تفسير سورة يس

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة يس من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿يس﴾ هو اسم الرسول الأعظم صلوات الله تعالى وسلامه عليه. وقيل: معناه: يا إنسان؛ في لغة طيىء. وقيل معناه: يا سيد البشر. وقيل: بل هو اسم من أسمائه تعالى؛ لذا منع مالك رضي الله تعالى عنه التسمي به. وهو قسم؛ يدل عليه عطف القسم الآخر
﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ المحكم الذي لا يعتريه نقص، ولا يشوبه تناقض أو بطلان. وجواب القسم:
﴿إِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وإنك
﴿عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ على طريق الهدى والاستقامة؛ طريق من تقدمك من الأنبياء. وهو رد على الكافرين القائلين ﴿لَسْتَ مُرْسَلاً﴾
﴿تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ وهو القرآن ﴿لِتُنذِرَ﴾ به ﴿قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ﴾ أي لم يأت آباءهم قبلك نذير مثلك؛ بكتاب مثل كتابك ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ عن خالقهم، منصرفون إلى إفكهم وباطلهم. أو «ما» بمعنى الذي. أي
لتنذر قوماً بالذي أنذر به آباؤهم. والأول أولى؛ لأن أمة العرب ظلت فترة طويلة من الزمن؛ بغير نبي يرسل إليهم، أو كتاب ينزل عليهم. يؤيده قوله تعالى: ﴿وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ﴾
﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ﴾ وجب العذاب
﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً﴾ جمع غل؛ ويكون الغل في الأعناق، والقيد في الأيدي ﴿فَهُم مُّقْمَحُونَ﴾ مرتفعة رؤوسهم؛ لا يستطيعون تحريكها؛ لضيق الغل وتحكمه عند أذقانهم. وذلك يكون يوم القيامة. وجاء السياق بصيغة الماضي «إنا جعلنا» لتحقق الوقوع. أو هو تشبيه على سبيل التمثيل؛ وذلك لأنهم امتنعوا عن الاهتداء؛ امتناع المغلول، وأنهم - على ما هم عليه من ذلة الكفر - مشرئبو الأعناق، رافعو الرؤوس
﴿فَأغْشَيْنَاهُمْ﴾ أي غطينا على أبصارهم، وجعلنا عليها غشاوة
﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ أي إنما ينفع إنذارك ويتقبله من اتبع القرآن ﴿وَخشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ﴾ خافه ولم يره، وصدق بجنته وناره، وثوابه وعقابه
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى﴾ للحساب والجزاء ﴿وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ﴾ من عمل: خير أو شر؛ فنجازيهم عليه نكتب ﴿آثَارِهِمْ﴾ ما سنوه من سنة حسنة أو سيئة؛ فإن الله تعالى يجزيهم عمن اتبعها بعدهم؛ ثواباً أو عقاباً ﴿وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ هو اللوح المحفوظ
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ﴾ إنطاكية ﴿إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ رسل عيسى عليه الصلاة والسلام؛ بأمر ربه تعالى
﴿فَعَزَّزْنَا﴾ قوينا الرسالة ﴿بِثَالِثٍ﴾ هو كبير الحواريين ﴿فَقَالُواْ﴾ أي قال الرسل الثلاثة ﴿قَالُواْ﴾ أي أصحاب القرية؛ المرسل إليهم
﴿مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ فما الذي يدعو إلى اختصاصكم بالرسالة من دوننا ﴿وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَنُ﴾ عليكم ﴿مِن شَيْءٍ﴾ من وحيه ﴿قَالُواْ﴾ أي قال أصحاب القرية لرسلهم
﴿إِنَّا تَطَيَّرْنَا﴾ تشاءمنا ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ﴾ ترجعوا عن دعوتكم
﴿قَالُواْ﴾ أي قال الرسل لأهل إنطاكية ﴿طَائِرُكُم﴾ شؤمكم الذي تزعمونه ﴿مَّعَكُمْ﴾ ملصق بكم؛ لكفركم بإلهكم وعدم انقيادكم لمولاكم (انظر آية ١٣صلى الله عليه وسلّم من سورة الأعراف) ﴿أَإِن ذُكِّرْتُم﴾ استفهام. أي أئن وعظتم وخوفتم: تطيرتم وكفرتم؟ ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ في الكفر
﴿وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ أي أي شيء يحول بيني وبين عبادة الذي أنشأني وخلقني؟ ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ جميعاً؛ فيحاسبكم على عملكم، ويدخلكم النار بكفركم
﴿أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ﴾ غيره ﴿آلِهَةً﴾ كما اتخذتم ﴿إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ﴾ أي إن يرد أن يلحقني ﴿بِضُرٍّ﴾ بمرض، أو فقر، أو آفة ﴿لاَّ تُغْنِ عَنِّي﴾ لا تنفعني ﴿شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ﴾ مما أراده الله تعالى
﴿إِنِّي إِذاً﴾ إن اتخذت إلهاً من دون الله ﴿لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ واضح ظاهر
﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ أي سيقال له يوم القيامة: «ادخل الجنة» وسيقول يومئذٍ: «يا ليت قومي يعلمون» لأنه لما كان دخوله الجنة محققاً مقطوعاً به: ذكرت القصة بصيغة الماضي، كقوله تعالى: «أتى أمرالله» «وبرزوا لله جميعاً» أو قيل له ذلك عند موته؛ فقال: «يا ليت قومي يعلمون»
﴿وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ﴾ أي من بعد موته ﴿مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ﴾ لقتالهم وإهلاكهم
﴿إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ صاحها عليهم جبريل عليه الصلاة والسلام. والصيحة: العذاب؛ أو هي مقدمة لكل عذاب ﴿فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ ميتون
﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ﴾ الأمم ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ هو رد على من يقول بتناسخ الأرواح، ورجوعها إلى أبدان غير أبدانها
﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ﴾ وما كل إلا جميع ﴿لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ يوم القيامة؛ فنعذب من كفر بكفره
﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ﴾ علامة دالة على البعث، ويسر الإعادة ﴿الأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾ الجدبة، التي لا تنبت ﴿أَحْيَيْنَاهَا﴾ بالنبات ﴿وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً﴾ كالقمح، والذرة، والفول، والعدس، وما شاكلها
﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ﴾ بساتين ﴿مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ (انظر آية ٢٦٦ من سورة البقرة)
﴿لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ﴾ أن ثمر النخيل والأعناب، وما تنتجه البساتين من فاكهة وثمار ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ «ما» نافية. أي «ليأكلوا من ثمره» الذي صنعته لهم بقدرتي، وأسبغته عليهم بفضلي، ولم ينالوه بعمل أيديهم؛ فكم من أرض خصبة: اختصها الإنسان بالحرث والبذر، واصطفاها بالسقي والري؛ فأصبحت بفضل التفاته لها، وعنايته بها جدبة ممحلة ويجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي؛ أي «ليأكلوا من ثمره» وليأكلوا أيضاً من الذي «عملته أيديهم» من شتى الأصناف والأنواع: حلاوات وأطعمة، وأدهان وأدوية، وغير ذلك؛ وكله مستخرج من الثمر، الذي خلقه بارىء البشر؛ من حدائق ذات بهجة، ما كان لهم أن ينبتوا شجرها «رزقاً للعباد»
﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ﴾ الأصناف والأنواع؛ باختلاف الألوان، والطعوم، والأشكال، والأحجام ﴿وَمِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ أي ومن أنفسهم أيضاً خلق تعالى أزواجاً: ذكراناً وإناثاً، طوالاً وقصاراً سماناً وعجافاً، بيضاً وسوداً، حمراً وصفراً ﴿وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ من مخلوقاته تعالى في البر والبحر، والأرض والسماء ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾
﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ﴾ علامة دالة على قدرتنا، وعظمتنا، ووحدانيتنا ﴿الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾ أي نفصله وننزعه منه
﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي﴾ في منازلها ﴿لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا﴾ وهو أبعد منازلها؛ ثم تعود إلى أدناها. أو المراد بذلك يوم القيامة؛ حيث يكورها الرحمن؛ فتسكن عن الجريان ورووا عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما قراءة «والشمس تجري لا مستقر لها» والإجماع على بطلانها؛ لمخالفتها رسم المصحف الإمام. وشمسنا هذه التي نراها، والتي تضيء الكون بمحياها: إن هي إلا واحدة من شموس لا يعلم مداها. وهذه الشموس لا تقل عن أربعين مليوناً: حساباً وعداً. ومن هذه الشموس
-[٥٣٩]- ما يزيد في الحجم عن شمسنا هذه أربعين ضعفاً، ويربو في الضوء والحرارة عن ذلك. وبعض هذه الشموس يرى في الفضاء كالذرة الصغيرة؛ لبعده عنا بعداً سحيقاً؛ فقد سجلوا أن الشعرى اليمانية - وهي تبدو كأصغر نجم في السماء - تبعد عن الأرض بحوالي اثنين وخمسين بليوناً من الأميال، وأنه لولا هذا البعد السحيق: لذابت الأرض بما فيها ومن فيها من حرارتها
وحول هذه الشموس - التي لا تحد ولا تعد - كواكب كثيرة تدور في فلكها؛ كما تدور أرضنا هذه في فلك شمسنا؛ وما يدرينا ما في هذه الشموس، وهذه الكواكب من مخلوقات، وما تحتويه من كائنات؛ لا يعلمها سوى خالقها وبارئها العليم الحكيم
وشمسنا هذه - رغم ضآلتها وحقارتها بجانب الشموس الأخرى - لو دنت قليلاً من الأرض: لفارت البحار والمحيطات؛ من شدة الغليان، ولتبخر ما فيها من مياه، ولانصهر أشد أنواع الصخور صلابة. فانظر - يا رعاك الله - إلى بديع صنعالله
﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ يتنقل فيها (انظر آية ٦١ من سورة الفرقان) ﴿حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ﴾ العرجون: العذق؛ وهو من التمر كالعنقود من العنب ﴿الْقَدِيمِ﴾ حين يجف ويصفر ويتقوس
﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ﴾ لا يجوز لها، ولا يمكنها؛ لما أحاطها الله تعالى به من ضروب الحفظ، وما سخره لسيرها من ملائكته وخزنته؛ فلا ينبغي لها ﴿أَن تدْرِكَ القَمَرَ﴾ وأنى لها أن تدركه؛ وقد وضع لها خالقها نظاماً لا يمكنها من إدراك القمر؛ لو سعت إلى ذلك وأرادته. قال تعالى: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ ﴿وَكُلَّ﴾ من الشمس والقمر ﴿فِي فَلَكٍ﴾ خاص به، لا يتعداه إلى غيره ﴿يَسْبَحُونَ﴾ يسيرون في الهواء كسير السابح في الماء
﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ﴾ علامة أخرى دالة على قدرتنا وحفظنا وكلاءتنا ﴿أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ أي ذرية الأمم المتقدمة: حملهم الله تعالى ﴿فِي الْفُلْكِ﴾ السفينة. والمراد بهم قوم نوح عليه السلام، أو المراد: ذرية كفار مكة. أو المراد بالذرية: الآباء؛ وهي من أسماء الأضداد. والمعنى: حمل الله تعالى آباءهم وهم في أصلابهم ﴿الْمَشْحُونِ﴾ المملوء ناساً ومعاشاً
﴿فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ﴾ أي فلا يستطيعون الصريخ، أو فلا يستجاب لصريخهم
﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا﴾ لمن ننجيه ﴿وَمَتَاعاً﴾ تمتيعاً له بالحياة ﴿إِلَى حِينٍ﴾ إلى حين انقضاء أجله
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ﴾
-[٥٤٠]- أي خافوا قدرتنا على تعذيبكم في الدنيا: بالمرض والفقر، أو القتل والأسر. وفي الآخرة بالجحيم والعذاب الأليم أو «ما بين أيديكم» ما ظهر لكم «وما خلفكم» ما غاب عنكم
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ وهكذا الكفار في كل زمان ومكان: إذا ضاقت بهم الحيل، وأغلقت في وجوههم السبل: لجأوا إلى تافه القول، وفاسد الحجج، وتلاعبوا بالحقائق تلاعب الصوالجة بالأكر، ولاكوا بأفواههم الألفاظ الطنانة الجوفاء؛ فقد تهربوا من إطعام الطعام بقولهم ﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ كما دافعوا - عن جهلهم وحمقهم، وعبادتهم الأحجار التي لا تضر ولا تنفع - بقولهم ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ وكما احتجوا عن كفرهم وتعنتهم بالقضاء والقدر ﴿لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا﴾.
هذا وقد لجأ الناس في آخر الزمان إلى التلاعب بالألفاظ، والتمويه بالأسماء: فسموا الفوضى: حرية. والشيوعية: عدالة اجتماعية. والظلم: عدلاً، والاستبداد: نظاماً. والشورى: ضعفاً. والرشوة: هدية. والمحاباة: صلة رحم. والإهمال: أناة. والتهور: شجاعة. والقسوة: حزماً وهكذا فسدت المقاييس، واختلت المعايير؛ تبعاً للأهواء المردية
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ بالبعث والحساب والعقاب
﴿مَا يَنظُرُونَ﴾ ما ينتظرون ﴿إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ هي نفخة إسرافيل الأولى؛ وبها يكون فناء سائر الأحياء ﴿تَأُخُذُهُمْ﴾ تهلكهم ﴿وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ يختصمون في البيع والشراء، والقضاء
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ النفخة الثانية؛ وبها يحيا كل ميت: يحيي بها الله تعالى الأموات، كما أمات بالأولى الأحياء: يعيدهم - جل شأنه - كما خلقهم أول مرة «كما بدأكم تعودون» ﴿فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ﴾ القبور ﴿يَنسِلُونَ﴾ يخرجون مسرعين
﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ﴾ بوقوعه ﴿وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ في إبلاغهم ذلك عن ربهم. وهذا القول رد من الملائكة على سؤال الكافرين ﴿مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا﴾؟
﴿إِن كَانَتْ﴾ ما كانت ﴿إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ يصيحها إسرافيل عليه السلام في سائر الأموات: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، والشعور المتمزقة؛ إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء وهذا معنى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾
﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ﴾ ما يشغلهم عن التفكر فيما عانوه في الدنيا ﴿فَاكِهُونَ﴾ متنعمون ومنه سميت الفاكهة: لما يلقاه آكلها من شعور بالنعيم، وتلذذ بالنعمة ومنه الفكاهة؛ لانبساط النفس وانشراحها بها
﴿عَلَى الأَرَآئِكِ﴾ السرر، أو الفرش
﴿وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ﴾
-[٥٤١]- ما يتمنون
﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ أي يسمعون صوت الرحمن الرحيم؛ يقول لهم في الجنان، بصوت لا يحيط به الجنان: سلام عليكم ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً﴾
﴿وَامْتَازُواْ﴾ أي انفردوا عن المؤمنين ﴿أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ الكافرون. ويقال لهم وقتذاك
﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ آمركم ﴿يبَنِي آدَمَ﴾ على لسان رسلي ﴿أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ﴾ ولا تطيعوه ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ عاهد نفسه على إضلالكم، وأقسم على إغوائكم ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾
﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ وحدي، وأطيعوني ﴿هَذَا﴾ الاتباع والعبادة ﴿صِرَاطٍ﴾ طريق
﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ﴾ الشيطان ﴿مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً﴾ خلقاً كثيراً ﴿أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ﴾ ذلك؛ حين رأيتم وقوع غيركم في الضلال
﴿اصْلَوْهَا﴾ ادخلوها
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ﴾ نخرسهم فلا يتكلمون؛ لأنهم لا ينطقون إلا كذباً؛ أرأيت قولهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾
﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ أعميناها في الدنيا ﴿فَاسْتَبَقُواْ الصِّرَاطَ﴾ ابتدروا طريق الشر والكفر ﴿فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ فكيف يبصرون؛ بعد أن أعميناهم؟ ولكنا لعدلنا ورحمتنا: هديناهم الطريق، وأوضحنا لهم السبيل ﴿فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ﴾ قال تعالى ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ أو المراد ﴿لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ أعميناها في الآخرة؛ كما أخرسنا ألسنتهم
﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً﴾
﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ﴾ أي لمسخناهم في منازلهم، وفي أمكنتهم؛ حيث يجترحون المآثم، ويرتكبون العظائم؛ فجعلناهم قردة، أو خنازير، أو أحجاراً؛ كما مسخنا غيرهم ﴿فَمَا اسْتَطَاعُواْ﴾ بعد مسخهم ﴿مُضِيّاً﴾ في سيئاتهم ﴿وَلاَ يَرْجِعُونَ﴾ وما استطاعوا رجوعاً عن غيهم وكفرهم. أو لم يستطيعوا ذهاباً ولا مجيئاً
﴿وَمَن نّعَمِّرْهُ﴾ نطل عمره ﴿نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ أي نغير حاله: من قوة إلى ضعف، ومن شباب إلى هرم، ومن جمال إلى قبح
﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ﴾ أي ما علمنا محمداً الشعر؛ حتى تتهمونه بأنه شاعر، وأن ما جاء به من جنس الشعر ﴿وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾ ما يجوز له أن يكون شاعراً ﴿إِنْ هُوَ﴾ ما هو؛ أي القرآن الذي أتى به محمد ﴿إِلاَّ ذِكْرٌ﴾ عظة ﴿وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾ واضح، مظهر للأحكام، ولكل ما تحتاجون إليه
﴿لِّيُنذِرَ﴾ به ﴿مَن كَانَ حَيّاً﴾ ذا قلب ولب ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ أي يجب عليهم العذاب الموعود
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ﴾ أي مما خلقناه من غير شريك، ولا معين ﴿أَنْعاماً﴾ هي الإبل، والبقر، والغنم
﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾ سخرناها لهم
﴿وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها من ألبانها
﴿وَاتَّخَذُواْ﴾ عبدوا ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ﴾ يمنعون من عذاب الله تعالى بشفاعتها كزعمهم
﴿وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ﴾ أي إن آلهتهم التي علقوا آمالهم عليها في النصر؛ ستحضر معهم في النار
﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ ﴿نُّطْفَةٍ﴾ مني. (انظر آية ٢١ من سورة الذاريات)
﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ﴾ شديد الخصومة لنا
﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً﴾ بقوله: ﴿مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ أي نسي خلقنا له أول مرة، ولم يك شيئاً
﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُ﴾ تعالى ﴿إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ هذا تقريب لأفهامها والواقع أنه تعالى إذا أراد شيئاً: كان؛ بغير حاجة للفظ «كن»
﴿فَسُبْحَانَ﴾ تنزيه وتقديسلله تعالى. (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) ﴿الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ﴾ ملك ﴿كُلِّ شَيْءٍ﴾ والقدرة عليه. والملكوت: الملك، والعز، والسلطان ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ يوم القيامة؛ فيحاسبكم على ما اجترحتم.
542
سورة الصافات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

543
Icon