌ له بعض إنكار فيقال له: إنَّ زَيْداً عَارِفٌ.
والثالث: لم يبالغ في إنكاره فيقال له: إنَّ زَيْداً لَعاَرِفٌ ومن أحسن ما يحى أن رجلاً جاء إلى أبي العباس الكِنْديِّ فقال: يا أبا العباس: إني لأجدُ في كلام العرب حشواً قال: وما ذالك؟ قال: يقولون زُيْدٌ قَائِمٌ، وإنَّ زَيْداً لَقَائمٌ، فقال: كلاَّ، بل المعاني مختلفة، «فعبد الله قائم» إخبار بقيامة، و «إنَّ عبد الله قائمٌ» جواب لسؤال سائل و «إنَّ عبد الله لقائمٌ» جواب عن إنكار مُنْكِر وهذا هوا لكندي الذي سئل أن يعارض القرآن ففتح المصحف فرأى سورة المائدة وقال أبو حيان: وجاء أولاً «مرسلون» بغير لام، لأنه ابتداء إخْبار، فلا يحتاج إلى توكيد، وبعد المجاورة «لَمُرْسَلُونَ» بلام التوكيد، لأنه جواب عن إنكارٍ.
قال شهاب الدين: «وهذا قصور عن فهم ما قاله أهل البيان، فإنه جعل المقام الثاني - وهو الطلبي - مقام المقام الأول وهو الابتدائي».
قوله: ﴿مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ﴾ جعلوا كونهم بشراً مِثلهم دليلاً على عدم الإرسال. وهذا عام في المشركين قالوا في حق محمد عليه (الصلاة و) السلام: ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾ [ص: ٨] وإنما ظنُّوه دليلاً بناء على أنهم لم يعتقدوا في الله الاختيار وإنما قالوا: إنه موجب بالذات وقد استوينا في البشرية فلا يمكن (الرجحان) فرد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] وبقوله: ﴿الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ [الشورى: ١٣]
184
إلى غير ذلك. ثم قالوا: «وَمَا أَنْزَل الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ» وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مُتمِّماً لما ذكرو (هـ) فيكون الكل شبهةً واحدة، والمعنى وما أنزل الله إليكم أحداً فكيف صرتم رسلاً؟ ﴿
والثاني: أن يكون هذا شبهة أخرى مستقلة وهي أنهم لما قالوا: أنتم بشر مثلنا، فلا يجوز رُجْحَانُكم علينا. ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المُرْسَلِين ثم قولا شبهة أخرى من جهة المرسِل وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئاً في هذا العالم، فإن تصرفه في العالم العلوي فاللَّهُ لم ينزل شيئاً من الأشياء في الدينا فكيف أنزل إليكم؟﴾
.
وقوله تعالى: ﴿الرحمن﴾ إشارة إلى الرد عليهم، لأن الله تعالى لما كان رَحْمنَ الدُّنْيَا، والإرسال رحمة فيكف لا ينزل رحمته وهو رَحْمن؟! ثم قال: «إنْ أَنْتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ» أي ما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون «إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِم اثْنَيْنِ» قال وهب: اسمهما يحيى وبولس «فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا» برسول «ثَالِثٍ» وهو شمعون وقال كعب: الرسولان صَادِق وصدوق والثالث سلوم. وإنما أضاف الله الإرسال إليه، لأن عيسى عليه (الصلاة و) السلام - إنما بعثهم بأمرهم عَزَّ وَجَلَّ -.
قوله: ﴿قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾ وهذا إشارة إلى أنهم مجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا بل أعادوا ذلك لهم، وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين ﴿قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾ وأكدوه باللام لأن علم الله يجري مَجْرَى القسم، كقوله:
﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] أي هو عالم بالأمور «وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاَغُ المُبِينُ» وذلك تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا عن عُهْدَةِ ما علينا هو البَلاَغ وقوله «المبين» أي المبين الحق عن الباطل وه والفارق بالمعجزة والبُرهان؛ إذ البلاغ المظهر لما ارسلنا إلى الكل أي لا يكفي أن يبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين. أو المظهر للحق بكل ما يمكن فإذا لم يقبلوا الحق فهنالك الهلاك فما كان جوابهم بعد ذلك إلا قولهم: «إنا تَطَيَّرْنا بِكُمْ» أي تَشَاءمنا بكُمْ وذلك أن المطر حُبِسَ عنهم فقالوا أصابنا هذا بشؤمِكُمْ «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمنَّكُمْ» لنقتلنّكم قاله قتادة.
وقيل: لنشتمنّكم «وليمسنكم منا عذاب أليم» فإن فسرنا الرجم بالحجارة فيكون
185
قولهم: «وليمسنكم منا عَذَابٌ أَلِيمٌ» كأنه قالوا: لا نكتفي برجمكم بحجر أو حجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم أو يكون المراد: ولَيَمسَّنَّكُمْ بسبب الرجم منَّا عذاب أليم أي مُؤْلِم.
وإن قلنا: الرجم الشتم فكأنهم قولوا ولا يكفينا الشتم بل شتم يؤدي إلى الضرب والإيلام الحِسِّيِّ. إذا فسرنا «أليم» بمعنى مؤلم فالفَعِيلُ بمعنى مُفْعِل قليلٌ.
ويحتمل أن يقال: هو من باب قوله: ﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١] أي ذاتِ رِضَا أي عذابٌ ذُو ألَمٍ، فيكون فعلي بمعنى فَاعِلٍ وهو كثيرٌ.
ثم أجابهم المرسلون فقالوا «طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ» أي شؤمكم معكم، أي كُفْركُمْ.
قوله: «طائركم» العامة على «طائِر» اسم فاعل أي ما طَارَ لكم من الخير والشر، فغبر به عن الحظ والنصيب وقرأ الحسن - فيما روى عنه الزمخشري «اطَّيْرُكُمْ» مصدر اطَّيَّرَ الذي أصله تَطَيَّرَ، فلما أريد إدغامه أبدلت الفاء طاء وسكنت واجتلبت همزة الوصل وصار اطَّيَّر، فيكون مصدره «اطَّيَّاراً».
ولما ذكر أبو حيان هذا لم يرد عليه وكان (هو) في بعض ما رد به على ابن مالك
186
في شرح التسهيل في باب المصادر أن مصدر «تَطَيَّر وتَدَارأ» إذا أدغما وصار «اطَّيَّر وادَّارأ» لا يجيء مصدرهما علهيما، بل عل أصلهما، فيقال: اطَّيَّر تَطَيُّراً، وادَّارأَ تَدَرُءاً. ولكن هذه القراءة تَردُّه إنْ صحت وهو بعيدٌ.
وقد روى غيره طَيْرُكُمْ بياء ساكنة ويغلب على الظن أنها هذه وإنما تصحفت على الرواي فحسبها مصدراً وظن أن ألف «قالوا» همزةُ وَصْلٍ.
قوله: ﴿أَإِن ذُكِّرْتُم﴾ قرأ السبعة بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية وهم على أصولهم من التسهيل والتحقيق، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه في سورة (البقرة) واخْتَلَفَ سيبويه ويونسُ إذا اجتمع استفهام وشرط أَيُّهُما يُجَابُ؟ فذهب سيبويه إلى أجابة الاستفهام، ويونُس إلى إجابة الشرط.
فالتقدير عند سيبويه أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ تَتَطَيُّرُون وعند يونس تَطَيُّرُوا مجزوماً
187
فالجواب للشرط على القولين محذوف.
وقد تقدم هذا في سورة الأنبياء. وقرأ أبو جفعر وطلحة وزِرّ بهمزتين مفتوحتين، إلاَّ أنَّ زِرّاً لم يسهل الثانية، كقوله:
٤١٧٢ - أَإِنْ كُنْتَ بْنَ أَحْوَى مُرَحَّلاً فَلَسْتَ برَاعٍ لابْن عَمِّكَ مَحْرَمَا
وروي عن أبي عمرو وزرِّ أيضاً كذلك، إلا أنها فصلاً بأَلِفٍ بني الهَمْزَتَين وقرأ المَاجَشُون (بهمزة) واحدة مفتوحة.
وتخرج هذه القراءات الثلاث على حذفلام العلة أي (أَ) لأَنْ ذُكّرْتُمْ تَطَيِّرْتُمْ ف «تطيرتم» هو المعلول، وأن ذكرتم عليته. والاستفهام منسحب عليهما في قراءة الاستفهام. وفي غيرها يكون إخبار بذلك. وقرأ الحسن بهمزة واحدة مكسروة وهي شرط من غير استفهام، وجوابه محذوف أيضاً. وقرأ الأعمش والهَمْدَانيُّ أين ذكرتم فطائركم معكم أو صُحْبَتُكُمْ طائركم، لدلالة ما تقدم من قوله: ﴿طَائِرُكُم مَّعَكُمْ﴾ ومن يجوز تقديم الجواب لا يحتاج إلى حذف.
188
وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصْمَعِيُّ عن نافع ذُكِرْتُمْ بتخفيف الكاف.

فصل


قوله: «أئن ذكرتم» جواب عن قوله: ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾ أي أتفعلون بنا ذلك وإن ذكرتم أي وعظتم بالله وبين لكم الأمر بالمعجز والبُرْهان «بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ» مشركون مجاوزون حيث تجعلون ما يُتَبرَّكُ به يتشاءم بِهِ وتقصدون إيلام من يجب إكرامه، أو مسرفون حيث تكفرون ثم تُصِرُّونَ بعد ظهور الحق بالمُعْجِزة والبُرهان.
فإن قيل: (بل) للإضراب فما (الأمر) المضروب عنه؟
فالجواب: يحتمل أن يقال قوله: أَئِنْ ذُكِّرتم واردة على تكذيبهم فإنهم قالوا: نحن كاذبون وإن جئنا بالبرهان لا بل قوم مسرفون. ويحتمل أن يقال: أنحن مشؤومون وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه لا بل أنتم قوم مسرفون. ويحتمل أن يقال: أنحن مستحون الرجم والإيلام وإن بينا صحَّةَ ما أتينا به لا بل أنتم قوم مسرفون.

فصل


ذكر المفسرون أن عيى - عليه (الصلاة و) السلام - بعث رجلين إلى أهل أنطاكية فَدَعَوَا إلى توحيد الله وأظهرا المعجزة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فحبسهم الملك فأرسل بعدهما شمْعُون، فأتى الملك، ولم يدع الرسالة وقرب نفسه من الملك بحسن التدبير، ثم قال: إني أسْمَعُ (أنَّ) في الحبس رَجُلَيْنِ يَدِّعيَا (نِ) أمراً بديعاً أفلا يحضران نسمع كلامهما؟ فقال الملك: بلى فأحضرا وذكرا مقالتهما الحقَّةَ فقال شمعون: وهل لكما بيِّنَةٌ؟ قالا: نعم فأبرءا الأكمه والأبرص وأَحْيَيا الموتى. فقال شمعون: يا أيها الملك: إن شئت أن تَغْلِبَهم فقل للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئاً من ذلك فقال له الملك أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم فقال شمعون: فَإذَنْ ظهر لي الحق من جانبهم فآمن الملك (وقوم) وكفر آخرون. وكانت الغلبة للمكذبِينَ.
189
قوله :﴿ إِذْ أَرْسَلْنَآ ﴾ بدل من «إذ » الأولى١، كأنه قال : اضْرب لهم مثلاً إذ أرسلنا إلى أصحاب القرية اثنين. قال ابن الخطيب : والأصح الأوضح أن يكون «إذا » ظرفاً والفعل الواقع فيه «جَاءَها »، أي جاءها المرسلون حينَ أرْسَلْنَاهُمْ إلَيْهِمْ٢.
وإنما جاءوهم حيث أمروا. وهذا فيه لطيفة أخرى وهي أن في القصة أن الرسلَ كانوا مبعوثين من جهة عيسى - عليه ( الصلاة٣ و ) السلام- أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى : إرسال عيسى ( عليه٤ السلام- ) هو إرسالنا رسول رسول الله بإذن الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا رُسُلَ الرسل وإنما هم رُسُلُ الله، فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله :﴿ إِذْ أَرْسَلْنَآ ﴾. ويؤيد هذا مسألة فِقْهِيَّةٌ وهي أن وَكيلَ الوكيل بإذن الموكل وَكيلُ المُوَكّل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل ( الأول )٥. وهذا على٦ قولنا :«واضرب لهم مثلاً » ضرب المثل لأجل محمد - عليه الصلاة والسلام - ظاهر وقوله :«إذ أرسلنا إليهم اثنين » في بعثة٧ الاثْنَيْنِ حكمةٌ بالغة وهي أنهما٨ كانا مبعوثين٩ من جهة عيسى عليه ( الصلاة١٠ و ) السلام- ( بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى عليه الصلاة والسلام )١١ فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قَوْلُهُمَا على قومهما عند عيسى حجَّةً تامة١٢.

فصل


قال ابن كثير : وروى ابن إسحاق عن ابن عباس وكعب الأحْبار ووهب بن منبّه ورُوِيَ عن بُريدةَ بْنِ الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري أن هذه القرية أنطاكية وكان اسم ملكها انطيخش، وكان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صَادِق وصَدُوق وسلومُ فكذبهم وهذا ظاهر ( ه )١٣ أنهم رسل الله - عز وجل - وزعم قتادة أنهم كانوا رسلاً من عند المسيح وكان١٤ اسم الرسولين الأولين شمْعون ويوحَنّا واسم الثالث بُولص١٥ والقرية أنطاكية. وهذا القول ضَعِيف جداً ؛ لأن أهل أنطاكية لما بَعث إليهم المسيحُ ثلاثةً من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت، ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فيها مباركة النصارى وهي أنطاكية والقدس واسكندرية رومية، ثم بعدها قسطنطينية، ولم يهلكوا ( إذ )١٦ أهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا لقول الله تعالى :﴿ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ﴾ [ يس : ٢٩ ] لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورة في القرآن بعثوا لأهل١٧ أنطاكية قديماً فكذبوهم فأهلكهم الله ثم عُمِّرت بعد ذلك فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله فيجوز. والله أعلم.
قوله :﴿ فَعَزَّزْنَا ﴾ قرأ أبو بكر بتخفيف الزاي بمعنى غَلَبْنا، ومنه :﴿ وَعَزَّنِي فِي الخطاب ﴾ [ ص : ٢٣ ] ومنه قولهم : عَزَّ وبَزَّ١٨ أي صا له بَزّ.
والباقون بالتشديد بمعنى قَوَّيْنَا١٩، يقال : عَزَّز المَطَرُ الأَرْضَ أي قواها ولَبدها، ويقال لِتِلْكَ الأرْضِ العَزاء وكذا كل أرض صُلْبَة. وتعَزَّزَ لَحْمُ النَّاقَة أي صلُبَ وقَوِيَ٢٠. وعلى كلتا القراءتين المفعول محذوف٢١ أي فَقَوّيناهما ( أو فغلبناهما بثالث )٢٢ ؛ لأن المقصود من البعثة نُصرة الحق، لا نصرتهما، والكل كانوا مقوين للدين والبرهان.
وقرأ عبد الله٢٣ «بالثُّالثِ » بألفٍ ولام٢٤.
قوله :﴿ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُون ﴾ جرد خبر «إنّ » هذه من لام التوكيد، وأدخلها في خبر الثانية، لأنهم في الأولى استكملوا مجرد الإنكار فقابلتهم الرسل بتوكيد واحد وهو الإتيان ب «إنَّ » وفي الثانية بالَغُوا في الإنكار فقابلتهم ( الرسل ) بزيادة التأكيد، فأتوا ب «إنَّ » وب «اللاَّم ».
قال أهل البيان : الأخبار ثلاثة أقسام : ابتداءٌ وطلبيُّ وإنكاريُّ.
فالأول :( يقال )٢٥ لمن لم يتردد في نسبة أحد الطرفين إلا الآخر نحو : زَيْدٌ عَارَفٌ.
والثاني : لمن هو متردد في ذلك طالبٌ له منكِرٌ له بعض إنكار فيقال له : إنَّ زَيْداً عَارِفٌ.
والثالث : لمن يبالغ في إنكاره فيقال له : إنَّ زَيْداً لَعاَرِفٌ٢٦. ومن أحسن ما يحكى أن رجلاً جاء إلى أبي العباس٢٧ الكِنْديِّ فقال : يا أبا العباس : إني لأجدُ في كلام العرب حشواً. قال : وما ذاك ؟ قال : يقولون زُيْدٌ قَائِمٌ، وإنَّ زَيْداً لَقَائمٌ، فقال : كلاَّ، بل المعاني مختلفة، «فعبد الله قائم » إخبار بقيامه، و «إنَّ عبد الله قائمٌ » جواب لسؤال سائل و «إنَّ عبد الله لقائمٌ » جواب عن إنكار مُنْكِر٢٨ وهذا هو الكندي الذي سئل أن يعارض القرآن ففتح المصحف فرأى سورة المائدة٢٩. وقال أبو حيان : وجاء أولاً «مرسلون » بغير لام، لأنه ابتداء إخْبار، فلا يحتاج إلى توكيد، وبعد المجاورة «لَمُرْسَلُونَ » بلام التوكيد، لأنه جواب عن إنكارٍ٣٠.
قال شهاب الدين :«وهذا قصور عن فهم ما قاله أهل البيان، فإنه جعل المقام الثاني - وهو الطلبي - مقام المقام الأول وهو الابتدائي »٣١.
١ التبيان ١٠٧٩ والرازي ٢٦/٥١ والسمين ٤/١٩..
٢ فيه أي لم يكن مجيئهم من تلقاء أنفسهم وإنما... الخ.... وانظر الرازي ٢٦/٥٠..
٣ زيادة من "ب"..
٤ سقط من "ب"..
٥ سقط من "ب"..
٦ في "ب" وعلى هذا قولنا..
٧ في "ب" بعثته..
٨ وفيها: إنما..
٩ وفيها: كانوا..
١٠ زيادة من "ب"..
١١ ما بين القوسين كله على العكس ساقط من "ب"..
١٢ انظر: تفسير الرازي ٢٦/٥١..
١٣ الهاء زيادة من "أ" الأصل..
١٤ في "ب" وأن اسم الرسولين الأولين بلفظ "أن". وانظر: تفسير الحافظ ابن كثير ٣/٥٦٦ و٥٦٧..
١٥ وفي "ب" يونس وانظر: زاد المسير لابن الجوزي ٧/١٠. وصادق وصدوق قول ابن عباس وكعب. ويوحنا وبولس قول وهب وتومان وبولس قول مقاتل. انظر: المرجع السابق وجامع البيان ٢٢/١٠١..
١٦ سقط من "ب"..
١٧ في "ب" إلى أنطاكية..
١٨ ذكر هذا المثال الميداني في مجمع أمثاله ٤/٢٨٢ أي من غلب سلب وانظر أيضا حجة ابن خالويه ٢٩٨ واللسان "عزز وبزز" ومعاني الزجاج ٤/٢٨٢..
١٩ في "ب" قريبا وهو تحريف..
٢٠ اللسان :"ع ز ز" ومجاز القرآن ٢/١٥٨..
٢١ هذا قول أبي البقاء في التبيان ١٠٧٩ ومكي في الكشف ٢/٢١٥٤..
٢٢ ما بين القوسين زيادة من "أ"..
٢٣ ابن مسعود رضي الله عنه وقد مر التعريف به..
٢٤ أول الفراء في "معاني القرآن" ثالث" بالثالث ورجحها. انظر: معانيه ٢/٢٧٣ ومختصر ابن خالويه ١٢٤ و ١٢٥ وهي شاذة..
٢٥ سقط من "ب"..
٢٦ قال السكاكي: "فكون التركيب تارة غير مكرر مجردا عن لام الابتداء وإن المشبهة والقسم ولامه ونوني التوكيد كنحو: زيد عارف وأخرى مكررا أو غير مجرد نحو عرفت عرفت ولزيد عارف، وإن زيدا عارف، وإن زيدا لعارف، والله لقد عرفت أو لأعرفن". انظر: مفتاح العلوم ٨٠ وإيضاح القزويني ١٦ ودلائل الإعجاز ٣٠٣ و ٣٠٤..
٢٧ هو يعقوب بن إسحاق بن الصباح ينتهي نسبه إلى كندة من قبائل العرب مات سنة ٢٥٢ هـ انظر: أعلام العرب ١٦ و ٤٢..
٢٨ في دلائل الإعجاز وإيضاح القزويني أن المتكلم بهذا هو المبرد عندما سأله الكندي المتفلسف فأجاب المبرد بما ذكره المؤلف أعلى. وانظر: دلائل الإعجاز والإيضاح السابقين..
٢٩ الدر المصون ٤/٥٠٠..
٣٠ البحر المحيط ٧/٣٢..
٣١ الدر المصون ٤/٥٠٠..
قوله :﴿ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ﴾ جعلوا كونهم بشراً مِثلهم دليلاً على عدم الإرسال. وهذا عام في المشركين قالوا في حق محمد عليه ( الصلاة و ) السلام :﴿ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا ﴾ [ ص : ٨ ] وإنما ظنُّوه دليلاً بناء على أنهم لم يعتقدوا في الله الاختيار وإنما قالوا : إنه موجب بالذات وقد استوينا١ في البشرية فلا يمكن ( الرجحان )٢ فرد الله تعالى عليهم بقوله :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]، وبقوله :﴿ الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴾ [ الشورى : ١٣ ] إلى غير ذلك. ثم قالوا :«وَمَا أَنْزَل الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ » وهذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مُتمِّماً لما ذكرو ( ه )٣ فيكون الكل شبهةً واحدة، والمعنى وما أنزل الله إليكم أحداً فكيف صرتم رسلاً ؟ !
والثاني : أن يكون هذا شبهة أخرى مستقلة وهي أنهم لما قالوا : أنتم بشر مثلنا، فلا يجوز رُجْحَانُكم علينا. ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المُرْسَلِين ثم قالوا شبهة أخرى من جهة المرسِل٤ وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئاً في هذا العالم، فإن تصرفه في العالم العلوي فاللَّهُ لم ينزل شيئاً من الأشياء في الدينا فكيف أنزل إليكم ؟ !.
وقوله تعالى :﴿ الرحمن ﴾ إشارة إلى الرد عليهم، لأن الله تعالى لما كان رَحْمنَ الدُّنْيَا، والإرسال رحمة فيكف لا ينزل رحمته وهو رَحْمن ؟ ! ثم قال :«إنْ أَنْتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ » أي ما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون٥. «إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِم اثْنَيْنِ » قال وهب : اسمهما يحيى٦ وبولس «فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا » برسول «ثَالِثٍ » وهو شمعون. وقال كعب : الرسولان صَادِق وصدوق والثالث سلوم. وإنما أضاف الله الإرسال إليه، لأن عيسى عليه ( الصلاة و ) السلام - إنما بعثهم بأمره -عز وجل-.
١ في "ب" استويا وما هو أعلى يوافق ما في الرازي..
٢ سقط من "ب"..
٣ الهاء زيادة من "أ"..
٤ في "ب" الرسل..
٥ في "ب" تزعمونه. وانظر: تفسير العلامة الرازي ٢٦/٥٢..
٦ رواه النقاش فيما نقله عنه القرطبي في الجامع ١٥/١٤ وانظر أيضا زاد المسير ٧/١٠..
قوله :﴿ قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴾ وهذا إشارة إلى أنهم بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا بل أعادوا ذلك لهم، وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين. ﴿ قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴾ وأكدوه باللام لأن علم الله يجري مَجْرَى القسم، كقوله :
﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ] أي هو عالم بالأمور
«وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاَغُ المُبِينُ »، وذلك تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا عن عُهْدَةِ ما علينا وهو البَلاَغ١. وقوله «المبين » أي المبين الحق عن الباطل وهو الفارق بالمعجزة والبُرهان٢ ؛ إذ البلاغ المظهر لما أرسلنا إلى الكل أي لا يكفي أن يبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين. أو المظهر للحق بكل ما يمكن فإذا لم يقبلوا الحق فهنالك الهلاك فما كان جوابهم بعد ذلك إلا قولهم :«إنا تَطَيَّرْنا بِكُمْ » أي تَشَاءمنا بكُمْ وذلك أن المطر حُبِسَ عنهم فقالوا أصابنا هذا بشؤمِكُمْ «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمنَّكُمْ » لنقتلنّكم٣. قاله قتادة.
وقيل : لنشتمنّكم٤. «وليمسنكم منا عذاب أليم » فإن فسرنا الرجم بالحجارة فيكون قولهم :«وليمسنكم منا عَذَابٌ أَلِيمٌ » كأنهم قالوا : لا نكتفي برجمكم بحجر أو حجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم أو يكون المراد : ولَيَمسَّنَّكُمْ بسبب الرجم منَّا عذاب أليم أي مُؤْلِم.
وإن قلنا : الرجم الشتم فكأنهم قالوا ولا يكفينا الشتم بل شتم يؤدي إلى الضرب والإيلام الحِسِّيِّ. وإذا فسرنا «أليم » بمعنى مؤلم فالفَعِيلُ٥ بمعنى مُفْعِل قليلٌ٦.
ويحتمل أن يقال : هو من باب قوله :﴿ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٢١ ] أي ذاتِ رِضَا أي٧ عذابٌ ذُو ألَمٍ٨، فيكون فعيل بمعنى فَاعِلٍ وهو كثيرٌ٩.
١ في "ب" الإبلاغ وكلاهما صحيحان..
٢ في "ب" والبلاغ..
٣ قاله الزجاج والفراء في معانيهما. الأول في ٤/٨٢ والثاني في ٢/٣٧٤..
٤ هذا قول الرازي في تفسيره ٢٦/٥٣..
٥ في "ب" فالفعل تحريف..
٦ وفيها دليل بدل قليل وهو تحريف..
٧ في "ب" "أو" تحريف..
٨ "أليم" هنا صفة مشبهة على زنة فعيل، فإذا قصد النص على حدوث الصفة فإن كانت من الثلاثي أتى بها على فاعل فنقول في حسن وفرح حاسن وفارح، وإن كانت من الثلاثي على فاعل في الأصل كطاهر وفاره أو كانت من غير الثلاثي اكتفي في دلالتها على الحدوث بتقييدها بأحد الأزمنة، فنقول: طاهر الآن ومبتهج أمس. ومن مجيء الصفة على فاعل قول الشاعر:
وما أنا من رزء وإن جل جازع ولا بسرور بعد موتك فارح.

٩ إذا كان الفعل على وزن فعل –بكسر العين- فاسم الفاعل منه قياسا على وزن فاعل إن كان الفعل متعديا فإن كان لازما أو كان الفعل على فعل- بضم العين فلا يجيء اسم الفاعل على فاعل إلا سماعا. أما إذا كان على وزن فعل بفتح العين –فيجيء من الثلاثي هذا على وزن فاعل سواء أكان متعديا أم لازما. وألم فعل لازم قال ابن منظور في اللسان: "أ ل م" وقد ألم الرجل يألم ألما فهو ألم، قال: والعذاب الأليم الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ وإذا قلت: عذاب أليم فهو بمعنى مؤلم "مفعل". انظر: التبيان في تصريف الأسماء ٧٧. وشرح ابن عقيل ٣١٨ و ٣١٩ واللسان: "أ ل م" بتصرف..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:«وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاَغُ المُبِينُ »، وذلك تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا عن عُهْدَةِ ما علينا وهو البَلاَغ١. وقوله «المبين » أي المبين الحق عن الباطل وهو الفارق بالمعجزة والبُرهان٢ ؛ إذ البلاغ المظهر لما أرسلنا إلى الكل أي لا يكفي أن يبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين. أو المظهر للحق بكل ما يمكن فإذا لم يقبلوا الحق فهنالك الهلاك فما كان جوابهم بعد ذلك إلا قولهم :«إنا تَطَيَّرْنا بِكُمْ » أي تَشَاءمنا بكُمْ وذلك أن المطر حُبِسَ عنهم فقالوا أصابنا هذا بشؤمِكُمْ «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمنَّكُمْ » لنقتلنّكم٣. قاله قتادة.
وقيل : لنشتمنّكم٤. «وليمسنكم منا عذاب أليم » فإن فسرنا الرجم بالحجارة فيكون قولهم :«وليمسنكم منا عَذَابٌ أَلِيمٌ » كأنهم قالوا : لا نكتفي برجمكم بحجر أو حجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم أو يكون المراد : ولَيَمسَّنَّكُمْ بسبب الرجم منَّا عذاب أليم أي مُؤْلِم.
وإن قلنا : الرجم الشتم فكأنهم قالوا ولا يكفينا الشتم بل شتم يؤدي إلى الضرب والإيلام الحِسِّيِّ. وإذا فسرنا «أليم » بمعنى مؤلم فالفَعِيلُ٥ بمعنى مُفْعِل قليلٌ٦.
ويحتمل أن يقال : هو من باب قوله :﴿ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٢١ ] أي ذاتِ رِضَا أي٧ عذابٌ ذُو ألَمٍ٨، فيكون فعيل بمعنى فَاعِلٍ وهو كثيرٌ٩.
١ في "ب" الإبلاغ وكلاهما صحيحان..
٢ في "ب" والبلاغ..
٣ قاله الزجاج والفراء في معانيهما. الأول في ٤/٨٢ والثاني في ٢/٣٧٤..
٤ هذا قول الرازي في تفسيره ٢٦/٥٣..
٥ في "ب" فالفعل تحريف..
٦ وفيها دليل بدل قليل وهو تحريف..
٧ في "ب" "أو" تحريف..
٨ "أليم" هنا صفة مشبهة على زنة فعيل، فإذا قصد النص على حدوث الصفة فإن كانت من الثلاثي أتى بها على فاعل فنقول في حسن وفرح حاسن وفارح، وإن كانت من الثلاثي على فاعل في الأصل كطاهر وفاره أو كانت من غير الثلاثي اكتفي في دلالتها على الحدوث بتقييدها بأحد الأزمنة، فنقول: طاهر الآن ومبتهج أمس. ومن مجيء الصفة على فاعل قول الشاعر:
وما أنا من رزء وإن جل جازع ولا بسرور بعد موتك فارح.

٩ إذا كان الفعل على وزن فعل –بكسر العين- فاسم الفاعل منه قياسا على وزن فاعل إن كان الفعل متعديا فإن كان لازما أو كان الفعل على فعل- بضم العين فلا يجيء اسم الفاعل على فاعل إلا سماعا. أما إذا كان على وزن فعل بفتح العين –فيجيء من الثلاثي هذا على وزن فاعل سواء أكان متعديا أم لازما. وألم فعل لازم قال ابن منظور في اللسان: "أ ل م" وقد ألم الرجل يألم ألما فهو ألم، قال: والعذاب الأليم الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ وإذا قلت: عذاب أليم فهو بمعنى مؤلم "مفعل". انظر: التبيان في تصريف الأسماء ٧٧. وشرح ابن عقيل ٣١٨ و ٣١٩ واللسان: "أ ل م" بتصرف..

ثم أجابهم المرسلون فقالوا «طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ » أي شؤمكم معكم، أي كُفْركُمْ.
قوله :«طائركم » العامة على «طائِر » اسم فاعل أي ما طَارَ لكم من الخير والشر، فعبر به عن الحظ والنصيب وقرأ الحسن- فيما روى عنه الزمخشري١ -«اطَّيْرُكُمْ » مصدر اطَّيَّرَ الذي أصله تَطَيَّرَ، فلما أريد إدغامه أبدلت الفاء٢ طاء وسكنت واجتلبت همزة الوصل وصار اطَّيَّر، فيكون مصدره «اطَّيَّاراً ».
ولما ذكر أبو حيان هذا لم يرد عليه وكان ( هو )٣ في بعض ما رد به على ابن مالك في شرح التسهيل في باب المصادر٤ أن مصدر «تَطَيَّر وتَدَارأ » إذا أدغما وصار «اطَّيَّر وادَّارأ » لا يجيء مصدرهما عليهما، بل على أصلهما، فيقال : اطَّيَّر تَطَيُّراً، وادَّارأَ تَدَارُءاً. ولكن هذه القراءة تَردُّه إنْ صحت. وهو بعيدٌ٥.
وقد روى غيره طَيْرُكُمْ بياء ساكنة٦. ويغلب على الظن أنها هذه. وإنما تصحفت على الراوي فحسبها مصدراً وظن أن ألف «قالوا » همزةُ وَصْلٍ.
قوله :﴿ أَإِن ذُكِّرْتُم ﴾ قرأ السبعة٧ بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية وهم على أصولهم من التسهيل والتحقيق، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه في سورة ( البقرة )٨. واخْتَلَفَ سيبويه ويونسُ إذا اجتمع استفهام وشرط أَيُّها يُجَابُ ؟ فذهب سيبويه إلى إجابة الاستفهام، ويونُس إلى إجابة الشرط٩.
فالتقدير عند سيبويه أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ تَتَطَيُّرُون وعند يونس تَطَيُّرُوا١٠ مجزوماً.
فالجواب للشرط على القولين محذوف.
وقد تقدم هذا في سورة الأنبياء١١. وقرأ أبو جعفر وطلحة وزِرّ بهمزتين مفتوحتين١٢، إلاَّ أنَّ زِرّاً لم يسهل الثانية، كقوله١٣ :
٤١٧٢- أَإِنْ كُنْتَ بْنَ أَحْوَى مُرَحَّلاً. . . فَلَسْتَ برَاعٍ لابْن عَمِّكَ مَحْرَمَا١٤
وروي عن أبي عمرو وزرِّ أيضاً كذلك، إلا أنهما فصلاً بأَلِفٍ بين الهَمْزَتَين١٥. وقرأ المَاجَشُون١٦ ( بهمزة )١٧ واحدة مفتوحة١٨.
وتخرج هذه القراءات الثلاث على حذف لام العلة أي ( أَ ) لأَنْ ذُكّرْتُمْ تَطَيِّرْتُمْ ف «تطيرتم » هو المعلول، وأن ذكرتم عليته. والاستفهام منسحب عليهما في قراءة الاستفهام. وفي غيرها يكون إخبارا بذلك. وقرأ الحسن بهمزة واحدة مكسورة١٩ وهي شرط من غير استفهام، وجوابه محذوف أيضاً. وقرأ الأعمش والهَمْدَانيُّ أين٢٠ بصيغة الظرف. وهي أين الشرطية وجوابها محذوف عند جمهور البصريين٢١ أي أين ذكرتم فطائركم معكم أو صُحْبَتُكُمْ طائركم، لدلالة ما تقدم من قوله :﴿ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ﴾ ومن يجوز تقديم الجواب لا يحتاج إلى حذف٢٢.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصْمَعِيُّ٢٣ عن نافع ذُكِرْتُمْ بتخفيف الكاف٢٤.

فصل


قوله :«أئن ذكرتم » جواب عن قوله :﴿ لَنَرْجُمَنَّكُمْ ﴾ أي أتفعلون بنا ذلك وإن ذكرتم أي وعظتم بالله وبين لكم الأمر بالمعجز والبُرْهان «بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ » مشركون مجاوزون٢٥ حيث تجعلون ما يُتَبرَّكُ به يتشاءم بِهِ وتقصدون إيلام من يجب إكرامه، أو مسرفون حيث تكفرون ثم تُصِرُّونَ٢٦ بعد ظهور الحق بالمُعْجِزة والبُرهان.
فإن قيل :( بل )٢٧ للإضراب فما ( الأمر ) المضروب عنه ؟
فالجواب : يحتمل أن يقال قوله : أَئِنْ ذُكِّرتم وارد على تكذيبهم فإنهم قالوا : نحن كاذبون وإن جئتنا بالبرهان لا بل قوم مسرفون. ويحتمل أن يقال : أنحن مشؤومون وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه لا بل أنتم قوم مسرفون. ويحتمل أن يقال : أنحن٢٨ مستحقون الرجم والإيلام وإن بينا صحَّةَ ما أتينا به لا بل أنتم قوم مسرفون٢٩.

فصل


ذكر المفسرون أن عيسى - عليه ( الصلاة و ) السلام - بعث رجلين إلى أهل أنطاكية فَدَعَوَا إلى توحيد الله وأظهرا المعجزة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فحبسهم الملك فأرسل٣٠ بعدهما شمْعُون، فأتى الملك، ولم يدع الرسالة وقرب نفسه من الملك بحسن التدبير، ثم قال : إني أسْمَعُ ( أنَّ )٣١ في الحبس رَجُلَيْنِ يَدِّعيَا ( نِ )٣٢ أمراً بديعاً أفلا يحضران نسمع كلامهما ؟ فقال الملك : بلى فأحضرا وذكرا مقالتهما الحقَّةَ فقال شمعون : وهل لكما بيِّنَةٌ ؟ قالا : نعم فأبرءا الأكمه والأبرص وأَحْيَيا٣٣ الموتى. فقال شمعون : يا أيها الملك : إن شئت أن تَغْلِبَهم فقل للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئاً من ذلك فقال له الملك أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم فقال شمعون : فَإذَنْ٣٤ ظهر لي الحق من جانبهم فآمن الملك ( وقوم )٣٥ وكفر آخرون. وكانت الغلبة للمكذبِينَ٣٦.
١ الكشاف ٣/٣١٨..
٢ أي فاء الكلمة ميزانا طاؤها موزونا. وفي "ب" التاء على أصل المبدل..
٣ سقط من "ب".
وقد قال أبو حيان في البحر: "مصدر اطير الذي أصله تطير فأدغمت التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر" البحر ٧/٣٢٧..

٤ قال: يصاغ المصدر من كل ماض أوله همزة وصل بكسر ثالثه وزيادة ألف قبل آخره ومن كل ماض أوله تاء المطاوعة أو شبهها بضم ما قبل آخره إن صح آخره وإلا خلف الضم الكسر. انظر: التسهيل باب مصادر غير الثلاثي ٢٠٦ وعبارته هنا مطلقة..
٥ قال في شرحه على التسهيل: "أطلق في مكان التقييد، لأنه ليس كل ماض أوله همزة وصل بكسر ثالثه مصدره وتزاد ألف قبل آخره ألا ترى أن تفاعل وتفعل إذا أدغمت فاؤها في الطاء نحو تطير وتطاير فقيل: اطير واطاير يصدق على هذين أنهما فعلان أولهما همزة وصل ومع ذلك مصدرهما لا يكسر ثالثه ولا تزاد ألف قبل آخره بل يقال: اطير يطاير اطايرا واطير اطيرا فكان ينبغي أن يقيد فيقول من كل ماض أوله همزة وصل ليس أصله تفاعل ولا تفعل انظر: التذييل ٦/١١٩..
٦ ذكرها كثانية الزمخشري في الكشاف ٣/٣١٨ كما ذكرها ابن خالويه في مختصره ١٢٥. وأجازه الإمام الفراء لغويا في المعاني ٢/٣٧٤، بينما قال الزجاج: "ويجوز طيركم معكم" لأنه يقال: طائر وطير في معنى واحد. ولا أعلم أحدا قرأ ههنا طيركم بغير ألف. انظر معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٨٢..
٧ الواقع أن فيها سبعة أوجه من القراءات، فقرأ أهل المدينة أين ذكرتم بتخفيف الهمزة الثانية. وقرأ أهل الكوفة أأن بتحقيق الهمزتين. والثالث: آان بهمزتين بينهما ألف أدخلت الألف كراهة للجمع بين الهمزتين الرابع: أاان بهمزة بعدها ألف وبعد الألف همزة مخففة. والخامس: بهمزتين إلا أن الثانية همزة مخففة والسادس: أأن بهمزتين مفتوحتين. والسابع: أين ذكرتم بمعنى حيث. وانظر: إعراب النحاس ٣/٨٨ ومعاني الزجاج ٤/٢٨٢ والسبعة ٥٤٠ ومختصر ابن خالويه ١٢٥ ومعاني الفراء ٢/٣٧٤ والكشاف ٣/٣١٨ والنشر ٢/٣٥٣ والإتحاف ٣٦٤..
٨ سقط من "ب" وهو يشير إلى قوله: "أأنذرتهم" من الآية ٦ منها، وانظر: اللباب ١/٢٧ ب..
٩ عبارة الكتاب توحي بخلاف ما قاله المؤلف فقد قال: "وذلك نحو أإن تأتني آتك ولا تكتفي بمن لأنها حرف جزاء ومتى مثلها فمن ثم أدخل عليه الألف تقول: "أمتى تشتمني أشتمك" و "أمن يفعل ذلك أزره" وذلك لأنك أدخلت الألف على كلام قد عمل بعضه في بعض فلم يغيره. وأما يونس فيقول: "أئن تأتني آتيك" وهذا قبيح يكره في الجزاء وإن كان في الاستفهام" الكتاب ٣/٨٢ و ٨٣..
١٠ في "ب" تطيروا بتاءين..
١١ عند قوله: ﴿أفإن مت فهم الخالدون﴾ ٣٤ منها. وقد نقل أبو حيان نفس المعنى في البحر المحيط حيث ذهب إلى أن إجابة الاستفهام مذهب سيبويه وإجابة الشرط مذهب يونس. انظر البحر ٧/٣٢٧..
١٢ من القراءات الشاذة ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٥ والفراء في معانيه ٢/٣٧٤..
١٣ في "ب" لقوله..
١٤ من الطويل ولم أعرف قائله. وداود بن أحوى اسم رجل. والمرحل: نوع من الثياب والمحرم الحرمة يتنكر منه إساءته إليه. وفي البحر: "بداع" لا براع. وفي السمين: "مراع" واستبعدها للحن النحوي فيه وإن كانت الضرورة تبيح ذلك وعلى كل فلا تباعد بن الروايات فيه. والشاهد "أإن" حيث حقق الهمزتين معا وتحقق التنظير بالآية. انظر: البحر المحيط ٧/٣٢٧ والدر المصون ٤/٥٠٢..
١٥ من الشواذ أيضا انظر: البحر ٧/٣٢٧ ومختصر ابن خالويه ١٢٥..
١٦ يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون وردت عنه الرواية في حروف القرآن مات سنة ١٨٥ هـ انظر: طبقات القراء ٢/٣٢٧..
١٧ سقطت من "أ"..
١٨ شاذة انظر: المحتسب ٢/٢٠٥ والبحر ٧/٣٢٧ والكشاف ٣/٣١٨..
١٩ شاذة أيضا انظر: الكشاف والبحر ومختصر ابن خالويه السابقين..
٢٠ شاذة أيضا وانظر المراجع السابقة والمحتسب ٢/٢٠٥..
٢١ وهذا ما قال به ابن جني حيث قال "أين هنا شرط وجوابها محذوف لدلالة "طائركم" عليه فكأنه: قال: أين ذكرتم أو أين وجدتم وجد شؤمكم معكم وهذا كقولك: سيفك معك أين حللت، وكقولك: أنت ظالم إن فعلت" انظر: المحتسب ٢/٢٠٦..
٢٢ وهذا رأي الكوفيين والمبرد. انظر المقتضب لأبي العباس المبرد ٢/٦٦-٦٩..
٢٣ تقدم..
٢٤ الدر المصون ٤/٥٠٢..
٢٥ نقل القرطبي لها في الجامع عدة معان من ضمن هذه المعاني ما ذكره أعلى انظر: القرطبي ١٥/١٧ والرازي ٢٦/٥٤..
٢٦ في (ب) تصرفون..
٢٧ ما بين الأقواس ساقط من "ب"..
٢٨ في "ب" إنكم تحريف..
٢٩ الرازي ٢٦/٥٣و ٥٤..
٣٠ في "ب" وأرسل..
٣١ ساقط من "ب"..
٣٢ النون ساقطة من "ب"..
٣٣ في "ب" وأحيا بياء واحدة. تحريف..
٣٤ رسمت في "ب" فإذا..
٣٥ سقطت من "ب"..
٣٦ الرازي ٢٦/٥٣ و ٥٤..
قوله: ﴿وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى﴾ في تعلقه بما قبله وجهان:
أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث أمن بهم الرجل الساعي. وعلى هذا فقوله: «مِنْ أَقْصَى المَدِينَة» فيه بلاغة باهرة لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل و (هو) قد آمن دل على (أن) إنذارهم وإبلاغهم بلغ إلى أقصى المدينة.
والثاني: أن ضرب المثل لما كان لتسلية قلب محمد - عليه (الصلاة و) السلام - ذكر بعد الفراغ من ذكر الرسل سعي المؤمنين في تصديق أنبيائهم، وصبرهم على ما أوذوا، ووصول الجزاء الأوفر إليهم ليكون ذلك تسليةً لقلب أصحاب محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
قوله: ﴿رجل يسعى﴾ في تنكير «الرجل» مع أنه كان معروفاً معلوماً عند الله فائدتان:
الأولى: أن يكون تعظيماً (لشأنه) أي رجل كامل في الرجولية.
الثانية: أن يكون مفيداً ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال: إنهم تواطئوا والرجل هو حبيب النَّجار كان ينحت الأصنام. وقال السدي: كان قصاراً وقال وهب: كان يعمل الحرير وكان سقياً قد أسرع فيه الجُذَامُ وكان منزلة عند أقصى باب المدينة وكان مؤمناً آمن بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب الله، ورأى فيه نعت محمد وبعثته وقوله: «يسعى» تصيرٌ للمسلمين وهداية لهم ليبذلوا جَهْدَهم في النُّصْحِ.
قوله: ﴿قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين﴾ تقدم الكلام في فائدة قوله: «يا قوم» عند
190
قوله موسى: ﴿يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤].
فإن قيل: هذا مثل مؤمن آل فرعون ﴿وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم اتبعون﴾ [غافر: ٣٨] وهذا قال: «اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ» فما الفرق؟.
فالجواب: هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم ولم يعلموا سيرته فقال اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السَّبِيلَ وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم ونصحهم مراراً فقال: «اتَّبِعُونِي في الإيمان بمُوسى وهَارُونَ - عليهما (الصلاة و) السلام - واعلموا أنه لو لم يكن خيراًلما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته» ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول: أنتم تعلمون اتّباعي لهم. واعلم أنه جمع بين إظهار النصيحة وإظهار إيمانه فقوله: «اتبعوا» نصيحة وقوله: «المرسلين» إظهار إيمانه وقدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان لأنه كان ساعياً في النصيحة وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله: «يسعى» على إرادته النصح.
قوله: ﴿مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً﴾ بدل من «المرسلين» بإعادة العامل إلا أن أبا حيان قال: النحاة لا يقولون ذلك إلا إذا كان العامل حرف (جر) وإلا فلا يسمونه بدلاً بل تابعاً وكأنه يريد التوكيد اللفظي بالنسبة إلى العامل.

فصل


هذا الكلام في غاية الحسن لأن لما قال اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونَهُمْ مرسلين فنزل درجة وقال لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة الاستقامة والطريق إذا كان فيه دليل وجب اتباعه والامتناع من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين إما لطالب الدليل الأجرة وإما عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريق المستقيمة الموصولة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين أليسوا بمهتدين فاتبعوهم.
قوله: ﴿وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي﴾ أصل الكلام وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عليهم ليكون الكلام أسرع قبولاً ولذلك جاء قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ دون «وإليه أَرْجِعُ» وقوله ﴿أَأَتَّخِذُ﴾ مبني على كلام الأول وهذه الطريقة أحسن من ادِّعاء
191
الالتفات وقرأ حمزةٌ ويعقوبُ ما لي بإسكان الياء والآخرون فتحها واعلم أن قوله: ﴿وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ﴾ أَيْ أيُّ مانع من جانبي وهذا إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه فمن يمنع من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جَرَمَ عبدته وفي العدول من مخاصمة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى وهي أنه لو قال: ما لكم لا تعبدون الذي فطركم «لم يكن في البيان مثل قوله: ﴿وَمَا لِيَ﴾ لأنه لو قال:» وَمَالِي «وأحد لا يخفى عليه (حال) نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعمل بحال نفسه فهو بين عدم المانع وأما لو قال:» وَمَا لَكُمْ «جاز أن يفهم (منه) أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه، وقوله: ﴿الذي فَطَرَنِي﴾ إشارة إلى وجود المقتضي، فإن قوله:» وَمَا لِي «إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضي فقوله: ﴿الذي فَطَرَنِي﴾ دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعمٌ بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته. وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه واختار من الآيات فطرة نفسه لأن خَالِقَ عَمْرو يجب على زيدٍ عبادتُه لأن من خلق عمراً (لا يكون إلا) كامل القدرة واجب فهو مستحق العبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على» زيد «بخلق» زيد «أظهر إيجاباً

فصل


أضافَ الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم كأن الفطرة أثر النعمة وكان عليه أظهر وفي الرجوع معنى الشكر وكان بهم أليق. روي أن لما قال: اتبعوا المرسلين أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له:»
أَفَأَنْتَ تَتَّبِعُهُمْ «؟ فقال: ﴿وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي أي شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم.
ومعنى فطرني: خلفني اخترعاً ابتداء. وقيل جعلني على الفطرة
192
كما قال تعالى: ﴿فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا﴾ [الروم: ٣٠].
قوله: ﴿أَأَتَّخِذُ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، أي لا أتخذ من دونه آلهةً و «مِنْ دُونِهِ» يجوز أن يتعلق «بأَتِّخِذُ» على أنها متعدية لواحد وهو «آلهة» ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «آلهة» وأن يكون مفعولاً ثانياً قدم على أنها المتعدية لاثنين.

فصل


في قوله: «من دونه آلهة» لطيفة وهي أنه لما بين أنه يعبد الذي فطهر بين أن مَنْ دُونَهُ لا يجوز عبادة لأن الكل محتاجٌ مفتقرٌ حادثٌ وقوله: ﴿أَأَتَّخِذُ﴾ إشارة إلى أن غيره ليس بإلَهِ لأن المتخذ لا يكون إلهاً قوله: «إنْ يُرِدْنِي» شرط جوابه «لاَ تُغْنِ عَنِّ» والجملة الشرطية في محل نصب صفة «لآلهةٍ» وفتح طلحة السَّلْمَانِي - وقيل: بِضُمر بمعنى إن يُورِدْنِي ضُرًّا أي يجعله مَوْرداً للضر قال أبو حيان: وهذا والله اعلم رأى في كتب القراءات بفتح الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعدياً بالياء المعدية كالهمزة فلذلك دخل همزة التعدية فنصب به اثنين والذي في كتب القراءات الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطًّا ونطقاً لالتقاء الساكنين قال
193
شهاب الدين: وهذا رجل ثِقَةٌ قد نقل هذا لاقراءة فتقبل منه.
فإن قيل: ما الحِكْمَةُ في قوله ﴿إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ﴾ ولم يقل: إنْ يُرِد الرَّحْمَنُ بِي ضُرًّا وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ [الزمر: ٣٨] ولم يقل: إن أَرَادَ اللُّهُ بي ضُرًّا؟.
فالجواب: أن الفعل إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بالحرف كالأمر تعدى بالحرف في قولهم: ذَهَبَ به وخَرَجَ به. ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولاً بحرف فإذا قال القائل مثلاً: كيف حال فلان؟ يقول: اختصه الملكُ بالكرامة والنعمة. فإذا قال: كيف كرامة الملك؟ يقول: اختصها بزيد فيقول المسؤول مفعولاً بغير حرف؛ لأنه هو المقصود وإذا تقرر هذا فالمقصود فيما نحن فيه: بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البُؤْسِ والرَّخاء وليس الضر مقصود بيانه كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناء على إيمانه بحكم وعد الله ويُؤَيِّد هذا قولُه مِنْ قَبْل: «الَّذِي فَطَرَنِي» حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فلذلك جعلها مفعول الإرادة ووقع الضر تبعاً وكذلك القول في قوله: «إنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بضُرِّ» المقصود بيان أنه يكون كما يريده الله (وليس الضر) لخصوصيته مقصوداً بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال الله تعالى:
﴿سَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: ٣٦] يعني هو تحت إرادتِهِ.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله هنا: «إن يُرِدْني الرحمن» بصيغة المضارع وقال في الزمر: ﴿إِنْ أَرَادَنِيَ الله﴾ [الزمر: ٣٨] بصيغ الماضي وذكر المريد هنا باسم الرحمن وذكر المريد هناك اسم الله؟.
فالجواب أن الماضي والمستقبل مع لاشرط يصير الماضي والمستقبل مع الشرط يصير الماضي مستقبلاً لأن المذكور هنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله: ﴿أَأَتَّخِذُ﴾ وقوله: ﴿وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ﴾ والمذكرو هناك من قبل بصيغة الماضي قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُم﴾ [الزمر: ٣٨].
194
قوله: ﴿لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئا﴾ [يس: ٢٣] أي إن يَمْسَسْنِي اللَّهُ بضرِّ أي بسوء ومكروه لا تُغْنِ شفاعتهم شيئاً أي لا شفاعة لها فتغني «ولا يُنْقِذُونِ» من ذلك المكروه أو لا ينقذون من العذاب لو عذبني الله إن فعلت ذلك. قوله تعالى: ﴿إني إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي خطأ ظهار إن فعلت ذلك فأنا ضالٌّ ضلالاً بيناً. و «المُبِينُ» مُفْعِل بمعنى «فَعِيل» وعكسه «فَعِيلٌ» بمعى مُفْعِل في قوله «أليم» بمعنى مؤلم.
قوله: ﴿إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ﴾ فيه وجوه:
أحدها: أنه خطاب المرسلين. قال المفسرون: أقبل القوم عليه يريدون قلته فأقبل هو للمرسلين وقال: إنِّي آمن بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُوا قولي واشهدوا لي.
والثاني: هم الكفار لمَّا نصحهم وما نفعهم قال آمنت فاسمعون.
الثالث: بركم أيها السامعون فاسمعوني على العموم كقول الواعظ: يا مِسْكينُ ما أَكْثَرَ أَمَلَك (وما أتْرَرَ عَمَلَك «يريد كل سامع يسمعه وفي قوله» فَاسْمَعُونَ «فوائد منها: أنه كلام متفكر حيث قال: اسمعوا فإن المتكلم إذا كان يعمل أن لكلامه جماعةً سامعين يتفكر، ومنها أن ينبه القوم ويقول: إن أخبرتكم بما فعلت حتى لا يقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرته لآمنا معك.
فإن قيل: قال من قبل: مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الِّذي فطرني، وقال ههنا: آمنتُ بربكم ولم يقل: آمن بربي!؟ فالجواب: إن قلنا: الخطاب مع الرسل فالأمر ظاهر لأنه لما قال: آمنتُ برَبِّكُمْ ظهر عند الرسل أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه وقال»
بِرَبِّكُمْ «وإن قلنا: الخطابُ مع الكفار ففيه (وجوه) بيان للتوحيد لأنه لما قال:» أعبد الذي فطرني «ثم قال:» آمنت بربكم فاسمعون «فُهِمَ أنه يقول: ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم بخلاف ما لو قال: آمن بربي فيقول الكافر: وأنا أيضاً آمنت بربي.
قوله: ﴿فاسمعون﴾ العامة على كسر النون وهي نون الوقاية حذفت بعدها ياء الإضافة مُجتزءاً عنْهَا بكسرة النون وهي اللغة الغالية. وقرأ عِصْمَةُ عن عصم
195
بفتحها وليست إلا غلط (على عاصم)، إذ لا وجه (لها) وقد وقع لابن عطية وَهَمٌ فاحش في ذلك فقال: وقرأ الجمهور بفتح النون وقال أبو حاتم: هذا خطأ فلا يجوز لأنه أمر فإما حذف النون وإما كسرها على جهة الياء عين ياء المتكلم، وقد يكون قوله:» الجمهور «سبقَ قلم منه أو من النساخ وكان الأصل: وقرأ غيرُ الجمهور فسقط لفظة» غيره « (و) قال ابن عطية حذف من الكلام ما تواترت الأخبار والروايات به وهو أنهم قتلوه فقيل له عند موته: ادْخُلِ الجَنَّة بَعْدَ القتل وقيل: قوله: (قِيلَ) ادخل الجنة عطف على قوله: ﴿آمَنتُ بِرَبِّكُمْ﴾ فعلى الأول يكون قوله: ﴿ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ بعد موته والله أخبر بقوله، وعلى الثاني قال ذلك في حياته وكان يسمع الرسل يقولون إنه من الداخلين الجنة وصدقهم وقعطع به.
قوله: (قَال) يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ «كما علمت فيؤمنون كما آمنت وقال الحسن خرقوا خرقاً في حَلْقِهِ وعلقوه في سرو المدينة وقره بأنطاكية فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق، فذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ:»
قِيلَ ادْخُل الجَنَّة «فلما أقضى إلى الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي أي بغرانربي لي وجعلين من المكرمين. قوله: ﴿بِمَا غَفَرَ لِي﴾ يجوز في (ما) هذه ثلاثة أوجه: المصدرية كما تقدم والثاني: أنها بمعنى الذي والعائد محذوف أي بالذي غفره لي ربي واسْتُضْعِفَ هذا من حيث إنه يبقى معناه أنه تمنى أن يعمل قومه بذنبوه المغفورة. ولي المعنى على ذلك إنما المعنى على تَمَنِّي علمهم بغفران رَبِّه ذُنُوبَه والثالث: أنها استفهامية وإليْهِ ذَهَبَ الفرّاء ورده الكسائي بأنه كان
196
ينبغي حذف ألها لكونها مجرورة وهو رد صحيح وقال الزمخشري الأجود وطرح الألف والمشهور من مذهب البصريين وجوب حذف ألها كقوله:
٤١٧٣ - (عَلاَمَ يقُولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ عَاتِقِي إِذَا أَنَا لَمْ أَطْعُنْ إذَا الخَيْلُ كَرَّتِ
إلاَّ في ضرورة كقول الشاعر).
٤١٧٤ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئيمٌ كَخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادٍ
وقرئ من المكرمين بتشديد الراء.
197
قوله :﴿ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً ﴾ بدل من «المرسلين » بإعادة العامل٤ إلا أن أبا حيان قال : النحاة لا يقولون ذلك إلا إذا كان العامل حرف ( جر )٥ وإلا فلا يسمونه بدلاً بل تابعاً وكأنه يريد التوكيد اللفظي بالنسبة إلى العامل.

فصل


هذا الكلام في غاية الحسن لأن لما قال اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونَهُمْ مرسلين فنزل درجة وقال لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة الاستقامة والطريق إذا كان فيه دليل وجب اتباعه والامتناع٦ من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين إما لطالب الدليل الأجرة وإما عدم٧ الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريق المستقيم الموصلة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين أليسوا٨ بمهتدين فاتبعوهم.
٤ قاله شهاب الدين السمين في الدر ٤/٥٠٣..
٥ سقط من "ب"..
٦ كذا هي في الرازي وفي "ب" الاتساع خطأ..
٧ في "ب" عند الاعتماد والأصح كما في الرازي عند عدم الاعتماد..
٨ في "ب" ليسوا بدون همزة..
قوله :﴿ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي ﴾ أصل الكلام وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عليهم ليكون الكلام أسرع قبولاً ولذلك جاء قوله :﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ دون «وإليه أَرْجِعُ »
وقوله ﴿ أَأَتَّخِذُ ﴾ مبني على كلام١ الأول وهذه الطريقة أحسن من ادِّعاء الالتفات٢، وقرأ حمزةٌ ويعقوبُ ما لي بإسكان الياء والآخرون بفتحها٣. واعلم أن قوله :﴿ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ﴾ أَيْ أيُّ٤ مانع من جانبي وهذا إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه فمن يمنع٥ من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جَرَمَ عبدته وفي العدول من مخاصمة٦ القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى وهي أنه لو قال : ما لكم لا تعبدون الذي فطركم » لم يكن في البيان مثل قوله :﴿ وَمَا لِيَ ﴾ لأنه لو قال :«وَمَا لِي » وأحد لا يخفى عليه ( حال )٧ نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعلم بحال نفسه فهو بين عدم المانع وأما لو قال :«وَمَا لَكُمْ » جاز أن يفهم ( منه )٨ أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه. وقوله :﴿ الذي فَطَرَنِي ﴾ إشارة إلى وجود المقتضي، فإن قوله :«وَمَا لِي » إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل٩ ما لم يوجد المقتضي، فقوله :﴿ الذي فَطَرَنِي ﴾ دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعمٌ بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته. وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم المقتضي١٠ لأن المقتضي لظهوره كأن مستغنيا عن البيان فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه واختار من الآيات فطرة نفسه لأن خَالِقَ عَمْرو يجب على زيدٍ عبادتُه لأن من خلق عمراً ( لا يكون١١ إلا ) كامل القدرة واجب الوجود فهو مستحق العبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على «زيد » بخلق «زيد » أظهر إيجاباً١٢

فصل


أضافَ الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم كأن١٣ الفطرة أثر النعمة وكان عليه أظهر وفي الرجوع معنى الشكر وكان بهم أليق. روي أنه لما قال : اتبعوا المرسلين أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له :«أَفَأَنْتَ تَتَّبِعُهُمْ » ؟ فقال :﴿ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾١٤ أي أي شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم.
ومعنى فطرني : خلقني اختراعاً ابتداء. وقيل : جعلني على الفطرة كما قال تعالى :﴿ فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا ﴾ [ الروم : ٣٠ ].
قوله :﴿ أَأَتَّخِذُ ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، أي لا أتخذ من دونه آلهةً و «مِنْ دُونِهِ » يجوز أن يتعلق «بأَتِّخِذُ » على أنها متعدية لواحد وهو «آلهة » ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «آلهة »١٥ وأن يكون مفعولاً ثانياً١٦ قدم على أنها المتعدية لاثنين١٧.

فصل


في قوله :«من دونه آلهة » لطيفة وهي أنه لما بين أنه يعبد الذي فطره بين أن مَنْ دُونَهُ لا يجوز عبادته لأن الكل محتاجٌ مفتقرٌ حادثٌ وقوله :﴿ أَأَتَّخِذُ ﴾ إشارة إلى أن غيره ليس بإلَهِ لأن المتخذ لا يكون إلهاً١٨ قوله :«إنْ يُرِدْنِي » شرط جوابه «لاَ تُغْنِ عَنِّي »١٩ والجملة الشرطية في محل نصب صفة «لآلهةٍ »٢٠. وفتح طلحة السَّلْمَانِي٢١ - وقيل : طلحة بن مصرف٢٢- ياء المتكلم٢٣. وقال الزمخشري وقرىء : إن يردني الرحمن بِضُر بمعنى إن يُورِدْنِي٢٤ ضُرًّا أي يجعله٢٥ مَوْرداً للضر٢٦. قال أبو حيان : وهذا والله أعلم رأى في كتب القراءات بفتح الياء فتوهم أنها ياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعدياً بالياء المعدية٢٧ كالهمزة٢٨ فلذلك أدخل همزة التعدية فنصب به اثنين والذي في كتب القراءات الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطًّا ونطقاً لالتقاء الساكنين٢٩ قال شهاب الدين : وهذا رجل ثِقَةٌ قد نقل هذا القراءة فتقبل منه٣٠.
فإن قيل : ما الحِكْمَةُ في قوله ﴿ إِن يُرِدْنِي الرحمن بِضُرٍّ ﴾ ولم يقل : إنْ يُرِد الرَّحْمَنُ بِي ضُرًّا وكذلك قوله تعالى :﴿ إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ﴾ [ الزمر : ٣٨ ] ولم يقل : إن أَرَادَ اللُّهُ بي ضُرًّا ؟.
فالجواب : أن الفعل إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بالحرف كالأمر٣١ تعدى بالحرف٣٢ في قولهم : ذَهَبَ به وخَرَجَ به. ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولاً بحرف فإذا قال القائل مثلاً : كيف حال٣٣ فلان ؟ يقول : اختصه الملكُ بالكرامة والنعمة. فإذا قال : كيف كرامة الملك ؟ يقول : اختصها بزيد فيقول٣٤ المسؤول مفعولاً٣٥ بغير حرف ؛ لأنه هو المقصود. وإذا تقرر هذا فالمقصود فيما نحن فيه : بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البُؤْسِ والرَّخاء٣٦ وليس الضر مقصود بيانه كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناء على إيمانه بحكم وعد الله. ويُؤَيِّد هذا قولُه مِنْ قَبْل :«الَّذِي فَطَرَنِي » حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فلذلك جعلها مفعول الإرادة ووقع الضر٣٧ تبعاً. وكذلك القول في قوله :«إنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بضُرِّ » المقصود بيان أنه يكون كما يريده٣٨ الله ( وليس٣٩ الضر ) لخصوصيته مقصوداً بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال الله تعالى :
﴿ أليسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [ الزمر : ٣٦ ] يعني هو تحت إرادتِهِ.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله هنا :«إن يُرِدْني الرحمن » بصيغة المضارع وقال في الزمر :﴿ إِنْ أَرَادَنِيَ الله ﴾ [ الزمر : ٣٨ ] بصيغة الماضي وذكر المريد هنا باسم الرحمن وذكر المريد هناك باسم الله ؟.
فالجواب أن الماضي والمستقبل مع الشرط يصير الماضي مستقبلاً لأن المذكور هنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله :﴿ أَأَتَّخِذُ ﴾ وقوله :﴿ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ﴾ والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي قوله :﴿ أَفَرَأَيْتُم ﴾ [ الزمر : ٣٨ ].
قوله :﴿ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئا ﴾ [ يس : ٢٣ ] أي إن يَمْسَسْنِي اللَّهُ بضرِّ أي بسوء ومكروه لا تُغْنِ شفاعتهم شيئاً أي لا شفاعة لها فتغني «ولا يُنْقِذُونِ » من ذلك المكروه أو لا ينقذون من العذاب لو عذبني الله إن فعلت ذلك.
١ في "ب" كلامه وانظر: الكشاف ٣/٣١٩..
٢ وانظر: البحر ٧/٣٢٨ والدر المصون ٤/٥٠٣..
٣ الإتحاف ٣٦٤ وهي من الربع فوق العشرة المتواترة..
٤ في الرازي: "ما لي مانع من جانبي"..
٥ في "ب" يمتنع..
٦ في الرازي: عن مخاطبة..
٧ ساقطان من "ب"..
٨ ساقطان من "ب"..
٩ في "ب" العقل. خطأ..
١٠ وانظر في هذا كله تفسير الإمام الفخر ٢٦/٥٥و ٥٦..
١١ ما بين القوسين سقط من "ب" وفي "ب": لأن من خلق عمرو كامل. بالإثبات..
١٢ انظر: المرجع السابق ٢٦/٥٦..
١٣ في "ب" لأن الفطرة..
١٤ سقط من "ب" وانظر: القرطبي ١٥/١٩ وزاد المسير ٧/١٣..
١٥ أي كائنة أو موجودة..
١٦ أي أأتخذ آلهة موجودة من دونه. " فمن دونه" تكميل "لموجودة" التي هي المفعول الثاني أصلا..
١٧ وبعضهم أنكر أن تنصب "تخذ واتخذ وترك" مفعولين وقال: إنما يتعدى إلى واحد والمنصوب الثاني حال ومن أمثلتها "لاتخذن عليه أجرا" و "اتخذ الله إبراهيم خليلا". وانظر: الدر المصون ٤/٥٠٩ وهمع السيوطي ١/١٥٠..
١٨ قاله الإمام الفخر الرازي ٢٦/٥٧..
١٩ قال في التبيان ١٠٨٠ والإعراب للنحاس ٣/٣٨٩ والدر للسمين ٤/٥٠٩..
٢٠ الدر المصون السابق..
٢١ تصحيحه كما في كتب تراجم القراء: السمان. وهو طلحة بن سليمان مقرىء متصدر أخذ القراءة عن فياض بن غزوان عن طلحة بن مصرف وله شواذ تروى عنه. روى عنه القراءة إسحاق بن سليمان أخوه. انظر: غاية النهاية ١/٣٤١..
٢٢ كما في كتاب الشواذ لابن خالويه ١٢٥..
٢٣ المرجع السابق والبحر ٧/٣٢٩ والدر المصون ٤/٥٠٤ وفي شواذ القرآن ٢٠٢: "إن يردني" بفتح الياء وإثباته في الوقف طلحة وعيسى وأبو جعفر..
٢٤ في (ب) يردني تحريف..
٢٥ في الكشاف: أي يجعلني موردا للضر..
٢٦ الكشاف ٣/٣١٩..
٢٧ في المضارع..
٢٨ في الماضي أورد..
٢٩ البحر ٧/٣٢٩..
٣٠ دافع عن الزمخشري وانظر الدر المصون ٤/٥٠٤ وأنا لا أرى مبررا لقبول هذه القراءى فالتكلف فيها واضح وفيها مساواة بين ورد وأورد ثلاثيا ورباعيا وهو في غاية الشذوذ..
٣١ كذا في النسختين. والصحيح كاللازم..
٣٢ في "ب" بحرف. وانظر: تفسير الرازي ٢٦/٥٨..
٣٣ في "أ" قال والتصحيح من "ب" والفخر..
٣٤ الأصح: فيجعل كما في الرازي..
٣٥ في "ب" مفعول..
٣٦ في "أ" والرجاء وكذلك هي كما هي أعلى في الفخر..
٣٧ في "ب" الصفة..
٣٨ في "ب" يرده. وكلاهما تحريف..
٣٩ سقط من "ب"..
قوله تعالى :﴿ إني إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي خطأ ظاهر إن فعلت ذلك فأنا ضالٌّ ضلالاً بيناً. و «المُبِينُ » مُفْعِل بمعنى «فَعِيل » وعكسه «فَعِيلٌ » بمعنى مُفْعِل في قوله «أليم » بمعنى مؤلم.
قوله :﴿ إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ فيه وجوه :
أحدها : أنه خاطب المرسلين. قال المفسرون : أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل هو للمرسلين وقال : إنِّي آمنت بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُوا قولي واشهدوا لي.
والثاني : هم الكفار لمَّا نصحهم وما نفعهم قال آمنت فاسمعون.
الثالث : بربكم أيها السامعون فاسمعوني على العموم كقول الواعظ : يا مِسْكينُ ما أَكْثَرَ أَمَلَك ( وما أتْرَرَ١ عَمَلَك ) يريد كل سامع يسمعه وفي قوله «فَاسْمَعُونَ » فوائد منها : أنه كلام متفكر حيث قال : اسمعوا فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعةً سامعين يتفكر، ومنها أن ينبه القوم ويقول : إن أخبرتكم بما فعلت حتى لا يقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرته لآمنا معك.
فإن قيل : قال من قبل : مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الِّذي فطرني، وقال ههنا : آمنتُ بربكم ولم يقل : آمنت بربي ! ؟ فالجواب : إن قلنا : الخطاب مع الرسل فالأمر ظاهر لأنه لما قال : آمنتُ برَبِّكُمْ ظهر عند الرسل٢ أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه وقال «بِرَبِّكُمْ ». وإن قلنا : الخطابُ مع الكفار ففيه ( وجوه )٣ بيان للتوحيد لأنه لما قال :«أعبد الذي فطرني » ثم قال :«آمنت بربكم فاسمعون » فُهِمَ أنه يقول : ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم بخلاف ما لو قال : آمنت بربي فيقول الكافر : وأنا أيضاً آمنت بربي٤.
قوله :﴿ فاسمعون ﴾ العامة على كسر النون وهي نون الوقاية حذفت بعدها ياء الإضافة٥ مُجتزءاً عنْهَا بكسرة النون وهي اللغة الغالبة. وقرأ عِصْمَةُ٦ عن عاصم بفتحها٧. وليست إلا غلطا ( على عاصم )٨، إذ لا وجه ( لها )٩، وقد وقع لابن عطية وَهَمٌ فاحش في ذلك فقال : وقرأ الجمهور بفتح النون١٠. وقال أبو حاتم : هذا خطأ فلا يجوز لأنه أمر فإما حذف النون وإما كسرها على جهة الياء١١، يعني ياء المتكلم، وقد يكون قوله :«الجمهور » سبقَ قلم منه أو من النساخ وكان الأصل : وقرأ غيرُ الجمهور فسقط١٢ لفظة «غيره ». ( و )١٣
١ زيادة من الفخر الرازي..
٢ في (ب) الرجل. تحريف..
٣ زيادة من "ب" عن "أ" والفخر الرازي..
٤ وانظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٦/٥٩و ٦٠..
٥ حيث كان الأصل: "اسمعوني" بالنون والياء ولكنه حذف الياء واكتفى عنها بالنون مشيا على الفاصلة كقول الله تعالى: ﴿والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى﴾..
٦ هو عصمة بن عروة أبو نجيح البصري روى القراءة عن أبي عمرو وعاصم بن أبي النجود. وروى عنه الحروف يعقوب الحضرمي وغيره. انظر: غاية النهاية ١/٥١٢..
٧ ذكرها أبو حيان في بحره ٧/٣٢٩ ومن بعد شهاب الدين السمين في الدر ٤/٥٠٤ وهي من القراءات غير المتواترة فلم أجدها فيها..
٨ سقط من نسخة "ب" ما بين القوسين..
٩ زيادة لتوضيح المعنى وتكميله..
١٠ نقله عنه البحر ٧/٣٢٩..
١١ المرجع السابق. وفيه: على جهة البناء وهو صحيح الأصل فاسمعوني فحذفت الأولى المفتوحة لأجل البناء ولذلك نقول مبني على حذف النون والأوضح الأول بدليل قوله بعد "ياء المتكلم" فأبدلها من الياء..
١٢ في "ب" بسقط..
١٣ سقط من "ب"..
قال ابن عطية حذف من الكلام ما تواترت الأخبار والروايات به وهو أنهم قتلوه فقيل له عند موته : ادْخُلِ الجَنَّة١ بَعْدَ القتل وقيل : قوله :( قِيلَ )٢ ادخل الجنة عطف على قوله :﴿ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ فعلى الأول يكون قوله :﴿ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾ بعد موته والله أخبر بقوله، وعلى الثاني قال ذلك في حياته٣ وكان يسمع٤ الرسل يقولون إنه من الداخلين الجنة وصدقهم وقطع به.
قوله :«( قَال )٥ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ » كما علمت فيؤمنون كما آمنت. وقال الحسن٦ : خرقوا خرقاً في حَلْقِهِ وعلقوه في سور المدينة وقبره بأنطاكية فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق، فذلك قوله عز وجل :«قِيلَ ادْخُل الجَنَّة ». فلما أفضى إلى الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي أي بغفران ربي لي وجعلني من المكرمين.
١ البحر ٧/٣٢٩..
٢ سقط من "ب"..
٣ في "ب" حيوته..
٤ في "ب" مسمع وهذا رأي الرازي ٢٦/٦٠..
٥ سقط من "ب"..
٦ البحر ٧/٣٢٩..
قوله :﴿ بِمَا غَفَرَ لِي ﴾ يجوز في ( ما ) هذه ثلاثة أوجه : المصدرية كما تقدم. والثاني : أنها بمعنى الذي والعائد محذوف أي بالذي غفره لي ربي١. واسْتُضْعِفَ هذا من حيث إنه يبقى معناه أنه تمنى أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة. وليس المعنى على ذلك إنما المعنى على تَمَنِّي علمهم بغفران رَبِّه ذُنُوبَه٢. والثالث٣ : أنها استفهامية وإليْهِ ذَهَبَ الفرّاء٤. ورده الكسائي بأنه كان ينبغي حذف ألفها لكونها مجرورة٥. وهو رد صحيح. وقال الزمخشري الأجود طرح الألف٦ والمشهور من مذهب البصريين وجوب حذف ألفها٧ كقوله :
٤١٧٣- ( عَلاَمَ٨ يقُولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ عَاتِقِي. . . إِذَا أَنَا لَمْ أَطْعُنْ إذَا الخَيْلُ كَرَّتِ٩
إلاَّ في ضرورة كقول الشاعر ) :
٤١٧٤- عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئيمٌ. . . كَخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادٍ١٠
وقرئ من المكرمين بتشديد الراء١١.
١ قال ابن الأنباري بالثلاثة في البيان ٢/٢٩٣ وكذلك النحاس ٤/٣٩٠ ومكي في المشكل ٢/٢٢٣ و ٢٢٤ وكذلك الزجاج في المعاني ٤/٢٨٣ والتبيان ١٠٨٠..
٢ قال بذلك التوجيه أبو حيان في البحر ٧/٣٢٩..
٣ في "ب" الثاني تحريف وخطأ..
٤ أجازها الفراء وانتفض نفسه مرة أخرى فقال في المعاني ٢/٣٧٤ و ٣٧٥: ولو جعلت "ما" في معنى "أي" كان صوابا يكون المعنى ليتهم يعلمون بأي شيء غفر لي ربي ولو كان كذلك لجاز له فيه: "بم غفر لي ربي" بنقصان الألف كما تقول: سل عم شئت وكما قال: "فناظرة بم يرجع المرسلون" وقد أتمها الشاعر وهي استفهام فقال... أهل اللواء ففيما يكثر القيل. غهو يخبرنا أن الإتمام والنقص من الألف جائز وسيان. (وهذا خلاف ما عليه جمهور البصرة)..
٥ نقله عنه أبو حيان في البحر ٧/٣٢٩ والسمين في الدر ٤/٥٠٥..
٦ الكشاف ٣/٣٢٠ ولكنه أجازها كالفراء نثرا وشعرا..
٧ وإبقاء الفتحة دليلا عليها نحو: فيم وعلام وبم وإلام وعلام وربما تبعت الفتحة الألف في الحذف وهو مخصوص بالشعر. وعلة حذف الألف الفرق بين الاستفهام والخبر ولهذا حذفت في نحو: "فيم أنت من دكراها" ونحوها وثبتت في: "لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم" وقد تقدم رأي الزمخشري والفراء في "ما" هذه منذ قليل. وانظر: المغني ٢٩٨ و ٢٩٩..
٨ ما بين القوسين كله سقط من "أ" الأصل..
٩ من الطويل وهو لعمرو بن معد يكرب يصف قوته في لقاء غرمائه. والشاهد هنا حذف الألف من "ما" الاستفهامية على مذهب أهل البصرة. وفيه شاهد آخر لا مقام لنا به وهو إجراء القول مجرى الظن واحتياجه للمفعولين. وهذا لغة بني تميم. وانظر: الأصمعيات ١٢٢ والأشموني ٢/٣٦ و ٢٢٢ والتصريح ١/٢٦٣ والهمع ١/١٥٧ والمغني ١٤٧٣ والحماسة البصرية ١/١١ والدر المصون ٤/٥٠٥..
١٠ من الوافر وهو لحسان بن ثابت رضي الله عنه من قصيدة في هجاء بني عابد بن عبد الله بن مخزوم ويروى: في دمان وينسب لحسان بن المنذر. والشاهد: إثبات ألف "ما" المجرورة وهي استفهامية وهذا ضرورة وانظر: البيان ٢/٢٩٣ وشرح المفصل لابن يعيش ٤/٩ والمغني ٢٩٩ والتصريح ٢/٣٤٥ وشواهد الشافية ٢٢٤ والخزانة ٦/٩٠ و١٠٧ وشواهد التصريح والتوضيح ١٦١ والبحر ٧/٣٣٠ وفتح القدير ٤/٣٦٦ والهمع ٢/٢١٧ وابن الشجري ٢/٢٣٣ برواية دمان والأشموني ٤/٢١٦ وليس في ديوان حسان..
١١ وهي قراءة الضحاك، انظر: شواذ القرآن ٢٠٢ والبحر ٧/٣٣٠ والكشاف ٣/٣٢٠ والقرطبي ١٥/٢٠ والدر المصون ٤/٥٠٦..
قوله (تعالى) :﴿وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء﴾ لما تمنى أن
197
يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه ليرغبوا في دين الرسل فلما قتل حبيب غضب الله وعجل لهم النَّقْمة وأمر جبريل - عليه (الصلاة و) السلام - فصاح بهم صيحةً واحدةً فماتوا عن آخرهم فذلك قوله: ﴿وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء﴾ يعني الملائكة.
قوله: «وما كنا منولين» في (ما) هذه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنها ناقية كالتي قبلها فتكون الجملة الثانية جارية مَجْرى التأكيد للأولَى.
والثاني: أنها مزيدة قال أبو البقاء: اي وقد كنا منزلين وهذا لا يجوز البتة لفساده لفظاً ومعنى.
الثالث: أنها اسم معطوف على «جُنْدٍ» قال ابن عطية: أي من جند من الذين كُنَّا مُنْزِلينَ وردّه أبو حيان بأن «مِنْ» مزيدة، وهذا التقدير يؤدي إلى زيادتها في الموجب جار لمعرفة ومذهب البصريين غير الأخفش أن يكون الكلام غير موجب وأن يكون المجرور نكرة، قال شهاب الدين: فالذي ينبغي عند من يقول بذلك (أن) يقدرها بنكرة أي: ومن عذاب كُنَّا مُنْزليه والجملة بعضها صفة لها وأما قوله إن هذا التقدير يؤدي إلى زيادتها في الموجب فليس بصحيح البتة وتعجَّبْتُ كَيْفَ يَلْزُم ذَلِكَ؟!.

فصل


قال ههنا «وما أنزلنا» بإسناد الفعل إلى النفس، وقال في بيان حال المؤمن: «قِيلَ ادْخُل الجَنَّة» بإسناد القول إلى غير مذكور لأن العذاب من الهيئة فقال بلفظ التعظيم وأما إدخال الجنة فقال: قيل: (ليكون كالمهنأ بقول الملائكة وبقول كل صلاح يراه ادخل الجنة خالداً كالتهنئة له، وكثيراً ما ورد) في القرآن قوله تعالى: «وقيل ادخلوا» إشارة إلى أن الدخول يكون دخولاً بإكْرَامِ. فإن قيل: لم أضاف القوم إليه مع أن الرسل أولى بكون الجمع قوماً لهم لأن الرسول لكونه مرسلاً يكون جميع الخلق أو جميع من أرسل إليهم قوماً لهم؟.
198
فالجواب: تبين الفرق بينه وبنيهم لأنهما من قبيلة واحدة وأيضاً فالعذاب كان مختصاً بهم أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأُهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر ونسبهما نم قبلية واحدة وأيضاً فالعذاب كان مختصاً بهم وهم أقاربه لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يُصِبْهُم العذاب.
فإن قيل: لم خصص عدم الإنزال بما بعده والله تعالى لم ينزل عليهم جنداً قبله أيضاً فما فائدة التخصيص؟.
فالجواب: أن استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الإهلاك.
فإن قيل: قال: «من السماء» وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جنداً من الأرض فما فائدة التقييد؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد ما أنزل عليهم جنداً بأمر من السماء فتكون للعموم.
والثاني: أن العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جنداً وإنما كان بصيحة أخذتهم وخربت ديارهم.
فإن قيل: أي فائدة في قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ﴾ مع قوله: ﴿وَمَآ أَنزَلْنَا﴾ وهو يستلزم أن لا يكون من المنزلين؟.
فالجواب: أنه قوله: «وما كنا» أي ما كان ينبغي أن ينزل لأن الأمر كان يتم بدون ذلك والمعنى وما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى الإنزال أو وما أنزلنا وما كمنا منزلين في مثل تلك الواقعة جنداً في غير تلك الواقعة أي وما أنزلنا على قومه من بعده أي على قوم حبيب من بعد قتله من جنده وما كنا منزلين ما ننزله على الأمم إذا أهلكناهم كالطُّوفَانِ والصَّاعِقَةِ والرِّيح.
فإن قيل: فكيف أنزل الله جنوداً في يوم «بدر» وفي غير ذلك حيث قال تعالى: ﴿رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾ [الأحزاب: ٩].
فالجواب: أن ذلك تعظيماً لمحمد - عليه (الصلاة والسلام) وإلاَّ لكان تحريك رِيشَةٍ من جَنَاح ملكٍ كافياً في استئصالهم ولم تكن رسل (عيسى) عَلَيْهِ الصَّلَاة
199
وَالسَّلَام ُ في درجة محمد عليه السلام ثم بين الله تعالى عقوبتهم فقالك «إنْ كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً واحَدِةً».
قوله: ﴿إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً﴾ العامة على النصب على أنَّ «كان» ناقصة واسمها ضمير الأَخْذ لدلالة السِّياق عليها و «صَيْحَةً» خبرها وقرأ أبو جعفر وشيبَةُ ومُعاذ القَارئ برفعها على أنها التامة أي إن وَقَعَ وحَدَثَ وكان ينبغي أن لا يلحق تاء التأنيث للفصل «بإلا» بل الواجب في غير ندور واضطرار حذف التاء نحو: مَا قَامَ إلاَّ هِنْدٌ وقد شذ الحسن وجماعة فقرأوا: ﴿لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٥] كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقوله:
٤١٧٥ -.................. وَمَا بَقِيَتْ إلاَّ الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ
وقوله:
٤١٧٦ - مَا بَرِئَت مِنْ رِيبَة وَذَمّ فِي حَرْبِنَا إلاَّ بَنَاتُ العَمّ
قال الزمخشري: أصله إن كان شيء إلا صيحة فكان الأصل أن يذكر لكنه تعالى أنّث لما بعده من المفسر وهو الصيحة وقوله: «وَاحِدَةٌ» تأكيد لكون الأمر هيّناً عنده وقوله: ﴿فَإِذَا هُمْ خَامِدُون﴾ إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان من الصيحة في وقتها لم يتأخر ووصفهم بالخمود في غاية الحسن لأن الحي فيه الحرارة الغريزية وكلما كانت الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية أتم وهم كانوا كذلك أما الغضب.
200
فإنهم قتلوا مؤمناً كان ينصحهم وأما الشهوة فلأنهم احتلموا العذاب الدائم بسبب استيفاء اللذات الخالية فإذن كانوا كالنار الموقَدَة لأنهم كانوا جبارين ومستكبرين كالنار ومن خلق منها «فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ» ميتِّون. قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ثم صح بهم صيحة واحدة فإذا هُمْ خامدن ميتون.
قوله
: ﴿ياحسرة
العامة على نصبها وفيه وجهان:
أحدهما: أنها منصوبة على المصدر والمنادى محذوف تقديره يا هؤلاء تَحسَّرُوا حَسْرَةً.
والثاني: أنها منونة لأنها منادى منكر فنصبت على أصلها كقوله:
٤١٧٧ - فَيَا رَاكِباً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغاً نَدَامَاي مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقِيَا
ومعنى النداء هنا على المجاز، كأنه قيل: هذا أوانك فاحضري وقرأ قتادة وأبيّ - في أحد وجهيه - يا حسرة بالضم جَعَلها مقبلاً عليها وأبيّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحُسَيْن «يَا حَسْرَةً العِبادِ» بالإضافة فيجوز أن تكون مضافاً لفاعله أي تَتَحَسَّرُونَ على غيرهم لما يرون من عذابهم وأن يكون مضافاً لمفعوله أي يَتَحَسَّرُ عليهم (من) غيرهم. وقرأ أبو الزناد وابن هُرْمز وابن جُنْدُب «يا حَسْرَهْ» بالهاء (
201
المهملة) المبدلة من تاء التأنيث وصلاً وكأنهم أَجْروا الوَصْل مُجْرَى الوقف وله نظائر مرت وقال صحب اللوامح وقفوا بالهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التَّاهَةِ بمعنى التأوه ثم وصلوا على تلك الحال وقرأ ابن عباس أيضاً: يا حَسْرَة بفتح التاء من غير تنوين ووجهها أن الأصل يا حسرتا فاجتزئ بالفتحة عن الألف كما اجتزئ بالكسرة عن الياء ومنه:
٤١٧٨ - وَلَسْتُ براجِعِ مَا فَاتض مِنِّي بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ وَلاَ لَوَانِّي
أي بلهفها بمعنى لهفي وقرئ: يا حَسْرتَا بالألف كالتي في الزمر وهي شاهدة لقراءة ابن عباس وتكون التاء لله تعالى، وذلك على سبل المجاز دلالة على فرط هذه الحسرة وإلا فاللَّه تعالى لا يوصف بذلك قوله: «مَا يَأْتِيهِمْ» هذه الجملة لا محل لها لأنها مفسِّرة لسبب الحسرة عليهم وهذا الضمير يجوزأن يكون عائداً إلى قوم حبيب أي ما يأتيهم من رسول من الرّسلِ الثلاثة. ويجوز: أن يعود إلى الكفار المصرين وقوله: «إلاَّ كَانُوا» جملة حالية من مفعول «يَأْتِيهِمْ».
202

فصل


الألف واللام في العبادة قيل: للعهدوهم الذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة على أولئك. وقيل: لتعريف الجنس أي جنس الكفار المكذبين وقيل: المراد بالعبادة الرسل الثلاثة كأنه الكافرين يقولون عند ظهور اليأس يا حسرةً عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين لنؤمن بهم ثانياً وهم قوم (حبيب) وفي التحسر وجوه:
الأول: لا متحسر أصلاً في الحقيقة إذا المقصودُ بيانُ (أن) ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عن تحقق العذاب وههنا بحث لغوي وهو أن المفعول قد يرفض كثيراً إذا كان الغرض غير متعلق به يقال: فلان يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء مُعْطًى ولا شخص معطى، إذا المقصود أن له المنع والإعطاء، ورفض المفعول كثير وما نحو فيه رفض الفاعل وهو قليل. والوجه فيه أن ذكر التحسر غير مقصود وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في خلال الوقت.
الثاني: أن القائل يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيماً لللأمر وتهويلاً له وحينئذ يكون كالألفاظ التي وردت في حقل اله كالضِّحِك والسُّخْرية والتعجيب والتّمنِّي.
أو يقال لي معنى قوله يا حسرة أو يا ندامة أن القائل متحسر أو نادم بل المعنى أنه مخبرٌ عن الوقوع وقوع الندامة ولا يحتاج إلى التجوز في كونه تعالى قائلاً يا حسرة بل تجْريه على حقيقته إلا في الندامة فإن النداء مجاز والمراد الإخبار.
الثالث: أن المتلهفين من المسلمين والملائكة لما حكى عن حبيب أنه حين القتل كان يقوله اللَّهم اهد قومي وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال يا ليت قومي علمون فيجوز أن يتحسر المسلم لكافر ويندم له وعليه وقوله: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ هذا سبب الندامة.

فصل


قال الزهري الحسرة لا تدعى، ودعاءها تنبيه للمخاطبين، وقيل العرب تقول: يا حَسْرَتَا ويا عَجَبَا على طريق المبالغة. والنداء عندهم بمعنى التنبيه فكأنه يقول: أيها العجبُ هذا وقتُكَ وأيتها الحسرة هذا أوَانُكِ وحقيقة المعنى أن هذا زمان الحسرة والتَّعَجُّب
203
قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ لما بين حال الأولين قال للحاضرين: ألَمْ يَرُوا الباقون ما جرى على من تقم منهم قوله: «كم أهلكنا» كم هنا خبرية فهي فعول بأهلكنا «تقديره كثيراً من القرون أهلكنا وهي مُعَلِّقة» ليَرَوْا «ذهاباً بالخبرية مذهب الاستفهامية، وقيل: بل» يَرَوا «علمية» وكم «استفهامية كما سيأتي بيانه و» أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يرجعون «فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من»
كم «قال ابن عطية و» كم «هنا خبرية و» أنهم «بدل منها، والرؤية بصرية قال أبو حيان وهذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية (كانت) في موضع نصب» بأهلكنا «ولا يسوغ فيها إلا ذلك وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون» أنهم «بدلاً منها لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت» أهلكنا (هم) «على» أنهم «لم يصح ألا ترى أنك لو قلت: أهلكنا انتفى رجوعهم أو أهلكنا كونهم لا يرجعون لم يكن كلاماً لكنَّ ابْنَ عطية توهم أن (يَرُوْا) مفعولة» كم «فتوهم أن قوله: ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ بدل منه لأنه لا يسوغ أن يسلط عليه فتقول: ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون. وهذا وأمثاله دليل إلى ضعفه في (عِلْم) العربية قال شهاب الدين: وهذا الإنحاءُ عليه تحامل عليه لأنه لقائل أن يقول: كم قد جعلها خبرية والخبرية يجوز أن تكون معمولة لما قبلها عند قوم فيقولون:» مَلَكْتُ كم عبدٍ «فلم يلزم الصدر فيجوز أن يكون بناء هذا التوجيه على هذه اللغة وجعل» كم «منصوبة» بيَرَوا «و» أنهم «بدل منها وليس هو ضعيفاً في العربية حينئذ.
204
الثاني: أن «أنَّهُمْ» بدل من الجملة قبله الزجاج وهو بدل من الجملة والمعنى ألم يروا أن القرون التي أهلكناهم أنهم لا يرجعون لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى قال أبو حيان ولي بشيء لأنه ليس بدلاً صناعياً وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صناعة النحو قال شهاب الدين: بل هو بدل صناعي لأن الجملة في قوة المفسر إذ هي سادة مسد فعلوي «يروا» فإنها معلقة لها كما تقدم.
الثالث: قال الزمخشري: أَلَمْ يَرَوا الم يعلموا وهو معلَّقٌ عن العمل في «كَمْ» لأن «كم» لا يعمل فيها عامل قبلها سواه كانت للاستفهام (أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام) إلا أنَّ معناها نافد في الجملة كما نفذ في قولك: (ألَمْ يَرَوْا) إن زيداً لمُنْطَلِقٌ و «أن» لم يعمل في لفظه و «أنَّهُمْ إِلَيْهمْ لاَ يَرْجِعُون» بدل من «كَمْ أهلَكْنَا» على المعنى لا على اللفظ تقديره: ألم يروا كَثْرَة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم.
قال أبو حيان قوله «لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها كانت للاستفهام أو للخبر» ليس على إطلاقه لأن إذا كانَ حرف جر أو اسماً مضافاً جاز أن يعمل فيها نحو: عَلَى كَمْ جِذْع بَيْتُكَ؟ وأيْن كم رئيس صَحِبْتَ؟ كَمْ فَقير تَصَدَّقْت أرجو الثواب؟ وأين كم شهيد في سبل الله أحسنت إليه. وقوله أو الخبرية الخبرة فيها لغة الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار، واللغة الأخرى حكاها الأخفض يقولون: مَلَكْت كَمْ غُلاَم اي ملكت كثيراً من الغِلمان فكما يجوز تقدم العامل على كثيراً كذلك يجوز على «كم» لأنها بمعناها. وقوله: لأنها أصلها الاستفهام والخبرية ليس اصلها الاستفهام بل كل واحدة أصل ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر وقوله: لأن معناها نافذ في الجملة يعني معنى «يَرَوْا» نافذ في الجملة لأنه جعلها معلقة وشرح «يروا»
205
بيعلموا، وقوله: كما نفذ في قولك: «أَلمَمْ يَرَوا إِنًّ زيداً لَمُنْطلِقٌ» يعني أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظ لامتنع دخول اللام ولفتحت «أن» فإن «إن» التي في خبرها اللام من الأدوات المعلقة لأفعال القلوب، وقوله: ﴿أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ﴾ إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلاً على اللفظ ولا على المعنى أما على اللفظ فإن زعم أن «يروا» معلقة فتكون كم استفهامية فيه معمولة «لأهْلَكْنَا» و «أهلكنا» لا يتسلط على «أنَّهُمْ إلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ» كما تقدم.
وأما على المعنى فلا يصح أيضاً لأنه قال تقديره: أي على (هذا) العنى ألميروا كثرة إهلاكنا القرونَ من قبلهم كَوْنَهم غيرَ راجعين إليهم. فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك فلا يكون بدل كل من كل وليس بعض الإهلاك فلا يكون (بدل بعض من كل ولا يكون) بدل اشتمال لأن بدل الاشتمال يصيح أنْ يُضَافَ إلى ما أبدل منه وكذلك بدل بعض من كل وهذا لا يصيح هنا لا نقول: ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم وفي بدل الاشتمال نحو: أعجبتني الجارية ملاحتها وسُرقَ زيد ثوبُه يصح أعجبتني ملاحةُ الجارية وسُرق ثَوْبُ زَيْدٍ.
الرابع: أن يكون أنهم بدلاً من موضع «كم أهلكنا» والتقدير ألم يروا أنهم إليهم قاله أبو البقاء ورده أبو حيان بأن «كم أهلكنا» لي بمعمول «ليروا» قال شهاب الدين: وقد تقدم أنها معمولة لها على معنى أنه معلقة لَهَا.
الخامس: وهو قول الفراء: أن يكون «يروا» علاماً في الجملتين من غير إبدال ولم يبين كيفية العمل وقوله الجملتين يجوز لأن «أنهم» ليس بجملة لتأويله بالمفرد إلا أنه مشتمل على مُسْنَدٍ ومُسْنَدٍ إليه.
السادس: (أن) «أنَّهُم» معمول لفعل محذوف دل عليه السِّيَاق والمعنى تقديره: قَضَينَا وحَكَمْنَا أنَّهُمْ إليهم لا يرجعون ويدل على صحة هذا قول ابنِ عباس والحسن إنَّهُمْ بكسر الهمزة على الاستئنانف والاستئناف قطع لهذه الجملة عما قبلها فهما
206
مقولان تكون معمولة لفعل محذوف يقتضي انقطاعها عما قبلها والضمير في «أنهم» عائد على معنى كم، وفي «إليهم» عائد على ما عاد عليه واو «يَرَوا» (وقيل: بل الأول عائد على ما عاد عليه واو يَرَوْا «والثاني عائد على المُهْلَكِينَ.

فصل


المعنى ألم يخبروا أهل مكة كم أهلكنا قبلهم من القرون والقرن أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ سموا بذلك لاقترانهم في الوجود أنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعبترون وقيل: لا يرجعون أي الباقون لا يرجعون إلى المُهْلَكين بنسب ولا ولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم ولا شك أنَّ الإهلاك الذي يكون مع قطع النّيل أتم وأعم والأول أشه نقلاً والثاني أظهر عقلاً.
قوله: ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ﴾ تقدم فيهود تشديد»
لمَّا «وتخفيفها والكلام في ذلك، وقال ابن الخطيب في مناسبة وقع» لما «المشددة موقع» إلا «: إن لما كأنَّهَا حَرْفا نفي جمعاً وهما:» لَمْ «و» مَا «فتأكد النفي وإلا كأنها حرفا نفي:» إن ولاَ «فاستعمل أحدهما مكان الآخر انتهى وهذا يجوز أن يكون أخذه من قول الفراء في إلا في الاستثناء إنها مركبة من» إنْ ولاَ «إلا أنَّ الفراء جعل إنْ مخففة من الثقيلة وجعلها نافية وهو قول ركيك رَدَّهُ عليه النحويون وقال الفراء أيضاً إنّ لما هذه أصلها لَمْمَ فخففت بالحذف وتقديم هذا كله مُوَضِّحاً.
207
و «كل» مبتدأ و «جميع» خبره و «مُحْضَرُونَ» خبر ثاني لا يختلف ذلك سواء شددت «لما» أم خففتها، لا يقال: إن جميعاً تأكيد لا خبر (لأن) «جميعها» هنا فَعِيل بعنى مفعول أي مجموعون فكل يدل على الإحاطة والشمول وجميع يدل على الاجتماع فمعناها حمل على لفظها كما في قوله: ﴿جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾ [القمر: ٤٤] وقدم «جميع» في الموضعين لأجْل الفَوَاصِل و «لَدَيْنا» متعلق «بمُحْضَرُونَ» فمن شدد «فلما» بمعنى إلا وإنْ نافية كما تقدم والتقدير: ومَا كُلُّ إلاَّ جميعٌ ومن خفَّفَ «فَإنْ» مخففة (من الثقيلة) واللام فارقة وما مزيدة هذا قولا البصريين والكوفيون يقولون: إنَّ «إنْ» نافية واللام بمعنى إلا كما تقدم مراراً.

فصل


لما بين الإهلاك بين أن من أهْلَكَهُ ليس بتارك له بل بعده جمع وحبس وحساب وعقابٌ ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحةً ونعْمَ ما قال القائل:
208
٤١٧٩ - ولو أنّا إذا ما متْنَا تُرِكْنَا لَكَانَ المَوْتُ رَاحَة كُلِّ حَيِّ
وَلكِنَّا إِذا مِتْنا بُعِثْنا وَنُسْأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيِّ
قال الزمخشري: إن قال قائل: «كل وجميع» بمعنى واحد فكيف جعل جميعاً خبراً ل «كلّ» حيث أدخل اللام عليه إذ التقدير وإن كل لجميعٌ؟ نقول معنى «جميع» مجموع ومعنى «كل» أي كل فرد مجمع مع الآخر مضموم إليه ويمكن أن يقال: «مُحْضَرُونَ» يعني كما ذكره وذلك لأنه لو قال: وإن جميع لجميع محضرون لكان كلاماً صحيحاً. قال ابن الخطيب: ولم يوجد ما ذكره من الجواب بل الصحيح أنَّ مُحْضَرُونَ كالصفة للجمع فكأنه قال جميعٌ جميعٌ محضرون كما نقُول: الرجلُ رجلٌ عالم والنبيُّ نبيُّ مرسل. والواو في «وَإنْ كُلّ» يعطف على الحكاية كأنه يقول: بَيَّنْتُ لك ما ذكرت وأبين أن كُلاًّ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ.
209
قوله :﴿ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً ﴾ العامة على النصب على أنَّ «كان » ناقصة واسمها ضمير الأَخْذ لدلالة السِّياق عليها و «صَيْحَةً » خبرها. وقرأ أبو جعفر وشيبَةُ ومُعاذ القَارئ١ برفعها٢ على أنها التامة أي إن وَقَعَ وحَدَثَ وكان ينبغي أن لا يلحق تاء التأنيث للفصل
«بإلا » بل الواجب في غير ندور واضطرار حذف التاء٣ نحو : مَا قَامَ إلاَّ هِنْدٌ٤. وقد شذ الحسن وجماعة فقرأوا :﴿ لاَ ترى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ﴾٥ [ الأحقاف : ٢٥ ] كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقوله :
٤١٧٥-. . . . . . . . . . . . . . . . . . وَمَا بَقِيَتْ إلاَّ الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ٦
وقوله :
٤١٧٦- مَا بَرِئَت مِنْ رِيبَة وَذَمّ. . . فِي حَرْبِنَا إلاَّ بَنَاتُ العَمّ٧
قال الزمخشري : أصله إن كان٨ شيء إلا صيحة فكان الأصل أن يذكر، لكنه تعالى أنّث لما بعده من المفسر وهو الصيحة
وقوله :«وَاحِدَةٌ » تأكيد لكون الأمر هيّناً٩ عنده وقوله :﴿ فَإِذَا هُمْ خَامِدُون ﴾ إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان من الصيحة في وقتها لم يتأخر ووصفهم بالخمود في غاية الحسن
لأن الحي فيه الحرارة الغريزية وكلما كانت الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية١٠ أتم، وهم كانوا كذلك أما الغضب فإنهم قتلوا مؤمناً كان ينصحهم، وأما الشهوة فلأنهم احتملوا العذاب الدائم بسبب استيفاء اللذات الخالية فإذن كانوا كالنار الموقَدَة لأنهم كانوا جبارين ومستكبرين كالنار ومن خلق منها١١. «فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ » : ميتِّون. قال المفسرون : أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هُمْ خامدن ميتون.
١ هو معاذ بن الحارث ويقال أبو حليمة الأنصاري المدني المعروف بالقارىء روى عن نافع وابن سيرين وحدث عن نافع مولى ابن عمر توفي سنة ٦٣ هـ. انظر: غاية النهاية ٢/٣٠١ و ٣٠٢..
٢ ذكرها في المحتسب ٢/٢٠٦ ومعاني الفراء ٢/٣٧٥ ومختصر ابن خالويه ١٢٥ وهي من القراءات العشر المتواترة انظر النشر ٢/٣٥٣ والإتحاف ٣٦٤..
٣ حيث إن من وجوب تأنيث الفعل أن لا يفصل بينه وبين الفاعل أو نائبه بفاصل..
٤ المحتسب ٢/٢٠٧..
٥ وهي قراءة مالك بن دينار وأبي رجاء والجحدري وغيرهم. وهي من الشواذ من الأربعة فوق العشرة وستأتي بالتفصيل. انظر: البحر ٧/٣٣٢ والإتحاف ٣٩٢..
٦ عجز بيت من الطويل لذي الرمة صدره: طوى النحز والأجواز ما في غروضها. والنحز: ضرب الأعقاب والاستحثاث في السير. والأجواز: الأمحال. والغروض حزام الرمل. والجراشع المنتفخ الجنبين. وشاهده: فصل ما بين الفعل والفاء ب "إلا" المانعة من التأنيث. وإذا كان هذا لم تجىء التاء إلا في الشعر كما رأينا في "بقيت"..
٧ رجز مجهول القائل يصف قومه بالمنعة وحماية الأعراض. والشاهد: تأنيث الفعل مع طول الفصل بإلا. والأكثر التذكير وضرورة الشعر تبيح ذلك. وانظر: البحر ٧/٣٣٢ والتصريح ١/٢٧٩ والهمع ٢/١٧١ والأشموني ٢/٥٢ والدر المصون ٤/٥٠٧..
٨ الكشاف ٣/٣٢٠..
٩ قاله الفخر الرازي في تفسيره الكبير ٢٦/٦٢..
١٠ قاله الفخر الرازي في تفسيره الكبير ٢٦/٦٢..
١١ انظر: الفخر الرازي المرجع السابق..
قوله :﴿ يا حسرة ﴾ العامة على نصبها. وفيه١ وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة على المصدر والمنادى محذوف تقديره يا هؤلاء تَحسَّرُوا حَسْرَةً٢.
والثاني : أنها منونة لأنها منادى منكر فنصبت على أصلها٣ كقوله :
٤١٧٧- فَيَا رَاكِباً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغاً. . . نَدَامَاي مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقِيَا٤
ومعنى النداء هنا على المجاز، كأنه قيل : هذا أوانك فاحضري. وقرأ قتادة وأبيّ٥ - في أحد وجهيه- يا حسرة بالضم٦ جَعَلها مقبلاً عليها وأبيّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحُسَيْن ﴿ يَا حَسْرَةً العِبادِ ﴾٧ بالإضافة فيجوز أن تكون الحسرة مصدرا مضافا لفاعله أي : يتحسرون على غيرهم لما يرون من عذابهم وأن يكون مضافاً لمفعوله أي : يَتَحَسَّرُ عليهم ( من )٨ غيرهم٩. وقرأ أبو الزناد١٠ وابن هُرْمز١١ وابن جُنْدُب١٢ ﴿ يا حَسْرَهْ ﴾ بالهاء ( المهملة )١٣ المبدلة من تاء التأنيث وصلاً١٤ وكأنهم أَجْروا الوَصْل مُجْرَى الوقف وله نظائر مرت١٥. وقال صاحب اللوامح١٦ : وقفوا بالهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التَّاهَةِ بمعنى التأوه ثم وصلوا على١٧ تلك الحال. وقرأ ابن عباس أيضاً : يا حَسْرَة بفتح التاء١٨ من غير تنوين، ووجهها أن الأصل يا حسرتا فاجتزئ بالفتحة عن الألف كما اجتزئ بالكسرة عن الياء١٩ ومنه :
٤١٧٨- وَلَسْتُ براجِعِ مَا فَات مِنِّي. . . بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ وَلاَ لَوَ انِّي٢٠
أي : بلهفها٢١ بمعنى لهفي. وقرئ : يا حَسْرتَا بالألف كالتي في الزمر٢٢. وهي شاهدة لقراءة ابن عباس وتكون التاء لله تعالى، وذلك على سبيل المجاز دلالة على فرط هذه الحسرة، وإلا فاللَّه تعالى لا يوصف بذلك٢٣. قوله :﴿ مَا يَأْتِيهِمْ ﴾ هذه الجملة لا محل لها لأنها مفسِّره لسبب الحسرة عليهم٢٤. وهذا الضمير يجوزأن يكون عائداً إلى قوم حبيب أي : ما يأتيهم من رسول من الرّسلِ الثلاثة. ويجوز أن يعود إلى الكفار المصرين٢٥. وقوله :﴿ إلاَّ كَانُوا ﴾ جملة حالية من مفعول ﴿ يَأْتِيهِمْ ﴾٢٦.

فصل :


الألف واللام في العباد قيل : للعهد وهم الذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة على أولئك. وقيل : لتعريف الجنس أي جنس الكفار المكذبين٢٧ وقيل : المراد بالعباد الرسل الثلاثة كأنه الكافرين يقولون عند ظهور اليأس : يا حسرةً عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين لنؤمن بهم ثانياً٢٨، وهم قوم ( حبيب )٢٩. وفي التحسر وجوه :
الأول : لا متحسر٣٠ أصلاً في الحقيقة إذ المقصودُ بيانُ ( أن )٣١ ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عن تحقق العذاب، وههنا بحث لغوي وهو أن المفعول قد يرفض كثيراً إذا كان الغرض غير متعلق به يقال٣٢ : فلان يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء مُعْطًى ولا شخص معطى، إذ المقصود أن له المنع والإعطاء، ورفض المفعول كثير وما نحن فيه رفض الفاعل وهو قليل. والوجه فيه أن ذكر التحسر٣٣ غير مقصود، وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في خلال الوقت.
الثاني : أن القائل يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيماً للأمر وتهويلاً له وحينئذ يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله كالضِّحِك والسُّخْرية والتعجب والتّمنِّي.
أو يقال : ليس معنى قوله يا حسرة أو يا ندامة أن القائل متحسر أو نادم٣٤، بل المعنى : أنه مخبرٌ عن الوقوع وقوع الندامة ولا يحتاج إلى التجوز في كونه تعالى قائلاً : يا حسرة، بل تجْريه على حقيقته إلا في النداء فإن النداء مجاز والمراد الإخبار.
الثالث : أن المتلهفين من المسلمين والملائكة لما حكى عن حبيب أنه حين القتل كان يقول اللَّهم اهد قومي، وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون فيجوز أن يتحسر المسلم للكافر ويتندم له وعليه. وقوله :﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ هذا سبب الندامة٣٥.

فصل :


قال الزهري : الحسرة لا تدعى، ودعاؤها تنبيه للمخاطبين، وقيل العرب تقول : يا حَسْرَتَا ويا عَجَبَا على طريق المبالغة.
والنداء عندهم بمعنى التنبيه فكأنه يقول : أيها العجبُ هذا وقتُكَ وأيتها الحسرة هذا أوَانُكِ وحقيقة المعنى أن هذا زمان الحسرة والتَّعَجُّب١.
١ في "ب" وفيها..
٢ قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٨١ ونقلت في الدر المصون ٤/٥٠٧..
٣ قال بذلك مكي في المشكل ٢/٢٢٤ والنحاس في الإعراب ٣/٣٩١ وأبو البقاء في التبيان ١٠٨١، والزمخشري في الكشاف ٢/٣٢٠ والسمين في الدر المصون ٤/٥٠٧ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٨٤ وابن الأنباري في البيان ٢/٢٩٤ ولكنه جعلها على النداء الشبيه بالمضاف، والفراء في المعاني ٢/٣٧٥ ومجيزا فيه الرفع..
٤ من بحر الطويل لعبد يغوث بن أبي وقاص من قصيدة قالها وهو في الأسر. والشاهد "يا راكبا" حيث نصب المنادى لأنه نكرة غير مقصودة لأنه لم يقصد راكبا بعينه كقول الأعمى: يا رجلا خذ بيدي. ونجران مكان لقبيلة. وعرضت: بلغت العروض وهي مكة والمدينة وما حولها. وقد تقدم..
٥ ابن كعب الصحابي الأنصاري سيد القراء انظر: غاية النهاية ١/٣١..
٦ من الشواذ غير المتواتر وانظر: مختصر ابن خالويه ١٢٥، والبحر المحيط ٧/٣٣٢، والدر المصون ٤/٥٠٨..
٧ الكشاف ٣/٣٢١ والبحر ٧/٣٣٢ والمحتسب ٢/٢٠٨ ومختصر ابن خالويه ١٢٥ ومعاني الفراء ٢/٣٧٥ وهي من الشواذ..
٨ زيادة من "أ" لا معنى لها..
٩ وانظر: المحتسب ٢/٢٠٨ والدر المصون ٤/٥٠٨..
١٠ هو ابن ذكوان وقد ترجم له..
١١ هو عبد الرحمن بن هرمز أحد البصريين الأوائل أبو داود المدني تابعي جليل. أخذ عن أبي هريرة وابن عباس مات سنة ١١٧ هـ. انظر: طبقات القراء ١/٣٨١..
١٢ مسلم بن جندب أبو عبد الله الهذلي. مولاهم القاص تابعي مشهور. عرض على ابن عباس بن أبي ربيعة عرض عليه نافع عنه ابن ابنه وزيد بن أسلم وكان من وضحاء زمانه. مات سنة ١٣٠ هـ غاية النهاية ٢/٢٩٧..
١٣ سقط من "ب"..
١٤ من القراءة الشاذة نقلها ابن جني في المحتسب وابن خالويه في المختصر المرجعين السابقين وانظر: الكشاف ٣/٣٢١ والبحر ٧/٣٣٢..
١٥ كقوله تعالى: ﴿ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم﴾ الآية ١٥٦ آل عمران وكقوله: ﴿يا حسرتنا على ما فرطنا فيها﴾ الآية ٣١ من الأنعام..
١٦ أبو الفضل الرازي وسبق ترجمته..
١٧ البحر ٧/٣٣٢ والدر المصون ٤/٥٠٨..
١٨ المرجعان السابقان وانظر: المختصر ١٢٥..
١٩ البحر والدر المصون المرجعان السابقان..
٢٠ من الوافر ولم يعز فيما عثرت عليه من مراجع. وشاهده: حذف الألف من قوله :"لهف" اجتزاء بالفتحة عنها وهذه الألف منقلبة عن ياء المتكلم " لهفي" فقوله: "بالكسرة عن الياء" راجع إلى الأصل. وانظر: المحتسب ١/٢٧٧ و ٣٢٣ والأمالي الشجرية ٢/٧٤ والإنصاف ٣٩٠ و ٤٤٩ و ٥٤٦ والتصريح ٢/١٧٧ والأشموني ٢/٢٨٢ و ٣/١٥٥ والخصائص ٣/١٣٥ ومعاني الأخفش ١/٦٥..
٢١ في "أ" بلهف..
٢٢ وهي قوله تعالى: ﴿أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله﴾ ٥٦ من الزمر ولم يذكر في البحر من قرأ بها..
٢٣ البحر المحيط السابق والدر المصون ٤/٥٠٩..
٢٤ التبيان ١٠٨١ والدر المصون ٤/٥٠٩..
٢٥ في "ب" والمغترين..
٢٦ الدر المصون ٤/٥٠٩..
٢٧ قالهما الرازي في تفسيره ٢٦/٦٢..
٢٨ السابق ٢٦/٦٣..
٢٩ سقط من ب..
٣٠ في (ب) تحسر..
٣١ سقط من ب..
٣٢ في (ب) فيقال..
٣٣ في "ب" المتحسر..
٣٤ في "ب" متحسرا أو نادما. بالنصب..
٣٥ وانظر هذا كله في تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٦/٦٣..
قوله :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا ﴾ لما بين حال الأولين قال للحاضرين : ألَمْ يَرُوا الباقون ما جرى على من٢ تقدم منهم. قوله :﴿ كم أهلكنا ﴾ كم هنا خبرية٣ فهي مفعول «بأهلكنا » تقديره : كثيراً من القرون أهلكنا وهي مُعَلِّقة٤ «ليَرَوْا » ذهاباً٥ بالخبرية مذهب الاستفهامية، وقيل : بل «يَرَوا » علمية و «كم » استفهامية كما سيأتي بيانه٦ و ﴿ أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يرجعون ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من ﴿ كم ﴾٧ قال ابن عطية : و ﴿ كم ﴾ هنا خبرية و ﴿ أنهم ﴾ بدل منها، والرؤية بصرية٨ قال أبو حيان : وهذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية ( كانت )٩ في موضع نصب «بأهلكنا »، ولا يسوغ فيها إلا ذلك وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون ﴿ أنهم ﴾ بدلاً منها ؛لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت أهلكنا ( هم ) }١٠ على﴿ أنهم ﴾ لم يصح ؛ألا ترى أنك لو قلت : أهلكنا انتفى رجوعهم أو أهلكنا كونهم لا يرجعون لم يكن كلاماً لكنَّ ابْنَ عطية توهم أن ( يَرُوْا ) مفعولة «كم » فتوهم أن قوله :﴿ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ بدل منه لأنه لا يسوغ أن يسلط عليه فتقول : ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون. وهذا وأمثاله دليل إلى ضعفه في ( عِلْم )١١ العربية١٢. قال شهاب الدين : وهذا١٣ الإنحاءُ عليه تحامل عليه لأنه لقائل أن يقول : كم قد جعلها خبرية والخبرية يجوز أن تكون معمولة لما قبلها عند قوم فيقولون :«مَلَكْتُ كم عبدٍ »١٤ فلم يلزم الصدر١٥ فيجوز أن يكون بناء هذا التوجيه على هذه اللغة وجعل ﴿ كم ﴾ منصوبة «بيَرَوا » و ﴿ أنهم ﴾ بدل منها. وليس هو ضعيفاً في العربية١٦ حينئذ.
الثاني : أن ﴿ أنَّهُمْ ﴾ بدل من الجملة قبله. قال الزجاج١٧ : وهو بدل من الجملة والمعنى ألم يروا أن القرون التي أهلكناها أنهم لا يرجعون لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى. قال أبو حيان وليس بشيء لأنه ليس بدلاً صناعياً وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صناعة النحو١٨ قال شهاب الدين : بل هو بدل صناعي لأن الجملة في قوة المفسر إذ هي سادة مسد مفعولي «يروا » فإنها معلقة لها كما تقدم١٩.
الثالث : قال الزمخشري : أَلَمْ يَرَوا ألم يعلموا وهو٢٠ معلَّقٌ عن العمل في ﴿ كَمْ ﴾ لأن ﴿ كم ﴾ لا يعمل فيها عامل قبلها سواه كانت للاستفهام ( أو للخبر٢١، لأن أصلها الاستفهام ) إلا أنَّ معناها نافذ في الجملة كما نفذ في قولك :( ألَمْ يَرَوْا٢٢ ) إن زيداً لمُنْطَلِقٌ و «أن » لم يعمل في لفظه و ﴿ أنَّهُمْ إِلَيْهمْ لاَ يَرْجِعُون ﴾ بدل من ﴿ كَمْ أهلَكْنَا ﴾ على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كَثْرَة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم.
قال أبو حيان قوله :«لأن كم٢٣ لا يعمل فيها ما قبلها كانت للاستفهام أو للخبر » ليس على إطلاقه ؛لأن إذا كانَ حرف جر أو اسماً مضافاً جاز أن يعمل فيها نحو : عَلَى كَمْ جِذْع بَيْتُكَ ؟ وأيْن كم رئيس صَحِبْتَ ؟ كَمْ فَقير تَصَدَّقْت أرجو الثواب ؟ وأين كم شهيد في سبل الله أحسنت إليه. وقوله أو الخبرية٢٤ الخبرية فيها لغة الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار، واللغة الأخرى حكاها الأخفش٢٥ يقولون : مَلَكْت كَمْ غُلاَم أي : ملكت كثيراً من الغِلمان فكما يجوز تقدم العامل على كثيراً٢٦، كذلك يجوز على «كم » لأنها بمعناها. وقوله : لأنها٢٧ أصلها الاستفهام والخبرية ليس أصلها الاستفهام بل كل واحدة أصل٢٨ ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر وقوله : لأن معناها نافذ في الجملة يعني معنى ﴿ يَرَوْا ﴾ نافذ في الجملة لأنه جعلها معلقة وشرح «يروا » بيعملوا، وقوله : كما نفذ في قولك :«أَلَمْ يَرَوا إِنًّ زيداً لَمُنْطلِقٌ » يعني : أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظ لامتنع دخول اللام ولفتحت «أن » فإن «إن » التي في خبرها اللام من الأدوات المعلقة لأفعال القلوب، وقوله :﴿ أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ ﴾ إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلاً على اللفظ ولا على المعنى، أما على اللفظ فإن زعم أن ﴿ يروا ﴾ معلقة فتكون كم استفهامية فهي معمولة «لأهْلَكْنَا » و «أهلكنا » لا يتسلط على﴿ أنَّهُمْ إلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ كما تقدم.
وأما على المعنى فلا يصح أيضاً لأنه قال تقديره : أي على ( هذا )٢٩ المعنى ألم يروا كثرة إهلاكنا القرونَ من قبلهم كَوْنَهم غيرَ٣٠ راجعين إليهم. فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك فلا يكون بدل كل من كل وليس بعض الإهلاك فلا يكون ( بدل بعض٣١ من كل ولا يكون ) بدل اشتمال ؛ لأن بدل الاشتمال يصح أنْ يُضَافَ إلى ما أبدل منه وكذلك بدل بعض من كل وهذا لا يصح هنا لا نقول : ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم وفي بدل الاشتمال نحو : أعجبتني الجارية ملاحتها وسُرقَ٣٢ زيد ثوبُه يصح أعجبتني ملاحةُ الجارية وسُرق ثَوْبُ زَيْدٍ.
الرابع : أن يكون أنهم بدلاً من موضع «كم أهلكنا » والتقدير : ألم يروا أنهم إليهم قاله أبو البقاء٣٣ ورده أبو حيان بأن «كم أهلكنا » ليس بمعمول٣٤ «ليروا ». قال شهاب الدين : وقد تقدم أنها معمولة لها على معنى أنه معلقة٣٥ لَهَا.
الخامس : وهو قول الفراء : أن يكون «يروا » عاملاً في الجملتين من غير٣٦ إبدال ولم يبين كيفية العمل وقوله الجملتين يجوز ؛
لأن «أنهم » ليس بجملة لتأويله بالمفرد إلا أنه مشتمل على مُسْنَدٍ ومُسْنَدٍ إليه.
السادس :( أن )٣٧ ﴿ أنَّهُم ﴾ معمول لفعل محذوف دل عليه السِّيَاق والمعنى تقديره : قَضَينَا وحَكَمْنَا أنَّهُمْ إليهم لا يرجعون ويدل على صحة هذا قول٣٨ ابنِ عباس والحسن إنَّهُمْ بكسر الهمزة على الاستئناف٣٩ والاستئناف قطع لهذه الجملة عما قبلها. فهما مقولان تكون معمولة لفعل محذوف يقتضي انقطاعها عما قبلها والضمير في﴿ أنهم ﴾ عائد على معنى كم٤٠، وفي ﴿ إليهم ﴾ عائد على ما عاد عليه واو ﴿ يَرَوا ﴾. ( وقيل٤١ : بل الأول عائد على ما عاد عليه واو يَرَوْا ) والثاني عائد على المُهْلَكِينَ٤٢.

فصل :


المعنى : ألم يخبروا أهل مكة كم أهلكنا قبلهم من القرون، والقرن أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ سموا بذلك لاقترانهم في الوجود أنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي : لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعتبرون٤٣. وقيل : لا يرجعون أي الباقون لا يرجعون إلى المُهْلَكين بنسب٤٤ ولا ولادة أي : أهلكناهم وقطعنا نسلهم ولا شك أنَّ الإهلاك الذي يكون مع قطع النّسل أتم وأعم. والأول أشبه نقلاً والثاني أظهر عقلاً٤٥.
٢ في "ب" ألم ير. وفي الرازي : أي الباقون لا يرون ما جرى على من تقدمهم..
٣ قاله السمين في الدر ٤/٥٠٩ وأبو البقاء في التبيان ١٠٨١ وابن الأنباري في البيان ٢/٢٩٤ والزجاج في معانيه ٤/٢٨٥ ومكي في المشكل ٢/٢٢٥ والنحاس في الإعراب ٣/٣٩٣ و ٣٩٢ والقرطبي ١٥/٢٤..
٤ الكشاف ٣/٣٢١..
٥ في "ب" إذهابا..
٦ وهو قول الفراء في معانيه ٢/٣٧٦ وقد أجاز الوجه الأول أيضا انظر: المرجع السابق..
٧ معاني الفراء ٢/٣٧٦ ومعاني الزجاج ٤/٢٨٥ والبيان ٢/٢٩٤ والمشكل ٢/٢٢٥ والتبيان ١٠٨١والكشاف ٣/٣٢١..
٨ البحر المحيط ٧/٣٣٣..
٩ سقط من "ب"..
١٠ زيادة من "ب" على البحر و "أ"..
١١ زيادة من "أ"..
١٢ وانظر: البحر المحيط ٧/٣٣٣ مع اختلاف يسير في الألفاظ..
١٣ الدر المصون ٥١٠/٤..
١٤ فتكون مفعولا به كما ارتأى ابن عطية. وهذا الموقف من السمين يجعلنا نحكم بأنه أيد رأي ابن عطية وخالف رأي أستاذه أبي حيان..
١٥ في "ب" المصدر تحريف..
١٦ الحقيقة أن "كم" بنوعيها الخبرية والاستفهامية تلزم الصدر وقد رأى ابن عصفور فيما نقله عنه ابن هشام في المغني في :"ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون" و "أو لم يهد لهم" رأى أن "كم" معمولة لما قبلها من الفعل وقوله: "إن ذلك على لغة رديئة حكاها الأخفش عن بعضهم أنه يقول: "ملكت كن عبيد" فيخرجها عن الصدر. خطأ عظيم إذ خرج كلام الله على هذه اللغة. بتصرف من المغني ١٨٤ و ١٨٣..
١٧ معاني الزجاج وإعرابه ٤/٢٨٥ وإعراب القرآن المنسوب له ٥٤٧ والبحر ٧/٣٣٣..
١٨ البحر ٧/٣٣٣..
١٩ الدر ٤/٥١٠..
٢٠ في "ب" إذ هو..
٢١ ما بين القوسين ساقط من (ب) وهو في الكشاف..
٢٢ سقط من "ب". وقاله في الكشاف ٣/٣٢١..
٢٣ من المناقشات التي ناقش فيها الإمام أبو حيان الزمخشري انظر الكشاف ٣/٣٢١ والبحر ٧/٣٣٣..
٢٤ الأصح: أو للخبر كما يقتضيه السياق والحوار..
٢٥ المغني ١٨٤ كما سبق..
٢٦ في البحر "كثير"..
٢٧ في "ب" لأنه..
٢٨ وفيها أصلها وهما يخالفان البحر..
٢٩ سقط من (ب)..
٣٠ وانظر: البحر ٧/٣٣٣..
٣١ ما بين القوسين سقط من "ب"..
٣٢ التصحيح من "ب" والبحر المحيط وفي "أ" شرق..
٣٣ التبيان ١٠٨١..
٣٤ البحر المحيط ٧/٣٣٣ بالمعنى..
٣٥ الدر المصون ٤/٥١١..
٣٦ قال في المعاني ٢/٣٧٦: "وكم في موضع نصب من مكانين: أحدهما : أن توقع "يروا" على "كم" وهي قراءة عبد الله أو لم يروا من أهلكنا. فهذا وجه والآخر أن توقع أهلكنا على كم وتجعله استفهاما كما تقول: علمت كم ضربك غلامك وقال: وقوله: "أنهم إليهم" فتحت ألفها لأن المعنى ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون..
٣٧ سقط من "ب"..
٣٨ في "ب" قراءة وهو الأقرب. وهذا الرأي السادس قاله أبو حيان في البحر ٧/٣٣٤..
٣٩ من الشواذ وانظر المعاني للفراء ٢/٣٧٦ ومختصر ابن خالويه ١٢٥ والتبيان ١٠٨١ والكشاف ٣/٣٢١..
٤٠ الدر المصون ٤/٥١٢..
٤١ ما بين القوسين سقط من "ب"..
٤٢ المرجع السابق..
٤٣ انظر: زاد المسير ٧/١٥..
٤٤ في "ب" بسبب تحريف..
٤٥ نقله الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير ٢٦/٦٤..
قوله :﴿ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ ﴾ تقدم في هود١ تشديد «لمَّا » وتخفيفها والكلام في ذلك، وقال ابن الخطيب في مناسبة وقوع «لما » المشددة موقع «إلا » : إن لما كأنَّهَا حَرْفا نفي جمعاً وهما :«لَمْ » و «مَا » فتأكد النفي وإلا كأنها حرفا نفي :«إن ولاَ » فاستعمل أحدهما مكان الآخر انتهى٢. وهذا يجوز أن يكون أخذه من قول الفراء في " إلا " في الاستثناء إنها مركبة من «إنْ ولاَ » إلا أنَّ الفراء جعل " إنْ " مخففة من الثقيلة وجعلها نافية٣ وهو قول ركيك رَدَّهُ عليه النحويون٤. وقال الفراء أيضاً إنّ لما هذه أصلها لَمْمَا فخففت بالحذف وتقديم هذا كله مُوَضِّحاً.
و «كل » مبتدأ و «جميع » خبره و «مُحْضَرُونَ » خبر ثان لا يختلف ذلك سواء شددت «لما » أم خففتها٥، لا يقال : إن جميعاً تأكيد لا خبر ( لأن )٦ «جميعها » هنا فَعِيل بمعنى مفعول أي : مجموعون فكل يدل على الإحاطة والشمول وجميع يدل على الاجتماع فمعناها حمل على لفظها٧ كما في قوله :﴿ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ﴾ [ القمر : ٤٤ ] وقدم «جميع » في الموضعين لأجْل الفَوَاصِل٨ و «لَدَيْنا » متعلق «بمُحْضَرُونَ »٩. فمن شدد١٠ «فلما » بمعنى إلا وإنْ نافية كما تقدم والتقدير : ومَا كُلُّ إلاَّ جميعٌ١١، ومن خفَّفَ «فَإنْ » مخففة ( من الثقيلة ) واللام فارقة وما مزيدة١٢. هذا قول البصريين١٣. والكوفيون يقولون : إنَّ «إنْ » نافية واللام بمعنى١٤ إلا كما تقدم مراراً.

فصل :


لما بين الإهلاك١٥ بين أن من أهْلَكَهُ ليس بتارك له بل بعده جمع وحبس وحساب وعقابٌ ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحةً ونعْمَ ما قال القائل :
٤١٧٩- ولو أنّا إذا ما متْنَا تُرِكْنَا. . . لَكَانَ المَوْتُ رَاحَة كُلِّ حَيِّ
وَلكِنَّا إِذا مِتْنا بُعِثْنا. . . وَنُسْأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيِّ
قال الزمخشري : إن قال قائل١٦ :«كل وجميع » بمعنى واحد فكيف جعل جميعاً خبراً ل «كلّ » حيث أدخل اللام عليه إذ التقدير : وإن كل لجميعٌ ؟ نقول معنى :«جميع » مجموع ومعنى :«كل » أي كل فرد مجموع مع الآخر مضموم إليه ويمكن أن يقال :«مُحْضَرُونَ » يعني١٧ كما١٨ ذكره وذلك لأنه لو قال : وإن جميع لجميع محضرون لكان كلاماً صحيحاً. قال ابن الخطيب : ولم يوجد ما ذكره من الجواب بل الصحيح أنَّ مُحْضَرُونَ كالصفة للجمع فكأنه قال : جميعٌ جميعٌ١٩ محضرون كما نقُول : الرجلُ رجلٌ عالم والنبيُّ نبيُّ مرسل. والواو في «وَإنْ كُلّ » يعطف على الحكاية كأنه يقول : بَيَّنْتُ لك ما ذكرت وأبين أن كُلاًّ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ٢٠.
١ عند قوله تعالى: ﴿وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم﴾ من الآية ١١١ وبين هناك أن نافعا وابن كثير وأبا عمرو والكسائي قرأوا بتشديد: "لما" والباقون بالتخفيف وشدد "إن" ابن عامر وحفص وحمزة وخفف "إن" نافع وابن كثير، وشددها وحدها أبو عمرو والكسائي وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم وأن كلا لما بتنوين كل ولما بمعنى وإن كلا ملمومين أي مجموعين. وقرأ أبي: وإن كل لما على أن إن نافية ولما بمعنى إلا. وكما قرىء: وإن كلا تخفيف إن من الثقيلة، ونست لأبي وإن كل لما بتخفيف الميم وفتح الكاف..
٢ تفسيره ٢٦/٦٤ و ٦٥..
٣ وهو أحد وجهيه في المعاني ٢/٣٧٧ في تشديد وتخفيف "لما" قال: والوجه الآخر من التثقيل أن يجعلوا "لما" بمنزلة إلا مع "إن" خاصة فتكون في مذهبها بمنزلة إنما إذا. وضمت في معنى إلا كأنها "لم" ضمت إليها"ما" فصارا جميعا استثناء وخرجتا من حد الجحد. ثم يقول: ونرى أن قول العرب "إلا" إنما جمعوا بين "إن" التي تكون جحدا –أي نفيا- وضموا إليها "لا" فصارا جميعا حرفا واحدا وخرجا من حد الجحد إذ جمعتا فصارتا حرفا واحدا..
٤ وجدت في المغني لابن هشام ٢٨٢ قولا بهذا المعنى ولم يعقب عليه، قال: وأما قراءة أبي بكر بتخفيف "إن" وتشديد "لما" فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون مخففة من الثقيلة ويأتي في "لما" تلك الأوجه.
والثاني: أن تكون إن نافية و "كل" مفعول بإضمار أرى وما بمعنى إلا. وقد قال الفراء: "وأما من شدد لما فإنه- والله أعلم- أراد لمن ما ليوفينهم- هود آية ١١١- فلما اجتمعت ثلاث ميمات حذفت واحدة فبقيت اثنتان" المعاني ٢/٢٩، وقال في تلك السورة: " وإن كل لمن ما جميع ثم حذفت إحدى الميمات لكثرتها". المعاني ٢/٣٧٧..

٥ قاله السمين في الدر ٤/٥١٣..
٦ سقط من نسخة "ب"..
٧ هذا قول الزمخشري في الكشاف مع تغيير في بعض الكلم بالزيادة والتوضيح ٣٠٠/٣٢١..
٨ البحر المحيط ٧/٣٣٤ والدر المصون ٤/٥١٣..
٩ السابق..
١٠ التشديد لحفص وابن عامر وعاصم. وهي سبعية متواترة. الإتحاف ٣٦٤ والسبعة ٣٣٩و ٣٤٠..
١١ قاله ابن الأنباري في البيان ٢/٢٩٤ والنحاس في الإعراب ٣/٣٩٣ نقلا عن سيبويه ومكي في المشكل ٢/٢٢٥ وأبو البقاء في التبيان ٧١٦ والزمخشري في الكشاف ٣/٣٢١ وأبو حيان في البحر ٧/٣٤..
١٢ فكل مبتدأ وجميع الخبر وانظر: المشكل ٢/٢٢٥ والإعراب ٤/٣٩٣ والبيان ٢/٢٩٤ والكشاف ٣/ والتبيان ٧١٦ والبحر ٧/٣٣٤..
١٣ انظر: المراجع السابقة..
١٤ قال أبو إسحاق الزجاج في المعاني ٤/٢٨٦: من قرأ بالتخفيف "لما" فما زائدة مؤكدة والمعنى إن كل لجميع لدينا محضرون ومعناه: وما كل إلا جميع لدينا. ويقرأ لما بالتشديد ومعنى ههنا إلا، تقول:"سألتك لما فعلت". وقد نقلت رأي الفراء منذ قليل من المعاني ٢/٣٧٦ و٣٧٧. وقد صرح الفراء في مكان آخر بأن اللام قد تكون بمعنى إلا فقال: ومعنى إن ضربت لزيدا كمعنى قولك: " ما ضربت إلا زيدا". انظر: المعاني ٢/٣٩٥..
١٥ الرازي ٢٦/٦٥..
١٦ الكشاف ٣/٣٢١..
١٧ في "ب" يغني..
١٨ في "ب" عما ذكره..
١٩ كذا هنا جمع جميع وفي الرازي: جميع جميع..
٢٠ السابق..
قوله: ﴿وَآيَةٌ﴾ خبر مقدم و «لَهُمْ» صفتها أو متعلقة «بآية» ؛ لأنها (بمعنى) علامة. و «الأرض» مبتدأ وتقدم تخفيف «الميتة» وتشديدها في أول (آل) عمران.
ومع أبو حيان أن يكون «لأهم» صفة لآية ولم يبين وَجْهَةُ ولا وجه له وأعرب أبو البقاء «آية» مبتدأ و «لهم» الخبر و «الأرض الميتة» مبتدأ وصفته و «أَحْيَيْنَا» خبره، والجملة مفسرة «لآيةٍ».
209
وبهذا بدأ ثم قال: وقيل؛ فذكر الوجه الأول وكذلك حكى مَكِّيٌّ أعني أن تكون «آية» ابتداء و «لهم» الخبر وجوز مكي أيضاً أن تكون «آية» متبدأ و «الأرض» خبره وهذا ينبغي أن لا يجوز؛ لأنه لا يُتْرَكُ المعرفة من الابتداء بها ويبتدأ بالنَّكِرَة إلاَّ في مَوَاضِعَ للضَّرُورَةِ.
قوله: «أحييناها» تقدم أنه يجوز أن يكون خبر «الأَرْضِ» ويجوز أيضاً أن يكون حالاً من «الأَرْضِ» إذا جعلناها مبتداً و «آية» خبر مقدم وجوز الزمخشري في «أَحْيَيْنَاهَا» وفي «نَسْلخُ» أن يكونا صفتين للأرض والليل وإن كانا معرفين بأل لأنه تعريف بأل الجنسيَّة فهما في قوة النكرة قال كقوله:
٤١٨٠ - وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي...................
لأنه لم يقصد لئيماً بعينه، ورده أبو حيان بأن فيه هدماً للقواعد من أنّه لا تنعت
210
المعرفة بنكرة قال: وقد تبعه ابنُ مالك ثم خرج أبو حيان الحمل على الحال أي الأرض مُحْيَاةً والليل مُنْسَلِخاً منه النهار واللئيم شاتماً لي، قال شهاب الدين: وقد اعتبر النحاة ذلك في مواضع فاعتبروا معنى المعرف بأل الجنسية دون لفظه فَوَصَفُوهُ بالنَّكرة الصَّرِيحَة، نحو: يا لرجل خير منك على أحد الأوجه. وقوله: ﴿إِلاَّ الذين﴾ [العصر: ٣] بعد ﴿إِنَّ الإنسان﴾ [العصر: ٢] وقوله: ﴿أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ﴾ [النور: ٣١] و «أهْلَكَ النَّاسُ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ» كل هذا ما روعي فيه المعنى دون اللفظ، وإن اختلف نوع المراعاة، ويجوز أن يكون «أحْيَيْنَاهَا» استئنافاً بين به كونَها آيةً.

فصل


وجه التعلق بما قبله من وجهين:
أحدهما: أنه لما قال: كان ذلك (إشارة) إلى الحشر فذكر ما يدل على إمكانه قطعاً لإنكارهم واستعبادهم وإصرارهم وعنادهم فقال: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا﴾ كذلك يُحْيِي المَوْتَى.
وثانيهما: أنه لما ذكر حال المرسلين وإهلاك المكذِّبين وكان شُغْلُهم التوحيد ذكر ما يدل عليه وبدأ بالأرض لكونها مكانَهم لا مفارقة لهم منها عند الحركة والسكون؟
فإن قيل: الأرض آية مطلقة فلم خصها بهم حيث قال: «وآيَةٌ لَهُمْ» ؟.
فالجواب: الآية تعدد وتردد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه أما من عرف الشيء بطريق الرؤية لا يذكر له لدليل فالنبي - عليه (الصلاة و) السلام - وعباد الله المخلصين عرفوا الله قبل الأرض والسماء فليست الأرض معرفة لهم وهذا كما قال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ﴾ [فصلت: ٥٣] وقال: {أَوَلَمْ
211
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: ٥٣] يعني أنت كفاك الله معرفاً به عرفت كل شيء فهو شهيدٌ لك على كل شيء وأما هؤلاء نبين لهم الحق بالآفاق والنفس وكذلك ها هنا الأرض آية لهم، فإن قيل: إن قُلْنا الآية مذكروة للاستدلال على جَوَاز إحياء المَوْتَى فيكفي قوله: «أحْيَنْنَاهَا» ولا حاجة إلى قوله: ﴿وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً﴾ وغير ذلك وإن قلنا: إنه للاستدلال على وجود الإله ووحدانيته فلا فائدة في قوله: ﴿الأرض الميتة﴾ فقوله: ﴿الميتة أَحْيَيْنَاهَا﴾ كافٍ في التوحيد فما فائدة قوله: ﴿وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً﴾ ؟ فالجواب: هي مذكورة للاستدلال عليها ولكلّ ما ذكره الله تعالىً فائدة أما فائدة قوله: ﴿وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّا﴾ فهو بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى لأنه لما أحيا الأرض وأخرج منها حباً كان ذلك إحياء تامًّا لأن الأرض المُخْضرَّة التي لا تنبت الزرع ولا تخرج الحَبَّ دون ما تنبيه الحياةُ، فكأنه تعالى قال: الذي أحيا الأرض إحياء كاملاً منبتاً للزّرع يحي الموتى إحياء كاملاً بحيث يدري الأمور وأما بالنسبة إلى التوحيد فلأن فيه تقرير النعمة، كأنه يقول: آية لهم الأرضُ فإنها مكانُهم ومَهْدُهُم الذي فيه تحريكهم وإسكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم لا بد لهم منها في نعمة ثم إحياؤها نعمة ثانية فإنها تصير أحسن وأنزه ثم إخراج الحبِّ منها نعمة ثالثة فإن قوتهم تصير في مكانهم وكان يمكن أن يجعل رزقهم في السماء أو الهواء فلا يحصل لهم الوُثُوقُ ثم جعل الحياة منها نعمة رابعة لأن الأرض تنبت الحَبَّ في كل سنة والأشجار بحيث يوجد منها الثِّمار فيكون بعد الحبِّ وجوداً ثم فجر منها العيون ليحصل لهم الاعتمال بالحصول ولو كان ماؤها من السماء لحصل ولكن لم يعلم أنها أين تغرس وأين (يقع) المطر.

فصل


المعنى «أَحْيَيْنَاها» بالمطر «وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا» يعني الحِنْطَة والشعير وما أشبههما «فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» أي من الحب «وَجَعَلْنَا فِيها جَنَّاتٍ» بساتين «مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وفَجَّرْنا فِيهَا» في الأرض «مِنَ العُيُونِ لِيَأْكُلُوا منْ ثَمَرِهِ» الحاصل بالماء.
قوله: {وَفَجَّرنَا «العامة على التشديد تكثيراً لأنها مخففة متعدّية، وقرأ جَنَاحُ بْنُ
212
حبيش بالتخفيف، والمفعول محذوف على كلتا القراءتين أي يَنْبُوعاً كما في آية:» سًبْحَانَ «.
قوله: ﴿مِن ثَمَرِهِ﴾ قيل: الضمير عائد على النخيل؛ لأنه أقرب مذكور وكان من حق الضمير أن يثنى على هذا لتقدم شيئين وهما الأعْنَاب والنَّخِيل إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما، وقيل يعود على جنات وعاد بلفظ المفرد ذهاباً بالضمير مَذْهَبَ اسم الإشارة كقول رؤبة:
٤١٨١ - فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبلَقْ كَأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
فقيل له، فقال: أردت كأن ذاك وتلك، وقيل: عائد على الماء المدلول عليه بعيون وقيل: بل عاد عليه لأنه مقدر أي من العيون. ويجوز أن يعود على العيون ويعتذر عن إفراده بما تقدم في عوده على جنات، ويجوز أن يعود على الأعناب والنخيل معاً ويعتذر عنه بما تقدم أيضاً وقال الزمخشري وأصله من «ثَمَرِنَا»
لقوله: «وفَجَّرْنَا» و «أَيْدِينَا» فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات. والمعنى ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر. فعلى هذا يكون الضمير عائداً على الله تعالى ولذلك فسر معناه بما ذكر، وتقدمت هذه القراءات في هذه اللفظ في سورة الأَنْعَام.
213
قوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ في «ما» هذه أربعة أوجه:
أحدها: أنها موصولة أي ومن الذي عملته أيديهم من الغَرْس والمُعَالَجَة. وفيه تجوز على هذا.
والثاني: أنها نافية أي لم يعلموه هم بل الفاعل له هو الله سبحانه وتعالى، أي وجدها معمولة ولا صنع لهم فيها. وهو قول الضحاك ومقاتل. وقيل: أراد العيون والأنهار التي لم تعلمها يدُ خلقٍ مثل الدِّجْلة والفرات والنيل ونحوها. وقرأ الأخوان وأبو بكر بحذف الهاء والباقون: وما عملته بإثباتها. فإن كانت «ما» موصولة فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حذف العائد كما حذف في قوله: ﴿أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً﴾ [الفرقان: ٤١] بالإجماع وعلى قراءة غيرهم جيء به على الأصل، وإن كانت نافيةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر لا ضمير مقدر ولكن المفعول محذوف أي ما عَمِلَتْ أيْدِيهم شَيْئاً من ذلك وعلى قراءة غيرهم الضمر يعود على «ثَمَرِهِ» وهي مرسومة بالهاء في غير مصاحف الكوفة وبحذفها فيما عداها، فالأخوان وأبو بكر وافقوا مصاحفهم والباقون غير حفص وافقوا (ها) أيضاً وحفص خالف مصحفه وهذا يدل على أن القراءة متلقاةٌ من أفواه الرجال فيكون عاصم قد أقرأها لأبي (بكر) بالهاء كالكلام في الموصولة.
والرابع: أنها مصدرية أي ومن عمل أيديهم والمصدر واقع موقع المفعول
214
به فيعود المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة.

فصل


إذا قلنا: «ما» موصولة يحتمل أن يكون المعنى وما عملته أيديهم بالتِّجَارة كأنه ذكر نَوْعَيْ ما يأكل الإنسان وهما الزراعة والتجارة (أ) ومن النبات ما يؤكل من غير عمل الأيدي كالعِنَبِ والتَّمْر وغيرهما ومنه ما يعمل فيه عمل فيؤكل كالأشياء التي لا تؤكل إلا مطبوخةأو كالزيتون الذي لا يؤكل إلا بعد إصلاح ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر قوله: ﴿أَفَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ وذكر بصيغة الاستفهام لما تقدم في فوائد الاستفهام قوله: ﴿سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا﴾ أيا لأصناف و «سبحان» عَلَمٌ دال على التسبيح تقديره: سُبِّح تَسْبِيحَ الِّذِي خلق الأزواج.
ومعنى (سبح) نَزَّهَ (و) وجه تعلق الآية بما قبلها هو أنه تعالى لما قال: ﴿أَفَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ وشكر الله بالعبادة وهم تركوها وعبدوا غيره فقال: سُبْحَانَ الذي خلق الأزواج كلها وغيره لم يخلق شيئاً. أو يقال: لما بين أنهم أنركروا الآيات ولم يشكروا (بين) ما ينبغي علهي أن يكون عليه العامل فقال ﴿سُبْحَانَ الذي خَلَق﴾ تَنَزَّهَ عن أن يكونَ له شَرِيكٌ أو يكون عاجزاً عن إِحياء الموتى.
قوله: ﴿مِمَّا تُنبِتُ الأرض﴾ من الثِّمار والحُبُوب والمعادن ونحوها، «وَمِنْ أَنْفُسهِمْ» يعين الذكور والإناث والدلائل النفسية «وَمِمَّا» لاَ يَعْلَمُونَ «يدخل فيه ما في أقطار السموات وتخوم الأرض.
215
﴿ وَجَعَلْنَا فِيها جَنَّاتٍ ﴾ : بساتين ﴿ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وفَجَّرْنا فِيهَا ﴾ : في الأرض ﴿ مِنَ العُيُونِ لِيَأْكُلُوا منْ ثَمَرِهِ ﴾ الحاصل بالماء١.
قوله :﴿ وَفَجَّرنَا ﴾ : العامة على التشديد تكثيراً ؛لأنها٢ مخففة متعدّية، وقرأ جَنَاحُ بْنُ حبيش بالتخفيف٣، والمفعول محذوف على كلتا القراءتين أي : يَنْبُوعاً كما في آية :«سبْحَانَ »٤.
قوله :﴿ مِن ثَمَرِهِ ﴾ قيل : الضمير عائد على النخيل ؛ لأنه أقرب مذكور وكان من حق الضمير أن يثنى٥ على هذا لتقدم٦ شيئين وهما : الأعْنَاب والنَّخِيل إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما، وقيل : يعود٧ على جنات وعاد بلفظ٨ المفرد ذهاباً بالضمير مَذْهَبَ اسم الإشارة٩ كقول رؤبة :
٤١٨١- فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبلَقْ. . . كَأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ١٠
فقيل له :١١، فقال : أردت كأن ذاك وتلك، وقيل : عائد على الماء المدلول عليه بعيون١٢. وقيل : بل عاد عليه لأنه مقدر أي من العيون. ويجوز أن يعود على العيون. ويعتذر عن إفراده بما تقدم في عوده على جنات، ويجوز أن يعود على الأعناب والنخيل معاً ويعتذر عنه بما تقدم١٣ أيضاً. وقال الزمخشري وأصله من «ثَمَرِنَا » لقوله١٤ :﴿ وفَجَّرْنَا ﴾ و «أَيْدِينَا »١٥ فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات١٦. والمعنى ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر. فعلى هذا يكون الضمير عائداً على الله تعالى ؛ ولذلك فسر معناه بما ذكر١٧، وتقدمت هذه القراءات في هذه اللفظ في سورة١٨ الأَنْعَام.
قوله :﴿ وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ في «ما » هذه أربعة أوجه :
أحدها : أنها موصولة١٩ أي : ومن الذي عملته أيديهم من الغَرْس والمُعَالَجَة. وفيه تجوز٢٠ على هذا.
والثاني : أنها نافية٢١ أي : لم يعلموه هم بل الفاعل له هو الله سبحانه وتعالى، أي : وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها. وهو قول الضحاك ومقاتل. وقيل : أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يدُ٢٢ خلقٍ مثل الدِّجْلة والفرات والنيل ونحوها. وقرأ الأخوان وأبو بكر بحذف الهاء٢٣. والباقون : وما عملته بإثباتها. فإن كانت «ما » موصولة فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حذف العائد كما حذف في قوله :﴿ أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً ﴾ [ الفرقان : ٤١ ] بالإجماع وعلى قراءة غيرهم جيء به على الأصل، وإن كانت نافيةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر لا ضمير مقدر ولكن المفعول محذوف أي : ما عَمِلَتْ أيْدِيهم شَيْئاً من٢٤ ذلك وعلى قراءة غيرهم الضمير يعود على ﴿ ثَمَرِهِ ﴾ وهي مرسومة بالهاء في غير مصاحف الكوفة وبحذفها فيما٢٥ عداها، فالأخوان٢٦ وأبو بكر وافقوا مصاحفهم والباقون غير حفص وافقو ( ها )٢٧ أيضاً وحفص خالف مصحفه وهذا يدل على أن القراءة متلقاةٌ من أفواه الرجال فيكون عاصم قد أقرأها لأبي ( بكر )٢٨ بالهاء ولحفص بدونها.
الثالث : أنها٢٩ نكرة موصوفة٣٠ والكلام فيها كالكلام٣١ في الموصولة.
والرابع : أنها مصدرية أي ومن عمل٣٢ أيديهم والمصدر واقع موقع المفعول به فيعود المعنى إلى معنى الموصولة٣٣ أو الموصوفة.

فصل :


إذا قلنا :«ما » موصولة يحتمل أن يكون المعنى : وما عملته أيديهم بالتِّجَارة كأنه ذكر نَوْعَيْ ما يأكل الإنسان وهما الزراعة والتجارة ( أ ) و٣٤من النبات ما يؤكل من غير عمل الأيدي كالعِنَبِ والتَّمْر وغيرهما ومنه ما يعمل فيه عمل فيؤكل كالأشياء التي لا تؤكل إلا مطبوخة أو كالزيتون الذي لا يؤكل إلا بعد إصلاح٣٥ ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر بقوله :﴿ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾ وذكر بصيغة الاستفهام لما تقدم في فوائد الاستفهام٣٦. قوله :﴿ سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا ﴾ أي : الأصناف و ﴿ سبحان ﴾عَلَمٌ دال على التسبيح تقديره : سُبِّح تَسْبِيحَ الِّذِي خلق الأزواج.
ومعنى ( سبح ) :٣٧ نَزَّهَ.
١ وانظر هذه التفسيرات في القرطبي ١٥/٢٥..
٢ أي "فجر"..
٣ ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٥ وهي من الشواذ كما ذكرها الزمخشري في كشافه بدون نسبة. الكشاف ٣/٣٢١..
٤ يشير إلى الآية ٩٠ من سورة الإسراء: ﴿حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا﴾ فينبوعا في الإسراء مفعول "لتفجر" المضارع الثلاثي..
٥ في "ب" ينبني..
٦ وفيها: التقدير بشيئين..
٧ ذكر هذين الرأيين أبو حيان في البحر ٧/٣٣٥ والسمين في الدر ٤/٥١٥ والزمخشري في الكشاف ٣/٣٢٢ وجعلها القرطبي عائدا على ماء العيون. القرطبي ٤٥/٢٤..
٨ في "ب" لفظ..
٩ المراجع السابقة..
١٠ من الرجز والبلق سواد وبياض في الجلد. والفعل منه بلق كفرح. والتوليع استطالة البلق. وشاهده: وضع اسم الإشارة موضع الضمير. وقد نوقش رؤبة في هذا فقال: أردت كأن ذاك وقد تقدم..
١١ في البحر المحيط: "كيف قلت: كأنه والذي تقدم خطوط فقال: أردت الخ..." البحر ٧/٣٣٥ وثبت عن أبي عبيدة : فقلت لرؤبة: إن كانت خطوطا فقل: كأنها وإن كان سواد وبلق فقل: كأنهما. فقال: كأن ذاك ويلك توليع البهق. اللسان: "و ل ع" ٤٩١٧..
١٢ نقله القرطبي ١٥/٢٥..
١٣ وانظر هذه الأقوال كلها في الدر المصون ٤/٥١٦..
١٤ كذا هو الأصح من "ب" وما في "أ" كقوله..
١٥ كذا في النسختين وما في الكشاف: "وجعلنا" بدلا من "أيدينا"..
١٦ الكشاف ٣/٣٢٢..
١٧ قاله السمين في الدر المصون ٤/٥١٦..
١٨ يشير إلى قوله: ﴿كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده﴾ الآية ١٤١. وقراءة حمزة والكسائي وآخرين بضم الثاء "ثمره" والميم أيضا والباقون بالفتح. الإتحاف ٣٦٥ و ٢١٩ والكشاف ٣/٣٢١..
١٩ قيلت في :"معاني القرآن وإعرابه" ٤/٢٨٦ ومعاني الفراء ٢/٣٧٧ والإعراب للنحاس ٣/٣٩٤ ومشكل الإعراب ٢/٢٢٦ والبيان للأنباري ٢/٢٩٥ والتبيان ١٠٨٢ والدر المصون ٤/٥١٦ والكشاف ٣/٣٢٢ والبحر ٧/٣٣٥..
٢٠ يقصد المجاز المرسل الذي علاقته اعتبار ما سيكون كقوله: "إني أراني أعصر خمرا"..
٢١ الكشاف والتبيان وبقية المراجع السابقة وانظر: القرطبي ١٥/٢٥..
٢٢ في "ب" يدخلونها. تحريف..
٢٣ زاد المسير ٧/١٦ والقرطبي ١٥/٢٥ والسبعة ٥٤٠ والإتحاف ٣٦٥ ومعاني الفراء ٢/٣٧٧..
٢٤ ولم يرجح ابن الأنباري هذا الوجه قال: "أن تكون نافية في قراءة من قرأ: "عملت" بغير هاء. والوجه الأول –يقصد الموصول- أوجه الوجهين، لأنها إذا كانت نافية افتقرت إلى تقدير مفعول لعملت". انظر البيان ٢/٢٩٥..
٢٥ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٣٢٢..
٢٦ في "ب" لأن الأخوان. بتحريف نحوي..
٢٧ لفظ "ها" سقط من "ب"..
٢٨ سقط من "ب" عجز المضاف إليه. وانظر: الدر المصون ٤/٥١٧..
٢٩ في "ب" أنهما تحريف..
٣٠ التبيان لأبي البقاء ١٠٨٢ والسمين ٤/٥١٧..
٣١ في كونهما في موضع جر عطفا على ثمره ويجوز أن يكون نصبا على موضع من ثمره..
٣٢ في "ب" أي وما عملت خطأ..
٣٣ ذكر هذا الوجه أبو حيان في البحر ٧/٣٣٥ ومن بعده السمين ٤/٥١٧..
٣٤ بهمزة زيادة على الفخر الرازي وفي "ب" إذ من النبات..
٣٥ انظر: الرازي ٢٦/٦٨..
٣٦ لأن الغرض الانتفاع بما هو بين أيديهم والشكر من جهة التدبر فلما لم ينتفعوا قيل لهم ذلك..
٣٧ سقط من "ب"..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:﴿ وَجَعَلْنَا فِيها جَنَّاتٍ ﴾ : بساتين ﴿ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وفَجَّرْنا فِيهَا ﴾ : في الأرض ﴿ مِنَ العُيُونِ لِيَأْكُلُوا منْ ثَمَرِهِ ﴾ الحاصل بالماء١.
قوله :﴿ وَفَجَّرنَا ﴾ : العامة على التشديد تكثيراً ؛لأنها٢ مخففة متعدّية، وقرأ جَنَاحُ بْنُ حبيش بالتخفيف٣، والمفعول محذوف على كلتا القراءتين أي : يَنْبُوعاً كما في آية :«سبْحَانَ »٤.
قوله :﴿ مِن ثَمَرِهِ ﴾ قيل : الضمير عائد على النخيل ؛ لأنه أقرب مذكور وكان من حق الضمير أن يثنى٥ على هذا لتقدم٦ شيئين وهما : الأعْنَاب والنَّخِيل إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما، وقيل : يعود٧ على جنات وعاد بلفظ٨ المفرد ذهاباً بالضمير مَذْهَبَ اسم الإشارة٩ كقول رؤبة :

٤١٨١-
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبلَقْ... كَأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ١٠
فقيل له :١١، فقال : أردت كأن ذاك وتلك، وقيل : عائد على الماء المدلول عليه بعيون١٢. وقيل : بل عاد عليه لأنه مقدر أي من العيون. ويجوز أن يعود على العيون. ويعتذر عن إفراده بما تقدم في عوده على جنات، ويجوز أن يعود على الأعناب والنخيل معاً ويعتذر عنه بما تقدم١٣ أيضاً. وقال الزمخشري وأصله من «ثَمَرِنَا » لقوله١٤ :﴿ وفَجَّرْنَا ﴾ و «أَيْدِينَا »١٥ فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات١٦. والمعنى ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر. فعلى هذا يكون الضمير عائداً على الله تعالى ؛ ولذلك فسر معناه بما ذكر١٧، وتقدمت هذه القراءات في هذه اللفظ في سورة١٨ الأَنْعَام.
قوله :﴿ وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ في «ما » هذه أربعة أوجه :
أحدها : أنها موصولة١٩ أي : ومن الذي عملته أيديهم من الغَرْس والمُعَالَجَة. وفيه تجوز٢٠ على هذا.
والثاني : أنها نافية٢١ أي : لم يعلموه هم بل الفاعل له هو الله سبحانه وتعالى، أي : وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها. وهو قول الضحاك ومقاتل. وقيل : أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يدُ٢٢ خلقٍ مثل الدِّجْلة والفرات والنيل ونحوها. وقرأ الأخوان وأبو بكر بحذف الهاء٢٣. والباقون : وما عملته بإثباتها. فإن كانت «ما » موصولة فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حذف العائد كما حذف في قوله :﴿ أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً ﴾ [ الفرقان : ٤١ ] بالإجماع وعلى قراءة غيرهم جيء به على الأصل، وإن كانت نافيةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر لا ضمير مقدر ولكن المفعول محذوف أي : ما عَمِلَتْ أيْدِيهم شَيْئاً من٢٤ ذلك وعلى قراءة غيرهم الضمير يعود على ﴿ ثَمَرِهِ ﴾ وهي مرسومة بالهاء في غير مصاحف الكوفة وبحذفها فيما٢٥ عداها، فالأخوان٢٦ وأبو بكر وافقوا مصاحفهم والباقون غير حفص وافقو ( ها )٢٧ أيضاً وحفص خالف مصحفه وهذا يدل على أن القراءة متلقاةٌ من أفواه الرجال فيكون عاصم قد أقرأها لأبي ( بكر )٢٨ بالهاء ولحفص بدونها.
الثالث : أنها٢٩ نكرة موصوفة٣٠ والكلام فيها كالكلام٣١ في الموصولة.
والرابع : أنها مصدرية أي ومن عمل٣٢ أيديهم والمصدر واقع موقع المفعول به فيعود المعنى إلى معنى الموصولة٣٣ أو الموصوفة.

فصل :


إذا قلنا :«ما » موصولة يحتمل أن يكون المعنى : وما عملته أيديهم بالتِّجَارة كأنه ذكر نَوْعَيْ ما يأكل الإنسان وهما الزراعة والتجارة ( أ ) و٣٤من النبات ما يؤكل من غير عمل الأيدي كالعِنَبِ والتَّمْر وغيرهما ومنه ما يعمل فيه عمل فيؤكل كالأشياء التي لا تؤكل إلا مطبوخة أو كالزيتون الذي لا يؤكل إلا بعد إصلاح٣٥ ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر بقوله :﴿ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾ وذكر بصيغة الاستفهام لما تقدم في فوائد الاستفهام٣٦. قوله :﴿ سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا ﴾ أي : الأصناف و ﴿ سبحان ﴾عَلَمٌ دال على التسبيح تقديره : سُبِّح تَسْبِيحَ الِّذِي خلق الأزواج.
ومعنى ( سبح ) :٣٧ نَزَّهَ.
١ وانظر هذه التفسيرات في القرطبي ١٥/٢٥..
٢ أي "فجر"..
٣ ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٥ وهي من الشواذ كما ذكرها الزمخشري في كشافه بدون نسبة. الكشاف ٣/٣٢١..
٤ يشير إلى الآية ٩٠ من سورة الإسراء: ﴿حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا﴾ فينبوعا في الإسراء مفعول "لتفجر" المضارع الثلاثي..
٥ في "ب" ينبني..
٦ وفيها: التقدير بشيئين..
٧ ذكر هذين الرأيين أبو حيان في البحر ٧/٣٣٥ والسمين في الدر ٤/٥١٥ والزمخشري في الكشاف ٣/٣٢٢ وجعلها القرطبي عائدا على ماء العيون. القرطبي ٤٥/٢٤..
٨ في "ب" لفظ..
٩ المراجع السابقة..
١٠ من الرجز والبلق سواد وبياض في الجلد. والفعل منه بلق كفرح. والتوليع استطالة البلق. وشاهده: وضع اسم الإشارة موضع الضمير. وقد نوقش رؤبة في هذا فقال: أردت كأن ذاك وقد تقدم..
١١ في البحر المحيط: "كيف قلت: كأنه والذي تقدم خطوط فقال: أردت الخ..." البحر ٧/٣٣٥ وثبت عن أبي عبيدة : فقلت لرؤبة: إن كانت خطوطا فقل: كأنها وإن كان سواد وبلق فقل: كأنهما. فقال: كأن ذاك ويلك توليع البهق. اللسان: "و ل ع" ٤٩١٧..
١٢ نقله القرطبي ١٥/٢٥..
١٣ وانظر هذه الأقوال كلها في الدر المصون ٤/٥١٦..
١٤ كذا هو الأصح من "ب" وما في "أ" كقوله..
١٥ كذا في النسختين وما في الكشاف: "وجعلنا" بدلا من "أيدينا"..
١٦ الكشاف ٣/٣٢٢..
١٧ قاله السمين في الدر المصون ٤/٥١٦..
١٨ يشير إلى قوله: ﴿كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده﴾ الآية ١٤١. وقراءة حمزة والكسائي وآخرين بضم الثاء "ثمره" والميم أيضا والباقون بالفتح. الإتحاف ٣٦٥ و ٢١٩ والكشاف ٣/٣٢١..
١٩ قيلت في :"معاني القرآن وإعرابه" ٤/٢٨٦ ومعاني الفراء ٢/٣٧٧ والإعراب للنحاس ٣/٣٩٤ ومشكل الإعراب ٢/٢٢٦ والبيان للأنباري ٢/٢٩٥ والتبيان ١٠٨٢ والدر المصون ٤/٥١٦ والكشاف ٣/٣٢٢ والبحر ٧/٣٣٥..
٢٠ يقصد المجاز المرسل الذي علاقته اعتبار ما سيكون كقوله: "إني أراني أعصر خمرا"..
٢١ الكشاف والتبيان وبقية المراجع السابقة وانظر: القرطبي ١٥/٢٥..
٢٢ في "ب" يدخلونها. تحريف..
٢٣ زاد المسير ٧/١٦ والقرطبي ١٥/٢٥ والسبعة ٥٤٠ والإتحاف ٣٦٥ ومعاني الفراء ٢/٣٧٧..
٢٤ ولم يرجح ابن الأنباري هذا الوجه قال: "أن تكون نافية في قراءة من قرأ: "عملت" بغير هاء. والوجه الأول –يقصد الموصول- أوجه الوجهين، لأنها إذا كانت نافية افتقرت إلى تقدير مفعول لعملت". انظر البيان ٢/٢٩٥..
٢٥ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٣٢٢..
٢٦ في "ب" لأن الأخوان. بتحريف نحوي..
٢٧ لفظ "ها" سقط من "ب"..
٢٨ سقط من "ب" عجز المضاف إليه. وانظر: الدر المصون ٤/٥١٧..
٢٩ في "ب" أنهما تحريف..
٣٠ التبيان لأبي البقاء ١٠٨٢ والسمين ٤/٥١٧..
٣١ في كونهما في موضع جر عطفا على ثمره ويجوز أن يكون نصبا على موضع من ثمره..
٣٢ في "ب" أي وما عملت خطأ..
٣٣ ذكر هذا الوجه أبو حيان في البحر ٧/٣٣٥ ومن بعده السمين ٤/٥١٧..
٣٤ بهمزة زيادة على الفخر الرازي وفي "ب" إذ من النبات..
٣٥ انظر: الرازي ٢٦/٦٨..
٣٦ لأن الغرض الانتفاع بما هو بين أيديهم والشكر من جهة التدبر فلما لم ينتفعوا قيل لهم ذلك..
٣٧ سقط من "ب"..

( و )٣٨ وجه تعلق الآية بما قبلها هو أنه تعالى لما قال :﴿ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾ وشكر الله بالعبادة وهم تركوها وعبدوا غيره فقال :﴿ سُبْحَانَ الذي خلق الأزواج كلها ﴾وغيره لم يخلق شيئاً. أو يقال : لما بين أنهم أنكروا الآيات ولم يشكروا ( بين )١ ما ينبغي عليه أن يكون عليه العامل٢ فقال ﴿ سُبْحَانَ الذي خَلَق ﴾ تَنَزَّهَ عن أن يكونَ له شَرِيكٌ أو يكون عاجزاً عن إِحياء الموتى.
قوله :﴿ مِمَّا تُنبِتُ الأرض ﴾ من الثِّمار والحُبُوب والمعادن ونحوها، ﴿ وَمِنْ أَنْفُسهِمْ ﴾ يعني : الذكور والإناث والدلائل النفسية ﴿ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ يدخل فيه ما في أقطار السموات وتخوم الأرض.
١ سقط كذلك من "ب"..
٢ في "ب" العاقل..
قوله: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل﴾ كقوله: ﴿نَسْلَخُ﴾ و «نَسْلَخُ» استعارة بديعة شبه انكشاف ظُلْمَةِ الليل بكَشْطِ الجِلْد عن الشَّاة لم استدل تعالى بأحوال الأرض وهو المكان
215
الكلِّيُّ استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكُلِّيُّ؛ فإن دلالة الزمان والمكان متناسبة؛ لأن المكانَ لا يستغني عنه الجواهر والزمان لا يستغني عنه الأعراض لأن كل عرض فهو في زمان.
فإن قيل: إذا كان المراد منه الاستدلال بالزمان فَلِمَ خَصَّ الدليل؟!.
فالجواب: أنه لما استدل بالمكان المظلم وهو الأرض استدل بالزَّمَان المُظْلِم وهو الليل ووجه آخر وهو أن اللَّيْلَ فيه سكون (الناس) وهدوء الأصوات وفيه النَّوْم وهو الموت الأصغر فيكون بعد طلوع الفَجْرِ كالنفخ في الصور فيتحرك الناس فذكر الموت كما قال في الأرض: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة﴾ [يس: ٣٣] وذكر من الزمان أشبههما بالموت كما ذكر في المكان أشْبَهَهُمَا بالموت.
فإن قيل: الليل بنفسه آية فأيُّ حاجة إلى قوله: ﴿نَسْلَخُ مِنْهُ النهار﴾.
فالجواب: أن الشيء تتبين بضده منافعه ومحاسنه ولهذا لم يجعل الله الليل وحده آية في موضع من المواضع إلا وذكر آية النهار معها.
قوله: ﴿فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ﴾ أي داخلون في الظلام كقوله: «مُصْبِحِينَ» و «إذَا» للمفاجأة؛ أي ليس لهم بعد ذلك أمرٌ لا بد لهم من الدخول فيه.
قوله: ﴿والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا﴾ يحتمل أن تكون الواو للعطف على «اللَّيْل» تقديره: «وآيَةٌ لَهُم اللَّيلُ نسلخ والشمسُ تَجْري والقمر قدرناه» فيه كلها آية ووقوله «والشمس تجري» إشارة إلى سبب سلخ النهار فإنها تجري لمستقر لها بأم الله فمغرِب الشمس سالخ النّهار فذكر السبب بين صحة الدعوة ويحتمل أن يقال بأن قوله: «والشمس تجري لمستقر لها» إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه تعالى لما قال: «وآية لهم الليل نسلخ منه النهار» ذك أن الشمس تجري فتطلع عن انقضاء الليل فيعود النهار لمنافعه.
قال المفسرون: إن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة.
قوله: «لمستقر» قيل: في الكلام حذف مضاف تقديره تَجْري لِمَجْرى مُسْتَقَرٍّ لها
216
وعلى هذا فاللام للعلة أي لأجل جري مستقر لها. والصحيح أنه لا حذف وأن اللام بمعنى «إلى» ويدل على ذلك قراءة بعضهم «إلَى مُسْتَقَرٍّ» وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وزيْن العابدين وابنُه الباقر والصَّادِق ابن الباقر: لاَ مُسْتَقَّر بلا النافية للجنس وبناء «مُسْتَقَر» على الفتح و «لها» الخبر وابن عبلة لا مُسْتَقَرٌّ بلا العاملة عمل ليس «فمستقر» اسمها و «لها» في محل نصب خبرها، كقوله:
٤١٨٢ - تَعَزَّ فَلاَ شَيْءٌ عَلَى الأَرْضِ بَاقِيا وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا
والمراد (بذلك) أنها لا تستقر في الدنيا بل هي دائمة الجَرَيان وذلك إشارة إلى جريها المذكور.

فصل


قيل: المراد بالمستقر يوم القيامة فعندها تستقر ولا يقى لها حركة وقيل: تَسِيرُ حتَّى تَنْتَهِيَ إلى أبعد مغاربها فلا تتجاوزه ثم ترجع وقيل: الليل وقيل: نهاية ارتفاعها في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء «وروى أبو ذَرّ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي ذر حين غربَتِ الشمس:» تدري أين تذهب «؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حت تسجُدَ تحت العرش فتستأذنَ فيؤذَنَ لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل (منها) وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها: ارْجِعِي من حيث جئت فتطلع من مغربها
217
فذلك قوله:» والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم «وروى عَمْرُو بن دِينَار عن ابن عباس والشمس (تجري) لا مستقرّ لها أي لا قرار لها ولا وقوف وهي جارية أبداً.
قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى جَرْي الشَّمْس أي ذلك الجري تقدير الله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى المستقر أي ذلك المستقر تقدير الله العزيز الغالب والعليم الكامل العلم أي قادر على إجرائها على الوجه الأنفع وذلك من وجوه:
الأول: أن الشمس لو مرّت كل يوم على مُسَامَتَةٍ واحدة لاحترقت (الأرض) التي تُسَامِتُها بمرورها عليها لك يوم وبقي الجمود مستولياً على الأماكن الأُخَر فقدر الله لها بُعْداً لتجمع الرطوبات في باطن الأرض والإسخان في زمان الشتاء ثم قدر قربها بتدريج ليخرج النبات والثمار من الأرض والشجر ويَنْضُجَ ويَجفَّ.
الثاني: قدر لها في كل يوم طُلُوعاً وفي كل ليلة غروباً، لئلا تَكِلَّ القوى والأبصار بالسهر والتعب ولئلا يَخْرُبَ العالم بترك العِمَارة بسبب الظلمة الدائمة.
الثالث: جعل سيرها أبطأ من سير القمر وأسرع من سير زُحَلَ لأنها كاملة النور فلو كانت بطيئةً السير لدامتْ زماناً كثيراً في مُسَامَتَةِ شيء واحد فتحرقه ولو كانت سريعة السير لما حصل لها لبث بقَدْر ما ينضج من الثمار في بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ.
قوله: ﴿والقمر قَدَّرْنَاهُ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمور برفع»
القمر «والباقون بنصبه فالرفع على الابتداء والنصب بإضمار فعل على الاشتغال والوجهان مستويان لتقدم جملةٍ ذاتِ وجهين وهي قوله: ﴿والشَّمْسُ تجري﴾ فإن راعيت صدرها
218
رفعت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عَجُزَهَا نصبت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عَجْزَهَا نصبت لتعطف فعلية على مثلها وبهذه الآية يبطل (قول) الأخفش: إنه لا يجوز النصب في الاسم إلا إذا كان في جملة الاشتغال ضمير يعود على الاسم الذي تضمنته جملةٌ ذات وجهين: قال: لأن المعطوف على الخبر خبر فلا بد من ضمير يعود على المبتدأ فيجوز:» أَزْيْدٌ قَامَ وعمراً أكْرَمْتُه فِي دَارِهِ «ولو لم يقل» في داره «لم يجز ووجه الردّ من هذه الآية أن أربعة من السبعة نصَبُوا وليس في جملة الاشتغال ضمير يعود على الشمس وقد أجمع على النصب في قوله تعالى:
﴿والسمآء رَفَعَهَا﴾ [الرحمن: ٧] بعد قوله: ﴿والنجم والشجر يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦].
قوله: ﴿مَنَازِلَ﴾ فيه أَوْجُهٌ:
أحدها: أنه مفعول ثان لأن «قَدَّرْنَا»
بمعنى صَيَّرْنَا.
الثاني: أنَّه حال ولا بد من حذف مضاف قبل منازل تقديره: ذَا مَنَازِلَ قال الزمخشري: لا بُدَّ من تقدير لفظ يتم به معنى الكلام، لأن القمر لم يجعل نفسه مَنَازلَ.
الثالث: أنه ظرف أي قدرنا مَسِيرَهُ فِي مَنَازِلَ وتقدم نحوه أول يونس.
قوله: ﴿حتى عَادَ كالعرجون﴾ العامة على ضم العين والجيم. وفي وزنه وجهان:
أحدهما: أنه فُعْلُولٌ. فنونه أصلية وهذا هو المرجح.
219
والثاني: وَهُو قول الزجاج: أن نونه مزيدة ووزنه فُعْلُونٌ مشتقاً من الانْعِرَاج وهو الانعطاف وقرأ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بكسر العين وفتح الجيم وهما لغتان كالبُزيون والبِزْيُون والعرجون عُود العِذْق ما بين الشماريخ إلى مَنْبِتِهِ من النخلة وهو تشبيه بديع شبه به القمر في ثلاثة أشياء دقَّتِهِ واستقواسه واصْفِرَارِهِ لأن العِذق الذي عليه الشماريخ إذا قَدِمَ وعَتِقَ دَقَّ وتَقَوَّسَ واصْفَرَّ والقديم ما تَقَادَمُ عَهْدُهُ بحكم العادة ولا يشترط في جواز إطلاق لفظ القديم عليه مدةً بعينها بل إنما يعتبر العادة حتى لا يقال لمدينة بنيت من سنةٍ أو سنتين لبنائها قديم أو هي مدينة قديمةٌ ويقال لبعض الأشياء: إنّه قديم وإن لم يكن له سنةٌ (واحدة) ولهذا جاز أن يقال: بَيْتٌ قديمٌ ولم يجز (أن يقال) في العالم: إنه قديم؛ لأن القِدَم في البيت والبناء يثبت بحكم تقادم العهد ومرور السنين عليه وإطلاق القديم على العالم بِتَمَادِي الأزمنة عند من (لا) يعتقد أنه لا أول له ولا سابق عليه.
قوله: ﴿لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر﴾ أي لا يدخل على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه وهو معنى قوله: ﴿وَلاَ الليل سَابِقُ النهار﴾ أي يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته. وقيل: لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر لا تطلع الشمس بالليل ولا (يطلع) القمر بالنهار وله ضوء فإذا اجتمعا وأدرك كلّ (واحد) منهما صحبه قامت القيامة. وقيل: ﴿لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر﴾ لا تجتمع معه في فَلَك واحد ﴿وَلاَ الليل سَابِقُ النهار﴾ أي لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى: ﴿لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر﴾ بصيغة الفعل وقوله: ﴿وَلاَ الليل سَابِقُ﴾ بصيغة اسم الفاعل ولم يقل ولا الليل «سَبَقَ» ولا قال: لاَ الشَّمْسُ مُدْرِكَةٌ لِلْقَمر؟.
220
فالجواب: أن حركة الشمس التي لا تدرك بها القمر مختصة بالشمس فجعلها كالصادرة منها فذكر بصيغة الفعل لأن صيغة الفعل لا تطلق على من لا يصدر منه الفعل فلا يقال: يَخِيط ولا يكون تصدر منه الخِيَاطَةُ وأما حركة القمر فليست مختصةً بكوكب من الكواكب بل الكل فيها مشترك بسبب حركة فَلَكٍ لا يختص بكوكب فالحركة ليس كالصادرة منه فأطلق على اسم الفاعل لأنه لا يستلزم صدور الفعل يقال: فُلاَنٌ خَيَّاطٌ وإن لك يكن يَخِيط. فإن قيل: قوله: ﴿يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾ [الأعراف: ٥٤] يدل على أن الليل سابق.
فالجواب: أن المراد من الليل ها هنا سلطان الليل وهو القمر ولا يسبق الشمس بالحركة اليَوْمِيَّةِ السريعة والمراد من الليل هاك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر فكأنه طَالبُهُ.
فإن قيل: قد ذكر ههنا سابق (النهار) وقال هناك يطلبه ولم يقل طالبه.
فالجواب: لما بينا (من) أن المراد في هذه السورة من الليل كواكب الليل وحركتها بحركة الفَلَكِ فكأنها لا حَرَكَةَ لها فلا سبق ولا من شأنها أنها سابقة والمراد هناك نفس الليل والنهار وهما زَمَانَانِ لا قرارَ لهما فهو يطلب حثياً لصدور المنقضي منه.
فإن قيل: ما الحكمة في إطلاق الليل وإرادة سلطانه وهو القمر وماذا يكون لو قال: ولا القمرُ سابق الشَّمس.
فالجواب: لو قال ولا القمر سابق الشمس ما كان يفهم أن الإشارة إلى الحركة اليومية فكان يتوهم المناقض بأن الشمس إذا كانت لا تدرك القمر فالقمر أسرع ظاهراً وإذا قال: ولا القمر سابق يظن أن القمر لا يسبق فليس بأسرع فقال اللَّيْل والنهار ليعمل أن الإشارة إلى الحركة التي بها تتم الدورة في يوم وليلة مرة وأن جميع الكواكب لها طلوع وغروب في اللّيل والنهار.
قوله: ﴿وَلاَ الليل سَابِقُ النهار﴾ قرأ عمارة بنصب «النَّهَار» حذف التنوين لالتقاء الساكنين.
221
قال المبرد: سمعته يقرؤها فقلت: ما هذا؟ فقال: أردت سَابِقٌ - يعني بالتنوين - فخففت.
قوله: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ أي يَجْرُون. وهذا يحقق أن لكلِّ طلوع في يوم وليلة ولا يسبق بعضُها بالنسبة إلى هذه الحركة والتنوين في قوله: «كُلُّ» عوض عن الإضافة والمعنى كل واحدٍ. وإسقاط التنوين للإضافة حتى لا يجتمع التعريف والتنكيرُ في شيءٍ واحد فلما أسقط المضاف إليه لفظاً رد التنوين عليه لفظاً وفي المعنى معرف الإضَافَةِ.
فإن قيل: فهل يختلف الأمر عند الإضافة لفظاً وتركها؟.
فالجواب: نعم، لأن قول القائل: كل واحد من الناس كذا لا يذهب الفهم إلى غيرهم فيفيد اقتصار الفهم عليه، فإذا قال: كُلّ كذا يدخل في الفهم عمومٌ أكثر من العموم عند الإضافة وهذا كما في: «قَبْل وبَعْد» إذا قلت: أفعلُ قَبْلَ كذا فإذا حذفت المضاف وقلت أفعل قبل أفاد الفعل قبل كُلِّ شَيْءٍ.
فإِنْ قِيلَ: فهل بين قولنا: «كُلٌّ منْهُمْ» وبين: «كُلّهم» وبين «كُلِّ» فرق؟.
فالجواب: نعم فقولك: كلهم يثبت الأمر للاقتصار عليهم، وقولك: كُلّ منهم يثبت الأمر أولاً للعموم ثم استدركه بالتخصيص فقال: منْهم وقولك: كلّ يثبت الأمر على العموم وتركت عليه فإن قيل: إذا كان «كُلّ» معناه كل واحد منهم والمذكور الشمس والقمر فكيْفَ قال: يَسْبَحُونَ؟.
فالجواب: أن قوله «كل» للعموم فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيَّاراً. وأيضاً فلفظ «كل» يجوز أن يوحَّد نظراً إلى كون لفظه مُوحِّداً غير مثنى ولا مجموع ويجوز أن يجمع لكونه معناه جمعاً، وأما التثنيه فلا يدل عليه اللفظ ولا المعنى وعلى هذا يحسن أن يقال: «زَيْدٌ وعمرٌو كُلُّ جَاءَ» ولا يقال: (كل) جَاءَا بالتثنية. وجواب آخراً قوله: ﴿وَلاَ الليل سَابِقُ﴾ فالمراد من الليل الكواكب فقال: «يَسْبَحُونَ». فصل
الفلك هو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها وفلك الخيمة هي الخشبة المسطحة
222
المستديرة التي توضع على رأس العمود، لئِلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة. فإن قيل: فعلى هذا تكون السماء مستديرةً وقد اتفق أكثر المفسرين (على) أنَّ السماءَ مبسوطةٌ لها أطراف على جبال وهي كالسَّقْقِ المُسْتَوِي ويدل عليه قوله تعالى: ﴿والسقف المرفوع﴾ [الطور: ٥] قال ابن الخطيب: ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة بل دل الدليل الحِسِّيُّ على كونها مستديرةً فوجب المصير إليه والسقف والمقَبَّب لا يخرج عن كونه سقفاً وكذلك كونه على جبال. وأما الدليل الحسي فوجوه:
الأول: أن من أمْعَنَ في النظر في جانب الجنوب تظهر له كواكب مثل سُهَيْل وغيره ظهوراً أبدياً ولو كان السماء سطحاً مستوياً لبان الكُلُّ للكلِّ بخلاف ما إذا كان مستديراً فإن بضعه حينئذ يستتر بأطراف الأرض فلا يُرَى.
الثاني: أن الشمس إذا كانت مقارنة للحَمَل مثلاً فإذا غربت ظهر لك كواكبُ في منطقة البروج من الحَمل إلى المِيزان ثم في كل قليل يستتر الكوكب الذي يكون طلوعه بعدَ طلوع الشمس وبالعكس وهذا دليل ظاهر وإن بحث فيه يصير (قَطْعيًّا).
الثالث: أن الشمس قبل طلوعها وبعد غروبها يظهر ضوؤها ويستنير نورُها وإلا لما كان كذا بل كان (عن) إعادتها إلى السماء يظهر لك أحد جِرْمُها ونورُها معاً لكون السماء مستوية (حنيئذ مكشوفة كلها لكل أحد.
الرابع: لو كانت السماء مستويةً) لكان القمرُ عندما يكون فوق رُؤُوسِنَا على المُسَامَتَةِ أقرب ما يكون إلينا وعندما يكون على الأفق أبعد منا لأن العمودأصغرُ من القُطْرِ والوتر وكذلك في الشمس والكواكب وكان يجب أن يرى أكبر لأن القريب يرى أكبر وليس كذلِكَ.
الخامس: لو كانت السماءُ مستويةً لكان ارتفاعها أَولَ النهار ووَسَطَهُ وآخِرَهُ مستوياً وليس كذلك. والوجوه كثيرة وفي هذا كفايةٌ.

فصل


قال المُنَجِّمُونَ قوله تعالى: ﴿يَسْبَحُونَ﴾ يدل على أنها أحياء لأن ذلك لا يطلق إلا
223
على العاقل قال ابن الخطيب إن أرادوا القَدْرَ الذي يكون منها التسبيح فنقول به لأن كل شيء يسبح بحمده وإن أرادوا شيئاً آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كا في قوله تعالى في حق الأصنام: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ﴾ [الصفات: ٩٢] وقوله: ﴿أَلا تَأْكُلُونَ﴾ [الصافات: ٩١].
224
قوله :﴿ والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ﴾ يحتمل أن تكون الواو للعطف على «اللَّيْل » تقديره :" وآيَةٌ لَهُم اللَّيلُ نسلخ والشمسُ تَجْري والقمر قدرناه » فهي كلها آية وقوله :«والشمس تجري » إشارة إلى سبب سلخ النهار فإنها تجري لمستقر لها بأمر الله فمغرِب الشمس سالخ النّهار فذكر السبب بين صحة الدعوة ويحتمل أن يقال بأن قوله :﴿ والشمس تجري لمستقر لها ﴾ إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه تعالى لما قال :﴿ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ﴾ ذكر أن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار لمنافعه١.
قال المفسرون : إن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة٢.
قوله :«لمستقر » قيل : في الكلام حذف مضاف تقديره تَجْري لِمَجْرى٣ مُسْتَقَرٍّ لها وعلى هذا فاللام للعلة أي : لأجل جري مستقر لها. والصحيح أنه٤ لا حذف وأن اللام بمعنى «إلى »٥. ويدل على ذلك قراءة بعضهم «إلَى مُسْتَقَرٍّ »٦. وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وزيْن العابدين٧ وابنُه الباقر٨ والصَّادِق٩ ابن الباقر : لاَ مُسْتَقَّر بلا النافية للجنس وبناء «مُسْتَقَر » على الفتح و «لها » الخبر١٠. وابن عبلة لا مُسْتَقَرٌّ بلا العاملة عمل ليس «فمستقر » اسمها و «لها » في محل نصب خبرها١١، كقوله :
٤١٨٢- تَعَزَّ فَلاَ شَيْءٌ عَلَى الأَرْضِ بَاقِيا. . . وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا١٢
والمراد ( بذلك ) أنها لا تستقر في الدنيا بل هي دائمة الجَرَيان وذلك إشارة إلى جريها المذكور.

فصل :


قيل : المراد بالمستقر يوم القيامة فعندها تستقر ولا يبقى لها حركة١٣. وقيل : تَسِيرُ حتَّى تَنْتَهِيَ إلى أبعد مغاربها فلا تتجاوزه ثم ترجع١٤. وقيل : الليل١٥. وقيل : نهاية ارتفاعها١٦ في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء. وروى أبو ذَرّ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين غربَتِ الشمس :«تدري أين تذهب » ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإنها١٧ تذهب حتى تسجُدَ تحت العرش فتستأذنَ فيؤذَنَ لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل ( منها )١٨ وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها : ارْجِعِي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله :﴿ والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ﴾. وروى عَمْرُو بن١٩ دِينَار عن ابن عباس والشمس ( تجري )٢٠ لا مستقرّ لها أي : لا قرار لها ولا وقوف وهي جارية أبداً.
قوله :﴿ ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى جَرْي الشَّمْس أي : ذلك الجري تقدير الله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى المستقر أي : ذلك المستقر تقدير الله العزيز الغالب والعليم الكامل العلم أي : قادر على إجرائها على الوجه الأنفع وذلك من وجوه :
الأول : أن الشمس لو مرّت كل يوم على مُسَامَتَةٍ٢١ واحدة لاحترقت ( الأرض )٢٢ التي تُسَامِتُها بمرورها عليها كل يوم وبقي الجمود مستولياً على الأماكن الأُخَر فقدر الله لها بُعْداً لتجمع٢٣ الرطوبات في باطن الأرض والإسخان في زمان الشتاء ثم قدر قربها بتدريج ليخرج النبات والثمار من الأرض والشجر ويَنْضُجَ ويَجفَّ.
الثاني : قدر لها في كل يوم طُلُوعاً وفي كل ليلة غروباً، لئلا تَكِلَّ القوى والأبصار بالسهر والتعب ولئلا يَخْرُبَ العالم بترك العِمَارة٢٤ بسبب الظلمة الدائمة.
الثالث : جعل سيرها أبطأ من سير القمر وأسرع من سير زُحَلَ لأنها كاملة النور فلو كانت بطيئةً السير لدامتْ زماناً كثيراً في مُسَامَتَةِ شيء واحد فتحرقه ولو كانت سريعة السير لما حصل لها لبث بقَدْر ما ينضج٢٥ من الثمار في بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ٢٦.
١ في "ب" بمنافعه وهو الموافق لما في الرازي..
٢ وانظر هذا كله في تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٦/٧٠ و٧١..
٣ كذا هنا من "ب" وفي "أ" مجرى. وهذا الكلام نقله المؤلف عن أبي حيان الذي نقله عن أبي عبد الله الرازي. انظر: البحر ٧/٣٣٦ والدر المصون ٤/٥١٧..
٤ في "ب" أن لا حذف بدون ضمير..
٥ المرجع الأخير السابق..
٦ نقلها صاحب الكشاف في كشافه ٣/٣٢٢ بدون نسبة وكذلك أبو حيان في بحره ٧/٣٣٦ وانظر كذلك مختصر ابن خالويه ١٢٦. قال: "والشمس تجري إلى مستقرها" في بعض المصاحف..
٧ علي بن حسين بن علي عرض على أبيه الحسين وعرض عليه ابنه الحسين. غاية النهاية ١/٥٣٤..
٨ محمد بن علي السابق أبو جعفر عرض على أبيه. توفي سنة ١١٨ هـ. الغاية ٢/٢٠٢..
٩ جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عرض على آبائه. توفي سنة ١٤٨ هـ. المرجع السابق ١/١٩٦-١٩٧..
١٠ الكشاف والبحر المرجعان السابقان. وانظر المحتسب ٢/٢١٢ وهي من الشواذ وحسنها الفراء وقال: "من قال: لا مستقر لها أو لا مستقر لها فهما وجهان حسنان" المعاني ٢/٣٧٧..
١١ المراجع السابقة..
١٢ من الطويل وهو مما جهل شاعره. والوزر الملجأ. والشاهد "فلا شيء" و "لا وزر" حيث أعمل لا عمل ليس في موضعين. وقد تقدم..
١٣ هذا قول مقاتل..
١٤ وهذا قول مجاهد. وانظر: زاد المسير ٧/١٧و ١٨..
١٥ قالهما الرازي ٢٦/٧١..
١٦ قالها الرازي ٢٦/٧١..
١٧ كذا كما رواه الترميذي وحسنه فيها نقله عنه الإمام القرطبي في الجامع ١٥/٢٧ فإنها وفي "أ" إنها فالتصحيح من الحديث و "ب"..
١٨ سقط من "ب"..
١٩ هو قهرمان آل الزبير شعيب أبو يحيى البصري عن سالم وعن جعفر بن سليمان. انظر: خلاصة الكمال ٢٨٨..
٢٠ سقط من "ب"..
٢١ أي طريقة. وفي الرازي: تمر على مسامتة شيء لم تمر من أمسها على تلك المسامتة ولو قدر الله مرورها على مسامتة واحدة لاحترقت..
٢٢ سقط من "ب"..
٢٣ في "أ" لتجتمع وما هنا في "ب" موافق للرازي..
٢٤ في "ب" العبادة..
٢٥ في "ب" يتضح..
٢٦ وانظر: تفسير الإمام الفخر ٢٦/٧٢..
قوله :﴿ والقمر قَدَّرْنَاهُ ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو برفع «القمر ». والباقون بنصبه١. فالرفع على الابتداء٢ والنصب بإضمار فعل على الاشتغال٣. والوجهان مستويان لتقدم جملةٍ ذاتِ وجهين وهي قوله :﴿ والشَّمْسُ تجري ﴾. فإن راعيت صدرها رفعت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عَجْزَهَا نصبت لتعطف فعلية على مثلها٤. وبهذه الآية يبطل ( قول )٥ الأخفش : إنه لا يجوز النصب٦ في الاسم إلا إذا كان في جملة الاشتغال ضمير يعود على الاسم الذي تضمنته جملةٌ ذات وجهين قال : لأن المعطوف على الخبر خبر فلا بد من ضمير يعود على المبتدأ فيجوز :«أَزْيْدٌ قَامَ٧ وعمراً أكْرَمْتُه فِي دَارِهِ » ولو لم يقل «في داره » لم يجز ووجه الردّ من هذه الآية أن أربعة٨ من السبعة نصَبُوا وليس في جملة الاشتغال ضمير يعود على الشمس وقد أجمع على النصب في قوله تعالى :
﴿ والسمآء رَفَعَهَا ﴾ [ الرحمن : ٧ ] بعد قوله :﴿ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ ﴾ [ الرحمن : ٦ ].
قوله :﴿ مَنَازِلَ ﴾ فيه أَوْجُهٌ :
أحدها : أنه مفعول ثان لأن «قَدَّرْنَا » بمعنى صَيَّرْنَا٩.
الثاني : أنَّه حال ولا بد من حذف مضاف قبل منازل تقديره : ذَا مَنَازِلَ١٠ قال الزمخشري : لا بُدَّ من تقدير لفظ يتم به معنى الكلام، لأن القمر لم يجعل نفسه مَنَازلَ١١.
الثالث : أنه ظرف أي قدرنا مَسِيرَهُ فِي مَنَازِلَ١٢. وتقدم نحوه أول يونس١٣.
قوله :﴿ حتى عَادَ كالعرجون ﴾ العامة على ضم العين والجيم. وفي وزنه وجهان :
أحدهما : أنه فُعْلُولٌ. فنونه أصلية وهذا هو المرجح١٤.
والثاني : وَهُو قول الزجاج : أن نونه مزيدة ووزنه فُعْلُونٌ١٥ مشتقاً من الانْعِرَاج، وهو الانعطاف وقرأ سُلَيْمَانُ١٦ التَّيْمِيُّ بكسر العين وفتح الجيم وهما لغتان كالبُزيون١٧ والبِزْيُون والعرجون عُود العِذْق ما بين الشماريخ إلى مَنْبِتِهِ من النخلة١٨ وهو تشبيه بديع شبه به القمر في ثلاثة أشياء دقَّتِهِ واستقواسه واصْفِرَارِهِ لأن العِذق الذي عليه الشماريخ إذا قَدِمَ وعَتِقَ دَقَّ وتَقَوَّسَ واصْفَرَّ١٩. والقديم ما تَقَادَمُ عَهْدُهُ بحكم العادة ولا يشترط في جواز إطلاق لفظ القديم عليه مدةً بعينها بل إنما يعتبر العادة حتى لا يقال لمدينة بنيت من سنةٍ أو سنتين لبنائها قديم أو هي مدينة قديمةٌ ويقال لبعض الأشياء : إنّه قديم وإن لم يكن له سنةٌ ( واحدة ) ولهذا جاز أن يقال : بَيْتٌ قديمٌ وبناء قديم ولم يجز ( أن يقال )٢٠ في العالم : إنه قديم ؛ لأن القِدَم في البيت والبناء يثبت بحكم تقادم العهد ومرور السنين عليه وإطلاق القديم على العالم بِتَمَادِي الأزمنة عند من ( لا )٢١ يعتقد أنه لا أول له ولا سابق عليه٢٢.
١ من القراءات السبعية المتواترة وانظر: الكشف ٢/٢١٦ وحجة ابن خالويه ٢٩٨ والنشر ٢/٣٥٣ والسبعة ٥٤٠ والإتحاف ٣٦٥..
٢ ورجحه مكي في الكشف فقال: "وحجة من رفع وهو الاختيار لأن عليه أهل الحرمين وأبا عمرو وأنه قطعه مما قبله وجعله مستأنفا فرفعه بالابتداء وقدرناه الخبر"..
٣ المرجعان السابقان وقد رجح الفراء الرفع أيضا فقال "الرفع فيه أعجب إلي من النصب". وانظر: النحاس ٤/٣٩٤ ومعاني الفراء ٢/٣٧٨ ومعاني الزجاج ٤/٢٨٧ والتبيان ١٠٨٢ والبيان ٢/٢٩٥ ومشكل الإعراب ٢/٢٢٦..
٤ الدر المصون ٤/٤١٨..
٥ سقط من "ب"..
٦ نقل رأيه هذا ابن مالك في التسهيل ٨١ وقد وافق الأخفش صاحب المفصل وشارحه. انظر: شرح المفصل لابن يعيش ٢/٣٢ و ٣٣..
٧ في "ب" وعمرو خطأ..
٨ وهم: حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر وهي القراءة المعهودة عندنا..
٩ التبيان ١٠٨٣ والبيان ٢/٢٩٥ ومشكل الإعراب ٢/٢٢٦..
١٠ المشكل والبيان والتبيان السوابق..
١١ الكشاف ٣/٣٢٣..
١٢ السابق..
١٣ عند قوله: ﴿هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل﴾ الآية ٥. اللباب ٤/٢٠..
١٤ ووزن فعلول بضم الفاء واللام كثير في كلامهم جدا وقد ثبتت النون في الفعل الماضي فقالوا: عرجنه بالعصا ضربه وعرجنه: ضربه بالعرجون، وعرجن الثوب: صور فيه صور العراجين وقال رؤبة:
في خدر مياس الدمى معرجن
اللسان: "ع ر ج" ٢٨٧١ و ٢٨٧٢ وانظر: التبيان ١٠٨٣ وابن الأنباري ٢/٢٩٥.
وقد جوز أبو البقاء الوجهين الأصل والزيادة بينما اعترض ابن الأنباري فقال: "ولا يكون وزنه على فعلون، لأنه ليس في كلامهم ما هو فعلون. وقد زعم بعضهم أن وزنه على فعلون من الانعراج والنون زائدة كما قالوا: فرسن ووزنه من الفرس وليس في الكلام فعلن غيره". .

١٥ معاني القرآن وإعرابه له ٤/٢٨٨..
١٦ سليمان بن قتة وهي أمة التيمي البصري عرض على ابن عباس وعرض عليه الجحدري. انظر: طبقات القراء ١/٣١٤..
١٧ الديباج الرقيق أو السندس..
١٨ وانظر: مجاز القرآن ٢/١٦١ وغريب القرآن ٣٦٥ وفسراه بالإهان إهان العذق الذي في أعلاه العثاكيل و "عود الكباسة". وانظر: معاني الفراء ٢/٣٧٨ والرازي ٢٦/٧٢..
١٩ الكشاف ٣/٣٢٣..
٢٠ ساقطتان من "ب"..
٢١ ساقطتان من "ب"..
٢٢ قاله الرازي في المرجع السابق..
قوله :﴿ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر ﴾ أي لا يدخل على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه١ وهو معنى قوله :﴿ وَلاَ الليل سَابِقُ النهار ﴾ أي يتعاقبان٢ بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته. وقيل : لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر لا تطلع الشمس بالليل ولا ( يطلع )٣ القمر٤ بالنهار وله ضوء فإذا اجتمعا وأدرك كلّ ( واحد )٥ منهما صاحبه قامت القيامة. وقيل :﴿ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر ﴾ لا تجتمع معه في فَلَك واحد ﴿ وَلاَ الليل سَابِقُ النهار ﴾ أي لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل.
فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى :﴿ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر ﴾ بصيغة الفعل وقوله :﴿ وَلاَ الليل سَابِقُ ﴾ بصيغة اسم الفاعل ولم يقل ولا الليل «سَبَقَ »٦ ولا قال : لاَ الشَّمْسُ مُدْرِكَةٌ لِلْقَمر ؟.
فالجواب : أن حركة الشمس التي لا تدرك بها القمر مختصة بالشمس فجعلها كالصادرة منها فذكر بصيغة الفعل لأن صيغة الفعل لا تطلق على من لا يصدر منه الفعل فلا يقال : يَخِيط ولا يكون تصدر منه الخِيَاطَةُ وأما حركة القمر فليست مختصةً بكوكب من الكواكب بل الكل فيها مشترك بسبب حركة فَلَكٍ٧ لا يختص بكوكب فالحركة ليست كالصادرة منه فأطلق على٨ اسم الفاعل لأنه لا يستلزم صدور الفعل يقال : فُلاَنٌ خَيَّاطٌ وإن لم يكن يَخِيط. فإن قيل : قوله :﴿ يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] يدل على أن الليل سابق.
فالجواب : أن المراد من الليل ها هنا سلطان الليل وهو القمر ولا يسبق الشمس بالحركة اليَوْمِيَّةِ السريعة والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر فكأنه طَالبُهُ.
فإن قيل : قد ذكر ههنا سابق ( النهار )٩ وقال هناك يطلبه ولم يقل طالبه.
فالجواب : لما بينا١٠ ( من )١١ أن المراد في هذه السورة من الليل كواكب الليل وحركاتها بحركة١٢ الفَلَكِ فكأنها لا حَرَكَةَ لها فلا سبق ولا من شأنها أنها سابقة والمراد هناك نفس الليل والنهار وهما زَمَانَانِ لا قرارَ لهما فهو يطلب حثيثاً لصدور المنقضي١٣ منه.
فإن قيل : ما الحكمة في إطلاق الليل وإرادة سلطانه وهو القمر وماذا يكون لو قال : ولا القمرُ سابق الشَّمس.
فالجواب : لو قال ولا القمر سابق الشمس ما كان يفهم أن الإشارة إلى الحركة اليومية فكان يتوهم المناقض بأن الشمس إذا كانت لا تدرك القمر فالقمر أسرع ظاهراً وإذا قال : ولا القمر سابق يظن أن القمر لا يسبق فليس بأسرع فقال اللَّيْل والنهار ليعلم أن الإشارة إلى الحركة التي بها تتم الدورة في يوم وليلة مرة وأن جميع الكواكب لها طلوع وغروب في اللّيل والنهار١٤.
قوله :﴿ وَلاَ الليل سَابِقُ النهار ﴾ قرأ عمارة١٥ بنصب «النَّهَار »١٦ حذف التنوين لالتقاء الساكنين.
قال المبرد : سمعته يقرؤها فقلت : ما هذا ؟ فقال : أردت سَابِقٌ - يعني بالتنوين- فخففت١٧.
قوله :﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ أي يَجْرُون. وهذا يحقق أن لكلِّ طلوع في يوم وليلة لا يسبق بعضُها بعضا بالنسبة إلى هذه الحركة والتنوين في قوله :«كُلُّ » عوض عن الإضافة١٨. والمعنى كل واحدٍ. وإسقاط التنوين للإضافة حتى لا يجتمع التعريف والتنكيرُ في شيءٍ واحد فلما أسقط المضاف إليه لفظاً رد التنوين عليه لفظاً وفي المعنى معرف بالإضَافَةِ.
فإن قيل : فهل يختلف الأمر عند الإضافة لفظاً وتركها ؟.
فالجواب : نعم، لأن قول القائل : كل واحد من الناس كذا لا يذهب الفهم إلى غيرهم فيفيد اقتصار الفهم عليه، فإذا قال : كُلّ كذا يدخل في الفهم عمومٌ أكثر من العموم عند الإضافة وهذا كما في :«قَبْل وبَعْد » إذا قلت : أفعلُ قَبْلَ كذا فإذا حذفت المضاف وقلت أفعل قبل أفاد فهم الفعل قبل كُلِّ شَيْءٍ١٩.
فإِنْ قِيلَ : فهل بين قولنا :«كُلٌّ منْهُمْ » وبين :«كُلّهم » وبين «كُلِّ » فرق ؟.
فالجواب : نعم فقولك : كلهم يثبت الأمر للاقتصار عليهم، وقولك : كُلّ منهم يثبت الأمر أولاً للعموم ثم استدركه بالتخصيص فقال : منْهم وقولك : كلّ يثبت الأمر على العموم وتركت٢٠ عليه٢١. فإن قيل : إذا كان «كُلّ » معناه كل واحد منهم والمذكور الشمس والقمر فكيْفَ قال : يَسْبَحُونَ ؟.
فالجواب : أن قوله «كل » للعموم فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيَّاراً. وأيضاً فلفظ «كل » يجوز أن يوحَّد نظراً إلى كون لفظه مُوحِّداً غير مثنى ولا مجموع ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعاً، وأما التثنية فلا يدل عليه٢٢ اللفظ ولا المعنى وعلى هذا يحسن أن يقال :«زَيْدٌ وعمرٌو كُلُّ جَاءَ » ولا يقال :( كل )٢٣ جَاءَا بالتثنية. وجواب آخراً قوله :﴿ وَلاَ الليل سَابِقُ ﴾ فالمراد من الليل الكواكب فقال :«يَسْبَحُونَ »٢٤.

فصل


الفلك هو الجسم٢٥ المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فلكه المغزل سميت فلكة لاستدارتها وفلك الخيمة هي الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود، لئِلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة. فإن قيل : فعلى هذا تكون السماء مستديرةً وقد اتفق أكثر المفسرين ( على )٢٦ أنَّ السماءَ مبسوطةٌ لها أطراف على جبال وهي كالسَّقْفِ المُسْتَوِي ويدل عليه قوله تعالى :﴿ والسقف المرفوع ﴾ [ الطور : ٥ ]. قال ابن الخطيب : ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة بل دل الدليل الحِسِّيُّ على كونها مستديرةً فوجب المصير إليه والسقف والمقَبَّب لا يخرج عن كونه سقفاً وكذلك٢٧ كونه٢٨ على جبال. وأما الدليل الحسي فوجوه :
الأول : أن من أمْعَنَ في النظر في جانب الجنوب تظهر٢٩ له كواكب مثل سُهَيْل وغيره ظهوراً أبدياً ولو كان السماء سطحاً٣٠ مستوياً لبان الكُلُّ للكلِّ بخلاف ما إذا كان مستديراً فإن بعضه حينئذ يستتر٣١ بأطراف الأرض فلا يُرَى.
الثاني٣٢ : أن الشمس إذا كانت مقارنة للحَمَل مثلاً فإذا غربت ظهر لك كواكبُ في منطقة البروج من الحَمل إلى المِيزان ثم في كل قليل يستتر٣٣ الكوكب الذي يكون طلوعه بعدَ طلوع الشمس وبالعكس وهذا دليل ظاهر وإن بحث فيه يصير ( قَطْعيًّا )٣٤.
الثالث : أن الشمس قبل طلوعها وبعد غروبها يظهر ضوؤها ويستنير نورُها وإلا لما كان كذا بل كان ( عند )٣٥ إعادتها إلى السماء يظهر لك أحد جِرْمُها ونورُها معاً لكون السماء مستوية ( حنيئذ٣٦ مكشوفة كلها لكل أحد.
الرابع : لو كانت السماء مستويةً ) لكان القمرُ عندما يكون فوق رُؤُوسِنَا على المُسَامَتَةِ أقرب ما يكون إلينا وعندما يكون على الأفق أبعد منا لأن العمود أصغرُ من القُطْرِ والوتر وكذلك في الشمس والكواكب وكان يجب أن يرى أكبر لأن القريب يرى أكبر وليس كذلِكَ.
الخامس : لو كانت السماءُ مستويةً لكان ارتفاعها أَولَ النهار ووَسَطَهُ وآخِرَهُ مستوياً وليس كذلك. والوجوه كثيرة وفي هذا كفايةٌ.

فصل


قال المُنَجِّمُونَ قوله تعالى :﴿ يَسْبَحُونَ ﴾ يدل على أنها أحياء لأن ذلك لا يطلق إلا على العاقل قال ابن الخطيب إن أرادوا القَدْرَ الذي يكون منها التسبيح فنقول به لأن كل شيء يسبح بحمده وإن أرادوا شيئاً آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في حق الأصنام :﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ ﴾ [ الصافات : ٩٢ ] وقوله :﴿ أَلا تَأْكُلُونَ ﴾ [ الصافات : ٩١ ].
١ معاني الفراء ٢/٣٧٨..
٢ في "ب" متعاقبان..
٣ سقط من "ب"..
٤ في "ب" في النهار..
٥ سقط من "ب"..
٦ في "ب" يسبق بالمضارعة..
٧ في "ب" تلك. اسم إشارة..
٨ في "ب" عليه..
٩ سقط من "ب"..
١٠ في "ب" لما بين..
١١ سقط من "ب"..
١٢ في "ب" بحركات..
١٣ في الرازي التقصي وفي "ب" المقتضي. وانظر: تفسير الإمام الفخر ٢٦/٧٣ و ٧٤..
١٤ تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٦/٧٣ و ٧٤..
١٥ لم أجده في مرجع من مراجع تراجم القراء وقد ترجم له الخطيب في التاريخ: "عمارة بن عقيل بن بلاب بن جرير من شعراء الدولة العباسية وكان النحوين يأخذون عنه". تاريخ بغداد ١٢/٢٨٢ و ٢٨٣، والأغاني ٢٠/١٨٣..
١٦ مختصر ابن خالويه ١٢٥ والمحتسب ٢/٨١ وانظر: الخصائص ١/١٢٥ و ٢٤٩ و ٣٧٣و ٣١٨ وهي من الشواذ رواية وتجوز صنعا. وانظر: البحر ٧/٣٣٨ والسمين ٤/٥١٩ و ٥٢٠..
١٧ نقله في كامله ١/٢٥٣..
١٨ الكشاف ٣/٣٢٤ والرازي ٢٦/٧٤..
١٩ المرجع السابق..
٢٠ في "ب" ونزلت وفي الرازي المصدر السابق: وتتركه..
٢١ التفسير الكبير للرازي ٢٦/٧٤..
٢٢ في الرازي: عليها..
٢٣ كذا وجد في الرازي وافتقد في "ب"..
٢٤ انظر كل ما مضى في المرجع السابق..
٢٥ الرازي السابق وانظر: اللسان :"ف ل ك" ٣٤٦٤ و ٣٤٦٥..
٢٦ سقط من "ب"..
٢٧ في "ب" ولذلك. وما في الرازي موافق لما هنا..
٢٨ في الرازي كونها..
٢٩ في "ب" يظهر وهو ما في الرازي..
٣٠ في "ب" مسطحا. وهو الموافق للرازي..
٣١ في "ب" يستر بتاء واحدة وهو المخالف للرازي..
٣٢ في "ب" الثانية..
٣٣ كذا في الرازي وما في "ب" تستتر الكواكب..
٣٤ سقط من "ب"..
٣٥ كذلك..
٣٦ ما بين القوسين كله وجد في الرازي وسقط من "ب"..
قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ لما مَنَّ بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر عليه بل بين للإنسان طريقاً يتخذ من البحر ويسير فيها كما يسير في البر وهو كقوله تعالى: ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر﴾ [الإسراء: ٧٠] ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ إذا فسرناه بأن المراد منه الإبل فإنها سفُن البرِّ. ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما بين سِبَاحَةَ الكواكب في الأفلاك ذكر ما هو مثله وهو سباحة الفُلْكِ في البحار ووجه آخر وهو أن الأمور التي أنعم الله (تعالى) بها على عباده منها ضرورة ومنها نافعة فالأول للحاجة والثاني للزينة فخلق الله الأرض وإحياؤها من القبيل الأول فإنها المكان الذي لولاه لما وجد الإنسان ولولا إحياؤها لما عاش الإنسان، والليل والنهار في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل﴾ [يس: ٣٧] أيضاً من القبيل الأول لأنه الزمان الذي لولاه لما حدث الإنسان والشمسُ والقمرُ وحركتُهُما لو لم تكن لما عاش الإنسان، ثم إنه تعالى لما ذكر من القبيل الأول وآيتين ذكر من القبيل الثاني وهو الزينة آيتين:
إحداهما: الفُلْك التي تجري في البحر فتستخرج من البحر ما يُتَزَيَّنُ به كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ﴾ [فاطر: ١٢].
وثانيهما: الدَّوَابُّ التي هي البرّ كالفُلْك في البحر في قوله: ﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ فإن الدوابَّ زينة كما قال تعالى: ﴿والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل: ٨].
قوله: ﴿أَنَّا حَمَلْنَا﴾ مبتدأ «وآية» خبر مقدم، وجوز أبو البقاء أن يكون: «أَنَّا حَمَلْنَا» خبر مبتدأ محذوف بناء منه على أن «آية لهم» مبتدأ وخبر كلام مستقل بنفسه كما
224
تقدم في نظيره والظاهر أن الضميرين في «لَهُمْ» و «ذُرِّيَّتهم» لشيء واحد ويراد بالذرية آباؤهم المحمولين في سفينة نوح - عليه (الصلاة و) السلام - أو يكون الضميران مختلفين أي ذرية القرون الماضية ووجه الامتنان عليهم أنهم في ذلك مِثْلُ الذرية من حيث إنهم ينتفعون بها كانتفاع أولئلك. وقوله «مَا يَرْكَبُونَ» هذا يحتمل أن يكون من جنس الفُلْك إِن أريد بالفلك سفينة نوح - عليه (الصلاة و) السلام - خاصة وأن يكون من جنس آخر كالإبل ونحوه ولهذا سمتها العربُ سُفُنّ البرِّ فقوله: «مِنْ مِثْلِهِ» أي من مثل الفلك أو من مثل ما ذكر من خلق الأزواج، (في قوله «وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ» ) والضمير في «لهم» يحتمل أن يكون عائداً إلى الذرية أي حملنا ذريتهم وخَلَقْنَا للمحمولين ما يركبون، ويحتمل أن يعود إلى العباد الذين عاد إليْهِمْ قَوْلُهُ: «وَآيَةٌ لَهُمْ» وهو الظاهر لعود الضمائر إلى شيء واحد و «مِنْ» يحتمل أن تكون صلة أي خلقنا لهم مِثْلَهُ وأن تكون لِلْبَيَانِ لأن المخلوق كان أشياء.
وقال مِنْ مِثْل الفلك للبيان وتقدم اشتقاق الذُّرِّيَّةِ في البقرة، واختلاف القراء فيها في الأعراف.

فصل


قال المفسرون: المراد بالذُّرَّيَةِ الآباء والأجداد واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد أي حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ في الفلك، والألف للتعريف أي فُلْكِ نُوِحِ وهو مذكور في قوله: ﴿واصنع الفلك﴾ [هود: ٣٧] وهو معلوم عند العرب. وقال الأكثرون: الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فالمراد إما أن يكون الفلك
225
المعين الذي كان لنوح وإما أن يكون المراد الجنس كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ﴾ [الزخرف: ١٢] وقوله: ﴿وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ﴾ [فاطر: ١٢] وقوله: ﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك﴾ [العنكبوت: ٦٥] إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس فإن كان المراد سفينةَ وح ففيه وجوه:
الأول: أن المراد: حملنا أولادهم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ولولا ذلك لما بقي للأب نسلٌ ولا عَقِب وعلى هذا فقوله: ﴿حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُم﴾ إشارة إلى كمال النعمة أي لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة وهذا قول الزمخشري ويحتمل أن يقال: إنه تعالى إنما خص الذريات بالذكر لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم فقال: ﴿حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُم﴾ أي لم يكن الحَمْلُ حَمْلاً لهم وإنَّما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين كمن حمل صُنْدُوقاً لا قيمة له وفيه جَوَاهِرُ (ف) قيل: إنه لم يحمل الصندوق إنما حمل ما فيه.
الثاني: أنّ المُرَادَ بالذُّرِّيَّة الجنس أي حملنا أجناسهم لأن ذلك الحيوانَ من جسنه ونوعه، والذرية تطلق على الجنس ولذلك تطلق على النِّساء كنهي النبي - عليه (الصلاة و) السلام) عن قَتْلِ الذَّرَارِي أي النساء لأنَّ المرأة وإن كانت صِنْفاً غير صِنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال: ذَرَاينا أي أمثالنا.
الثالث: أن الضمير في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ﴾ عائد على العَبِاد، حيث قال: ﴿ياحسرة عَلَى العباد﴾ [يس: ٣٠] وقال بعد ذلك: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ (وإذا عُلِمَ هذا فكأنه تعالى قال: «وآيةٌ للعبادِ أنا حملنا ذريات العباد». ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصاً مُعَيَّنينَ كقوله: ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥] وكذلك
226
إذا تقاتل قومٌ ومات الكُلّ في القتال يقال: هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم. «فهم» في الموضعين يكون عائداً إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصاً مُعَيَّنِينَ بل المراد أن بعضَهم قتل بعضَهم فكذلك قوله تعالى: «آيةٌ لهم» أي آية لكل بعض منهم أ، احلمنا ذرية كُلِّ (بَعْض) منهم، أو ذرية بعض منهم.
وإن قلنا: المراد جنس الفلك فآية ظاهرة لكل أحد وقوله تعالى في سفينة نوح: ﴿وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: ١٥] أي بوجود جنسها ومثلها. ويؤيده قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [لقمان: ٣١] وإن قيل: المراد سفينة نوح فوجه المناسبة أنه ذكرهم بحال نوح وأن المكذبين هلكوا والمؤمنين فازوا فكذلك هم إن آمنوا يفوزوا وإن كذبوا يَهْلَكُوا. والأول أظهر وهو أن المراد بالفلك الموجودة في زمانهم ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾.
فإن قيل: لم قال ﴿حَمَلْنَا ذُرِّيّيتهُمْ﴾ ولم يقل: «حملناهم» ليكون أعم كما قال: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾ [يس: ٣٣] ولم يقل: تَأْكُلُ ذُرِّيِّتهُم؟.
فالجواب: قوله تعالى: «حملنا ذريتهم» أي ذريات العباد ولم يقل حملناهم لأن سكون الأرض عام (ل) كلّ أحد يسكنها فقال: ﴿وآيَةٌ لَهُم الأرض الميتة﴾ إلى أن قال: ﴿فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾ لأن الأكل عام وأما الحمل في السفنية فمن الناس من لا يركبها في عمره ولا يُحْمَلُ فيها ولكن ذرية العباد لا بد لهم من ذلك فإنَّ فيهم من يحتاج إليها فيُحْمَلُ فيها.
فإن قيل: ما الحكمة في كونه جمع الفلك في قوله: ﴿وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ﴾ [فاطر: ١٢] وأفرده في قوله: ﴿فِي الفلك المشحون﴾.
فالجواب: أن فيه تدقيقاً مليحاً في علم اللغة وهو أن الفلك تكون حركتها مثلَ حركة تلك الكلمة في الصورة، والحركتان مختلفنان في المعنى مثاله قولك: سَجَد يَسْجُدُ سُجُوداً للمصدر وهم قوم سُجُودٌ في جمع «سَاجِدٍ» يظن أنها كلمة واحدة لمعنيين وليس كذلك بل السجود عند كونه مصدراً حركته أصلية إذا قلنا: إن الفعل مشتق من المصدر
227
وحركة السجود عند كونه للجمع حركة معتبرة من حيثُ إن الجمع مشتق مِنَ الواحد وينبغي أن يلحق الشمتق تغيير في حرف أو حركة أو في مجموعهما، فساجد لما أردنا أن يشْتَقَّ منه لفظُ جمع غيّرناه وجئنا بلفظ السُّجُود فإذن السجود للمصدر والجمع ليس من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت بحركة واحدة لمعنيين. وإذا عرف هذا فنقول «الفُلْك» عند كونه واحداً مثل: «قُفْل وبُرْد» وعند كونها جمعاً مثل خُشْبٍ أو بُرْدٍ أو غَيْرِهِما.
فإن قيل: فإذا جعلتَهُ جمعاً ما يكون واحدها؟.
فالجواب: نقول جاز أن يكون واحدها فَلْكَة أو غيرها مما لم يستعمل كواحد النِّساء لم يستعمل وكذا القول في: «إمام مبين» إمَام كَزِمام وكتاب عند قوله تعالى: ﴿كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء: ٧١] أي بِأَئِمَّتِهِمْ إمَامٌ كَسِهام وحِفَانٍ، وهذا من دقيق التَّصْرِيف. وأما من جهة المعنى ففيه سؤالات:
السؤال الأول: قال ههنا: «حَمَلْنا ذُرّيَّتّهُم» مَنَّ عليهم بحَمْلِ ذرّياتهم وقال تعالى:
﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية﴾ [الحاقة: ١١] منَّ عليهم هناك بحمل أنفسهم.
فالجواب: أن من ينفع المتعلق بالغير يكون قد نفع ذلك الغير ومن يدفع الضر عن المتعلّق بالغير لا يكون قد دفع الضر عن ذلك الغير بل يكون قد نفعه كمن أحسن إلى ولد إنسان وفرَّحَةُ فَرِحَ بفَرَحِهِ أبوه وإذا دفع الألم عن ولد إنسان يكون قد فَرَّح أباه ولا يكون في الحقيقة أزال الألم عن أبيه فعنْد طغيان الماء كان الضرر يلحقهم فقال: دفعت وههنا عنكم الضّرر ولو قلا: دفعت عن أولادكم الضرر لما حصل بين دفع الضرر عنهم وههنا أراد بيان المنافع فقال: «حملنا ذرياتهم» لأنَّ النفع حاصل بنفع الذرية، ويدل على هذا قوله: «فِي الفُلْكِ المشحون» فإن امتلأ الفلك من الأموال يحصل (بذكره)
228
بيان المنفعة وإذا دفع المضرة فلا لأن الفلك كلما كان أثقل كان الخلاص بها أبطأ وهنالك السلامة فاختار هناك ما يدل على الخلاص من الضرر وهو الجري وههنا ما يدل على كمال المنفعة وهو الشّحْن.
فإن قيل: قال تعالى: ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر﴾ [الإسراء: ٧٠] ولم يقل: وحملنا ذريتكم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة لا دفع النِّقْمة نقول: لما قال في البرّ والبحر عَمّ الخلق لأن ما من أحدٍ إلا وحمل في البر والبحر وأما الحمل في البحر فلم يَعُمّ فقال إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء.

فصل


وفي قوله: «المشحون» فائدة أخرى وهي أن الآدمِيِّ يرسُب في الماء ويَغْرقُ فحمله في الفلك واقع بقدرته لكن من الطَّبِيعيِّنَ من يقول: الخفيف لا يرسب ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله.
فإن قيل: ما الحكمةُ في قوله: «وآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ (و) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ» ؟ ولم يقل: وآية لهم الفلك جعلناها بحيث تحملهم؟.
فالجواب: أن حملهم في الفلك هو العجيب. أما نفس الفلك فليس بعجيب لأنه كَبيْتٍ مَبْنِيِّ من خشب وأما نفس الأرض فعجيب ونفس الليل عجيب لا قدرة لأحد عليهما إلا الله.
قوله: ﴿وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ قرأ الحسن بتشديد الراء وهذه الآية تدل على أن المراد بقوله: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ الفلك الموجود في زمانهم وليس المراد الإبل كما قاله بعض المفسرين بأن المراد الإبلُ لأنها سفنُ البرِّ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون قوله: ﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ فاصلاً بين متصلين. ويحتمل أن يقال: الضمي في مثله يعود إلى معلوم غير مذكور. وتقريره أن يقال: وخَلَقْنَا لهم من مثل ما ذكر من المخلوقات كما في
229
قوله تعالى: ﴿لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ﴾ [يس: ٣٥] أن الهاء عائدة إلى ما ذكرنا أي من ثمرنا.

فصل


في قوله: ﴿وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ فائدتان:
إحداهما: أن في حال النعمة ينبغي أن لا يُؤْمَنَ عذابُ الله.
والثانية: أن ذلك جواب عن سؤال مقدر وهو أن الطَّبيعيِّ يقول: السفينة تَحْمِلُ بمُقْتَضَى الطَّبِيعَة والمجوَّف لا يرسب، فقال: ليس كذلك بل لو شاء الله إغراقهم لأغرقهم وليس كذلك بمُقْتَضى الطبيعة ولو صح كلامه الفاسد لكان لقائل أن يقول: ألست توافق أن من السفن ما ينقلب ونيكسر ومنها ما يثقبه ثاقب فيرسب وكل ذلك بمشيئة الله فإن شاء أغرقهم من غير شيء من هذه الأسباب كما هو مذهب أهل السنة أو شيء من تلك الأسباب التي سلمتها أنت.
قوله: ﴿فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ﴾ فَعِيلٌ بمعنى فاعل لا مغيث لهم وقيل: فلا مُسْتَغيث وقال الزمخشري: فلا إغاثة جعله مصدراً من «أصْرَخَ» قال أبو حيان «ويحتاج إلى نقل أن» صَرِيحاً يكون مصدراً بمعنى إصراخ «والعامة على فتح» صَرِيخَ «وحكى أبو البقاء أنه قرئ بالرفع والتنوين قال: ووجهة على ما في قوله: ﴿خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ٣٨].

فصل


معناه: لا مُغيثَ لهم يمنع عنهم الغَرَقَ»
وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ «إذا أدركهم الغرق لأن الخلاص من العذاب إما أن يكون برفع العذاب من أصله أو برفعه بعد وقوعه فقال:» لاَ صَرِيْخ لَهُمْ «يدفع ولا هم يُنْقَذُونَ بعد الوقوع فيه وهو كقوله تعالى: ﴿لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ﴾ [يس: ٢٣] وفيه فائدة أخرى غير الحصر وهي أنه تعالى قال: لا صَرِيخ لهم ولم يقل: ولا منقذ لهم؛ لأ (نَّ) مَنْ لا يكون مِن شأنه أن ينصر لا يشرع في
230
النصر مخافة أن يْغلَبَ ويذهبَ ماءُ وَجْهِهِ وإنما يَنْصُرُ ويغيث من كان من شأنه أن يُغِيثَ فقال:» لاَ صِرِيخَ لَهُمْ «وأما من لا يكون من شأنه أن ينقذ إذا راى من يعين عليه في نصره يشرع في الإنقاذ وإن لم يثِقْ من نفسه في الإنقاذ ولا يغلب على ظنه وإنما يبذل المجهود فقال:» ولا هم ينقذون «ولم يقل: ولا منقذ لهم، ثم استثنى وقال:» إلا رَحْمَةَ مِنَّا وَمَتَاعاً إلى حِينٍ «وهو يفيد أمرين:
أحدهما: انقسام الإنقاذ إلى قسمين: الرحمة والمَتَاع أي فمن عَلِمَ أنه يؤمن فينقذه الله رحمة وفيمن علم أنه لا يؤمن فليمتنع زماناً ويزداد إثمه.
وثاينهما: أنه بيان لكون الإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزّوال في الدنيا لا بدَّ منه، فينقذه رحمة ويمتعه إلى حين ثم يميته فإذن الزوال لازم أن يقع. قال ابن عباس المراد»
بالحِينِ «انقضاء آجالهم يعني (إلاَّ) أن يرحمهم ويمتعهم إلى حين آجالهم.
قوله:»
إلاَّ رَحْمَةً «منصوب على المفعول له وهو استثناء مفرغ، وقيل: استثناء منقعطع وقيل: على المصدر بفعل مقدَّر، أو على إسقاط الخافض أي إلا برحمةٍ والفاء في قوله:» فَلاَ صَرِيخَ «رابطةٌ لهذه الجملة بما قبلها؛ فالضمير في» لَهُمْ «عائد على المُغْرَقينَ» وجوز ابن عطية هذا ووجهاً آخَر وجعله أحْسَنَ منه وهو أن يكون استئناف إخبار عن المُسَافِرينَ في البحر ناجينَ كانوا مُغْرَقِينَ هم بهذه الحالة لا نجاة لهم إلاَّ برَحْمَةِ الله وليس قوله: ﴿فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ﴾ مربوطاً بالمغرقين انتهى.
وليس جعله هذا الأحسن بالحسن لئلا تخرج الفاء عن مَوْضُوعِهَا والكلام عن التئامِهِ.
231
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:قوله تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ لما مَنَّ بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر عليه بل بين للإنسان طريقاً يتخذ من البحر ويسير فيها كما يسير في البر وهو كقوله تعالى :﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر ﴾ [ الإسراء : ٧٠ ]ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ إذا فسرناه بأن المراد منه الإبل فإنها سفُن البرِّ. ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما بين سِبَاحَةَ الكواكب في الأفلاك ذكر ما هو مثله وهو سباحة الفُلْكِ في البحار ووجه آخر وهو أن الأمور التي أنعم الله ( تعالى )١ بها على عباده منها ضرورة ومنها نافعة فالأول للحاجة والثاني للزينة فخلق الله الأرض وإحياؤها من القبيل الأول فإنها المكان الذي لولاه لما وجد الإنسان ولولا إحياؤها لما عاش الإنسان، والليل والنهار في قوله :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل ﴾ [ يس : ٣٧ ] أيضاً من القبيل الأول لأنه الزمان الذي لولاه لما حدث الإنسان والشمسُ والقمرُ وحركتُهُما لو لم تكن لما عاش الإنسان، ثم إنه تعالى لما ذكر من القبيل الأول آيتين ذكر من القبيل الثاني وهو الزينة آيتين :
إحداهما : الفُلْك التي تجري في البحر فتستخرج٢ من البحر ما يُتَزَيَّنُ به كما قال تعالى :﴿ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ ﴾ [ فاطر : ١٢ ].
وثانيهما : الدَّوَابُّ التي هي في البرّ كالفُلْك في البحر في قوله :﴿ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ فإن الدوابَّ زينة كما قال تعالى :﴿ والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ [ النحل : ٨ ].
قوله :﴿ أَنَّا حَمَلْنَا ﴾ مبتدأ «وآية » خبر مقدم٣، وجوز أبو البقاء أن يكون :«أَنَّا حَمَلْنَا » خبر مبتدأ محذوف بناء منه على أن «آية لهم » مبتدأ وخبر كلام مستقل بنفسه كما تقدم في نظيره٤ والظاهر أن الضميرين في «لَهُمْ » و «ذُرِّيَّتهم » لشيء واحد٥. ويراد بالذرية آباؤهم المحمولين في سفينة نوح - عليه ( الصلاة و ) السلام- أو يكون الضميران مختلفين أي ذرية القرون الماضية٦. ووجه الامتنان عليهم أنهم في ذلك مِثْلُ الذرية من حيث إنهم ينتفعون بها كانتفاع أولئك. وقوله «مَا يَرْكَبُونَ » هذا يحتمل أن يكون من جنس الفُلْك إِن أريد بالفلك سفينة نوح - عليه ( الصلاة و ) السلام- خاصة وأن يكون من جنس آخر كالإبل ونحوه ولهذا سمتها العربُ سُفُنّ البرِّ فقوله :«مِنْ مِثْلِهِ » أي من مثل الفلك أو من مثل ما ذكر من خلق الأزواج، ( في قوله٧ «وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ » )٨. والضمير في «لهم » يحتمل أن يكون عائداً إلى الذرية أي حملنا ذريتهم وخَلَقْنَا للمحمولين ما يركبون، ويحتمل أن يعود إلى العباد الذين عاد إليْهِمْ قَوْلُهُ :«وَآيَةٌ لَهُمْ ». وهو الظاهر لعود الضمائر إلى شيء واحد٩. و «مِنْ » يحتمل أن تكون صلة أي خلقنا لهم مِثْلَهُ١٠، وأن تكون لِلْبَيَانِ، لأن المخلوق كان أشياء. وقال مِنْ مِثْل الفلك للبيان١١. وتقدم اشتقاق الذُّرِّيَّةِ في البقرة١٢، واختلاف القراء فيها في الأعراف١٣.

فصل


قال المفسرون : المراد بالذُّرَّيَةِ١٤ الآباء والأجداد واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد أي حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ في الفلك، والألف للتعريف أي فُلْكِ نُوِحِ وهو مذكور في قوله :﴿ واصنع الفلك ﴾ [ هود : ٣٧ ] وهو معلوم عند العرب. وقال الأكثرون١٥ : الذرية لا تطلق إلا على الولد. وعلى هذا فالمراد إما أن يكون الفلك المعين الذي كان لنوح وإما أن يكون المراد الجنس كقوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ ﴾ [ الزخرف : ١٢ ] وقوله :﴿ وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ ﴾ [ فاطر : ١٢ ] وقوله :﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ]. إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس فإن كان المراد سفينةَ نوح ففيه وجوه :
الأول : أن المراد : حملنا أولادهم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ولولا ذلك لما بقي للأب نسلٌ ولا عَقِب وعلى هذا فقوله :﴿ حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُم ﴾ إشارة إلى كمال النعمة أي لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة وهذا قول الزمخشري١٦، ويحتمل أن يقال : إنه تعالى إنما خص الذريات بالذكر لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم فقال :﴿ حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُم ﴾ أي لم يكن الحَمْلُ حَمْلاً لهم وإنَّما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين كمن حمل صُنْدُوقاً لا قيمة له وفيه جَوَاهِرُ ( ف ) قيل١٧ : إنه لم يحمل الصندوق إنما حمل١٨ ما فيه.
الثاني : أنّ المُرَادَ بالذُّرِّيَّة الجنس أي حملنا أجناسهم لأن ذلك الحيوانَ من جنسه ونوعه، والذرية تطلق على الجنس ولذلك١٩ تطلق على النِّساء كنهي النبي - عليه ( الصلاة و ) السلام- عن قَتْلِ الذَّرَارِي أي النساء٢٠ لأنَّ المرأة وإن كانت صِنْفاً غير صِنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال : ذَرَارينا أي أمثالنا.
الثالث٢١ : أن الضمير في قوله :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمْ ﴾ عائد على العَبِاد، حيث قال :﴿ يا حسرة عَلَى العباد ﴾ [ يس : ٣٠ ] وقال بعد ذلك :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾. ( وإذا عُلِمَ٢٢ هذا فكأنه تعالى قال :«وآيةٌ للعبادِ أنا حملنا ذريتهم ». وإذا علم هذا فكأنه تعالى قال :«وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد ». ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصاً مُعَيَّنينَ كقوله :﴿ وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٩ ] ﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾٢٣ [ الأنعام : ٦٥ ]. وكذلك٢٤ إذا تقاتل قومٌ ومات الكُلّ في القتال يقال : هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم. «فهم » في الموضعين يكون عائداً إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصاً مُعَيَّنِينَ بل المراد أن بعضَهم قتل بعضَهم فكذلك قوله تعالى :«آيةٌ لهم » أي آية لكل بعض منهم أنا٢٥ حملنا ذرية كُلِّ ( بَعْض )٢٦ منهم، أو ذرية بعض منهم.
وإن قلنا : المراد جنس الفلك وهو الآظهر لأن سفينة نوح لم تكن بحضرتهم ولم يعلموا من حمل فيها فأما جنس الفلك فآية ظاهرة لكل أحد وقوله تعالى في سفينة نوح :﴿ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ العنكبوت : ١٥ ] أي بوجود جنسها ومثلها. ويؤيده قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [ لقمان : ٣١ ]. وإن قيل : المراد سفينة نوح فوجه المناسبة أنه ذكرهم بحال نوح وأن المكذبين هلكوا والمؤمنين فازوا فكذلك هم إن آمنوا يفوزوا وإن كذبوا يَهْلَكُوا. والأول أظهر وهو أن المراد بالفلك الموجودة في زمانهم ويؤيده قوله تعالى :﴿ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ ﴾.
فإن قيل : لم قال ﴿ حَمَلْنَا ذُرِّيّتهُمْ ﴾ ولم يقل :«حملناهم » ليكون أعم٢٧ كما قال :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾ [ يس : ٣٣ ] ولم يقل : تَأْكُلُ ذُرِّيِّتهُم ؟.
فالجواب : قوله تعالى :«حملنا ذريتهم » أي ذريات العباد ولم يقل حملناهم لأن سكون الأرض عام ( ل )٢٨ كلّ أحد يسكنها فقال :﴿ وآيَةٌ لَهُم الأرض الميتة ﴾ إلى أن قال :﴿ فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾ لأن الأكل عام وأما الحمل في السفينة فمن الناس من لا يركبها في عمره ولا يُحْمَلُ فيها ولكن ذرية العباد لا بد لهم من ذلك فإنَّ فيهم من يحتاج إليها فيُحْمَلُ فيها.
فإن قيل : ما الحكمة في كونه جمع الفلك في قوله :﴿ وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ ﴾ [ فاطر : ١٢ ] وأفرده في قوله :﴿ فِي الفلك المشحون ﴾.
فالجواب : أن فيه تدقيقاً مليحاً في علم اللغة وهو أن الفلك٢٩ تكون حركتها مثلَ حركة تلك الكلمة في الصورة، والحركتان مختلفتان في المعنى مثاله قولك : سَجَد يَسْجُدُ سُجُوداً للمصدر وهم قوم سُجُودٌ في جمع «سَاجِدٍ » يظن أنها كلمة واحدة لمعنيين وليس كذلك بل السجود عند كونه مصدراً حركته أصلية إذا قلنا : إن الفعل مشتق من المصدر٣٠ وحركة السجود عند كونه للجمع حركة٣١ معتبرة من حيثُ إن الجمع مشتق٣٢ مِنَ الواحد وينبغي أن يلحق المشتق تغيير في حرف أو حركة أو في مجموعهما، فساجد لما أردنا أن يشْتَقَّ منه لفظُ جمع غيّرناه وجئنا بلفظ السُّجُود فإذن السجود للمصدر والجمع ليس من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت بحركة واحدة لمعنيين. وإذا عرف هذا فنقول «الفُلْك » عند كونه واحداً مثل :«قُفْل وبُرْد »٣٣ وعند كونها جمعاً مثل خُشْبٍ أو بُرْدٍ٣٤ أو غَيْرِهِما.
فإن قيل : فإذا جعلتَهُ جمعاً ما يكون واحدها ؟.
فالجواب : نقول جاز أن يكون واحدها فَلْكَة أو غيرها مما لم يستعمل كواحد النِّساء لم يستعمل وكذا القول في :«إمام مبين » إمَام كَزِمام وكتاب عند قوله تعالى :﴿ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾ [ الإسراء : ٧١ ] أي بِأَئِمَّتِهِمْ إمَامٌ كَسِهام وحِفَانٍ٣٥، وهذا من دقيق التَّصْرِيف. وأما من جهة المعنى ففيه سؤالات :
السؤال الأول : قال ههنا :«حَمَلْنا ذُرّيَّتّهُم » مَنَّ عليهم بحَمْلِ ذرّياتهم وقال تعالى :
﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية ﴾ [ الحاقة : ١١ ] منَّ عليهم هناك بحمل أنفسهم.
فالجواب : أن من ينفع المتعلق بالغير يكون قد نفع ذلك الغير ومن يدفع الضر عن المتعلّق بالغير لا يكون قد دفع الضر عن ذلك الغير بل يكون قد نفعه كمن أحسن إلى ولد إنسان وفرَّحَةُ فَرِحَ بفَرَحِهِ أبوه وإذا دفع الألم عن ولد إنسان يكون قد فَرَّح أباه ولا يكون في الحقيقة أزال الألم عن أبيه فعنْد طغيان الماء كان الضرر يلحقهم فقال : دفعت٣٦ عنكم الضّرر ولو قال : دفعت عن أولادكم الضرر لما حصل بيان دفع الضرر عنهم وههنا أراد بيان المنافع فقال :«حملنا ذرياتهم » لأنَّ النفع حاصل بنفع الذرية، ويدل على هذا قوله :«فِي الفُلْكِ المشحون » فإن امتلأ الفلك من الأموال يحصل ( بذكره )٣٧ بيان المنفعة٣٨ وإذا دفع المضرة فلا لأن الفلك كلما كان أثقل كان الخلاص بها أبطأ وهنالك السلامة فاختار هناك ما يدل على الخلاص من الضرر وهو الجري وههنا ما يدل على كمال المنفعة وهو الشّحْن.
فإن قيل : قال تعالى :﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر ﴾ [ الإسراء : ٧٠ ] ولم يقل : وحملنا ذريتكم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة لا دفع النِّقْمة نقول : لما قال في البرّ والبحر عَمّ الخلق لأن ما من أحدٍ إلا وحمل في البر والبحر وأما الحمل في البحر فلم يَعُمّ فقال إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء.

فصل


وفي قوله :«المشحون » فائدة أخرى وهي أن الآدمِيِّ يرسُب في الماء ويَغْرقُ فحمله في الفلك واقع بقدرته لكن من الطَّبِيعيِّينَ٣٩ من يقول : الخفيف لا يرسب في الماء لأنه يطلب جهة فوق فقال :" الفلك المشحون " وهو أثقل من الثقال التي ترسب ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله.
فإن قيل : ما الحكمةُ في

قوله :﴿ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ ﴾ قرأ الحسن بتشديد١ الراء وهذه الآية تدل على أن المراد بقوله :﴿ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ الفلك الموجود٢ في زمانهم وليس المراد الإبل كما قاله بعض المفسرين بأن المراد الإبلُ لأنها سفنُ البرِّ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون قوله :﴿ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ فاصلاً بين متصلين. ويحتمل أن يقال : الضمير في مثله يعود إلى معلوم غير مذكور. وتقريره أن يقال : وخَلَقْنَا لهم من مثل ما ذكر من المخلوقات كما في قوله تعالى :﴿ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ ﴾ [ يس : ٣٥ ] أن الهاء عائدة إلى ما ذكرنا أي من٣ ثمرنا.

فصل


في قوله :﴿ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ ﴾ فائدتان :
إحداهما : أن في حال النعمة ينبغي أن لا يُؤْمَنَ٤ عذابُ الله.
والثانية : أن ذلك جواب عن سؤال مقدر وهو أن الطَّبيعيِّ يقول : السفينة تَحْمِلُ بمُقْتَضَى الطَّبِيعَة والمجوَّف لا يرسب، فقال : ليس كذلك بل لو شاء الله إغراقهم لأغرقهم وليس كذلك بمُقْتَضى الطبيعة ولو صح كلامه الفاسد لكان لقائل أن يقول : ألست توافق أن من السفن ما ينقلب وينكسر ومنها ما يثقبه ثاقب فيرسب وكل ذلك بمشيئة الله فإن شاء أغرقهم من غير شيء من هذه الأسباب كما هو مذهب أهل السنة أو شيء من تلك الأسباب التي سلمتها أنت٥.
قوله :﴿ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ ﴾ فَعِيلٌ بمعنى فاعل لا مغيث٦ لهم. وقيل : فلا مُسْتَغيث٧. وقال الزمخشري : فلا إغاثة جعله مصدراً من «أصْرَخَ »٨. قال أبو حيان «ويحتاج إلى نقل أن «صَرِيحاً » يكون مصدراً بمعنى إصراخ »٩. والعامة على فتح «صَرِيخَ ». وحكى أبو البقاء أنه قرئ بالرفع والتنوين١٠. قال : ووجهه١١ على ما في قوله :﴿ فلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ [ البقرة : ٣٨ ].

فصل


معناه : لا مُغيثَ لهم يمنع عنهم الغَرَقَ «وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ » إذا أدركهم الغرق لأن الخلاص من العذاب إما أن يكون برفع العذاب من أصله أو برفعه بعد وقوعه فقال :«لاَ صَرِيْخ لَهُمْ » يدفع ولا هم يُنْقَذُونَ بعد الوقوع فيه وهو كقوله تعالى :﴿ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ ﴾ [ يس : ٢٣ ]. وفيه فائدة أخرى غير الحصر وهي أنه تعالى قال : لا صَرِيخ لهم ولم يقل : ولا منقذ لهم ؛ لأ ( نَّ )١٢ مَنْ لا يكون مِن شأنه أن ينصر لا يشرع١٣ في النصر مخافة أن يْغلَبَ ويذهبَ ماءُ وَجْهِهِ وإنما يَنْصُرُ ويغيث من كان من شأنه أن يُغِيثَ فقال :«لاَ صِرِيخَ لَهُمْ » وأما من لا يكون من شأنه أن ينقذ إذا رأى من يعين١٤ عليه في نصره يشرع في الإنقاذ وإن لم يثِقْ من نفسه في الإنقاذ ولا يغلب على ظنه وإنما يبذل المجهود فقال :«ولا هم ينقذون » ولم يقل : ولا منقذ لهم، ثم استثنى وقال :«إلا رَحْمَةَ مِنَّا وَمَتَاعاً إلى حِينٍ » وهو يفيد أمرين :
أحدهما : انقسام الإنقاذ إلى قسمين : الرحمة والمَتَاع أي فمن عَلِمَ أنه يؤمن١٥ فينقذه الله رحمة وفيمن علم أنه لا يؤمن فليمتنع١٦ زماناً ويزداد إثمه.
وثانيهما : أنه بيان لكون الإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزّوال في الدنيا لا بدَّ منه، فينقذه رحمة ويمتعه إلى حين ثم يميته فإذن الزوال لازم أن يقع. قال ابن عباس المراد «بالحِينِ » انقضاء آجالهم يعني ( إلاَّ )١٧ أن يرحمهم ويمتعهم إلى حين آجالهم.
١ من الأربع الشواذ على العشرة فقد نقلها صاحب الإتحاف ٣٦٥ وانظر: مختصر ابن خالويه ١٢٥ والكشاف ٣/٣٢٥..
٢ في "ب" الموجودة..
٣ قاله الرازي ٢٦/٨١..
٤ في الرازي: أن في حال النعمة ينبغي أن لا يأمنوا عذاب الله..
٥ وفيه: كما تسلم أنت. وانظر: تفسيره ٢٦/٨٢..
٦ نقله أبو حيان في البحر ٧/٣٣٩ والسمين في الدر ٤/٥٢٠ والزجاج ٤/٥٢٠..
٧ نقله السمين في الدر المرجع السابق..
٨ الكشاف ٣/٣٢٥ وقد وافقه الفراء في المعاني ٢/٣٧٩..
٩ البحر ٧/٣٣٩..
١٠ التبيان ١٠٨٣..
١١ النحاس ٤/٣٩٧ والكشاف ٣/٣٢٤ ومشكل الإعراب ٢/٢٢٧..
١٢ لفظ النون سقط من نسخة "ب"..
١٣ في "ب" يسرع بالسين..
١٤ في الرازي: من يعز عليه في ضر..
١٥ في "ب" مؤمن ينقذه..
١٦ في "ب" فليمتع..
١٧ سقط من "ب" وانظر: الرازي ٢٦/٨٢ وزاد المسير ٧/٢٢..
قوله :﴿ إلاَّ رَحْمَةً ﴾ منصوب على المفعول١ له وهو استثناء٢ مفرغ، وقيل : استثناء٣ منقطع وقيل : على المصدر بفعل مقدَّر، أو على إسقاط الخافض أي إلا برحمةٍ٤، والفاء في قوله :﴿ فَلاَ صَرِيخَ ﴾ رابطةٌ لهذه الجملة بما قبلها٥ ؛ فالضمير في﴿ لَهُمْ ﴾ عائد على «المُغْرَقينَ »٦. وجوز ابن عطية هذا ووجهاً آخَر وجعله أحْسَنَ منه وهو أن يكون استئناف إخبار عن المُسَافِرينَ في البحر ناجينَ كانوا أو مُغْرَقِينَ هم بهذه الحالة لا نجاة لهم إلاَّ برَحْمَةِ الله وليس قوله :﴿ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ ﴾ مربوطاً بالمغرقين انتهى٧.
وليس جعله هذا الأحسن بالحسن لئلا تخرج الفاء عن مَوْضُوعِهَا والكلام عن التئامِهِ٨.
١ التبيان ١٠٨٣ والبيان ٢/٢٩٧ وتأويل المشكل ٢/٢٢٨ ومعاني الزجاج ٤/٢٨٩ والإعراب للنحاس ٣/٣٩٧ والدر المصون ٤/٥١٥..
٢ قاله أبو حيان في البحر ٧/٣٣٩..
٣ لم يحدده الكسائي ونقل هذا الرأي أبو البقاء في التبيان ١٠٨٤..
٤ في "ب" رحمة وهذا تحريف غير مقصود. وقد ذكر هذين الوجهين العكبري في التبيان ١٠٨٣ و ١٠٨٤ والأنباري في البيان ٢/٢٩٧ ومكي في مشكل الإعراب ٢/٢٢٨ والسمين في الدر ٤/٥٢١ ومعنى قول الكشاف أنه منصوب على المفعول له. انظره ٣/٣٢٤..
٥ الدر المصون ٤/٥٢١ والبحر ٧/٣٣٩..
٦ السمين ٤/٥٢١..
٧ المرجعان السابقان..
٨ هذا معنى كلام أبي حيان على ابن عطية معترضا عليه كعادته قال: "وليس بحسن ولا أحسن"..
قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا﴾ جوابها محذوف أي أعرضوا يدل عليه بعده: «إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضينَ» وعلى هذا فلفظ «كانوا» زائدٌ، قال ابن عباس: ما بين أيديكم يعني الآخرة فاعملوا لها، وما خلفكم يعني الدنيا فاحْذَرُوها ولا تغترّوا بها وقيل: ما بين أيدكم وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم وما خلفكم عذاب الآخرة قاله قتادة ومقاتل، «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».
قوله: ﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ أي دلالة على صدق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا كانوا عنها معرضين وهذا الاستئناف في محل (نصب) حال كما تقدم في نظائره، وهذه الآية متعلقة بقوله تعالى: ﴿ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [يس: ٣٠] أي إذا جاءتهم الرسل كذبوا وإذا أتوا بالآيات أعْرَضُوا.
قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا﴾ لما عدد الآيات بقوله: ( «وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ» ) (و) «آيةٌ لَهُمُ اللِّيْلُ» (و) (آيةٌ لَهُمْ أنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ «وكانت الآيات تفيد اليقين والقطع ولم تفدهم اليَقينَ قال فلا أقلَّ من أن يَحْترزوا وقوع العذاب، فإن من أخبر بوقوع العذاب يتقيه وإن مل يقطع بصدق المخبر احْتِيَاكاً فقال تعالى: إذا ذكرتم الدليل القاطع لا يعترفون به فإذا قيل لهم اتقوا لا يتقون فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة لا مثل العلماء الذين يبنون الأمر على الأحوط ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ بحرف التمنِّي أي أن يخفى عليه البرهان لا يترك الاحتراز والاحْتِيَاطَ.
قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله﴾ أي أعطاكم الله. وهذا إشاءة إلى أنهم بخلوا بجميع التكاليف لأن المكلف يجب عليه التعظيم لجانب الله والشفقة على خلق الله وهم تركوا التعظيم حيث قيل لهم: اتَّقُوا (فلم يَتَّقُوا (وتركوا الشفة على خلق الله
232
حيث قيل لهم: أَنْقِقُوا ولم ينفقوا فما الحكمة في حذف الجواب في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ﴾ وههنا أجاب وأتى بأكثر من الجواب ولو قال:» وإذا قيل لهم أنققوا قالوا أنْطْعِمُ مَنْ لو يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «لكان كافياً فما الفائدة في قوله تعالى: ﴿قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا﴾ فالجواب: أن الكفار كانوا يقولون بأنَّ الإطعام من الصِّفات الحميدة وكانوا يفتخرون بطُعمةِ الأضياف فأوردوا في ذلك على المؤمنين معتقدين بأن أفعالنا مَنًّا ولولا إطعامنا مَنَّا لما اندفعت حاجة الضيف وأنتم تقولون: إنّ إلهكم يرزق من يشاء فَلِمَ تقولون لنا: أنفقوا؟ فلما كان غرضهم الرد على المؤمنين، لا الامتناع من الإطعام قال تعالى عنهم: ﴿قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا﴾ إشارة إلى الرد.
وأما قوله: اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ «فلم يكن لهم رد على المؤمنين فأعرضوا فأعرض (الله) عن ذكر إعراضهم لحصول العِلْمِ به.

فصل


قال المفسرون: إن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أَنْفِقُوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم وهو ما جعلوا لله من حُرُوثهم وأَنْعَامهم»
قَالوا أَنْطْعِمُ «أنرزق» مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللُّهُ «رزقه ثم لم يرزقه مع قدرته عليه فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله. وهذا مما يتمسك به البخلاء يقولون: لا نعطي من حرمه الله. وهذا الذي يزعمون باطل؛ لأن الله تعالى بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ولكن ليبلو الغنيّ بالفقير فيما فرض له في مال الغني ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه.
فإن قيل: ما الفائدة من تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا: أننفق من لو يشاء الله رزقه وذلك أنهم أمروا بالإنفاق في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ﴾ فكان جوابهم أن يقولوا: أننفقُ؛ فَلِمَ قالوا: أنطعم؟.
فالجواب: أن في هذا بيانَ غاية مخالفتهم لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره فمل يأتوا بالإنفاق ولا بأقلَّ منه وهو الإطعام. وهذا كقول القائل لغيره:»
أَعْطِ زَيْداً دِينَاراً «فيقول: لاَ أُعْطِيهِ دِرْهماً مع أن المطابق هو أن يقول لا أعطيه ديناراً
233
ولكن المبالغة في هذا الوجه أتمّ. فكذلك ههنا.
فإن قيل: قولهم: ﴿لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ﴾ كلام حق فلماذا ذكر في معرض الذَّمِّ؟.
فالجواب: لأن مرادهم كان الإنكارَ لقدرة الله أو لعدم جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله وكلاهما فاسدٌ فبيّن الله ذلك بقوله: ﴿مِمَّا رِزَقَكُمُ الله﴾ فإنه يدل على قدرته ويصحِّح أمره بالإعطاء لأن من كان له في يد الغير مال وله في خزانته مال فهو مخير إن أراد أعطى مما في خزانته وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء، ولا يجوز أن يقول من في يده مال: في خزانتك أكثير مما في يدي أعطه منه.
قوله: ﴿مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ﴾ مفعول» أَنُطْعِمُ «و» أَطْعَمَهُ «جواب» لو «وجاء على أحد الجَائِزين (و) هو تجرده من اللام. والأفصح أن يكون بلام، نحو: ﴿لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً﴾ [الواقعة: ٦٥] قوله: ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ يقول الكفار للمؤمنين: ما أنت إلا في خطأ بيِّن في اتِّباعكم محمداً وترك ما نحن عليه وهذا إشارة إلى أنهم قطعوا المؤمنين بهذا الكلام وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة الله ظاهر الفساد واعتقادهم هو الفاسد.

فصل


اعمل أنَّ»
إنْ «وردت للنفي بمعنى» ما «وكان الأصل في» إن «أنْ تكون للشرط والأصل في» مَا «أن تكون للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتعارضا واستعمل» ما «في الشرط، واستعمل» إن «في النفي.
أما وجه اشتراكهما فهو أن كل واحدة منها حرف مركب من حرفين متقاربين فإن الهمزة تقرب من الأنف والميم من النون ولا بد أن يكون المعنى الذي يدخل عليه «ما»
و «إنْ» لا يكون ثابتاً أما في «ما» فظاهر وأما في «إنْ» فلأنك إذا قلت: «إنْ جَاءَ زَيْدٌ أَكْرِمْه» ينبغي أن لا يكون منه في الحال (مجيء)
234
فاستعمل إنْ مكان «ما» وقيل: «إنْ زَيْدٌ قَائِمٌ» أي ما زيد بقائم. واستعمل ما في الشرط تقول: مَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ والذي يدل على ما ذكرنا أن «ما» النافية تستعمل بحيث لا تستعمل إن (وذلك) لأنك تقول: «مَا إنْ جَلَسَ زَيْدٌ» فتجعل إنْ «صلة» ولا تقول: «إنْ جَلَسَ زَيْدٌ»، بمعنى النفي وبمعنى الشرط تقول: إِمَّا ترين فتجعل «إنْ» أصلاً و «ما» صلة فدلنا هذا على أَنَّ «إنْ» في الشرط أصل و «ما» دخيل فيه و «ما» في النفي بالعَكْسِ.

فصل


قوله: ﴿إنْ أَنْتُمْ﴾ يفيد ما لا يفيد قوله: ﴿أَنْتُمْ فِي ضَلاَلٍ﴾ لأنه يوجب الحصر وأنه ليسُوا في غير الضَّلالِ، ووصف الضلال بالمُبِين أي أنه لظِهوره تبين نفسه أنه ضلال أي في ضلالٍ لا يخفى على أحد أنه في ضَلالَ.
وقوله: «في ضلال» يفيد كونهم مَغْمُورينَ فيه غائصين، فأما قوله في موضع آخر: «عَلَى بَيِّنَةٍ» و «عَلَى هُدى» فهو إشارة إلى كونهم راكبينَ متن الطريق المستقيم قَادِرينَ عليه.

فصل


إنما وصفوا المؤمنين بأنهم في ضَلالَ مبين لظنهم أن كلام المؤمنين متاقض ومن يتناقض كلامهُ يكون في غاية الضلال قال ابن الخطيب: ووجه ذلك أنهم قالوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه وهذا إشارة إلى أن الله إن شاء أن يطعمهم فهو يطعمهم فكان الأمر بإطعامهم أمراً بتحصيل الحاصل وإن لم يشأ إطعامهم لا يقدر أحدٌ على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ فلا قدرة لنا على الإطعام فكيف تأمروننا بالإطعام؟! ووجه آخر وهو أنهم قالوا إن أراد الله تجويعهم فلو أطْعَمْنَاهُم يكون ذلك سعياً في إبطال
235
فعل الله وأنه لا يجوز وأنتم تقولولن أطعموهم فهو ضلال. واعلم أنه لم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر وذلك لأن العبد إذا أمره السِّيدُ بأمر لا ينبغي الإطِّلاَعُ على المقصود الذي لأجهل الذي أمره به مثاله إذا أراد الملك الركوب للهجوم على عَدُوَّه بحيث لا يَطَّلع عليه أحد وقال للعبد: أَحْضِر المركوبَ فلو تطلع واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لنسب إلى أنه يريد أن يطلع عوه على الحَذَرِ منه وكشف سره فالأدب في الطاعة هو اتباع الأمر لا تتبع المراد فاللَّه تعالى إذ (ا) قال: أنفقوا مما رزقكم الله لا يجوز أن يقال: لِمَ لَمْ يطعمهم (الله) مما في خزائنه؟.
236
قوله :﴿ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾ أي : دلالة على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا كانوا عنها معرضين. وهذا الاستئناف في محل ( نصب )١ حال٢ كما تقدم في نظائره، وهذه الآية متعلقة بقوله تعالى :﴿ يا حسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ يس : ٣٠ ] أي : إذا جاءتهم الرسل كذبوا وإذا أتوا بالآيات أعْرَضُوا.
١ زيادة يتم لها الكلام والسياق..
٢ قاله السمين في الدر ٤/٥٢١..
قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا ﴾ لما عدد الآيات بقوله :﴿ وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ ﴾١ ( و ) ﴿ آيةٌ لَهُمُ اللِّيْلُ ﴾ ( و ) ﴿ آيةٌ لَهُمْ أنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾وكانت الآيات تفيد اليقين والقطع ولم تفدهم٢ اليَقينَ قال فلا أقلَّ من أن يَحْترزوا٣ وقوع العذاب، فإن من أخبر بوقوع العذاب يتقيه وإن لم يقطع بصدق المخبر احْتِيَاطاً فقال تعالى : إذا ذكرتم الدليل القاطع لا يعترفون به فإذا قيل لهم اتقوا لا يتقون فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة لا مثل العلماء الذين يبنون الأمر على الأحوط ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ بحرف التمنِّي أي أن يخفى عليه البرهان لا يترك الاحتراز والاحْتِيَاطَ.
قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله ﴾ أي : أعطاكم الله. وهذا إشارة إلى أنهم بخلوا بجميع التكاليف ؛لأن المكلف يجب عليه التعظيم لجانب الله والشفقة على خلق الله وهم تركوا التعظيم حيث قيل لهم : اتَّقُوا ( فلم٤ يَتَّقُوا ) وتركوا الشفقة على خلق الله حيث قيل لهم : أَنْقِقُوا ولم ينفقوا فما الحكمة في حذف الجواب في قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ ﴾ ؟ وههنا أجاب وأتى بأكثر من الجواب ولو قال :«وإذا قيل لهم أنققوا قالوا أنْطْعِمُ مَنْ لو يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ » لكان كافياً فما الفائدة في قوله تعالى :﴿ قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا ﴾ فالجواب : أن الكفار كانوا يقولون بأنَّ الإطعام من الصِّفات الحميدة وكانوا يفتخرون بطُعمةِ الأضياف فأوردوا في ذلك على المؤمنين معتقدين بأن أفعالنا مَنًّا٥ ولولا إطعامنا مَنَّا لما اندفعت٦ حاجة الضيف وأنتم تقولون : إنّ إلهكم يرزق من يشاء فَلِمَ تقولون٧ لنا : أنفقوا ؟ فلما كان غرضهم الرد على المؤمنين، لا الامتناع من الإطعام قال تعالى عنهم :﴿ قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا ﴾ إشارة إلى الرد.
وأما قوله :﴿ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ﴾ فلم يكن لهم رد على المؤمنين فأعرضوا فأعرض ( الله )٨ عن ذكر إعراضهم لحصول٩ العِلْمِ به.

فصل


قال المفسرون : إن المؤمنين قالوا لكفار مكة : أَنْفِقُوا على المساكين مما١٠ زعمتم أنه لله من أموالكم وهو ما جعلوا لله من حُرُوثهم١١ وأَنْعَامهم ﴿ قَالوا أَنْطْعِمُ ﴾ أنرزق ﴿ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللُّهُ ﴾ رزقه ثم لم يرزقه مع قدرته عليه فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله. وهذا مما يتمسك به البخلاء يقولون : لا نعطي من حرمه الله. وهذا الذي يزعمون باطل ؛ لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء فمنع الدنيا من الفقير لا بخلا، وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ولكن ليبلو الغنيّ بالفقير فيما فرض له في مال الغني ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه.
فإن قيل : ما الفائدة من١٢ تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا : أننفق من لو يشاء الله رزقه وذلك أنهم أمروا بالإنفاق في قوله :
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ ﴾ فكان جوابهم أن يقولوا : أننفقُ ؛ فَلِمَ قالوا : أنطعم ؟.
فالجواب : أن في هذا بيانَ غاية مخالفتهم لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره فلم يأتوا بالإنفاق ولا بأقلَّ منه وهو الإطعام. وهذا كقول القائل لغيره :«أَعْطِ زَيْداً دِينَاراً » فيقول : لاَ أُعْطِيهِ دِرْهماً مع أن المطابق هو أن يقول لا أعطيه ديناراً ولكن المبالغة في هذا الوجه أتمّ. فكذلك ههنا.
فإن قيل : قولهم :﴿ من لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ ﴾ كلام حق فلماذا ذكر في معرض الذَّمِّ ؟.
فالجواب : لأن مرادهم كان الإنكارَ لقدرة الله أو لعدم جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله وكلاهما فاسدٌ فبيّن الله ذلك بقوله :﴿ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله ﴾ فإنه يدل على قدرته ويصحِّح١٣ أمره بالإعطاء لأن من كان له في يد الغير مال وله في خزانته مال فهو مخير إن أراد أعطى مما في خزانته وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء، ولا يجوز أن يقول من في يده مال : في خزانتك أكثر مما في يدي أعطه منه١٤.
قوله :﴿ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ ﴾ مفعول «أَنُطْعِمُ » و «أَطْعَمَهُ » جواب «لو » وجاء على أحد الجَائِزين ( و )١٥ هو تجرده من اللام. والأفصح١٦ أن يكون بلام١٧، نحو :﴿ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ﴾١٨ [ الواقعة : ٦٥ ] قوله :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ يقول الكفار للمؤمنين : ما أنتم إلا في خطأ بيِّن١٩ في اتِّباعكم محمداً وترك ما نحن عليه وهذا إشارة إلى أنهم قطعوا المؤمنين بهذا الكلام وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة الله ظاهر الفساد واعتقادهم هو الفاسد.

فصل


اعلم أنَّ «إنْ » وردت للنفي بمعنى «ما » وكان الأصل في «إن » أنْ تكون للشرط والأصل في «مَا » أن تكون للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتعارضا٢٠. واستعمل «ما » في الشرط، واستعمل «إن » في النفي.
أما وجه اشتراكهما فهو أن كل واحدة منهما حرف مركب من حرفين متقاربين فإن الهمزة تقرب من الألف والميم من النون ولا بد أن يكون المعنى الذي يدخل عليه «ما » و «إنْ » لا يكون ثابتاً أما في «ما » فظاهر وأما في «إنْ » فلأنك إذا قلت :«إنْ جَاءَ زَيْدٌ أَكْرِمْه » ينبغي أن لا يكون منه في الحال ( مجيء )٢١ فاستعمل إنْ مكان «ما ». وقيل :«إنْ زَيْدٌ قَائِمٌ » أي ما زيد بقائم. واستعمل ما في الشرط تقول : مَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ والذي يدل على ما ذكرنا أن «ما » النافية تستعمل بحيث لا تستعمل إن ( وذلك )٢٢ لأنك تقول :«مَا إنْ جَلَسَ زَيْدٌ » فتجعل إنْ «صلة » ولا تقول :«إنْ٢٣ جَلَسَ زَيْدٌ »، بمعنى النفي وبمعنى الشرط تقول : إِمَّا٢٤ ترين فتجعل «إنْ » أصلاً و «ما » صلة فدلنا هذا على أَنَّ «إنْ » في الشرط أصل و «ما » دخيل فيه و «ما » في النفي بالعَكْسِ.

فصل


قوله :﴿ إنْ أَنْتُمْ ﴾٢٥ يفيد ما لا يفيد قوله :﴿ أَنْتُمْ فِي ضَلاَلٍ ﴾ لأنه يوجب الحصر وأنه٢٦ ليسُوا في غير الضَّلالِ، ووصف الضلال بالمُبِين أي أنه لظِهوره تبين٢٧ نفسه أنه ضلال أي في ضلالٍ لا يخفى على أحد أنه في ضَلالَ.
وقوله :«في ضلال » يفيد٢٨ كونهم مَغْمُورينَ فيه غائصين، فأما قوله في موضع آخر :«عَلَى بَيِّنَةٍ » و «عَلَى هُدى » فهو إشارة إلى كونهم راكبينَ متن الطريق المستقيم قَادِرينَ عليه٢٩.

فصل


إنما وصفوا المؤمنين بأنهم في ضَلالَ مبين لظنهم أن كلام المؤمنين متناقض ومن يتناقض كلامهُ يكون في غاية الضلال. قال ابن الخطيب : ووجه٣٠ ذلك أنهم قالوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه وهذا إشارة إلى أن الله إن شاء أن يطعمهم فهو يطعمهم فكان الأمر بإطعامهم أمراً بتحصيل الحاصل وإن لم يشأ إطعامهم لا يقدر أحدٌ على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ فلا قدرة لنا على الإطعام فكيف تأمروننا بالإطعام ؟ ! ووجه آخر وهو أنهم قالوا إن أراد الله تجويعهم فلو أطْعَمْنَاهُم يكون ذلك سعياً في إبطال فعل الله وأنه لا يجوز وأنتم تقولون أطعموهم فهو ضلال. واعلم أنه لم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر وذلك لأن العبد إذا أمره السِّيدُ بأمر لا ينبغي الإطِّلاَعُ على المقصود٣١ الذي لأجله الذي أمره به مثاله إذا أراد الملك الركوب للهجوم على عَدُوَّه بحيث لا يَطَّلع عليه أحد وقال للعبد : أَحْضِر المركوبَ فلو تطلع واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لنسب إلى أنه يريد أن يطلع عدوه على الحَذَرِ منه وكشف سره فالأدب في الطاعة هو اتباع الأمر لا تتبع المراد فاللَّه تعالى إذ ( ا )٣٢ قال : أنفقوا مما رزقكم الله لا يجوز أن يقال : لِمَ لَمْ يطعمهم ( الله )٣٣ مما في خزائنه ؟.
١ ما بين القوسين سقط من "ب"..
٢ في "ب" ولم يفدهم بالتذكير على أن الفاعل اليقين..
٣ في النسختين : يجوزوا فإن من جوز. والتصحيح من الرازي، انظر: الرازي ٢٦/٨٢..
٤ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٥ في الرازي :"ثناء" لا منا..
٦ كذا في "ب" وفي الرازي اندفع..
٧ كذا في "ب" والعرف النحوي وفي "أ" : فلم تقولوا بحذف النون لحن لغوي..
٨ زيادة من الرازي..
٩ انظر: الرازي ٢٦/٨٤..
١٠ في "ب" فيما..
١١ في "ب" حرثهم بالإفراد. وهذا القول ينسب إلى مقاتل. انظر: زاد المسير ٧/٢٤ والجامع للقرطبي ١٥/٣٦ و ٣٧ والبحر المحيط ٧/٣٤٠..
١٢ في "ب" في. وهو الموافق للرازي ٢٦/٨٤..
١٣ في "ب" صحح وما في الرازي موافق لما هنا أعلى..
١٤ انظر: تفسير الإمام فخر الدين الرازي ٢٦/٨٤ و ٨٥..
١٥ سقط من ب..
١٦ نقول: إن حكمه كقول الله – عز وجل- ﴿استحوذ عليهم الشيطان﴾ فكانت القاعدة تقتضي القول استحاذ كاستجاب واستعاذ لكنا نقول: إنه شاذ قياسا فصيح استعمالا فكان على المؤلف أن يذكر بدل الأفصح الأكثر..
١٧ حيث إن الجواب ماض مثبت غير منفي وإذا كان كذلك كانت اللام هي الكثيرة وبدونها يكون قليلا..
١٨ وجاء من حيث القلة قوله: ﴿أو نشاء جعلناه أجاجا﴾ ٦٩ من نفس السورة..
١٩ في ب مبين..
٢٠ أي أخذ كل منهما من الآخر شيئا فأصبحا متعارضين. وفي ب "فتعارضا" تحريف..
٢١ سقط من ب وفي الرازي ٢٦/٨٥: "أن لا يكون له في الحال مجيء"، وانظر: تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٦/٨٥..
٢٢ سقط من ب..
٢٣ في ب" ما" بدل "أن" تحريف ولحن وربما سهو من الناسخ..
٢٤ الأصل إن ما، فلفظ "إما" مركب من "إن" و "ما" وقلبت النون ميما وأدغمت الميمان في بعضهما ولقد أورد هذه القضية كلها الإمام الرازي في تفسيره ٢٦/٨٥. ولقد نقل السيوطي في الأشباه والنظائر أن "إما" مركبة من إن الشرطية وما النافية حيث قال: "ومن الاختصار تركيب إما العاطفة على قول سيبويه من إن الشرطية وما النافية". الأشباه والنظائر ١/٢٩. وهذا بخلاف كلامه في الهمع فقد ذكر أنها من "إن" و "ما" الزائدة. الهمع ٢/١٣٥ وهو رأي الكوفيين ونقله عنهم ابن هشام في المغني ٦١. وانظر: قضايا التركيب ٢٠٦ و ٢٠٧..
٢٥ في ب لا يفيد خطأ لأن الغرض الإيجاب لا النفي..
٢٦ كذا في أ والرازي وفي ب أنهم ليسوا..
٢٧ في ب مبين..
٢٨ في ب مفيد..
٢٩ تفسير الرازي له ٢٦/٨٥ و ٨٦..
٣٠ تفسير الرازي له ٢٦/٨٥ و ٨٦..
٣١ في الرازي: لا ينبغي أن يكشف سبب الأمر والاطلاع على المقصود الذي أمر به لأجله..
٣٢ ألف "إذا " زيادة من ب على أ والرازي..
٣٣ سقط من ب..
قوله: ﴿وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد﴾ أي القيامة والبعث «إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» وهذا إشارة إلى ما اعتقدوا أن التقوى المأمور بها في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا﴾ [يس: ٤٥] والإنفاق المذكور في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا﴾ [يس: ٤٥] لا فائدة فيه لأن لا حقيقة له وقولهم: «مَتَى هَذَا الوَعْدُ» أي متى يقع المَوْعُودُ به.

فصل


«إنْ» للشرط وهي تستدعي جزاء و «متى» استفهام لا تصلح جواباً فيه فما الجواب؟.
قيل: هو في صورة الآستفهام وهو في المعنى إنكار كأنهم قالوا: إن كنتم صادقين في قوع الحشر فَقُلُوا متى يكون.

فصل


الظاهر أن هذا الخطاب مع الأنبياء لما أنكروا الرسالة قالوا إن كنتم أيها المُدَّعونَ للرسالة صادقين فأخبرونا متى يكون ما تَعِدُونَنَا به.
236
فإن قيل: ليس في هذا الموضع وعد فالإشارة بقوله: «هَذَا الوَعْد» إلى أي وعد؟
فالجواب: هو ما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ﴾ [يس: ٤٥] من قيام الساعة، أو نقول: هو معلوم وإن لم يكن مذكوراً لكون الأنبياء مقيمين على تذكيرهم بالساعة والحساب والثواب والعقاب.
قوله: ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ قال ابن عباس: ما ينتظرون إلاّ الصيحة المعلومة يريد النفخة الأولى والتنكير للتكثير.
فإن قيل: هم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها.
فالجواب: المراد بالانتظار فعلهم لأنهم كانوا يفعلون ما يستحق به فاعله الهوان وتعجيل العذاب وتقريب الساعة لولا حكم الله وعلمه بأنهم لا يفوتونه أو يقال: لما لم يكن قولهم «متى» استفهاماً حقيقياً قال ينتظرون انتظاراً غير حقيقي لأن القائل متى يفهم منه الانتظار نظر لقوله.

فصل


ذكر في الصيحة أموراً تدل على عظمتها:
أحدها: التنكير
وثانيها: قوله «واحدة» أي لا يحتاج معها إلى ثانية.
ثالثها: «تأخذهم» أي تَعْمُّهم بالأَخْذِ وتصلُ إلى مَنْ في الأرض مشارقِهَا ومَغَارِبها.
قوله: ﴿وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ قرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خَصَم يَخْصِمُ. والمعنى بخصم بعضهم بعضاً فالمفعول محذوف، وأبو عمرو وقالوا بإخفاء فتحة الخاء، وتشديد الصاد. ونافع وابن كثير وهشام كذلك إلا أنه بإخلاص فتحة الخاء، والباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد والأصل في القراءات الثلالث يَخطْتَصُمُونَ فأدغمت التاء في الصاد. فنافع وابن كثير وهشام نقولا فتحتها إلى الساكن قبلها نقلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتها تنْبِيهاً على أن الخاء أصلها السكون والباقون حذفوا حركتها
237
فالتقى ساكنان كذلك فكسر (وا) أولهما. فهذه أربع قراءات قرئ بها في المشهور، وروي عن أبي عمرو وقالون سكون الخاء وتشديد الصاد فالنحاة يستشكلونها للجمع بين ساكنين على غير حَدِّيْهمَا.
وقرأ جماعة «يخِصِّمُونَ» بكسر الياء والخاء وتشديد الصاد وكسروا الياء إتباعاً وقرأ أبيّ يَخْتَصِمُونَ على الأصل، وقال أبو حيان وروي عنهما - أي عن أبي عمرو وقالون - سكون الخاء، وتخفيف الصاد من خَصَم قال شهاب الدين: هذه هي قراءة حَمْزَةَ ولم يحكِها هو عنه، وهذا يشبه قوله: ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٠] في البقرة و «لاَ يَهْدِّي» في يُونُس وقرأ ابن مُحَيْصِن «يرجعون» مبنيٍّا للمفعول.

فصل


قال عليه (الصلاة و) السلام: «لَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرجُلاَنِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلاَ يِبِيعانِهِ وَلاَ يَطْوِيَانِهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ الرَّجُلُ أَكْلَتَهُ إلَى فِيهِ فَلاَ يَطْعَمُها».
قوله: ﴿فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ أي لا يقدرون على الإيصاء قال مقاتل: أي أعجلوا عن الوصية فماتوا «وَلاَ إلَى أَهْلِهِمْ يرْجِعُونَ» يَنْقَلِبُونَ. أي أنَّ الساعة لا تُمْهِلْهُم لشيء.
واعلم أن قول القائل: فلان في هذه الحالة لا يوصي دون قوله لايستطيع التوصية لأن ما من لايوصي قد يستطيعها والتوصية بالقول، والقول يوجد أسرع مما يوجد الفعل فقال: لا يتسطيعون كلمة، فكيف الذي يحتاج إلى زمن طويل من أداء الواجبات ورد المظالم؟! واعتبار الوصية من بين سائر الكلمات يدل على أنه لا قدرة له على أهم الكلمات فإن وقت الموت الحاجة إلى الوصية أمسّ. والتنكير في التوصية للتعميم أي لا
238
يقدر على توصية (ما) ولو كانت بِكَلِمةٍ يسيرة، ولأن الوصية قد تحصل بالإشارة، فالعاجز عنها عاجز عن غيرها. قوله: ﴿إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ بيان لشدة الحاجة إلى التوصية، ثم بين ما بعد الصيحة الأولى فقال: ﴿وَنُفِخَ فِي الصور﴾ أي نفخ فيه أخرى كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨] وقرأ الأعرج ونفخ في الصور بتفح لاواو وهي القبور واحدها جَدَث، وقرئ من الأجدافِ بالفاء، وهو لغة في الأجداث يقال: جَدَث، وجَدَف كثمَّ وفُمَّ، وثُوم، وفُوم.
فإن فيل: أين يكون ذلك الوقت وقد زلزت الصيحة الجبال؟.
فالجواب: أن الله يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقْرِرَ فيه من ذلك الموضع وهو جدثه.
قوله: ﴿إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ أي يخرجون من القبور أحياء. وقرأ ابنُ أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية: يَنْسُلُونَ بضم السين، يقال: نَسَلَ الثعلبُ يَنْسِلُ وَنْسُلُ إذا أسرع في عَدْوِهِ، ومنه قيل للولد: نَسَل لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه.
فإن قيل: المسيء إذا توجه إلى من أحسن إليه يقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى والنَّسلاَن سرعة الشيء فكيف يوجد بينهم ذلك؟
فالجواب: ينسلون من غير اختيارهم والمعنى أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث نفخ في الصور فيكون في وقته جمع وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد، فقوله: «إذَا هُمْ يَنْسِلُونَ» أي في زمان واحد ينتهون إلى هذه الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب.
فإن قيل: قال في آية ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨] وقال ههنا: ﴿فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ والقيام غير النسلان فقوله في الموضعين: «إذا هم» يقتضي أن يكونا معاً.
239
فالجواب من وجهين:
الأول: أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر.
الثاني: أن لسرعة الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل:
٤١٨٣ - مِكَرِّ مِفَرِّ مُقْبِل مُدْبِرٍ مَعاً.....................................
واعمل أن النفختين تورثان تزلزلاً وانقلاباً للأجرام فعند اجتماع الأجرامِ يُفَرِّقها وهو المراد بالنفخة الأولى وعند تفرق الأجرام يجمعها وهو النفخة الثانية.
قوله: ﴿ياويلنا﴾ العامة على الإضافة إلى ضمير المتكلمين دون تأنيث وهو «ويل» مضاف لما بعده. ونقل أبو البقاء أن «وَيْ» كلمة براسها عن الكوفيين و «لنا» جار ومجرور انتهى قال شهاب الدين: ولا معنى لهذا إلا بتأويل بعيد وهو أن يكون يا غَجَب لنا، لأن «وَيْ» تفسير بمعنى أعجب منا وابنُ أَبِي لَيْلَى يا ويلتنا بتاء التأنيث وعنه أيضاً يَا وَيْلَتِي بإبدال التاء ألفاً وتلأأويل هذه أن كل واحد منهم يقول يا ويلتي.
قوله: ﴿مَنْ بَعَثَنَا﴾ العامة على فتح ميم «من» و «بعثنا» فعلاً ماضياً خبراً «لمنْ» الاستفهامية قبله، وابن عباس والضحاك وأبو نُهَيْك بكسر الميم على أنها حرف جر، و «بعثنا» مصدر مجرور «بمن» ف «من» الأولى تتعلق بالويل والثانية تتعلق بالبعث. والمَرْقَدُ يجوز أن يكون مصدراً أي من رُقَادِنَا وأن يكون مكاناً وهو مفرد
240
أقيم مُقَام الجمع والأول أحسن؛ إذ المصدر يفرد مطقاً.

فصل


قال ابن عباس وأبيّ بن كعب وقتادة: إنما يقولون هذا لأن الله يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة، دعوا بالويل. وقال (أهل) المعاني: الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم فقالوا: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا.
فإن قيل: لو قيل: فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون يقولون يا ويلنا كان أليق قال ابن الخطيب: نقول: معاذ الله وذلك لأن قوله إذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون إشارة إلى أنهم تعالى باسرع زمان يجمع أجزاءهم وؤلفها ويحييها ويحركها بحيث يقع نسلانهم في وقت النفخ مع أن ذلك لا بدّ له من الجمع والتأليف فلو قال يقولون لكان ذلك مثل الحال لنيسلون أي نسلون قائلين يا ويلنا وليس كذلك فإن قولهم: يا ويلنا قبل أن ينسلوا وإنما ذكر النسلان لما ذكرنا من الفائدة.
فإن قيل: ما وجه تعلق «مَنْ بعَثنَا مِنْ مَرْقَدِنَا» بقولهم «يَا وَيْلَنَا» ؟
فالجواب: لما بعثوا تذكروا ما كانوا يمسعون من الرسل فقالوا: يَاوَيْلَنَا أبَعَث الله البَعْثَ الموعود به أم كنا نِيَاماً هنا كما إذا كان إنسان موعوداً بأن يأتيه عدو لايطيقه ثم يَرَى رَجُلاً هائلاً يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول أهذا ذاك أم لا؟.
ويدل على هذا قولهم: ﴿مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ حيث جعلوا القبور موضع الرُّقَاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نيَاماً فنبهوا أو كانوا موتى فبعثوا وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين وقالوا من بعثنا إشارة إلى ظنهم أنه بعثهم الموعود به وقالوا من مرقدنما إشارة إلى توهمهم احتمال الانْتِبَاه.
قوله: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن﴾ في «هذا» وجهان:
أظهرهما: أنه مبتدأ وما بعده خبره ويكون الوقوف تامًّا على قوله: ﴿مِن مَّرْقَدِنَا﴾ وهذه الجملة حينئذ فيها وجهان:
241
أحدهما: أنها مستأنفة إما من قول الله تعالى، أو من قول الملائكة، أو من قول المؤمنين للكفار.
الثاني: أنها من كلام الكفار فيكون في محلّ نصب بالقَول.
والثاني من الوجهين الأولي: (أن) «هذا» صفة «لمرقدنا» و «مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ» منقطع عما قبله ثم في «ما» وجهان:
أحدهما: أنها في محل رفع بالابتداء والخبر مقدر أي الذي وعده الرحمن وصدق فيه المرسلون حق عليكم وإليه ذهب الزجاج والزمخشري.
والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هذا وعد الرحمن، وقد تقدم في ألو الكهف أن حَفْصاً يقف على «مرقدنا» وقفلةً لطيفة دون قطع نفس لئلا يتوهم أن اسم الإشارة تباع ل «مَرْقَدِنَا» وهذا الوَجْهَانِ يقويان ذلك المعنى المذكور الذي تعمد الوقف لأجله، و «ما» يصحّ أن تكون موصولة اسمية أو حرفية كما تقدم ومفعولاً الوعد والصدق محذفوفان أي وَعَدَنَاهُ الرَّحْمَنُ وصَدَقَنَاهُ المرسلون والأصل «صدقنا فيه» ويجوز حذف الخاضف وقد تقدم ذلك نحو: صَدَقَنِي سنَّ بكْرِ (هِ) أي في سنه.
قوله: ﴿ِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ تقدمت قراءتا: ﴿صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ [يس: ٥٣] نصباً ورفعاً أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة، ويدل على النفخة قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصور﴾ ويحتمل أن يقال: إنها كانت الواقعة وقرئت الصيحة مرفوعة على أن «كان» هي التامة بمعنى «ما وقعتْ إلاَّ صَيْحَةٌ» قال الزمخشري: لو كان كذلك لكان الأحسن أن
242
يقال: إن كان؛ لأن المعنى حينئذ ما وقع شيء إلى صيحة لكن التأنيث جائز إحالته على الظاهر ويمكن أن يقول الذي قرأ بالرفع إن قوله: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الواقعة﴾ [الواقعة: ١] تأنيث تهويل ومبالغة بدليل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ [الواقعة: ٢] فإنها للمبالغة فكذلك ههنا قالك «إنْ كانت إلا موتتنا الأولى» تأنيث تهويل، ولهذا جاءت أسماء يوم الحشر كلها مؤنثة كالقيامة والقارعة والحَاقَة والصَّاخَّة إلى غيرها.
والزمخشري يقول: كاذبة بمعنى ليس لوقعتها نفس كاذبة وتأنيث أسماء الحشر لكون الحشر مسمى بالقيامة. وقوله «محضرون» دليل على أنّ كونهم نسلون إجباريّ لا اختياريّ ثم بين ما يكون في ذلك اليوم فقال: ﴿فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ فاليوم منصوب «بلاَ تُظْلَمُ» و «شيئاً» إما مفعول ثانٍ وإماغ مصدر.
فقوله: ﴿لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ (و) ﴿وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ليَيْأسَ المجرمُ والكافر.
فإن قيل: ما الفائدة في الخطاب عند الإشارة إلى أمان المؤمن؟
فالجواب: أن قوله: ﴿لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ يفيد العموم وهو كذلك فإنه لا يظلم أحداً وأما «لا تجزون» فيختص بالكافر لأن الله يجزي المؤمن وإن لم يفعل فإن لله فضلاً مختصاً بالمؤمن وعدلاً عاماً فيه. وفيه بشارة.
243
قوله :﴿ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾. قال ابن عباس : ما ينتظرون إلاّ الصيحة المعلومة يريد النفخة الأولى١ والتنكير للتكثير.
فإن قيل٢ : هم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها.
فالجواب : المراد بالانتظار فعلهم لأنهم كانوا يفعلون ما يستحق به فاعله الهوان وتعجيل العذاب وتقريب الساعة لولا حكم الله وعلمه بأنهم لا يفوتونه أو يقال : لما لم يكن قولهم «متى » استفهاماً حقيقياً قال ينتظرون انتظاراً غير حقيقي لأن القائل متى يفهم منه الانتظار نظر لقوله.

فصل


ذكر في الصيحة أموراً تدل على عظمها :
أحدها : التنكير
وثانيها : قوله «واحدة » أي لا يحتاج معها إلى ثانية.
ثالثها :«تأخذهم » أي تَعْمُّهم بالأَخْذِ وتصلُ إلى مَنْ في الأرض مشارقِهَا ومَغَارِبها٣.
قوله :﴿ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ﴾ قرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خَصَم يَخْصِمُ. والمعنى يخصم بعضهم بعضاً فالمفعول محذوف٤، وأبو عمرو وقالون بإخفاء فتحة الخاء، وتشديد الصاد. ونافع وابن كثير وهشام كذلك إلا أنه بإخلاص فتحة الخاء، والباقون بكسر الخاء٥ وتشديد الصاد والأصل في القراءات الثلاث يَخْتَصمُونَ فأدغمت التاء في الصاد. فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحتها إلى الساكن قبلها نقلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتها تنْبِيهاً على أن الخاء أصلها السكون والباقون حذفوا حركتها فالتقى ساكنان كذلك فكسر ( وا )٦ أولهما. فهذه أربع قراءات قرئ بها في المشهور، وروي عن أبي عمرو وقالون سكون الخاء وتشديد الصاد فالنحاة يستشكلونها للجمع بين ساكنين على غير حَدِّيْهمَا.
وقرأ جماعة «يخِصِّمُونَ » بكسر الياء والخاء وتشديد الصاد وكسروا الياء إتباعاً٧. وقرأ أبيّ يَخْتَصِمُونَ على الأصل٨، وقال أبو حيان وروي عنهما- أي عن أبي عمرو وقالون - سكون الخاء، وتخفيف الصاد من خَصَم٩. قال شهاب الدين : هذه هي قراءة حَمْزَةَ ولم يحكِها هو عنه، وهذا يشبه قوله :﴿ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾١٠ [ البقرة : ٢٠ ] في البقرة و «لاَ يَهْدِّي »١١ في يُونُس وقرأ ابن مُحَيْصِن «يرجعون » مبنيٍّا للمفعول١٢.

فصل


قال عليه ( الصلاة و ) السلام :«لَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرجُلاَنِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلاَ يِبِيعانِهِ وَلاَ يَطْوِيَانِهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ الرَّجُلُ أَكْلَتَهُ إلَى فِيهِ١٣ فَلاَ يَطْعَمُها ».
١ قاله الخازن والبغوي في تفسيريهما ٦/١١..
٢ الرازي ٢٦/٨٦ و ٨٧..
٣ الرازي ٢٦/٨٦ و ٨٧..
٤ انظر: الإتحاف ٣٦٥ والسبعة ٥٤١ وإبراز المعاني ٦٥٩ وكشف مكي ٢/٢١٧ و ٢١٨ والنشر ٢/٣٥٤ وتقريب النشر ١٦٥ ونسبها الفراء في المعاني إلى يحيى بن وثاب ٢/٣٧٩. وانظر: حجة ابن خالويه ٢٩٨ وزاد المسير ٧/٢٥ والكشاف ٣/٣٢٥..
٥ المراجع السابقة وانظر في هذا كله البحر لأبي حيان ٧/٣٤٠ و ٣٤١ والدر المصون ٤/٥٢٢ وهي قراءات متواترة..
٦ ما بين القوسين زيادة من أ ففي ب كسر بدون واو. وانظر هذا في الدر ٤/٥٢٢ والإتحاف والمراجع السابقة..
٧ نقلها أبو حيان ٧/٣٤١ والسمين في الدر ٤/٥٢٢ والزمخشري في الكشاف ٣/٣٢٥..
٨ المراجع الثلاثة السابقة. وانظر أيضا معاني القرآن للفراء ٢/٣٧٩ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٩٠ وفصل الزجاج قراءة: "يخصمون" بفتح الخاء مع الياء قال: "والقراءة الجيدة يخصمون بفتح الخاء والأصل: يختصمون فطرحت فتحة التاء على الخاء وأدغمت في الصاد"..
٩ البحر ٧/٣٤١..
١٠ وكسر الطاء قراءة مجاهد. والفتح أعلى وأفصح كما قال الزمخشري انظر: الكشاف ١/٢١٩..
١١ وهي قراءة حمزة والكسائي وهي الآية ٣٥ من يونس وانظر: السبعة ٣٢٦ والإتحاف ٣٦٥..
١٢ السابق وانظر: البحر ٧/٣٤١ والدر ٤/٥٢٣..
١٣ من حديث طويل رواه البخاري في صحيحه ٤/٢٣١ وقد رواه أبو هريرة..
قوله :﴿ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ﴾ أي لا يقدرون على الإيصاء قال مقاتل : أي أعجلوا عن الوصية فماتوا «وَ لاَ إلَى أَهْلِهِمْ يرْجِعُونَ » يَنْقَلِبُونَ. أي أنَّ الساعة لا تُمْهِلْهُم لشيء١.
واعلم أن قول القائل : فلان في هذه الحالة لا يوصي دون قوله لا يستطيع التوصية لأن ما لا يوصي قد يستطيعها والتوصية بالقول، والقول يوجد أسرع مما يوجد الفعل فقال : لا يستطيعون كلمة، فكيف الذي يحتاج إلى زمن٢ طويل من أداء الواجبات ورد المظالم ؟ ! واعتبار الوصية من بين سائر الكلمات يدل على أنه لا قدرة له على أهم الكلمات فإن وقت الموت الحاجة إلى الوصية أمسّ. والتنكير في التوصية للتعميم أي لا يقدر على توصية ( ما )٣ ولو كانت بِكَلِمةٍ يسيرة، ولأن الوصية٤ قد تحصل بالإشارة، فالعاجز٥ عنها عاجز عن غيرها. وقوله :﴿ ولا إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾ بيان لشدة الحاجة إلى التوصية،
١ قال بهذه المعاني البغوي والخازن في تفسيريهما ٦/١١..
٢ كذا هنا وفي الرازي : إلى زمان وفي ب إلى "أمن" تحريف..
٣ سقط من ب..
٤ في ب التوصية وهو الموافق للرازي..
٥ في ب والعاجز بالواو..
ثم بين ما بعد الصيحة الأولى فقال :﴿ وَنُفِخَ فِي الصور ﴾ أي نفخ فيه أخرى كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ﴾ [ الزمر : ٦٨ ] وقرأ الأعرج ونفخ في الصور بفتح الواو١. وهي القبور واحدها جَدَث، وقرئ من الأجدافِ٢ بالفاء، وهو لغة في الأجداث يقال : جَدَث، وجَدَف كثمَّ وفُمَّ، وثُوم، وفُوم٣.
فإن قيل : أين٤ يكون ذلك الوقت أجداث وقد زلزت الصيحة الجبال ؟.
فالجواب : أن الله يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقْبِرَ فيه من ذلك الموضع وهو جدثه.
قوله :﴿ إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴾ أي يخرجون من القبور أحياء. وقرأ ابنُ أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية : يَنْسُلُونَ٥ بضم السين، يقال : نَسَلَ الثعلبُ يَنْسِلُ وَينْسُلُ إذا أسرع في عَدْوِهِ، ومنه قيل للولد : نَسَل لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه٦.
فإن قيل : المسيء٧ إذا توجه إلى من أحسن إليه يقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى والنَّسلاَن سرعة الشيء فكيف يوجد بينهم ذلك ؟
فالجواب : ينسلون من غير اختيارهم والمعنى أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث ينفخ في الصور فيكون في وقته جمع وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد، فقوله :«إذَا هُمْ يَنْسِلُونَ » أي في زمان واحد ينتهون إلى هذه الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب.
فإن قيل : قال في آية ﴿ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ﴾ [ الزمر : ٦٨ ] وقال ههنا :﴿ فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴾ والقيام غير النسلان فقوله في الموضعين :«إذا هم » يقتضي أن يكونا معاً.
فالجواب من وجهين :
الأول : أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر.
الثاني : أن لسرعة٨ الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل :
٤١٨٣- مِكَرِّ مِفَرِّ مُقْبِل مُدْبِرٍ مَعاً. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ٩
واعلم أن النفختين تورثان تزلزلاً وانقلاباً للأجرام فعند اجتماع١٠ الأجرامِ يُفَرِّقها. وهو المراد بالنفخة الأولى وعند تفرق الأجرام يجمعها وهو النفخة الثانية.
١ ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢/٢١٢ وهي من الشواذ وانظر كذلك الزمخشري في كشافه ٣/٣٢٥. وقد أنكر الزجاج هذه إن قرئت فلم يعترف بأن قارئا قرأها بالفعل فقال: "وما قرأ أحد أحسن صوركم ولا قرأ أحد ونفخ في الصور من وجه يثبت" ٤/٢٩٠..
٢ ذكرها الزمخشري في الكشاف ٣/٣٢٥ وأبو حيان في البحر ٧/٣٤١..
٣ انظر: الإبدال لابن السكيت ١٢٥: ١٢٧ وأمالي القالي ٢/٣٤..
٤ الرازي ٢٦/٨٨..
٥ لم أجدها عنه في المتواتر انظر: مختصر ابن خالويه ١٢٥ والكشاف ٣/٣٢٦..
٦ انظر: اللسان: "٤٤١٣" والمصدر النسلان..
٧ الرازي ٢٦/٨٧ و ٨٨..
٨ في ب سرعة والرازي موافق ل "أ"..
٩ صدر بيت من الطويل عجزه:.................................... كجلمود صخر حطه السيل من عل
وهو يصف فرسه النشيط بصفات كثيرة الكرور والفرار والإقبال والإدبار. وهذه مبالغة في سرعته الخارقة وعدم بلادته. ومحل الشاهد: أن لسرعة هذا الحصان كأنه يفعل هذه الأشياء في زمن ومكان واحد. وانظر: شذور الذهب ١٤٧، والمحتسب ٢/٣٤٢ وابن يعيش ٤/٨٩ والتصريح ٢/٥٤ والهمع ١/٢١٠ وحاشية الدمنهوري ٨١ والفخر الرازي ٢٦/٨٨ والكتاب ٤/٢٢٨، والمغني ١٥٤..

١٠ في ب إجماع..
قوله :﴿ ياويلنا ﴾ العامة على الإضافة إلى ضمير المتكلمين دون تأنيث وهو «ويل » مضاف لما بعده. ونقل أبو البقاء أن «وَيْ » كلمة برأسها عن الكوفيين و «لنا » جار ومجرور١ انتهى. قال شهاب الدين : ولا معنى لهذا إلا بتأويل بعيد وهو أن يكون يا عَجَب لنا، لأن «وَيْ » تفسير بمعنى أعجب منا٢. وابنُ أَبِي لَيْلَى يا ويلتنا بتاء التأنيث وعنه أيضاً يَا وَيْلَتِي بإبدال التاء ألفاً٣. وتأويل هذه أن كل واحد منهم يقول يا ويلتي٤.
قوله :﴿ مَنْ بَعَثَنَا ﴾ العامة على فتح ميم «من » و «بعثنا » فعلاً ماضياً خبراً «لمنْ » الاستفهامية قبله، وابن عباس والضحاك وأبو نُهَيْك بكسر الميم على أنها حرف٥ جر، و «بعثنا » مصدر مجرور «بمن » ف «من » الأولى تتعلق٦ بالويل والثانية تتعلق٧ بالبعث. والمَرْقَدُ يجوز أن يكون مصدراً٨ أي من رُقَادِنَا وأن يكون٩ مكاناً وهو مفرد أقيم مُقَام الجمع والأول١٠ أحسن ؛ إذ المصدر يفرد مطلقاً١١.

فصل


قال ابن عباس وأبيّ بن كعب وقتادة : إنما يقولون هذا لأن الله يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة، دعوا بالويل. وقال ( أهل )١٢ المعاني : الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم فقالوا : مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا١٣.
فإن قيل : لو قيل : فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون يقولون يا ويلنا كان أليق قال ابن الخطيب : نقول : معاذ الله وذلك لأن قوله إذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون إشارة إلى أنه تعالى بأسرع زمان يجمع أجزاءهم ويؤلفها ويحييها ويحركها بحيث يقع نسلانهم في وقت النفخ مع أن ذلك لا بدّ له من الجمع والتأليف فلو قال يقولون لكان ذلك مثل الحال لينسلون أي ينسلون قائلين يا ويلنا وليس كذلك فإن قولهم : يا ويلنا قبل أن ينسلوا وإنما ذكر النسلان لما ذكرنا من الفائدة١٤.
فإن قيل : ما وجه تعلق «مَنْ بعَثنَا مِنْ مَرْقَدِنَا » بقولهم «يَا وَيْلَنَا » ؟
فالجواب : لما بعثوا تذكروا١٥ ما كانوا يسمعون من الرسل فقالوا : يَاوَيْلَنَا أبَعَث الله البَعْثَ الموعود به أم كنا نِيَاماً هنا كما إذا كان إنسان موعوداً بأن يأتيه عدو لايطيقه ثم يَرَى رَجُلاً هائلاً يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول أهذا ذاك أم لا ؟.
ويدل على هذا قولهم :﴿ مِنْ مَرْقَدِنَا ﴾ حيث جعلوا القبور موضع الرُّقَاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نيَاماً فنبهوا أو كانوا موتى فبعثوا وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين وقالوا من بعثنا إشارة إلى ظنهم أنه بعثهم الموعود به وقالوا من مرقدنا إشارة إلى توهمهم احتمال الانْتِبَاه١٦.
قوله :﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن ﴾ في «هذا » وجهان :
أظهرهما : أنه مبتدأ وما بعده خبره١٧. ويكون الوقف تامًّا على قوله :﴿ مِن مَّرْقَدِنَا ﴾ وهذه الجملة حينئذ فيها وجهان :
أحدهما : أنها مستأنفة إما من قول الله تعالى، أو من قول الملائكة، أو من قول المؤمنين للكفار١٨.
الثاني : أنها من كلام الكفار فيكون في محلّ نصب بالقَول١٩.
والثاني من الوجهين الأولين :( أن )٢٠ «هذا » صفة «لمرقدنا » و «مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ » منقطع عما قبله٢١، ثم في «ما » وجهان :
أحدهما : أنها في محل رفع بالابتداء والخبر مقدر أي الذي وعده الرحمن وصدق فيه المرسلون حق عليكم٢٢. وإليه ذهب الزجاج والزمخشري٢٣.
والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هذا وعد٢٤ الرحمن، وقد تقدم في أول الكهف أن حَفْصاً يقف على «مرقدنا » وقفةً لطيفة دون قطع نفس لئلا يتوهم أن اسم الإشارة تابع ل «مَرْقَدِنَا ». وهذان الوَجْهَانِ يقويان ذلك المعنى المذكور الذي تعمد الوقف لأجله٢٥، و «ما » يصحّ أن تكون موصولة اسمية أو حرفية كما تقدم٢٦. ومفعولاً الوعد والصدق محذوفان أي وَعَدَنَاهُ الرَّحْمَنُ وصَدَقَنَاهُ المرسلون٢٧، والأصل «صدقنا فيه » ويجوز حذف الخافض وقد تقدم ذلك نحو : صَدَقَنِي سنَّ بكْرِ ( هِ )٢٨ أي في سنه٢٩.
١ التبيان له ١٠٨٤..
٢ الدر المصون ٤/٥٢٣..
٣ المحتسب ٢/٢١٣ ومختصر ابن خالويه ١٢٥ والكشاف ٣/٣٢٦ الأولى فقط وانظر البحر ٧/٣٤١ والسمين ٤/٥٢٣..
٤ المرجع الأخير السابق..
٥ انظر: مختصر ابن خالويه ١٢٥ ونسبها إلى علي أيضا. وانظر: الكشاف ٣/٣٢٦ والبحر ٧/٣٤١ وهي من الشواذ..
٦ في ب "متعلق"..
٧ في ب "متعلق" أيضا..
٨ أي مصدرا ميميا كملعب، ومذبح مما ماضيه بفتح العين ومضارعه أيضا..
٩ أس اسم مكان على مفعل كالعلة السابقة للمصدر..
١٠ أي المصدر..
١١ بالمعنى من البحر ٧/٣٤١ وباللفظ من الدر المصون ٤/٥٢٤..
١٢ سقطت من أ الأصل فالتصحيح من ب والمرجعين الآتيين..
١٣ قال بذلك الإمامان الخازن والبغوي في تفسيريهما : لباب التأويل ومعالم التنزيل ٦/١١..
١٤ قاله في التفسير الكبير الإمام الفخر الرازي ٢٦/٨٨..
١٥ في ب فذكروا وفي الرازي كما هنا أعلى..
١٦ انظر: تفسير الإمام الرازي ٢٦/٨٩..
١٧ في ب خبر بدون هاء الضمير. وانظر: التبيان ١٠٨٤، والبيان ٢/٢٩٨، ومعاني الزجاج ٤/٢٩١ ومعاني الفراء ٢/٣٨٠ ومشكل إعراب القرآن ٢/٢٣٠ والدر المصون ٤/٥٢٤ والكشاف ٣/٣٢٦ وإعراب النحاس ٣/٤٠٠ والقرطبي ١٥/٤٢..
١٨ نقله مكي في المشكل ٢/٢٣٠ والسمين في الدر ٤/٥٢٤..
١٩ وهو قالوا من :"قالوا يا ويلنا"..
٢٠ زيادة للسياق وتنسيقه..
٢١ المراجع السابقة..
٢٢ ذهب أبو البقاء إليه في التبيان ١٠٨٤ أيضا ومكي في المشكل ٢/٢٣٠..
٢٣ الكشاف ٣/٣٢٦ ومعاني القرآن وإعرابه ٤/٢٩١..
٢٤ ذهب إليه مكي في المشكل ٢/٢٣٠ والفراء في المعاني ٢/٣٨٠ وابن الأنباري في البيان ٢/٢٩٨ والتبيان ١٠٨٣ و ١٠٨٤ وذكره أيضا الزجاج في المعاني ٤/٢٩١ والكشاف ٣/٣٢٦ والقرطبي ١٥/٤٢..
٢٥ المؤلف في الكهف كان يتحدث عن قوله: ﴿ولم يجعل له عوجا قيما﴾ وأشار إلى السكتة اللطيفة على ألف "عوجا" فذكر هناك "مرقدنا" فالشيء بالشيء ذكر. وانظر : اللباب ٣/٤٩٧ ب والإتحاف ٢٨٧..
٢٦ المراجع السابقة..
٢٧ الدر المصون ٤/٥٢٤ و ٥٢٥..
٢٨ سقطت من ب..
٢٩ المختار أن الجار لا يحذف ويبقى عمله اختيارا وإن وقع فضرورة كقوله... أشارت كليب بالأكف الأصابع إلا مع "كم، أو "رب" بعد الفاء والواو العاطفة كثيرا. وقيل خلاف ذلك. انظر: الهمع ٢/٣٧ و ٣٦..
قوله :﴿ إن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ تقدمت قراءتا :﴿ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ [ يس : ٥٣ ] نصباً ورفعاً أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة، ويدل على النفخة قوله :﴿ وَنُفِخَ فِي الصور ﴾. ويحتمل أن يقال : إنها كانت الواقعة وقرئت الصيحة مرفوعة على أن «كان » هي التامة١ بمعنى «ما وقعتْ إلاَّ صَيْحَةٌ » قال الزمخشري : لو كان كذلك لكان الأحسن أن يقال : إن كان ؛ لأن المعنى حينئذ ما وقع شيء إلى صيحة لكن التأنيث جائز إحالته على الظاهر٢. ويمكن أن يقول٣ الذي قرأ بالرفع٤ إن قوله :﴿ إِذَا وَقَعَتِ الواقعة ﴾ [ الواقعة : ١ ] تأنيث تهويل ومبالغة بدليل قوله تعالى :﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [ الواقعة : ٢ ] فإنها للمبالغة فكذلك ههنا قال :«إنْ كانت إلا موتتنا الأولى » تأنيث تهويل، ولهذا جاءت أسماء يوم الحشر كلها مؤنثة كالقيامة والقارعة والحَاقَة والصَّاخَّة إلى غيرها٥.
والزمخشري يقول : كاذبة بمعنى ليس لوقعتها نفس كاذبة٦ وتأنيث أسماء الحشر لكون الحشر مسمى بالقيامة. وقوله «محضرون » دليل على أنّ كونهم ينسلون إجباريّ لا اختياريّ٧
١ وهي التي تكتفي بمرفوع على أنه فاعل أو نائبه كقوله عز وجل: ﴿وإن كان ذو عسرة﴾. وهذا رأي الإمام في أن "كان" هي التامة..
٢ الكشاف ٣/٣٢٠..
٣ هذا قول الرازي. انظر التفسير الكبير له ٢٦/٩٠..
٤ في ب نافع تحريف وخطأ..
٥ الرازي ٢٦/٩٠..
٦ قاله في الكشاف ٤/٥١..
٧ الرازي ٢٦/٩٠..
ثم بين ما يكون في ذلك اليوم فقال :﴿ فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ﴾ فاليوم منصوب «بلاَ تُظْلَمُ »١ و «شيئاً » إما مفعول ثانٍ وإما مصدر٢.
فقوله :﴿ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ ﴾ ليأمن المؤمن ( و ) ﴿ وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ليَيْأسَ المجرمُ والكافر٣.
فإن قيل : ما الفائدة في الخطاب عند الإشارة إلى يأس المجرم وترك الخطاب في الإشارة إلى أمان المؤمن ؟
فالجواب : أن قوله :﴿ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ﴾ يفيد العموم وهو كذلك فإنه لا يظلم أحداً وأما «لا تجزون » فيختص بالكافر لأن الله يجزي المؤمن وإن لم يفعل فإن لله فضلاً مختصاً بالمؤمن وعدلاً عاماً فيه. وفيه بشارة.
١ قاله أبو حيان في البحر ٧/٣٤١ والسمين في الدر ٤/٥٢٤ و ٥٢٥..
٢ المرجع الأخير السابق. ويقصد بالمفعول الثاني أنه "لظلم". والمفعول الأول هو نائب الفاعل وهو "نفس" والأصل: لا يظلم الله نفسا شيئا. ويقصد بالمصدر المصدر المقام مقامه لكلمة شيئا وهي صفته وهي إحدى النائبات عن المفعول المطلق كقولنا: "أحب الله كثيرا" أي حبا كثيرا..
٣ الرازي المرجع السابق..
ثم بيّن حال المحسن فقال: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾ فقوله: ﴿فِي شُغُلٍ﴾ يجوز أن يكون خبراً ل «إنّ» و «فَاكِهُونَ» خبر ثانٍ وأن يكون «فاكهون» هو
243
الخبر و «فِي شُغُلٍ» يتعلق به وأن يكون حالاً، وقرأ الكوفيون وابنُ عامر «شُغُل» بضمتين الباقون بضم سكون وما لغتان للحاجزيين قاله الفراء، ومجاهدٌ وأبو السَّمَّال بفتحتين ويزيد النحويّ وابنُ هُبَيْرَة بفتح وسكون وهما (لغتان) أيضاً والعامة على رفع «فاكهون» على ما تقدم والأعمشُ وطلحةُ «فاكهينَ» نصباً على الحال والجار الخبر. والعامة أيضاً وأبو حَيْوَة وأبو رجاء وشيبة وقتادة ومجاهد «فكهون» بغير ألف بمعنى طربون فرحون من الفُكَاهِةِ بالضم. وقيل: الفاكِهُ والفكه بمعنى المتلذذ والمتنعم لأن كلاًّ من الفاكهة والفكاهة مما يُتَلَذَّذُ بِهِ ويتنعم كحاذر وحذر وقرئ «فَكِهِينَ» بالقصر والياء على ما تقدم وفَكهُونَ بالقصر وضم الكاف، يقال: رجل فَكِه وفكُه كرجل ندِس وندُس وحَذِر وحذُر.

فصل


اختفوا في الشغل فقال ابن عباس: في افتضاض الأبكار، وقال وكيع بن الجراح: في السماع وقال الكلبي: في شغل عن أهل النار وما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم. وقال ابن كيسان في زيارة بعضهم بعضاً.
244
وقيل: في ضيافةِ الله فاكوهون. وقيل: في شغل عن هَوْلِ اليوم بأخذ ما آتاهم الله من الثواب فما عندهم خير من عذاب ولا حساب وقوله «فَاكِهُونَ» متمّمٌ لبيان سلامتهم فإنه لو قال: في شُغُل جاز أن هم في شغل أعظم من التذكر في اليوم وأهواله فإن من يصيبه فتنة عظيمة ثم يعرض عليه أمر من أموره أو يخبر بخُسْران وقع في ماله يقول أنا مشغول عن هذا بأهمَّ منه فقال: فاكهونَ أي شغلوا عنه باللّذة والسُّرُور لا بالوَيْلِ والثُّبُور. وقال ابن عباس: فاكهون فَرِحُونَ.
قوله: ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ﴾ يجوز في «هم» أن يكون تأكيداً للضمير المستكنِّ في: «فَاكِهُونَ» و «أَزْوَاجُهُمْ» عطف على المستكن، ويجوز أن يكون تأكيداً للضمير المستكنِّ في «شُغُل» إذا جعلناه خبراً و «أزواجهم» عطف عليه (مستكن ويجوز أن أيضاً) كذا ذكره أبو حيان وفيه نظر من حيثُ الفصلُ بين المؤكد والمؤكد بخير «أن»، ونظيره في قولك: «في الدار»، وعلى هذين الوجهين يكون قوله: «مُتَّكِئُونَ» خبراً آخر ل «إنّ» و «فِي ظِلاَلِ» متعلق به أو حال، و «عَلَى الأَرَائِكِ» متعلق به، ويجوز أن يكون «هم» مبتدأ ومتكئون خبره والجاران على ما تقدم وجوز أبو البقاء أن يكون «فِي ظِلاَلٍ» هو الخبر قال «وعلى الأرائك» مستأنف وهي عبارة موهمة غير الصواب ويرد بذلك أن «مُتَّكِئُونَ» خبر مبتدأ مضمر و «على الأرائك» متعلق به، فهذا وجه استئنافه لا أنه خبر مقدم و «متكئون» مبتدأ مؤخر إذا لا معنى له وقرأ عبد الله «مُتَّكِئِينَ» نصباً على الحال وقرأ الأخوان «في ظُلَلٍ» بضم الظاء والقصر وهو جمع ظُلَّة نحو غُرْفَةٍ وغُرَفٍ، وحُلَّةٍ وحُلَلِ.
وهي عبارة عن الفرش والستور والباقون
245
بكسر الظاء والألف جمع ظُلَّةٍ أيضاً كحلَّةٍ وحِلاَل وبُرْمة وَبِرام أو جمع «فِعْلَةٍ» بالكسر إذ يقال: ظُلَّةٌ وظِلَّةٌ بالضمر والكسر، كلُقْحَةٍ ولِقَاحِ إلاَّ أن فِعَالاً لا ينقاس فيها أو جمع «فِعْل» نحو: ذِئْب وذِئَاب ورِيح ورِيَاحٍ.

فصل


الأَرَائِكُ هي السرر في الحِجال واحدها أًريكة. قال ثعلب: لا تكون أريكة (جمع) حتى يكون عَلَيْها حجْلة. «متكئون» ذَوْ (و) اتّكَاء وهو إشارةإلى الفراغ. وقوله «هُمْ وأَزْوَاجُهُمْ» إشارة إلى عدم الوحشة ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ﴾ إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وقوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ﴾ إشارة إلى أن لا جوع هناك لأن التفكه لا يكون لدفع ألم الجوع.
قوله: ﴿وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ﴾ في «ما» هذه ثلاثة أوجه: موصولة اسمية (أو) نكرة موصوفة والعائد على هذين محذوف (أو) مصدرية و «يَدَّعُونَ» مضارع ادَّعى افْتَعَلَ من دَعَا يَدْعُو؛ وأُشْربَ التمني قال أبو عبيدة: العرب تقول: «ادَّع عليَّ ما شِئْتَ» أي تَمَنَّ، و «فُلاَنٌ في خَيْر مَا يَدَّعِي» أي ما يتمنى وقال الزجاج: هو من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم من: دَعوتُ غلاميَ. فيكون الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال لمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحل. وقيل: افتعل بمعنى تفاعل أي ما يتداعونه كقولهم: ارْتَمَوْا وَتَرَاموا، و «ما» مبتدأ وفي خبرها وجهان:
246
أظهرهما: أنه الجار قبلها.
والثاني: أنه «سَلاَم» أي مسلم خالص أو ذو سَلاَمةٍ.
قوله: «سَلاَمٌ» العامة على رفعه وفيه أوجه:
أحدها: ما تقدم من كونه خبر «مَا يَدَّعُونَ»
الثاني: أنه بدل منها قاله الزمخشري قال أبو حيان: وإذا كان بدلاً كان «مَا يَدَّعُونَ» خصوصاً والظاهر أنه عموم في كل ما يدعونه وإذا كان عموماً لم يكن بدلاً منه.
الثالث: أنه صفةٍ «لِمَا» وهذا إذا جعلتها نكرة موصوفة. أما إذا جعلتها بمعنى الذي أو مصدرية تعذر ذلك لتخلفهما تعريفاً وتنكيراً.
الرابع: أنه خبر مبتدأ مضمير أي هو سلام.
الخامس: أنه مبتدأ خبره الناصب لِ (قوله) «قَوْلاً» أي سَلامَ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلاً.
وقيل: تقديره سَلاَمٌ عليكم.
السادس: أنه مبتدأ وخبره «مِنْ ربّ» و «قَوْلاً» مصدر مؤكد لمضمون الجملة وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر وقرأ أبيّ وعبدُ الله وعيسى سَلاَماً بالنصب وفيه وجهان:
أحدهما: أنه حال، قال الزمخشري: أي لهم مرادهم خالصاً.
والثاني: أنه مصدر (أي) يُسَلمُونَ سَلاَماً إما من التحية وإما من السلامة.
247
و «قَوْلاً» إما مصدر مؤكد وإما منصوب على الاختصاص قال الزمخشري: وهو الأوجه و «منْ رَبِّ» إما صفة ل «قَوْلاً» وإما خبر «سلام» كما تقدم. وقرأ القُرَظِيُّ «سِلْمٌ» بالكسر السكون، وتقدم الفرق بينهما في البقرة.

فصل


إذا قيل: بأن سلام بدل مِنْ «مَا يَدَّعُونَ» فكأنه تعالى قال لهم ما يدعون نبَّه ببدله فقال: لهم سلام فيكون مبتدأ وخبره الجار والمجررو كا يقال: «فِي الدَّارِ رَجُلٌ ولِزَيْدٍ مَالٌ» وإن كان في النحو ليس كذلك بل هو بدل وبدل النكرة م المعرفة جائز، فتكون «ما» بمعنى الذي معرفة، وسلام نكرة. ويحتمل على هذا أن يقال: «ما» في قوله تعالى: ﴿مَّا يَدَّعُونَ﴾ لا موصوفة ولا موصولة بل هي نكرة تقديره لهم شَيْءٌ يَدَّعُونَ، ثم بين بذكر البدل فقال: «سَلاَم» والأول أصحّ. وإن قيل: سلام خبر «ما» و «لهم» لبيان الجهة فتقديره ما يدعون سلام لهم أي خالص لهم. والسَّلاَمُ بمعنى السالم والسليم، يقال: عَبْدٌ سَلاَم أي سليمٌ من العيوب كما يقال: لِزَيْدٍ الشَّرَفُ متوفر فالجَارّ والمجرور يكون لبيان من له ذلك، «والشرف» هو المبتدأ «ومتوفر» خبره، وإن قيل: «سلام» منقطع عما قبله وهو مبتدأ وخبره محذوف فتقديره: سَلاَمٌ عَلَيْهِمْ ويكون ذلك إخباراً من الله تعالى في يومنا هذا كأنه تعالى حكى لنا وقال: إنَّ أصحاب الجنة في شغل، ثُمَّ لمَّا بين كمال حالهم قال: سلام عليهم كقوله تعالى: ﴿سَلاَمٌ على نُوحٍ﴾ [الصافات: ٧٩] و ﴿وَسَلاَمٌ على المرسلين﴾ [الصافات: ٨١] فيكون الله تعالى أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين. أو يقال تقديره: سلام عليكم ويكون التفاتاً حيث قال لهم كذا وكذا، ثم قال: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٤]
248

فصل


إذا قيلَ: إنَّ «قَوْلاً» منصوب على المصدر فتقديره على قولنا إن المراد لهم سلام هو أن يقال لهم سَلاَم يَقُولُهُ اللَّهُ قَوْلاً. أو تقول الملائكة قَوْلاً، وعلى قولنا ما يدعون سلام لهم فتقديره قال الله ذلك قولاً ووعدهم أن لهم ما يدعون سلامٌ وعداً، وعلى قولنا: سلام عليهم فتقديره أقُولُهُ قَوْلاً، وقوله ﴿مِنْ رَبِّ رَحِيم﴾ يكون لبيان (أن) السلام منه أي سلام عليهم من رب رحيم أقوله قولاً، ويحتمل أن يقال على هذا بأنه تمييز؛ لأن السلام قد يكون قولاً وقد يكون فِعلاً فإن من يدخل على الملك يطأطئُ رأسه يقال: سلمت على الملك فهو حينئذ كقول القائل: موجودة حُكْماً لا حِسًّا.

فصل


روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «بَيْنَا أَهْلُ الجَنَّةِ في نَعِيمِهمْ إذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُؤوسَهُمْ فَإذَا الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوقهِمْ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَلاَ يَلْتَفِتُونَ إلى شَيْءٍ من النَّعِيم مَا دَامُوا يَنْظُرُون إليْهِ حَتَّى يَحْتَجب عَنْهُمْ فَيَبْقَى نُورُهُ وبَرَكَتَهُ عَلَيْهِمْ في دِيارهمْ» وقيل: تسلم عليهم الملائكة من ربهم كقوله: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤] أي يقولون سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم، وقيل: يعطيهم السلامة.
قوله: ﴿وامتازوا﴾ عى إضار قول مقابل لما قيل للمؤمنين أي ويقال للمجرمين امتازوا أي انعزلوا من مَازَهُ يَمِيزُهُ.
قال المفسرون: إن المجرم يرى منزلة المؤمن ورفعته (ويرى ذَلَة نفسه)
249
فيتحسر فيقال: امتازوا اليوم. وقيل: المعنى ادخلوا مساكنكم من النار، وقال أبو العالية تميزوا، وقال السدي: كونوا على حِدَة وقال الزجاج: انفردوا عن المؤمنين والمجرم هو الذي يأتي بالجريمة. وقيل إن قوله وامتازوا أمر تكوين فحين يقول فيميزون بسيماهم ويظهر على جباههم أو في وجوههم سواد كما قال تعالى: ﴿يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن: ٤١].
250
قوله :﴿ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ ﴾ يجوز في «هم » أن يكون تأكيداً للضمير المستكنِّ في :«فَاكِهُونَ » و «أَزْوَاجُهُمْ » عطف على المستكن، ويجوز أن يكون تأكيداً للضمير المستكنِّ في «شُغُل » إذا جعلناه خبراً و «أزواجهم » عطف عليه ( مستكن ويجوز أن أيضاً )١. كذا ذكره٢ أبو حيان٣. وفيه نظر من حيثُ الفصلُ بين المؤكد والمؤكد بخبر «أن »، ونظيره أن نقول :" إن زيدا في الدار قائم هو وعمرو " على أن يجعل " هو " تأكيدا للضمير في قولك :«في الدار »، وعلى هذين الوجهين يكون قوله :«مُتَّكِئُونَ » خبراً آخر ل «إنّ »٤ و «فِي ظِلاَلِ » متعلق٥ به أو حال٦، و «عَلَى الأَرَائِكِ » متعلق به٧، ويجوز أن يكون «هم » مبتدأ٨. ومتكئون خبره والجاران على ما تقدم٩، وجوز أبو البقاء أن يكون «فِي ظِلاَلٍ » هو الخبر١٠ قال «وعلى الأرائك » مستأنف١١. وهي عبارة موهمة غير الصواب ويريد بذلك أن «مُتَّكِئُونَ » خبر مبتدأ مضمر و «على الأرائك » متعلق به، فهذا وجه استئنافه لا أنه خبر مقدم و «متكئون » مبتدأ مؤخر إذ لا معنى له١٢. وقرأ عبد الله «مُتَّكِئِينَ » نصباً على الحال١٣. وقرأ الأخوان «في ظُلَلٍ » بضم الظاء١٤ والقصر. وهو جمع ظُلَّة نحو غُرْفَةٍ وغُرَفٍ، وحُلَّةٍ وحُلَلِ.
وهي عبارة عن الفرش والستور والباقون بكسر الظاء والألف جمع ظُلَّةٍ أيضاً كحلَّةٍ وحِلاَل وبُرْمة وَبِرام أو جمع «فِعْلَةٍ » بالكسر إذ يقال : ظُلَّةٌ وظِلَّةٌ بالضم والكسر، كلُقْحَةٍ ولِقَاحِ إلاَّ أن فِعَالاً لا ينقاس فيها١٥ أو جمع «فِعْل » نحو : ذِئْب وذِئَاب ورِيح ورِيَاحٍ١٦.

فصل


الأَرَائِكُ هي السرر في الحِجال واحدها أًريكة. قال ثعلب : لا تكون أريكة ( جمع )١٧ حتى يكون عَلَيْها حجْلة. «متكئون » ذَوْ ( و )١٨ اتّكَاء١٩. وهو إشارةإلى الفراغ. وقوله «هُمْ وأَزْوَاجُهُمْ » إشارة إلى عدم الوحشة ﴿ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ﴾ إشارة إلى دفع جميع حوائجهم.
١ زيادة من أ لا معنى لها..
٢ الزمخشري في الكشاف ٣/٣٢٧ قد ذكر هذين الوجهين البحر ٧/٣٤٢ والدر المصون ٤/٥٢٦..
٣ المرجعين السابقين والتبيان ١٠٨٥..
٤ البيان ٢/٢٩٩ والتبيان ١٠٨٥ والسمين ٤/٥٢٦..
٥ قال بذلك ابن الأنباري ٢/٢٩٩ في بيانه..
٦ السمين والتبيان السابقان والبحر ٧/٣٤٢..
٧ السمين ٤/٥٢٦..
٨ الكشاف ٣/٣٢٧ والنحاس ٤/٤٠١ والبيان ٢/٢٩٩..
٩ من تعلق "في ظلال" بالخبر "متكئون" ومن تعلق على الأرائك ب "في الظلال"..
١٠ خبر "هم". انظر: التبيان ١٠٨٥..
١١ السابق..
١٢ انظر: الدر المصون لشهاب الدين السمين ٤/٥٢٦..
١٣ من الشواذ والتي لم ترو في المتواتر. انظر: ابن خالويه ١٢٧ والكشاف ٣/٣٢٧ ومعاني الفراء ٢/٣٨٠..
١٤ المرجع السابق وانظر: الإتحاف ٣٦٦ والسبعة ٥٤٢ والنشر ٢/٣٥٥ وحجة ابن خالويه ٢٩٩ وإبراز المعاني ٦٦٠ وهي من القراءات المتواترة..
١٥ أي في فعلة..
١٦ انظر: البحر المحيط ٧/٣٤٢ والكشف لمكي ٢/٢١٩، والدر المصون ٤/٥٢٧ وحجة ابن خالويه في أول النهار إلى وقت الزوال"..
١٧ سقط من نسخة ب..
١٨ بالإفراد في ب..
١٩ وانظر: اللسان "أرك" ومعالم التنزيل للبغوي والفخر الرازي. اللسن ٦٥، والبغوي ٧/١٢ والرازي ٢٦/٩٣..
وقوله :﴿ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ ﴾ إشارة إلى أن لا جوع هناك لأن التفكه لا يكون لدفع ألم الجوع١.
قوله :﴿ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ﴾ في «ما » هذه ثلاثة أوجه : موصولة اسمية ( أو ) نكرة موصوفة والعائد على هذين محذوف ( أو ) مصدرية٢. و «ويَدَّعُونَ » مضارع ادَّعى افْتَعَلَ من دَعَا يَدْعُو ؛ وأُشْربَ٣ التمني٤. قال أبو عبيدة : العرب تقول :«ادَّع عليَّ ما شِئْتَ » أي تَمَنَّ، و «فُلاَنٌ في خَيْر مَا يَدَّعِي » أي ما يتمنى٥، وقال الزجاج : هو من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم٦، من : دَعوتُ غلاميَ. فيكون٧ الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحل. وقيل : افتعل بمعنى تفاعل أي ما يتداعونه كقولهم : ارْتَمَوْا٨ وَتَرَاموا، و «ما » مبتدأ٩ وفي خبرها وجهان :
أظهرهما : أنه الجار قبلها١٠.
والثاني : أنه «سَلاَم »١ أي مسلم٢ خالص أو ذو سَلاَمةٍ.
١ السابق أخيرا..
٢ السمين في الدر ٤/٥٢٧ والتبيان ١٠٨٥ والبيان ٢/٣٠٠ والمشكل ٢/٢٣٠ وما بين الأقواس زيادات للسياق..
٣ في ب وأثرت لحن ظاهر..
٤ انظر: اللسان دعا ١٣٨٧..
٥ انظر: مجاز القرآن ٢/١٦٤..
٦ معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٩٢ ووافقه الزمخشري في الكشاف ٣/٣٢٧..
٧ قاله الرازي ٢٦/٩٣..
٨ هذا قول الزمخشري في كشافه ٣/٣٢٧..
٩ المشكل ٢/٢٣٠ والتبيان ١٠٨٥ والبيان ٢/٣٠٠..
١٠ المراجع السابقة..
قوله :«سَلاَمٌ » العامة على رفعه وفيه أوجه :
أحدها : ما تقدم من كونه خبر «مَا يَدَّعُونَ »٣
الثاني : أنه بدل منها. قاله الزمخشري٤. قال أبو حيان : وإذا كان بدلاً كان «مَا يَدَّعُونَ » خصوصاً والظاهر أنه عموم في كل ما يدعونه وإذا كان عموماً لم يكن بدلاً منه٥.
الثالث : أنه صفةٍ٦ «لِمَا » وهذا إذا جعلتها نكرة موصوفة. أما إذا جعلتها بمعنى الذي أو مصدرية تعذر ذلك لتخالفهما تعريفاً٧ وتنكيراً.
الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هو سلام٨.
الخامس : أنه مبتدأ خبره الناصب لِ ( قوله ) «قَوْلاً » أي سَلامَ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلاً.
وقيل : تقديره سَلاَمٌ عليكم٩.
السادس : أنه مبتدأ وخبره «مِنْ ربّ ». و «قَوْلاً » مصدر مؤكد لمضمون الجملة وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر١٠، وقرأ أبيّ وعبدُ الله وعيسى سَلاَماً بالنصب١١. وفيه وجهان :
أحدهما : أنه حال١٢، قال الزمخشري : أي لهم مرادهم١٣ خالصاً.
والثاني : أنه مصدر١٤ ( أي ) يُسَلمُونَ سَلاَماً إما من التحية وإما من السلامة.
و «قَوْلاً » إما مصدر مؤكد١٥، وإما منصوب على الاختصاص١٦. قال الزمخشري : وهو الأوجه١٧ و «منْ رَبِّ » إما صفة ل «قَوْلاً » وإما خبر «سلام » كما تقدم. وقرأ القُرَظِيُّ١٨ «سِلْمٌ » بالكسر والسكون، وتقدم الفرق بينهما في البقرة.

فصل


إذا قيل : بأن سلام بدل مِنْ «مَا يَدَّعُونَ » فكأنه تعالى قال لهم ما يدعون ونبَّه ببدله فقال : لهم سلام فيكون١٩ مبتدأ وخبره الجار والمجرور كما يقال :«فِي الدَّارِ رَجُلٌ ولِزَيْدٍ مَالٌ » وإن كان في النحو ليس كذلك بل هو بدل وبدل النكرة من المعرفة جائز٢٠، فتكون «ما » بمعنى الذي معرفة، وسلام نكرة. ويحتمل على هذا أن يقال :«ما » في قوله تعالى :﴿ مَّا يَدَّعُونَ ﴾ لا موصوفة ولا موصولة بل هي نكرة تقديره لهم شَيْءٌ يَدَّعُونَ، ثم بين بذكر البدل فقال :«سَلاَم ». والأول أصحّ. وإن قيل : سلام خبر «ما » و «لهم » لبيان الجهة فتقديره ما يدعون سلام لهم أي خالص لهم. والسَّلاَمُ بمعنى السالم والسليم، يقال : عَبْدٌ سَلاَم أي سليمٌ من العيوب كما يقال : لِزَيْدٍ الشَّرَفُ متوفر فالجَارّ والمجرور يكون لبيان من له ذلك، «والشرف » هو المبتدأ «ومتوفر » خبره، وإن قيل :«سلام » منقطع عما قبله وهو مبتدأ وخبره محذوف فتقديره : سَلاَمٌ عَلَيْهِمْ ويكون ذلك إخباراً من الله تعالى في يومنا هذا كأنه تعالى حكى لنا وقال : إنَّ أصحاب الجنة في شغل، ثُمَّ لمَّا بين كمال حالهم قال : سلام عليهم كقوله تعالى :﴿ سَلاَمٌ على نُوحٍ ﴾ [ الصافات : ٧٩ ] و ﴿ سَلاَمٌ على المرسلين ﴾ [ الصافات : ٨١ ] فيكون الله تعالى أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين. أو يقال تقديره : سلام عليكم ويكون التفاتاً حيث قال لهم كذا وكذا، ثم قال :﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ﴾٢١ [ الأنعام : ٥٤ ]

فصل


إذا قيلَ : إنَّ «قَوْلاً » منصوب على المصدر فتقديره على قولنا إن المراد لهم سلام هو أن يقال لهم سَلاَم يَقُولُهُ اللَّهُ قَوْلاً. أو تقول٢٢ الملائكة قَوْلاً، وعلى قولنا ما يدعون٢٣ سلام لهم فتقديره قال الله ذلك قولاً ووعدهم أن لهم ما يدعون سلامٌ وعداً، وعلى قولنا : سلام عليهم٢٤ فتقديره أقُولُهُ قَوْلاً، وقوله ﴿ مِنْ رَبِّ٢٥ رَحِيم ﴾ يكون لبيان ( أن )٢٦ السلام منه أي سلام عليهم من رب رحيم أقوله٢٧ قولاً، ويحتمل٢٨ أن يقال على هذا بأنه تمييز٢٩ ؛ لأن السلام قد يكون قولاً وقد يكون فِعلاً فإن من يدخل على الملك يطأطئُ رأسه يقال٣٠ : سلمت على الملك فهو حينئذ كقول القائل : موجود حُكْماً لا حِسًّا.

فصل


روى جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«بَيْنَا أَهْلُ الجَنَّةِ في نَعِيمِهمْ إذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُؤوسَهُمْ فَإذَا الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوقهِمْ فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ- :﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾ فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَلاَ يَلْتَفِتُونَ إلى شَيْءٍ من النَّعِيم مَا دَامُوا يَنْظُرُون إليْهِ حَتَّى يَحْتَجب عَنْهُمْ فَيَبْقَى نُورُهُ وبَرَكَتَهُ عَلَيْهِمْ في دِيارهمْ »٣١. وقيل : تسلم عليهم الملائكة من ربهم كقوله :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾ [ الرعد : ٢٣-٢٤ ] أي يقولون سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم، وقيل : يعطيهم السلامة٣٢.
٣ المراجع السابقة..
٤ الكشاف ٣/٣٢٧..
٥ البحر المحيط له ٧/٣٤٣..
٦ البيان ٢/٢٠١ والمشكل ٢/٢٣١ والتبيان ١٠٨٥ والإعراب ٤/٤٠٢ وانظر في وجه البدلية مع الكشاف المراجع السابقة ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٩٢. وانظر في هذا كله السمين ٤/٥٢٧..
٧ البحر المحيط ٧/٣٤٣ والسمين المرجع السابق..
٨ التبيان السابق ومعاني الفراء ٢/٣٨١ والسمين ٤/٥٢٧..
٩ قاله أبو حيان في البحر ٧/٣٤٣ والسمين في الدر ٤/٥٢٧ و ٥٢٨..
١٠ المرجع السابق..
١١ ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٧ وابن جني في المحتسب ٢/٢١٥ والكشاف ٣/٣٢٧ ومعاني الفراء ٢/٣٨٠ وهي من الشواذ..
١٢ الكشاف ٣/٣٢٧ ومشكل الإعراب ٢/٢٣٠ والتبيان ١٠٨٥..
١٣ الكشاف ٣/٣٢٧..
١٤ البيان ٢/٣٠١ وانظر المراجع السابقة..
١٥ التبيان والكشاف والإعراب للنحاس ٣/٤٠٢ والمشكل ٢/٢٣١..
١٦ وهو قول الزمخشري..
١٧ كشافه ٣/٣٢٧..
١٨ هو محمد بن كعب بن سليم أبو حمزة القرظي تابعي روى عن فضالة بن عبيد وغيره مات سنة ١٢٠ هـ. انظر: غاية النهاية ١٣٣/٢. وقد ذكر قراءته ابن جني في المحتسب ٢/٢١٤٧ وهي من الشواذ وذكر المؤلف هناك في البقرة الفرق بين السِّلم والسًّلم عند الآية ٢٠٨ ﴿ادخلوا في السلم كافة﴾ وبين هناك أن السلم -بالكسر- هو السلام وبالفتح الصلح أو أنهما بمعنى. اللباب ١/٤٢٠..
١٩ أي سلام وخبره الجار والمجرور ويكون في المعنى..
٢٠ هذا رأي الجمهور فقد قال السيوطي في الهمع: والجمهور لا تجب موافقة البدل لمتبوعه في التعريف والإظهار وضدهما فتبدل النكرة من المعرفة والمضمر من المظهر والمفرد من غيره وبالعكوس كقوله تعالى: ﴿إلى صراط مستقيم. صراط الله﴾. ﴿ولنسفعا بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة﴾..
٢١ وهذا كلام الإمام فخر الدين الرازي كله في تفسيره الكبير ٢٦/٩٤ من كون رفع "سلام" واتصاله بما قبله وانقطاعه ومن كون إعراب "ما" ونوعيتها وقد أوضحته قبل قليل بالتفصيل من كلام المؤلف نفسه وغيره مما اعتمد عليهم في آرائهم. والآيتان ﴿سلام على نوح﴾ ﴿وسلام على المرسلين﴾ من الصافات الأولى ٧٩، والثانية ١٨١..
٢٢ كذا في النسختين وفي الرازي : تقوله بالهاء. وهذا على اعتبار أن "سلام" مبتدأ مؤخر..
٢٣ وهذا على اعتبار أن "سلام" خبر ما..
٢٤ وهذا على اعتبار أن سلام مبتدأ وخبره الناصب لـ "قولا" كما أوضح هو وهذا رأي أبي حيان كما سبق..
٢٥ وهو الجار والمجرور..
٢٦ سقط ما بين القوسين من ب..
٢٧ في ب أقول بدون عائد أو ضمير. وكلاهما صحيحان..
٢٨ هذا رأي الإمام الفخر في تفسيره..
٢٩ في النسختين مميز والتصحيح من الرازي والعرف اللغوي والسياق..
٣٠ في ب قال. وفي الرازي يقول..
٣١ أخرجيه البغوي في تفسيره عن محمد بن المنكدر. انظره ٦/١٢..
٣٢ السابق..
قوله :﴿ وامتازوا ﴾ عى إضمار قول مقابل لما قيل للمؤمنين أي ويقال للمجرمين امتازوا أي انعزلوا من مَازَهُ يَمِيزُهُ١.
قال المفسرون : إن المجرم يرى منزلة المؤمن ورفعته ( ويرى ذَلَة نفسه )٢ فيتحسر فيقال : امتازوا اليوم. وقيل : المعنى ادخلوا مساكنكم من النار، وقال أبو العالية تميزوا، وقال السدي : كونوا على حِدَة٣. وقال الزجاج : انفردوا عن المؤمنين٤ والمجرم هو الذي يأتي بالجريمة. وقيل : إن قوله وامتازوا أمر تكوين فحين يقول فيميزون بسيماهم ويظهر على جباههم أو في وجوههم سواد كما قال تعالى :﴿ يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ ﴾ [ الرحمن : ٤١ ].
١ الدر المصون ٤/٥٢٩..
٢ سقط من ب..
٣ معالم التنزيل للبغوي ٦/١٢..
٤ قاله في معاني القرآن وإعرابه له ٤/٢٩٢..
قوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ العامة على فتح الهمزة على الأصل في حرف المضارعة، وطلحة والهُذَيْل بن شرحيبي الكوفي بكسرها وتقدم أن ذلك لغة في حروف المضارعة بشروط ذُكِرَتْ في الفاتحة، وقرأ ابن وثاب «أَحَّدْ» بحَاءٍ مشدَّدة قال الزمخشري: وهي لغة تميم ومنه: «دَحَّا مَحَّا» أي دَعْهَا مَعَهَا فقلبت الهاء حاء ثم العين حَاءً حين أريدَ الإدغام، والأحسن أن يقال: إن العين أبدلت حاء وهي لغة هذيل فلما أدغم قلب الثاني للأول وهو عكس باب الإدغام. وقد مضى تحقيقه آخر آل عمران، وقال ابن خالويه وابن وثاب والهذيل: «ألم اعْهَدْ» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء وروي عن ابن وثاب «أَعْهِدْ» بكسر الهاء
250
يقال: عَهِدَ وَعَهَدَ، انتهى يعني بكسر الميم والهمزة أن الأصل في هذه القراءة أن يكون كسر حرف المضارعة ثم نقل حركته إلى الميم فكسرت لا أن الكسر موجود في الميم وفي الهمزة لفظاً إذ يلزم من ذلك قطع همزة الوصل وتحريك الميم من غير سبب، وأما كسر الهاء فلما ذكر من أنه سمع في الماضي «عَهَدَ» فتحها قوله: «سوى الياء» - وكذا قال الزمخشري - هو المشهور، وقد نقل عن بَعْضِ كَلْبٍ أنهم يكسرون الياء فيقولون: يعْلَمُ وقال الزمخشري فيه: وقد جوز الزجاج أن يكون من باب: نَعِمَ يَنْعَمُ وضَرَبَ يَضْرِبُ يعني أن تخريجه على أحد وجهين إما بالشذوذ فيما اتّحد فيه فَعِلَ يَفْعِلُ بالكسر فيهما كَنِعَم يَنْعِمُ وحَسِبَ يَحْسبُ، ويَئِسَ يَيْئسُ. وهي ألفاظ معدودة في البقرة وإما (أنه) سمع في ماضيه الفتح كضرب كما حكاه ابن خالويه وحكى الزمخشري أنه قرئ «أَحْهَدْ» بإبدَال العين حاء. وقد تقدم أنها لغة هذيل. وهذه تقوي أن أصل أحد أحهد فأدغم كما تقدم. قوله: ﴿أَن لاَّ تَعْبُدُواْ﴾ و ﴿وَأَنِ اعبدوني﴾ يجوز في «أن» أن تكون مفسرة فسرت العهد بنهي وأمر وأن تكون مصدرية (أي) ألم أعْهَدْ إليكم في عدم عبادة الشيطان وفي عبادتي.
251

فصل


في معنى هذا العهد وجوه: أقواها ألم أوصِ إليكم، واختلفوا في هذا العهد فقيل: هو العهد الذي كان مع آدم في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ﴾ [طه: ١١٥] وقيل: هو الذي كان مع ذرية آدم حين أخرجهم وقال: ألَسْتُ بربِّكُمْ قَالُوا بَلَى، وقيل: مع كل قوم على لسان رسولهم. وهو الأظهر، وقوله ﴿لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان﴾ أي لا تطيعوا الشيطان والطاعة قد تطلق على العبادة ثم قال: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ أي ظاهر العداوة ووجه عادوته أنه لما أكرم الله آدم - عليه (الصلاة و) السلام - عاداه إبليس.
فإن قيل: إذا كان الشيطان عدواً للإنسان فما بال الإنسان يقبل على ما يرضيه من الزِّنا والشّرب ويكره ما يسخطُه من المجاهدة والعبادة؟
فالجواب: استعانة الشيطان بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله فيستعين بشهوته التي خلقها الله فيه لمصلاح بقائه وبقاء نوعه ويعلها سبباً لفساد حاله ويدعوه بها إلى مالك المهالك وكذلك يستعين بغضبه الذي خلقه الله فيه لدفع المفاسد عنه ويجعلها سبباً لوباله وفساد أحواله وميل الإنسان إلى المعاصي كميْل المريض إلى (المصادر)، وذلك حيث ينحرف المِزاج عن الاعتدال فترى المحموم يريد الماء البارد وهو يزيد من مرضه ومن معدته فاسدة لا يهضم القليل من الغذاء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد فساد معدته وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه.
قوله: ﴿وَأَنِ اعبدوني﴾ أطيعوني ووحِّدوني ﴿هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ ما منع من عبادة الشيطان بقوله ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً﴾ أي خَلْقاً كثيراً.
قوله: «جبلاًّ» قرأ نافع وعاصم بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وأبو عمرو وابن عامر بضمة وسكون والباقون بضمتين واللام مخففة في كِلْتَيْهِمَا وابنُ أبي
252
إسْحَاقَ والزّهريّ وابنُ هُرْمُز بضمتين وتشديد اللام والأعمش بكسرتين وتخفيف اللام والأشهب العُقَيْلي واليمانيّ وحماد بن سلمة بكسرة وسكون وهذه لغات في هذه اللفظة وتقدم معناها آخر الشعراء وقرئ جِبَلاً بكسر الجيم وفتح الباء جمع جِبْلَةٍ، كفِطَرٍ جمع فِطرَة وقرأ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب بالياء من أسفل (ثنتان) وهي واضحة.
قال ابن الخطيب: الجيم والباء لا تخلو عن معنى الاجتماع (و) الجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة وجبل الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب، وشاة لجباء إذا كانت مجتمعةَ اللبن الكثير، ولا يقال: البلجة نقض على ما ذكرتم فإنها تنبيئ عن التفرق فإن الأبلج خلاف المقرون لأنَّا نقول: هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات فإن البلجة بمعنى. والبَلَدُ سمي بَلَداً للاجتماع، لا لتفرق الجمع (العظيم)
حتى قيل: ن دون العشر آلاف لا يكون بلداً وإن لم يكن صحيحاً قوله: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُواْ﴾ قرأ العامة بالخطاب لبني آدم. وطلحةُ وعيسى بياء الغيبة والضمير للجبل، ومن حقهما أن يقرءا: التي كانوا يوعدون لولا أن يَعْتَذِرُوا بالالْتِفَاتِ.

فصل


في كيفية هذا الإضلال وجهان:
253
الأول: تولّية عن المقصد وخديعته فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة الله وبعبادة غيره فهو تولية فإن لم يقدر يحيد بأمر غير ذلك من رياسة وجاه وغيرهما وهو يفضي إلى التولية لأن مقصوده لو حصل لترك الله وأقبل على ذلك الغير فتحصل التولية. ثم قال: «أفلم تكونوا تعقلون» ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس. ويقال لهم لما دَنَوْا من النار: ﴿هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ بها في الدنيا «اصْلَوْهَا الْيَوْم» أي ادخلوها اليوم «بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحزنهم من ثلاثة أوجه:
أحدها: قوله تعالى: ﴿اصلوها اليوم﴾ أمر تنكيل وإهانة كقوله:
﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩].
الثاني: قوله: «اليوم» يعني العذاب حاضر ولذاتك قد مضت وبقي اليوم العذاب.
الثالث: قوله تعالى: ﴿بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ فَإن الكفر والكفاران ينبئ عن نعمة كانت فكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشدّ الآلام كما قيل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ لِذَي همَّة حَيَاء المُسِيءِ مِنَ الْمُحْسِنِ.
قوله: ﴿اليوم نَخْتِمُ﴾ اليوم ظرف لما بعده وفرئ يُخْتِمُ مبنياً للمفعول. والجار بعده قائم مَقَام فاعله وقرئ: «وَتتكَلَّم» بتاءين من فوق. وقرئ ولتَتَكَلَّمْ ولتشهدْ بلام الأمر. وقرأ طلحة ولِتُكَلِّمَنَا ولتَشْهَدَ بلام كي ناصبة للفعل ومتعلقها محذوف أي للتكلم وللشهادة خَتَمْنَا «وبِمَا كَانُوا» أي بالذي كانوا أو بكونهم كاسبين.
254

فصل


في الترتيب وجهان:
الأول: أنهم حين يسمعون قوله تعالى: ﴿بِمَا كُنْتُم تَكْفُرُونَ﴾ يريدون ينكرون كفرهم كا قال عنه: «مَا أَشْرَكْنَا» «وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ» فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار ويُنْطِقُ الله جوارحهم غير لسانهم فيعترفون بذنوبهم.
الثاني: لما أن قال الله تعالى لهم: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا تكلمت أعضاؤهم غير اللسان. وفي الختم على الأفواه وجوه أقواها: أن اللهتعالى يسكت ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهدون عليهم وأه في قدرة الله يسير (و) أما الإسكانُ فلا خفاء فيه وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة كما جاز تحرك غيره بمثلها والله قادر على كل الممكنات. والوجه الآخر: أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرُّؤُوس لا يجدون عُذْراً فيَعْتَذِرُونَ ولا مجال توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهرو الأمور بحيث لا يمع مع الإنكار كقول القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن والصحيح الأول لما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً قال: فيمختم على فيه، فيقلا لأركانه انطقي قال: فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعداً لكنَّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل وقال عليه (الصلاة و) السلام: «أول ما يسأل من أحدكم فخذه ولفه».
فإن قيل: ما الحكمة في إسناده الختم إلى نفسه وقال «نختم» وأسند الكلام والشهادة إلى الأرجل والأيدي؟
فالجواب: أنه لو قال: نختم على أفواههم وتنطق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبراً منه وقهراً والإقرار والإجبار غير مقبول فقال: تكلمنا أيديهم وتشده أرجلهم أي باختيارها يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
فإن قيل: ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي وجعل الشهادة للأرجل؟
255
فالجواب: لأن الأفعال تنسد إلى الأيدي قال تعالى: ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ [يس: ٣٥] أيما عملوه وقال ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ [البقرة: ١٩٥] أي لا تلقوا بأنفسكم، فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل نبيغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهم.
فإن قيل: إن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو غير مقبولة وإن كان عدلاً وغير الصدِّيقين من لكفار والفساق لا تقبل شهادتهم والأيدي والأرجل صدرت الذنوب (منها) فهي فاسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها.
فالجواب: أن الأيْدي والأرجلَ ليسوا من أهل التكليف ولا ينسب إلهيا عدالة ولا فسقٌ، إنما المنسوب من ذلك إلى العبد المكلف لا إلى أعضائه، ولا يقالك إن العين تزني إن الفَرْج يزني وأيضاً فإنا نقلو: في در شهادتها (قبول شهادتها) لأنها إن كَذَبَتْ في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور لا بدّ أن يكون مذنباً في الدينا وإن صَدَقَتْ في مثل ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا وهذا كن قال لِفَاسِق: «إن كذبت في نهار هذا اليوم فعَبْدي حُرٌّ» فقال الفاسق: كَذَبْتُ في نهار هذا اليوم عُتِقَ العَبْدُ؛ لأنه إن صدق في قوله كذبت في نهار ذلك اليوم فوجد االشرط أيضاً بخلاف ما لو قال في لايوم الثاني كذبت في نهار اليوم الذي علقت عتْق عبدك على كذا فيه.
قوله: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ﴾ أي أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شِقٌّ وهو معنى الطَّمْس، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠] يقول: إذا أعمينا قلوبهم لو شئنا أغمينا أبصارهم الظاهرة.
قوله: ﴿فاستبقوا﴾ عطف على «لَطَمَسْنَا» وهذا على سبيل الفَرْض والتقدير وقرأ عيسى فَاسْتَبِقُوا أمراً وهو على إضمار القول أي فيُقَالُ لَهُمْ اسْتَبقُوا والصِّراط ظرف مكان مختص عند الجمهور فلذلك تأولوا وصول الفعل إليه إما بأنه مفعول (به)
256
مجازاً جعله مستبقاً لا مُسْتَبَقاً إليه ويضمن استبقوا معنى بادروا وإما على حذف الجار أي إلى الصراط وقال الزمخشري: منصوب على الظرف وهو ماش على قول ابن الطرواوة فإن الصراطَ والطريق ونحوهما ليست عنده مختصة إلا أن سيبويه على أن قوله:
٤١٨٤ - لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
ضرورة لنصبه الطريق.
وقرأ أبو بكر مَكَانَاتِهِمْ جمعاً، وتقدم في الأنعام. والعامة على «مُضِيًّا» بضم الميم وهو مصدر على فُعُولٍ أصله مُضُويٌ فأدغم وكُسِرَ ما قبل الياء ليصبح نحو «لُقِيًّا» وقرأ أبو حيوة ورُويَتْ عن الكِسائيِّ مِضِيًّا (أي) بكسر الميم إتباعاً لحركة العين نحو ﴿عِتِيّاً﴾ و ﴿صِلِيّاً﴾ [مريم: ٦٩ - ٧٠] وقرئ بفتحها وهو من المصارد التي وردت على فعِيلٍ كالرِّسيم والزَّمِيلِ.
257

فصل


المعنى كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة فاستبقوا الصراط فتبادروا إلى الطريق «فَأَنَّى يُبْصِرُونَ» كيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم يعني لو نشاء لأضللناهم عن الهُدَى وتركناهم عُمْياً يترددون فكيف يبصرون الطريق حنيئذ؟ هذا قول الحسن، وقتادة، والسدي. وقال ابن عباس ومقاتل وعطاء وقتادة: معناه لو نشاء لَفَقَأنَا أعين ضلالتهم فأعميناهم من غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى بصرون ولم أفعل لك بهم «ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم» أي مكانهم أي لو نشاء جعلناهم قِرَدَةً وخنازيرَ في منازلهم لا أزواد لهم «فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلاَ يَرْجِعُونَ» إلى ما كانوا عليه وقيل: لا يقدرون على ذهاب ولا رُجُوع.
قوله: ﴿وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق﴾ قرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة من نَكَّسَهُ مبالغة والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانية وضم الكاف خفيفة من نَكَسَهُ. وهي محتملة للمبالغة وعدمها وقَدْ تقدم في الأنعام أن نافعاً وابْنَ ذكوان قرءا «تعقلون» زالباقون بالغَيْبَة.

فصل


معنى ننكسه نَرُدُّ إلى أرْذَلِ العمر شبْهَ الصَّبِيِّ في ألو الخلق، وقلي: ننكسه في الخلق أي ضعف جوارحه بعد قوتها ونقصانها بد زيادتها «أفلا يعقلون» فيعتبرون ويعلمون أن الذي قَدرَ على تَصْريف أحوال الإنسان يقدر على البعث بعد الموت.
258
قوله :﴿ وَأَنِ اعبدوني ﴾ أطيعوني ووحِّدوني ﴿ هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ لما منع من عبادة الشيطان
قوله ﴿ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً ﴾ أي خَلْقاً كثيراً١.
قوله :«جبلاًّ » قرأ نافع وعاصم بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وأبو عمرو وابن عامر بضمة وسكون٢ والباقون بضمتين واللام مخففة في كِلْتَيْهِمَا٣. وابنُ أبي إسْحَاقَ والزّهريّ وابنُ هُرْمُز بضمتين وتشديد اللام٤ والأعمش بكسرتين٥ وتخفيف اللام٦ والأشهب العُقَيْلي٧ واليمانيّ وحماد بن سلمة٨ بكسرة٩ وسكون وهذه لغات في هذه اللفظة وتقدم معناها آخر الشعراء١٠. وقرئ جِبَلاً بكسر الجيم وفتح الباء جمع جِبْلَةٍ، كفِطَرٍ جمع فِطرَة١١، وقرأ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب بالياء من أسفل ( ثنتان )١٢. وهي واضحة.
قال ابن الخطيب : الجيم١٣ والباء لا تخلو عن معنى الاجتماع ( و ) الجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة وجبل الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب، وشاة لجباء إذا كانت مجتمعةَ اللبن الكثير، ولا يقال : البلجة نقض على ما ذكرتم فإنها تنبئ عن التفرق فإن الأبلج خلاف المقرون لأنَّا نقول : هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات فإن البلجة بمعنى. والبَلَدُ سمي بَلَداً للاجتماع، لا لتفرق١٤ الجمع ( العظيم )١٥
حتى قيل : إن دون العشرة آلاف لا يكون بلداً وإن لم يكن صحيحاً. قوله :﴿ أَفَلَمْ تَكُونُواْ ﴾ قرأ العامة بالخطاب لبني آدم. وطلحةُ١٦ وعيسى١٧ بياء الغيبة١٨ والضمير للجبل، ومن حقهما أن يقرءا : التي كانوا يوعدون لولا أن يَعْتَذِرُوا بالالْتِفَاتِ١٩.

فصل


في كيفية هذا الإضلال وجهان :
الأول : تولّية عن المقصد وخديعته٢٠ فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة الله وبعبادة غيره فهو توليه فإن لم يقدر يحيد٢١ بأمر غير ذلك من رياسة وجاه وغيرهما وهو يفضي إلى التولية لأن مقصوده لو حصل لترك الله وأقبل على ذلك الغير فتحصل٢٢ التولية. ثم قال :«أفلم تكونوا تعقلون » ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس.
١ وانظر: الرازي ٢٦/٩٦..
٢ من القراءات السبعية المتواترة هي وما قبلها. انظر التشر لابن الجزري ٢/٣٥٥ وحجة ابن خالويه ٢٩٨ والسبعة ٥٤٢ والإتحاف ٣٦٦ وإبراز المعاني ٦٦٠ والدر المصون ٤/٥٣٠..
٣ إحدى القراءات السبع المتواترة أيضا. انظر: النشر ٢/٣٥٥ وحجة ابن خالويه ٢٩٨ والسبعة ٥٢٢ والإتحاف ٣٦٦ والسمين ٤/٥٣٠ وذكر القراءات الثلاثة الإمام ابن الجوزي في زاد المسير ٧/٣٠..
٤ من الأربع فوق العشرة وهي قراءة روح أيضا. انظر: المحتسب ٢/٢١٦ والإتحاف ٣٦٦ والكشاف ٣/٣٢٨..
٥ في أ وتحقيق بالقاف والحاء وهو غير المراد فالتصحيح من ب والكتب المعتمدة..
٦ من الشواذ غير المتواترة انظر: مختصر ابن خالويه ١٢٥ والكشاف ٣/٣٢٨ والسمين ٤/٥٣٠ والبحر ٧/٣٤٤..
٧ لم أقف عليه..
٨ ابن دينار أبو سلمة البصري الإمام الكبير روى القراءة عرضا عن عاصم وابن كثير روى عنه حرمي بن عمارة وحجاج بن المنهال مات سنة ١٦٧ هـ. انظر: الغاية ١/٢٥٨..
٩ مختصر ابن خالويه ١٢٥ والمحتسب ٢/٢١٦..
١٠ عند قوله: ﴿والجبلة الأولين﴾ الآية ١٨٤ وكلها لغات بمعنى الخلق. انظر: اللباب ٦/٣٥٠ ب وانظر: الكشاف ٣/٣٢٨ والرازي ٢٦/١٠٠..
١١ من الشواذ. المراجع السابقة..
١٢ كذا في النسختين. ولم أعرف قصده. وانظر البحر ٧/٣٤٤ وبقية المراجع السابقة..
١٣ الرازي ٢٦/١٠٠ وانظر: اللسان "ج ب ل" ٥٣٧، وبلد ٣٤٠..
١٤ في ب لتفريق..
١٥ سقط من ب..
١٦ إذا أطلق فهو ابن مصرف..
١٧ الثقفي كما هو معروف..
١٨ ذكرها أبو حيان في البحر ٧/٣٤٤ والسمين في الدر ٤/٣٥٠..
١٩ الأخير السابق..
٢٠ كذا في النسختين. وفي الرازي : وصد عنه..
٢١ كذا في النسختين. وفي الرازي: فإن لم يقدر يأمره بعبادة الله لأمر غير الله..
٢٢ قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٦/١٠٠..
ويقال لهم لما دَنَوْا من النار :﴿ هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ بها في الدنيا١
١ قاله البغوي في معالم التنزيل ٦/١٢..
«اصْلَوْهَا الْيَوْم » أي ادخلوها٢ اليوم «بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ». وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحزنهم من ثلاثة أوجه :
أحدها : قوله تعالى :﴿ اصلوها اليوم ﴾ أمر تنكيل وإهانة كقوله :
﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ﴾ [ الدخان : ٤٩ ].
الثاني : قوله :«اليوم » يعني العذاب حاضر ولذاتك قد مضت وبقي اليوم العذاب.
الثالث : قوله تعالى :﴿ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ فَإن الكفر والكفران ينبئ عن نعمة كانت فكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشدّ الآلام كما قيل : أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ لِذَي همَّة حَيَاء المُسِيءِ مِنَ الْمُحْسِنِ١.
١ الرازي ٢٦/١٠١ وفي الرازي لذي نعمة، وانظر هذه الحكمة من خلال هذا البيت الشعري في السراج المنير للخطيب الشربيني ٣/٣٥٩..
قوله :﴿ اليوم نَخْتِمُ ﴾ اليوم ظرف لما بعده. وقرئ يُخْتِمُ١ مبنياً للمفعول. والجار بعده قائم مَقَام فاعله. وقرئ :«وَتتكَلَّم »٢ بتاءين من فوق. وقرئ ولتَتَكَلَّمْ ولتشهدْ بلام الأمر. وقرأ٣ طلحة ولِتُكَلِّمَنَا ولتَشْهَدَ بلام كي ناصبة للفعل ومتعلقها محذوف أي للتكلم وللشهادة خَتَمْنَا٤. و «بِمَا كَانُوا » أي بالذي كانوا أو بكونهم كاسبين٥.

فصل


في الترتيب٦ وجهان :
الأول : أنهم حين يسمعون قوله تعالى :﴿ بِمَا كُنْتُم تَكْفُرُونَ ﴾ يريدون ينكرون كفرهم كما قال عنهم :«مَا أَشْرَكْنَا » «وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ » فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار ويُنْطِقُ الله جوارحهم غير لسانهم فيعترفون بذنوبهم.
الثاني : لما أن قال الله تعالى لهم :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ﴾ لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان. وفي الختم على الأفواه وجوه أقواها : أن الله تعالى يسكت ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهدون عليهم وأنه في قدرة الله يسير ( و )٧ أما الإسكانُ فلا خفاء فيه وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة كما جاز تحرك غيره بمثلها والله قادر على كل الممكنات. والوجه الآخر : أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي٨ الرُّؤُوس لا يجدون عُذْراً فيَعْتَذِرُونَ ولا مجال٩ توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهور الأمور بحيث لا يسمع معه الإنكار كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن والصحيح١٠ الأول لما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً قال : فيختم على فيه، فيقال لأركانه انطقي قال : فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعداً لكنَّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل١١ وقال عليه ( الصلاة و ) السلام :«أول ما يسأل من أحدكم فخذه ولفه »١٢.
فإن قيل : ما الحكمة في إسناده١٣ الختم إلى نفسه وقال «نختم » وأسند الكلام والشهادة إلى الأرجل والأيدي ؟
فالجواب : أنه لو قال : نختم على أفواههم وتنطق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبراً منه وقهراً والإقرار والإجبار غير مقبول فقال : تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم أي باختيارها يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
فإن قيل : ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي وجعل الشهادة للأرجل ؟
فالجواب : لأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى :﴿ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ يس : ٣٥ ] أي ما عملوه وقال ﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ] أي لا تلقوا بأنفسكم، فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل١٤ الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهم.
فإن قيل : إن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو غير مقبولة وإن كان عدلاً وغير الصدِّيقين من الكفار والفساق لا تقبل شهادتهم والأيدي والأرجل صدرت الذنوب ( منها )١٥ فهي فاسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها.
فالجواب : أن الأيْدي والأرجلَ ليسوا من أهل التكليف ولا ينسب إليها عدالة ولا فسقٌ١٦، إنما المنسوب من ذلك إلى العبد المكلف لا إلى أعضائه، ولا يقال : إن العين تزني وإن الفَرْج يزني. وأيضاً فإنا نقول : في رد شهادتها ( قبول١٧ شهادتها ) لأنها إن كَذَبَتْ في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور لا بدّ أن يكون مذنباً في الدينا وإن صَدَقَتْ في مثل ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا وهذا كمن قال لِفَاسِق :«إن كذبت في نهار هذا اليوم فعَبْدي حُرٌّ » فقال الفاسق : كَذَبْتُ في نهار هذا اليوم عُتِقَ العَبْدُ١٨ ؛ لأنه إن صدق في قوله كذبت في نهار ذلك اليوم فوجد االشرط١٩ أيضاً بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني كذبت في نهار اليوم الذي علقت عتْق عبدك على كذا فيه.
١ لم يذكر أبو حيان من قرأ بها وكذلك تلميذة شهاب الدين السمين انظر: البحر ٧/٣٤٤ والدر المصون ٤/٥٣٠ وانظر الكشاف ٣/٣٢٨..
٢ المراجع السابقة..
٣ المراجع السابقة البحر والسمين والدر والكشاف وانظر: شواذ القرآن ٢٠٤..
٤ البحر والدر المرجعان السابقان..
٥ الدر المصون ٤/٥٣١..
٦ التفسير الكبير للرازي ٢٦/١٠١..
٧ زيادة الواو من النسختين لا معنى لها..
٨ تصحيح من الرازي ومن السياق اللغوي ففي النسختين ناكسو..
٩ في ب محال بالحاء وما في أ يوافق الرازي..
١٠ السابق ٢٦/١٠١..
١١ أخرجه البغوي في تفسيره عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه..
١٢ أورده ابن كثير في تفسيره عن الرازي انظر: تفسيره ٣/٥٧٧..
١٣ انظر في كل هذا تفسير الرازي ٢٦/١٠١و ١٠٢..
١٤ في ب فتجعل الأرض والأرض لحن غير مراد..
١٥ سقط من ب..
١٦ في ب ضيق..
١٧ سقط من ب فقط..
١٨ كذا في الرازي و ب. و أ الأب..
١٩ الأصح كما في الرازي : فقد وجد الشرط ووجب الجزاء وإن كذب في قوله كذبت فقد كذب في نهار اليوم فوجد الشرط الخ....
قوله :﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ ﴾ أي أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شِقٌّ وهو معنى الطَّمْس١، كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ [ البقرة : ٢٠ ] يقول : إذا٢ أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة٣.
قوله :﴿ فاستبقوا ﴾ عطف على «لَطَمَسْنَا » وهذا على سبيل الفَرْض والتقدير٤. وقرأ عيسى فَاسْتَبِقُوا أمراً٥. وهو على إضمار القول أي فيُقَالُ لَهُمْ اسْتَبقُوا٦ والصِّراط ظرف مكان مختص عند الجمهور فلذلك تأولوا وصول الفعل إليه إما بأنه مفعول ( به )٧ مجازاً جعله مستبقاً لا مُسْتَبَقاً إليه ويضمن استبقوا معنى بادروا وإما على حذف الجار أي إلى الصراط٨. وقال الزمخشري : منصوب على الظرف٩، وهو ماش على قول ابن الطراوة١٠ فإن الصراطَ والطريق ونحوهما ليست عنده مختصة١١ إلا أن سيبويه على أن قوله :
٤١٨٤- لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ. . . فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ١٢
ضرورة لنصبه الطريق.
وقرأ أبو بكر مَكَانَاتِهِمْ١٣ جمعاً، وتقدم في١٤ الأنعام. والعامة على «مُضِيًّا » بضم الميم وهو مصدر على فُعُولٍ أصله مُضُويٌ١٥ فأدغم وكُسِرَ ما قبل الياء ليصبح نحو :«لُقِيًّا »١٦. وقرأ أبو حيوة ورُويَتْ عن الكِسائيِّ مِضِيًّا ( أي )١٧ بكسر الميم إتباعاً لحركة العين١٨ نحو ﴿ عِتِيّاً ﴾ و ﴿ صِلِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٩ - ٧٠ ] وقرئ بفتحها وهو من المصارد التي وردت على فعِيلٍ كالرِّسيم والزَّمِيلِ١٩.

فصل٢٠


المعنى كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة فاستبقوا الصراط فتبادروا إلى الطريق «فَأَنَّى يُبْصِرُونَ » كيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم يعني لو نشاء لأضللناهم عن الهُدَى وتركناهم عُمْياً يترددون فكيف يبصرون الطريق حنيئذ ؟ هذا قول الحسن، وقتادة، والسدي. وقال ابن عباس ومقاتل وعطاء وقتادة : معناه لو نشاء لَفَقَأنَا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم.
١ غريب القرآن ٣٦٧ واللسان طمس والقرطبي ١٥/٤٧..
٢ في البغوي كما..
٣ البغوي ٦/١٤..
٤ البحر المحيط ٧/٣٤٤ والدر المصون ٤/٥٣١..
٥ من الشواذ ذكرها البحر والدر المرجعان السابقان ومختصر ابن خالويه ١٢٦..
٦ البحر ٧/٣٤٤ والدر المصون ٤/٥٣١..
٧ سقط من ب..
٨ ذكر هذه الأقوال الكشاف ٣/٣٢٨ والبحر ٧/٣٤٤ والسمين في الدر المصون ٤/٥٣١ وذكر القول الأول النحاس في الإعراب ٤/٤٠٣..
٩ الكشاف ٣/٣٢٨..
١٠ أبو الحسن سليمان بن محمد سمع من الأعلم الكتاب كانت له آراء وانفرد بمسائل مخالفة عن العلماء انظر: نشأة النحو للمرحوم الشيخ الطنطاوي ١٩٦..
١١ نقلها عنه أبو حيان في البحر ٧/٣٤٤..
١٢ من تمام الكامل وهو لساعدة بن جؤية ويروى "لذ" بدل لدن واللدن اللين الناعم والعسلان: سير سريع في اضطراب وهو يشبه نفسه في السرعة والمهارة في استخدام الرمح بسير الثعلب والشاهد: "عسل الطريق" فإنه منصوب على نزع الخافض لا على الظرف عند سيبويه. قال سيبويه: "وقد قال بعضهم ذهبت الشام يشبهه بالمبهم. وهو شاذ لأنه ليس في مذهبه دليل على الشام". قال: "ومثل ذلك قول ساعدة" وأنشد البيت انظر: الكتاب ١/٣٥ و ٣٦ و ٢١٤ والهذليين ١/١٩٠، والكامل ١/٣٦٩، واللسان عسل والبحر ٧/٣٤٤ والخصائص ٣/٣١٩ والتصريح ١/٣١٢ والمغني ١١ و ٥٢٥ و ٥٧٦، والهمع ١/٢٠٠ و ٢/٨١ والأشموني ٢/٩١ و ٩٧ والشجري ١/٤٢ و ٢/٢٤٨ وشرح شواهد المغني للسيوطي ١٧ و ٨٨٥..
١٣ من المتواتر وهي رواية أبي بكر عن عاصم. انظر: إتحاف فضلاء البشر ٣٦٦ والسبعة ٥٤٢ والدر المصون ٤/٥٣٢ والكشاف ٣/٣٢٩. والمكانة والمكان بمعنى..
١٤ يقصد قوله: ﴿قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون﴾ الآية ٢٣٥ منها. فقرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم وكذلك قرأ الحسن جمعا. وقال هناك: إن الميم من "مكانة" إما أن تكون أصلية وإما أن تكون زائدة أصلية في مكن يمكن وزائدة من الكون. انظر: اللباب ٣/٢١٧..
١٥ فقد اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون الأصلي فقلبت الواو ياء ثم أدغمتا في بعضهما..
١٦ كانت لقوي..
١٧ زيادة لا معنى لها من أ..
١٨ أوردها أبو حيان في البحر ٧/٣٤٤ والسمين في الدر ٤/٥٣٢..
١٩ المرجعان السابقان فتكون "مضيا" فيها لغات وقراءات ثلاث مُضيا وَمضيا ومِضيا..
٢٠ انظر هذا الفصل في معالم التنزيل للبغوي ٦/١٤..
«ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم » أي مكانهم أي لو نشاء جعلناهم قِرَدَةً وخنازيرَ في منازلهم لا أزواج لهم «فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلاَ يَرْجِعُونَ » إلى ما كانوا عليه. وقيل : لا يقدرون على ذهاب ولا رُجُوع.
قوله :﴿ وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق ﴾ قرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة من نَكَّسَهُ مبالغة١، والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانية وضم الكاف٢، خفيفة من نَكَسَهُ. وهي محتملة للمبالغة وعدمها. وقَدْ تقدم في الأنعام أن نافعاً وابْنَ ذكوان قرءا «تعقلون » والباقون بالغَيْبَة٣.

فصل٤


معنى ننكسه نَرُدُّه إلى أرْذَلِ العمر شبْهَ الصَّبِيِّ في أول الخلق، وقيل : ننكسه في الخلق أي ضعف جوارحه بعد قوتها ونقصانها بعد زيادتها «أفلا يعقلون » فيعتبرون٥، ويعلمون أن الذي قَدرَ على تَصْريف أحوال الإنسان يقدر على البعث بعد الموت.
١ من القراءات المتواترة السبعية انظر: النشر ٢/٣٥٥ وتقريبه ٨٦٥ وحجة ابن خالويه ٣٩٩ والسبعة ٥٤٣ ومعاني الفراء ٢/٣٨١ والسمين ٤/٥٣٢. والمبالغة تجيء من التضعيف فقد قالوا: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى..
٢ انظر ما سبق من مراجع..
٣ من الآية ٣٢ من الأنعام: ﴿وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون﴾..
٤ معالم التنزيل للبغوي ٦/١٤ و ١٥..
٥ في ب أفلا تعقلون فتعتبرون وتعلمون بالتاء..
قوله: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾ قال الكلبي: إن كفار مكة قالوا: إن محمداً شاعر، وما يقوله شِعر فأنزل الله تكذيباً لهم وما علمناه الشعر وما ينبغي له أي ما يتسهل له ذلك وما كان يتّزن له بيتُ شِعْرٍ حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه
258
منكسراً. روى الحسن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يتمثل بهذا البيت:
كَفَى بالإسْلاَمِ وَالشَّيْبُ لِلْمَرْسِ نَاهِياً... فقال أبو بكر: يا نبي الله إنما قال الشاعر: كَفَى الشَّيْبُ وَالإسْلاَمُ للْمَرْءِ ناهياً. فقال عمر: اشهد أنك رسول بقول الله - عزّ وجلّ -: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾ وعن أبي شريح قال: قلت لعائشةَ: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتمثل من الشعر قالت: كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت: وربما قال:
٤١٨٥ - وَيَأتِيْكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَود... وفي رواية (قالت) : كان الشعر أبغضَ الحديث إليه، قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر إلى ببيت أخي بني قيس طرفة:
٤١٨٦ - سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً وَيَأِيكَ بالأَخْبَار مِنْ لَمْ تُزَوّدِ
فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار. فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فقال: إني لست بشاعر ولا ينبغي لي وقيل: معناه ما كان يتأتى له قال ابن الخطيب وفيه وجه أحسن من ذلك وهو أن يحمل ما ينبغي له على مفهومه الظاهر وهو أن الشعر ما كان يليق به ولا يصلح له لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن والشارع يكون اللفظ منه تبعاً للمعنى والشاعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن والشارع يكون اللفظ منه تبعاً للمعنى والشاعر يكون المعنى منه تبعاً للفظ لأنه يقصد لفظاً به يصح وزن الشعر (أ) وقافيته فيحتاج إلى التخيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ. وعلى هذا فنقول: الشعر هُو الكلام الموزون الذي قصد إلى وزنه قصداً أولياً وأما من يقصد المعنى فيصدر موزوناً لا يكون شاعراً ألا ترى أن قوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٢] ليس بشعر والشاعر إذا صدر منه هذا الكلام فيه متحركات وساكنات بعدد ما في الآية تقطعيه بفعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن يكون شعراً لأنه قصد الإتيان بألفاظٍ حروفها متحركة وساكنة كذلك. والمعنى تبعه والحكيم قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ وعلى هذا يحصل
259
الجواب عن قول من يقول: إنَّ ذكر بيتَ شعرٍ وهو قوله:
٤١٨٧ - أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِب أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِب
أو بيتين لأنا نقول: ذلك ليس بشعر لعدم قصده إلى الوزن والقافية وعلى هذا لو صدر من النبي - عليه (الصلاة و) السلام - كلام كثيرٌ موزونٌ مُقَفًّى لا يكون شعراً لعدم قصده اللفظ قصداً أوليّاً، ويؤيد ما ذكرنا أنك إذا تتبعت كلام الناس في الأسواق تجد فيه ما يكون موزوناً واقعاً في بحر من بحور الشعر ولا يسمى المتكلم به شاعراً ولا الكلام شعراً لفقد القصد إلى اللفظ أولاً.

فصل


وجه الترتيب ما تقدم من أنه تعالى في كل موضع ذكر أصلين من الأصول الثلاثة وهي الوحدانية والرسالة والحشر ذكر الأصل الثالث منها وههنا ذكر أصلين الوحدانية والحشر. أما الوحدانية ففي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان﴾ [يس: ٦٠] وفي قوله: ﴿وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [يس: ٦١] وأما الحشر ففي قوله تعالى: ﴿اصلوها اليوم﴾ [يس: ٦٤] وبقوله: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ (عَلَى أَفْوَاهِهِمْ) » إلى غير ذلك فلما ذكرهما وبينهما ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة فقال: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾.
فقوله: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر﴾ إشارة إلى أنه معلم من عند الله فعلمه ما أراد ولم يُعَلِّمْه ما لم يُرِدْ.
فإن قيل: لم خص الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا نيسبون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أشياء من جملتها السحر، والكهانة ولم يقل: وما علمناه السِّحْرَ وما علمناه الكَهَانَةَ؟
فالجواب: أما الكهانة فكانوا ينسبون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إليها عندما كان خبر عن الغيوب ويكون كما يقول. وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغَيْر كشقِّ القَمَر، وتكلم الحَجَر، والجِذْع وغير ذلك، وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلُون القرآن عليهم لكنه - عليه (الصلاة و) السلام - ما كان يُتَحَدَّى إلى بالقرآن كما قال تعالى: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] إلى غير ذلك ولم يقل: إن كنتم في شك من رسالتي فاقطعوا الجذوع أو أَشْبِعُوا الخلق العظيم أو أخبروا الغيوب فلما كان تحديه عليه (الصلاة و) السلام بالكلام وكانوا
260
ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفس التعليم.
قوله: ﴿إنْ هُوَ﴾ أي (إن) القرآن، دل عليه السياق أو إن المُعَلّم «إلاَّ ذِكْرٌ» يدل عليه: «وَمَا عَلَّمْنَاهُ» والضمير في قوله «له» للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: للقرآن.
قوله: ﴿إِلاَّ ذِكْرٌ﴾ موعظة ﴿وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾ فيه الفرائض والحدود والأحكام.
قوله: ﴿لِّيُنذِرَ﴾ قرأ نافع وابن عامر هنا وفي الأحقاف ﴿لُتْنِذرَ﴾ خطاباً والباقون بالغيبة بخلاف عن البّزِّي في الأحقاف، والغيبة يحتمل أن يكون الضمير فيما للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأن يكون للقرآن وقرأ الجَحْدَرِيُّ واليَمَانِيُّ «لتُنْذَرَ» مبنياً للمفعول وأبو السَّمَّال واليمانيّ أيضاً - ليَنْذَرَ - بفتح الياء والذّال من نَذِرَ بكسر الذال أي علم فتكون «مَنْ فَاعِلاً.

فصل


المعنى لتنذِرَ القرآنَ مَنْ كَانَ حياً يعني مؤمناً حي القلب لأن الكافر كالميتِ في أنه لا يتدبر ولا يتفكر قال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس﴾ [الأنعام: ١٢٢] وقيل: من كان حياً أي عاقلاً وذكر الزمخشري في»
رَبِيع الأَبْرَارِ «» وَيحِقَّ الْقَوْلُ «ويجب العذاب على الكافر.
261
قوله :﴿ لِّيُنذِرَ ﴾ قرأ نافع وابن عامر هنا وفي الأحقاف١ ﴿ لُتْنِذرَ ﴾ خطاباً٢، والباقون بالغيبة بخلاف عن البّزِّي في الأحقاف٣، والغيبة يحتمل أن يكون الضمير فيما للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون للقرآن٤. وقرأ الجَحْدَرِيُّ واليَمَانِيُّ «لتُنْذَرَ » مبنياً للمفعول٥. وأبو السَّمَّال واليمانيّ أيضاً- ليَنْذَرَ - بفتح الياء والذّال من نَذِرَ بكسر الذال أي علم فتكون «مَنْ » فَاعِلاً٦.

فصل


المعنى لتنذِرَ القرآنَ مَنْ كَانَ حياً يعني مؤمناً حي القلب لأن الكافر كالميتِ في أنه لا يتدبر٧ ولا يتفكر قال تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ] وقيل : من كان حياً أي عاقلاً٨ وذكر٩ الزمخشري في«رَبِيع الأَبْرَارِ » «وَيحِقَّ الْقَوْلُ » ويجب العذاب١٠ على الكافر.
١ من الآية ١٢ ﴿لسانا عربيا لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين﴾..
٢ من القراءة المتواترة. انظر: السبعة ٥٤٤ والإتحاف ٣٦٦ و ٣٦٧ والنشر ٢/٣٥٥ وحجة ابن خالويه ٣٠٠ والكشاف ٣/٣٣٠..
٣ الإتحاف ٣٩٠ والنشر ٢/٣٧٢ و ٣٧٣ فمن راو عنه بالخطاب ومن راو بالغيب..
٤ السمين ٤/٥٣٢..
٥ روى ابن خالويه تلك القراءة في المختصر ١٢٦ وانظر البحر ٧/٣٤٦ والكشاف ٣/٣٣٠..
٦ السمين ٤/٥٣٣، والبحر ٧/٣٤٦ والكشاف ٣/٣٣٠..
٧ معالم التنزيل للبغوي ٦/١٦..
٨ وهو رأي الضحاك والزجاج. انظر: زاد المسير ٧/٣٧ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٩٤..
٩ كذا هنا وفي ب ذكره الزمخشري وهذا خطأ، لأن الكلام السابق للضحاك ومن حذا حذوه ويصح أن يكون للزمخشري إذا اعتبرنا سقوط الواو فلقد أخبر عن "حيا" في الكشاف ٣/٣٣٠ أي عاقلا متأملا..
١٠ الكشاف ٣/٣٣٠..
ثم إنه تعالى أعاد الوحدانية والدلائل عليها فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ﴾ أي من جملة ما عملت أيدينا أي ما عملناهُ من غير معين ولا ظهير بل عملناه نقدرتنا وإرادتنا ﴿أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ ضابطون قاهرون أي لم يخلق الأنعام وحشيةً نافرةً من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل هي مسخرة لهم كقوله: ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾ «سَخَّرْنَاها لهم». «فمِنْهَا رَكُوبُهُمْ» أي ما يركبون وهي الإبل «وَمِنْهَا يَأكُلُونَ» من لحمانِها.
قوله: ﴿رَكُوبُهُمْ﴾ أي مركوبهم كالحَلُوب والحَصُور بمعنى المفعول وهو لا ينقاس وقرأ أبيّ وعائشةٌ «رَكُوبَتُهمْ» بالتاء وقد عد بعضهم دخول التاء على هذه الزِّنة شاذاً وجعلها الزمخشري في قول بعضهم جمعاً يعني اسم جمع وإلا فلمْ يرد في أبنية التكسير هذه الزنة. وقد عد ابن مالك أيضاً أبنية أسماء الجموع فلم يذكر فيها فَعُولَةً، وقرأ الحسنُ وأبو البَرَهسم والأعمش رُكُوبهم بضم الراء ولا بدّ من حذف مضاف إما من الأول أي فمن منافعها ركوبهم وإما من الثاني أي ذو ركوبهم. قال ابن خالويه العرب تقول: نَاقَةٌ حَلُوبٌ رَكُوبٌ وَركُوبةٌ حَلُوبَةٌ ورَكْبَاةٌ وَرَكَبُوتٌ حلَبُوتٌ وَرَكَبَى حَلَبَى وَرَكَبُوتَا (حَلَبوتَا) وَركبَانَةٌ حَلْبَانَةٌ وأنشد:
262

فصل


لما بين الركوب والأكل ذكر غير ذلك فقال: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ﴾ فالمراد بالمافع أصوافها وأوبارها وأشعراها ونسلها وبالمشارب ألبانها، والمَشَارِب جمع مَشْرب بالفتح مصدراً ومكاناً ثم قال: ﴿أَفَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ ربِّ هذه النعم ﴿واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً﴾ إشارة إلى باين زياة ضلالهم لأنه كان الواجب عليهم عبادة الله شكراً لأنْعُمِهِ فتركوها، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع ﴿لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ﴾ أي لمنعهم من عذاب الله ولا يكون ذلك والضمير في قوله: ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ إما للآلهة وإما لعابديها وكذلك الضمائر بعده قال ابن عباس: لا تَقْدر الأصنام على نصرهم ومَنْعِهم من العذاب ﴿وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ﴾ أي الكفار جند للأصنام فيغضبون لها وحضرونها في الدنيا وهي لاس تسوق لهم خيراً ولا تستطيع لهم نصراً، وقيل: هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله ومعه أبتاعه الذين عبدوه كأنه جند (هـ) يحضرون في النار. وهذا إشارة إلى الحَشْر بعد تقرير التوحيد. وهذا كقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] وقوله: ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم﴾ [الصافات: ٢٢ - ٢٣].
قوله: ﴿فَلاَ يَحْزُنكَ﴾ قد تقدم قراءة «يَحْزُن» و «يُحْزِن» «قَوْلُهُمْ» يعني قول الكفار في تكذيبك وهذا إشارة إلى الرسالة لأن الخطاب معه بما يوجب تسلية قلبه ﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ ما يسرون في ضمائرهم وما يعلنون من عبادة الأصنام أو ما يعلنون بألسنتهم من الأذى.
263
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:ثم إنه تعالى أعاد الوحدانية والدلائل عليها فقال :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ ﴾ أي من جملة ما عملت أيدينا أي ما١ عملناهُ من غير معين ولا ظهير بل عملناه بقدرتنا وإرادتنا ﴿ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ﴾ ضابطون قاهرون أي لم يخلق الأنعام وحشيةً نافرةً٢ من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل هي مسخرة لهم كقوله :﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ﴾ «سَخَّرْنَاها لهم ». «فمِنْهَا رَكُوبُهُمْ » أي ما يركبون وهي الإبل «وَمِنْهَا يَأكُلُونَ » من لحمانِها٣.
قوله :﴿ رَكُوبُهُمْ ﴾ أي مركوبهم كالحَلُوب والحَصُور بمعنى المفعول وهو لا ينقاس٤. وقرأ أبيّ وعائشةٌ «رَكُوبَتُهمْ » بالتاء وقد عد بعضهم دخول التاء على هذه الزِّنة٥ شاذاً وجعلها الزمخشري في قول بعضهم جمعاً يعني اسم جمع٦ وإلا فلمْ يرد في أبنية التكسير هذه الزنة. وقد عد ابن مالك أيضاً أبنية أسماء الجموع فلم يذكر فيها فَعُولَةً٧، وقرأ الحسنُ وأبو البَرَهسم والأعمش رُكُوبهم بضم الراء٨، ولا بدّ من حذف مضاف إما من الأول أي فمن منافعها ركوبهم وإما من الثاني أي ذو٩ ركوبهم. قال ابن خالويه العرب تقول : نَاقَةٌ حَلُوبٌ رَكُوبٌ وَركُوبةٌ حَلُوبَةٌ ورَكْبَاةٌ حلباة وَرَكَبُوتٌ حلَبُوتٌ وَرَكَبَى حَلَبَى وَرَكَبُوتَا ( حَلَبوتَا )١٠ وَركبَانَةٌ حَلْبَانَةٌ وأنشد :

٤١٨٨-
رَكْبَانَةٌ حَلْبَانَةٌ زَفُوفْ... تَخْلِطُ بَيْنَ وَبَرٍ وَصًوفْ١١
١ الرازي ٢٦/١٠٦..
٢ البغوي ٦/١٦..
٣ في ب لحماتها..
٤ وإنما ينقاس فعيل بمعنى الفاعل أو المفعول..
٥ ذكر هذه القراءة ابن جني في المحتسب ٢/٢١٦ وابن خالويه ١٢٦ ومعاني الفراء ٢/٣٨١ والكشاف ٣/٣٣٠ والبيان ٢/٣٠١ وسبب شذوذها أن فعيلا مما يستوي فيه المذكر والمؤنث فنقول ركوب في النوعين..
٦ الكشاف ٣/٣٣٠..
٧ في ب فعول. تحريف. وانظر: التسهيل ٢٦٧: ٢٨٠. وقد جوز الزمخشري وأبو حيان في البحر ٧/٣٤٧ الإفراد واسم الجمع معا..
٨ معاني الفراء ٢/٣٨١ والكشاف ٣/٣٣٠ والمحتسب ٢/٢١٦ ومختصر ابن خالويه ١٢٦..
٩ قاله في الكشاف ٣/٣٣٠..
١٠ سقط من ب. وانظر مختصر ابن خالويه ١٢٦ واللسان: "ح ل ب" ٩٥٦: ٦٩٠ و "ر ك ب" ١٧١٢: ١٧١٥ وكذلك القاموس ١/٥٩ و ٧٨ و ٧٩..
١١ رجز مجهول قائله وقبله: أكرم لنا بناقة ألوف.... ويورى صفوف بدل زفوف. وهي التي تصف الأقداح من كثرة لبنها. وجيء بالبيت حتى يقول: إن ركبانه وحلبانه مما تكلمت به العرب بمعنى الكثيرة الحلب والصالحة للركوب..

فصل


لما بين الركوب والأكل ذكر غير ذلك فقال :﴿ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ﴾ فالمراد بالمنافع أصوافها وأوبارها وأشعارها ونسلها وبالمشارب ألبانها، والمَشَارِب جمع مَشْرب بالفتح مصدراً١ ومكاناً٢. ثم قال :﴿ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾ ربِّ هذه النعم
١ ميميا من الفعل الثلاثي..
٢ في ب أي مكانها وهو جائز..
﴿ واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً ﴾ إشارة إلى بيان زيادة ضلالهم لأنه كان الواجب عليهم عبادة الله شكراً لأنْعُمِهِ فتركوها، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع ﴿ لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ﴾ أي ليمنعهم من عذاب الله ولا يكون ذلك١.
١ تسم مكان أيضا من الثلاثي وانظر: البحر ٧/٣٤٧ والدر ٤/٥٣٤ والكشاف ٣/٣٣٠..
والضمير في قوله :﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ إما للآلهة وإما لعابديها وكذلك الضمائر بعده١. قال ابن عباس : لا تَقْدر٢ الأصنام على نصرهم ومَنْعِهم من العذاب ﴿ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ ﴾ أي الكفار جند للأصنام٣ فيغضبون لها ويحضرونها في الدنيا وهي لا تسوق لهم خيراً ولا تستطيع لهم نصراً، وقيل : هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله ومعه أتباعه الذين عبدوه كأنهم جند ( ه )٤ يحضرون٥٦ في النار. وهذا إشارة إلى الحَشْر بعد تقرير التوحيد. وهذا كقوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] وقوله :﴿ احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم ﴾ [ الصافات : ٢٢-٢٣ ].
١ الرازي ٢٦/١٠٦ ومعالم التنزيل ٦/١٦..
٢ البحر والدر والكشاف السابقة..
٣ في ب يقدر بالتذكير..
٤ في ب جند الأصنام..
٥ زيادة من أ..
٦ في ب محضرون..
قوله :﴿ فَلاَ يَحْزُنكَ ﴾ قد تقدم قراءة «يَحْزُن » و «يُحْزِن ». «قَوْلُهُمْ » يعني قول الكفار في تكذيبك وهذا إشارة إلى الرسالة لأن الخطاب معه بما يوجب تسلية قلبه ﴿ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ ما يسرون في ضمائرهم وما يعلنون من عبادة الأصنام أو ما يعلنون بألسنتهم من الأذى.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾ لما ذكر دليلاً من الآفاق على وجوب عبادته بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً﴾ [يس: ٧١] ذكر دليلاً من الأنفس فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾ قيل: المراد بالإنسان أبيّ بن خلف الجُمَحِيّ «خَاصَمَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في إنكار البعث وأتاه بعظم قد بلي ففتته بيده وقال: أترى يُحْيِي اللُّهُ هذا العظمَ بعدما رَمَّ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نعم ويَبْعَثُكَ ويُدْخِلُك النار». فأنزل الله هذه الآيات قال ابن الخطيب: وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ألا ترى قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ [المجادلة: ١] نزلت في واحدة وأراد الحكم في الكل فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر هذه الآية ردّ عليه وقوله: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ﴾ أي جَدِلٌ بالباطل «مبين» بيّن الخصومة. وفي (هذه) الآية لطيفة وهي أن اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء النطفة آية ظاهرة ومع ذلك فهناك ما هو أظهر، وهو نُطْقُهُ وفَهْمُهُ لأن لانطفة جسم فهبْ أن جاهلاً يقول إنه استحال جسماً آخر لكن القوة الناطقة، والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم وهو (إلى) إدراك القوة والاختيار منه أقرب فقوله: «خَصِيمٌ» أي ناطق، وإنما ذكر الخصيم مكان الناطق لأنه أعلى أحوال الناطق فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصماً لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه.
قوله (تعالى) :﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ قرأ زيد بن علي: «ونَسِيَ خَالِقَهُ» بزنة اسم الفاعل.

فصل


المعنى: «ونَسِيَ خلقه» أي بَدْءَ أمره ﴿قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ قيل:
264
فَعِيلٌ بمعنى فاعلٍ، وقيل: مفعول فعلى الأول عدم التاء غير مقس وقال الزمخشري: الرَّميم اسم لما بَلِيَ من العظام غير صفة كالرّمَة والرفات فلا يقال: لم لم يؤنث وقد وقع خبراً لمؤنث ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول وقال البغوي ولم يقل: رميمة لأنه معدول من فاعله فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن يقل: رميمة لأنه معدول من فاعلة فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن إعرابه كقوله: ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾ [مريم: ٢٨] أسقط الهاء لأنها مصروفة عن «باغية».

فصل


هذه الآية وما بعدها إشارة إلى بيان الحشر، واعلم أن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثر كقولهم:
﴿وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [السجدة: ١٠] ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [المؤمنين: ٨٢] ﴿قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ على طريق الاستعباد، فأبطل استبعادهم بقوله: ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ أي نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة (الأجزاء) ثم جعلنا لهم من النَّواصِيَ إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصّورة، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذي (ن) بهما استحوقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن مَحَلاًّ للحياة أصلاً ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه. واخْتَارُوا العَظْم بالذكر لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البِلَى والتّفَتّت. والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً﴾ أي جعل قدرتنا كقدرتهم «ونسيَ خَلْقَهُ» العجيب وبدأه الغري. ومنهم من ذكر شبهة وإن في آخرها يعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين:
الأول: أنه بعد العدم لن يبقى شيء فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود؟!
265
فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله تعالى: ﴿الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكرواً كذلك يعيده وإن لم يبق شيئياً مذكوراً.
الثاني: أن من تَفَرَّقت أجزاؤه في مشارق الأرض ومغاربها وصار بعضه في أبْدانِ السِّباع، وبعضه في حواصل الطيوب وبعض في جُدْرَان الرباع كيف يجمتع؟ وأبعد من هذا: لو أكل الإنسان إنساناً وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل (فإن أعيدت أجزاء الآكل) فلا يبقى للمأكول أجزاء تتخلق منها أعضاء وإما أن تُعَاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء. فأبطل الله تعالى هذه الشبهة بقوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ ووجهه: أن في الأكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك فإذا أكل إنسانً إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فاللَّه بكل خلق عليم يعلم الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحاً وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البِقَاع المتبددة بحكمته وقدرته.
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال نكارهم فقال: ﴿الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً﴾ هذه قراءة العامة، وقرئ الخَضْرَا اعتباراً بالمعنى، وقد تقدم أنه يجوز تذكر اسم الجنس وتأنيثه قال تعالى: ﴿نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠] ﴿نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧] وتقدم أن بني تميم ونَجْد يذكِّرونه، والحجاز يؤنثونه إلا ألفاظاً اسْتُثْنِيَتْ.
266

فصل


قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما المرخ وللأخرى العفار فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خَصْراوان يقطران الماء فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى.
وتقول العرب: فِي كُلّ شَجَرٍ نَارٌ واستمجد المَرْخُ العَفَار. وقالت الحكماء: في كل شجرنا إلا العنّاب.
قوله: ﴿فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ﴾ أي تَقْدحُون وتُوقدون النار من ذلك الشجر، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال ﴿أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم﴾ هذه قراءة العامة ودخلت الباء زائدة على اسم الفاعل، والجَحْدَرِيّ وابن أبي إسحاق والأعرج «يَقْدر» فعلاً مضارعاً والضمير لتضمنهم مَنْ يعقل ثم قال: «بلى» (أي قل بلى) هو قادر على ذلك ﴿وَهُوَ الخلاق العليم﴾ (يخلق خلقاً بعد خلق) العليم بجميع ما خلق و «بَلَى» جواب «للَيْسَ» وإن دخل عليها الاستفهام لتصيرها إيجاباً والعامة على «الخَلاَّقُ» صيغة مبالغة، والجَحْدَريّ والحَسَن ومالكُ بن دينَارٍ «الخَالِقُ» اسم فاعل.
267
قوله: ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ تقدم الخلاف في «فيكون» نصباً ورفعاً وتوجيه ذلك في البقرة.
قوله: ﴿فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قرأ طلحةُ والأعمش مَلَكَةُ بزنة شَجَرَةٍ. وقرئ مَمْلَكَة بزنة مَفْعَلَةٍ وقرئ مُلْكُ والملكوت أبلغ الجميع، والعامة على «تُرْجَعُونَ» مبنياً للمفعول، وزيدُ بن عليِّ مبنيًّا للفاعل وتقدم الكلام على قوله «سُبْحَانَ» والتسبيحُ التنزيه، والمكوتُ مبالغة في المُلْك كالرَّحَمُوت والرَّهَبُوت، وهو فَعَلُول أو فَعلَلُوت فيه كلام، قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» وقال عليه (الصلاة و) السلام: «لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبٌ، وإنَّ قَلْبَ القُرآنِ سُورَةُ يس وَمنْ قَرَأ يس كَتَب اللَّهُ لَهُ بقراءَتِهَا قِرَاءَةَ القُرْآنِ عَشْرَ مَرَّات» وعن عائشة قالت: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إنَّ فِي القرآن سُورَةً تَشْفَعُ لقَارِئها ويُغْفَر لمُسْتَمِعِها أَلاَ وِهِيَ سُورَة يس» وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يس تُدْعَى المُعِمَّة قيل: يا رسول الله: وما المُعمَّة؟ قال: تَعُمّ صاحبها خَيْرَ الدُّنْيَا والآخِرَة وتُدْعَى
268
الدافِعَة القَاضِيَة تَدْفَعُ عَنه كُلَّ سُوءٍ وتَقْضِي له كُلَّ حَاجَةٍ، وَمَنْ قَرَأهَا عَدَلَتْ لَهُ عِشْرينَ حَجّةً ومَنْ سَمِعَهَا كَانَ لَهُ أَلْفُ دِينَارٍ في سَبِيل اللَّهُ وَمَنْ كَتَبَهَا وَشَربَهَا أدْخَلَتْ جَوْفَه ألفَ دَواء وألْفَ يَقين وألفَ رَأْفَةٍ ونُزعَ منه كُلُّ دَاءٍ وغِلّ، وعن أبي أُمامَةَ عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ قَرَأ يس يُريدُ بها وَجْهَ - عَزَّ وَجَلَ - غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وأعْطِيَ منَ الأَجْر كَأَنَّما قَرَأ القُرْآنَ اثْنَتَي عَشْرَةَ مَرَّةً، وأَيُّمَا مَرِيض قُرئَ عنءدَه سورةُ يٍ نَزَلَ عَلَيْهِ بِقَدْر كُلِّ حَرْف عَشْرَة أمْلاك، يَقُومُون بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفاً فيصَلُّون عَلَيْهِ ويَسْتَغْفِرون علَيه ويَشْهَدونَ قَبْضَهُ وغُسْلَهُ وَيتّبِعُونَ جَنَازَتُه ويُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَشْهَدُون دَفْنَهُ وأَيُّما مَريض قَرَأ سُورَةَ يس وَهُو فِي سَكَرَاتِ المَوْتِ لَمْ يَقْبضْ مَلَكُ الموتِ رُوحَه حَتَّى يَجِيئَهُ رَضْوَانُ خَازنُ الجِنَانِ بشَرْبةٍ مِن الجَنَّة فَيَشْرَبُها وهُوَ عَلَى فِرَاشِه فَيموتُ وَهُو رَيَّانُ ويُبْعَثُ وَهُوَ رَيَّانُ، وَيُحَاسَبُ وَهُو رَيَّانُ وَلاَ يَحْتَاج إلَى حَوْضٍ مِنْ حياض الأنْبِيَاء، حَتَّة يَدْخُلَ الجَنَّةَ وَهُوَ رَيَّان»
وعن أبي هريرة قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ دَخَلَ المَقَابِرَ فَقَرأ سُورة يس خَفَّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ فِيهَا حَسَنَاتٌ وعن يحيى بن أبي كثير قال: بَلَغَنا» مَنْ قَرَآَ يس حِين يُصْبحُ لَمْ يَزَلْ فِي فَرَحٍ حَتَّى يُمْسِي وَمَنْ قَرَأها حِينَ يُمْسِي لَمْ يَزَلْ فِي فَرَحِ حَتَّى يُصْبح «.
269
قوله ( تعالى )١ :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾ قرأ زيد بن علي :«ونَسِيَ خَالِقَهُ » بزنة اسم الفاعل٢.

فصل


المعنى :«ونَسِيَ خلقه » أي بَدْءَ أمره٣ ﴿ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ قيل : فَعِيلٌ بمعنى فاعلٍ٤، وقيل : مفعول٥ فعلى الأول عدم التاء غير مقيس٦. وقال الزمخشري : الرَّميم اسم لما بَلِيَ من العظام غير صفة كالرّمَة والرفات فلا يقال : لم لم يؤنث وقد وقع خبراً لمؤنث ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول٧ وقال البغوي ولم يقل : رميمة لأنه معدول من فاعله فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن إعرابه٨ كقوله :﴿ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ﴾ [ مريم : ٢٨ ] أسقط الهاء لأنها مصروفة عن «باغية ».

فصل


هذه الآية وما بعدها إشارة إلى بيان الحشر، واعلم أن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثرون كقولهم :
﴿ وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ السجدة : ١٠ ] ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ [ المؤمنين : ٨٢ ] ﴿ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ على طريق الاستبعاد، فأبطل استبعادهم بقوله :﴿ نَسِيَ خَلْقَهُ ﴾ أي نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة٩ متشابهة ( الأجزاء )١٠، ثم جعلنا لهم من النَّواصِيَ إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصّورة١١، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذي ( ن )١٢ بهما استحقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون١٣ بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن مَحَلاًّ للحياة أصلاً ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه. واخْتَارُوا العَظْم بالذكر لأنه أبعد عن الحياة١٤ لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البِلَى والتّفَتّت. والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ﴾ أي جعل قدرتنا كقدرتهم «ونسيَ خَلْقَهُ » العجيب وبدأه الغريب.
١ سقط من أ الأصل..
٢ وهو الله –عزت جلالته- أوردها أبو حيان في بحره ٧/٣٤٨ وهي قراءة ابن السميقع أيضا. انظر: شواذ القرآن ٢٠٤ والدر المصون ٤/٥٣٤..
٣ قاله البغوي ٦/١٧..
٤ وهو قول القرطبي في الجامع ١٥/٥٨ والبغوي في معالم التنزيل ٦/١٧ ونقله السمين في الدر المصون ٤/٥٣٤ وهو أحد قولي أبي البقاء في التبيان ١٠٨٦..
٥ الوجه الآخر من قول العكبري انظر: المرجع السابق..
٦ انظر: التبيان ٩٨ و ٩٩..
٧ الكشاف ٣/٣٣١. فجعله اسما..
٨ البغوي ٦/١٧ وفيه أخواته بدل إعرابه وانظر: القرطبي ١٥/٥٨..
٩ في ب خلقه وانظر: الرازي ٢٦/١٠٨ و ١٠٩..
١٠ سقط من ب..
١١ في ب والرازي الصور جمعا..
١٢ زيادة على النسختين والرازي..
١٣ كذا في الرازي وفي ب. وما في أ يضعون..
١٤ كذا هنا في أ وفي الرازي وما في ب: من..
ومنهم من ذكر شبهة وإن في آخرها يعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين :
الأول : أنه بعد العدم لن يبقى شيء فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود ؟ !فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله تعالى :﴿ الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ يعني كما خلق الإنسان ولم يكن١ شيئاً مذكوراً كذلك يعيده وإن لم يبق شيئاً مذكوراً.
الثاني : أن من تَفَرَّقت أجزاؤه في مشارق الأرض ومغاربها وصار بعضه٢ في أبْدانِ السِّباع، وبعضه٣ في حواصل الطيور وبعض٤ في جُدْرَان الرباع كيف يجتمع ؟ وأبعد من هذا : لو أكل الإنسان٥ إنساناً وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل ( فإن أعيدت٦ أجزاء الآكل ) فلا يبقى للمأكول أجزاء تتخلق منها أعضاء٧ وإما أن تُعَاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء. فأبطل الله تعالى هذه الشبهة بقوله :﴿ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾. ووجهه : أن في الأكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك فإذا أكل إنسانً٨ إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فاللَّه بكل خلق عليم يعلم الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحاً وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البِقَاع المتبددة بحكمته وقدرته٩.
١ في ب لم يك وما هنا هو ما يوافق الرازي..
٢ كذا في الرازي وفي ب بعضها..
٣ كذلك..
٤ كذلك..
٥ في ب إنسان وإنسانا وفي الرازي: هو أن إنسانا إذا أكل إنسانا..
٦ سقط من ب..
٧ في ب اعضاؤه وهي موافقة للرازي..
٨ كذا في الرازي وما في ب الإنسان إنسانا..
٩ انظر تفسير الرازي ٢٦/١٠٩..
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم فقال :﴿ الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً ﴾ هذه قراءة العامة، وقرئ الخَضْرَاء١ اعتباراً بالمعنى، وقد تقدم أنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه قال تعالى :﴿ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ [ القمر : ٢٠ ] ﴿ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾٢ [ الحاقة : ٧ ]، وتقدم أن بني تميم ونَجْد يذكِّرونه، والحجاز٣ يؤنثونه إلا ألفاظاً اسْتُثْنِيَتْ٤.

فصل


قال ابن٥ عباس : هما شجرتان يقال لإحداهما المرخ٦ وللأخرى العفار٧ فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خَصْراوان يقطران الماء فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى.
وتقول العرب : فِي كُلّ شَجَرٍ نَارٌ واستمجد٨ المَرْخُ العَفَار. وقالت الحكماء : في كل شجرنا إلا العنّاب٩.
قوله :﴿ فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ ﴾ أي تَقْدحُون وتُوقدون النار من ذلك الشجر،
١ أوردها أبو حيان في بحره ٧/٤٣٨ والزمخشري في الكشاف ٣/٣٣٢ والسمين في الدر ٤/٥٣٤ ولم ينسبها أي منهم..
٢ ولقد ذكر القرآن الكريم وأنث ما رجع إليهما أي النخل. وهو اسم الجنس فالتذكير نظرا للفظ والتأنيث نظرا للمعنى..
٣ في ب والحجازيون..
٤ كماء وتراب. والغالب في اسم الجنس أن يكون مذكرا إذا كان مجردا من التاء ومن ذلك: ﴿والكلم الطيب يرفعه﴾ ﴿كأنهم أعجاز نخل خاوية﴾. وانظر : شرح الشافية ٢/١٩٣ و ١٩٤ والتبيان ١٦٦: ١٦٨..
٥ ذكره الخازن في لباب التأويل ٦/١٧ وكذلك البغوي في معالم التنزيل ٦/١٧..
٦ من شجر النار معروف وهو شجر كثير الوري سريعه..
٧ وهو شجر أيضا يتخذ منه الزناد. والمرخ والعفار شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما. وانظر: اللسان عفر ٣٠١٢ ومرخ ٤١٧١..
٨ هذا مثل قالته العرب عن هاتين الشجرتين. انظر اللسان المرجع السابق ومعالم التنزيل ولباب التأويل للبغوي والخازن المرجعين السابقين. واستمجد المرخ والعفار استكثرا وأخذا من النار ما هو بحسبهما. وهو مثل يضرب في تفضيل بعض الشيء على بعض، انظر: الجامع للقرطبي أيضا ١٥/٥٩ و ٦٠. .
٩ البغوي والخازن المرجعان السابقان. وقال في اللسان: العنان النبكة الطويلة في السماء الفاردة المحددة الرأس يكون أسود وأحمر وعلى كل لون يكون والغالب عليه السمرة وهو جبل طويل في السماء لا ينبت شيئا. وانظر اللسان "ع ن ب" ٣١١٩..
ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال ﴿ أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ﴾ هذه قراءة العامة ودخلت الباء زائدة على اسم الفاعل، والجَحْدَرِيّ وابن أبي إسحاق والأعرج١ «يَقْدر » فعلاً مضارعاً٢، والضمير في مثلهم قيل : عائد على الناس لأنهم هم المخاطبون وقيل : على السموات والأرض، لتضمنهم مَنْ يعقل٣، ثم قال :«بلى » ( أي٤ قل بلى ) هو قادر على ذلك ﴿ وَهُوَ الخلاق العليم ﴾ ( يخلق خلقاً بعد٥ خلق ) العليم بجميع ما خلق و «بَلَى » جواب «للَيْسَ » وإن دخل عليها الاستفهام لتصييرها إيجاباً٦، والعامة٧ على «الخَلاَّقُ » صيغة مبالغة، والجَحْدَريّ والحَسَن ومالكُ بن دينَارٍ٨ «الخَالِقُ » اسم فاعل٩.
١ حميد بن قيس الأعرج أبو صفوان المكي القارىء. روى عن سفيان بن عيينة وغيره. مات سنة ١٣٠ هـ، انظر: غاية النهاية١/٢٦٥..
٢ من الشواذ انظرها في المختصر ١٢٦ والإتحاف ٣٦٧ وانظر: الكشاف ٣/٣٣٢ وزاد المسير ٧/٤٢ وهي قراءة أبي بكر الصديق أيضا..
٣ البحر المحيط ٧/٣٤٨ والدر المصون ٤/٥٣٥..
٤ سقط من ب..
٥ كذلك..
٦ فعند الإثبات تقول: بلى وعند النفي في غير القرآن تقول: نعم لا..
٧ في ب: والعائد. لحن وتحريف..
٨ السامي الناجي مولاهم أبو يحيى الزاهد الواعظ أحد الأعلام عن أنس وابن جبير وعطاء وعنه عاصم الأحول وثقه النسائي. انظر: غاية النهاية ٢/٣٦ وخلاصة الكمال ٣٦٧..
٩ من الأربع فوق العشرة. ابن خالويه ١٢٦ والإتحاف ٣٦٧..
قوله :﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾. تقدم الخلاف في «فيكون » نصباً ورفعاً وتوجيه ذلك في البقرة١.
١ عند قوله :﴿ويكون الدين لله﴾ ١٩٣ قرأ بالنصب ابن عامر والكسائي على جواب لفظ والباقون بالرفع خبر لمبتدأ محذوف فهو. وانظر: الإتحاف ٣٦٧ والسبعة ٥٤٤، وابن خالويه ٣٠٠..
قوله :﴿ فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ قرأ طلحةُ والأعمش١ مَلَكَةُ بزنة شَجَرَةٍ. وقرئ مَمْلَكَة بزنة مَفْعَلَةٍ وقرئ مُلْكُ٢. والملكوت أبلغ الجميع، والعامة على «تُرْجَعُونَ » مبنياً للمفعول، وزيدُ بن عليِّ مبنيًّا للفاعل٣ وتقدم الكلام على قوله «سُبْحَانَ »٤ والتسبيحُ التنزيه، والملكوتُ مبالغة في المُلْك كالرَّحَمُوت٥ والرَّهَبُوت، وهو فَعَلُول أو فَعلُوت فيه٦ كلام،
١ الكشاف ٣/٣٣٢ والمحتسب ٢/٢١٧ وهي من الأربع فوق العشرة المتواترة. وانظر: الإتحاف ٣٦٧ وذكرها ابن خالويه بالهاء "ملكه" وكلها بمعنى واحد..
٢ البحر ٧/٣٤٩ والكشاف ٣/٣٣٢ والدر المصون ٤/٥٣٥..
٣ إحدى القراءات العشرية المتواترة انظر: المراجع السابقة والإتحاف ٣٦٧، والنشر ٢/٣٥٥ و ٣٥٦ وهي قراءة يعقوب أيضا..
٤ تكررت هذه اللفظة كثيرا في القرآن فلقد سبقت في يوسف ١٠٨ و ١ من الإسراء و ٩٣ منها و ١٠٨ منها أيضا و٢٢ من الأنبياء و ٩١ من المؤمنون و ٨ من النمل و ٦٨ من القصص و ١٧ من الروم و ٣٦ من نفس السورة ولعله يقصد الإعراب الذي في الآية الأخيرة من نفس السورة عموما فهو علم للتسبيح كعثمان للرجل وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره أسبح الله سبحان، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسده ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح..
٥ في كلتا النسختين كالرحمن. تحريف وخطأ، فسياق الكلام والقرآن يشير إلى ما صححت أعلى وهو الرحموت..
٦ نقل السيوطي في المزهر عن ابن دريد قوله: "لم يجيء على فعلون إلا ملكوت وجبروت ورحموت من الرحمة ورهبوت من الرهبة وعظموت من العظمة وسلبوت من السلب وناقة تربوت لا تنفر وحلبوت وركبوت تصلح للحبل والركب ورجل خلبوت خداع مكار". وزاد الفارابي قلبوت أرض. انظر: المزهر ٢/٦٨..
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
٤١٨٨ - رَكْبَانَةٌ حَلْبَانَةٌ زَفُوفْ تَخْلِطُ بَيْنَ وَبَرٍ وَصًوفْ