تفسير سورة يس

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة يس من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
٣٦ - سورة يس
هي مكية. واستثنى منها بعضهم قوله تعالى :١ ﴿ إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم ﴾ الآية لما أخرجه الترمذي٢ والحاكم عن أبي سعيد قال :( كانت بنو سلمة في ناحية المدينة. فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية ). ولا حاجة لدعوى الاستثناء فيها وفي نظائرها. لأن ذلك مبني على أن المراد بالنزول أن الواقعة كانت سببا لنزولها، مع أن النزول في الآثار يشمل ذلك، وكل ما تصدق عليه الآية، كما بيناه مرارا. لاسيما في المقدمة. يؤيده أنه جاء في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قرأ لهم هذه الآية. كما في رواية ( الصحيحين ). ٣ وهكذا يقال فيما روي أن آية٤ ﴿ وإذ قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله ﴾ من هذه السورة نزلت في المنافقين. فإن المراد ما ذكرناه. ولم يهتد لهذا التحقيق أرباب الحواشي هنا، فاحفظه. وآيها ثلاث وثمانون آية. ومما روي في فضلها ما أخرجه٥ الترمذي عن أنس رفعه :( إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس )، وفي إسناده ضعف.
١ [٣٦/يس/١٢]..
٢ أخرجه في: ٤٤-كتاب التفسير، ٣٦-سورة يس، ١-حدثنا محمد بن وزير الواسطي..
٣ أخرجه البخاري في: ١٠٦كتاب الأذان، باب احتساب الآثار، حديث ٤١٥، عن أنس، وليس في مسلم..
٤ [٣٦/يس/٣٧]..
٥ أخرجه في: ٤٢-كتاب ثوان القرآن، ٧-باب ما جاء في فضل يس..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس (١)
يس تقدم الكلام في مثل هذه الفواتح مرارا. وحاصله- كما قاله أبو السعود- أنها إما مسرودة على نمط التعديد، فلا حظّ لها من الإعراب، أو اسم للسورة كما نص عليه الخليل وسيبويه. وعليه الأكثر. فمحله الرفع على أنه خبر محذوف.
أو النصب، مفعولا لمحذوف، وعليهما مدار قراءة يس بالرفع والنصب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٢]
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي ذي الحكمة أو الناطق بالحكمة، ولما كانت منزلة الحكمة من المعارف، منزلة الرأس، وكانت أخص أو صاف التنزيل، أوثرت في القسم به دون بقية صفاته، لذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : الآيات ٣ الى ٤]
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الموصل إلى المطلوب بدون لغوب. والتنكير للتفخيم والتعظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٥]
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ بالنصب على إضمار فعله، وبالرفع خبر لمحذوف. أو خبر ل يس إن كان اسما للسورة. أو مؤولا بها. والجملة القسمية معترضة.
والقسم لتأكيد المقسم عليه والمقسم به، اهتماما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٦]
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦)
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي برسول ولا كتاب فَهُمْ غافِلُونَ أي عن أمر حق الخالق والمخلوق، بالكفر والفساد ونكران البعث والمعاد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٧]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ أي استأهلوا لأن ينزل بهم العذاب وينتقم منهم أشد الانتقام فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يريدون أن يؤمنوا ويهتدوا، كفرا وكبرا وعنادا.
وبغيا في الأرض بغير الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٨]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ أي اللحى. أي واصلة إليها وملزوزة إليها فَهُمْ مُقْمَحُونَ أي ناصبو رؤوسهم، غاضّو أبصارهم. يقال: أقمح الرجل، في رأسه وغض بصره. وأقمح الغلّ الأسير، إذا ترك رأسه مرفوعا لضيقه، فهو مقمح. إذا لم يتركه عمود الغلّ الذي ينخس ذقنه، أن يطأطئ رأسه. قال ابن الأثير:
هي في قوله تعالى: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ كناية عن الأيدي لا عن الأعناق. لأن الغلّ يجعل اليد تلي الذقن والعنق، وهو مقارب للذقن. وقال الأزهريّ: أراد عز وجل أن أيديهم لما غلّت عند أعناقهم، رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا، كالإبل الرافعة رؤوسها، وهذا معنى قول ابن كثير: اكتفى بذكر الغل في العنق، عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين، لما دل السياق عليه. فإن الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٩]
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال الزمخشريّ: مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم، بأن جعلهم
كالمغلولين المقمحين، في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له. وكالحاصلين بين سدّين. لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم، في أن لا تأمل لهم ولا تبصر. وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله.
انتهى. أي فالمجموع استعارة تمثيلية. وفي (الانتصاف) للناصر: إذا فرقت هذا التشبيه، كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال. وكان استكبارهم عن قبول الحق وعن الخضوع والتواضع لاستماعه، مشبها بالإقماح. لأن المقمح لا يطأطئ رأسه. وقوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ تتمة للزوم الإقماح لهم. وكان عدم الفكر في القرون الخالية مشبها بسدّ من خلفهم، وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبها بسد من قدامهم انتهى. فيكون فيه تشبيه متعدد. قال الشهاب: والتمثيل أحسن منه. انتهى.
ثم قال الناصر: يحتمل أن تكون الفاء في (فهم مقمحون) للتعقيب، كالفاء الأولى، أو للتسبّب، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغلّ يوجب الإقماح. فإن اليد، والعياذ بالله، تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن، دافعة بها ومانعة من وطأتها.
ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير، فإن اليد متى كانت مرسلة مخلاة، كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها. ولعله يتحيّل بها على فكاك الغلّ، ولا كذلك إذا كانت مغلولة. فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة. أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم، مشبها بغلّ الأيدي. فإن اليد آلة الحيلة إلى الخلاص. انتهى.
وإنما اختير هذا، لأن ما قبله وما بعده في ذكر أحوالهم في الدنيا، وجعله أبو حيان لبيان أحوالهم في الآخرة، على أنه حقيقة لا تمثيل فيه. فورد عليه أن يكون أجنبيا في البين. وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله: حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ [يس:
٧]، والأول أدق، وبالقبول أحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ١٠]
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أي خوفتهم بالقرآن أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يريدون أن يؤمنوا. ولما صدقت الآية على مثل أبي جهل وأصحابه من كفرة قريش، الذين هلكوا في بدر، وكانوا طواغيت الكفر، أشار بعضهم إلى أن الآية نزلت في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ١١]
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)
إِنَّما تُنْذِرُ أي الإنذار المترتب عليه النفع مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي القرآن بالتأمل فيه والعمل به وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي عمل الصالحات لوجهه، وإن كان لا يراه فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ أي لذنوبه في الدنيا وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أي ثواب حسن في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ١٢]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أي للبعث وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي نحفظ عليهم ما أسلفوا من الخير والشر وَآثارَهُمْ أي ما تركوه من سنة صالحة، فعمل بها بعد موتهم. أو سنة سيئة فعمل بها بعدهم وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي في اللوح المحفوظ، أو العلم الأزليّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ١٣]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أي مثّل لأهل مكة مثلا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أي اذكر لهم قصة عجيبة، قصة أصحاب القرية إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ أي الدعاة إلى الحق ورفض عبادة الأوثان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ١٤]
إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤)
إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أي فقوّيناهما برسالة ثالث فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : الآيات ١٥ الى ١٧]
قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ عن الله ظاهرا بيّنا لا سترة فيه، وقد خرجنا من عهدته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ١٨]
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي تشاءمنا بكم. فكان إذا حدث في البلد ما يسيء من حريق أو بلاء، نسبوه إليهم. وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه، وآثروه وقبلته طباعهم. ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه. فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا ببركة هذا وبشؤم هذا. كما حكى الله عن القبط وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف:
١٣١]، وعن مشركي مكة وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:
٧٨]، أفاده الزمخشري: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا أي عن دعوتكم إلى التوحيد لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ١٩]
قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
قالُوا أي الرسل طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي سبب شؤمكم معكم، وهو الكفر والمعاصي أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أي وعظتم بما فيه سعادتكم. وجواب الشرط محذوف، ثقة بدلالة ما قبله عليه. أي تطيرتم وتوعدتم بالرجم والتعذيب بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي في الشؤم والعدوان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٢٠]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠)
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى أي يسرع في المشي، حيث سمع بالرسل
قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ أي بالإيمان بالله وحده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٢١]
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١)
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً أي جعلا ولا مالا على الإيمان وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي في أنفسهم بالكمالات والأخلاق الكريمة والآداب الشريفة. أي فيجدر أن يتأسّى بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٢٢]
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي خلقني. وهذا تلطّف في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه، وإمحاض النصح، حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه. والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره. كما ينبئ عنه قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي بعد الموت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٢٣]
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي فأضرع إليها وأعبدها، وهي في المهانة والحقارة بحيث إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ أي من ذلك الضر، بالنصر والمظاهرة. وفيه تحميق لهم، لأن ما يتخذ ويصنعه المخلوق، كيف يعبد؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥)
إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي فاسمعوا إيماني واشهدوا به. قال السمين: الجمهور على كسر النون. وهي نون الوقاية، حذفت بعدها ياء الإضافة، مجتزى عنها بكسرة النون، وهي اللغة العالية. وقرأ بعضهم بفتحها وهي غلط. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ أي ثوابا على صدق إيمانك وفوزك بسببه بالشهادة قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ أي ليقبلوا على ما أقبلت عليه، ويضحوا لأجله النفس والنفيس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٢٨]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨)
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد موته بالشهادة مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ أي لإهلاكهم وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ قال الرازيّ: إشارة إلى هلاكهم بعده سريعا، على أسهل وجه، فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٢٩]
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي ما كانت العقوبة إلا صيحة واحدة من السماء هلكوا بها فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ميتون كالنار الخامدة. رمزا إلى أن الحيّ كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب، والميت كالرماد. كما قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: روي عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وإن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح عيسى عليه السلام، كما نص عليه قتادة وغيره، وهو الذي لم يذكر عن أحد من متأخري المفسرين، غيره. وفي ذلك نظر من وجوه:
أحدهما- أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل، لا من جهة المسيح عليه السلام. كما قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ولو كان هؤلاء من الحواريين، لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام. والله أعلم.
179
ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: إن أنتم إلا بشر مثلنا.
الثاني- أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم. وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح. ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللائي فيهن بطاركة.
وهن: القدس لأنها بلد المسيح. وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها. والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البطارقة والأساقفة والشمامسة والرهابين، ثم رومية لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأطده. ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطرك من رومية إليها- كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم- كسعد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين- فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم.
الثالث- أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه وغير واحد من السلف. أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم. بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين. ذكروه عند قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [القصص: ٤٣]، فعلى هذا يتعين أن أهل هذه القرية المذكورة في القرآن، قرية أخرى غير أنطاكية. كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا. أو تكون أنطاكية- إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة- مدينة أخرى غير المشهورة المعروفة. فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية، ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى كلام ابن كثير.
وأقول: إن من محاسن التنزيل الكريم وبلاغته الخارقة، هو الإيجاز في الأنباء التي يقصها، والإشارة منها إلى روحها وسرها، حرصا على الثمرة من أول الأمر، واقتصارا على موضع الفائدة، وبعدا عن مشرب القصاص والمؤرخين. لأن القصد من قصصه الاعتبار والذكرى. وما من حاجة إلى تسمية تلك المبهمات كائنة ما كانت، ثم إن المفسرين رحمهم الله عنوا بالبحث والأخذ والتلقي. فكان من سلف منهم يرون فيما يرون أن من العلم تفصيل مجملات التنزيل وإبانة مبهماته. حتى جعل ذلك فنّا برأسه وألف فيه مؤلفات. ولا بأس في التوسع من العلم والازدياد منه بأي طريقة كانت. لا سيما وقد رفع عنا الحرج بالتحدث عن بني إسرائيل. إلا أنه يؤاخذ من يجزم بتعيين مبهم ما، إن كان جزمه من غير طريق القواطع فإن القاطع. هو
180
ما تواتر أو صحّ سنده إلى المعصوم، صحة لا مغمز فيها. وهذا مفقود في الأكثر، ومنه بحثنا المذكور. فإن تعيين أن البلدة أنطاكية وتسمية الرسل، إنما روي موقوفا ومنقطعا، وفي بعض إسناده متهمون. ولذا قد يرد على من يقطع بذلك ما لا مخرج له منه. فالمفسر أحسن أحواله أن يمشي مع التنزيل، إجمالا فيما أجمله وتفصيلا فيما فصله، ولا يأخذ من إيضاح مبهماته إلا بما قام عليه قاطع أو كان لا ينبذه العلم الصحيح. وإلا فليعرض عن تسويد وجوه الصحف بذلك، بل عن تشويهها. والذي حمل السلف على قص ما نحن فيه، هو تلقيهم له عن مثل كعب ووهب، وموافقة من في طبقتهما لهما فيه. هذا أولا، وثانيا شهرة بلدة أنطاكية في ذلك العهد، لا سيما وقد أسس فيها معبدا أحد رسل عيسى عليه السلام. ثالثا ما جرى في أنطاكية لما قدم ملك الرومان وتهدد كل من أبى عبادة الأوثان بالقتل. وكان في مقدمة الآبين رجل مقدم في المؤمنين. فأراده على الشرك فأبى وجهر بالتوحيد، فأرسله من أنطاكية موثقا وأمر بأن يطعم للوحوش: فألقى في رومية إلى أسدين كبيرين فابتلعاه.
ولما قدم لهما استبشر وتهلل لنيل الشهادة في سبيل الله. وكذلك يؤثر عن رجل مؤمن كان يدافع عن المؤمنين في عهد الرومانيين لغيرته وصلاحه. فطلب منه الحاكم أن يرتد فأبى وجهر بوجوب عبادة الإله الواحد، ونبذ عبادة من لا يضر ولا ينفع. فهدده بأن يضربه من الرأس إلى القدم. فأجاب بأنه مستبشر بنعمة الله وكرامته الأبدية. ثم أمر به الحاكم فقتل مع رفقته. والشواهد في هذا الباب لا تحصى.
معروفة لمن أعار نظره جانبا مما كتب في تواريخ مبدأ ظهور الأديان، وما كان يلاقيه من أعدائه ومقاوميه. فللقصة الكريمة هذه مصدقات لا تحصى. رابعا شهرة المرسلين برسل عيسى عليه السلام، وكانوا انبثوا في البلاد لمحو الوثنية والكف عن الكبائر والشرور التي كانت عليها دولة الرومان وقتئذ. هذا وما ذكره ابن كثير من وقوف عذاب الاستئصال بعد نزول التوراة يحتاج إلى قاطع. وإلا، فقد خربت كثير من البلاد الأثيمة بعدها، وتدمرت بتسليط الله من شاء عليها. والصيحة أعم من أن تكون صيحة سماوية أو صيحة أرضية، وهي صيحة من سلط عليهم للانتقام منهم، حتى أباد ملكهم وقهر صولتهم ومحا من الوجود سلطانهم. وإن كان عذاب الصيحة ظاهره الأول. وبالجملة فنحن يكفينا من النبأ الاعتبار به وفهمه مجملا، وأما تعيينه، بوقت ما، وفئة ما، فهو الذي ينشأ منه ما ينشأ. وما بنا من حاجة إلى الزيادة عن الاعتبار، وتخصيص مالا قاطع عليه.
الثاني- ذكر الرازيّ في قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا لطيفة، إن صح أن الرسل
181
المنوه بهم هم رسل عيسى عليه السلام. وهي أن إرساله لهم كإرساله تعالى. لأنه بإذنه وأمره. وبذلك تتمة التسلية للنبيّ صلوات الله عليه، لصيرورتهم في حكم الرسل.
ثم قال: وهذا يؤيد مسألة فقهية. وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل، وكيل الموكل لا وكيل الوكيل. حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه، وينعزل إذا عزله الموكل الأول. انتهى.
الثالث- في قوله تعالى: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ليكونوا في النصح باذلين جهدهم كما فعل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٣٠]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠)
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي يا ندامة عليهم تكون يوم القيامة بسبب استهزائهم وسخريتهم في الدنيا بالناصحين، حتي أفضى بهم الحال إلى قتلهم كما فعل أصحاب القرية. أو المراد شدة خسرانهم حتى استحقوا أن يتحسر عليهم أهل الثقلين. أو التحسر منه تعالى مجازا. وتقريره أن التحسر ما يلحق المتحسر من الندم حتى يبقى حسيرا. وهو لا يليق به تعالى.
فيجعل استعارة، بأن شبه حال العباد بحال من يتحسر عليه الله فرضا، فيقول، يا حسرة على عبادي، قيل: وهو نظير قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات:
١٢]. على القراءة بضم التاء، فالنداء للحسرة تعجب منه. والمقصود تعظيم جنايتهم، أي عدّها أمرا عظيما بتعجب منه. أفاده الشهاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٣١]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١)
أَلَمْ يَرَوْا أي يخبروا كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ أي من الأمم الخالية أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٣٢]
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)
وَإِنْ كُلٌّ أي من هؤلاء المتفرقين لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي إلا
جميعهم محضرون للحساب والجزاء، وإنما أخبر عن (كل) بجميع ومعناهما واحد، لأن (كلا) تفيد الإحاطة حتى لا ينفلت عنهم أحد. و (جميع) تفيد الاجتماع، وهو فعيل بمعنى مفعول، وبينهما فرق. ومن ثم وقع أجمع في التوكيد تابعا ل (كل)، لأنه أخص منه وأزيد معنى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥)
وَآيَةٌ لَهُمُ أي عبرة لأهل مكة عظيمة الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أي بالنبات لتدل على إحياء الموتى وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أي وليأكلوا مما عملته أيديهم، وهو ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما، على ما استظهره القاضي. وقال الزمخشريّ: أي عملته بالغرس والسقي والآبار، قيل وهذا التفسير خلاف الظاهر. أي لاحتياجه إلى تجوز. إلا أن فيه تذكيرا بلذة ثمرة العمل وسرور النفس بعده. وفي الحديث (أفضل الكسب بيع مبرور، وعمل الرجل بيده) رواه الإمام أحمد «١» عن أبي بردة. وجوّز أن تكون (ما) نافية، والمعنى: أن الثمر بخلق الله لا بفعلهم أَفَلا يَشْكُرُونَ أي خالق هذه النعم الجسام بعبادته وحده. وهو إنكار لعدم قيامهم بواجب الشكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٣٦]
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦)
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي الأصناف كلها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ أي مما ذكر وغيره وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني الذكر والأنثى وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ أي من الأصناف والأنواع الموجودة في البر والبحر. وقوله تعالى:
(١) أخرجه في المسند ٣/ ٤٦٦.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٣٧]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ بيان لقدرته تعالى في الزمان، إثر ما بيّنها في المكان، أي نزيله ونكشفه عن مكانه. استعير لإزالة الضوء، السلخ الذي هو كشط الجلد وإزالته عن الحيوان المسلوخ. وفيه إشارة إلى أن النهار طارئ على الليل، كما أن المسلوخ منه قبل المسلوخ، الذي هو كالغطاء الطارئ على المغطى. قال الشهاب: لأن الليل سابق عرفا وشرعا ومعنى (مظلمون) داخلون في الظلام. يقال (أظلمنا) كما يقال: أعتمنا وأدجينا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٣٨]
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي لحدّ لها مؤقت مقدر ينتهي إليه دورها اليومي أو السنوي. شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره. فالمستقر اسم مكان تقطعه في حركتها الدائمة ثم تعود. ووجه الشبه الانتهاء إلى محل معين، واللام تعليلية أو بمعنى (إلى). وقيل مستقرها منقطع جريها عند حراب العالم. ومستقر، عليه، اسم زمان ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي ذلك الجري المتضمن للحكم والمصالح والمنافع، والمدهش نظام سيره وإحكامه بلا اختلال، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علما بكل معلوم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٣٩]
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ أي صيرنا له منازل ينزل كل ليلة في واحد منها حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أي حتى إذا كان في آخر منازله، دق واستقوس وصار كالعذق المقوس اليابس، إذا حال عليه الحول. فالعرجون هو الشمروخ. ، وهو العنقود الذي عليه الرطب، ويسمى العذق، بكسر العين. والقديم: العتيق، وإذا قدم دق وانحنى واصفرّ. فشبه به من ثلاثة أوجه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٤٠]
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
184
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ أي تجتمع معه في وقت واحد، وتداخله في سلطانه فتطمس نوره وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أي يسبقه بأن يتقدم على وقته فيدخل قبل مضيّه. أو المراد بالليل والنهار آيتاهما. أي ولا القمر سابق الشمس فيكون عكسا للأول. أي ولا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس. والمعنى على هذا، أن كل واحد منهما لا يدخل على الآخر في سلطانه، فيطمس نوره، بل هما متعاقبان بمقتضى تدبيره تعالى، وعليه فسر إيثار (سابق) على (مدرك) كما قبله، هو أن السبق مناسب لسرعة سير القمر. إذ السبق يشعر بالسرعة، والإدراك بالبطء. وكذلك الشمس بطيئة السير تقطع فلكها في سنة. والقمر يقطعه في شهر. فكانت الشمس لبطئها جديرة بأن توصف بالإدراك. والقمر لسرعته جديرا بأن يوصف بالسبق.
لطيفة:
قال الناصر في (الانتصاف) : يؤخذ من هذه الآية أن النهار، تابع لليل، وهو المذهب المعروف للفقهاء. وبيانه من الآية أنه جعل الشمس التي هي آية النهار غير مدركة للقمر الذي هو آية الليل.
وإنما نفي الإدراك لأنه هو الذي يمكن أن يقع، وذلك يستدعي تقدم القمر وتبعية الشمس، فإنه لا يقال (أدرك السابق اللاحق) ولكن (أدرك اللاحق السابق) وبحسب الإمكان توقيع النفي،. فالليل إذا متبوع والنهار تابع. فإن قيل: هل يلزم على هذا أن يكون الليل سابق النهار، وقد صرحت الآية بأنه ليس سابقا؟ فالجواب أن هذا مشترك الإلزام. وبيانه: أن الأقسام المحتملة ثلاثة: إما تبعية النهار لليل وهو مذهب الفقهاء، أو عكسه وهو المنقول عن طائفة من النحاة. أو اجتماعهما. فهذا القسم الثالث منفي بالاتفاق. فلم يبق إلا تبعيه النهار لليل وعكسه. وهذا السؤال وارد عليهما جميعا. لأن من قال إن النهار سابق الليل لزمه أن يكون مقتضى البلاغة أن يقال (ولا الليل يدرك النهار) فإن المتأخر إذا نفي إدراكه كان أبلغ من سابقه. مع أنه يتناءى عن مقتضى قوله: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ تنائيا لا يجمع شمل المعنى باللفظ. فإن الله تعالى نفى أن تكون مدركة، فضلا عن أن تكون سابقة، فإذا أثبت ذلك، فالجواب المحقق عنه، أن المنفيّ السبقية الموجبة لتراخي النهار عن الليل، وتخلل زمن آخر بينهما. وحينئذ يثبت التعاقب، وهو مراد الآية.
وأما سبق أول المتعاقبين للآخر منهما، فإنه غير معتبر. ألا ترى إلى جواب موسى بقوله: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي [طه: ٨٤]، فقد قربهم منه عذرا عن قوله تعالى:
185
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ [طه: ٨٣]، فكأنه سهل أمر هذه العجلة بكونهم على أثره. فكيف لو كان متقدما وهم في عقبه لا يتخلل بينهم وبينه مسافة، فذاك لو اتفق، لكان سياق الآية يوجب أنه لا يعد عجلة ولا سبقا. فحينئذ يكون القول بسبقية النهار لليل، مخالفا صدر الآية على وجه لا يقبل التأويل. فإن بين عدم الإدراك الدال على التأخير والتبعية، وبين السبق بونا بعيدا، ومخالفا أيضا لبقية الآية.
فإنه لو كان الليل تابعا ومتأخرا، لكان أحرى أن يوصف بعدم الإدراك، ولا يبلغ به عدم السبق. ويكون القول بتقديم الليل على النهار مطابقا لصدر الآية صريحا، ولعجزها بوجه من التأويل مناسب لنظم القرآن. وثبوت ضده أقرب إلى الحق من حبل وريده، والله الموفق للصواب من القول وتسديده. انتهى.
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي كل مما ذكر يجرون في مدار عظيم كالسابح في الماء. وتقدم لنا في سورة الأنبياء، ما قاله بعض علماء الفلك في مثل هذه الآية.
فراجعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٤١]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي حملنا أولادهم الذين يرسلونهم في تجارتهم. قال الشهاب: ولا يخفى مناسبته لقوله قبله: فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وذكر (المشحون) أقوى في الامتنان بسلامتهم فيه، أو لأنه أبعد عن الخطر، وقيل المراد فلك نوح عليه السلام. فهو مفرد، وتعريفه للعهد. والمعنى حمل آبائهم الأقدمين الذين بهم حفظ بقاء النوع لما عمّ الطوفان، ونجوا مع نوح في السفينة. وإنما كان آية، لأن بقاء نسلهم ونجاتهم بسفينة واحدة، صنع عجيب ومقدور كبير. وآثر البعض الوجه الأول، لأن الثاني محتاج للتأويل. وأرى جدارة الثاني بالإيثار لقاعدة الحمل على الأشباه والنظائر، ما وجد له سبيل. لأنه أقرب وأسدّ. وقد جاء نظيره آية: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة: ١١- ١٢]. وإن ورد في نظير الأول آية وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الرحمن: ٢٤]، وأشباهها، إلا أن لفظ الحمل اتحد في الآيتين، فقارب ما بينهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٤٢]
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢)
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ أي مثل الفلك ما يَرْكَبُونَ أي من الإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل، حتى شاع إطلاق السفينة عليها. كما قيل (سفائن برّ والسراب بحارها) أو ما يركبون. أي من السفن والزوارق على الوجه الثاني. وهو أن يراد بالفلك سفينة نوح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٤٣]
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ أي لا مغيث لهم، أو لا مستغيث منهم، أو لا استغاثة، وذلك لأن الصريخ يكون المغيث والمستغيث وهو الصارخ. ومصدرا للثلاثيّ كالصراخ، يتجوز به عن الإغاثة، لأن المغيث ينادي من يستغيث به ويصرخ له، ويقول. جاءك العون والنصر. أنشد المبرد في أول الكامل:
كنّا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له قرع الظّنابيب
أي إذا أتانا مستغيث، كانت إغاثته الجد في نصرته.
وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ أي ينجون من الموت به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٤٤]
إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ أي لكن رحمناهم ومتعناهم إلى زمن قدر لهم، يموتون فيه بعد النجاة من موت الغرق. ومن هنا أخذ أبو الطيّب قوله:
وإن أسلم فما أبقى ولكن سلمت من الحمام إلى الحمام
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٤٥]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أي من الوقائع الخالية في الأمم المكذبة للرسل وَما خَلْفَكُمْ أي من العذاب المعدّ في الآخرة، أو عذاب الدنيا وعذاب
الآخرة، أو عكسه، أو ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي باتقائكم وشكركم، وجواب (إذا) محذوف دل عليه قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٤٦]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦)
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ أي الدالة على صدق الرسل إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ بالتكذيب والصدّ عن الإيمان بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٤٧]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي تصدقوا على الفقراء، من مال الله الذي آتاكم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي حيث أمرتمونا بما يخالف مشيئة الله. وقولهم هذا، إما تهكم أو عن اعتقاد. وجوز أن يكون إِنْ أَنْتُمْ جوابا من الله لهم، أو حكاية لجواب المؤمنين. وفي هذه الآية أبلغ زجر عن اقتصاص ما يحكى عن البخلاء، في اعتذارهم بمثل ما ضلل به المشركون ومجاراتهم فيه. فإن ذلك من اللؤم وشح النفس وخبث الطبع. وإن كان يورده بعضهم للفكاهة أو الإغراب. كما فعل الجاحظ سامحه الله في كتاب (البخلاء).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٤٨]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعنون وعد البعث.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٤٩]
ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩)
ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم. أي أنها تبغتهم وهم في أمنهم وغفلتهم عنها. و (يخصمون) بفتح الياء وكسر الخاء لالتقاء الساكنين. والصادر على الأصل، وأصله (يختصمون)
سكنت التاء وأدغمت، ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٥٠]
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أي أن يوصوا في شيء من أمورهم توصية وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي لا يقدرون على الرجوع إلى أهليهم، ليروا حالهم. بل يموتون حيث تفجؤهم الصيحة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٥١]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي للبعث فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ أي من القبور إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أي يعدون مسرعين، كما في قوله تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج: ٤٣]، ولا منافاة بين هذا وما في آية فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨]، لأنهما في زمان واحد متقارب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٥٢]
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أي رقادنا أو مكانه. فيقال لهم هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي المخبرون عن ذلك الوعد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٥٣]
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣)
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي بمجرد تلك الصيحة. وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر، عليه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥)
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي
شُغُلٍ فاكِهُونَ
أي متنعمون متلذذون، وفي تنكير شُغُلٍ تعظيم ما هم فيه وتفخيمه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧)
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ أي في ظلال الأشجار، أو في مأمن من الحرور عَلَى الْأَرائِكِ أي السّرر المزينة مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٥٨]
سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي ولهم سلام يقال لهم قولا كائنا منه تعالى.
فيكون سَلامٌ مبتدأ محذوف الخبر. أو هو بدل من (مّا) أو خبر محذوف، أي:
هو سلام. أو مبتدأ خبره الناصب ل قَوْلًا أي: سلام يقال لهم قولا. أو مبتدأ وخبره مِنْ رَبٍّ وقَوْلًا مصدر مؤكد لمضمون الجملة. وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر.
والمعنى إنه تعالى يسلم عليهم تعظيما لهم. كقوله: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: ٤٤].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٥٩]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي عن المؤمنين في موقفهم. كقوله تعالى:
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [يونس: ٢٨]. وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: ١٤].
يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: ٤٣]، أي يصيرون صدعين فرقتين احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٢٢- ٢٣].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٦٠]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تقريع منه
تعالى للكفرة، يقال لهم إلزاما للحجة. وعهده تعالى إليهم هو ميثاق الفطرة. كما قاله القاشانيّ. أو ما نصبه لهم من الحجج العقلية والسمعية، الآمرة بعبادته وحده ونبذ عبادة غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٦١]
وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي: وأن أفردوني بالعبادة فإنه السبيل السويّ. وفي تنكيره إشعار بأنه صراط بليغ في استقامته، جامع لكل ما يجب أن يكون عليه. وأصل لمرتبة يقصر عنها التوصيف، فالتنوين للتعظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٦٢]
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)
وَلَقَدْ أَضَلَّ أي الشيطان وأغوى بالشرك مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أي خلقا كثيرا قبلكم، فحاق بهم سوء العذاب أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ أي من أولي العقل. إنكار لأن يكونوا منهم. وقد قامت البراهين والإنذارات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٦٥]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي عند ما يجحدون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم، قال الرازيّ: وفي الختم على الأفواه وجوه. أقواها أن الله يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها، وينطق جوارحهم فتشهد عليهم، وإنه في قدرة الله يسير. أما الإسكات فلا خفاء فيه، وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة
مخصوصة. فكما جاز تحركه بها، جاز تحرك غيره بمثلها. والله قادر على الممكنات. والوجه الآخر، أنهم لا يتكلمون بشيء، لانقطاع أعذارهم وانهتاك أستارهم. فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليؤوس، لا يجد عذرا فيعتذر، ولا مجال توبة فيستغفر، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار، حتى تنطق به الأيدي والأبصار. كما يقول القائل (الحيطان تبكي على صاحب الدار) إشارة إلى ظهور الحزن، والأول الصحيح. انتهى. أي لإمكانه وعدم استحالته، فلا تتعذر الحقيقة. ويؤيده آية وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: ٢١].
ومن لطائف بعض أدباء العصر ما نظمه في الفونغراف، مستشهدا به في ذلك، فقال:
ينطق الفونغراف لنا دليل على نطق الجوارح والجماد
وفيه لكل ذي نظر مثال على بدء الخليفة والمعاد
يدير شؤونه فرد بصور به الأصوات تجري كالمداد
فيثبت رسمها قلم بلوح على وفق المشيئة والمراد
وبعد فراغها تمضي كبرق ولا أثر لها في الكون بادي
تظن بأنها ذهبت جفاء كما ذهبت بريح قوم عاد
وأحلى رنّها فيه لتبقى كأرواح تجرد عن موادّ
متى شاء المدير لها معادا ورام ظهورها في كل ناد
يدير الصور بالآلات قسرا فينشر ميتها بعد الرقاد
وهذي آلة من صنع عبد فكيف بصنع خلّاق العباد؟
تبارك من يعيد الخلق طرّا بنفخة صوره يوم التناد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٦٦]
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦)
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي لو شاء تعالى، لمسح أعينهم. فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المسلوك لهم لم يقدروا، لعماهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٦٧]
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧)
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ أي بتغيير صورهم وإبطال قواهم عَلى مَكانَتِهِمْ أي مكانهم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا أي ذهابا وَلا يَرْجِعُونَ أي ولا رجوعا. أي أنهم لا يقدرون على مفارقة مكانهم. فوضع الفعل موضعه للفواصل. وإذا كان بمعنى (لا يرجعون عن تكذيبهم) فهو معطوف على جملة (ما استطاعوا) والمراد أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم، أحقّاء بأن يفعل بهم ذلك. لكنا لم نفعل لشمول الرحمة، واقتضاء لحكمة إمهالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٦٨]
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ أي نطل عمره نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أي بتناقض قواه وضعف بنيته حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبيّ في ضعف جسده وقلة عقله وخلّوه من العلم، كما قال عز وجل: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج: ٥]، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين: ٥]. أَفَلا يَعْقِلُونَ أي من قدر على ذلك، قدر على الطمس والمسخ، وأن يفعل ما يشاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٦٩]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩)
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ أي حتى يأتي بشعر. وهذا رد لقولهم أنه صلوات الله عليه شاعر أتى بشعر. قاسوه على من يشعر بقراءة الدواوين وكثرة حفظها. وكيف يشابه ما نزل عليه الشعر، وليس منه لا لفظا لعدم وزنه وتقفيته، ولا معنى لأن الشعر تخيلات، وهذا حكم وعقائد وشرائع وحقائق.
وَما يَنْبَغِي لَهُ أي وما يصح لمقامه. لأن منزل النبوة والرسالة يتسامى عن الشعر وقرضه. لما يرمى به الشعراء كثيرا من الكذب والمين ومجافاة مقاعد الحقيقة.
ولذا قال تعالى: إِنْ هُوَ أي القرآن الذي يتلوه إِلَّا ذِكْرٌ أي عظة وإرشاد منه
تعالى وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي كتاب سماويّ بيّن أمره وحقائقه. فلا مناسبة بينه وبين الشعر بوجه ما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٧٠]
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠)
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا أي عاقلا متأملا، لأن الغافل كالميت وَيَحِقَّ الْقَوْلُ أي وتجب كلمة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ أي المعرضين عن اتباعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٧١]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أي مما تولينا نحن خلقه، لم يقدر على إحداثه غيرنا، أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ أي متصرّفون فيها تصرّف الملاك. أو ضابطون قاهرون لها كما قال:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٧٢]
وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢)
وَذَلَّلْناها لَهُمْ أي صيّرناها منقادة غير وحشية فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أي مركوبهم وَمِنْها يَأْكُلُونَ أي ينتفعون بأكل لحمه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٧٣]
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ أي من الجلود والأصواف والأوبار وَمَشارِبُ أي من ألبانها أَفَلا يَشْكُرُونَ أي فيعبدوا المنعم بأصناف هذه النعم الجسيمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٧٤]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي ينصرونهم فيما نابهم من الكوارث.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٧٥]
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥)
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ أي لآلهتهم جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي معدّون لخدمتهم والذب عنهم. فمن أين لهم أن ينصروهم وهم على تلك الحال من العجز والضعف؟ أي بل الأمر بالعكس. وقيل: المعنى محضرون على أثرهم في النار.
وجعلهم- على هذا- جندا، تهكم واستهزاء. وكذا لام (لهم) الدالة على النفع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٧٦]
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي في الله تعالى بالإلحاد والشرك. أو في حقك بالتكذيب والإيذاء إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أي فنجازيهم عليه. كنى عن مجازاتهم بعلمه تعالى، للزومه له. إذ علم الملك القادر بما جرى من عدوّه الكافر، مقتض لمجازاته وانتقامه. وتقديم السرّ، لبيان إحاطة علمه تعالى بحيث يستوي السر عنده والعلانية. أو للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن، فإنه ملاك الأمر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٧٧]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي جدل بالباطل.
بيّن الجدال، وهذه تسلية ثانية، بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر.
تأثرت الأولى وهي قوله فَلا يَحْزُنْكَ الآية، عناية بشأنه صلوات الله عليه.
قال الطيبيّ: هذا معطوف على (أولم يروا) قبله. والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس. فإنه خلق له ما خلق ليشكر، فكفر وجحد النعم والمنعم. وخلقه من نطفة قذرة ليكون منقادا متذللا، فطغى وتكبر وخاصم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٧٨]
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨)
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا أي في استبعاد البعث وإنكاره وَنَسِيَ خَلْقَهُ أي خلقنا إياه قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أي بالية أشد البلى، بعيدة عن الحياة غاية
البعد. وإنما لم يؤنث لأنه اسم لما بلي من العظام. جامد غير صفة، كالرمة والرفات.
أو مشتق، فعيل بمعنى فاعل. إلا أنه لما غلب جريانه على غير موصوف، ألحق بالأسماء فلم يؤنث. أو بمعنى مفعول. من (رمّه) بمعنى أبلاه. وأصله الأكل. من (رمت الإبل الحشيش) فكأن ما بلي أكلته الأرض. وقال الأزهري: إن (عظاما) لكونه بوزن المفرد، ككتاب وقراب، عومل رميم معاملته. وذكر له شواهد.
قال الشهاب: وهو غريب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٧٩]
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي فلا تقاس قدرة الخالق على قدرة المخلوقين. وإنما تقاس إعادته على إبدائه وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أي فلا يمتنع عليه جمع الأجزاء بعد تفرقها، لعلمه بأصولها وفصولها ومواقعها، وطريق ضمها إلى بعضها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٨٠]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أي الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضرا نضرا فأثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا يوقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد. لا يمنعه شيء. قال قتادة: الذي أخرج النار من هذا الشجر، قادر على أن يبعثه. وقيل: المراد بذلك شجر المرخ والعفار (من شجر البادية) في أرض الحجاز. فيأتي من أراد قدح نار وليس معه زناد، فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدها بالآخر، فتتولد النار من بينهما كالزناد سواء. روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. والعفار الزند وهو الأعلى.
والمرخ الزندة وهو الأسفل بمنزلة الذكر والأنثى. وعكس الجوهريّ فجعل المرخ ذكرا والعفار أنثى، واللفظ مساعد له. إلا أن الأول يؤيده قول الشاعر:
إذا المرخ لم يور تحت العفار... وضنّ بقدر فلم تعقب
وقال أبو زياد: ليس في الشجر كله أورى نارا من المرخ. وربما كان المرخ مجتمعا ملتفا، وهبت الريح، وجاء بعضه بعضا فأورى فأحرق الوادي. ولم نر ذلك في سائر الشجر.
وقال الأزهريّ: العرب تضرب بالمرخ والعفار، المثل في الشرف العالي.
فتقول: (في كل شجر نار. واستمجد المرخ والعفار) أي كثرت فيهما على ما في سائر الشجر. و (استمجد) استكثر واستفضل. وذلك أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر نارا، وزنادهما أسرع الزناد وريا. وفي المثل: اقدح بعفار أو مرخ، ثم اشدد إن شئت أو أرخ. ويقال (في كل شجر نار إلا العنّاب).
قال الشهاب: ولذا يتخذ منه مدقّ القصارين. ثم أنشد لنفسه:
أيا شجر العنّاب نارك أوقدت بقلبي. وما العنّاب من شجر النار
انتهى.
والمقصود أنه تعالى لا يمتنع عليه إعادة المزاج الذي به تعلق الروح بعد انعدامه بالكلية. لأن الذي يبدل مزاج الشجر الرطب بمزاج النار، وهي حارة يابسة بالفعل، مع ما في الشجر من المائية المضادّة لها، أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضّا، تطرأ عليه اليبوسة والبلى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٨١]
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي مع كبر جرمهما بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي في الصغر والضعف ثانيا، بعد ما خلقهم أولا بَلى أي هو القادر وَهُوَ الْخَلَّاقُ أي الكثير الخلق مرة بعد أخرى الْعَلِيمُ أي الواسع المعلومات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٨٢]
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)
إِنَّما أَمْرُهُ أي شأنه الأعلى أو قوله النافذ إِذا أَرادَ شَيْئاً أي إذا تعلقت إرادته بإيجاد شيء أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي فيوجد عن أمره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (٣٦) : آية ٨٣]
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ تنزيه له مما وصفه به المشركون،
197
وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا. وهو مالك كل شيء والمتصرّف فيه بلا وازع ولا منازع. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي بعد الموت، فيجازيكم بأعمالكم.
فائدة:
قال ابن كثير: الملك والملكوت واحد في المعنى. كرحمة ورحموت ورهبة ورهبوت، وجبر وجبروت. ومن الناس من زعم أن الملك هو عالم الأجسام، والملكوت هو عالم الأرواح. والصحيح الأول. وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم. انتهى.
ولبعضهم: إن الملكوت صيغة مبالغة من الملك. فهو بمعنى الملك التام، والله هو العليم العلام.
198

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الصافّات
سميت بها لاستمال الآية التي هي فيها على صفات للملائكة تنفي إلهية الملائكة من الجهات الموهمة لها فيهم. فينتفي بذلك إلهية ما دونهم، فيدل على توحيد الله، وهو من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايمي.
وهي مكية اتفاقا، وآيها مائة واثنتان وثمانون.
روى النسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرنا بالتخفيف، ويؤمّنا بالصفات
. قال ابن كثير: تفرد به النسائي.
199
Icon