تفسير سورة يس

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة يس من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة١ يس كلها نزلت بمكة٢
١ أدرج قبلها في الأصل: ذكر ان..
٢ أدرج بعدها في الأصل: وهي اثنتان وثمانون آية..

سُورَةُ يس
كلها نزلت بمكة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (١٢)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)
عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا إنسان، يعني: يا مُحَمَّد أقسم به: يا مُحَمَّد، إن هذا القرآن من عند اللَّه نزل، وهو بلسان الحبشة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وهو بلسان طيئ.
وقتادة يقول: قسم، أقسم بالقرآن: إنك لمن المرسلين، ويقول: كل هجاء في القرآن فهو اسم من أسماء القرآن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من فواتح السورة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فواتح يفتتح بها كلامه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: اسم من أسماء الرب.
وعن معاذ بن جبل وكعب - رضي اللَّه عنهما - قالا: (يس) قسم أقسم اللَّه به يا مُحَمَّد، (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) دل أن الخطاب به على أثر قوله: (يس)
على أنه هو المراد بقوله: (يس)؛ إذ لا يستقيم الخطاب بقوله: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلا على سبق خطاب له وذكر اسمه.
وقال عكرمة: هو حرف من الهجاء الذي افتتح به السور كسائر حروف الهجاء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من حروف الهجاء التي أقسم اللَّه بها، بما يتلو تلك الحروف من القرآن والآيات والكتاب؛ إذ من عادة العرب القسم بكل ما عظم خطره وجل قدره.
فَإِنْ قِيلَ: كيف أقسم بالقرآن وهم كانوا ينكرون القرآن أنه من عند اللَّه؟!
قيل: إنهم وإن كانوا ينكرونه، فقد عظم قدره وجل خطره عندهم بما عجزوا عن إتمِان مثله بعد قرع أسماعهم بقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ...) الآية، ونحوه.
والثاني: أقسم به وإن كانوا ينكرونه؛ لما أن قسمه به يحملهم على السؤال عنه؛ إذ كانوا لا يقسمون إلا بما عظم قدره وجل خطره، يقولون: ما هذا القرآن الذي أقسم ربنا به؛ ألا ترى أنه قال: (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)، فكأنه على سؤال خرج على هذا أنه (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)، وأن يكون القسم به وبغيره من الأشياء التي عظم خطرها عندهم، على إضمار القسم برب هذه الأشياء وبإلاهها؛ هذا على قول من يقول بأن القسم باللَّه حقيقة لا بتلك الأشياء - مستقيم، وعلى قول من يجعل القسم بها لا على الإضمار هو ما ذكرنا.
وقوله: (الْحَكِيمِ).
أي: الْمُحْكَم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه على ما وصف.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المحكم بالحلال والحرام، والوعد والوعيد، من غير أن يكون فيه اختلاف.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكيم؛ لأن من تمسك به وعمل بما فيه يصير حكيمًا.
وقوله: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)
ولم يقل: إنك لرسول اللَّه، وكلاهما سواء، غير أن قوله: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين آمنوا بهم من قبل وصدقوا بهم ففيه زيادة، ليس ذلك في قوله: (إنك لرسول)، والله أعلم.
وقوله: (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)
قَالَ بَعْضُهُمْ: المستقيم: القائم بالحجج والبراهين، ليس بالهوى كسائر الأديان والسبل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المستقيم: المستوي، أي: مستوٍ؛ على أن من يسلكه أفضاه - أي:
الآية ٤ وقوله تعالى :﴿ على صراط مستقيم ﴾ قال بعضهم : المستقيم القائم بالحجج والبراهين، ليس بالهوى كسائر الأديان والسُّبل. وقال بعضهم : المستقيم : المستوي، أي مستوٍ على [ معنى ]١ : أن من سلكه أفضاه إلى الله، وبلّغه إلى دار السلام. وقال بعضهم : المستقيم أي استقام بالحق والعدل والصدق، لا زيغ فيه، ولا جور، ولا عدول، ولا اعوجاج.
ويحتمل أن يكون ذلك وصف النبوّة والرسالة التي تقدّم ذكرها، ويحتمل وصف الدين، وذلك [ قول عامة ]٢ أهل التأويل، والله أعلم.
١ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: عامة قول..
اللَّه - وبلغه إلى دار السلام.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المستقيم، أي: استقام بالحق والعدل والصدق، لا زيغ فيه، ولا جور، ولا عدول، ولا اعوجاج.
ويحتمل أن يكون ذلك وصف النبوة والرسالة التي تقدم ذكرها.
ويحتمل وصف الدِّين، وذلك عامة قول أهل التأويل، واللَّه أعلم.
وقوله: (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥)
أي: ذلك القرآن الذي أقسم به (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)، أي: من عنده نزل وأحكم، سمى نفسه: عزيزًا رحيمًا عظيمًا لطيفًا ظاهرًا باطنًا أولا آخرًا، وفي الشاهد من وصف بالعز لا يوصف بالرحمة، ومن وصف بالعظم لا يوصف باللطافة، ومن وصف بالظاهر لا يوصف بأنه باطن، ومن وصف بالأول لا يوصف بالآخر؛ ليعلم أن المعنى الذي وصف به الخلق غير الذي وصف به الرب - تبارك وتعالى - لأن من وصف من الخلق بواحد مما ذكرنا لم يستحق الوصف بالآخر، فدل، أن ما وصف به الرب - تبارك وتعالى - غير ما يوصف به الخلق، تعالى اللَّه علوا كبيرًا.
وقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا) مثل الذي أنذر آباؤهم من الآيات التي أقامها، فلم يقبلوها (فَهُمْ غَافِلُونَ) أميون.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ)، أي: لتنذر قومًا أميين لم ينذر آباؤهم، يقول قائل: لم تكن النذارة للأميين من قبل، كأنه يقول: لتنذر قومًا أميين لم ينذر آباؤهم الأميون من قبل؛ وكذلك قال: (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ)؛ وهو كقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ)، وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ)، أي: لم نرسل إليهم قبلك نذيرًا، وأصله: أنه يخبر أنه لا ينجع في هَؤُلَاءِ النذارة كما لم ينجع في آبائهم، بل هم غافلون.
ثم الإنذار يحتمل أن يكون بالنار في الآخرة والتعذيب بها، ويحتمل الآيات التي أقامها في الدنيا والقتل فيها، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧)
قيل: هو قوله لإبليس حيث قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)، و (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، أي: حق ذلك القول ووجب.
ثم يحتمل ذلك في الذي ذكره بعض أهل التأويل: أن نفرًا هموا برسول اللَّه قتله وأذاه،
الآية ٦ وقوله تعالى :﴿ لتُنذر قوما ما أُنذر آباؤهم ﴾ اختلف فيه :
قال بعضهم : لتنذر قوما مثل الذي أنذر آباؤهم من الآيات التي أقامها، فلم يقبلوها ﴿ فهم غافلون ﴾ أميّون.
وقال بعضهم :﴿ لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم ﴾ أي لتنذر قوما أمّيّين، لم يُنذر آباؤهم. يقول قائل : لم تكن النذارة للأمّيين من قبل، كأنه يقول : لتُنذر قوما أمّيّين، لم يُنذر آباؤهم الأمّيّون من قبل. كذلك قال :﴿ لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ﴾ [ فاطر : ٤٢ ] وهو كقوله :﴿ لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك ﴾ [ القصص : ٤٦ ] وقوله :﴿ وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير ﴾ [ سبأ : ٤٤ ] أي لم نرسل إليهم قبلك نذيرا.
وأصله أنه يخبر أنه لا تنجع في هؤلاء النذارة كما لم تنجع في آبائهم. بل هم غافلون.
ثم الإنذار يحتمل أن يكون بالنار في الآخرة والتعذيب بها، ويحتمل بالآيات التي أقامها في الدنيا والقتل فيها، والله أعلم.
الآية ٧ وقوله تعالى :﴿ لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ﴾ قيل : هو قوله لإبليس حين قال :﴿ لأملأن جهنم منك وممّن اتبعك منهم أجمعين ﴾ [ ص : ٨٥ ] وقال١ :﴿ لأملأن جهنم من الجِنّة والناس أجمعين ﴾ [ هود : ١١٩ ] أي حق ذلك القول، ووجب.
ثم يحتمل ذلك في الذين ذكرهم٢ بعض أهل التأويل أن نفرا همّوا برسول الله : قتله وأذاه، فأهلكهم الله اليوم كذا إلا واحدا أو اثنين.
ويحتمل أن يكون ذلك في جميع مكذّبيه ورادّي رسالته، وناس أتباعه، ولا شك أن أكثر من بعث هو إليهم كانوا كذلك لهم في الآخرة، أو في قوم خاص علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا. ألا ترى أنه قال على إثر ذلك ﴿ وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ ؟ [ الآية : ١٠ ].
ثم في قوله :﴿ لأملأن جهنم ﴾ [ ص : ٨٥ وهود : ١١٩ ] وقوله :﴿ لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ﴾ [ الآية : ٧ ] نقض على المعتزلة ورد عليهم لأنه وعد عز وجل أنه يملأ جهنم بمن ذكر، فيقال لهم : أ أراد أن يفي بما وعد أم لا ؟ فإن قالوا : لم يرد، فيقال : أراد إذن أن يُخلف ما وعد، وذلك وحش من القول وسرف. وإن قالوا : أراد أن يفي بما وعد لزمهم أن يقولوا : أراد أفعالهم التي فعلوا، فيلزمهم قولنا، والله أعلم.
١ في الأصل وم: و..
٢ في الأصل وم: ذكره..
فأهلكهم اللَّه يوم كذا إلا واحدا أو اثنين.
ويحتمل أن يكون ذلك في جميع مكذبيه ورادِّي رسالته ويتأسى أتباعه، ولا شك أن أكثر من بعث هو إليهم كانوا كذلك لهم في الآخرة أو في قوم خاص علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدا؛ ألا ترى أنه قال على أثر ذلك: (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
ثم في قوله. (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ)، وقوله: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) نقض قول المعتزلة ورده عليهم؛ لأنه وعد - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يملأ جهنم بمن ذكر، فيقال لهم: أراد أن يفي بما وعد أم لا؛ فإن قالوا: لم يرد، فيقال: أراد، إذن أن يخلف ما وعد وذلك [وخش من القول سرف].
وإن قالوا: أراد أن يفي بما وعد، لزمهم أن يقولوا: أراد أفعالهم التي فعلوا فيلزمهم قولنا، وباللَّه العصمة.
وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)
يحتمل أن يخرج على التمثيل، ويحتمل على التحقيق: فإن كان على التمثيل، فهو وصفه إياهم بالبخل، والكف عن الإنفاق على الفقراء والمساكين وأهل الحاجة من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو كقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ)، نهاه عن البخل والكف عن الإنفاق كمغلول اليد لا يقدر على الإنفاق، ليس على إرادة غل اليد حقيقة ولكن على ترك الإنفاق؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ذلك وصفًا لهم بالبخل وترك الإنفاق عليهم.
وإن كان على حقيقة الغل والأعناق، يحتمل ما قاله أهل التأويل: إن أبا جهل - لعنه اللَّه - حلف لئن رأى محمدًا ليدمغنه، فأتاه أبو جهل وهو يصلي ومعه حجر، فرفع الحجر؛ ليدفع له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيبست يده إلى عنقه وألزق الحجر بيده، فلما رجع إلى أصحابه قال رجل: أنا أقتله، فأخذ الحجر، فلما دنا منه طمس اللَّه بصره، فلم ير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وسمع قراءته، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه؛ فذلك قوله: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا... (٩)
ويحتمل أن يكون ذلك لهم في الآخرة إن كان على التحقيق؛ وهو كقوله: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ)، وقوله: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)، ونحو ذلك مما ذكر؛ فيكون قوله: (جَعَلْنَا)، أي: سنجعل ذلك لهم، وذلك جائز في الكلام؛ كقوله لعيسى حيث قال: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ)، أي: يقول له يوم القيامة، فهو بعيد غير
505
معقول؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من قوله: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا)، (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا...) إلى آخر ما ذكر في الآخرة، أي: سنجعل لهم في الآخرة ذلك.
ويحتمل أن يكون فعل ذلك لهم في الدنيا من قصدهم برسول اللَّه ما قصدوا، حتى لم يجدوا السبيل إليه لا من بين يديه ولا من خلفه ولا من جهة من الجهات.
أو أن يكون قوله: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) على التمثيل، أي: جعلنا بينهم وبين الحق سدًّا من أمام ومن خلف، فأغشينا أبصارهم فلا يبصرون الحق أبدًا، وذلك في القرآن كثير، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا).
إن الغل يكون طرفه في العنق، وطرفه الآخر في اليد؛ فتكون اليد اليمنى مغلولة إلى العنق، وعلى ذلك ذكر في حرف ابن مسعود أنه قرأ: (إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا)، وفي بعض الحروف: (في أيديهم أغلالا).
وقوله: (فَهُمْ مُقْمَحُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: رافعو رءوسهم إلى السماء؛ لأنه كذلك يكون إذا غل عنق المرء إلى الذقن لا يستطيع أن ينظر في الأرض، وكذلك قيل للإبل إذا شربت الماء: أقمحت، أي: رفعت رأسها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإقماح: هو غض البصر.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: المقمح: الذي يرفع رأسه ويغض بصره، ويقال: غاض طرفه بعد رفع رأسه، جمعت أيديهم إلى أعناقهم.
وقوله: (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ).
قد قرئ بالرفع والنصب والخفض جميعًا: فمن قرأها بالرفع فهو على الابتداء، ومن قرأها بالخفض فهو على النعت؛ كقوله: (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)، ومن قرأ بالنصب فعلى القطع؛ لأن الكلام قد تم دونه.
وقوله: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ).
بالغين والعين جميعًا: فمن قرأ بالغين فهو من الغشاوة، ومن قرأ بالعين فهو من قوله:
506
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨:الآية ٨ وقوله تعالى :﴿ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مُقمَحون ﴾ يحتمل أن يخرّج على التمثيل، ويُحتمل على التحقيق.
فإن كان على التمثيل فهو وصفه إياهم بالبخل والكف عن الإنفاق على الفقراء والمساكين وأهل الحاجة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كقوله :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنقك ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ] نهاه عن البخل والكف عن الإنفاق كمغلول اليد، لا يقدر على الإنفاق، ليس على إرادة غلّ اليد حقيقة، ولكن على ترك الإنفاق. فعلى ذلك جائز أن يكون ذلك وصفا لهم بالبخل وترك الإنفاق عليهم.
وإن كان على حقيقة الغُلّ { في الأعناق[ ١ فيحتمل ما قاله أهل التأويل : إن أبا جهل، لعنه الله، حلف لئن رأى محمدا ليدمغنّه، فأتاه أبو جهل، وهو٢ يصلي، ومعه حجر، ليدفع به النبي صلى الله عليه وسلم، فيبست يده إلى عنقه، والتزق الحجر بيده. فلما رجع إلى أصحابه، قال رجل : أنا أقلته، فأخذ الحجر، فلما دنا منه، طمس الله بصره، فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم وسمع قراءته، فرجع إلى أصحابه، فلم يُبصرهم حتى نادوه.
الآية ٩ فذلك قوله :﴿ وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا ﴾ ويحتمل أن يكون ذلك في الآخرة إن كان على التحقيق، وهو كقوله :﴿ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسحبون ﴾ ﴿ في الحميم ثم في النار يُسجَرون ﴾ [ غافر : ٧١ و٧٢ ] وقوله :﴿ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلال ﴾ [ الزمر : ١٦ ] ونحو ذلك مما ذكر.
فيكون قوله :﴿ وجعلنا ﴾ سنجعل، وذلك١ جائز في الكلام كقوله لعيسى حين٢ قال :﴿ يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] أي يقول له يوم القيامة، فهو بعيد غير مقول.
فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من قوله :﴿ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ﴾ ﴿ وجعلنا من بين أيديهم سدّا ﴾ [ الآيتان : ٨ و٩ ] إلى آخر ما ذكر في الآية٣، أي سنجعل لهم في الآخرة ذلك، ويحتمل أن يكون على٤ ذلك لهم في الدنيا٥ من قصدهم برسول الله ما قصدوا حتى لم يجدوا السبيل إليه لا من بين يديه ولا من خلفه ولا من جهة من الجهات.
[ ويحتمل ]٦ أن يكون قوله :﴿ وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ﴾ على التمثيل، أي جعلنا بينهم وبين الحق من أمام ومن خلف، فأغشينا أبصارهم، فلا يبصرون الحق أبدا. وذلك في القرآن كثير، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان ﴾ إن الغُلّ يكون طرفه في العُنق، وطرفه الآخر في اليد، فتكون اليد اليمنى مغلولة إلى العنق. وعلى ذلك ذُكر في حرف ابن مسعود أنه قرأ إنا جعلنا في أيمانهم٧ أغلالا. وفي بعض الحروف : في أيديهم٨ أغلالا.
وقوله تعالى :﴿ فهم مُقمحَون ﴾ قال بعضهم : رافعو رؤوسهم إلى السماء، لأنه كذلك يكون إذا غُلّ عنق المرء إلى الذقن لا يستطيع أن ينظر في الأرض. ولذلك قيل للإبل إذا شربت الماء اقحمت، أي رفعت رأسها.
وقال بعضهم : الإقماح، هو غض البصر.
وقال أبو عوسجة والقتبيّ : المُقمَح الذي يرفع رأسه، ويغضّ بصره، ويقال : غاض طرفه بعد رفع رأسه، ﴿ فهم مقمحون ﴾ جُمعت أيديهم إلى أعناقهم.
وقوله تعالى :﴿ تنزيل العزيز الرحيم ﴾ قد قرئ٩ بالرفع والنصب والخفض جميعا [ فمن قرأها بالرفع فهو على الابتداء ]١٠ ومن قرأها بالخفض فهو على النّعت كقوله :﴿ والقرآن الحكيم ﴾ تنزيل العزيز الرحيم. ومن قرأ بالنصب فعلى القطع، لأن الكلام قد تمّ دونه.
١ في الأصل وم: والأعناق..
٢ الواو ساقطة من الأصل وم..


وقوله تعالى :﴿ فأغشيناهم ﴾ بالغين والعين جميعا١١. فمن قرأ بالغين فهو من الغشاوة. ومن قرأ بالعين فهو من قوله :﴿ ومن يعشُ عن ذكر الرحمان ﴾ [ الزخرف : ٣٦ ] وهو من الإعراض.
وفي قوله :﴿ وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا ﴾ وجهان من الاستدلال على المعتزلة :/٤٤٤-ب/
[ أحدهما ]١٢ : لقوله :﴿ فأغشيناهم ﴾ أضاف إلى نفسه، وإن كان منهم صنع.
[ والثاني ]١٣ يجوز أن يُستدل بخلق أفعالهم منهم.
١١ انظر معجم القراءات القرآنية ج٥/١٩٨..
١٢ ساقطة من الأصل وم..
١٣ في الأصل وم: و..
الآية ١٠ [ وقوله تعالى :﴿ وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ ]١.
١ ساقطة من الأصل وم..
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ)، وهو من الإعراض.
وفي قوله: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) وجهان من الاستدلال على المعتزلة لقوله: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ) أضاف إلى نفسه وإن كان منهم صنع، ويجوز أن يستدل بخلق أفعالهم منهم.
وقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)
ومن لم يتبع، (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ): ومن لم يخش.
أو إنما ينتفع بالذكر من أتبع الذكر وخشي الرحمن، فأما من لم يتبع الذكر ولم يخش الرحمن فلا ينتفع.
أو أن يكون فيه إخبار بإنذاره من اتبع الذكر، وليس فيه نفي عن إنذار من لم يتبع الذكر ولا تخصيص منه بالإنذار أحد الفريقين دون الآخر، واللَّه أعلم.
والذكر يحتمل القرآن، ويحتمل غيره من الذكرى؛ كقوله: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
وقوله: (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ).
بالغيب: بالآثار والأخبار التي انتهت إليهم من غير مشاهدة وقعت لهم، أو بالغيب بما رأوه من آثار سلطانه وقدرته هابوه وخشوا عذابه ونقمته، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ).
يحتمل البشارة بالمغفرة عما سلف من الذنوب والإجرام إذا رجعوا عنها، أو عن تقصير كان منهم في الفعل في خلال ذلك، وإن اعتقدوا في الجملة ألا يخالفوا ربهم قي فعل ولا في قول؛ إذ كل مؤمن يعتقد في أصل إيمانه ترك مخالفة الرب في كل الأحوال، وإن تخلل في بعض أحواله تقصيرًا ومخالفة الرب بغلبة شهوة أو طمع في عفوه ورحمته.
(وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) قيل: حسن، ويحتمل تسميته: كريمًا؛ لما يكرم كل من نال ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (١٢)
كأنه - واللَّه أعلم - يذكر هذا ليس في موضع الاحتجاج عليهم، ولكن على الإخبار أنه هو محييهم إذا ماتوا.
وقوله: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ).
قال عامة أهل التأويل: نكتب ما قدموا وآثارهم وما أسلفوا في حياتهم وعملوه،
507
ونكتب أيضًا آثارهم وهو ما سنوا من سنة من خير أو شر فاقْتُدي بهم من بعد موتهم، على ما ذكر في الخبر: " إن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة، فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء "؛ وهو كقوله أيضًا: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَآثَارَهُمْ) أي: خطاهم التي خطوها في الخير والشر.
وقال قتادة: لو كان اللَّه مغفلا شيئًا من شأنك يا ابن آدم، أغفل ما تعفى الرياح من هذه الآثار، وروي على هذا عن ابن عَبَّاسٍ وأبي سعيد الخدري - رضي اللَّه عنهما - قالا: " إن الأنصار كانت منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريبًا من المسجد، فنزل: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن آثاركم تكتب "؛ فلم ينتقلوا، فإن ثبت هذا فهو دليل لمن يقول بالآثار: الخُطَا.
وقوله: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ).
أي: كل شيء من أعمالهم من خير أو شر محصى محفوظ (فِي إِمَامٍ مُبِينٍ).
يحتمل قوله: (فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)، أي: في الكتاب الذي تكتب فيه، أعمالهم في الدنيا؛ كقوله: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)، أي: بكتابهم الذي كتبت أعمالهم فيه؛ ألا ترى أنه قال: [(فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ...)] الآية.
ويحتمل (فِي إِمَامٍ مُبِينٍ): في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (١٥) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٧)
508
الآية ١٢ وقوله تعالى :﴿ إنا نحن نحي الموتى ﴾ كأنه، والله أعلم، يذكر هذا ليس في موضع الاحتجاج عليهم، ولكن على أنه هو محييهم إذا ماتوا.
وقوله تعالى :﴿ ونكتب ما قدّموا وآثارهم ﴾ قال عامة أهل التأويل :﴿ ونكتب ما قدّموا ﴾ [ من خير أو ]١ شر في حياتهم عملوه٢ [ وآثارهم ] ونكتب أيضا آثارهم، وهو ما سنّوا من سُنّة خير أو شر، فاقتُدي بهم بعد موتهم على ما ذُكر في الخبر : أن ( من سنّ سُنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن يُنقص من أجورهم شيء. ومن سنّ سنّة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) [ مسلم : ١٠١٧ ] وهو كقوله أيضا :﴿ يُنبّأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخّر ﴾ [ القيامة : ١٣ ].
وقال بعضهم :﴿ وآثارهم ﴾ أي خُطاهم التي خطوها في الخير والشر. وقال قتادة : لو كان الله مغفلا شيئا من شأنك يا ابن آدم لأغفل ما تُعفي الرياح من هذه الآثار. .
وروي على هذا عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله عنه [ أنهما ]٣ قالا :( إن الأنصار كانت منازلهم بعيدة من المسجد، فأرادوا أن ينتقلوا قريبا من المسجد، فنزل ﴿ ونكتب ما قدّموا وآثارهم ﴾ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن آثارهم تكتب، فلم تنتقلون ؟ ) [ الترمذي ٣٢٢٦ ] فإن ثبت هذا فهو دليل لمن يقول الآثار بالخُطا.
وقوله تعالى :﴿ وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ﴾ أي كل [ شيء ]٤ من أعمالهم من خير وشر مُحصى محفوظ ﴿ في إمام مبين ﴾ يحتمل :﴿ في إمام مبين ﴾ أي في الكتاب الذي نكتب [ فيه ]٥ أعمالهم في الدنيا كقوله :﴿ يوم ندعوا كل أناس بإمامهم ﴾ [ الإسراء : ٧١ ] أي بكتابهم الذي كتبت أعمالهم فيه.
ألا ترى أنه قال :﴿ فمن أوتي كتابه بيمينه ﴾ ؟ الآية [ الإسراء : ٧١ ] ويحتمل ﴿ في إمام مبين ﴾ في أمّ الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، والله أعلم.
١ في الأصل: وم: و..
٢ في الأصل وم: وعملوه..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
٥ ساقطة من الأصل وم..
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
وقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣)
يحتمل الأمر لرسوله بضرب مثل أصحاب القرية لقومه وجهين:
أحدهما: أن الخبر قد كان بلغ هَؤُلَاءِ، أعني: خبر أصحاب القرية التي بعث إليهم الرسل، وما نزل بهم بتكذيبهم الرسل وسوء معاملتهم إياهم، إلا أنهم قد نسوا ذلك وغفلوا عنه، فأمرهم بالتذكير لهم والتبيين؛ ليحذروا عن مثل صنيعهم وسوء معاملتهم رسولهم.
والثاني: يحتمل أن لم يكن بلغهم خبر أُولَئِكَ وما نزل بهم بسوء معاملتهم الرسول، فأمره أن يعلم قومه ذلك ويبين لهم، فيسألون عن ذلك أهل الكتاب، فيخبرونهم بما كان في كتبهم؛ فيعرفون صدق رسول اللَّه فيما يخبرهم، فيكونون على حذر عن مثل صنيعهم ومعاملتهم الرسل؛ وعلى ذلك تخرج هذه الأنباء والقصص المذكورة في الكتاب على هذين الوجهين، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) أي: قوينا بثالث، اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن عيسى ابن مريم كان بعث إليهم أولا رسولا فأتاهم، فدعاهم إلى التوحيد، وأقام على ذلك حججًا وبراهين، فكذبوه وقالوا: ما نعرف ما تقول، ثم بعث من بعده رسولين فقال لهما ذلك الرسول: إنهم سيكذبونكما كما كذبوني قبلكما وسيقولون لكما إذا دعوتماهم إلى التوحيد: ماذا تحسنان؛ فإذا قلتما: نبرئ الأكمه والأبرص، قالوا: فينا من يحسن ذلك، فإن قلتما: نشفي المريض، قالوا: فينا من يحسن ذلك ونحوه، ولكن قولا أنتما: نحيي الموتى، وأنا أقول لهم: إني لا أحسن أنا؛ فهو قوله: (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) أي: قوينا وشددنا بثالث، ففعلوا ذلك فقالوا عند ذلك: قد تواشيتم علينا بهذا الكلام، أو تواطأتم، أو كلام نحوه، فأخذوا وعذبوا وأهلكوا؛ وهو قول ابن عباس، رضي، اللَّه عنه.
ومنهم من يقول: بعث أولا رسولان فكذبوهما، فبعث ثالث بعد ذلك (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ)، أي: عززنا الرسولين بثالث، أي: قويناهما.
الآية ١٤ وقوله تعالى :﴿ إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذّبوهما فعزّزنا بثالث ﴾ اختُلف فيه :
قال بعضهم : إن عيسى ابن مريم كان بعث إليهم أولا رسولا، ودعاهم إلى التوحيد، وأقام على ذلك حججا وبراهين، فكذّبوه، وقالوا : ما نعرف ما تقول.
ثم بعث من بعده رسولين، فقال لهما ذلك الرسول : إنهم سيكذّبونكما كما كذّبوني قبلكما، وسيقولان لكما : إذا دعوتماهم إلى الوحيد، ماذا تحسنان ؟
فإن قلتما : نبرئ الأكمه والبرص، قالوا : فينا من يحسن ذلك. فإن قلتما : نشفي المريض، قالوا : فينا من يحسن ذلك ونحوه. ولكن قولا أنتما :[ نحن ]١ نحيي الموتى، وأنا أقول لهم : إني [ لأُحسِن ذلك، وهو ]٢ قوله :﴿ فعزّزنا بثالث ﴾ أي قوَّينا، وشدّدنا بثالث. ففعلوا ذلك. فقالوا عند ذلك : قد تواسيتم علينا بهذا الكلام، تواطأتم، أو كلاما نحوه. فأُخذوا، وعُذّبوا، وأُهلكوا، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه.
ومنهم من يقول : بعث أولا رسولين٣، فكذّبوهما، فبعث بثالث بعد ذلك ﴿ فعزّزنا بثالث ﴾ أي عزّزنا الرسولين بثالث، أي قوّيناهما.
وقرأ بعضهم : عززنا بالتخفيف٤، أي غلبنا. لكن ذُكر أنهم قُتلوا جميعا، وأهلكوا، أعني الرسل، فكيف يكون الغالب مقتولا مُهلَكا ؟ ويجوز أن يكون المقتول مقوّيا ؟ دل أن قراءة من يقرأ بالتخفيف [ ضعيفة، والأولى ]٥ أقوى وأقرب، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فقالوا إنا إليكم مرسلون ﴾.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: لا أحسن أنا فهو..
٣ في الأصل وم: رسولا..
٤ انظر معجم القراءات القرآنية ح٥/١٩٩..
٥ في الأصل وم: ضعيف والأول..
وقرأ بعضهم: (عَزَزْنا) بالتخفيف، أي: غلبنا.
لكن ذكر أنهم قتلوا جميعًا وأهلكوا - أعني: الرسل - فكيف يكون الغالب مقتولا مهلكًا؟!
ويجوز أن يكون المقتول مقويا؛ دل أن قراءة من يقرأ بالتخفيف ضعيف والأول أقوى وأقرب، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (١٥)
وكذلك قول أهل مكة لرسول اللَّه: إنه ساحر وإنه مجنون وإنه مفتر مختلق، وقولهم: (وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ).
وقوله: (رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦)
لما أيسوا من إيمانهم وتصديقهم إياهم، فزعوا إلى اللَّه، وتضرعوا إليه.
أو أن يقولوا بأن اللَّه أعلم بما أطلعكم بأنا إليكم لمرسلون بالحجج والآيات.
وقوله: (وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٧)
أي: ليس علينا من ترك إجابتكم لنا ورد الرسالة شيء، إنما ذلك عليكم.
وقوله: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨)
دل هذا القول منهم على أنه قد نزل شيء من العذاب والشدة حتى تشاءموا بهم ذلك ولم يزل عادة الكفرة التطير بالرسل عند نزول البلاء بهم؛ كقوله: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ)، وقوله: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ...) الآية.
وقوله: (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
يقول - واللَّه أعلم -: شؤمكم معكم حيثما كنتم ما دمتم على ما أنتم عليه من العناد والتكذيب، ويذكر أهل التأويل: أن القرية كانت أنطاكية وأن الذي بعث هَؤُلَاءِ الرسل إليهم عيسى - صلوات اللَّه عليهم أجمعين - ولكن لا نعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.
وقوله: (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: تشاؤمكم معكم أين كنتم وحيثما كنتم، ما دمتم على ما أنتم عليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: طائركم معكم إذ ذكرتم فلم تقبلوا التذكير ونحوه.
الآية ١٦ وقوله تعالى :﴿ قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمُرسَلون ﴾ لما أيسوا من إيمانهم وتصديقهم إياهم فزعوا إلى الله، وتضرّعوا إليه [ وقالوا : إن ]١ الله أعلم بما نطلعكم٢ بأنا إليكم مرسلون بالحجج والآيات.
١ في الأصل وم: أو أن يقولوا..
٢ في الأصل وم: أطلعكم..
الآية ١٧ وقوله تعالى :﴿ وما علينا إلا البلاغ المبين ﴾ أي ليس علينا من ترك إجابتكم لنا وردّ الرسالة شيء، إنما ذلك عليكم.
الآية ١٨ وقوله تعالى :﴿ قالوا إنا تطيّرنا بكم ﴾ دل هذا القول منهم على أنه قد نزل شيء من العذاب والشدة حتى تشاءموا بهم. ذلك، ولم تزل عادة الكفرة التّطيُّر بالرسل عند نزول البلاء بهم كقوله :﴿ قالوا اطّيّرنا بك وبمن معك ﴾ [ النمل : ٤٧ ]. وقوله :﴿ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه ﴾ الآية [ الأعراف : ١٣١ ].
الآية ١٩ وقوله تعالى :﴿ قالوا طائرُكم معكم ﴾ يقول، والله أعلم : شؤمكم معكم حيث كنتم ما دمتم على ما أنتم عليه من العناد والتكذيب.
ويذكر أهل التأويل أن القرية كانت أنطاكية، وأن الذي بعث هؤلاء الرسل عيسى، صلوات الله عليهم أجمعين، ولكن لا نعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.
وقوله تعالى :﴿ قالوا طائركم معكم أئن ذُكّرتم بل أنتم قوم مسرفون ﴾ قال بعضهم : تشاؤمكم معكم أين كنتم ؟ وحيثما كنتم ما دمتم على ما أنتم عليه. وقال بعضهم :﴿ قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم ﴾ فلم تقبلوا التذكير، ونحوه.
ويحتمل وجها آخر [ وهو ]١ أن الذي أصابكم كان مكتوبا في أعناقكم أإن وُعظتم بالله /٤٤٥-أ/ تطيّرتم بنا ؟ ﴿ بل أنتم قوم مسرفون ﴾.
١ ساقطة من الأصل وم..
ويحتمل وجهًا آخر: أن الذي أصابكم كان مكتوبًا في أعناقكم، أئن وعظتم بالله تطيرتم بنا (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ).
* * *
قوله تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (٢٩) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٣٢)
وقوله: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).
قال عامة أهل التأويل: إن هذا الرجل يسمى: حبيب النجار، وهو من بني إسرائيل، كان في غار يعبد اللَّه، فلما سمع بالرسل، نزل وجاء، فقال ذلك ما قال، لكن لا ندري من كان؟ وليس لنا إلى معرفة اسمه حاجة.
ثم يحتمل قوله: (مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) رغبة في الرسل وفي دينهم فدعاهم إلى اتباع الرسل.
أو أن يكون كان مؤمنًا مسلمًا مختفيًا، فلما بلغه خبر إهلاك الرسل، جاء يسعى؛ إشفاقًا عليهم؛ لئلا يهلكوا - أعني: الرسل - فقال: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) أي: اتبعوا الهدى، والهدى مما يجب أن يتبع، ولا يسألكم على اتباع الهديَ أجرًا؛ فيمنعكم الأجر عن اتباع الهدى.
أو أن يقول: اتبعوا المرسلين، واعلموا أنهم مهتدون حيث لا يسألونكم أجرًا وهم مهتدون في الدنيا ولا العز؛ إذ كل من لا يسأل هذا فهو مهتد، وكل مهتد متبع، وهذا يدل أن طلب الأجر في ذلك مما يجعل صاحبه معذورًا في ترك الاتباع؛ وكذلك قوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)، أي: لا يسألكم أجرًا حتى يمنعكم ثقل الأجر عن إجابتها واتباعه، وهذا ينقض ويبطل قول من يبيح أخذ الأجر على تعليم القرآن
الآية ٢١ [ وقال :]١ ﴿ اتّبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ﴾ أي اتّبعوا الهدى، والهدى مما يجب أن يُتّبع، ولا يسألكم على اتباع الهدى أجرا، فيمنعكم الأجر عن اتّباع الهدى.
[ ويحتمل ]٢ أن يقول :﴿ اتبعوا المرسلين ﴾ واعلموا أنهم مهتدون حين٣ لا يسألونكم الأجر ﴿ وهم مهتدون ﴾ في الدنيا ولا العزّ، إذ كل من لا يسأل هذا فهو مهتد [ وكل مهتد ]٤ مُتّبَع، وهذا يدل أن طلب الأجر في ذلك مما يجعل صاحبه معذورا في ترك الاتّباع، وكذلك قوله :﴿ وهم مهتدون ﴾ [ الطور : ٤٠ والقلم : ٤٦ ] أي لا يسألكم أجرا حتى يمنعكم ثقل الأجر عن إجابته واتباعه.
وهذا ينقُض، ويُبطل قول من يبيح أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم لأنه إذا كان له ألا يعلّم إلا بالأجر كان له ألا يعلّم بكل أجر. ففي ذلك إبطال الدين وجعل الرخصة لهم في ترك ذلك، وذلك سَمْج قبيح، والله أعلم.
١ في الأصل وم: أو..
٢ في الأصل وم: أو..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
والعلم؛ لأنه إذا كان له ألا يعلم إلا بالأجر كان له ألا يعلم بكل أجر، ففي ذلك إبطال الدِّين وجعل الرخصة لهم في ترك ذلك، وذلك سمج قبيح، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)
يخرج على وجهين:
أحدهما: على الاحتجاج عليهم بعد سؤال كان من أُولَئِكَ له في الرجوع إلى عبادة من يعبدونه دون اللَّه وترك عبادة اللَّه، فقال: إنكم تعبدون هذه الأصنام رجاء أن يقربكم ذلك إلى اللَّه زلفى، وما لي لا أعبد الذي ترجون أنتم الزلفى والقربة منه؟! والثاني: على التذكير والتنبيه لهم: أنتم تعلمون أن الذي فطرنا وخلقنا هو المستحق للعبادة لا من لم يفطر ولم يخلق، ثم تعلمون أن اللَّه هو فطرنا وخلقنا لا الأصنام التي تعبدونها، وما لي لا أعبد الذي فطرنا وأترك الذي لم يفطرنا؟! واللَّه أعلم.
وقوله: (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (٢٣)
يقول: أأتخذ من دون اللَّه معبودا لو أراد اللَّه بي ضرا لم يملك ذلك المعبود دفع ذلك عني، ولو نزل بي شدة أو بلاء منه، لم يقدر استنقاذي منه، ولو طلبت منه جر نفع لم يقدر على جلبه إليَّ، وأترك عبادة من أعلم أن ذلك كله منه، وهو المالك لذلك كله: من جر نفع، ودفع ضر وبلاء، وفي الحكمة: العبادة لمن يملك ذلك كله لا لمن لا يملك، وباللَّه التوفيق.
وقوله: (إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤)
أي: لو فعلت ذلك فإذن كنت في ضلال مبين، فذكر أنه لما قال لهم ذلك أمر بقتله، فعند ذلك قال: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) يحتمل قوله: (فَاسْمَعُونِ) أي: أجيبوني في قولي: (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَاسْمَعُونِ)، أي: اشهدوا لي.
ويحتمل قوله: (فَاسْمَعُونِ) حقيقة السماع، أي: اسمعوا قولي وإيماني، لا يمنعني عنه ما تخوفونني، واللَّه أعلم.
وقوله: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ... (٢٦)
الآية ٢٣ وقوله تعالى :﴿ أأتخذ من دونه آلهة إن يُردنِ الرحمان بضر لا تُغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذونِ ﴾ يقول : أأتخذ من دون الله معبودا ؟ لو أراد الله بي ضرّا لم يملك ذلك المعبود دفع ذلك عني، ولو نزل١ بي شدة أو بلاء منه لم يقدر [ على ]٢ استنقاذي منه، ولو طلبت منه جرّ نفع لم يقدر على جلبه إليّ، وأترك عبادة من أعلم أنه ذلك منه، وهو المالك لذلك كله : من جر نفع ودفع ضُرّ وبلاء ؟ وفي الحكمة العبادة لمن يملك، وبالله التوفيق.
١ من م، في الأصل: أنزل..
٢ ساقطة من الأصل وم..
الآية ٢٤ وقوله تعالى :﴿ إني إذا لفي ضلال مبين ﴾ أي لو فعلت ذلك فإذن كنت في ضلال مبين. فذُكر أنه لما قال لهم ذلك أُمر بقتله.
الآية ٢٥ فعند ذلك قال :﴿ إني آمنت بربكم فاسمعون ﴾ يحتمل قوله :﴿ فاسمعون ﴾ أي اشهدوا لي. ويحتمل قوله :﴿ فاسمعون ﴾ حقيقة السماع، أي اسمعوا قولي وإيماني : لا يمنعني عنه ما تخوّفونني، والله أعلم.
الآية ٢٦ وقوله تعالى :﴿ قيل ادخُلِ الجنة ﴾ قال بعضهم : أي أوجبت له الجنة. وأُري الثواب. فقال عند ذلك :﴿ يا ليت قومي يعلمون ﴾ ﴿ بما غفر لي ربي ﴾ الآية. ويحتمل دخول الجنة ما ذكر للشهداء [ عز وجل بقوله ]١ :﴿ بل أحياء عند ربهم يرزقون ﴾ ﴿ فرحين ﴾ الآية [ آل عمران : ١٦٩ و١٧٠ ] وأن يكون قوله :﴿ قيل ادخل الجنة ﴾ أن يقال له في الآخرة كقوله لعيسى ابن مريم :﴿ يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] وإنما هو أن يقال له يومئذ. فعلى ذلك يحتمل الأول.
١ ساقطة من الأصل وم..
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي أوجبت له الجنة وما ذكر للشهداء وأُري الثواب؛ فقال عند ذلك: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي...) الآية.
ويحتمل دخول الجنة ما ذكر للشهداء: (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ) الآية.
أو أن يكون قوله: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) وأن يقال له في الآخرة كقوله لعيسى ابن مريم: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي)، وإنما هو أن يقال له يومئذ؛ فعلى ذلك يحتمل الأول.
وقوله: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)
قيل: إنه نصحهم حيًّا وميتًا، ولم يترك نصحهم لمكان ما عملوا وفعلوا به من السوء وأنواع التعذيب، ولكن تمنى أن ليت قومي أن يكونوا يعلمون ما أعطي هو بالإيمان بربه والتصديق برسله؛ ليعطوا مثل ما أعطي هو، وهكذا الواجب على كل مؤمن ألا يترك النصيحة لجملة المؤمنين، وإنْ لحقه منهم أذى أو سوء.
وقال قتادة: ولا يلقى المؤمن إلا ناصحًا، ولا يلقى غاشًّا؛ لما عاين ما عاين من كرامة اللَّه، قال: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) تمني واللَّه أن يعلم قومه ذلك؛ ليعلموا أن أهل الإيمان ليسوا بأهل غش ولا نذالة لعباده.
وقال: قيل لروحه: ادخل الجنة، فتمنى روحه أن يعلموا إلى ما صار هو، ليؤمنوا بالرسل ولا يكذبهم.
وقوله: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨)
أي: من بعد قتل ذلك الرجل (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ): من الملائكة، أي: لم ننزل على قومه في هلاكهم بعد صنيعهم بمكانه وإهلاكهم إياه - جندا من السماء، ولكن أهلكوا بصيحة واحدة، أي: لم نفعل بهم كما يفعل ملوك الأرض إذا قتل رسلهم وأهلك أولياؤهم، يبعثون بجنود في استئصال من فعل ذلك بهم، ولكن أهلكهم بصيحة واحدة.
ثم يحتمل قوله: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً... (٢٩) أي: قدر صيحة واحدة، أي: أهلكوا بقدر صيحة واحدة في سرعتها.
ويحتمل الإهلاك بالصيحة، أي: أهلكوا بالصيحة، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ).
قيل: موتى مثل النار إذا خمدت وطفئت، لا يسمع لها صوت.
الآية ٢٨ وقوله :﴿ وما أنزلنا على قومه من بعده من جُندٍ من السماء وما كنا مُنزِلين ﴾ أي من بعد قتل هذا الرجل ﴿ من جُند من السماء ﴾ من الملائكة، أي لم نُنزل على قومه في إهلاكهم بعد صنيعهم بمكانهم وإهلاكهم إياه جندا من السماء. ولكن أهلكوا بصيحة واحدة، أي لم يفعل بهم كما يفعل ملوك الأرض إذا قُتل رسلهم، وأهلك أولياؤهم، يبعثون بجنود لاستئصال من فعل ذلك بهم، ولكن أهلكهم بصيحة واحدة.
الآية ٢٩ ثم يحتمل قوله :﴿ إن كانت إلا صيحة واحدة ﴾ أي قدر صيحة واحدة، أي أهلكوا بقدر صيحة واحدة في سرعتها. ويحتمل الإهلاك بالصيحة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فإذا هم خامدون ﴾ قيل موتى مثل النار إذا خمدت، وطُفئت، لا يسمع لها صوت.
وقوله: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ... (٣٠)
في تركهم الإيمان باللَّه وتكذيبهم الرسل واستهزائهم بهم، والحسرة: قال بعض أهل الأدب: هي الغاية من الندامة، إذا انتهت الندامة غايتها يقال: حسرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحسرة: الحزن والتحزن والتندم؛ وهو واحد.
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ): أي: يا حسرة الرسل على ذلك المؤمن المقتول على الإيمان بهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يا حسرة أُولَئِكَ الكفرة على أنفسهم إذا عاينوا العذاب على ما كان منهم من الاستهزاء على الرسل؛ كقوله: (يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا)، وقوله: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (٣١)
فَإِنْ قِيلَ: كيف احتج عليهم بالرجوع إليهم وهم كانوا ينكرون البعث والرجوع بعد الموت؟! فهو يخرج على وجوه:
أحدها: (أَلَمْ يَرَوْا) أي: قد رأى أهل مكة هلاكهم في الدنيا وأنهم إليهم لا يرجعون أحياء، فيخبرونهم أنهم بم أهلكوا في هذه الدنيا؟ وبماذا عذبوا فيها؟ فهلا يعتبرون وينظرون أنهم إنما أهلكوا بتكذيب الرسل فيرتدعوا عن ذلك.
(وَإِنْ كُلٌّ) يعني الأمم كلها، يقول - واللَّه أعلم -: وما كل إلا جميع لدينا محضرون في الآخرة.
أو يقول: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ) بالتكذيب للرسل من القرون أنهم إليهم لا يرجعون أبدًا حتى يوم القيامة، وهما واحد.
أو أن يكون ذلك يخرج على إبطال قول أهل التناسخ حيث قالوا: إن الأرواح إذا خرجت من أبدان قوم دخلت في أخرى، فيقول - واللَّه أعلم - ردّا عليهم: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ)؛ إذ لم ير روحًا، أخبر أنه خرج من جسد هذا ودخل في آخر.
أو أن يكون ذلك يخرج على نقض قول قوم وهو ما ذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنه سئل فقيل: إن ناسًا يقولون: إن عليّا مبعوث قبل يوم القيامة، ثم قال: " بئس القوم نحن إذا كنا نكحنا نساءهم وقسمنا ميراثهم، ثم تلا: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ
الآية ٣١ وقوله تعالى :﴿ ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون ﴾ فإن قيل : كيف احتج عليهم بالرجوع إليهم، وهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت ؟ قيل١ : يخرّج على وجوه :
أحدها : ألم يروا ؟ أي قد رأى أهل مكة هلاكهم في الدنيا، و﴿ أنهم إليهم لا يرجعون ﴾ أحياء، فيُخبروهم أنهم بماذا أُهلكوا في هذه الدنيا، وبماذا عذّبوا، [ فهلاّ ]٢ يعتبرون، وينظرون، أنهم إنما أُهلكوا بتكذيب الرسل، فيرتدعوا عن ذلك.
١ في الأصل وم: فهو..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ) ".
أو أن يكون. على إيجاب البعث أن من كذب الرسل ومن صدقهم ومن عمل ما يحمد عليه وما يذم، قد استووا جميعًا في هذه الدنيا، فلابد من دار أخرى يميز بينهما، بين المصدق وبين المكذب، وبين المحمود والمذموم، يؤيد ذلك قوله: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٣٢) وقوله: (لَدَيْنَا) و (عِندَنَا) ونحوه من الظروف خصها بذلك الاسم وإن كانوا في جميع الأوقات كذلك؛ لما ذكرنا أن المقصود من إنشاء هذه تلك ومن هذا العالم الفاني ذلك العالم الباقي؛ إذ لو لم يكن تلك ولا ذلك العالم البافي، لم يكن إنشاء هذه حكمة؛ لأنه يحصل الإنشاء والخلق على الإفناء خاصة وإحداث الشيء للإفناء خاصة لا لعاقبة تقصد عبث باطل.
* * *
قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣٦)
وقوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا).
جائز أن يكون قوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ) أي: آية البعث لهم ما رأوا الأرض ميتة في وقت يابسة لا نبات فيها ولا شيء، ثم رأوها حيّة مخضرة متزينة بأنواع النبات، متلونة بألوان الخارج منها، فيخبر أن من قدر على هذا لقادر على إحياء الموتى بعد ما بليت أجسادهم وصاروا رمادًا، وأن من قدر على هذا لا يعجزه شيء، ولا يصعب عليه شيء، فهذه آية ظاهرة على البعث مشاهدة محسوسة.
وفيه آية يحتاج إلى أن تستخرج منها بالحكمة وهو ما ذكر (وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ): أنه لما أخرج من الأرض حبًّا، وجعل غذاءهم فيه من غير أن يستوجبوا ذلك منه؛ دل أنه إنما جعل ذلك؛ ليمتحنهم بأنواع المحن على علم منه أنّ منهم من يشكر ومنهم من يكفر، وقد سوى بينهم في هذه بين الكافر منهم وبين الشاكر، فلابد من دار أخرى فيها يقع التمييز بينهم: الثواب للشاكر، والعقاب للكافر؛ إذ في الحكمة التفريق لا الجمع، وعلى ذلك ما ذكر من جعل الجنان لهم والنخيل والأعناب وتفجير العيون وغيره، وذكر في آخره: (أَفَلَا يَشْكُرُونَ) رَبَّ هذه النعم كلها.
الآية ٣٣ وقوله تعالى :﴿ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًّا فمنه يأكلون ﴾ جائز أن يكون قوله :﴿ وآية لهم ﴾ أي : آية البعث لهم ما رأوا الأرض الميتة في وقت يابسة، لا نبات فيها، ولا شيء، ثم رأوها حيّة مخضرّة متزيّنة بأنواع النبات متلوّنة بألوان الخارج منها، فيُخبر إن من قدر على هذا لقادر على إحياء الموتى بعد ما بليت أجسادهم، وصاروا رمادا، وإن من قدر على هذا لا يعجزه شيء، ولا يصعب عليه شيء. فهذه آية ظاهرة على البعث مشاهدة محسوسة.
وفيه آية يُحتاج إلى أن يستخرج منها الحكمة، وهو ما ذكر ﴿ وأخرجنا منها حبًّا فمنه يأكلون ﴾ أنه لما أخرج من الأرض حبا، وجعل غذاءهم فيه من غير أن يستوجبوا ذلك منه، دل أنه إنما جعل ليمتحنهم بأنواع المحن على علم منه أن منهم من يشكر، ومنهم من يكفر، وقد سوّى بينهم في هذه بين الكافر منهم وبين الشاكر، فلا بد من دار أخرى، فيها يقع التمييز بينهم : الثواب للشاكر، والعقاب للكافر، إذ في الحكمة التفريق لا الجمع. وعلى ذلك ما ذكر من جعل الجنان لهم والنخيل والأعناب وتفجير العيون وغيره.
الآيتان ( ٣٤ و٣٥ ) وهو قوله تعالى :﴿ وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجّرنا فيها من العيون ﴾ ١ ذكر في آخره :﴿ أفلا يشكرون ﴾ رب هذه النعم كلها ؟
[ ويحتمل ]٢ أن يكون وجه الدلالة فيه من وجه آخر، وهو أنه لما أنشأهم، وعلم ما يصلُح لهم من الغذاء وما لا يصلح لهم وما يكون لهم من غذاء وما لا يكون قبل أن يُنشئهم، دل أنه عالم بذاته قادر لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء. أو أن يكون لما أنشأ هذه الأشياء التي ذكر لهم لا يحتمل أن يتركهم سدى، لا يمتحنهم بشيء، ولا يأمرهم بشيء، ولا ينهى عن شيء. فإن ثبتت المحنة ثبت البعث، وظهر الثواب والعقاب.
وفي قوله :﴿ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًّا ﴾ إلى آخر ما ذكر من أنواع الفواكه والثمار وغيرها آية الوحدانية له والألوهية، ودلالة الجود والكرم له ليرغبوا فيه، ويطمعوا منه، ودلالة العدل له والسلطان ليهابوه، ودلالة البعث لما ذكرنا، ودلالة أن هذه النّعم منه ليشكروه حين٣ قال في آخره ﴿ أفلا يشكرون ﴾ والله أعلم.
١ في الأصل وم: و..
٢ في الأصل وم: أو..
٣ في الأصل وم: حيث..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:الآيتان ( ٣٤ و٣٥ ) وهو قوله تعالى :﴿ وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجّرنا فيها من العيون ﴾ ١ ذكر في آخره :﴿ أفلا يشكرون ﴾ رب هذه النعم كلها ؟
[ ويحتمل ]٢ أن يكون وجه الدلالة فيه من وجه آخر، وهو أنه لما أنشأهم، وعلم ما يصلُح لهم من الغذاء وما لا يصلح لهم وما يكون لهم من غذاء وما لا يكون قبل أن يُنشئهم، دل أنه عالم بذاته قادر لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء. أو أن يكون لما أنشأ هذه الأشياء التي ذكر لهم لا يحتمل أن يتركهم سدى، لا يمتحنهم بشيء، ولا يأمرهم بشيء، ولا ينهى عن شيء. فإن ثبتت المحنة ثبت البعث، وظهر الثواب والعقاب.
وفي قوله :﴿ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًّا ﴾ إلى آخر ما ذكر من أنواع الفواكه والثمار وغيرها آية الوحدانية له والألوهية، ودلالة الجود والكرم له ليرغبوا فيه، ويطمعوا منه، ودلالة العدل له والسلطان ليهابوه، ودلالة البعث لما ذكرنا، ودلالة أن هذه النّعم منه ليشكروه حين٣ قال في آخره ﴿ أفلا يشكرون ﴾ والله أعلم.
١ في الأصل وم: و..
٢ في الأصل وم: أو..
٣ في الأصل وم: حيث..

أو أن يكون وجه الدلالة فيه من وجه آخر: وهو أنه لما أنشاهم وعلم ما يصلح لهم من الغذاء وما لا يصلح لهم ما يكون لهم من غذاء، وما لا يكون قبل أن ينشئهم؛ دل أنه عالم بذاته قادر لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء.
أو أن يكون لما أنشأ هذه الأشياء التي ذكر لهم لا يحتمل أن يتركهم سدى، لا يمتحنهم بشيء ولا يأمرهم بشيء ولا ينهى عن شيء، فإن ثبت المحنة ثبت البعث وظهر الثواب والعقاب.
وفي قوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا...) إلى آخر ما ذكر من أنواع الفواكه والثمار وغيرها - آية الوحدانية له والألوهية، ودلالة الجود والكرم له؛ ليرغبوا فيه ويطمعوا منه، ودلالة العدل له والسلطان ليهابوه، ودلالة البعث؛ لما ذكرنا، ودلالة أن هذه النعم منه؛ ليشكروه حيث قال في آخره: (أَفَلَا يَشْكُرُونَ)، والله أعلم.
وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣٦)
من الناس من يقول: إن الأزواج هي التي لها مقابل من الأشكال والأضداد مما للخلق فيه فعل ومما لا صنع لهم فيه، حيث قال: (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ)، ويستدل بذلك على خلق أفعال العباد، وهو ما قال: (خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا)، ومن الأزواج ما يكون فعلا لهم، وقد أخبر أنه خلقها كلها دل أنه خالق أفعالهم، والله أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
وقوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ).
في ذلك آيات من وجوه:
أحدها: آية القدرة على البعث والإحياء بعد الموت.
والثاني: آية الوحدانية له والألوهية.
والثالث: آية العلم الذاتي له والتدبير الأزلي.
أما دلالة البعث فهو ما ذكر من جعل ما هو ليل نهارًا، ومن جعل ما هو نهار ليلا بعد ذهاب أثر هذا بكليته حتى لا يبقى منه شيء، ومجيء الآخر وانثزاع هذا من هذا وإدخاله
516
في الآخر دلالة أنه قادر بذاته، لا يعجزه شيء، وله قدرة ذاتية لا مكتسبة مستفادة، فمن قدر على هذا قادر على الإحياء بعد الموت؛ إذ الإحياء بعد الموت ليس بأبعد مما ذكرنا من جعل الليل نهارًا وجعل النهار ليلًا، والأعجوبة في هذا إن لم تكن أكثر - أعني: في جعل الليل نهارًا، وجعل النهار ليلا وإدخال أحدهما في الآخر - ليست بدون الإحياء بعد الموت، فإذا كان كذلك دل أنه قادر بذاته لا بإقدار من غيره؛ فلا يعجزه شيء، ولا قوة إلا باللَّه.
وأما دلالة الوحدانية فهو إنشاء الدهر من أول إنشائه إلى آخر ما ينتهي إليه، وإجراؤه على مجرى واحد وسنن واحد من الليل والنهار وإدخال هذا في هذا، وهذا في هذا - دلالة أنه فعل واحد؛ إذ لو كان فعل عدد، لكان إذا أتى أحدهما بالليل غلب على الآخر، فلا يقدر المغلوب على إتيان النهار بعد ذلك وغلبه صاحبه وقهره، وكذلك منشئ النهار إذا غلب على منشئ الليل لهم به على إتيانه بالآخر وغلبه عليه، ويمنع كل واحد منهما صاحبه عن إدخال شيء مما أنشأه هو فيما أنشأه الآخر، فإذا لم يكن ما ذكرنا دل أنه واحد وهو رد على الثنوية.
وأما دلالة العلم الذاتي والتدبير الأزلي هو إجراء الدهر من أول ما أنشأه على تقدير حاجة أهله - أعني: حاجة أهل الدهر - وعلى تقدير منافعهم واتساقه على أمر واحد على غير تغير وتفاوت يقع في ذلك، أو تفاضل إلى ما ينتهي إليه وينتهي حاجتهم ومنافعهم - دل أنه كان لم يزل عالمًا بحوائجهم ومنافعهم حيث أجرى الدهر على تقدير حوائجهم وتدبير منافعهم، وأن له علمًا ذاتيا وتدبيرًا أزليا لا علمًا مكتسبا ومستفادا، وأن له القدرة والسلطان حيث لم يقدر أحد أن يدفع ظلمة الليل عن نفسه إذا احتاج إلى النهار، ولا ملك دفع النهار إذا وقعت الحاجة في الليل، ولا يقدر أحد أن يأتي بأحدهما مكان الآخر بل في وقت آخر؛ بل أظلم الليل والخلائق كلهم، وستر عليهم كل شيء شاءوا أو أبوا، وأضاء لهم النهار على كل مستور عليهم، وإداؤهم على كل مختلف شاءوا أو أبوا - دل أنه بالقدرة الذاتية كان ذلك والسلطان الذاتي لا مكتسب مستفاد؛ إذ ذا علم كل ذاتي لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء في حال من الأحوال، وهذا يبطل قول الفلاسفة: إن العقل دراك بنفسه كالنار حارة بطبعها، محرقة بذاتها، فلو كان يدرك بنفسه، لكان لا جائز أن يكون ولا درك هنالك، أو يشبه عليه شيء بوجه من الوجوه، فإذا حيل بينه وبين الدرك دل أنه دراك بغيره فيدرك على قدر ما تجلى له وانكشف، واللَّه أعلم.
وقوله: (نَسْلَخُ) أي: ننزع منه النهار.
517
وقوله: (فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ).
أي: داخلون في الظلمة، يقال: أظلم فلان: إذا دخل في الظلمة.
ثم سورة يس نزلت كلها بمكة محاجة أهل مكة في إنكارهم التوحيد، وإنكارهم البعث والقدرة على الإحياء بعد ما صاروا رمادًا، وإنكارهم الرسالة، وهم كانوا طبقات على هذه المذاهب المختلفة: منهم من أنكر التوحيد، ومنهم من أنكر البعث، ومنهم من كان ينكر الرسالة ونحوها، فبين اللَّه - تعالى - في هذه السورة وذكر فيها الحجج على منكري التوحيد وعلى منكري البعث وعلى منكري الرسالة، وهو ما ذكر من الآيات، من ذلك قوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا)، وفيه دلالة القدرة على البعث على ما بينا فيما تقدم.
وفي قوله: (وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) دلالة الوحدانية له؛ لأنه أخرج ما ذكر من النبات والجنات والأعناب والنخيل إلى آخر ما ذكر من الأرض لمنافع من السماء تتصل بالأرض؛ فدل اتصال منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما على أن منشئهما ومدبرهما واحد؛ إذ لو كانا فعل عدد لكان فيه تدافع وتمانع على ما ذكرنا فيما تقدم من فعل ذوي العدد من التغالب والتدافع والتمانع في العرف، واللَّه أعلم.
وما ذكر أيضا من الليل والنهار على تضادهما واختلافهما في رأي العين وسلخ أحدهما من الآخر وإدخاله في الآخر دلالة الوحدانية، ودلالة البعث، ودلالة العلم الذاتي والتدبير الأزلي:
أما دلالة الوحدانية فهو ما جمع في الليل والنهار على تضادهما واختلافهما في منافع الخلق وحوائجهم وأنهما شكلان؛ فدل ذلك على أنهما فعل واحد لا عدد؛ لأنه لو كان فعل عدد، لكان فيه تدافع وتمانع على ما ذكرنا من منع كل واحد منهما الآخر ودفعه عن إنفاذ أمره في ذلك واتساق تدبيره، فدل الدوام على ذلك واتساق الأمر على سنن واحد ومجرى واحد - أنه فعل واحد.
وفيه دلالة البعث لما ذكرنا من ذهاب أحدهما وإقرار الآخر بعد ذهاب آثار كل واحد منهما بكليته، ودل إجراؤهما مجرى واحدًا من أول إلى آخر ما ينتهي ذلك وينتهي العالم على تقدير منافعهم وحوائجهم أنه عالم بذاته مدبر بنفسه، وأن له علما ذاتيا وتدبيرًا أزليًّا لا مكتسبًا مستفادًا، وعلى ذلك ما ذكر من جريان الشمس والقمر، وتسخيرهما بمنافع هذا العالم وحوائجهم، وقطعهما في يوم ولينة واحدة مسيرة خمسمائة عام؛ فدل ذلك كله على أنه واحد لا شريك له قادر لا يعجزه شيء، وعالم مدبر لا يخفى عليه شيء، وعلى ذلك ما ذكر في قوله: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)، دلالة الوحدانية والقدرة والعلم والتدبير؛ من حيث جعل أطراف الأرض كلها على تباعد ما بينها
518
الآية ٣٧ وقوله تعالى :﴿ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلِمون ﴾ : في ذلك آيات من وجوه :
أحدها : آية القدرة على البعث والإحياء عند الموت.
والثاني : آية الوحدانية له والألوهية.
والثالث : آية العلم الذاتي له والتدبير الأزلي.
أما دلالة البعث فهو ما ذكر من جعل ما هو ليل نهارا، ومن جعل ما هو نهار ليلا بعد ذهاب أثر هذا بكلّيته، حتى لا يبقى منه شيء. ومجيء الآخر وانتزاع هذا من هذا، وإدخاله في الآخر، دلالة أنه قادر بذاته، لا يعجزه شيء، له١ قدرة ذاتية لا مكتسبة مستفادة.
فمن قدر على هذا قادر على الإحياء بعد الموت، [ إذ الإحياء بعد الموت ]٢ ليس بأبعد مما ذكرنا من جعل الليل نهارا وجعل النهار ليلا.
والأعجوبة في هذا، إن لم تكن أكثر، أعني في جعل الليل نهارا وجعل النهار ليلا وإدخال أحدهما في الآخر، ليست٣ بدون الإحياء بعد الموت. فإذا كان كذلك دل أنه قادر بذاته ليس بإقدار من غيره، فلا يُعجزه شيء، ولا قوة إلا بالله.
وأما دلالة الوحدانية، فهي٤ إنشاء الدهر من أول إنشائه إلى آخر ما ينتهي إليه، وإجراؤُه على مجرى واحد وسَنَن واحد من الليل والنهار وإدخال هذا في هذا وهذا في هذا [ كل هذا ]٥ دلالة أنه فعل [ واحد، إذ لو كان فعل ]٦ عدد لكان إذا أتى أحدهما بالليل غلب على الآخر، فلا يقدر المغلوب على إتيان النهار بعد ذلك وغلبة صاحبه وقهره. وكذلك مُنشئ النهار إذا غلب منشئ الليل لهم به على إبانة٧ بالآخر وغلبته عليه، ويمنع كل واحد منهما صاحبه عن إدخال شيء مما أنشأه هو في ما أنشأ الآخر. فإذا لم يكن ما ذكرنا دل أنه واحد، وهو رد على الثّنوية.
وأما دلالة العلم الذاتي له والتدبير الأزليّ فهي٨ إجراء الدهر من أول ما أنشأه على تقدير حاجة أهله، أعني حاجة أهل الدهر، وعلى تقدير منافعهم واتساقه على أمر واحد على غير تغيّر وتفاوت يقع في ذلك أو تفاضل إلى ما ينتهي إليه أو تنتهي حاجتهم ومنافعهم. دل أنه كان، ولم يزل عالما بحوائجهم ومنافعهم حين٩ أجرى الدهر على تقدير حوائجهم وتدبير حاجتهم ومنافعهم، وأن له علما ذاتيا وتدبيرا أوليًّا لا علما مكتسبا ومستفادا، وأن له القدرة والسلطان حين١٠ لم يقدر أحد أن يدفع ظلمة الليل عن نفسه إذا احتاج إلى النهار، ولا ملك دفع النهار إذا وقعت الحاجة في الليل، ولا [ قدر ]١١ أحد أن يأتي بأحدهما مكان الآخر بل في وقت آخر. بل أظلم الليل [ على الخلائق ]١٢ كلهم، وستر عليهم كل شيء، شاؤوا، أو أبَوا، وأضاء لهم النهار كل مستور عليهم، وأبدى لهم كل مختلف، شاؤوا، أو أبوا.
دل أنه بالقدرة الذاتية كان ذلك، والسلطان الذاتي غير١٣ مكتسب مستفاد [ والعلم الذاتي ]١٤ لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء في حال من الأحوال.
وهذا يبطل قول الفلاسفة : إن العقل درّاك بنفسه كالنار : حارة بطبعها، مُحرِقة بذاتها، فلو كان يدرك بنفسه لكان لا جائز أن يكون [ أدرك ما ]١٥ هنالك، أو يشتبه عليه شيء بوجه من الوجوه.
وإذا حيل بينه وبين الدرك دل أنه درّاك بغيره، فيُدرك على قدر ما تجلّى له الأمر، وانكشف، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ نسلُخ ﴾ أي : ننزع ﴿ منه النهار ﴾.
وقوله تعالى :/٤٤٦-أ/ ﴿ فإذا هم مظلمون ﴾ أي : داخلون في الظلمة، يقال : أظلم فلان إذا دخل في الظلمة.
ثم سورة ﴿ يس ﴾ نزلت كلها بمكة [ في ]١٦ محاجّة أهل مكة في إنكارهم التوحيد، وإنكارهم البعث والقدرة على الإحياء بعد ما صاروا رمادا وإنكارهم الرسالة. وهم كانوا طبقات على هذه المذاهب المختلفة : منهم من أنكر التوحيد، ومنهم من أنكر البعث، ومنهم من كان ينكر الرسالة ونحوها.
فبيّن الله تعالى في هذه السورة، وذكر فيها، الحجج على منكري التوحيد وعلى منكري [ البعث وعلى منكري ]١٧ الرسالة، وهو ما ذكر من الآيات. من ذلك قوله :﴿ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ﴾ وفيه دلالة القدرة على البعث ما بيّنا في ما تقدم.
وفي قوله :﴿ وأخرجنا منها حبًّا فمنه يأكلون ﴾ دلالة الوحدانية له، لأنه أخرج ما ذكر من النبات والجنات الأعناب والنخيل إلى آخر ما ذكر من الأرض منافع من السماء تتصل بالأرض.
فدل اتصال منافع السماء بمنافع الأرض على بُعد ما بينهما على أن منشئهما ومدبّرهما واحد. إذ لو كان فعل عدد لكان فيه تدافع وتمانع على ما ذكرنا في ما تقدم من فعل ذوي العدد من التغالب والتدافع والتمانع في العُرف، والله أعلم. وما ذكر أيضا من الليل [ والنهار ]١٨ على تضادّهما واختلافهما في رأي العين وسلخ أحدهما من الآخر وإدخاله في الآخر دلالة الوحدانية، ودلالة البعث، ودلالة العلم الذاتي الأزليّ.
أما دلالة الوحدانية فهي١٩ ما جمع في الليل والنهار على تضادّهما واختلافهما منافع الخلق وحوائجهم، كأنهما شكلان. فدل ذلك على أنهما فعل واحد لا عدد [ إذ لو كان فعل عدد ]٢٠ لكان فيه تدافع وتمانع على ما ذكرنا من منع كل واحد منهما الآخر ودفعه عن إنفاذ أمره في ذلك واتساق تدبيره. فدلّ الدوام على ذلك واتساق الأمر على سنن واحد ومجرى واحد أنه فعل واحد.
وأما٢١ دلالة البعث فما٢٢ ذكرنا من إذهاب أحدهما وإقرار الآخر بعد ذهاب آثار كل واحد منهما بكلّيته.
ودلّ إجراؤهما مجرى واحدا من أول ما أنشأهما إلى آخر ما ينتهي ذلك، وينتهي العالم على منافعهم وحوائجهم، أنه عالم بذاته مدبّر بنفسه وأن له علما ذاتيا وتدبيرا أزليّا لا مكتسبا مستفادا.
[ وأما دلالة الرسالة فإن أهل مكة لم يكونوا يعرفون التوحيد، فعرّفهم، وأتاهم بحُججه وبراهينه، دل أنه بالله عرف ذلك، والله أعلم ]٢٣.
وعلى ذلك ما ذكر من جريان الشمس والقمر وتسخيرهما لمنافع هذا العالم وحوائجهم وقطعهما في يوم واحد وليلة واحدة مسيرة خمس مئة عام.
فدل ذلك كله على أنه واحد، لا شريك له، قادر، لا يعجزه شيء، وعالم، مدبّر، لا يخفى عليه شيء.
وعلى ذلك ما ذكر في قوله :﴿ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفُلك المشحون ﴾ [ يس : ٤١ ] دلالة الوحدانية والقدرة والعلم والتدبير من حيث جعل أطراف الأرض كلها على تباعد ما بينها متصلة بمنافع الخلق وحوائجهم بأسباب، أنشأها لهم، وعلّمهم [ اتخاذ السّفن ]٢٤ ليصلوا إلى تلك المنافع والحوائج. فدل أنه فعل واحد، إذ لو كان فعل عدد لكان في ذلك تمانع على ما ذكرنا، وأنه عالم بذاته مدبّر. ولذلك قال :﴿ ذلك تقدير العزيز العليم ﴾ [ يس : ٣٨ ] أي : ذلك الذي ذكر كله تقدير الذي لا يُعجزه شيء. والعليم الذي لا يخفى عليه شيء. وبالله القوة.
١ في الأصل وم: وله..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل وم: ليس..
٤ في الأصل وم: فهو..
٥ ساقطة من الأصل: وم..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ من م، في الأصل: ليلة..
٨ في الأصل وم: هو..
٩ في الأصل وم: حيث..
١٠ في الأصل وم: حيث..
١١ ساقطة من الأصل وم..
١٢ في الأصل: الخلائق، في م: والخلائق..
١٣ في الأصل وم: لا..
١٤ في الأصل وم: إذ فاعلم..
١٥ في الأصل وم: ولا درك..
١٦ ساقطة من الأصل وم.
١٧ من م، ساقطة من الأصل..
١٨ من م، ساقطة من الأصل..
١٩ في الأصل وم: فهو..
٢٠ ساقطة من الأصل وم..
٢١ في الأصل وم: فيه..
٢٢ في الأصل وم: لما..
٢٣ أدرجت في الأصل وم قبل تفسير قوله تعالى: ﴿والقمر قدّرناه منازل﴾..
٢٤ ساقطة من الأصل وم..
متصلة بمنافع الخلق وحوائجهم بأسباب أنشأها لهم وأعلمهم بها؛ ليصلوا إلى تلك المنافع والحوارج؛ فدل أنه فعل واحد؛ إذ لو كان فعل عدد لكان في ذلك تمانع على ما ذكرنا، وأنه عارم بذاته مدبر؛ ولذلك قال: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي: ذلك الذي ذكر كله تقدير الذي لا يعجزه شيء، والعليم الذي لا يخفى عليه شيء! وباللَّه القوة.
ثم قوله: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا... (٣٨)
وفي بعض الحروت: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) فعلى هذا القول أي: تجري أبدًا لا مستقر لها ولا قرار.
ومن قرأ: (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا): أي: لنهاية لها وغاية.
ثم اختلف في تلك النهاية: فمنهم من يقول: نهايتها وغايتها هو ذهاب هذا العالم وانقضاؤه وتبديل عالم آخر؛ كقوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، وقوله: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ)، قدر نهايتها، ومنهم من يقول: مستقرها: هو نزولها في كل يوم في منزل، لما ذكر أن لها منزلا، تنزل كل يوم في منزل، ثم تطلع من مكان آخر؛ وكذلك قال: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ).
ومنهم من يقول: نهايتها ما ذكر في الخبر: " أنها إذا غربت ترفع إلى السماء السابعة، تخر لله - تعالى - ساجدة تحت العرش، ثم يؤذن لها بالطلوع "؛ ذكر في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لما أذن لها بالطلوع والارتفاع يأتيها جبريل بحلة من ضوء الشمس، على مقدار ساعات من النهار في طوله في الصيف وقصره في الشتاء، وما بين ذلك في الخريف والربيع، فتلبس تلك الحلة، كما يلبس أحدكم ثوبه "، وذكر في القمر كذلك من الحبس والسجود لله، إلا أنه ذكر فيه: " أن جبريل يأتيه بحلة من نور العرش "، وفي بعض الأخبار: " بكف من ضوء العرش، وبكف من نوره "، فيلبس تلك الحلة - أي: ذلك النور والضوء - كما يلبس أحدكم ثوبه، فذلك قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا)، ذكر للشمس ضياء، وللقمر نورًا كما ذكر في الخبر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا): جريانها في البحر الذي خلق اللَّه دون السماء بحر مكفوف حار، فيه تجري الشمس والقمر، والجوار الكنس.
ويحتمل قوله: (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَ) أي: تجري في مكان وتسير فيه، والله أعلم..
وقوله: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
(الْعَزِيزِ): الذي لا يعجزه شيء، ويعز من أن يغلبه شيء، (الْعَلِيمِ): الذي يعز من أن يخفى عليه شيء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْعَزِيزِ): الذي أظهر أثر الذل في غيره، لا ترى أحدًا إلا وأثر الذل والحاجة فيه ظاهرة.
وأما دلالة الرسالة: فإن أهل مكة لم يكونوا يعرفون التوحيد، وعرفهم وأتاهم بحججه وبراهينه؛ دل أنه باللَّه عرف ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
أي: قدرناه منازل يزيد ويستوي وينتقص، وكذلك جعل للشمس منازل أيضًا تزداد وتنتقص وتستوي، لكن جعل منازل القمر في تغييره في نفسه يتغير ويزداد ويستوي وينتقص، وأما الشمس فإنه جعل تغييرها في الزيادة والنقصان والاستواء في الأزمنة والأوقات، فأما في نفسها فليس فيها تغيير ولا نقصان ولا زيادة، فهو - واللَّه أعلم - لما ذكر أنه جعل القمر سببًا للوصول إلى معرفة الأوقات والحساب والحجج بقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، وعلى ذلك جعل طلوعه وغروبه مختلفًا في الليل والنهار، وفي كل وقت وكل ساعة، وأما الشمس فإنها في نفسها على حالة واحدة، لا زيادة فيها، ولا نقصان، ولا تغيير، إلا في الوقت الذي تنكسف، وكذلك طلوعها وغروبها في وقت واحد لا يختلف ولا يتغير إلا في أزمنتها وأوقاتها؛ فإنه يأخذ هذا من هذا، وهذا من هذا، ويدخل في هذا هذا، ومن هذا في هذا، وأمّا الأيام فإنه لم يجعل فيها تغيير، فهو - واللَّه أعلم - لما لم يشتد على الناس حفظها ولا جعل سببا لتعريف الأوقات والحساب.
وقوله: (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ).
قيل: إنه عود الكباسة القديم الذي قد أتى عليه حول، فاستقوس ودق، شبه القمر
آخر ليلة ليطلع به أو أول ليلة.
قَالَ بَعْضُهُمْ: شبه القمر بالعرجون القديم، وهو العذق اليابس المنحني القديم الذي أتى عليه الحول، وهما واحد.
وقوله: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
جائز أن يكون ذكر الشمس هاهنا كناية عن النهار نفسه، والقمر كناية عن الليل؛ ألا ترى أنه ذكر الليل والنهار على أثر ذلك حيث قال: (وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) يخبر أنه لا يدرك هذا هذا ولا سابقًا لهذا.
وجائز أن يكون ذكرهما كناية عن الليل والنهار، ولكن على بيان حقيقتهما ألا يدرك ضوء هذا هذا، ولا ضوء هذا هذا؛ فيغلبه، ولكن يكون هذا في وقت وهذا في وقت آخر، لا يجتمعان في وقت واحد.
أو يذكر أنه لا يغلبه هذا على هذا ما دام في سلطانه، ولا هذا على هذا ما دام سلطانه، فإنما يخبر عن قدرته وعلمه وتدبيره: وأما قدرته: فهو ما ذكر من تقدير الشمس والقمر والليل والنهار، حفظهما حتى لا يغلب أحدهما صاحبه فيذهب به؛ دل حفظه إياهما وما ذكر، وتقديره إياهما على ما قدر أنه إنما كان بقدرة ذاتية، ودل إجراؤه إياهما على مجرى واحد وعلى سنن واحد منذ أنشأهما وقدرهما إلى آخر ما ينتهي إليه هذا العالم: أنه كان بعلم ذاتي وتدبير أزلي، لا مستفاد مكتسب، وهذا ينقض على الثنوية مذهبهم أن منشئ الظلمة غير منشئ النور؛ لأنه لو كان اثنين على ما يقولون لكان إذا غلب هذا على هذا، وجار سلطانه منعه من أن يأتي الآخر، فإذا لم يكن دل أنه فعل واحد لا عدد.
وقوله: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
يعني: الشمس والقمر، قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: في دورانه واستدارته يجرون على ما ذكرنا، لا يمنع هذا هذا، ولا هذا هذا؛ وعلى هذا التأويل هو الدوران الذي يدور عليه الشمس والقمم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن تحت السماء في الهواء بحرًا مكفوفًا، فيه تطلع الشمس وفيه تغرب، وكذلك القمر، فإن كان على هذا فيكون قوله: (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) على حقيقة السباحة والعوامة، ويروى في ذلك خبر على ما ذكرنا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (نَسْلَخُ)، أي: نخرج، والعُرجون: عرجون النخلة، مثل العنقود من العنب، والعراجين جماعة، (يَسْبَحُونَ): من السباحة.
* * *
قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٤٤)
ثم قوله: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ).
اختلف في ذلك الفلك:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي السفينة التي حمل فيها نوح وأتباعه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراد به السفن كلها التي يحمل عليها ويركب.
والفلك: يقال: هو واحد وجماعة، فإن كان المراد بالفلك السفينة المشار إليها وهي سفينة نوح، كان قوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) غيرها من السفن التي اتخذت للركوب.
وإن كان المراد به غيرها من السفن، كان قوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) إنما هي الأنعام التي يركبون عليها في المفاوز والبراري، كقوله: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ)، ونحوه.
ثم إن كان المراد بقوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (٤٢) السفن، كان في ذلك نقض قول المعتزلة في قولهم: أفعال العباد ليست بمخلوقة؛ حيث أخبر أنه خلق السفن، والسفن إنما سميت سفنًا بعد ما اتخذت ونحتت، فأما قبل ذلك، فهي تسمى: خشبًا، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ).
يحتمل قوله: (حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ) معنيين:
أحدهما: أنا حملنا مَنْ أَنْتُم مِنْ ذريتِهم في الفلك المشحون، وهم الذين حملهم مع نوح في سفينته.
والثاني: أنا حملنا ذرية قومك في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم في الفلك، نسبهم إليهم لما أنهم أصل لهَؤُلَاءِ؛ كقوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، وإنَّمَا نسبنا إلى آدم؛ لأنه أصلنا وهو المخلوق من التراب فعلى ذلك هذا، لكن الفائدة في التأويل الأول غير الفائدة في التأويل الثاني إن كان المراد بقوله: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا) من أنتم من ذريتهم هذا، ففائدته: أنكم من ذرية من نجا منهم من آبائكم، وهم الذين آمنوا برسولهم
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:الآيات ٤١ و٤٢ و٤٣ ثم قوله :﴿ وآية لهم أنا حلمنا ذريتهم في الفلك المشحون ﴾ ﴿ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ﴾ ﴿ وإن نشأ نُغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم يُنقذون ﴾ أختلف في ذلك الفُلك :
قال بعضهم : هي السفينة [ التي حمل فيها نوح وأتباعه. وقال بعضهم : أراد به السفن كلها التي يُحمّل عليها، ويركب، والفلك : يقال : هو واحد وجماعة. فإن كان المراد بالفلك السفينة المشارة، وهي سفينة ]١ نوح كان قوله :﴿ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ﴾ غيرها من السفن [ التي اتُّخذت للركوب. وإن كان المراد به غيرها من السّفن ]٢ كان قوله :﴿ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ﴾ إنما هي الأنعام التي يركبون عليها في المفاوز والبراري كقوله :﴿ وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ﴾ [ الزخرف : ١٢ ] ونحوه.
ثم إن كان المراد بقوله :﴿ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ﴾ السفن كان في ذلك نقض قول المعتزلة في قولهم : أفعال العباد ليست بمخلوقة حين٣ أخبر أنه خلق السفن، والسفن إنما تسمى سُفنًا بعد ما اتُّخذت، ونُحتت، فأما قبل ذلك فهي تسمى خشبا، والله أعلم.
ثم قوله :﴿ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشجون ﴾ يحتمل قوله :﴿ حملنا ذريتهم ﴾ معنيين :
أخدهما : أنا حملنا من أنتم من ذريتهم في الفلك المشحون وهم الذين حملهم مع نوح في سفينته.
والثاني : أنا حملنا ذرية قومك في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم في الفلك، نسبهم إليهم لما أنهم أصل لهؤلاء كقوله :﴿ خلقهم من تراب ﴾ [ الروم : ٢٠ ] وإنما نسبنا إلى آدم لأنه أصلنا، وهو المخلوق من التراب.
فعلى ذلك هذا. لكن الفائدة في التأويل الأول غير الفائدة في التأويل الثاني.
فإن٤ كان المراد بقوله :﴿ وآية لهم أنا حملنا ﴾ من أنتم من ذريتهم هذا ففائدته أنكم من ذرية من نجا منهم من آبائكم، وهم الذين آمنوا برسولهم، وصدّقوه، لا من كذّب به. فكيف لا اتبعتموهم ؟ لأن العرب من عادتهم أنهم لا يزالون محتجّين :﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ].
وإن كان المراد المعنى الثاني فيقول : إن في آبائكم من قد صدّق الرسل، وآمن بهم، ومنهم من كذّبهم. فكيف اتبعتم الذين كذّبوهم دون الذين صدّقوهم ؟
ثم جهة الآية في الفلك ما ذكرنا في ما تقدم في غير موضع : إما في تذكير ما أنعم عليهم حين٥ سخّر لهم ما في البحار والبراري حتى يصلوا إلى قضاء حوائجهم ومنافعهم في الأمكنة النائية البعيدة بالسفن التي أنشأها لهم والأنعام التي خلقها لهم، [ وإما في ما ]٦ يخبر عن قدرته وسلطانه أن من قدر على تسخير هذا وإيصال هذا بهذا، لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، [ وإما في ما ]٧ يخبر عن وحدانيته وربوبيته، إذ لو كان ذلك فعل عدد لامتنع، ولم يتصل، ولم يصلوا إلى قضاء حوائجهم، [ وإما في ما ]٨ يخبر عن سفههم بعبادتهم الأصنام التي عبدوها حين٩ قال :﴿ وإن نشأ نُغرقهم فلا صريخ لهم ﴾ الآية، يخبر أنا لو شئنا إغراقهم لا تملك الأصنام التي يعبدونها الإغاثة والاستفادة من ذلك كقوله :﴿ ضل من تدعون إلا إياه ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ] وكقوله :﴿ قل من ينجّيكم من ظلمات البر والبحر ﴾ [ الأنعام : ٦٣ ].
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ الفاء ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل وم: حيث..
٦ في الأصل وم: أو..
٧ في الأصل وم: أو..
٨ في الأصل وم: أو..
٩ في الأصل وم: حيث..

وصدقوه، لا من كذب به، فكيف لا اتبعتموهم؟! لأن العرب من عادتهم لا يزالون محتجين: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ).
وإن كان المراد المعنى الثاني فيقول: إن في آبائكم من قد صدق الرسل، وآمن بهم، ومنهم من كذبهم، فكيف اتبعتم الذين كذبوهم دون الذين صدقوهم؟!
ثم جهة الآية في الفلك ما ذكرنا فيما تقدم في غير موضع: إما في تذكير ما أنعم عليهم حيث سخر لهم ما في البحار والبراري حتى يصلوا إلى قضاء حوائجهم ومنافعهم في الأمكنة النائية البعيدة بالسفن التي أنشأها لهم والأنعام التي خلقها لهم.
أو يخبر عن قدرته وسلطانه: أن من قدر على تسخير هذا وإيصال هذا بهذا، لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء.
أو يخبر عن وحدانيته وربوبيته؛ إذ لو كان ذلك فعل عدد لامتنع ولم يتصل، ولم يصلوا إلى قضاء حوائجهم.
أو يخبر عن سفههم بعبادتهم الأصنام التي عبدوها؛ حيث قال: (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ... (٤٣) يخبر أنا لو شئنا إغراقهم لا يملك الأصنام التي يعبدونها الإغاثة لهم والاستنقاذ من ذلك، بل هو المالك لذلك؛ كقوله: (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، وكقوله: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
وقوله: (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٤٤)
يحتمل قوله: (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا)، أي: لو شاء لأهلكهم، واستأصلهم بالعناد والتكذيب للرسول كما فعل بأوائلهم، لكن برحمته أخر عن هَؤُلَاءِ ذلك، وجعل لهم متاعًا إلى حين، وذلك منه رحمة، والذين كانوا من قبل عند رؤيتهم بأس اللَّه، كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ...) الآية، ثم أخبر أنه لم ينفعهم ذلك حيث قال: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ)، ولكن رحم هَؤُلَاءِ؛ لمكان رسول اللَّه؛ فقبل إيمانهم عند رؤيتهم بأس اللَّه.
وفي قوله: (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ...) الآية. دلالة نقض قول المعتزلة لقولهم في الأصلح؛ لما لا يخلو: إما أن يكون إغراقه إياهم أصلح لهم في الدِّين، أو إبقاؤه إياهم: فإن كان إغراقه إياهم أصلح لهم في الدِّين، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ
الآية ٤٤ وقوله تعالى :﴿ إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين ﴾ يحتمل قوله :﴿ إلا رحمة ﴾ من ربك، أي : لو شاء لأهلكهم، واستأصلهم بالعناد والتكذيب للرسول كما فعل بأوائلهم، لكن برحمته أخّر عن هؤلاء ذلك، وجعل لهم متاعا إلى حين. وذلك منه رحمة. والذين كانوا من قبل عند رؤيتهم بأس الله كقوله :﴿ فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ﴾ الآية [ غافر : ٨٤ ] [ أخبر ]١ أنه لم ينفعهم ذلك حين٢ قال :﴿ فلم يك ينفعهم إيمانهم ﴾ [ غافر : ٨٥ ]، ولكن هؤلاء لمكان رسول الله، فقُبل إيمانهم عند رؤيتهم بأس الله.
وفي قوله :﴿ وإن نشأ نُغرقهم فلا صريخ لهم ﴾ الآية دلالة نقض قول المعتزلة لقولهم في الأصلح لما لا يخلو إما أن يكون إغراقه إياهم أصلح لهم في الدين [ وإما ]٣ إبقاؤه إياهم.
فإن كان إغراقه إياهم أصلح لهم في الدين [ فلم يُغرقهم، فقد فعل بهم ما ليس ذلك بأصلح لهم. وإن كان إبقاؤه إياهم أصلح لهم في الدين من إغراقهم فلا يكون ذلك رحمة ؛ لأن له أن يفعل ذلك، ولا يفعل بهم غيره. وقد أخبر أن إبقاءه إياهم رحمة منه لهم، فدل أنه ليس عليه حفظ الأصلح على عباده في الدين ]٤ والله أعلم.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ في الأصل وم: أو..
٤ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥)
اختلف في قوله: (مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ): قال قائلون: (مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ): ما كان من عقوبات اللَّه ووقائعه فيمن كان قبلكم من عنادهم في آياته وتكذيبهم رسله، يقول: اتقوا ذلك واحذروا نزوله عليكم، فسمى: بين أيديهم؛ لأنه مضى بين أيديهم، وما خلفهم من أمر الساعة وعذابها سمى: خلفا؛ لأنه بعد ورائهم غير مأتي، يقول: احذروا ذلك.
وقال قائلون: (مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) هو عقوبات الآخرة هي بين أيديهم ستأتي بهم وستنزل، (وَمَا خَلْفَكُمْ) ما مضى من العقوبات التي نزلت بمن كان قبلكم؛ فصار ذلك وراءً وخلفا، يقول: احذروا ذلك.
وجائز أن يكون على غير هذا يقول - واللَّه أعلم -: احذروا ذنوبكم التي عملتم ومعاصيكم التي عصيتم في الدنيا، واحذروا أيضًا ما تسنون أيضًا لمن بعدكم؛ كقوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ): ما قدمت: ما عمل هو، وما أخرت ما سن لغيره من بعد.
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
أي: إذا فعلتم ذلك استوجبتم الرحمة بفضله، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤٦)
هذا - واللَّه أعلم - في قوم خاصة اعتادوا العناد والمكابرة في رد الآيات والإعراض عنها؛ لما كان سؤالهم الآيات تعنتًا لا سؤال استرشاد، ولو كان سؤالهم سؤال استرشاد، لكان قد أنزل لهم من الآيات وأتاهم ما يلزمهم قبولها والتمسك بها.
ثم الإعراض والعناد يكون بوجهين:
أحدهما: يعرض عنها؛ لما لم تقع له؛ لترك التأمل والنظر فيها.
والثاني: يعرض عنها إعراض عناد بعد التحقيق والتيقن والعلم بأنها آيات، والله أعلم.
وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٤٧)
يحتمل قوله: (أَنْفِقُوا) أي: صلة الأرحام والقرابات على حقيقة الإنفاق.
الآية ٤٦ وقوله تعالى :﴿ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ﴾ هذا، والله أعلم، في قوم خاص اعتادوا العناد والمكابرة في ردّ الآيات والإعراض عنها لما كان سؤالهم الآيات [ سؤال تعنّت ]١ لا سؤال استرشاد. ولو كان سؤالهم سؤال استرشاد لكان قد أنزل لهم من الآيات وآتاهم ما يلزمهم قبولها والتمسك بها.
ثم الإعراض والعناد يكون بوجهين :
أحدهما : يُعرض لما لم يوقع٢ له الترك التأمّل والنظر فيها.
والثاني : يعرض عنها إعراض عناد بعد التحقق والتّيقن /٤٤٧-أ/ والعلم أنها آيات، والله أعلم.
١ في الأصل: تعنت، في م: تعنتا..
٢ في الأصل وم: يقع..
الآية ٤٧ وقوله تعالى :﴿ وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله ﴾ يحتمل قوله :﴿ أي صلوا١ الأرحام والقرابات على حقيقية الإنفاق. ويحتمل أن اقبلوا الإنفاق، وهو الزكاة كقوله :{ وويل للمشركين ﴾ ﴿ الذين لا يؤتون الزكاة ﴾ [ فصلت : ٦ و٧ ] أي لا يقبلون الإيتاء، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ قال الذين كفروا للذين آمنوا أنُطعم من لو يشاء الله أطعمه ﴾ بهذا قالت المعتزلة في قولهم : إن الله لا يفعل إلا ما هو أصلح للخلق٢ في الدين، يقولون : لو كان الإنفاق والرزق أصلح لهم في الدين لرزقهم الله على ما رزقنا.
فيقال للمعتزلة : أمره إياهم بالإنفاق على من ذكر لا يخلو من أن تكون أصلح النفقة لهم والرزق أصلح في الدين، ثم لم يرزقهم، ولم يوسّع عليهم، أو٣ أن يكون المنع أصلح لهم، وترك الإنفاق.
فإن كان الأول فقد ترك فعل ما هو أصلح في الدين. [ وإن كان ]٤ الثاني فقد أمره هؤلاء بفعل ما هو ليس بأصلح.
فكيف ما كان ففيه بيان أن ليس على الله فعل٥ الأصلح للخلق في الدين إنما عليه ما توجبه الحكمة وحفظ ما يكون حكمة.
وهؤلاء لم ينظروا إلى [ ما توجبه ]٦ الحكمة.
وفي الحكمة الامتحان والابتلاء : هذا بالسعة وهذا بالشدة والضّيق. ثم أوجب على من وسّع عليه في فضول ماله حقا لهذا الفقير والمُضيّق عليه. وبيّن ذلك الحق، وبيّن قدره وحدّه ليستأدي بذلك شكره، وضيّق على هذا، يطلب منه الصبر على ذلك أن منع هذا حقه. وإلا لم يسبق ممن وسّع عليه ما تستوجبه تلك النعمة والسعة، ولا ممن ضيّق عليه ما يستوجب ذلك. ولكن محنة يمتحنهم بها : هذا بالشدة والضيق، وهذا بالسعة والكثرة. وعلى ذلك روي في الخبر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لو شاء الله لجعلكم أغنياء، لا فقير فيكم، ولو شاء الله لجعلكم فقراء، لا غني فيكم، ولكنه ابتلى بعضهم ببعض لينظر كيف عطف الغني ؟ وكيف صبر الفقير ).
وقوله تعالى :﴿ إن أنتم إلا في ضلال مبين ﴾ قال بعضهم : هذا كلام الكفرة للمؤمنين. لم يكتفوا بذلك القول الذي قالوه، ولكن نسبوهم إلى الضلال والجهل. وقال بعضهم : هذا القول من الله جواب لهم لقولهم :﴿ أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ﴾ والله أعلم.
١ في الأصل وم: صلة..
٢ في الأصل وم: له..
٣ في الأصل وم: إما..
٤ في الأصل وم: أو..
٥ في الأصل وم: حفظ..
٦ في الأصل وم: توجيه..
ويحتمل: أن اقبلوا الإنفاق وهو الزكاة بقوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) الآية، أي: لا يقبلون الإيتاء، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ).
بهذا قالت المعتزلة في قولهم: إن اللَّه لا يفعل إلا ما هو أصلح [له] في الدِّين، يقولون: لو كان الإنفاق والرزق أصلح لهم في الدِّين لرزقهم اللَّه على ما رزقنا.
فيقال للمعتزلة: أمره إياهم بالإنفاق على من ذكر لا يخلو من أن يكون النفقة لهم والرزق أصلح في الدِّين، ثم لم يرزقهم ولم يوسع عليهم، وإما أن يكون المنع أصلح لهم وترك الإنفاق: فإن كان الأول فقد ترك فعل ما هو أصلح في الدِّين، أو الثاني، فقد أمر هَؤُلَاءِ بفعل ما هو ليس بأصلح، فكيفما كان، ففيه دلالة أن ليس على اللَّه حفظ الأصلح للخلق في الدِّين، إنما عليه فعل ما توجبه الحكمة وحفظ ما يكون حكمة، وهَؤُلَاءِ لم ينظروا إلى ما توجبه الحكمة، وفي الحكمة الامتحان والابتلاء: هذا بالسعة وهذا بالشدة والضيق؛ ثم أوجب على من وسع عليه في فضول ماله حقًّا لهذا الفقير والمضيق عليه، وبين ذلك الحق، وبيِّن قدره وحده، ليتأدى بذلك شكره، وضيق على هذا، يطلب منه الصبر على ذلك إن منع هذا حقه، وإلا لم يسبق ممن وسع عليه ما يستوجب به تلك النعمة والسعة، ولا ممن ضيق عليه ما يستوجب ذلك، ولكن محنة يمتحنهم بها: هذا بالشدة والضيق، وهذا بالسعة والكثرة، هذا مأمور بالشكر وأداء ما أوجب عليه في ماله، وهذا بالصبر على حاجته إن منع حقه؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لوشاءاللَّه لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم، ولوشاء اللَّه لجعلكم فقراء لا يغني عنكم شيئًا، لكنه ابتلى بعضهم ببعض لينظر كيف عطف الغني، وكيف صبر الفقير ".
وقوله: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا قول الكفرة للمؤمنين، لم يكتفوا بذلك القول الذي قالوه، ولكن نسبوهم إلى الضلال والجهل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا القول من اللَّه جواب لهم، لقولهم: (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨)
ليس بصلة على ما تقدم من الكلام، كأنهم خوفوا بترك الإنفاق بالعذاب، فقالوا عند
ذلك: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
ثم قال: (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩)
أي: ما ينظرون لإيمانهم إلا ذلك الوقت، يقول - واللَّه أعلم -: إنهم إذا بلغوا ذلك الوقت وعاينوا ذلك، فعند ذلك يؤمنون، لكن لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت؛ لقوله: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ).
وقوله: (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ).
يخبر عن سرعة قيام الساعة وغفلة أهلها عنها؛ كقوله: (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً).
أي: فجأة، وهم لا يشعرون، وعلى ذلك روي في بعض الأخبار عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب، فلا يقومانه حتى تقوم الساعة ".
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
فقال: " تقوم الساعة والناس في أسواقهم يحلبون اللقاح، ويذرعون الثياب، ويتبايعون وهم في حاجاتهم "، وعن الزبير بن العوام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أن الرجلين ليتبايعان إذ نادى مناد: قد قامت الساعة " ونحوه.
وقوله: (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً).
أي: وصية؛ وكذلك ذكر في حرف حفصة وأبي، أي: فلا يستطيعون وصية.
وقوله: (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ).
يحتمل ما ذكرنا أن الساعة تقوم وهم على ما كانوا عليه من قبل في البياعات والخصومات والمنازعة وعلى ذلك جاءت.
ويحتمل (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي: يختصمون في الساعة والبعث أنها لا تقوم ولا تكون؛ لأنهم كانوا أينكرونها، ودل قوله: (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أن
الآية ٥٠ وقوله تعالى :﴿ تأخذهم وهم يخِصّمون ﴾ ﴿ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ﴾ يخبر عن ساعة قيام الساعة وغفلة أهلها عنها كقوله :﴿ فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾ [ الشعراء : ٢٠٢ ].
وعلى ذلك رُوي في بعض الأخبار عن نبي الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ]١ قال :( تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب، فلا يطويانه حتى تقوم الساعة ) [ البخاري ٦٥٠٦ ].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله :﴿ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ﴾ [ أنه قال ]٢ :( تقوم الساعة والناس في أسواقهم يحلبون اللقاح، ويذرعون الثياب، ويتبايعون، وهم في حاجتهم ) [ السيوطي في الدر المنثور ٧/ ٦٢ ]. وعن الزّبير بن العوام رضي الله عنه [ أنه قال ]٣ :( إن الرجلين ليتبايعان إذ نادى مناد قد قامت الساعة ) [ بنحوه الدر المنثور ٧/٦٢ ].
ونحوه.
وقوله تعالى :﴿ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ﴾ أي وصية. وكذلك ذكر في حرف حفصة وأبيّ : أي يستطيعون وصية. وقوله تعالى :﴿ تأخذهم وهم يخصّمون ﴾ يحتمل ما ذكرنا أن الساعة تقوم، وهم على ما كانوا عليه من البياعات والخصومات والمنازعة، وعلى ذلك جاءت [ الأخبار ]٤.
ويحتمل ﴿ وهم يخصّمون ﴾ في الساعة والبعث أنها لا تقوم، ولا تكون، ولأنهم كانوا [ يختصمون فيها ]٥.
ودل قوله :﴿ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ﴾ أن استطاعة الفعل أنها لا تتقدم الفعل، لكنها [ تقارنه، وتجامعه ]٦، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: فقال..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل تقاربها وتجامعها، في م: تقارنها وتجامعه..
استطاعة الفعل تكون مع الفعل لا تتقدم الفعل؛ لأنها لو كانت تتفدم، لكانوا يستطيعون التوصية والرجوع إلى أهلهم إذا قامت بهم؛ دل هذا على أنها لا تتقدم الفعل، لكنها تقارنه وتجامعه، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (٥٦) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (٥٧) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)
وقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ).
قد ذكرنا القول في الصور في غير موضع، واختلافهم في ذلك:
قال قائلون: الصور: هو شبه القرن ينفخ فيه، وعلى ذلك روي عن عبد اللَّه بن عمرو قال: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الصور فقال: " قرن ينفخ فيه "، فإن ثبت فقد كفينا مؤنة الاشتغال بغيره.
وقال قائلون: هو على التمثيل لا على التحقيق، لكنه ذكر النفخ؛ لسرعة أمرها وقيامها؛ إذ ليس شيء أسرع نفاذًا ولا أخف من النفخ، فهو عبارة عن سرعتها ونفاذها؛ كقوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، وهو قوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ).
قال أهل التأويل: ينفخ في الصور ثلاثًا بين كل نفخة مهلة كذا كذا سنة، يقولون: في النفخة الأولى يصعق فيها كل شيء مما خلق اللَّه؛ كقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ)، ثم ينفخ ثانيًا فيحيون بها ويخرجون من قبورهم، وهو قوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ)، وينفخ ثالثا، فيجتمعون عند ربهم، وهو قوله: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ)، واللَّه أعلم بذلك.
والنسل: هو سرعة الخروج، أي: يسرعون، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: النسل: هو المشي (يَنسِلُونَ) أي: يمشون، لكنه مشي مع سرعة، وهما واحد.
وقوله: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)
من الناس من ينكر عذاب القبر بهذه الآية يقول: المرقد: موضع الراحة، والراقد هو الذي يكون في راحة، فلو كان لهم عذاب، أو كانوا في عذاب، لم يكونوا في رقدة ولا راحة، دل أنه لا يكون.
ومنهم من يقول: يكون في القبر عذاب، إلا أنهم لما عاينوا عذاب الآخرة، صار عذاب القبر لهم كالرقاد عند عذاب الآخرة.
ومنهم من يقول: ينامون نومة قبل البعث، ثم يبعثون، ومثل هذا.
وجائز أن يكون النفس التي تخرج عند النوم تلك النفس في حال الموت، فتجد تلك ألم ذلك كما تجد النفس التي تخرج من النائم ألم عذاب يصيبه، وتجد لذة أيضًا إذا كانت لذة، وترى في النوم أهوالا وأفزاعًا وذلك معروف؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الكفرة يعذبون بما ذكرنا، فإذا بعثوا قالوا عند ذلك: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)، والمرقد: هو الموضع الذي ينام فيه.
أو أن يكونوا في عذاب - أعني: في القبور - لكنهم إذا عاينوا عذاب الآخرة وشاهدوا أهوالها، وإن ذلك العذاب الذي كان لهم في القبر وسهل عند عذاب الآخرة؛ فصار ذلك كالرقاد لهم عند عذاب الآخرة فقالوا عند ذلك: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا قول الملائكة لهم عن قولهم: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قول المؤمنين لهم عند قولهم الذي قالوا.
وجائز أن يكون ذلك أيضا قول أُولَئِكَ الكفرة، يقرون بالبعث عند معاينتهم البعث، يقولون: هذا الذي وعد لنا المرسلون، وقد صدقوا في ذلك، ونحن كذبناهم فيه، لكن لا ينفعهم تصديقهم إياهم بذلك في ذلك الوقت، وهو كإيمانهم عند معاينتهم بأس اللَّه، وهو قوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ، لكن لا ينفعهم.
وقوله: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٥٣)
الآية ٥٣ وقوله تعالى :﴿ إن كانت إلا صيحة واحدة ﴾ يحتمل على حقيقة الصيحة، يجعل الله تعالى الصيحة علَما للإحياء والبعث، لا أن تكون الصيحة سببا للإحياء والبعث. ويحتمل لا على حقيقة الصيحة، ولكن على قدر الصيحة، كأنه يقول، والله أعلم : ما كانت إلا قدر صيحة واحدة، أي البعث. لكنه ذكر الصّيحة لأن الصيحة أسرع شيء، وأيسر على الخلق من غيره على ما ذكرنا في النفخ في الصور كقوله :﴿ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر ﴾ [ النحل : ٧٧ ] ذكر هذا لأنه أخفّ شيء على الخلق وأهونه عليهم، فيُعبّر به عنه، ويكنّى ليعلموا خفة ذلك على الله وسهولته وهونه، وأنه ليس يثقل عليه شيء.
وقوله تعالى :﴿ فإذا هم جميع لدينا محضرون ﴾ ذكر لأن قوله تعالى :﴿ إن كانت إلا صيحة واحدة ﴾ في البعث، فإذا كان ذلك في البعث [ فيكون عند ]١ ذلك إحضارهم عند الله. وأما الأول فإنما هو في الهلاك والموت.
١ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: فعند..
يحتمل على حقيقة الصيحة، يجعل اللَّه تعالى الصيحة علمًا للإحياء والبعث لا أن تكون الصيحة سببًا للإحياء والبعث.
ويحتمل لا على حقيقة الصيحة ولكن على قدر الصيحة؛ كأنه يقول - واللَّه أعلم -: ما كانت إلا قدر صيحة واحدة - أي: البعث - لكنه ذكر الصيحة؛ لأن الصيحة أسرع شيء وأيسر على الخلق من غيره على ما ذكرنا في النفخ في الصور؛ كقوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ)، ذكر هذا؛ لأنه أخف شيء على الخلق، وأهونه عليهم؛ فيعبر به عنه ويكني بما ذكر، ليعلموا خفة ذلك على اللَّه، وسهولته وهوانه، وأنه ليس يثقل عليه شيء.
وقوله: (فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ).
ذكر أن قوله - تعالى -: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) في البعث، فإذا كان ذلك في البعث فعند ذلك إحضارهم عند اللَّه، وأما الأول فإنما هو في الهلاك والموت.
وقوله: (فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
الظلم في اللغة: هو وضع الشيء في غير موضعه كأنه يقول - واللَّه أعلم -: اليوم لا توضع نفس في غير موضعها، ولكن توضع على ما وضعها في الدنيا.
أو يكون الظلم عبارة عن النقصان، كأنه يقول - واللَّه أعلم -: فاليوم لا تنقص نفس عما استوجبت وتوفى؛ كقوله: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) أي: لم تنقص منه.
أو يقول: فاليوم لا يُحمل على نفس ذنب غيرها، ولا يوضع وزر غيرها، بل يَجْزي اللَّه كل نفس جزاء عملها، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (٥٥)
يخبر - واللَّه أعلم -: عن شغل أهل الجنة أنهم وإن كانوا مشغولين في أن نعيم فإن ذلك الشغل يحجبهم عن غيرهم من الأشياء، وكذلك جميع الخلائق أنهم إذا شغلوا في شيء حجبوا عن غيره ومنعوا، فأما اللَّه - سبحانه - فيتعالى عن أن يشغله شيء أو يحجبه شيء عن شيء.
ثم الاشتغال في الدنيا مما يضر أهلها ويؤذي، فأخبر أن شغل أهل الجنة مما لا يضرهم ولا يؤذي؛ حيث قال: (فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ)، قيل: ناعمون بما هم فيه، وقيل: معجبون في ذلك.
الآية ٥٥ وقوله تعالى :﴿ إن أصحاب الجنة اليوم في شُغل فاكهون ﴾ يخبر، والله أعلم، عن شغل أهل الجنة، إنهم وإن كانوا مشغولين في النعيم فإن ذاك الشغل يحجبهم عن غيرهم من الأشياء. وكذلك جميع الخلائق، إنهم إذا شغلوا في شيء حُجبوا عن غيره، ومُنعوا.
فأما الله سبحانه، فيتعالى عن أن يشغله شيء، أو يحجبه شيء عن شيء.
ثم إن الاشتغال في الدنيا مما يضرّ أهلها، ويؤذي. فأخبر أن شُغل أهل الجنة مما لا يضرّهم، ولا يؤذي حين١ قال :﴿ في شغل فاكهون ﴾ قيل : ناعمون بما هم فيه، وقيل : معجبون٢ في ذلك.
وقال القتبيّ :﴿ فاكهون ﴾ يتفكّهون، ويقال للمزاح فكاهة، و﴿ فاكهون ﴾ أراد ذوي فكاهة.
وقال أبو عوسجة :﴿ فاكهون ﴾ من الفكاهة، فكِهون٣ من السرور، والمفاكهة الممازحة.
ثم قال بعضهم : شغُلهم في افتضاض العذارى، وقيل : شغلهم في كل نعيم وفي كل كرامة على ما ذكر، والله أعلم.
١ في الأصل وم: حيث..
٢ في الأصل وم: معجبين..
٣ هذه قراءة، انظر معجم القراءات القرآنية ج٥/٢١٤..
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَاكِهُونَ): يتفكهون، ويقال للمزاح: فكاهة، وفاكهون: أراد ذوي فكاهة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَاكِهُونَ): من المفاكهة، وفكهون من السرور، والمفاكهة: الممازحة.
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: شغلهم في افتضاض العذارى، وقيل: شغلهم في كل نعيم وفي كل كرامة على ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ (٥٦)
يخبر أن أهل الجنة وإن كانوا لا يحجبون عن شيء، ولا يمنعون شيئًا، فإنهم إذا كانوا مع أزواجهم لا يقع عليهم بصر غيرهم فينتقض ذلك، وهو كما ذكر: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)، يخبر أنهم إذا كانوا مع أزواجهم لا يطلع عليهم غيرهم، والله أعلم.
و (ظِلَالٍ) جمع ظلة.
وقوله: (عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ).
الاتكاء على الأرائك إنما هو للراحة، فيخبر - واللَّه أعلم - عن غاية راحتهم ونهاية كرامتهم، وإلا ليس في الاتكاء على الأرائك فضل كرامة ومنزلة، ولكن يذكر عن راحتهم وتنعمهم؛ كقوله: (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا).
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (الْأَرَائِكِ): السرر في الحجال، واحدها: أريكة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (الْأَرَائِكِ): الوسائد.
وعن الحسن قال: الأريكة: الحجلة، وهي بلغة أهل اليمن يسمون الحجلة: أريكة.
قوله تعالى: (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (٥٧)
قيل: الفاكهة هي التي تؤكل على الشهوة لا على الحاجة، يخبر - واللَّه أعلم - أن أهل الجنة إنما يأكلون ما يأكلون على الشهوة لا على الحاجة.
وقوله: (وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ).
قيل: ما يتمنون، وقيل: ما يسألون.
وجائز أن يكون (يَدَّعُونَ) ومن الدعوى، أي: يعطون جميع ما يدعون لأنفسهم ليس
الآية ٥٧ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ لهم فيها فاكهة ولهم ما يدّعون ﴾ قيل : الفاكهة، هي التي تؤكل على الشهوة لا على الحاجة. يخبر، والله أعلم، أن أهل الجنة إنما يأكلون على الشهوة لا على الحاجة.
وقوله تعالى :﴿ ولهم ما يدّعون ﴾ قيل : ما يتمنّون : وقيل : ما يسألون. وجائز أن يكون ﴿ ما يدّعون ﴾ من الدعوى، أي يعطون جميع ما يدّعون لأنفسهم، ليس كالدنيا.
وقال أبو معاذ :﴿ ولهم ما يدّعون ﴾ أي ما يشتهون، ويتمنّون في الجنة، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
كالدنيا.
وقال أبو معاذ: (وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ) أي: ما يشتهون ويتمنون في الجنة، واللَّه أعلم.
وقوله: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: يردون إليهم - أعني: الملائكة - سلام اللَّه بحق التبليغ إليهم سلام اللَّه نحو ما يبلغ بعضهم بعضًا سلام بعض: أقرئ فلانًا مني السلام؛ فعلى ذلك يقولون: إن اللَّه قد أقرأ عليكم السلام.
والثاني: أن يسلم عليهم الملائكة بأمر ربهم، يدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم.
والثالث: أن يكون القول من اللَّه وعدا بالسلامة لهم فيها من كل آفة وبلاء يكون شي الدنيا؛ كقوله: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)، ونحوه.
وفي حرف أبيّ وابن مسعود: (سلامًا قولًا) بالنصب، فهو - واللَّه أعلم - كأنهما يجعلان تمام الكلام في قوله: (يَدَّعُونَ) ثم يقطع (سلامًا قولا) منه، وأمَّا قراءة هَؤُلَاءِ برفع السلام، فمعناها - واللَّه أعلم -: ولهم ما يدعون سلامًا، ثم الكلام قطع (قَولًا) منه.
* * *
قوله تعالى: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (٦٧)
وقوله: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ).
كأن أهل الجنة وأهل النار يكونون مختلطين، فيفرق هَؤُلَاءِ؛ لأنهم يكونون في الابتداء مجموعين، وكذلك سمي: يوم الجمع، ويوم الحشر، ثم يفرق بينهم؛ كقوله: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، وسمي: يوم الفصل.
وأصل قوله: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ) ليس على الأمر في الحقيقة: أن افترقوا، ولكن على حقيقة التفريق على ما ذكر في آية أخرى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، وأصل الامتياز: الافتراق والاعتزال؛ وبه يقول أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: إن الامتياز هو التفرق والتنحي.
وقوله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠)
الآية ٥٩ وقوله تعالى :﴿ وامتازوا اليوم أيها المجرمون ﴾ كان أهل الجنة وأهل النار، يكونون مختلطين، فيُفرّق هؤلاء [ عن هؤلاء ]١ لأنهم يكونون٢ في الابتداء مجموعين، ولذلك سمّى ﴿ يوم الجمع ﴾ [ الشورى : ٧ والتغابن : ٩ ] ويوم ﴿ الحشر ﴾ [ الحشر : ٢ ]، ثم يفرّق بينهم كقوله :﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ﴾ [ الشورى : ٧ ] ولذلك سمّى ﴿ يوم الفصل ﴾ [ الصافات : ٢١ و. . ].
وأصل قوله :﴿ وامتازوا اليوم ﴾ ليس على الأمر في الحقيقة أن افترقوا، ولكن على حقيقة التفريق على ما ذكر في آية أخرى :﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ﴾ [ الأنفال : ٣٧ ].
وأصل الامتياز الافتراق والاعتزال، وبه يقول أبو عوسجة والقتبي : إن الامتياز، هو التفرّق والتّنحّي.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ من م، في الأصل: يكون..
الآية ٦٠ وقوله تعالى :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ﴾ يخرّج على وجوه ثلاثة :
أحدها : عهد خلقة وبيّنة، إذ قد جعل الله تعالى في خلقة كل أحد بيّنة١ تشهد على وحدانيته، وجعل العبادة له، وصرفها٢ عمن دونه، فنقضوا ذلك العهد، وصرفوا العبادة إلى غيره والألوهية.
والثاني : ما أخذ عليهم من العهد على ألسن الرسل والأنبياء من الأمر والنهي.
والثالث : ما جعل فيهم من الحاجات والشهوات التي يحملهم قضاؤها من عنده على صرف العبادة إليه والشكر له على نعمائه وجعل الألوهية له، ويمنعهم صرفها إلى غيره وجعلها لمن دونه، فنقضوا ذلك كله، وتركوه.
فإن قيل : ذكر عبادة الشيطان، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، ولا يعبده، بل كل ينفر٣ عن عبادته، ويهرب منه [ قيل : إن هذا ]٤ يخرّج على وجهين :
أحدهما : يحتمل أنه يريد من الشيطان المردة من الكفرة والأئمة منهم، الذين صرفوهم عن عبادة الله، سمّوا شيطانا لما بعّدوا عن رحمة الله، شطن أي بعُد كقوله :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ].
والثاني : نسب تلك العبادة إلى الشيطان، وأضافها إليه، وإن كانوا هم لا يقصدون بعبادتهم الشيطان لما بأمره يعبدون [ ما يعبدون ]٥ من الأصنام، فنسب إليه الأمر، أو لما كان منه بداية الأمر، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إنه لكن عدوٌّ مبين ﴾ عداوته لنا ظاهرة بيّنة في كل شيء حتى في المأكل والمشرب والملبس كقوله /٤٤٨-أ/ ﴿ فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ورى عنهما ﴾ الآية [ الأعراب : ٢٠ ] فهو يريد أن يوقعنا، فهو عدوّ لنا.
١ أدرج بعدها في الأصل وم: ما..
٢ في الأصل وم: ويصرفها..
٣ في الأصل وم: يفر.
٤. من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: لكنه.
٥. من م، ساقطة من الأصل.
يخرج على وجوه ثلاثة:
أحدها: عهد خلقة وبنية؛ إذ قد جعل اللَّه تعالى في خلقة كل أحد وبنيته ما يشهد على وحدانيته، وجعل العبادة له ويصرفها عمن دونه، فنقضوا ذلك العهد وصرفوا العبادة إلى غيره والألوهية.
والثاني: ما أخذ عليهم من العهد على ألسن الرسل والأنبياء من الأمر والنهي.
والثالث: ما جعل فيهم من الحاجات والشهوات التي يحملهم قضاؤها من عنده على صرف العبادة إليه والشكر له على نعمائه، وجعل الألوهية له، ويمنعهم صرفها إلى غيره وجعلها لمن دونه، فنقضوا ذلك كله وتركوه.
فَإِنْ قِيلَ: ذكر عبادة الشيطان، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان ولا يعبده، بل كل يفر عن عبادته ويهرب منه، لكنه يخرج على وجهين:
أحدهما: يحتمل أن يريد بالشيطان: المردة من الكفرة والأئمة منهم الذين صرفوهم عن عبادة اللَّه، سموا شيطانًا؛ لما بعدوا عن رحمة اللَّه؛ شطن، أي: بعد، كقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا).
والثاني: نسب تلك العبادة إلى الشيطان وأضافها إليه، وإن كانوا هم لا يقصدون بعبادتهم الشيطان؛ لِمَا بأمره يعبدون ما يعبدون من الأصنام؛ فنسب إليه بالأمر، أو لما كان منه بداية الأمر، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
عداوته لنا ظاهرة بينة في كل شيء، حتى في المأكل والمشرب والملبس؛ كقوله: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا...) الآية؛ إذ هو يريد أن يوقعنا في المهالك فهو عدو لنا.
وقوله: (وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
أي: اعبدوني فإن عبادتي هي الصراط المستقيم.
وقوله: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)
يحتمل قوله: (أَضَلَّ مِنْكُمْ)، أي: أهلك، وهو ما أهلك من القرون المتقدمة نحو عاد وثمود وقرونًا غير ذلك، والإضلال يكون الإهلاك في اللغة.
ويحتمل على حقيقة الإضلال عن الهدى.
ثم هو يخرج على وجهين:
الآية ٦٢ وقوله تعالى :﴿ ولقد أضلّ منكم جيلا كثيرا ﴾ يحتمل قوله ﴿ أضل ﴾ أي أهلك، وهو ما أهلك من القرون المتقدمة نحو عاد وثمود وقرونا غير ذلك، والإضلال يكون الإهلاك في اللغة، ويحتمل على حقيقة الإضلال عن الهدى. ثم هو يخرّج على وجهين :
أحدهما : إن رأيتم، وعلمتم أنه قد أهلك الله خلقا كثيرا بإبليس بما ضلّوا به، واستأصلهم لذلك، فكونوا أنتم يا معشر أهل مكة على حذر منه لئلا ينزل بكم كما نزل بأولئك بضلالهم به، والله أعلم ﴿ أفلم تكونوا تعقلون ﴾ أنه فعل ذلك بهم ؟ يخرّج على التعبير والتوبيخ لهم لترك هؤلاء والنظر في أمر أولئك.
والثاني :﴿ جيلا كثيرا ﴾ قال بعضهم : جموعا كثيرة. وقال بعضهم : خلقا كثيرا. وقال بعضهم أمما كثيرة، وكله واحد.
وأصله من قولك : جبلهم على كذا، أي طبعهم، ويُقرأ : جُبُلاً وجُبُلاًّ وجِبْلاً وجِبِلاًّ برفع الجيم وخفضها وتشديد اللام١.
قال أبو عوسجة : الجِبِلّة الخِلقة.
١ في الأصل وم: والتشديد انظر معجم القراءات القرآنية ج٥/٢١٧..
أحدهما: أن قد رأيتم وعلمتم أنه قد أهلك اللَّه خلقًا كثيرًا بإبليس بما ضلوا به واستأصلهم لذلك؛ فكونوا أنتم يا معشر أهل مكة على حذر منه؛ لئلا ينزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ بضلالهم به - واللَّه أعلم - (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ): أنه فعل ذلك بهم، يخرج على التعيير والتوبيخ لهم لترك هَؤُلَاءِ النظر في أمر أُولَئِكَ.
والثاني: قوله: (جِبِلًّا كَثِيرًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: جموعًا كثيرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلقًا كثيرًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أممًا كثيرة؛ وكله واحد، وأصله من قولك: جبلهم على كذا، أي: طبعهم، ويقرأ: (جُبلًّا) و (جِبِلًّا) برفع الجيم والتشديد وخفضها والنشديد.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجبلة والجبلة: الخلق.
وقوله: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣)
يشبه أن يكونوا لما رأوا جهنم قالوا: ما هذا الذي نراه؟! فعند ذلك قيل لهم: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها، (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) أي: ادخلوها اليوم بما كنتم تكذبون بها، واللَّه أعلم.
وقوله: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ... (٦٥)
أي: نطبع على أفواههم، فلا يتكلمون (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
كأنهم - واللَّه أعلم - لما أنكروا كفرهم وشركهم وعملهم الذي عملوه في الدنيا؛ كقولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وأمثاله عند ذلك يأذن الله لسائر جوارحهم وأركانهم بالنطق والشهادة عليهم بما عملوا؛ كقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ...) الآية، وقوله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ...) الآية، ثم أنطق ألسنتهم حتى يعاتبوا الجوارح في شهادتها عليهم بقوله: (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
وفيه أن النطق والكلام الذي يكون من اللسان لا يكون لأنه لسان أو لنفس اللسان، ولكن للطف يجعل اللَّه ذلك في اللسان فينطق، فحيثما جعل ذلك اللطف والمعنى في أي جارحة ما جعل نطقت وتكلمت، ولو كان النطق والكلام لنفس اللسان، لكان يجب أن ينطق لسان كل ذي لسان لما له اللسان، فإذا لم ينطق دل أنه للطف جعل فيه به ينطق
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٣:الآيتان ٦٣ و٦٤ وقوله تعالى :﴿ هذه جهنم التي كنتم توعدون ﴾ بها ﴿ اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون ﴾ أي ادخلوها اليوم بما كنتم تكذّبون بها، والله أعلم.
الآية ٦٥ وقوله تعالى :﴿ اليوم نختم على أفواههم ﴾ أي نطبع على أفواههم فلا يتكلمون ﴿ وتُكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ﴾ كأنهم، والله أعلم، لما أنكروا كفرهم وشركهم وعملهم الذي عملوه في الدنيا كقوله :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] وأمثاله، عند ذلك يأذن الله سائر جوارحهم وٍأركانهم بالنطق والشهادة عليهم بما عملوا كقوله :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم ﴾ الآية [ النور : ٢٤ ] وقوله ﴿ شهد عليهم سمعهم ﴾ الآية [ فصلت : ٢٠ ]. ثم تنطق ألسنتهم حتى يعاتبوا الجوارح في شهادتها عليهم بقوله :﴿ لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ﴾ [ فصلت : ٢١ ].
وفيه أن النطق والكلام الذي يكون من اللسان لا يكون، لأنه لسان، أو لنفس اللسان، ولكن للُطف يجعل الله ذلك في اللسان، فينطق. فحينما جعل ذلك اللطف والمعنى وفي أية جارحة ما جعل نطقت، وتكلمت، ولو كان النطق والكلام لنفس اللسان لكان يجب أن ينطق لسان كل ذي لسان لما له اللسان. فإذا لم ينطق دل أنه للطف جعل ما فيه به ينطق، ويتكلم. فحيثما جعل المعنى واللطف نطق، وتكلم. وكذلك السمع والبصر وكل جارحة منه من اليد والرجل وغيرهما، جعل لطفا ومعنى، به يُسمع السمع، وبه يبصر البصر، وبه تأخذ، وتقبض اليد، وبه تمشي، وتذهب الرجل. فأينما جعل ذلك اللطف وذلك [ المعنى كان منه ذلك ما كان من السمع والبصر وغيره وكذلك ]١ الأطعمة والمياه، ليس الغذاء في عينها، ولكن في لطف، جعل الله فيها لطفا ومعنى، يصير غذاء لهم.
ألا ترى أن عين الطعام [ لا يبقى في المعدة ]٢ فيُرمى به، وينتفع بما فيه من الغذاء ؟ والله أعلم.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل وم: يبقى..
ويتكلم، فحيثما جعل ذلك المعنى واللطف نطق وتكلم؛ وكذلك السمع والبصر وكل جارحة منه من اليد والرجل وغيره جعل لطفًا ومعنى به يسمع السمع، وبه يبصر البصر، وبه تأخذ وتقبض اليد، وبه تمسْي وتذهب الرجل، فأينما جعل ذلك اللطف وذلك المعنى كان منه ذلك ما كادْ من السمع والبصر وغيره؛ وكذلك الأطعمة والمياه ليس الغذاء في عينها، ولكن في لطف جعل اللَّه فيها لطفًا ومعنى يصير ذلك غذاء لهم؛ ألا ترى أن عين الطعام تبقى فيرمى به وينتفع بما فيه من الغذاء؟! واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦)
قال بعض أهل التأويل: لو نشاء لطمسنا أعين الضُّلَّال، فاستبقوا فلم يبصروا الطريق، فأنى يبصرون وقد فقأنا أعينهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو نشاء لحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فلو طمست: أي: حولت عن الكفر - لاستبقوا الصراط، يقول: لأبصروا طريق الهدى، ثم قال: (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) يقول: فمن أين يبصرون الهدى إن لم أعم عليهم طريق الكفرة؟!
(وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ... (٦٧)
أي: لأقعدناهم على أرجلهم لا يتقدمون ولا يتأخرون.
ويشبه أن يكون على خلاف هذا على التمثيل؛ يقول - واللَّه أعلم -: لو طمسنا أعينهم وأعميناهم فاستبقوا الطريق (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ)، أي: لا يبصرون الطريق؛ فعلى هذا إذا طمسنا أعين القلوب فأعميناها، فأنى يبصرون الهدى، أي: لا يبصرون.
(وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ).
يقول ذلك - واللَّه أعلم - على التمثيل، أي: لو حولنا ظاهر خلقتهم وصيرناها خنازير وقردة حتى ذهبنا بمنافع أنفسهم ظاهرة، فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون؛ فعلى ذلك إذا مسخنا قلوبهم وحولناها عن مكانها ما انتفعوا بها كما لم ينتفعوا بظواهر جواهرهم، على التمثيل لا على التحقيق.
وفي قوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ)، (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ) ودلالة أن لله في ذلك صنعًا؛ إذ لو لم يكن له فيما يختارون من الأفعال والأعمال صنع، لم يكن لتوعدهم على إذهاب ذلك وتحويله عن مكانه معنى، فدل أن له صنعًا في ذلك وفعلا.
قال الحسن وقتادة في قوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ) فتركناهم عميا يترددون
الآية ٦٧ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم ﴾ أي لأقعدناهم على أرجلهم لا يتقدمون، ولا يتأخّرون.
ويشبه أن يكون على خلاف هذا، على التمثيل، يقول، والله أعلم : لو طمسنا أعينهم، وأعميناهم، فاستبقوا الطريق ﴿ فأنى يبصرون ﴾ ؟ أي لا يبصرون الطريق. فعلى هذا إذا طمسنا أعين القلوب، فأعميناهم ﴿ فأنى يبصرون ﴾ الهدى ؟ أي لا يبصرون.
[ وقوله تعالى ]٢ :﴿ ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مُضيًّا ولا يرجعون ﴾ يقول، والله أعلم، على التمثيل : لو حوّلنا ظاهر خلقتهم٣، وصيرناها خنازير وقردة حتى ذهبنا بمنافع أنفسهم الظاهرة٤ ﴿ فما استطاعوا مضيّا ولا يرجعون ﴾. فعلى ذلك إذا مسخنا قلوبهم، وحولناها عن مكانها ما انتفعوا بها كما ينتفعون بظاهر جوارحهم٥ على التمثيل لا على التحقيق.
وفي قوله :﴿ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ﴾ دلالة أن لله في ذلك صنعا، إذ لم يكن في ما يختارون من الأفعال والأعمال صنع لم يكن [ لتوعّده إياهم ]٦ على إذهاب ذلك وتحويله عن مكانه معنى. فدل أن له صنعا في ذلك وفعلا.
قال الحسن وقتادة في قوله :﴿ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ﴾ فتركناهم عُميا، يتردّدون ﴿ ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم ﴾ أي لأقعدناهم على أرجلهم على ما ذكر ﴿ فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ﴾ يقول : والله أعلم : ما استطاعوا أن يتقدموا، ويتأخّروا.
وابن عباس رضي الله عنه يقول ما تقدم ذكره، أي لو شاء غير أعين الضُّلال، فلم يُبصروا الطريق، ﴿ فأنى يبصرون ﴾ ؟ أي كيف يبصرون ؟ أو نحوه من الكلام.
ومقاتل يقول : لو شاء طمس أعينهم ظاهرة ﴿ فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ﴾ ؟ أي لا يبصرون : وهو قريب مما ذكر أنفا.
وجائز أن يكون على التمثيل على ما ذكرنا بدءا.
ويحتمل على التحقيق : أن من قدر على الطمس أو المسخ وما ذكر من النّكس لا يعجزه شيء عن البعث وغيره، إذ خلق الإنسان للطمس أو المسخ خاصة لا لعاقبة تُقصد ليس بحكمة [ فيكون فيه إثبات البعث ]٧ أو يذكر أنه لو شاء لطمسهم، ولمسخهم، لكنه تركهم، فلم يطمسهم، ولم يمسخهم، ليبقوا في النعمة، ليشكروا نعمه.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ من م، في الأصل: خلقهم..
٤ في الأصل وم: ظاهرة..
٥ في الأصل وم: جواهرهم..
٦ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: لتوعدهم..
٧ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من وم..
(وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ): أي: لأقعدناهم على أرجلهم على ما ذكر.
(فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ).
يقول - واللَّه أعلم -: ما استطاعوا أن يتقدموا ويتأخروا.
وابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول ما تقدم ذكره، أي: لو شاء غير أعين الضُّلَّال فلم يبصروا الطريق (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي: كيف يبصرون، أو نحوه من الكلام.
ومقاتل يقول: لو شاء طمس أعينهم ظاهره (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ)، أي: لا يبصرون، وهو قريب مما ذكر آنفًا.
وجائز أن يكون على التضثيل على ما ذكرنا بدءًا.
ويحتمل على التحقيق أن من قدر على الطمس أو المسخ وما ذكر من النكس، لا يعجزه شيء من البعث وغيره؛ إذ خلق الإنسان للطمس أو المسخ خاصة لا لعاقبة تقصد ليس بحكمة.
أو يذكر أنه لو شاء لطمسهم ولمسخهم، لكنه تركهم فلم يطمسهم ولم يمسخهم؛ ليبقوا في النعمة؛ ليشكروا نعمه.
* * *
قوله تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٦)
وقوله: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ).
أي: من نعمره حتى يدركه الهرم والضعف، يقول: نرده في الخلق الأول لا يعقل فيه كعقله الأول؛ كقوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ).
(أَفَلَا يَعْقِلُونَ).
أي: من فعل هذا، أو قدر على هذا، لا يعجزه شيء ويتأدى به شكره.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: المطموس: هو الذي لا يكون بين جفنيه شق، (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) أي: فتجوزوا.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ) أي: أعميناهم، والمسخ: هو تغيير
الصور والأبدان.
وقوله: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ).
أي: نصيره ضعيفًا بعد أن كان قويًّا.
وقوله: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ... (٦٩)
نزل هذا - واللَّه أعلم - عند قولهم: إنه شاعر، وإنه كذاب؛ فأخبر أنه لم يعلمه الشعر، وما ينبغي له الشعر، تكذيبًا لهم، وردًّا عليهم: أنه شاعر، وأن هذا القرآن شعر، جعل اللَّه عجز رسوله عن القيام بإنشاد الشعر بعض آياته من آيات رسالته، كما جعل عجزه عن تلاوة الكتاب من قبل وكتابته وخطه بيمينه آية من آيات رسالته؛ ليعلم أُولَئِكَ الذين قذفوه بالشعر والافتراء من نفسه والكذب على اللَّه وبالسحر أنه إنما أخبر عن وحي عن اللَّه، لا ما يقولون هم، وهم على يقين، وعلم: أنه ليس شاعرًا ولا ساحرًا ولا كذابًا؛ لما لم يروه اختلف إلى أحد منهم في تعلم ذلك، ولا كان عنده من كتبهم منها أخذ ذلك أولا أخذ عليه، كذب قط، لكنهم نسبوه إلى ما نسبوه من الشعر والسحر والكذب؛ تعنتًا منهم وعنادًا، يلبسون أمره بذلك على أتباعهم وسفلتهم؛ لئلا تذهب رياستهم ومنفعتهم.
وفي قوله: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) دلالة نقض قول المعتزلة؛ حيث أخبر أنه لم يعلمه الشعر، وقد أعطى له جميع أسباب الشعر، وقال في القرآن: (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) و (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)، أنه كان من اللَّه لطف سوى السبب فيما أخبر أنه قد علمه؛ دل أن التعليم له فيما كان منه تعليم له بلطف منه سوى السبب لا بنفس السبب؛ إذ نفس السبب قد كان له في الأمرين جميعًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا يَنْبَغِي لَهُ).
أن يشتغل بشيء مما يتلهى به، والشعر في الأصل؛ إنما جعل للتلهي به والتلذذ؛ لذلك حيل بينه وبين طبعه إنشاد الشعر؛ ليكون أبدًا مشتغلا بما هو حكمة وعلم، وفيما هو أمر اللَّه، لا بما فيه التلهي واللهو، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ).
(إِن هُوَ) أي: ما هذا القرآن إلا ذكر؛ لما نسوه من أمر اللَّه ووعده ووعيده ومما لهم، ومما عليهم، يذكرهم ما نسوه وتركوه و (مُبِينٌ): يبين لهم ما لهم وما عليهم، أو يبين لهم ما يؤتى وما يتقى، أو يبين لهم أنه من اللَّه جاء ومن عنده نزل لا من عند المخلوقين.
أو (ذِكْرٌ) لأهل الكتاب، يذكرهم بما نسوه مما كان في كتبهم من نعته وصفته وما
عليهم القيام به وما ليس، و (مُبِينٌ) لمشركي العرب أنه رسول وأن هذا القرآن من عنده جاء به، وكل كتب اللَّه ذكر ومبين ورحمة ونور وشفاء على ما أخبر، واللَّه أعلم.
وقوله: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧٠)
قَالَ بَعْضُهُمْ: من كان عاقلا، يقول: لينذر القرآن من له عقل حن فيؤمن، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) أي: السخطة على الكافرين في علم اللَّه أنهم لا يؤمنون.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا)، أي: مؤمنًا؛ لأن اللَّه - تبارك وتعالى - سمى المؤمن: حيا في غير آية، والكافر ميتًا.
ويحتمل قوله: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) أي: لتقع النذارة وتنفع من كان حيّا، أي: مؤمنًا على ما ذكرنا، وإن كان ينذر الفريقين جميعًا؛ كقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)، هو ينذر من اتبع الذكر، ومن لم يتبع الذكر، لكن النذارة إنما تقع وتنفع لمن اتبع الذكر وخشي الرحمن خاصة؛ وكقوله: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، هو يذكر لهم جميعًا لكن المنفعة للمؤمنين فعلى ذلك الأول.
ويحتمل قوله: (مَنْ كَانَ) أي: من يطلب بحياته الفانية الحياة الدائمة، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) القول الذي قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (٧١)
قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع: أن قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا) و (أَلَمْ تَرَ)، ونحوه أنه في الظاهر حرف استفهام، لكنه من اللَّه على الإيجاب والإلزام؛ ثم هو يخرج على وجهين:
أحدهما: على الخبر أن قد رأوا ما خلق لهم من الأنعام وما ذكر.
والثاني: على الأمر على الرؤية والنظر فيما ذكر، أي: فليروا.
فإن كان على الخبر أنهم قد رأوا ما خلق لهم من الأنعام، فهلا تفكروا واعتبروا فيما خلق لهم من الأنعام وغيرها: أنه لم يخلق لهم ذلك عبثًا باطلا ولكن لحكمة، ولو لم يكن بعث على ما يقولون هم كان خلق ذلك عبثًا باطلا؟!
أو أن يقول: إن من قدر على تصوير ما ذكر من الأنعام وغيره في الأرحام وتركيب ما ركب فيها من الأعضاء والجوارح في الظلمات، لا يحتمل أن يخفى عليه شيء أو يعجزه، أو يفعل ذلك على التدبير الذي فعل بلا حكمة.
الآية ٧١ وقوله تعالى :﴿ أولم روا أنا خلقنا لهم ﴾ قد ذكرنا في ما تقدم في غير موضع أن قوله :﴿ ألم تر ﴾ ونحوه أنه في الظاهر حرف استفهام، لكنه من الله على الإيجاب والإلزام. ثم هو يخرّج على وجهين :
أحدهما : على الخبر أن قد رأوا ما خلق من الأنعام وما ذكر.
والثاني : على الأمر بالرؤية١ والنظر في ما ذكر، أي فليروا.
فإن كان على الخبر أنهم قد رأوا ما خلق الله من الأنعام فهلا تفكّروا، واعتبروا في ما خلق لهم من الأنعام وغيرها أنه لم يخلق لهم ذلك عبثا باطلا [ ولكن لحكمة. ولو لم يكن بعث على ما يقولون هم كان خلق ذلك عبثا باطلا }٢.
[ أو يقول : إن من قدر على خلق ذلك من الأنعام وتسخيرها ما لو تركها كلها، لم يُمتها لامتلأت الأرض، لا يُحتمل أن يعجزه شيء، ولا يقدر على البعث والإحياء بعد الموت ]٣.
أو يقول٤ : إن من قدر على تصوير ما ذكر من الأنعام وغيره في الأرحام وتركيب ما ركّب فيها من الأعضاء والجوارح في الظلمات لا يحتمل أن يخفى عليه شيء، أو يعجزه، أو يفعل ذلك على التدبير الذي فعل بلا حكمة.
أو يذكر أنه خلق لهم من الأنعام، وذلّلها لهم، وجعل لهم فيها من المنافع ما ذكرنا بلا شكر يلزمهم، يستأدي على ذلك شكر ما أنعم عليهم. على هذا لو كان على الأمر بالرؤية في ما خلق والنظر، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ مما عملت أيدينا أنعاما ﴾ يحتمل ما عملت أيدي الخلق من الزراعة والغرس وغير ذلك مما يعمله الخلق، نسب ذلك إلى نفسه.
ويحتمل :﴿ مما عملت أيدينا ﴾ كقوله :﴿ والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون ﴾ [ الذاريات : ٤٧ ] وقوله :﴿ قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ استكبرت أم كنت من العالمين ﴾ [ ص : ٧٥ ] أي بقوتي ونحوه، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فهم لها مالكون ﴾ قال بعضهم : قادرون على الانتفاع بها واستعمالها، يقول الرجل في ما له فيه حقيقة الملك : أنا غير مالك عليه، إذا كان غير قادر على الانتفاع به، ولا مالك على استعماله.
وقيل :﴿ مالكون ﴾ أي ضابطون قادرون على إمساكها، يقال : فلان غير ضابط على إبله ودابته، وهما واحد، والله أعلم.
١ في الأصل وم: على الرؤية..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ ساقطة من م..
٤ من م، في الأصل: يقولوا..
أو يذكر أنه خلق لهم من الأنعام وذللها لهم وجعل لهم فيها من المنافع ما ذكرنا بلا شكر يلزمهم، يتأدى على ذلك شكر ما أنعم عليهم على جهة ما لو كان على الأمر بالرؤية فيما خلق والنظر، واللَّه أعلم.
وقوله: (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا).
يحتمل ما عملت أيدي الخلق من الزراعة والغرس وغير ذلك مما يعمله الخلق، نسب ذلك إلى نفسه.
ويحتمل (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا)، أي: قوتنا؛ كقوله: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ)، وقوله: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، أي: بقوة ونحوه، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: قادرون على الانتفاع بها والاستعمال لها، يقول الرجل فيما له فيه حقيقة الملك: أنا غير مالك عليه إذا كان غير قادر على الانتفاع به، ولا مالك على استعماله.
وقيل: (مَالِكُونَ)، أي: ضابطون قادرون على إمساكها، يقال: فلان غير ضابط على إبله ودابته وهما واحد، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ (٧٣)
يخبر عن أنواع ما جعل لهم من الأنعام وأنعم عليهم؛ ليتأدى بذلك شكره، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ... (٧٥)
يخبر عن سفههم وقلة بصرهم وفهمهم؛ لاتخاذهم الأصنام آلهة وعبادتهم إياها؛ رجاء النصر لهم، وتركهم عبادة اللَّه على وجود المعونة والنصر منه، وجعله كل شيء لهم، ثم يكون رجاؤهم بذلك ما قالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عَندَ اللَّهِ)، و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلفَى)، وذلك في الآخرة.
ويحتمل رجاء النصر لهم بعبادتهم الأصنام في الدنيا في دفع ما ينزل بهم من البلايا والشدائد؛ كقوله: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ).
ثم أخبر أن الأصنام إلتي يعبدونها وما رجوا منها لا يستطيعون نصرهم وما رجوا من شفاعتهم والنصر لهم، وأخبر أن ما عبدوا دونه يصير أعداء لهم.
قال: (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ).
في الآخرة؛ كقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)؛ هذا على تأويل بعضهم من أهل التأويل يجعل الأصنام جندًا عليهم وأعداء لهم على ما ذكرنا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٢:الآيتان ٧٢ و٧٣ وقوله تعالى :﴿ وذلّلناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ﴾ ﴿ ولهم فيها منافع ومشارب ﴾ يخبر عن أنواع ما جعل لهم من الأنعام، وأنعم عليهم ليستأدي بذلك شكره، والله أعلم.
الآيتان ٧٤ و٧٥ قوله تعالى :﴿ واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون ﴾ ﴿ لا يستطيعون نصرهم ﴾ يخبر عن سفههم وقلة بصرهم لاتخاذهم الأصنام آلهة وعبادتهم إياها رجاء النصر لهم وتركهم عبادة الله على وجود المعونة والنصر منه وجعله كل شيء لهم.
ثم يكون رجاؤهم ذلك١ ما قالوا :﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ [ يونس : ١٨ ] [ وقالوا ]٢ :﴿ ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] وذلك في الآخرة.
ويحتمل رجاء النصر لهم بعبادتهم الأصنام في الدنيا دفع٣ ما ينزل بهم من البلايا والشدائد كقوله :﴿ وإذا مسّكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ].
ثم أخبر أن الأصنام التي يعبدونها وما رجوا منها ﴿ لا يستطيعون نصرهم ﴾ وما رجوا من شفاعتهم والنصر لهم.
وأخبر أن ما عبدوا دونه يصيرون أعداء لهم بقوله٤ :﴿ وهم لهم جُند محضرون ﴾ في الآخرة كقوله :﴿ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّا ﴾ [ مريم : ٧١ ] هذا على تأويل بعضهم من أهل التأويل بجعل الأصنام جندا عليهم وأعداء لهم على ما ذكرنا.
ويحتمل قوله :﴿ وهم لهم جُند محضرون ﴾ أي المشركون جند للآهلة التي يعبدونها، أي هم يتعصّبون٥ لها، ويقومون في دفع من همّ بها فسادا وإهلاكا، أعني أصنامهم التي كانوا يعبدونها كقوله ﴿ حرّقوه وانصروا آلهتكم ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ].
ثم اختلف فيه : قال بعضهم : ذلك في الآخرة. وقال بعضهم : ذلك في الدنيا، والله أعلم.
١. في الأصل و: بذلك..
٢ في الأصل وم: و.
٣ أدرج قبلها في الأصل وم: في..
٤ في الأصل وم: قال..
٥ في الأصل وم: يقيضون..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:الآيتان ٧٤ و٧٥ قوله تعالى :﴿ واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون ﴾ ﴿ لا يستطيعون نصرهم ﴾ يخبر عن سفههم وقلة بصرهم لاتخاذهم الأصنام آلهة وعبادتهم إياها رجاء النصر لهم وتركهم عبادة الله على وجود المعونة والنصر منه وجعله كل شيء لهم.
ثم يكون رجاؤهم ذلك١ ما قالوا :﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ [ يونس : ١٨ ] [ وقالوا ]٢ :﴿ ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] وذلك في الآخرة.
ويحتمل رجاء النصر لهم بعبادتهم الأصنام في الدنيا دفع٣ ما ينزل بهم من البلايا والشدائد كقوله :﴿ وإذا مسّكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ].
ثم أخبر أن الأصنام التي يعبدونها وما رجوا منها ﴿ لا يستطيعون نصرهم ﴾ وما رجوا من شفاعتهم والنصر لهم.
وأخبر أن ما عبدوا دونه يصيرون أعداء لهم بقوله٤ :﴿ وهم لهم جُند محضرون ﴾ في الآخرة كقوله :﴿ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّا ﴾ [ مريم : ٧١ ] هذا على تأويل بعضهم من أهل التأويل بجعل الأصنام جندا عليهم وأعداء لهم على ما ذكرنا.
ويحتمل قوله :﴿ وهم لهم جُند محضرون ﴾ أي المشركون جند للآهلة التي يعبدونها، أي هم يتعصّبون٥ لها، ويقومون في دفع من همّ بها فسادا وإهلاكا، أعني أصنامهم التي كانوا يعبدونها كقوله ﴿ حرّقوه وانصروا آلهتكم ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ].
ثم اختلف فيه : قال بعضهم : ذلك في الآخرة. وقال بعضهم : ذلك في الدنيا، والله أعلم.
١. في الأصل و: بذلك..
٢ في الأصل وم: و.
٣ أدرج قبلها في الأصل وم: في..
٤ في الأصل وم: قال..
٥ في الأصل وم: يقيضون..

ويحتمل قوله: (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ)، أي: المشركون جند للآلهة التي يعبدونها، أي: هم يقيضون لها ويقومون في دفع من هم بها فسادًا وإهلاكًا - أعني: أصنامهم التي كانوا يعبدونها - كقوله: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ).
ثم اخنلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في الآخرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في الدنيا، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٦)
كان من أُولَئِكَ الكفرة لرسول اللَّه أقوال مختلفة:
مرة كان منهم ما ذكر: (وَإِذ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ...) الآية.
ومرة قالوا: إنه ساحر، وإنه كذاب، وإنه شاعر.
ومرة قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً).
ومرة قالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا).
ومرة طعنوا فيه وفيما أقام من الحجج، ولا ندري أي قول كان منهم له فيحزن عليه حتى قال له: (فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)، أي: لا تحزن على قولهم؛ فإنا نعلم ما يسرون وما يعلنون؛ قنحفظ عليهم ذلك ونكافئهم على ذلك.
أو نعلم ما يسرون وما يعلنون فننصرك عليهم ونعينك.
أو أن يكون حزنه عليهم؛ إشفاقًا عليهم؛ لما كان يعلم نزول العذاب بهم والهلاك لعنادهم ومكابرتهم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
وقوله: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ).
هذا يخرج على الوجهين: إن كان على الأمر بالرؤية والنظر أي: فلير الإنسان ولينظر أن من قدر على خلق الإنسان مبتدأ من نطفة لقادر على إعادته؛ لأن إعادة الشيء في الشاهد أهون وأيسر من ابتدائه؛ إذ قد يحتذى ويصور بعد ما وقع البصر على الشيء ويرى ولا سبيل إلى احتذاء ما لم يروا، ولا تصوير ما لم يعاينوا، احتج اللَّه عليهم بالشيء الظاهر الذي يعلم كل أنه كذلك من غير تفكر ولا تأمل، وإلا الاحتجاج عليهم بالأشياء
الآية ٧٧ وقوله تعالى :﴿ أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة ﴾ هذا يخرّج على الوجهين :
[ أحدهما : على الخبر أن قد رأى الإنسان أنا قد خلقناه من نطفة فلا يفكّر أن من قدر على خلق الإنسان مبتدأ من نطفة [ غير قادر ]١ على إعادته.
والثاني ]٢ : على الأمر بالرؤية، والنظر، أي فلير الإنسان، ولينظر أن من قدر على خلق الإنسان مبتدأ من نطفة قادر٣ على إعادته أي إعادة الشيء في الشاهد أهون، وأيسر من ابتدائهّ، إذ قد يحتذى، ويصوّر، بعد ما يقع البصر على الشيء، ويرى، ولا سبيل إلى احتذاء ما لم يروا ولا تصوير ما لم يعاينوا.
احتج الله عليهم بالشيء الظاهر الذي يعلم كل [ واحد ]٤ أنه كذلك من غير تفكّر ولا تأمّل، والاحتجاج عليهم بالأشياء التي لم يذكر أبلغ وأكثر نحو خلق الإنسان من هذه النطفة على الصورة التي صورها، والنسمة التي خلقها فيها ما لو اجتمع حكماء البشر كلهم ليعرفوا٥ كيفية خلقه منها من تركيب العظم والشعر والعين والبصر والسمع والعقل وجميع الجوارح ما قدروا /٤٤٩-أ/ على درك ذلك، أو لو اجتمعوا ليعرفوا٦ كيفية غذائهم بالأطعمة والأشربة التي جعلها غذاء لهم، والقوة التي بها يتقوّون٧ على كل أمر، أن كيف قدر، وقسم على السواء في الجوارح كلها المواد التي [ بها ]٨ ينمون، ويزيدون على الاستواء ما لو زاد في بعضها من قوى ذلك الطعام والشراب دون بعض، يزداد قوة على بعض، ونحو ذلك من العجائب، ولا سبيل إلى معرفة ذلك البتة يعد طول التفكر والتأمّل. لكنه احتج بالشيء الظاهر ليدركوا بالبديهة، ولا يدركون الآخر إلا بعد التأمل والتدبّر، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فإذا هو خصيم مبين ﴾ أي جدِل بيّن.
١ في الأصل وم: لقادر..
٢ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: وإن كان..
٣ في الأصل وم: لقادر..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل وم: أن يعرفوا..
٦ في الأصل وم: على أن يعرفوا..
٧ من م، في الأصل: ينفرون..
٨ ساقطة من الأصل وم..
التي لم يذكر أبلغ وأكثر نحو خلق الإنسان من هذه النطفة على الصورة التي صورها والنسمة التي خلقها فيها ما لو اجتمع حكماء البشر كلهم أن يعرفوا كيفية خلقه منها من تركيب العظم والشعر والعين - البصر - والسمع والعقل وجميع الجوارح - ما قدروا على درك ذلك، أو لو اجتمعوا على أن يعرفوا كيفية غذائهم بالأطعمة والأشربة التي جعلها غذاء لهم، والقوة التي بها يتقوون على كل أمر أن كيف قدر وقسم على السواء في الجوارح كلها؛ والمواد التي ينمون ويزيدون على الاستواء ما لو زاد في بعضها من قوى ذلك الطعام والشراب دون بعض يزداد قوة على بعض، ونحو ذلك من العجائب ما لا سبيل إلى معرفة ذلك ألبتَّة بعد طول التفكر والتأمل، لكنه احتج بالشيء الظاهر؛ ليدركوه بالبديهة ولا يدركون الآخر إلا بعد التأمل والتدبر، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).
أي: جدل بين.
وقوله: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ (٧٨) ما ذكر من ضرب المثل له: (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ).
وقوله: (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) يحتمل وجوهًا:
أحدها: أي: غفل عن القدرة في خلق نفسه ما لو نظر وتفكر لعرف أنه قادر على الإعادة؟!
والثاني: غفل عن الحكمة في الإعادة؟.
والثالث: غفل عن الحكمة في ابتداء خلقه نفسه، ثم يخرج هذا على وجوه:
أحدها: أنه لو نظر وتفكر في حق نفسه أنه خلق من نطفة، ثم حول النطفة علقة، وحول العلقة مضغة، وحول المضغة خلقًا وإنسانًا تأمًّا متقنا، ثم صيره بحيث يأخذ في النقصان بعد ما كان تامًّا، ثم من فعل هذا في الشاهد أن يحكم الشيء ويتقنه ويتمه ثم يهدمه بلا عاقبة تقصد به، كان غير حكيم فعلى ذلك كان ما أحكم اللَّه من الخلق وأتقنه وتممه، ثم جعل ينقض منه ويوهنه، فلو لم يكن إعادته وخلقه ثانيًا، كان خارجًا عن الحكمة، فلو نظر في ابتداء خلق نفسه، لعرف أنه يعيده وينشئه ثانيًا.
والثاني: لو نظر وتفكر في ابتداء خلق نفسه: أنه كيف دبره في تلك الظلمات الثلاث، وقدره على أحسن تقدير في ذلك، فلو نظر وتفكر أن من قدر على تدبيره وتقديره في الظلمات الثلاث على ما دبره وقدره - قادر على إعادته؛ وهو كقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، أي: هو أهون في عقولكم وتقديركم
أهون من ابتدائه، فإذا قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر وأملك؛ إذ ذلك قي عقولكم أهون وأيسر، وإلا ليس في وصف اللَّه تعالى أن شيئا أهون عليه من شيء، بل الأشياء كلها تحت قوله: (كُنْ فَيَكُونُ) من غير أن كان منه كاف أو نون أو شيء من ذلك، لكنه عبر به؛ لأنه أخف حروف على الألسن وأيسره وأقصر كلام وأوجزه يؤدي به المعنى ويفهم منه المراد.
والثالث: أنه خلق هذه الأشياء والجواهر كلها سوى البشر للبشر ولمنافعهم، فلو لم يكن بعث ولا نشأة أخرى، كان خلق هذه الأشياء لهم عبثا باطلا.
أو أن يكون قوله: (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي: غفل عن بدء خلقه إذ بدأ خلقه، إما أن كان من ماء أو تراب؛ فعلى ذلك إذا أفناه يصير ماء أو ترابًا فيعيده منه على ما أنشأه منه بدءًا.
ثم في قوله: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) دلالة نقض قول الباطنية وفساد مذاهبهم؛ حيث قالوا: إن إعادة الخلق وإنشاءه ليس على هذه البنية والصورة التي أنشأها بدءًا، ولكن ينشئ نفسًا روحانية على خلاف ما شاهدوها وعاينوها، فالآية تكذبهم وتنقض قولهم؛ حيث قال: (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) أخبر أنه يحيي العظام التي أنكروا هم إحياءها واستبعدوا ذلك، وعلى ذلك قال: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) احتج عليهم بعلمهم النشأة الأولى؛ لإنكارهم النشأة الأخرى، فلو كان على خلاف ذلك لم يكن للاحتجاج عليهم بذلك معنى؛ فدل أنه ينشئهم ويعيدهم على الهيئة الأولى.
والثاني: ينقض عليهم قولهم أيضًا حيث قالوا: يوصل إلى معرفة ذلك من الذي يعلمه الرسول ويخبره دون النظر والتفكر والتدبر، فلو كان على ما يقولون، لم يكن لقوله: (وَنَسِيَ خَلْقَهُ)، ولا لقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)، وقوله: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)، وقوله: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) - معنى؛ فدل أنه قد يوصل إلى معرفة ذلك بالتفكر والنظر، كما يوصل بخبر الرسول الذي قد أظهر صدقه للخلق، فتلزمه الحجة في هذا كما تلزمه في ذلك.
وقوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو نوع من الشجر يقال: المرخ، كانوا يوقدون منه النار، ويورون
الآية ٨٠ وقوله تعالى :﴿ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ﴾ اختلف فيه :
قال بعضهم : هو نوع من الشجر، يقال : المَرْخُ، كانوا يورون منه النار. وقيل : هو الزيتون الذي يُسرج منه. وتأويله : أن الشجر الأخضر، خضرته إنما تكون من الماء، والماء تطفئ النار، والنار تأكل الحطب والخشب. فمن قدر على الجمع بين المتضادين وحفظ كل واحد منهما عن صاحبه مما السبيل منها التنافر والتدافع [ فهو قادر ]١ على البعث، ولا٢ يعجزه شيء.
وقال بعضهم : قوله :﴿ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ﴾ هو أنشأ لكم من الشجر [ ما تتنزّهون به ]٣ وتتلذّذون ما دام أخضر. فإذا أدرك، وبلغ، تنتفعون [ بثماره وفواكهه ]٤ ثم يصير حطبا، توقدون منه٥ النار، وتصطلون. فمن قدر على ما ذكرنا لا يُحتمل أن يُعجزه شيء. أو من فعل ما ذكر لا يحتمل أن يفعله عبثا باطلا.
فلو كان على ما قاله الكفرة : أن لا بعث، ولا نشور، كان فعل ذلك عبثا باطلا، والله أعلم.
١ في الأصل وم: القادر..
٢ في الأصل وم: وأنه لا..
٣ يتنزهون بها..
٤ في الأصل وم: بثمارها وفواكهها..
٥ في الأصل وم: منها..
منه، وقيل: هو الزيتون الذي يسرج منه.
وتأويله: أن الشجر الأخضر خضرته إنما تكون من الماء، والماء يطفئ النار، والنار تأكل الحطب والخشب، فمن قدر على الجمع بين المتضادين وحفظ كل واحد منهما عن صاحبه مما السبيل منها التنافر والتدافع - لقادر على البعث، وأنه لا يعجزه شيء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) هو ما أنشأ لهم من الشجر يتنزهون به ويتلذذون ما دام أخضر، فإذا أدرك وبلغ ينتفعون بثماره وفواكهه، ثم يصير حطبًا يوقدون منه النار ويصطلون، فمن قدر على ما ذكرنا لا يحتمل أن يعجزه شيء، أو من فعل ما ذكر لا يحتمل أن يفعله عبثًا باطلا، فلو كان على ما قاله أُولَئِكَ الكفرة أن لا بعث ولا نشور، كان فعل ذلك عبثًا باطلا، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨١)
يذكر - واللَّه أعلم - أو ليس من قدر على إنشاء السماوات والأرض مبتدأ لا من شيء ولا أصل لا يحتمل أن يعجزه إعادة الخلق وبعثهم.
أو يقول: إن من قدر على خلق السماوات والأرض وما فيها قادر على أن يخلق مثلهم، وخلق المثل إعادة؛ لأنه إنما يكون بعد هلاك الذين أنشأهم وبعد إماتتهم، ويخلق مثلهم مع بقائهم سواهم، وفي ذلك ابتداء خلق وإعادة؛ فيلزمهم الإقرار بالبعث والقدرة على الإعادة.
ثم أخبر عن قدرته فقال: (بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).
أي: هو خلق كل شيء من جواهر الأشياء وأفعالهم.
أو هو الخلاق في الدنيا والآخرة، (الْعَلِيمُ) يحتمل وجوهًا:
يحتمل العليم ببعثهم، أو العليم بمصالحهم ومعاشهم وما لا يصلح.
أو العليم بأحوالهم وأنفسهم ما ظهر منهم وما بطن وما أسروا وما أعلنوا.
وقوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)
يحتمل: إنما حاله إذا أراد شيئًا (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، قد ذكرنا معنى هذه الآية فيما تقدم أن كل ما كان ويكون أبدًا لآبدين إنما يكون بـ (كن) الذي كان من غير أن كان منه كاف أو نون أو شيء من ذلك، إنما هو إخبار عن سرعة نفاذ أمره ومشيئته، أو إخبار عن خفة ذلك عليه؛ يقول - واللَّه أعلم -: كما لا يثقل عليكم قول: " كُن "؛ فعلى ذلك لا يثقل على اللَّه ابتداء خلق ولا إعادته ولا شيء من ذلك.
ثم نزه نفسه وبرأها وذكر تعاليه عما ظن أُولَئِكَ من البعث في خلق شيء وبطلانه،
الآية ٨٢ وقوله تعالى :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا ﴾ يحتمل إنما حاله ﴿ إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾ قد ذكرنا معنى هذه الآية في ما تقدم أن كل ما كان ويكون أبد الآبدين إنما يكون ب ﴿ كن ﴾ الذي كان من غير أن كان منه كاف ونون ﴿ فيكون ﴾ أو شيء من ذلك إنما هو إخبار عن سرعة نفاذ أمره ومشيئته، أو إخبار عن خفّة ذلك عليه.
يقول، والله أعلم : كما لا يثقل عليكم قول ﴿ كن ﴾ فعلى ذلك لا يثقل على الله ابتداء خلق ولا إعادته ولا شيء من ذلك.
ثم نزّه نفسه، وبرّأها، وذكر تعاليه عما ظن أولئك من البعث في خلق شيء وبطلانه.
فقال: (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
أي: تعالى وتبرأ عن أن يكون خلقه على ما ظن أُولَئِكَ حيث قال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا)، ذلك ظن الذين كفروا؛ فكان ظنهم أن لا بعث ولا نشور، ثم أخبر أنه لو لم يكن ذلك، لكان خلق ما ذكر عبثًا باطلا، فقال: تعالى عن أن يلحقه في خلق شيء عبث أو فساد، وكذلك قوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا...) الآية. ، صير خلق الخلق لا للرجوع إليه عبثًا باطلا.
أو أن يقول: يتعالى أن يثقل عليه إعادة الخلق أو ابتداؤهم، أو يتعالى عن أن يعجزه شيء، واللَّه أعلم.
قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (رَمِيمٌ) أي: بالية، يقال: رم العظم إذا بلي، فهو رميم ورمام؛ كما يقال: رفيت ورفات.
وقوله: (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا) قالا: أراد الوقود التي توري بها الأعراب من شجر المرخ والعفارة.
* * *
Icon