تفسير سورة يس

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة يس من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

التفسير وأوجه القراءة
١ - قوله ﴿يس (١)﴾ قرأ الجمهور (١): بسكون النون مظهرة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش: بإدغام النون في الواو الذي بعدها، وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بفتح النون، وقال الزجاج: النصب على أنه مفعول لفعل مقدر، كأنه قال: اتل يس، وهذا على مذهب سيبويه، أنه اسم للسورة، أو على البناء، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق أيضًا والسمال ونصر بن عاصم: بكسرها على البناء أيضًا كجير، وقرأ الكلبي وهارون الأعور ومحمد بن السميقع: بضم النون على البناء كمنذ وحيث وقط، وقيل: على أنها خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذه يس، ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث، وقال الكلبي: هي بلغة طيء، يا إنسان، وقيل: الحركة لالتقاء الساكنين، الفتح لطلب الخفة كأين وكيف، والضم كحيث، والكسر على أصل التقاء الساكنين كأمسِ.
وإذا قيل إنه قسم.. فيجوز أن يكون معربًا بالنصب على ما قاله أبو حاتم، والرفع على الابتداء نحو: أمانة الله لأقومن، والجر على إضمار حرف الجر، وهو جائز عند الكوفيين، وعبارة (٢) ابن الجوزي هنا: وقرأ الحسن وأبو الجوزاء: ﴿يس (١)﴾ بفتح الياء وكسر النون، وقرأ أبو المتوكل الناجي وأبو رجاء وابن أبي عبلة بفتح الياء والنون جميعًا، وقرأ أبو حصين الأسدي بكسر الياء وإظهار النون. قال الزجاج: والذي عند أهل العربية أن هذا بمنزلة افتتاح السور، وبعض العرب يسن، والقرآن بفتح النون، وهذا جائز في العربية لوجهين:
أحدهما: أن يس اسم للسورة، فكأنه قال: اتل يس، وهو على وزن هابيل وقابيل لا ينصرف.
والثاني: فتح لالتقاء الساكنين، والتسكين أجود؛ لأنه حرف هجاء. انتهى.
وقال صاحب "الروح": ﴿يس (١)﴾ إما مسرود (٣) على نمط التعديد، فلا حظ له من الإعراب أو اسم للسورة، وعليه الأكثر، فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ
(١) البحر المحيط بتصرف.
(٢) زاد المسير.
(٣) روح البيان.
474
محذوف؛ أي: هذه يس، أو النصب على أنه مفعول لفعل محذوف؛ أي: اقرأ يس، ويؤيِّد كونه اسم السورة قوله - ﷺ -: "إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن خلق آدم بألفي عام، فإذا سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل عليهم هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا".
قال الشوكاني (١): واختلف في معنى هذه اللفظة، فقيل: معناها يا رجل، أو يا إنسان، قال ابن الأنباري: الوقف على يس حسن لمن قال هو افتتاح للسورة، ومن قال معناه: يا رجل، أو يا إنسان.. لم يقف عليه، وقال سعيد بن جبير وغيره: هو اسم من أسماء محمد - ﷺ - دليله: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)﴾ قال السيد الحموي:
يَا نَفْسُ لا تَمْحَضِيْ بِالْوِدِّ جَاهِدَةً عَلَى الْمَوَدَّةِ إلَّا آلَ يَاسِيْنَا
ومنه قوله: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (١٣٠)﴾ أي: على آل محمد، وسيأتي في الصافات ما المراد بآل ياسين، قال الواحدي: قال ابن عباس والمفسرون: يريد يا إنسان؛ يعني: محمدًا - ﷺ -، وقال أبو بكر الوراق: معناه: يا سيد البشر، وقال مالك: هو اسم من أسماء الله تعالى، روى ذلك عنه أشهب، وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق: أن معناه: يا سيد، وقال كعب: هو قسم أقسم الله به، وقالت فرقة (٢): ﴿يا﴾ حرف نداء، والسين مقامة مقام إنسان، انتزع منه حرف فأقيم مقامه، ورجح الزجاج: أن معناه يا محمد، وقال البقلي: أقسم بيد القدرة الأزلية وسناء الربوبية.
واختلفوا هل هو عربي، أو غير عربي؟: فقال سعيد بن جبير وعكرمة: حبشي، وقال الكلبي: سرياني، تكلَّمت به العرب.. فصار من لغتهم، وقال الشعبي: هو بلغة طيء، وقال الحسن: هو بلغة كلب، وذهب قوم (٣) إلى أن الله تعالى لم يجعل لأحد سبيلًا إلى إدراك معاني الحروف المقطعة في أوائل السور، وقالوا: إن الله تعالى منفرد بعلمها، ونحن نؤمن بأنها من جملة القرآن العظيم،
(١) فتح القدير.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
475
ونكل علمها إليه تعالى ونقرأها تعبدًا وامتثالًا لأمر الله تعالى، وتعظيمًا لكلامه، وإن لم نفهم منها ما نفهمه من سائر الآيات، وهذا القول هو الأصح الأسلم الذي عليه أكثر السلف.
٢ - ﴿وَالْقُرْآنِ﴾ بالجر على أنه مقسم به ابتداء، والواو فيه واو القسم؛ أي: أقسم بالقرآن الحكيم، وقيل: الواو للعطف على يس إن جعل يس مقسمًا به؛ أي: أقسم بيس، وبالقرآن الحكيم، قال النقاش: لم يقسم الله سبحانه لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا لمحمد - ﷺ - تعظيمًا له وتمجيدًا، فقال في "إنسان العيون". من خصائصه عليه السلام أن الله تعالى أقسم على رسالته بقوله: ﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)﴾. اهـ.
﴿الْحَكِيمِ﴾؛ أي: الحاكم، كالعليم بمعنى العالم، فإنه يحكم بما فيه من الأحكام، فهو فعيل بمعنى: فاعل، أو المحكم المصفى من التناقض والعيب ومن التغير بوجه ما، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، وهو الذي أحكم نظمه وأسلوبه، وأتقن معناه وفحواه، فهو فعيل بمعنى مفعل، كما تقول: عقدت العسل، فهو عقيد؛ أي: معقد، أو (١) ذي الحكمة؛ أي: المتضمن لها والمشتمل عليها، فإنه منبع كل حكمة، ومعدن كل عظة، فيكون بمعنى النسب مثل تأمر بمعنى ذي تمر، أو هو من قبيل وصف الكلام بصفة المتكلم به؛ أي: الحكيم قائله.
٣ - ﴿إِنَّكَ﴾ يا أكمل الرسل، ويا أفضل الكل، وهو خطاب المواجهة بعد شرف القسم به، وهو مع قوله: ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ جواب للقسم، والجملة لرد إنكار الكفرة بقولهم في حقه - ﷺ - لست مرسلًا، وما أرسل الله إلينا رسولًا.
قال في "بحر العلوم": هو من الإيمان الحسنة البديعة لتناسب بين المرسل به والمرسل إليه اللذين: أحدهما: المقسم به المنزل، والآخر المقسم عليه، المنزل إليه. انتهى.
وهذه الشهادة منه تعالى من جملة ما أشير إليه بقوله تعالى: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾.
(١) روح البيان.
٤ - ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ متعلق بـ ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾، والمعنى: أي: إنك يا محمد لمن المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة، وهي التوحيد والاستقامة في الأمور كلها، قال ابن الجوزي: وأحسن (١) ما قيل في العربية أن يكون ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ خبر ﴿إن﴾، ويكون قوله: ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)﴾ خبرًا ثانيًا لها، فيكون المعنى: إنك لمن المرسلين، إنك على صراط مستقيم. اهـ. ويجوز أن يكون على صراط مستقيم حالًا من الضمير المستكن في خبر ﴿إِنّ﴾، والمعنى: أي: أقسم بالقرآن المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنك أيها الرسول لمن المرسلين الذين هم على دين قويم، وشرع مستقيم موصل إلى الجنة والرضى.
فإن قلت (٢): أيُّ حاجة إلى قوله: ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)﴾، ومن المعلوم أن الرسل لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟
قلتُ: فائدته وصف الشرع بالاستقامة صريحًا، وإن دل عليه لمن المرسلين التزامًا، فجمع بين الوصفين في نظام واحد، كأنه قال: إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت استقامته، وقد نكره ليدل له على أنه أرسل من بين الصراط على صراط مستقيم لا يوازيه صراط، ولا يكتنه وصفه في الاستقامة، فالتنكير للتفخيم، كما سيأتي.
٥ - ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥)﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج والأعمش: برفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا القرآن هو تنزيل العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه؛ أي: منزل منه سبحانه وتعالى، عبر عن المنزل بالمصدر مبالغةً حتى كأنه نفس التنزيل، ويجوز أن يكون خبرًا لقوله: يس إن جعل اسمًا للسورة؛ أي: سورة يس منزل من العزيز الرحيم، لا مختلق من عند محمد - ﷺ -، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وطلحة والأشهب وعيسى بخلاف عنهما: بالنصب؛ إما على المصدرية؛ أي: نزَّل الله ذلك تنزيلًا من العزيز الرحيم، أو على المدح؛ أي: أمدح تنزيل العزيز الرحيم؛ أي: أمدح كتابًا منزلًا من العزيز الرحيم، وقرأ (٣) أبو حيوة وأبي بن كعب وأبو رزين وأبو العالية
(١) زاد المسير.
(٢) روح البيان.
(٣) زاد المسير.
والجحدري وأبو جعفر يزيد بن القعقاع: بالجر على أنه نعت للقرآن؛ لأنه بمعنى المنزل، أو بدل منه، وعبر عنه بالمصدر، كما تقول العرب: هذا الدرهم ضرب الأمير؛ أي: مضروبه لكمال عراقته في كونه منزلًا من عند الله تعالى، فكأنه نفس التنزيل كما مر آنفًا.
والعزيز (١): هو الغالب على جميع المقدورات، المتكبِّر الغني عن طاعة المطيعين، المنتقم ممن خالفه، ولم يصدق القرآن، وخاصية هذا الاسم وجود الغنى والعز صورة أو حقيقة أو معنى، فمن ذكره أربعين يومًا في كل يوم أربعين مرة.. أعانه الله تعالى وأعزه، فلم يحوجه إلى أحدٍ من خلقه، والرحيم: هو المتفضل على عباده المؤمنين بإنزال القرآن ليوقظهم من نوم الغفلة، ونعاس النسيان، وخاصية هذا الاسم رقة القلب والرحمة للمخلوقين، فمن دوامه كل يوم مئة مرة.. كان له ذلك، ومن خاف الوقوع في مكروه.. ذكره وقرينه وهو اسم الرحمن.
٦ - قوله: ﴿لِتُنْذِرَ﴾ متعلق بـ ﴿تَنْزِيلَ﴾؛ أي: نزل عليك القرآن لتنذر، أو بفعل مقدر يدل عليه من المرسلين؛ أي: أرسلناك لتنذر؛ أي: لتخوف بالقرآن، ﴿قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ﴾ ﴿مَا﴾: نافية، والجملة صفة مبينة لغاية احتياجهم إلى الإنذار، والمعنى: لتنذر قومًا غير منذر آباؤهم الأقربون؛ لتطاول مدة الفترة، ولم يكونوا من أهل الكتاب، ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾ يعني: العرب، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ إلى قوله: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة على أن تكون الجملة مفعولًا ثانيًا ﴿لِتُنْذِرَ﴾ بحذف العائد، والمعنى: لتنذر قومًا العذاب الذي أنذره آباؤهم، أو لتنذر قومًا عذابًا أنذره آباؤهم الأبعدون في زمن إسماعيل عليه السلام، وإنما وصف الآباء في التفسير الأول بالأقربين، وفي الثاني بالأبعدين؛ لئلا يلزم أن يكونوا منذرين وغير منذرين، فآباؤهم الأقدمون آتاهم النذير لا محالة، بخلاف آبائهم الأدنين، وهم قريش، فيكون ذلك بمعنى قوله: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)﴾، ويجوز ان تكون ﴿مَا﴾ مصدرية، فتكون نعتًا لمصدر مؤكد؛ أي: لتنذر قومًا إنذارًا كائنًا مثل إنذار آبائهم الأقدمين من العذاب، ﴿فَهُمْ﴾؛
(١) روح البيان.
أي (١): القوم وآباؤهم الأقربون، ﴿غَافِلُونَ﴾ عن أمر الآخرة، جاحدون لها، إن قلنا: إن ﴿مَا﴾ نافية، أو فهؤلاء القوم غافلون عما أنذر به آباؤهم الأقدمون لامتداد المدرة إن قلنا إن ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة.
وعبارة "الشوكاني" قوله: ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ (٢) متعلق بنفي الإنذار على الوجه الأول؛ أي: لم ينذر آباؤهم فهم بسبب ذلك غافلون، وعلى الأوجه الأخيرة متعلق بقوله ﴿لِتُنْذِرَ﴾؛ أي: فهم غافلون عما أنذرنا به آباءهم، وقد ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن المعنى على النفي، وهو الظاهر من النظم لترتيب فهم غافلون على ما قبله.
وعبارة "الروح": قوله: ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ متعلّق (٣) بنفي الإنذار مترتب عليه، والضمير للفريقين: القوم والآباء؛ أي: لم ينذر آباؤهم فهم جميعًا لأجله غافلون عن الإيمان والرشد، وحجج التوحيد وأدلة البعث، والفاء داخلة على الحكم المسبَّب عما قبله، فالنفي المتقدِّم سبب له؛ يعني: أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم، ويجوز أن يكون متعلقًا بقوله: ﴿لِتُنْذِرَ﴾ ردًا لتعليل إنذاره، فالضمير للقوم خاصة؛ أي: فهم غافلون عما أنذر به آباؤهم الأقدمون؛ لامتداد المدة، فالفاء داخلة على سبب الحكم المتقدم.
والمعنى (٤): أي إنا أرسلناك لتنذر العرب الذين لم يأتهم نذير من قبلك، فهم في غفلة عن معرفة الشرائع التي فيها سعادة البشر، وإصلاح المجتمع، وذكرهم وحدهم هنا؛ لأن الخطاب كان معهم، وهذا لا يمنع أنه مرسل إلى الناس كافة، كما قال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾،
٧ - واللام في قوله: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ﴾؛ أي: موطئة للقسم؛ أي: لقد حقت كلمة العذاب العاجل ووجبت ﴿عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾؛ أي: على أكثر أهل مكة، كأبي جهل وأصحابه، ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: في علم الله تعالى، وقتلوا يوم بدر على الكفر؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد وجب وثبت قضاؤنا بالعذاب على أكثر أهل مكة، أو أكثر الكفار
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
479
على الإطلاق، أو أكثر كفار العرب، أو أكثر القوم الذين تنذرهم، وهم أهل مكة، وهم من مات على الكفر وأصر عليه أول حياته، فيتفرع قوله: ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ على ما قبله؛ أي: لا يؤمنون بإنذارك إياهم، والفاء داخلة على الحكم المسبب عما قبله؛ أي: لأن الله تعالى قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه، وذهب الجمهور (١): إلى أن المراد بهذا القول قوله تعالى لإبليس عند قوله: لأغوينهم أجمعين: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)﴾، وهو المعنيُّ بقوله: ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾، وهذا القول لما تعلق بمن تبع إبليس من الجن والإنس، وكان أكثر أهل مكة ممن علم الله منهم الإصرار على اتباعه، واختيار الكفر إلى أن يموتوا.. كانوا ممن وجب وثبت عليهم مضمون هذا القول، لكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يقتضيه، بل بسبب إصرارهم الاختياري على الكفر والإنكار، وعدم تأثرهم من التذكير والإنذار، ولما كان مناط ثبوت القول وتحققه عليهم إصرارهم على الكفر إلى الموت.. كان قوله: ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ متفرعًا في الحقيقة على ذلك، لا على ثبوت القول، وفُهِم من قوله: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾ أن أهل السعادة أقل، إنما كان أهل السعادة أقل؛ لأن المقصود من الإيجاد ظهور الخليفة من العباد، وهو يحصل بواحدٍ مع أن الواحد على الحق، هو السواد الأعظم في الحقيقة.
فمن آمن فقد أعلى الدين، ومن أعلاه فقد تعرض لعلوه وعزه عند الله تعالى، ومن كفر.. فقد أراد إطفاء نور الله، والله متم نوره، ولما قال المشركون يوم أحد: أعل هبل، أعل هبل.. أذلهم الله وهبلهم، وهو صنم كان يعبد في الجاهلية، وهو الحجر الذي يطأه الناس في العتبة السفلى من باب بني شيبة، وهو الآن مكبوب على وجهه، وبلط الملوك فوقه البلاط، فإن كنت تفهم مثل هذه الأسرار، وإلا فاسكت، والله تعالى حكيم يضع الأمور كلها في مواضعها، فكل ما ظهر في العالم فهو حكمة وضعه في محله، لكن لا بد من الإنكار لما أنكره الشارع فإياك والغلط.
ومعنى الآية (٢): وعزتي وجلالي لقد وجب العقاب على أكثرهم؛ لأنه سبحانه سجل عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون به ولا يصدقون برسوله، لما علم من
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
480
خبث نفوسهم، وسوء استعدادهم، فلا تعمر قلوبهم بالإيمان، ولا تخبت لله في أيِّ زمان،
٨ - ثم ضرب لهم مثلًا، فقال: ﴿إِنَّا﴾ بمقتضى قهرنا وجلالنا ﴿جَعَلْنَا﴾؛ أي: خلقنا، أو صيرنا، ﴿فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾؛ أي: في أعناق أكثر أهل مكة، جمع: عنق، ﴿أَغْلَالًا﴾ ثقالًا عظيمة، جمع: غل، وهو ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد، سواء كان من الحديد أو غيره، وقال القهستاني: الغل: الطوق من حديد، الجامع لليد إلى العنق، المانع من تحرك الرأس. اهـ. والفاء (١) في قوله: ﴿فَهِيَ﴾ للنتيجة، أو التعقيب؛ أي: فالأغلال منتهية، ﴿إِلَى الْأَذْقَانِ﴾ جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين؛ أي: فالأغلال لعظمها وضخامتها منتهية إلى أذقانهم، بحيث لا يتمكَّن المغلول معها من تحرك الرأس والالتفات، ووجه وصول الغل إلى الذقن، هو إما كونه غلظيًا عريضًا يملأ ما بين الصدر والذقن، فلا جرم يصل إلى الذقن، ويرفع الرأس إلى فوق، وإما كون طوق الغل الذي يجمع اليدين إلى العنق، بحيث يكون في ملتقى طرفين تحت الذقن حلقة يدخل فيها رأس العمود الواصل بين ذلك الطوق وبين قيد اليد خارجًا عن الحلقة إلى الذقن، فلا يخلِّيه يحرِّك رأسه. ﴿فَهُمْ﴾؛ أي: أكثر أهل مكة بسبب ذلك ﴿مُقْمَحُونَ﴾؛ أي: رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم، فإن الإقماح رفع الرأس إلى فوق مع غض البصر، يقال: أقمح البعير رأسه، وقمح قموحًا عند رفع رأسه عند الحوض بعد الشرب؛ إما لارتوائه، أو لبرودة الماء، أو لكراهة طعمه، قال بعضهم: لفظ الآية - وإن كان ماضيًا - لكنه إشارة إلى ما يفعل بهم في الآخرة، كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الآية، ولهذا قال الفقهاء: كره جعل الغل في عنق عبده؛ لأنه عقوبة أهل النار، قال الفقيه: إن في زماننا جرت العادة بذلك إذا خيف من الإباق، بخلاف التقييد، فإنه غير مكروه؛ لأنه سنة المسلمين في المتمردين.
هذا والجمهور (٢) على أن الآية تمثيل لحال الأكثر في تصميمهم على الكفر، وعدم امتناعهم منه، وعدم التفاتهم إلى الحق، وعدم انعطاف أعناقهم، نحوه: بحال الذين غلت أعناقهم، فوصلت الأغلال إلى أذقانهم، وبقوا رافعين رؤوسهم، غاضين أبصارهم، فهم أيضًا لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
يطأطئون رؤوسهم له، ولا يكادون يرون الحق، أو ينظرون إلى جهته.
قال أبو حيان: والظاهر (١) أن قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ هو حقيقة لا استعارة، لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون.. أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار. انتهى. وقرأ ابن عباس (٢): ﴿إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا﴾ قال الزجاج: أي: في أيديهم، قال النحاس: وهذه القراءة تفسير، ولا يقرأ بما خالف المصحف، قال: وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة، التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالًا، فهي إلى الأذقان، فلفظ ﴿هي﴾ كناية عن الأيدي، لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا، ونظيره: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾؛ أي: والبرد؛ لأن الغل إذا كان في العنق.. فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال الله تعالى: ﴿فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ﴾، فقد علم أنه يراد به الأيدي، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قرأ: ﴿إنا جعلنا في أيديهم أغلالا﴾، وعن ابن مسعود أنه قرأ: ﴿إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا﴾، كما روي سابقًا عن قراءة ابن عباس.
ومعنى الآية: أي إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا، فهي واصلة إلى الأذقان ملصقة بها، فهم من جراء ذلك مقمحون؛ أي: مرفوعو الرؤوس؛ إذ أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود خارجًا من الحلقة إلى الذقن، فلا يمكنه من أن يطأطىء رأسه، فلا يزال مقمحًا.
والمراد: منعناهم بموانع عن الإيمان تشبه ما ذكر، فهم غاضوا أبصارهم، لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطؤون رؤوسهم له،
٩ - ثم أكد ما سبق، وزاده بيانًا وتفصيلًا، فقال: ﴿وَجَعَلْنَا﴾ لهم مع ما ذكر سابقًا؛ أي: خلقنا لهم من كمال غضبنا عليهم وصيرنا، ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي: من قدامهم ﴿سَدًّا﴾ عظيمًا؛ أي: حاجزًا يحجزهم عن الإبصار، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾؛ أي: من ورائهم ﴿سَدًّا﴾ عظيمًا.
وقرأ عبد الله وعكرمة والنخعي وابن وثاب وطلحة وحمزة والكسائي وابن كثير وحفص (٣): ﴿سَدًّا﴾ بفتح السين في الموضعين، وقرأ الجمهور: بالضم، وكلاهما
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
482
لغتان بمعنى، أي منعناهم عن الإيمان بموانع، فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان، كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد، ومن هذا المعنى في الآية قول الشاعر:
وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبَالَكَ أَنَّنِيْ ضُرِبَتْ عَلَى الأَرْضُ بِالأَسْدَادِ
لَا أَهْتَدِيْ فِيْهَا لِمَوْضِعِ تَلْعَةٍ بَيْنَ الْعُذِيْبِ وَبَيْنَ أَرْضِ مُرَادِ
﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: غطينا أبصارهم، وجعلنا عليها غشاوة، فالكلام على حذف مضاف، ﴿فَهُمْ﴾ بسبب ذلك، ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾؛ أي: لا يقدرون على إبصار شيء، والفاء (١) داخلة على الحكم المسبب عما قبله؛ لأن من أحاطه السد من جميع جوانبه لا يبصر شيئًا؛ إذ الظاهر أن المراد ليس جهتي القدام والخلف فقط، بل يعم جميع الجهات، إلا أن جهة المقدام لما كانت أشرف الجهات وأظهرها، وجهة الخلف كانت ضدها.. خُصت بالذكر. قال الفراء (٢): فألبسنا أبصارهم غشاوة؛ أي: عمي فهم لا يبصرون سبيل الهدى، وكذا قال قتادة: إنَّ المعنى: لا يبصرون الهدى، وقال السدي: لا يبصرون محمدًا - ﷺ - حين ائتمروا على قتله، وقال الضحاك وجعلنا من بين أيديهم سدًا؛ أي: في الدنيا، ومن خلفهم؛ أي: في الآخرة، فأغشيناهم فهم لا يبصرون؛ أي: عموا عن البعث، وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا، وقيل: ما بين أيديهم: الآخرة، وما خلفهم: الدنيا.
وقرأ الجمهور: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾ بالغين المعجمة؛ أي: غطينا أبصارهم، فهو على حذف مضاف، كما مر، وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن يعمر وعكرمة والنخعي وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي ويزيد البربري ويزيد بن المهلب وأبو حنيفة وابن مقسم: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾ بالعين المهملة، من العشاء، وهو ضعف البصر؛ أي: جعلنا عليها غشاوة، ومنه ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾.
والآية إما تتمّة للتمثيل وتكميل له؛ أي: تكميل؛ أي: وجعلنا مع ما ذكر من
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
483
أمامهم سدًا عظيمًا، ومن ورائهم سدًا كذلك، فغطينا بهما أبصارهم، فهم بسبب ذلك لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلًا، وإما تمثيل مستقل، فإن ما ذكر من جعلهم حصورين بين سدين هائلين قد غطّينا بهما أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئًا قطعًا كافٍ في الكشف عن فظاعة حالهم، وكونهم محبوسين في مطمورة الغيّ والجهالات، محرومين من النظر في الأدلّة والآيات.
قال الإِمام (١): المانع من النظر في الآيات والدلائل قسمان: قسم يمنع من النظر في الآيات التي في أنفسهم، فشبّه ذلك بالغسل الذي يجعل صاحبه مقمحًا لا يرى نفسه، ولا يقع بصره على بدنه، وقسم يمنع من النظر في آيات الآفاق، فشبّه بالسد المحيط، فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق، فلا تتبيّن له الآيات التي في الآفاق، كما أن المقمح لا تتبيّن له الآيات التي في الأنفس، فمن ابتلى بهما حرم من النظر بالكلية؛ لأن الدلائل والآيات مع كثرتها منحصرة فيهما، كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ مع قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾. إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله تعالى في الأنفس والآفاق.
وقيل (٢): نزلت هذه الآيات في أبي جهل بن هشام، وصاحبيه المخزوميين، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدًا يصلي.. ليرضخن رأسه بحجر، فلما رآه يصلي ذهب إليه فرفع حجرًا ليرميه، فلما أوما إليه.. رجفت يداه إلى عنقه، والتصق الحجر بيده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى، قال الوليد بن المغيرة: أنا أرضخ رأسه، فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر، فأعمى الله بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه، قال: واللهِ ما رأيته، ولقد سمعت صوته، فقال الرجل الثالث: واللهِ لأشدخنَّ رأسه، ثم أخد الحجر وانطلق، فرجع القهقرى ينكص على عقبيه، حتى خرّ على قفاه مغشيًّا عليه، فقيل له: ما شأنك؟ قال: شأني عظيم، رأيت الرجل، فلما دنوت منه.. فإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت قط فحلًا أعظم منه حال بيني وبينه، فواللاتِ والعزى لو دنوت منه.. لأكلني، فأنزل الله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
484
مُقْمَحُونَ (٨)}؛ أي: إنا جمعنا أيمانهم إلى الأذقان حين أرادوا أن يرجموا النبي - ﷺ - بالحجارة، وهو في الصلاة، فها هم مغلولون من كل خير محرومون. ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ الخ؛ أي: وجعلنا من أمامهم سترًا حيث أرادوا أن يرجموا النبي - ﷺ - بالحجارة، وهو في الصلاة، فلم يبصروا النبي - ﷺ -، ومن خلفهم سدًّا، حتى لا يبصروا أصحابه، فغطَّينا أبصارهم فهم لا يبصرون النبي - ﷺ -، فيؤذوه، ومعنى الآية: أي (١): إنه زيّن لهم سوء أعمالهم، وأعجبوا بأنفسهم، واستكبروا عن اتباع الرسول، وشمخوا بأنوفهم، ولم يخضعوا لما جاءهم به، وصدوا أبواب النظر عما ينفعهم، ولم يقبلوا شيئًا سوى ما هم عليه، فما مثلهم إلا مثل من أحاط به سدان من الأمام والخلف، فحجباه عن النظر، فهو لا يبصر شيئًا.
والخلاصة: أنهم محبوسون في سجن الجهالة، ممنوعون عن النظر في دلائل الأنفس ودلائل الكون، محرومون عن التأمل فيما حل بمن قبلهم من الأمم الخالية، والتفكر في العواقب المستقبلة،
١٠ - ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على أكثر أهل مكة ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾؛ أي: مستو (٢) عند أكثر أهل مكة إنذارك إياهم وعدمه؛ لأن قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ وإن كانت جملة فعلية استفهامية، لكنه في معنى مصدر مضاف إلى الفاعل، فصح الإخبار عنه، فقد هجر فيه جانب اللفظ، ونظر إلى المعنى، ومنه: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وهمزة الاستفهام وأم لتقرير معنى الاستواء والتأكيد، فإن معنى الاستفهام منسلخ منهما رأسًا بتجريدهما عنه لمجرد الاستواء، كما جرِّد حرف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. فكما أن هذا جرى على صورة النداء، وليس بنداء، كذلك: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ جرى على صورة الاستفهام، وليس باستفهام. وقوله: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: لا يؤمن أكثر أهل مكة، استئناف مؤكد لما قبله مبيِّن لما فيه من إجمال ما فيه الاستوار.
والمعنى (٣): أي وسواء على هؤلاء الذين حق عليهم القول إنذارك إياهم وتركه، فإنه قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون؛ إذ قد خبثت نفوسهم، وساء
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
استعدادهم، وغشيت أبصارهم، فلا تقدر على النظر في الدلائل المشاهدة، ولا تستطيع التأمل في جمال الكون، كما قال البوصيري:
قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ
١١ - قال الزجاج: أي من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار، إنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ﴾ الخ؛ أي: ولما بيَّن سبحانه كون الإنذار عندهم كعدمه.. عقبه ببيان من يؤثر فيه الإنذار، فقال: إنما تنذر؛ أي (١): ما ينفع إنذارك يا محمد إلا ﴿مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾؛ أي: القرآن بالتأمل فيه، أو الوعظ والتذكير، ولم يصر على اتباع خطوات الشيطان، ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ﴾ سبحانه، ﴿بِالْغَيْبِ﴾؛ أي: خاف عقابه تعالى، والحال أنه غائب عن العقاب، على أنه حال من الفاعل، أو والحال أن العقاب غائب عنه، أي: قبل نزول العذاب وحلوله على أنه خال من المفعول، أو حال كونه غائبًا عن عيون الناس في خلواته، ولم يغتر برحمته، فإنه منتقم قهّار، كما أنه رحيم غفار، وكيف يؤمن سخطه وعذابه بعد أن قال: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨)﴾، ومن كان نعمته بسبب رحمته أكثر، فالخوف منه أتمّ مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة، فظهر وجه ذكر الرحمن مع الخشية، مع أن الظاهر أن يذكر معها ما ينبىء عن القهر ﴿فَبَشِّرْهُ﴾؛ أي: فبشر من اتبع الذكر وخشي الرحمن، ووحّد الضمير مراعاة للفظ ﴿مَنِ﴾، ﴿بِمَغْفِرَةٍ﴾ عظيمة لذنوبه، ﴿وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾؛ أي: حسن مرضي لأعماله الصالحة، لا يقادر قدره، وهو الجنة وما فيها مما أعدّه الله تعالى لعباده الجامعين بين اتباع ذكره وخشيته.
والفاء في قوله (٢): ﴿فَبَشِّرْهُ﴾ لترتيب البشارة، أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية. يقول الفقير: رتّب التبشير بمثنّى على مثنّى، فالتأمل في القرآن، أو التأثر من الوعظ يؤدي إلى الإيمان المؤدي إلى المغفرة؛ لأن الله تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، والخشية تؤدي إلى الحسنات المؤدية إلى الأجر الكريم؛ لأن الله تعالى قال: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
ومعنى الآية (٣): أي إنما ينفع إنذارك من آمن بالقرآن، واتبع ما فيه من
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
الأحكام، وخشي عقاب الله تعالى قبل حلوله، ومعاينة أهواله، فإنه سبحانه عظيم الرحمة، أليم العذاب، كما قال: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾. فبشِّر هذا الذي اتبع أحكام الدين، وخاف العقاب بمغفرة ما فرط منه من الزلّات، وأجرٍ كريم، ونعيم مقيم لا يستطاع وصفه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ونحو الآية قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢)﴾.
١٢ - ولما ذكر سبحانه وتعالى الرسالة، وهي أحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمنًا.. ذكر الحشر، وهو أحد الأصول الثلاثة، والثالث هو التوحيد، فقال: ﴿إِنَّا﴾ من مقام كمال قدرتنا، والجمع للتعظيم ولكثرة الصفات، وقال بعضهم: جمع الضمير لما في إحياء الموتى من حظ الملائكة، وينافيه الحصر الدالة عليه قوله: ﴿نَحْنُ﴾ قال في "البحر": كرّر الضمير لتكرير التأكيد، ﴿نُحْيِ الْمَوْتَى﴾؛ أي: نبعثهم بعد مماتهم، ونجازيهم على حسب أعمالهم، فيظهر حينئذ كمال الإكرام، والانتقام للمبشّرين والمنذرين من الأنام، وقال الحسن والضحاك: أي: نحييهم بالإيمان بعد الجهل، والأول أولى، وقد أطلق النبي - ﷺ - لفظ الموتى على كل غنيِّ مترف، وسلطان جائر، وذلك في قوله - ﷺ -: "أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، وكثرة مصاحبة النساء وحديثهن، وملاحاة الأحمق تقول له، ويقول لك، ومجالسة الموتى" قيل: يا رسول الله، وما مجالسة الموتى؛ قال: "كل غني مترف، وسلطان جائر".
وفي "التأويلات النجمية": نحيي قلوبًا ماتت بالقسوة بما نمطر عليها من صوب الإقبال والزلفة انتهى. فالإحياء إذًا مجاز عن الهداية، ﴿نَكْتُبُ﴾؛ أي: نحفظ ونثبت في اللوح المحفوظ، يدل عليه آخر الآية، أو يكتب رسلنا، وهم الكرام الكاتبون، وإنما أسند إليه تعالى ترهيبًا، ولأنه الآمر به، ﴿مَا قَدَّمُوا﴾؛ أي: ما أسلفوا من خير أو شر، وإنما (١) أخر الكتابة مع أنها مقدمة على الإحياء؛ لأنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما تكون مقصودة لأمر الإحياء، ولولا الإحياء والإعادة لما ظهر للكتابة فائدة أصلًا، ﴿وَآثَارَهُمْ﴾؛ أي: ونكتب آثارهم؛ أي: ما أبقوه من
(١) روح البيان.
487
الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت، كمن سن سنة حسنة، وكعلم علّموه، أو كتاب ألفوه، أو حبيس وقفوه، أو بناء شيء من المساجد والرباطات والقناطر، أو من السيئات التي تبقى بعد موت فاعلها، كوظيفة وظّفها بعض الظلمة على المسلمين مسانهة أو مشاهرة، كخراج وغرامة ومكوس وعشور، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم وشيء فيه صد عن ذكر الله تعالى من ألحان وملاهي ونحوها، قال مجاهد وابن زيد: ونظيره قوله تعالى: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣)﴾؛ أي: بما قدم من أعماله، وأخَّر من آثاره، فعلى العدول أن يرفعوا الأحداث التي فيها ضرر بيِّن للناس في دينهم ودنياهم، وإلا فالراضي كالفاعل، وكل مجزي بعمله.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَنَكْتُبُ﴾ على البناء للفاعل، وقرأ زر ومسروق: على البناء للمفعول، وقيل: المراد بالآية: آثار المشائين إلى المساجد، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين. قال النحاس: وهو أولى ما قيل في الآية؛ لأنها نزلت في ذلك، كما مر في أسباب النزول، ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية، لا بخصوص سببها، وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشر، والله تعالى لا يترك الجزاء على الخطى، سواء كانت في حسنة، أو في سيئة.
﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء كائنًا ما كان، سواء كان ما يصنعه الإنسان، أو غيره، وهو منصوب بفعل مضمر يفسّره قوله: ﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾؛ أي: ضبطناه وبينّاه وكتبناه وحفظناه وعددناه وأثبتناه ﴿فِي إِمَامٍ﴾؛ أي: أصل عظيم الشأن. ﴿مُبِينٍ﴾؛ أي: مظهر لجميع الأشياء مما كان، وما سيكون، وهو اللوح المحفوظ، سمِّي إمامًا؛ لأنه يؤتم به ويتبع، وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال، وفي ذكر الإحصاء ترغيب وترهيب، فإن المحصي لم يصح منه الغفلة في حال من الأحوال، فعلى العاقل أن يراقب نفسه في كل وقت ونفس وحركة وسكتة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ﴾ بنصب ﴿كل﴾ على الاشتغال، وقرأ أبو السمال: بالرفع على الابتداء.
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
488
ومعنى الآية (١): أي إنا نحن نحيي الموتى جميعًا من قبورهم يوم القيامة، ونكتب ما أسلفوا من عمل، وتركوا من أثر حسن بعدهم، كعلم علموه، أو حبيس في سبيل الله وقفوه، أو مستشفى لنفع الأمة أنشؤوه، أو أثر سيء كغرس الأحقاد والأضغان وترتيب مبادىء الشر، والعدوان بين الأنام. روى ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من سنّ سنة حسنة.. فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سنّ سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها من بعده، لا ينقص من أوزارهم شيئًا، ثم تلا: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ ". والمراد من الكتابة ذلك مجازاتهم عليه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ثم ذكر أن الضبط والإحصاء لا يخص أعمال بني آدم، بل يتناول جميع الأشياء، فقال: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: وبينّا كل شيء، وحفظناه في أصل عظيم يؤتم به ويُتبع ولا يخالف، وهو علمنا الأزلي القديم الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها، ونحو الآية قوله: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٥٢)﴾ وقوله: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣)﴾.
١٣ - قوله: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ إلى قوله: ﴿خَامِدُونَ﴾، يشير (٢) إلى أصناف ألطافه مع أحبائه، وأنواع قهره مع أعدائه، أمر الله تعالى سيد المرسلين - ﷺ - بإنذار مشركي مكة بتذكيرهم قصة أصحاب القرية، ليحترزوا عن أن يحل بهم ما نزل بكفار أهل القرية.
قال في "الإرشاد": ضرب المثل يستعمل على وجهين:
الأول: في تطبيق حال غريبة بحالة أخرى مثلها، والمعنى عليه: واجعل يا محمد أصحاب القرية مثلًا وشبهًا لأهل مكة في الغلو في الكفر، والإصرار على تكذيب الرسل؛ أي: طبِّق حالهم بحالهم؛ أي: شبه حالهم بحالهم على أن ﴿مَثَلًا﴾ مفعول ثانٍ، و ﴿أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ مفعوله الأول، أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
489
والثاني: في ذكر حال غريبة، وبيانها للناس من غير قصدٍ إلى تطبيقها بنظيرة لها، والمعنى عليه: واذكر لهم وبيِّن لهم قصة هي في الغرابة كالمثل، فقوله: ﴿أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾؛ أي: مثل أصحاب القرية على تقدير المضاف كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾، وهذا المقدر بدل من الملفوظ، أو بيان له.
وقوله: ﴿إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ بدل من أصحاب القرية بدل الاشتمال لاشتمال الظروف على ما حل فيها، كأنه قيل: واجعل وقت مجيء المرسلين مثلًا، أو بدل من المضاف المقدر، كأنه قيل: واذكر لهم وقت مجيء المرسلين، وهم رسل عيسى عليه السلام إلى أهل أنطاكية. والمعنى: أي (١): واجعل يا محمد أصحاب قرية أنطاكية مثلًا وشبهًا لهؤلاء المكذبين لك من أهل مكة؛ إذ أصروا على تكذيب الرسل الذين أرسلوا إليهم، كما أصر قومك على تكذيبك عنادًا واستكبارًا، والمشهور لدى المفسرين، ومنهم: قتادة وغيره: أن الرسل هم رسل عيسى عليه السلام من الحواريين، بعثهم إلى أهل أنطاكية، وكان منهم ما قصه الله علينا في كتابه، ويرى ابن عباس، واختاره كثير من أجلة العلماء أن الرسل هم رسل الله تعالى، أرسلهم ردءًا لعيسى عليه السلام، مقررِّين لشريعته، كهارون لموسى عليه السلام، ويؤيد هذا القول:
١ - قولهم: ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٧)﴾.
٢ - أنهم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا ولهم: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾.
٣ - أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، فقد كانوا أول أهل مدينة آمنت بالمسيح، ومن ثم كانت إحدى المدن الأربع اللاتي فيهم بطارقة النصارى، وهن: القدس وأنطاكية والاسكندرية ورومية؛ لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم ووطده، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطريق من رومية إليها.
واسم هذه القرية كما ذكرنا أولًا أنطاكية من قرى الروم، بفتح (٢) الهمزة وكسرها وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة، قاعدة بلاد يقال لها:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
490
العواصم، وهي ذات عين، وسور عظيم من صخر، داخله خمسة أجبل، دورها اثنا عشر ميلًا، كما في "القاموس" ويقال: أنتاكية بالتاء بدل الطاء، وهو المسموع من لسان الملك في قصة ذكرت في "مشارق الأشواق"، قال الإِمام السهيلي: نسبت أنطاكية إلى أنطقيس، وهو اسم الذي بناها، ثم غيِّرت، وكانت أنطاكية إحدى المدن الأربع التي يكون فيها بطارقة النصارى، وهي أنطاكية والقدس والاسكندرية ورومية، ثم بعدها قسطنطينية. قال في "خريدة العجائب": رومية الكبرى: مدينة عظيمة في داخلها كنيسة عظيمة، طولها ثلاث مئة ذراع، وأركانها من نحاس مفرغ مغطّى كلها بالنحاس الأصفر، وبها أيضًا كنيسة بنيت على هيئة المقدس، وبها ألف حمام، وألف فندق، وهو الخان، ورومية أكبر من أن يحاط بوصفها ومحاسنها، وهي للروم مثل مدينة فرانسة للإفرنج، كرسي ملكهم ومجتمع أمرهم، وبيت ديانتهم، وفتحها من أشراط الساعة.
ذكر القصة في ذلك
١٤ - قال العلماء بأخبار الأنبياء (١): بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين إلى أهل أنطاكية، فلما قربا من المدينة.. رأيا شيخًا يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار صاحب يس، فسلما عليه، فقال الشيخ لهما: من أنتما؛ فقالا: رسولا عيسى عليه السلام، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فقال الشيخ لهما: أمعكما آية؟ قالا: نعم، نشفي المريض، ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى، قال الشيخ: إن لي ابنًا مريضًا منذ سنين، قالا: فانطلق بنا نطلع على حاله، فأتى بهما إلى منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحًا، ففشا الخبر في المدينة، وشفى الله تعالى على أيديهما كثيرًا من المرضى، وكان لهم ملك يعبد الأصنام، اسمه: أنطيخا، وكان من ملوك الروم، فانتهى خبرهما إليه، فدعا بهما، وقال: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى عليه السلام، قال: وفيما جئتما؟ قالا: ندعوك من عبادة ما لا يسمع ويبصر، فقال: وهل لنا إله دون آلهتنا؟ قال: نعم، الذي أوجدك وآلهتك، قال لهما: قوما حتى انظر في أمركما، فتبعهما الناس، فأخذوهما
(١) الخازن.
491
وضربوهما، وقال وهب: بعث عيسى عليه السلام هذين الرجلين إلى أنطاكية، فأتياها، فلم يصلا إلى ملكها، وطالت مدة مقامهما، فخرج الملك ذات يوم فكبّرا وذكرا الله تعالى، فغضب الملك، وأمر بهما فحبسا، وجلد كل واحد منهما مئة جلدة، فلما كُذِّبا وضربا بعث عيسى عليه السلام رأس الحواريين: شمعون الصفي على أثرهما ليبصرهما، فدخل شمعون البلد متنكرًا، فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به، فرفعوا خبره إلى الملك، فدعاه وأنس به وأكرمه ورضي عشرته، فقال للملك ذات يوم: بلغني أنك حبست رجلين في السجن، وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل كلمتهما وسمعت قولهما؛ فقال: حال الغضب بيني وبين ذلك، قال: فإنَّ رأيي أيها الملك أن تدعوهما حتى تطلع على ما عندهما، فدعاهما الملك، فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء، وليس له شريك، فقال لهما شمعون: فصفاه وأوجزا، قالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فقال شمعون: وما آيتكما؟ قالا: ما تتمنّاه، فأمر الملك حتى جاؤوا بغلام مطموس العينين، وموضع عينيه كالجبهة، فما زالا يدعوان ربهما حتى انشقّ موضع البصر، فأخذا بندقتين من طين، فوضعاهما في حدقتيه، فصارتا مقلتين يبصر بهما، فتعجب الملك، فقال شمعون للملك: إن أنت سألت إلهك حتى يصنع لك مثل هذا كان الشرف لك ولإلهك، فقال له الملك: ليس لي عنك سرٌّ مكتوم، فإن الهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون يدخل مع الملك على الصنم، ويصلي ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم، فقال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما، قالا: إلهنا قادر على كل شيء، فقال الملك: إن هاهنا ميتًا قد مات منذ سبعة أيام ابن دهقان، وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه، وكان غائبًا، فجاؤوا بالميت، وقد تغيّر وأروح، فجعلا يدعوان ربهما علانية وشمعون يدعو ربه سرًّا، فقام الميت، وقال: إني ميت منذ سبعة أيام، ووجدت مشركًا، فادخلت في سبعة أودية من النار، وأنا أحذِّركم ما أنتم عليه، فآمنوا بالله، ثم قال: فتحت أبواب السماء، فنظرت شابًا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: ومن الثلاثة؟ قال: شمعون وهذان، وأشار بيده إلى صاحبيه، فعجب الملك من ذلك، فلما علم شمعون أنَّ قوله قد أثر في الملك.. أخبره بالحال ودعاه، فآمن الملك، وأمن معه قوم، وكفر آخرون،
492
قيل: بل كفر الملك، وأجمع على قتل الرسل هو وقومه، فبلغ ذلك حبيبًا، وهو على باب المدينة، فجاء يسعى إليهم يذكِّرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين، فذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ﴾ بدل من ﴿إِذْ﴾ الأولى؛ أي: واذكر لهم وقت إرسالنا اثنين إلى أصحاب القرية، واسمهما: يحيى ويونس، وقيل: صادق ومصدوق، وقيل: غير ذلك، ونسبة إرسالهما إليه تعالى بناءً على أنه بأمره تعالى، فكانت الرسل رسل الله، ويؤيِّده (١) مسألة فقهية، وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل بأن قال الموكل له: اعمل برأيك يكون وكيلًا للموكل، لا للوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه، وينعزل إذا عزله الموكل الأول، ويجوز أن يكون اللهُ أرسلهم بعد رفع عيسى إلى السماء، وقوله: ﴿فَكَذَّبُوهُمَا﴾ مرتب على محذوف؛ أي: فأتياهم فدعواهم إلى الحق فكذبوهما في الرسالة بلا تراخ وتأمل، وضربوهما وحبسوهما كما سبق، ﴿فَعَزَّزْنَا﴾؛ أي: قويناهما، فحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه، ولأن القصد ذكر المعزوز به، وبيان تدبيره اللطيف الذي به عزّ الحق وذلَّ الباطل.
قرأ الجمهور بالتشديد، وقرأ أبو بكر عن عاصم والحسن وأبو حيوة والمفضل وأبان: بتخفيف الزاي، قال الجوهري: ﴿فَعَزَّزْنَا﴾ يخفف ويشدد؛ أي: قوينا وشددنا، فالقراءتان على هذا بمعنًى، وقيل: التخفيف بمعنى:. غلبنا وقهرنا، ومنه: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾، والتشديد بمعنى: قوينا وكثرنا، ﴿بِثَالِثٍ﴾ هو شمعون الصفار، قاله ابن عباس، ويقال له: شمعون الصخرة أيضًا رئيس الحواريين، وقد كان خليفة عيسى عليه السلام بعد رفعه إلى السماء، وقال كعب ووهب: اسمه شلوم، وقيل: يونس.
قال في "التكملة": اختلف في المرسلين الثلاثة، فقيل: كانوا أنبياء رسلًا، أرسلهم الله تعالى، وقيل: كانوا من الحواريين أرسلهم عيسى بن مريم إلى أهل القرية المذكورة، ولكن لما كان إرساله إياهم عن أمره.. أضاف الإرسال إليه انتهى. علم منه أن الحواريين لم يكونوا أنبياء لا في زمان عيسى ولا بعد رفعه، وإليه الإشارة بقوله - ﷺ -: "ليس بيني وبينه نبي"؛ أي: بين عيسى عليه السلام، وان احتمل أن يكون المراد: النبي الذي يأتي بشريعة مستقلة، وهو لا ينافي وجود النبي
(١) روح البيان.
493
المقرر للشريعة المتقدمة.
وقرأ عبد الله: ﴿بالثالث﴾ بالألف واللام، و ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال الثلاثة جميعًا: ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾ مؤكدين كلامهم لسبق الإنكار، لما أن تكذيبهما تكذيب للثالث لاتحاد كلمتهم؛ أي: وجاؤوا بكلامهم هذا مؤكدًا لسبق التكذيب للاثنين، والتكذيب لهما تكذيب للثالث؛ لأنهم أرسلوا جميعًا بشيء واحد، وهو الدعاء إلى الله عز وجل، وهذه الجملة (١) مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في سؤال مقدر، كأنه قيل: ما قال هؤلاء الرسل بعد التعزيز لهم بثالث؟
ومعنى الآية (٢): أي واذكر لهم حين أرسلنا إلى أهل القرية رسولين من عندنا، فأسرعوا في تكذيبهما، فقويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث، فقالوا لأهل القرية إنا إليكم مرسلون من ربكم الذي خلقكم بأن تخلصوا له العبادة، وتتبرّؤوا مما تعبدون من الألهة والأصنام، والمشهور: إن الرسولين الأولين كانا: يوحنا وبولس، والرسول الثالث: شمعون،
١٥ - ثم ذكر شبهةً كثيرًا ما تمسك بها المكذبون للرسل من الأمم الماضية، ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال أهل أنطاكية الذين لم يؤمنوا مخاطبين للرسل الثلاثة، وهذه الجملة أيضًا مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فما قال لهم أهل أنطاكية؛ فقيل: قالوا: ﴿مَا أَنْتُمْ﴾ أيها الثلاثة، ﴿إِلَّا بَشَرٌ﴾؛ أي: آدمي ﴿مِثْلُنَا﴾؛ أي: مشاركون لنا في البشرية، فليس لكم مزية علينا تختصون بها، وهذا من قبيل قصر القلب، فالمخاطبون وهم الرسل لم يكونوا جاهلين بكونهم بشرًا، ولا منكرين لذلك، لكنهم نزّلوا منزلة المنكرين لاعتقاد الكفار أن الرسول لا يكون بشرًا، فنزلوهم منزلة المنكرين للبشرية لما اعتقدوا التنافي بين الرسالة والبشرية، فقلبوا هذا الحكم وعكسوه، وقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا؛ أي: أنتم مقصورون على البشرية، ليس لكم وصف الرسالة التي تدَّعونها، فلا فضل لكم علينا يقتضي اختصاصكم بالرسالة دوننا، ولو أرسل الرحمن إلى البشر رسلًا.. لجعلهم من جنس أفضل منهم، وهم الملائكة على زعمهم، وهذا الموضع قد بسط الكلام فيه في كتب البلاغة فراجعها.
﴿وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ﴾ من وحي سماوي، ومن رسول يبلّغه، فكيف صرتم
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
رسلًا، وكيف يجب علينا طاعتكم، وهو تتمّة الكلام المذكور؛ لأنه يستلزم الإنكار أيضًا؛ أي: ما أنزل شيئًا مما تدّعونه ويدعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم وفي قولهم: ﴿وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ﴾ إيماء إلى أنهم يعترفون بالألوهية لكنهم ينكرون الرسالة ويتوسلون بالأصنام. ﴿إِنْ أَنْتُمْ﴾؛ أي: ما أنتم ﴿إِلَّا تَكْذِبُونَ﴾ في دعوى رسالته،
١٦ - فأجابوهم بإثبات رسالتهم بكلام مؤكّد تأكيدًا بليغًا لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية حيث: ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦)﴾؛ وإن كذبتمونا. فأكَّدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم: ﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ﴾، وبإن وباللام؛ أي: استشهدوا بعلم الله، وهو يجري مجرى القسم في التوكيد مع ما فيه من تحذيرهم معارضة علم الله، وزادوا اللام لما شهدوا منهم من شدة الإنكار،
١٧ - ﴿وَمَا عَلَيْنَا﴾؛ أي: من جهة ربنا، ﴿إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: إلا تبليغ رسالته تبليغًا ظاهرًا واضحًا مبينًا بالآيات الشاهدة بالصحة، فإنه لا بدّ للدعوى من البينة، وقد خرجنا من عهدته فلا مؤاخذة لنا بعد ذلك من جهة ربنا، وليس في وسعنا إجباركم على الإيمان، ولا أن نوقع في قلوبكم العلم بصدقنا، فإن آمنتم وإلا فينزل العذاب عليكم، وفيه تعريض لهم بأن إنكارهم للحق ليس لخفاء حاله وصحته، بل هو مبنى على محض العناد والحمية الجاهلية.
١٨ - وهذه الجملة مستأنفة كالتي قلبها، وكذلك قوله: ﴿قَالُوا﴾ لما ضاقت عليهم الحيل، ولم يبقَ لهم علل وحجج، ﴿إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ فإنها مستأنفة جوابًا عن سؤال مقدر؛ أي إنا تشاءمنا بكم جريًا على ديدن الجهلة؛ حيث كانوا يتمنون بكل ما يوافق شهواتهم، وإن كان مستجلبًا لكل شرٍّ ووبال، ويتشاءمون بكل ما لا يوافقها، وإن كان مستتبعًا لسعادة الدارين، وقال النقشبندي: قد تشاءمنا بقدومكم؛ إذ منذ قدمتم إلى ديارنا ما نزل القطر علينا، وما أصابنا هذا الشر إلا من قبلكم، أخرجوا من بيننا، واخرجوا إلى أوطانكم سالمين، وانتهوا عن دعوتكم، ولا تتفوّها بها بعد، قيل: أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل، وكان - ﷺ - يحب التفاؤل، ويكره التطيُّر، والفرق بينهما (١): أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله، والتطير إنما هو من طريق الاتكال على شيء سواه.
(١) روح البيان.
495
وفي الخبر: لما توجه النبي - ﷺ - نحو المدينة.. لقي بريدة بن أسلم، فقال: "من أنت يا فتى"؟ قال: بريدة، فالتفت النبي - ﷺ - إلى أبي بكر فقال: "برد أمرنا وصلح"؛ أي: سهل، ثم قال عليه السلام: "ابن من أنت يا فتى؟ " قال: ابن أسلم، فقال النبي عليه السلام لأبي بكر رضي الله عنه: "سلمنا من كيدهم".
وفي الفقه: لو صاحت الهامة أو طير آخر، فقال رجل: يموت المريض، يكفر، ولو خرج إلى السفر ورجع فقال: ارجع لصياح العقعق، كفر عند البعض وفي الحديث: "ليس عبد إلا سيدخل في قلبه الطيرة، فماذا أحسَّ بذلك.. فليقل: أنا عبد الله، ما شاء الله لا قوّة إلا بالله، لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب بالسيئات إلا الله، أشهد أن الله على كل شيء قدير، ثم يمضي بوجهه"؛ أي: يمر إلى جهة حاجته، قالوا: من تطير تطيرًا منهيًا عنه حتى منعه مما يريده من حاجته، فإنه قد يصيبه ما يكرهه، كما في "عقد الدر".
﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا﴾؛ أي: والله لئن لم تمتنعوا عن مقالتكم هذه، ولم تسكتوا عنا ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾؛ أي: لنرمينكم بالحجارة؛ أي: لئ لم تتركوا هذه الدعوى، وتعرضوا عن هذه المقالة.. لنرجمنكم بالحجارة. ﴿وَلَيَمَسَّنَّكُمْ﴾؛ أي: وليصيبنكم، ﴿مِنَّا﴾؛ أي: من جهتنا، ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: عذاب شديد وجيع فظيع؛ أي: لا نكتفي برجمكم بحجر أو حجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت، وهذا العذاب الأليم، أو ليمسنكم بسبب الرجم منا عذاب مؤلم. قال الفراء: عامة ما في القرآن من الرجم المراد به: القتل: وقال قتادة هو على بابه من الرجم بالحجارة، قيل: ومعنى العذاب: القتل: وقيل: الشتم، وقيل: هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع خاص، وهذا هو الظاهر. وفسر بعضهم الرجم بالشتم، فيكون المعنى: لا نكتفي بالشتم، بل يكون شتمنا مؤديًا إلى الضرب والإيلام الحسي.
والمعنى (١): أي إنا تشاءمنا من تبليغكم ودعوتكم، فقد افتتن بعض القوم بكم، وتفرقت كلمتنا، وانفرط عقد وحدثنا، ولئن لم تنتهوا عن بث هذه الدعوة بيننا لنرجمنكم بالحجارة رجمًا، ولنمثلن بكم شر التمثيل، أو لنعذبنكم عذابًا شديدًا، ؤأنتم أحياء.
(١) المراغي.
496
والخلاصة: إنّا إما أن نقتلكم أو نلقينكم في غيابات السجون، وننكل بكم تنكيلًا عظيمًا،
١٩ - ثم أجاب عليهم الرسل دفعًا لما زعموه من التطير بهم، فـ ﴿قَالُوا﴾؛ أي: المرسلون لأهل أنطاكية، ﴿طَائِرُكُمْ﴾؛ أي: سبب شؤمكم، ﴿مَعَكُمْ﴾؛ في: من جهة أنفسكم لازم في أعناقكم، لا من قبلنا، وليس هو من شؤمنا؛ أي: سوء حالكم وشدتكم، وإصابة الضرر بكم من الله بسببكم، وهو سوء اعتقادكم، وقبح أعمالكم، فالطائر بمعنى ما يتشاءم به مطلقًا، قال الفراء: طائركم؛ أي: رزقكم وعملكم، وبه قال قتادة، وقال أبو حيان؛ أي: حظكم، وما صار لكم من خير أمر شر معكم؛ أي: من أفعالكم ليس هو من أجلنا، بل بكفركم؛ أي: قالوا لهم: سبب شؤمكم من أفعالكم، لا من قبلنا كما تزعمون، فأنتم أشركتم بالله سواه، وأولعتم بالمعاصي، واجترحتم السيئات، أما نحن فلا شؤم من قبلنا، فإنا لا ندعوا إلا إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، والإنابة إليه، وفي ذلك منتهى اليمن والبركة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿طَائِرُكُمْ﴾ على وزن اسم الفاعل، وقرأ الحسن وابن هرمز وعمرو بن عبيد وزر بن حبيش: ﴿طيركم﴾ بياء ساكنة بعد الطاء، وقرأ الحسن فيما نقل: ﴿اطيركم﴾ مصدر؛ اطير الذي أصله: تطير، فأدغمت التاء في الطاء، فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر، وقوله: ﴿أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ﴾ بهمزتين همزة الاستفهام التوبيخي، وهمزة إن الشرطية، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه؛ أي: هل إن وعظتم بما فيه سعادتكم، وخوفتم.. تطيرتم أو توعدتم بالرجم والتعذيب؟
وقوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ إضراب (٢) عما تقضيه الشرطية من كون التذكير سببًا للشؤوم، أو مصحِّحًا للتوعيد؛ أي: ليس الأمر كذلك، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان والتجاوز فيه عن الحد، فلذلك أتاكم الشؤم أو في الظلم والعدوان، ولذلك توعدتم وتشاءمتم بمن يجب إكرامه والتبرك به، وهؤلاء القوم في الحقيقة هم النفس وصفاتها، فإنها أسرفت في موافقة الطبع ومخالفة الحق، فكل من كان في يد مثل هذه النفس.. فهو لا يبالي بالوقوع في المهالك،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
497
ولا يزال يدعو الناس إلى ما سلكه من شر المسالك، وكل من تخلص عنها وزكاها.. أفلح هو ومن تبعه، ولذا وعظ الأنبياء، وذكَّروا ونبَّهوا الناس على خطئهم وإسرافهم، وردوهم عن طريقة أسلافهم، ولكن الذكرى إنما تنفع المؤمنين.
والمعنى (١): أي أمن جرّاء أنا ذكرناكم وأمرناكم بعبادة الله مخلصين له الدين.. تقابلونا بمثل هذا الوعيد، بل أنتم قوم ديدنكم الإسراف، ومجاوزة الحد في الطغيان، ومن ثَمَّ جاءكم الشؤم، ولا دخل لرسل الله في ذلك.
والخلاصة: أنتم قوم مسرفون في ضلالتكم، متمادون في غيِّكم، تتشاءمون بمن يجب التبرك بهم من هداة الدين، فقد جعلتم أسباب السعادة أسبابًا للشقاء، ولا يخفى ما في ذلك من شديد التوبيخ وعظيم التهديد، والتنبيه إلى سوء صنيعهم بحرمانهم من الخيرات، ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾.
وقرأ الجمهور من السبعة وغيرهم (٢): ﴿أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ﴾ بهمزتين، الأولى همزة الاستفهام التوبيخي، والثانية همزة إن الشرطية، فحققها الكوفيون، وابن عامر، وسهلها باقي السبعة، وقرأ زر بن حبيش وابن السميقع: بهمزتين مفتوحتين ﴿أأن﴾ وهي قراءة أبي جعفر وطلحة، إلا أنهما لينا الثانية بين بين، وقرأ الماجشون، وهو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة المدني: بهمزة واحدة مفتوحة، والحسن بهاء مكسورة، وأبو عمرو في رواية، وزر أيضًا: بمدة قبل الهمزة المفتوحة، استثقل اجتماعهما ففصل بينهما بألف. وقرأ أبو جعفر أيضًا والحسن أيضًا وقتادة وعيسى الهمداني والأعمش: ﴿أين﴾ بهمزة مفتوحة وياء ساكنة ونون مفتوحة، ظرف مكان، وروي هذا عن عيسى الثقفي أيضًا، فالقراءة الأولى على معنى: هل إن ذكرتم تتطيرون؛ بجعل المحذوف مصب الاستفهام على مذهب سيبويه، وبجعله للشرط على مذهب يونس، فإن قدرته مضارعًا كان مجزومًا، والقراءة الثانية على معنى: ألِئن ذُكِّرتم تطيرتم، فإن مفعول من أجله، وكذلك الهمزة الواحدة المفتوحة، والتي بمدة قبل الهمزة المفتوحة، وقراءة الهمزة المكسور
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
498
وحدها، فحرف شرط بمعنى الإخبار؛ أي: إن ذكِّرتم تطيَّرتم، والقراءة الأخيرة: ﴿أين﴾ فيها ظرف مكان، أداة الشرط حذف جزاؤه للدلالة عليه، تقديره: أين ذكرتم صحبكم طائركم، ويدل عليه قوله: ﴿طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾ ومن جوَّز تقديم الجزاء على الشرط وهم الكوفيون وأبو زيد المبرد.. يجوز أن يكون الجواب: طائركم معكم، وكان أصله: أين ذكرتم فطائركم معكم، فلما قدم حذفت الفاء.
وقرأ الجمهور: ﴿ذُكِّرْتُمْ﴾ بتشديد الكاف، وأبو جعفر وخالد بن إلياس وطلحة والحسن وقتادة وأبو حيوة والأعمش من طريق زائد والأصمعى عن نافع بتخفيفها.
٢٠ - ثم أبان أن الحق لا يعدم نصيرًا، وأن الله يقيِّض له من يدافع عنه فقال: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾؛ أي: من أبعد جوانب أنطاكية، ﴿رَجُلٌ﴾ عظيمُ الشأن، قويُّ الإيمان، فيه (١) إشارة إلى رجولية الجائي وجلادته، وتنكيره لتعظيم شأنه، لا لكونه رجلًا منكورًا غير معلوم، فإنه معلوم عند الله تعالى، وكان منزله عند أقصى باب المدينة، وفي مجيئه من أقصى المدينة بيان لكون الرسل أتوا بالبلاغ المبين حتى بلغت دعوتهم إلى أقصى المدينة، حيث آمن الرجل، وكان دور السور اثني عشر ميلًا؛ أي: فلما سمع خبر الرسل مع القوم جاء حالة كونه ﴿يَسْعَى﴾؛ أي: يسرع في مشيه، فإن السعي: المشي السريع، وهو دون العدو، كما في "المفردات".
فإن قلت (٢): لِمَ قدَّم هنا ﴿مِنْ أَقْصَى﴾ على ﴿رَجُلٌ﴾، وأخره عنه في سورة القصص؟.
قلت: خالف بين الموضعين بالتقديم والتأخير تفننًا في البلاغة، وهو من المحسنات البديعية اللفظية، وذلك الرجل هو حبيب بن موسى النجار المشهور عند العلماء بصاحب يس، وفي بعض التواريخ كان من نسل الإسكندر الرومي، وإنما سمي حبيب النجار؛ لأنه كان نجارًا ينحت الأصنام وغيرها. وقيل: كان إسكافًا، وقيل: كان قصارًا، ويمكن أن يكون جامعًا لهذه الصنائع، وقيل: هو حبيب بن
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط بتصرف.
إسرائيل النجار، قيل: كان مجذومًا، فمنزله عند أقصى باب أو أبواب المدينة، عَبَد الأصنام سبعين سنة، يدعوهم لكشف ضره، فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله تعالى.. قال: هل من آية؟ قالوا: نعم، ندعو ربنا القادر يفرّج عنك ما بك، فقال: إن هذا لعجيب، لي سبعون سنةً أدعو هذه الآلهة، فلم تستطع، يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا: نعم، ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئًا، ولا تضر، فآمن، ودعوا ربهم، فكشف الله ما به كأن لم يكن به بأس، فأقبل على التكسب، فإذا تكسب.. تصدق بنصف سبه، والنصف الآخر لنفسه وعياله، فلما همَّ قوعه بقتل الرسل.. جاءهم يسعى، فـ ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا﴾ هؤلاء ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ المبعوثين إليكم بالحق، وهذه الجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فما قال عندما جاء ساعيًا، ووصل إلى المجتمع، ورآهم مجتمعين على الرسل قاصدين قتلًا؟ فقيل: قال: يا قوم، أصله: يا قومي، خاطبهم بيا قومي لتأليف قلوبهم، واستمالتها نحو قبول نصيحته، وللإشارة إلى أنه لا يريد بهم إلا الخير، وأنه غير متهم بإرادة السوء بهم، قال بعضهم: وكان مشهورًا بينهم بالورع واعتدال الأخلاق، وفي قوله: ﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ تعرض لعنوان رسالتهم حثًا لهم على اتباعهم.
٢١ - ثم أكد ذلك وكرره فقال: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ﴾؛ أي: من لا يسألونكم ﴿أَجْرًا﴾ وجعلًا على ما جاوؤكم به أو الهدى؛ أي: لا يطلبون منكم أجرةً ومالًا على النصح لكم، وتبليغ الرسالة إليكم. ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم مهتدون في أنفسهم إلى خير الدين والدنيا، والمهتدي إلى طريق الحق الموصل إلى هذا الخير إذا لم يكن متهمًا في الدعوة.. يجب اتباعه، وإن لم يكن رسولًا، فكيف وهم ورسل ومهتدون؟! ومن قال: الإيغال هو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتمّ المعنى بدونها.. تكون الآية عنده مثالًا له؛ لأن قوله: ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ مما يتم المعنى بدونه؛ لأن الرسول مهتدٍ لا محالة إلا أن فيه زيادة حث على اتباع الرسل، وترغيب فيه، فقوله: ﴿مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ﴾ بدل أو المرسلين معمول لاتبعوا النقول، والثاني: تأكيد لفظي للأول، نظير قوله تعالى: ﴿لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ﴾ هذا عند بعض النحويين، وأما عند جمهورهم فلا يجوز أو يعرب بدلًا إذا صُرِّح بالعامل الرافع أو الناصب. قال في "الإرشاد": تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يرغبهم في اتباعهم أو التنزه عن الغرض الدنيوي الاهتداء إلى خير الدنيا والدين.
انتهى. وفيه ذم للمتشيخة المزوِّرين الذين يجمعون بتلبيساتهم أموالًا كثيرةً من الضعفاء الحمقى، السائلين، نحو أباطيلهم، ودليل على نقص من يأخذ أجرًا على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة له، كالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى.
والمعنى (١): أي وجاء من أطراف المدينة رجل يعدو مسرعًا لينصح قومه حين بلغه أنهم عقدوا النية على قتل الرسل، فتقدم للذب عنهم ابتغاء وجه الله ونيل ثوابه، قال: يا قوم، اتبعوا رسول الله الذين لا يطلبون منكم أجرًا على تبليغهم، ولا يطلبون علوًا في الأرض ولا فسادًا، وهم سالكون طريق الهداية التي توصل إلى سعادة الدارين
روي: أن هذا الرجل يسمى حبيبًا، وكان نجارًا، قال ابن أبي ليلى: سباقوا الأمم ثلاثة، لم يكفروا قط طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون. ورواه الزمخشري حديثًا، وقال ابن كثير: إنه حديث منكر لا أصل
٢٢ - ثم أبان أنه ما اختار لهم إلا ما اختاره لنفسه، فقال: ﴿وَمَا لِيَ﴾؛ أي: وأيُّ شيء ثبت لي، وأي عذر ومانع عرض لي في كوني ﴿لَا أَعْبُدُ﴾ الإله ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ وخلقني وطهرني من كتم العدل، ورباني بأنواع اللطف والكرم، وهذا تلطف منه في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح؛ حيث أراهم أنه أختار لهم ما يختار لنفسه، والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره؛ أي: أيُّ مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني؛ أي: لا مانع له من ذلك، فالاستفهام إنكاري.
قرأ غير حمزة (٢): بفتح الياء، وقرأ حمزة بإسكانها، ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه، بل أرادهم بكلامه فقال: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، ولم يقل: إليه أرجع، وفيه مبالغة في التهديد؛ أي: إليه تعالى لا إلى غيره تردون أيها القوم بعد البعث للمجازاة والمحاسبة.
(١) المراغي.
(٢) البيضاوي.
فإن قلت (١): كيف أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع الذي هو البعث إليهم مع علمه بأن الله فطرهم وإياه، وإليه يرجع هو وهم، فلم يقل: الذي فطرنا وإليه نرجع، أو: فطركم وإليه ترجعون؟.
قلت: لأن الخلق والإيجاد نعمة من الله تعالى، توجب الشكر، والبعث بعد الموت للجزاء وعيد من الله يوجب الزجر، فأضاف ما يقتضي الشكر إلى نفسه؛ لأنه أليق بايمانه، وما يقتضي الزجر إليهم؛ لأنه أليق بكفرهم.
والمعنى: أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني، وإليه المرجع للجزاء يوم المعاد، فيجازيكم على أعمالكم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وفي هذا تقريع لهم بتركهم عبادة الخالق، وعبادة غيره، وتهديد بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب،
٢٣ - ثم أعاد التوبيخ مرةً أخرى، وساق الكلام المساق الأول، وهو إبراز الكلام في صورة النصيحة لنفسه فقال: ﴿أَأَتَّخِذُ﴾؛ أي: أأعبد ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى، ﴿آلِهَةً﴾ آلهة لا تملك من الأمر شيئًا، وهي الأصنام، وهو إنكار ونفي لاتخاذ الآلهة على الإطلاق؛ أي: لا أتخذ من دون الذي فطرني آلهة باطلة لا تنفعني ولا تضرني، فجعل الإنكار متوجهًا إلى نفسه، وهم المرادون به؛ أي: لا أتخذ من دون الله آلهة وأعبدها، وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني، ثم بيّن حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكارًا عليهم، وبيانًا لضلال عقولهم وقصور إدراكهم فقال: ﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ﴾ وقرأ طلحة بن مصرف ﴿إن يزدني﴾ بفتح الياء؛ أي: إن أرادني الرحمن بضرر؛ أي: إن أراد الرحمن أن يصيبني بسوء ومكروه ﴿لَا تُغْنِ عَنِّي﴾؛ أي: لا تدفع عني، ﴿شَفَاعَتُهُمْ﴾؛ أي: شفاعة تلك الآلهة، ﴿شَيْئًا﴾ من الضرر؛ أي: لا تنفعني شيئًا من النفع، إذ لا شفاعة لهم فتنتفع، فنصب ﴿شَيْئًا﴾ على المصدرية، وقوله: ﴿لَا تُغْنِ﴾ جواب الشرط، والجملة الشرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب، ﴿وَلَا يُنْقِذُونِ﴾؛ أي: لا يخلصونني من ذلك الضرر والمكروه بالنصرة والمظاهرة، وهو عطف على ﴿لَا تُغْنِ﴾، وعلامة الجزم فيه حذف نون الإعراب؛ لأن أصله لا ينقذونني، وهو تعميم بعد تخصيص مبالغةً بهما في عزهم وانتفاء قدرتهم.
(١) فتح الرحمن.
قال الإِمام السهيلي: ذكروا أن حبيبًا كان به داء الجذام، فدعا له الحواري فشفي، فلذلك قال: إن يردن الرحمن. الخ انتهى. وقال بعضهم: إن المريض كان ابنه إلا أن يقال: لا مانع من ابتلاء كليهما، أو أن مرض ابنه في حكم مرض نفسه، فلذا أضاف الضر إلى نفسه، ويحتمل أن الضر ضر القوم؛ لأنه روي شفاء كثير من مرضاهم على يدي الرسل، فأضافه حبيب إلى نفسه على طريقة ما قبله من الاستمالة، وتعريفًا للإحسان بهم بطريق اللطف،
٢٤ - ﴿إِنِّي إِذًا﴾؛ أي: إذا اتخذت من دونه آلهة، ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: لفي خسران واضح، فإن إشراك ما ليس من شأنه النفع، ولا دفع الضر بالخالق المقتدر الذي لا قادر غيره، ولا خير إلا خيره ضلالٌ بيِّن، لا يخفى على أحدِ ممن له تمييز في الجملة، وهذا تعريض بضلالهم كما سبق.
٢٥ - ثم التفت إلى الرسل، وخاطبهم مصرِّحًا بإيمانه، منيبًا إلى ربه فقال ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ الذي أرسلكم، ﴿فَاسْمَعُونِ﴾؛ أي: فاسمعوا كلامي من الإيمان، فاشهدوا لي بذلك عند ربي، قال المفسرون: أراد قومه قتله، فأقبل هو علي المرسلين فقال: إني آمنت بربكم أيها الرسل، فاسمعوا إيماني، واشهدوا لي به، وقيل: إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلبًا في الدين، وتشددًا في الحق، فلما قال هذا القول وصرَّح بالإيمان.. وثبوا عليه فقتلوه؛ وقيل: وطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه، وقيل: حرقوه، وقيل: حفروا له حفيرة وألقوه فيها، وقيل: إنهم لم يقتلوه، بل رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة، وبه قال الحسن، وقيل: نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه، وروي أنه لما قال ذلك.. وثبوا عليه وثبةَ رجلٍ واحد، فقتلوه، ولم يجد من يدافع عنه، قال قتادة: جعلوا يرجمونه بالحجارة، وهو يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به كذلك حتى فارق الحياة، والمعنى: على أنه خطاب لقومه: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ الذي خلقكم وربَّاكم بأنواع النعم، وإنما قال: بربكم، ولم يقل: آمنت بربي؛ ليعلموا أن ربهم هو الذي يعبده هو فيعبدوا ربهم، ولو قال: إني آمنت بربي، لعلهم يقولون: أنت تعبد ربك، ونحن نعبد ربنا، وهوآلهتهم. ﴿فَاسْمَعُونِ﴾؛ أي: أجيبوني في وعظي ونصحي، واقبلوا قولي، كما يقال: سمع لمن حمده؛ أي: قبله، فالخطاب للكفرة، شافههم بذلك إظهارًا للتصلب في الدين، وعدم المبالاة بالقتل.
وإضافة الربِّ إلى ضميرهم لتحقيق الحق، والتنبيه على بطلان ما هم عليه من اتخاذ الأصنام أربابًا، كما في"الإرشاد". وإنما أكَّده إظهارًا لصدوره عنه بكمال الرغبة والنشاط.
٢٦ - ثم ذكر مآل أمره، وما قاله حين وجد النعيم والكرامة، فقال: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾؛ أي: قيل لحبيب النجار من جهة الرب جل جلاله حين قتلوه: ادخل الجنة إكرامًا له بدخولها حينئذ، كما هي سنة الله سبحانه في عباده الشهداء، وقيل: معناه: البشرى بدخول الجنة، وأنه من أهلها، يدخلها بعد البعث، لا أنه أمر بدخولها في الحال؛ لأن الجزاء بعد البعث، وعلى قول من قال: إنه رفع إلى السماء ولم يقتل.. يكون المعنى: أنهم لما أرادوا قتله.. نجاه الله من القتل، وقيل له: ادخل الجنة.
وإنما لم يقل: قيل له بزيادة لفظة: له؛ لأن الغرض بيان مقول، لا المقول له؛ لظهوره وللمبالغة في المسارعة إلى بيانه، والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر نشأ عن حكاية حاله ومقاله، كأنه قيل: كيف كان بقاؤه عند ربه بعد ذلك التصلب في دينه، والتسخي بروحه لوجهه تعالى، فقيل: قيل له: ادخل الجنة، وكذا قوله تعالى: ﴿قَالَ﴾ الخ مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر نشأ من حكاية حاله، كأنه قيل: فماذا قال عند نيله تلك الكرامة السنية؟ فقيل: قال متمنيًا علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب مثله بالتوبة من الكفر، والدخول في الإيمان والطاعة، جريًا على سنن الصالحين في كظم الغيظ، والترحم على الأعداء، وليعلموا أنهم على خفاء عظيم في أمره، وأنه كان على الحق، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا سعادة؛ أي: فلما دخل الجنة وشاهدها قال حبيب النجار: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي﴾ ﴿يَا﴾ في مثل هذا المقام لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه؛ أي: انتبه أيها المخاطب، أتمنى أن قومي
٢٧ - ﴿يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي﴾ ﴿ما﴾: إما موصولة، والباء صلة ﴿يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: أتمنى علم قومي بالأمر الذي بسببه غفر لي ربي ذنوبي، وهو الإيمان به والطاعة أو: مصدرية، والباء: صلة العلم أيضًا؛ أي: أتمنى علم قومي بغفران ربي لذنوبي، أو استفهامية وردت على الأصل، وهو أن لا تحذف الألف بدخول الجار عليها، والباء: صلة غفر على هذا الوجه؛ أي: أتمنى علم قومي بأيِّ شيء غفر لي ربي ذنوبي، يريد تفخيم شأن المهاجرة عن ملتهم،
504
والمصابرة على أذيتهم لإعزاز الدين حتى قُتل.
﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾؛ أي: من المنعمين في الجنة، وإن كان على النصف؛ إذ تمامه إنما يكون بعد تعلق الروح بالجسد يوم القيامة. وفي الحديث المرفوع: "نصح قومه حيًا وميتًا"، وهكذا (١) ينبغي للمؤمن أن يكون ناصحًا للناس، إلى تعصُّبهم وتمردهم، ويستوي حاله في الرضى والغضب. قال حمدون القصار: لا يسقط عن النفس رؤية الخلق بحال، ولو سقط عنها في وقت لسقط في المشهد الأعلى في الحضرة، ألا تراه في وقت دخول الجنة يقول: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ يحدِّث نفسه، إذ ذاك.
وقرىء (٢): من ﴿الْمُكْرَمِينَ﴾ مشدد الراء مفتوح الكاف، وقرأ الجمهور: بإسكان الكاف وتخفيف الراء.
ومعنى الآية: أي قال الله سبحانه له: ادخل الجنة كفاء ما قدمت من عمل، وأسلفت من إحسان، فلما دخلها وعاين ما أكرمه الله به لإيمانه وصبره.. قال يا ليت قومي يعلمون بما أنا فيه من نعيم وخير عميم لإيماني بربي، وتصديقي برسله، وصبري على أذى قومي، وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب المثوبة مثله بالتوبة عن الكفر، والدخول في حظيرة الإيمان والطاعة، اتباعًا لسنن أولياء الله الذي يكظمون الغيظ، ويترحمون على الأعداء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نصح قومه حيًا بقوله: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾، وبعد مماته بقوله: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)﴾.
الإعراب
﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)﴾.
﴿يس (١)﴾: إن قلنا إنه علم على السورة.. فهو إما خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذه يس، والخبر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره على قراءة الرفع،
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
505
ولم ينون؛ لأنه اسم لا ينصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره: يس هذا محلها، أو مفعول لفعل محذف على قراءة النصب تقديره: اقرأ يس، أو مجرور بحرف قسم محذوف على قراءة الجر. وإن قلنا إنه من الحروف المقطعة التي وقعت فواتح السور.. فلا توصف بإعراب ولا بناء؛ لأنهما فرع عن إدراك المعنى، ومعناها: لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. ﴿وَالْقُرْآنِ﴾: الواو: حرف جر وقسم، ﴿وَالْقُرْآنِ﴾: مقسم به مجرور بواو القسم، ﴿الْحَكِيمِ﴾: صفة له، الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: أقسم بالقرآن الحكيم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾: جار ومجرور خبره، واللام حرف ابتداء وتوكيد، وجملة ﴿إنّ﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، ﴿عَلَى صِرَاطٍ﴾: جار ومجرور خبر ثانٍ لـ ﴿إنَّ﴾، ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾: صفة ﴿صِرَاطٍ﴾، ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالًا من الضمير المستكن في خبر ﴿إنّ﴾، وأجاز الزمخشري أن يتعلق بالمرسلين؛ أي: من الذين أرسلوا على طريقةٍ مستقيمة، ولا بأس بهذا الإعراب.
﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧)﴾.
﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ﴾: بالنصب مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: نزل العزيز الرحيم القرآن تنزيلًا، أو منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره: أمدح تنزيل العزيز الرحيم، وبالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو تنزيل العزيز، وبالجر بدل من ﴿يس (١)﴾، أو صفة له؛ لأنه بمعنى منزل. ﴿الْعَزِيزِ﴾: مضاف إليه، ﴿الرَّحِيمِ﴾: صفة لـ ﴿الْعَزِيزِ﴾، ﴿لِتُنْذِرَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿تنذر﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿قَوْمًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَنْزِيلَ﴾؛ أي: نزلت عليك لإنذارك قومًا، أو متعلق بمعنى قوله: من المرسلين؛ أي: أرسلت لإنذارك قومًا، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾، ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب على أنها مفعول ثان لـ ﴿تنذر﴾، وجملة ﴿أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ﴾ صلة لها، أو صفة لها، والعائد أو الرابط
506
محذوف تقديره: لتنذر قومًا العذاب الذي أنذره آباؤهم، أو عذابًا أنذره آباؤهم، ويجوز أن تكون مصدرية؛ أي: لتنذر قومًا إنذار آبائهم، ويجوز أن تكون زائدةً، وتكون جملة ﴿أُنْذِرَ﴾ صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾، ففي ﴿مَا﴾ أربعة أوجهٍ من الإعراب. ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿هم﴾: مبتدأ، ﴿غَافِلُونَ﴾: خبره، والجملة في محل النصب، معطوف على جملة ﴿أنذر﴾ على كونها صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾، ﴿لَقَدْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿حَقَّ الْقَوْلُ﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿حَقَّ﴾، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ خبره، والجملة معطوفة على جملة الجواب.
﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، وجملة جعلنا خبره، ﴿فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلْنَا﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿جَعَلْنَا﴾، ﴿أَغْلَالًا﴾: مفعول أول لها، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتمثيل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم عن غيهم، ﴿فَهِيَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿هِيَ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَى الْأَذْقَانِ﴾ متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: مجموعة أو مرفوعة إلى الأذقان، والجملة الاسمية معطوفة مفرعة على جملة ﴿جَعَلْنَا﴾، ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿مُقْمَحُونَ﴾: خبره، والجملة معطوفة مفرعة على جملة قوله: ﴿فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ﴾، ﴿وَجَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾ الأول، ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿جَعَلْنَا﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له، ﴿سَدًّا﴾: مفعول أول له، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾: معطوف على ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾، ﴿سَدًّا﴾: معطوف على ﴿سَدًّا﴾ الأول، ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿أغشيناهم﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾، ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ﴿أغشينا﴾.
﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)﴾.
507
﴿وَسَوَاءٌ﴾: الواو: استئنافية، ﴿سواء﴾: خبر مقدم، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿سواء﴾؛ لأنه بمعنى: مستوٍ. ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: حرف استفهام وتسوية، ﴿أنذرتهم﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ﴿أَمْ﴾: حرف عطف معادل لهمزة التسوية، ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم، ﴿تُنْذِرْهُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على جملة ﴿أَنْذَرْتَهُمْ﴾، وجملة ﴿أَنْذَرْتَهُمْ﴾ في تأويل مصدر من غير سابك لإصلاح المعنى، أو بسابك هو همزة التسوية، مرفوع على كونه مبتدأ لـ ﴿سَوَاءٌ﴾ تقديره: وإنذارك إياهم وعدم إنذارك إياهم سواء؛ أي: مستويان، والجملة مستأنفة، ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مؤكدة لما قبلها، أو حال مؤكدة له، ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿تُنْذِرُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿مَنِ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿تُنْذِرُ﴾، ﴿اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَن﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿اتَّبَعَ﴾. ﴿بِالْغَيْبِ﴾: حال من فاعل ﴿خشي﴾، أو من مفعوله، ﴿فَبَشِّرْهُ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت إنما الإنذار لمن اتبع الذكر، وأردت بيان عاقبته.. فأقول لك: بشره، ﴿بشره﴾: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿بِمَغْفِرَةٍ﴾: متعلق به، ﴿وَأَجْرٍ﴾: معطوف على ﴿مَغْفِرَةٍ﴾، ﴿كَرِيمٍ﴾: صفة ﴿أجر﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿نَحْنُ﴾: مبتدأ، ﴿نُحْيِ الْمَوْتَى﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿وَنَكْتُبُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿نُحْيِ﴾، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿نكتب﴾، وجملة ﴿قَدَّمُوا﴾: صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما قدموه ﴿وَآثَارَهُمْ﴾: معطوف على ﴿مَا﴾، ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾: الواو: استننافية، ﴿كل شيء﴾: منصوب بفعل مضمر وجوبًا يفسره ما بعده على سبيل الاشتغال تقديره:
508
وأحصينا كل شيء أحصيناه، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، ﴿فِي إِمَامٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾، ﴿مُبِينٍ﴾: صفة ﴿إِمَامٍ﴾. ﴿وَاضْرِبْ﴾: الواو: استئنافية، ﴿اضرب﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور حال من ﴿مَثَلًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿مَثَلًا﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿اضرب﴾؛ لأنه بمعنى: اجعل ﴿أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾: مفعول أول له، ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية بدل اشتمال من ﴿أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾، ﴿جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إِذْ﴾ إليها.
﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (١٥) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٧)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان بدل من ﴿إِذْ﴾ الأولى بدل تفصيل من مجمل، وهو يدخل في نطاق بدل المطابق، أو بدل الكل من الكل، ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَيْهِمُ﴾: متعلق به، ﴿اثْنَيْنِ﴾: مفعول به لـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، وجملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾، ﴿فَكَذَّبُوهُمَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿فَعَزَّزْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿فَكَذَّبُوهُمَا﴾، ﴿بِثَالِثٍ﴾: متعلق بـ ﴿عززنا﴾، ﴿فَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿عززنا﴾، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿مُرْسَلُونَ﴾، و ﴿مُرْسَلُونَ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿بَشَرٌ﴾: خبر أنتم، ﴿مِثْلُنَا﴾: صفة ﴿بَشَرٌ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، والخطاب فيه للرسل الثلاثة، ﴿وَمَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ﴾ فعل وفاعل، ﴿مِنْ﴾: زائدة ﴿شَيْءٍ﴾: مفعول ﴿أَنْزَلَ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب، معطوف على جملة قوله: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ﴾ ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، وجملة ﴿تَكْذِبُونَ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿رَبُّنَا﴾: مبتدأ، وجملة
509
﴿يَعْلَمُ﴾ خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿مرسلون﴾، ﴿لَمُرسَلُونَ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾، و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب سادة مسد مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾، ﴿وَمَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿عَلَيْنَا﴾: خبر مقدم، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿الْبَلَاغُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿الْمُبِينُ﴾: صفة ﴿الْبَلَاغُ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿رَبُّنَا﴾.
﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿تَطَيَّرْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِكُمْ﴾: متعلق به، وجملة ﴿تَطَيَّرْنَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنّ﴾، وجملة ﴿إِنّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿لَئِنْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿لَمْ﴾: حرف جزم، ﴿تَنْتَهُوا﴾: فعل مضارع وفاعل، مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: نرجمكم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها معترضة، ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم مؤكدة للأولى، ﴿نرجمن﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، والكاف مفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿وَلَيَمَسَّنَّكُمْ﴾: الواو: عاطفة، واللام: موطئة للقسم، ﴿يمسن﴾: فعل مضارع مبني على الفتح، والنون للتوكيد، والكاف مفعول به، ﴿مِنَّا﴾: متعلق بـ ﴿يمسن﴾، ﴿عَذَابٌ﴾: فاعل، ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿طَائِرُكُمْ﴾: مبتدأ، ﴿مَعَكُمْ﴾: ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿أَئِنْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي، ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿ذُكِّرْتُمْ﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة ونائب فاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، والقاعدة عند سيبويه: أنه إذا اجتمع شرط واستفهام.. يجاب الاستفهام ويحذف جواب الشرط، والتقدير عنده: أإن ذكرتم تتطيرون وتوعدون، وذهب غيره إلى إجابة الشرط، والتقدير
510
عندهم: أإن ذكرتم تتطيروا بالجزم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿بَلْ﴾: حرف ابتداء وإضراب، ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ، ﴿قَوْمٌ﴾: خبر، ﴿مُسْرِفُونَ﴾: صفة ﴿قَوْمٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)﴾.
﴿وَجَاءَ﴾: الواو: عاطفة أو استئنافية، ﴿جاء﴾: فعل ماض، ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾: متعلق بـ ﴿جاء﴾، ﴿رَجُلٌ﴾ فاعل، وجملة ﴿يَسْعَى﴾ صفة لـ ﴿رَجُلٌ﴾، أو حال منه لوصفه بصفة محذوفة معلومة من السياق؛ أي: رجل عظيم الشأن عند الله، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على الجمل التي قبلها، ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على رجل، والجملة مستأنفة، ﴿يَا قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿اتَّبِعُوا مَنْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية توكيد للجملة التي قبلها، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَسْأَلُكُمْ﴾: فعل، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ ومفعول أول، ﴿أَجْرًا﴾: مفعول ثانٍ، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصوله، ﴿وَهُمْ﴾: الواو: حالية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿مُهْتَدُونَ﴾: خبر ﴿هم﴾، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يسأل﴾، والجمع باعتبار معنى ﴿مَن﴾، ﴿وَمَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿لِيَ﴾: جار ومجرور في محل الرفع خبر، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿يَا قَوْمِ﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿أَعْبُدُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ياء المتكلم، ﴿فَطَرَنِي﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿وَإِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾، و ﴿تُرْجَعُونَ﴾: فعل مغيَّر الصيغة ونائب فاعل، معطوف على ﴿فَطَرَنِي﴾.
﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (٢٣)﴾.
﴿أَأَتَّخِذُ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، ﴿أتخذ﴾: فعل مضارع وفاعل
511
مستتر، ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أتخذ﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له، ﴿آلِهَةً﴾: مفعول أول له، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿يُرِدْنِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية مفعول به، ﴿الرَّحْمَنُ﴾: فاعل، ﴿بِضُرٍّ﴾: متعلق بـ ﴿يُرِدْنِ﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿تُغْنِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ﴿عَنِّي﴾ متعلق بـ ﴿تُغْنِ﴾، ﴿شَفَاعَتُهُمْ﴾: فاعل ﴿تُغْنِ﴾، ﴿شَيْئًا﴾: مفعول مطلق، أو مفعول به، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿وَلَا﴾: الواو: عاطفة ﴿لا﴾: نافية، ﴿يُنْقِذُونِ﴾: فعل مضارع وفاعل، معطوف على ﴿تُغْنِ﴾ مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، وعلامة جزمه حذف النون، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية مفعول به؛ لأن أصله: ينقذونني.
﴿إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)﴾.
﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿إِذًا﴾: حرف جواب وجزاء لا عمل لها لفقد شرطها، ﴿لَفِي﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿في ضلال﴾: جار ومجرور خبر إن، ﴿مُبِينٍ﴾: صفة ﴿ضَلَالٍ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿آمَنْتُ﴾: فعل وفاعل، ﴿بِرَبِّكُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿فَاسْمَعُونِ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿اسمعوا﴾: فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنْتُ﴾، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغيَّر الصيغة، ﴿ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة، وإن شئت قلت: ﴿ادْخُلِ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، ﴿الْجَنَّةَ﴾: ظرف مكان متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾، ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على ﴿رَجُلٌ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿يَا لَيْتَ﴾ ﴿يَا﴾: حرف تنبيه، أو حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: يا هؤلاء، ﴿لَيْتَ قَوْمِي﴾: ناصب
512
واسمه، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿لَيْتَ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿يَعْلَمُونَ﴾، ﴿ما﴾: مصدرية أو موصولة، ﴿غَفَرَ﴾: فعل ماض، ﴿لِي﴾: متعلق به، ﴿رَبِّي﴾: فاعل ﴿غَفَرَ﴾، والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية؛ أي: بغفران ربي لي، أو بالسبب الذي غفر به ربي ذنوبي، وهو الإيمان، وقال الفراء: ويجوز جعلها استفهامية؛ يعني: بأي شيء غفر لي ربي؛ ورد عليه بأنها لو كانت استفهامية.. لحذفت ألفها، كما هو القاعدة عند دخول الجار عليها، وأجيب عنه: بأن حذفها أغلبي لا اطرادي، والمشهور أن إثبات الألف في ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر مختص بضرورة الشعر نحو قوله:
عَلى مَا قَامَ يَشْتُمُنِيْ لَئِيْمُ كَخِنْزِيْرِ تَمَرَّغَ فِيْ رَمَادِ
وحذفها هو المعروف في الكلام نحو قوله:
عَلَامَ يَقُوْلُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ كَاهِلِيْ إِذَا أَنَا لَمْ أَطْعَنْ إِذَا الخَيْلُ كَرَّتِ
﴿وَجَعَلَنِي﴾: الواو: عاطفة، ﴿جعلني﴾: فعل وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعول أول ﴿مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جعلني﴾ على أنه مفعول ثانٍ لـ ﴿جعل﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿غَفَرَ لِي﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يس (١)﴾ تقدم الكلام في نظائره من الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن الرأي الراجح فيها أنها حروف تنبيه، نحو: ألا ويا، وينطق بأسمائها فيقال: ياسين. روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: يس؛ أي: يا إنسان بلغة طيء.
﴿الْحَكِيمِ﴾؛ أي: ذو الحكمة، يقال: قصيدة حكيمة؛ أي: ذات حكمة، يقال: حكم الرجل من باب كرم؛ أي: صار حكيمًا، ومنه قول النابغة:
وَاحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إِذْ نَظَرَتْ إِلَى حَمَامِ شِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ
وأحكمته التجارب: جعلته حكيمًا، وقال آخر:
وَقَصِيْدةٍ تَأْتِيْ الْمُلُوْكَ حَكِيْمَةٍ... قَدْ قُلْتُهَا، لِيُقَالَ: مَنْ ذَا قَالَهَا؟
وعبارة "الكرخي": الحكيم: فعيل بمعنى: مفعل، كقولهم: عقدت العسل فهو
513
عقيد بمعنى: معقد، وليس بمعنى مفعول، كشيطان رجيم بمعنى: مرجوم، وليس هو في الآية كذلك؛ لأنه إنما يقال محكوم به ونحو ذلك، ولا بمعنى: فاعل؛ أي: حاكم؛ لأن الحاكم الحقيقي هو الله تعالى، فظهر بذلك أن القرآن محكوم فيه لا حاكم، وأن الحاكم المطلق هو الله تعالى، أو على معنى النسب؛ أي: ذي الحكم؛ لأنه دليل ناطق بالحكمة بطريق الاستعارة، أو المتصف بها على الإسناد المجازي.
﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)﴾ من الإرسال، والإرسال قد يكون للتسخير، كإرسال الريح والمطر، وقد يكون بمعنى بعث من له اختيار، نحو إرسال الرسل، كما في "المفردات".
﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾؛ أي: متصفون بالغفلة، والغفلة: ذهاب المعنى عن النفس، والنسيان: ذهابه عنها بعد حضوره. قال بعضهم: الغفلة: نوم القلب، فلا تعتبر حركة اللسان إذا كان القلب نائمًا، ولا يضر سكوته إذا كان متيقظًا، ومعنى التيقظ: أن يشهده تعالى حافظًا له رقيبًا عليه قائمًا بمصالحه.
﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ﴾؛ أي: ثبت ووجب، والقول الحكم والقضاء الأزلي. ﴿أَغْلَالًا﴾: جمع غل بضم الغين، وهو القيد الذي يوضع في اليد، وقد تشد به اليد إلى العنق، وفي "المفردات": أصل الغلل: تدرع الشيء وتوسُّطه، ومنه: الغلل للماء الجاري، مختص بما يقيد به، فيجعل الأعضاء وسطه، وغل فلان: قيد به، وقيل للبخيل: هو مغلول اليد.
﴿فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ﴾ جمع ذقن بفتح الذال والقاف وبكسر الذال وبفتح القاف ومجتمع اللحيين من أسفلهما.
﴿فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ جمع: مقمح، والمقمح: الذي يرفع رأسه، ويغض بصره من الإقماح، يقال: قمح البعير فهو قامح إذا رفع رأسه بعد الشرب لارتوائه، أو لبرودة الماء، أو لكراهة طعمه، كما مرَّ، وفي "المختار" الإقماح: رفع الرأس، وغض البصر، يقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعًا من ضيقه. اهـ. وفي "القاموس": وأقمح الغل الأسير: إذا ترك رأسه مرفوعًا لضيقه.
﴿سَدًّا﴾ السد - بفتح السين وضمها -: الحاجز بين الشيئين والجبل، والجمع: أسداد. قال علي بن أبي طالب: وضرب على قلبه بالأسداد؛ أي: سدت
514
عليه الطرق، وعميت عليه المذاهب.
﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: أغشينا أبصارهم؛ أي: غطيناهم، وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح إلى مرئي. ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ﴾؛ أي: عقابه، ﴿بِالْغَيْبِ﴾؛ أي: قبل حلوله ومعاينة أهواله. ﴿نُحْيِ الْمَوْتَى﴾ والإحياء: جعل الشيء حيًا ذا حس وحركة، والميت: من أخرج روحه.
﴿مَا قَدَّمُوا﴾؛ أي: أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة. ﴿وَآثَارَهُمْ﴾؛ أي: ما أبقوه بعدهم من الحسنات، كعلم علموه، أو كتاب ألفوه أو بناء في سبيل الله بنوه، أو من السيئات، كغرس بذور الضلالات بين الناس.
﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾ قال ابن الشيخ: أصل الإحصاء: العد، ثم استعير للبيان والحفظ؛ لأن العد يكون لأجلهما، وفي "المفردات": الإحصاء: التحصيل بالعدد، يقال: أحصيت كذا، وذلك من لفظ الحصي، واستعمال ذلك فيه؛ لأنهم كانوا يعتمدون عليه في العد اعتمادنا فيه على الأصابع.
﴿فِي إِمَامٍ﴾؛ أي: أصلٍ يؤتم به، قال الراغب: الإِمام المؤتم به إنسانًا كان يقتدى بقوله وبفعله، أو كتابًا أو غير ذلك، محقًا كان أو مبطلًا، وجمعه: أئمة.
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ القرية - بفتح القاف وكسرها -: الضيعة، والمصر الجامع، وجمع الناس، والجمع: قرًى، وقرىء بضم القاف وكسرها، والنسبة إليها: قروي وقرييّ، والمراد بها هنا: أنطاكية كما سبق.
﴿فعززناهما﴾؛ أي: قويناهما وشددناهما، يقال: عزز المطر الأرض إذا لبدها وسددها، وأرض عزار؛ أي: صلبة، وتعزز اللحم: اشتد وعز، كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه.
﴿إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: التبليغ الواضح الظاهر للرسالة. ﴿إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾؛ أي: تشاءمنا، والتطير: التشاؤم، وأصله: من الطير إذا طار إلى جهة اليسار تشاءموا به، وأصل التطير: التفاؤل بالطير، فإنهم يزعمون أن الطائر السانح - أي: الذي طار إلى جهة اليمين - سببٌ للخير، والبارح - أي: الذي طار إلى جهة اليسار - سبب للشر، ثم استعمل في كل ما يتشاءم به، طيرًا كان أو غيره.
﴿طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾ وفي "المختار": طائر الإنسان: عمله الذي قلّده، والطير
515
أيضًا الاسم من التطير، ومنه قولهم: لا طير إلا طير الله، كما يقال: لا أمر إلا أمر الله، وقال ابن السكيت يقال: طائر الله لا طائرك، ولا تقل: طير الله، وتطيَّر من الشيء وبالشيء، والاسم: الطيرة بوزن عنبة، وهي ما يتشاءم به من الفأل الرديء. ﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ﴾ والضر: اسم لكل سوء ومكروه يتضرر به. ﴿وَلَا يُنْقِذُونِ﴾ من الإنقاذ، وهو: التخليص من المخاوف والمكاره.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)﴾ لردِّ إنكار الكفرة بقولهم في حقه - ﷺ -: لست مرسلًا، وما أرسل الله إلينا رسولًا، فإنه أكد بالقسم، وبإن، وباللام، وباسمية الجملة؛ لأن المقام مقام الإنكار.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ فإنه شبَّه حال الكفار في امتناعهم من الهدى والإيمان بمن غلت يده إلى عنقه بالسلاسل والأغلال، فأصبح رأسه مرفوعًا لا يستطيع خفضًا له ولا التفاتًا على طريقة الاستعارة التمثيلية.
ومنها: القلب في قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾؛ إذ حقيقة الكلام: جعلنا أعناقهم في الأغلال، وقال ثعلب: في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢)﴾ إن المعنى: اسلكوا فيه سلسلة؛ أي: أدخلوا في عنقه سلسلة.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿أَغْلَالًا﴾ مبالغة في تعظيمها وتهويل أمرها.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ الآية، فقد شبههم بمن أحاط بهم سدان هائلان، فغطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في وهدة الجهالة، ممنوعون من النظر في الآيات والدلائل، أو كأنهم وقد حرموا نعمة التفكير في القرون الخالية والأمم الماضية، والتأمل في مغاب الآتية والعواقب المستقبلية، قد أحيطوا بسدٍّ من أمامهم، وسد من
516
ورائهم، فهم في ظلمة داكنة لا تختلج العين من جانبها بقبس، وتتوسم بصيصًا من أمل.
ومنها: تكرير الضمير في قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى﴾ لزيادة التأكيد.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ﴾؛ لأنه استعار الإحصاء بمعنى العد للإحصاء بمعنى البيان بجامع الضبط في كل، فاشتق من الإحصاء بمعنى البيان، أحصينا بمعنى: بينا على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ فقد حذف مفعول ﴿فَعَزَّزْنَا﴾، والتقدير: فعززهما بثالث.
ومنها: التأكيدات في قوله: ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾ الآيات، ففي هذه الآيات يبدو التأكيد بأروع صورة للخبر، فقال أولًا: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا﴾ فأورد الكلام ابتدائي الخبر، ثم قال: ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾، فأكده بمؤكدين، وهو: إن، واسمية الجملة، فأورد الكلام طلبيًا، ثم قال: ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾، فترقى في التأكيد بثلاثة، وهي: إن، واللام، واسمية الجملة، فأورد الكلام إنكاري الخبر جوابًا عن إنكارهم، قيل: وفي قوله: ﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ﴾ تأكيد رابع، وهو إجراء الكلام مجرى القسم في التأكيد به، وفي أنه يجاب بما يجاب به القسم، وفي هذه الآية ائتلاف الفاصلة مع ما يدل عليه سائر الكلام، فإن ذكر الرسالة مهد لذكر البلاغ والبيان.
ومنها: قصر القلب في قوله: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ فالمخاطبون وهم الرسل لم يكونوا جاهلين بكونهم بشرًا ولا منكرين لذلك، لكنهم نزّلوا منزلة المنكرين لاعتقاد الكفار أن الرسول لا يكون بشرًا، فنزلوهم منزلة المنكرين للبشرية لما اعتقدوا التنافي بين الرسالة والبشرية، فقلبوا هذا الحكم وعكسوه وقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا؛ أي: أنتم مقصورون على البشرية، ليس لكم وصف الرسالة التي تدعونها، فلا فضل لكم علينا يقتضي اختصاصكم بالرسالة دوننا، ولو أرسل الرحمن إلى البشر رسلًا لجعلهم من جنس أفضل منهم، وهم الملائكة على زعمهم.
517
ومنها: الطباق في قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾.
ومنها: الجناس الناقص في ﴿نَحْنُ نُحْيِ﴾ لتغير بعض الحروف.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿أَرْسَلْنَا﴾ و ﴿لَمُرْسَلُونَ﴾، وبين ﴿تَطَيَّرْنَا﴾ و ﴿طَائِرُكُمْ﴾.
ومنها: الإطناب بتكرار الفعل في قوله: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١)﴾.
ومنها: الإيغال في قوله: ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾، الإيغال عندهم: هو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها؛ لأن قوله: ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ مما يتم المعنى بدونه؛ لأن الرسل مهتدون لا محالة، إلا أن فيه زيادة حث على اتباع الرسل وترغيب فيه.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾، وفائدته: أن في انتقاله من مخاطبتهم ومناصحتهم إلى التكلم تلطفًا بهم من جهة، ووعيدًا لهم من جهة ثانية، فقد صرف الكلام أولًا إلى نفسه، وأراهم أنه لا يختار لهم إلا ما يختاره لنفسه، ثم التفت إلى مخاطبتهم ثانيًا مقرعًا مهددًا بالعواقب التي تنتظرهم، ثم عاد أخيرًا إلى التلطف في النصيحة؛ لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح؛ حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، وقد وضع قوله: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ألا ترى إلى قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني، وإليه أرجع.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾.
ومنها: الحذف لدلالة السياق عليه في قوله: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾، والتقدير: فلما أشهر إيمانه.. قتلوه، فقيل له: ادخل الجنة.
ومنها: ائتلاف الفواصل في هذه الآي، وهو من خصائص القرآن لما فيه من روعة البيان، وحسن الوقع على السمع، وهو كثير في القرآن.
فائدة: من محاسن القرآن الكريم وبلاغته الخارقة الإيجاز في القصص والأنباء، والإشارة إلى روحها وسردها؛ لأن القصد من القصص التذكير والاعتبار،
518
ولهذا لم يذكر في القصة اسم البلدة، ولا اسم الشخص الذي دعاهم إلى الله تعالى، ولا أسماء الرسل الكرام؛ لأن كل ذلك ليس هو الهدف من القصة، وقس على هذا سائر قصص القرآن.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أجل وأعز وأكرم وأعلم، والحمد لله على إحسانه وإنعامه، وصلِّ وسلم ربنا على محمد وآله الطيبين الأخيار، وصحبه الكرام الأبرار، وأتباعهم إلى يوم العرض على الجبار (١).
* * *
(١) وإلى هنا وقفت الأقلام في تفسير هذا الجزء من الكتاب الكريم، وكان الفراغ منه بمكة المكرمة جوار المسجد الحرام في حي المسفلة في حارة الرشد في أوائل الليلة التاسعة من شهر صفر المبارك من شهور سنة ألف وأربع مئة وأربع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، ٩/ ٢/ ١٤١٤ هـ، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، آمين آمين يا رب آمين. تم المجلد الثالث والعشرون، ويليه المجلد الرابع والعشرون، وأوله قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ...﴾ الآية.
519
شعرٌ
الْعَبْدُ ذُوْ ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُوْ قَدَرٍ وَالدَّهْرُ ذُوْ دُوَلٍ وَالرِّزْقُ مَقْسُوْمُ
وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيْمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا وَفِيْ اخْتِيَارِ سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشَّوَمُ
آخرُ
أَلَّا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلِّ سَحَابَةٍ أَظَلَّتْكَ يَوْمًا ثُمَّ عَنْكَ اضْمَحَلَّتِ
فَلاَ تَكُ فَرْحانًا بِهَا حِيْنَ أَقْبَلَتْ وَلَا تَكُ جَزْعَانًا بِهَا حِيْنَ وَلَّتِ
آخرُ
بِلَادُ اللَّهُ وَاسِعَةٌ فَضَاءً وَرِزْقُ اللَّهِ فِيْ الدُّنْيَا فَسِيْحُ
فَقُلْ لِلْقَاعِدِيْنَ عَلَى هَوَانٍ إِذَا ضَاقَتْ بِكُمْ أَرْضٌ فَسِيْحُوْا
آخرُ
520
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الرابع والعشرون»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[٢٤]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4
شعر
إِذَا رَأَيْتَ لَحِيْنَا كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا
يَا مَنْ يُعَيِّبُ شَرْحِيْ لِمْ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا
السِّبَاقَ السِّبَاقَ قَوْلًا وَفِعْلًا حَذَّرِ النَّفْسَ حَسْرَةَ الْمَسْبُوقِ
آخرُ
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيْرَةٌ وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الَّذِيْ بَيْنِيْ وَبَيْنَكَ عَامِرٌ وَبَيْنِيْ وَبَيْنَ الْعَالَمِيْنَ خَرَابُ
آخرُ
رَأَيْتُ أَخَا الدَّنْيَا وَإِنْ كَانَ ثَاوِيا أخا سَفَرٍ يُسْرَى بِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي
آخرُ
وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ
آخرُ
الْمَوْتُ كَأْسٌ وَكُلُّ النَّاسِ شَارِبُهُ وَالقَبْرُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ
آخرُ
5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله، جل على الإنعام، فسبحانه ذا الجلال والإكرام على ما منّ به علينا من الفضل الجسيم، لا سيما تفسير كتابه الكريم، والصلاة والسلام على أفضل الأنام سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه الكرام، ومن حذا حذوهم إلى يوم القيام.
أما بعد: فلما استدبرت من تفسير الجزء الثاني والعشرين من القرآن الكريم.. استقبلت تفسير الجزء الثالث والعشرين منه، طالبًا منه سبحانه المعونة والسلامة، والتوفيق والهداية لأصوب الطريق، فيما أنا بصدده من تفسير كتابه، فهو المرجو في كل دعاء، ومنه حصول كل رجاء، فقلت: وقولي هذا:
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
{وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ
7
إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)}.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ...﴾ الآيات، تقدم أن قلنا غير ما مرة، أنّ تقسيم الكتاب الكريم إلى الأجزاء الثلاثين، لوحظ فيه العد اللفظي، لا الاتصال المعنوي، إذ كثيرًا ما تكون بداءة الجزء في أثناء القصة الواحدة، كما هنا، فإنه بعد أن بيّن حال الناصح الشهيد، ودخوله الجنة... أردف ذلك ذكر حال المتخلفين المخالفين له، ثم ذكر سنة الله في أمثالهم من العذاب الدنيوي، ثم هم يردون إلى ربهم فيعذبهم في الآخرة.
قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما بيّن أن العباد كلهم محضرون إليه يوم القيامة للحساب والجزاء على ما قدموا من عمل... أردف ذلك بما يدل على أن البعث ممكن وليس بمستحيل، وآية ذلك أن الأرض الميتة إذا نزل عليها المطر تحيا، وتنبت من كل زوج بهيج، ثم ذكر أنه كان يجب عليهم شكران هذه النعم بعبادة خالقها، وترك عبادة غيره مما لا يجديهم نفعًا، ولا يدفع عنهم ضرًا.
قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما استدل على إمكان البعث والنشور بأحوال
(١) المراغي.
8
الأرض وما يطرأ عليها من تغير، مما هو دليل القدرة الشاملة.. أردف ذلك بذكر أحوال الأزمنة من اختلاف الليل والنهار، وجريان الشمس والقمر، والأجرام السماوية، وهي مخلوقات عظيمة تحت قبضته يتصرف فيها بعظيم سلطانه.
قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر على سبيل المنّة على عباده أنه أحيا الأرض، وهي مكان الحيوان.. أردف ذلك بذكر نعمة أخرى على الإنسان، وهي أنه جعل له طريقا يتخذه في البحر، ويسير فيه كما يسير في البر، جلبا لأرزاقه وتحصيلًا لأقواته من أقاصي البلاد في أنحاء المعمورة.
قوله تعالى: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر أنهم أعرضوا عن النظر في الآيات التي يشاهدونها في الآفاق.. أردف ذلك بذكر إعراضهم عن الآيات المنزّلة من عند ربهم، مما فيه تحذيرهم، بأن يحل بهم من المثلات مثل ما حل بمن قبلهم، ثم أعقبه بذمهم على ترك الشفقة على خلق الله تعالى، إذ قيل لهم: أنفقوا فلم يفعلوا.
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمرهم بتقوى الله، وخوّفهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات.. أعقب هذا بذكر إنكارهم ليوم البعث، واستعجالهم له، استهزاء به وسخرية منه، ثم أتبعه ببيان أنه حق لا شك فيه، وأنه سيأتيهم بغتة من حيث لا يشعرون، وإذ ذاك يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي، ثم ينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور، حين يرون العذاب، ويقولون: من أخرجنا من قبورها، فيجابون: بأن ربكم هو الذي قدر هذا، ووعدكم به على ألسنة رسله، وسيوفي كل عامل جزاء عمله.
التفسير وأوجه القراءة
٢٨ - فلما قتل حبيب النجار، غضب الله عز وجل له، فعجّل لهم العقوبة، فأمر
جبرائيل عليه السلام، فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم، فذلك قوله تعالى: ﴿وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ﴾؛ أي: على قوم حبيب النجار، وهم أهل أنطاكية. ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: من بعد قتلهم له، أو من بعد رفع الله له إلى السموات على الاختلاف السابق. ﴿مِنْ جُنْدٍ﴾ وعسكر ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ ولم نرسل عليهم جندًا من الأرض، لإهلاكهم وللانتقام منهم؛ أي: لم نحتج إلى إرسال جنود من السماء لإهلاكهم، كما وقع ذلك للنبي - ﷺ - يوم بدر، من إرسال الملائكة لنصرته وحرب أعدائه، بل كفينا أمرهم بصيحة ملك. ﴿وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾؛ أي: وما صح واستقام في قضائنا وحكمتنا أن ننزل لإهلاك قومه جندًا من السماء، لسبق قضائنا وقدرنا، بأن إهلاكهم بالصيحة لا بإنزال الجند، فإنا جعلنا لكل شيء سببا يخصه، حيث أهلكنا بعض الأمم بالحاصب، وبعضهم بالصيحة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالإغراق، وجعلنا إنزال الجند من السماء من خصائصك في الانتصار من قومك.
وفي الآية: استحقار لأهل أنطاكية ولإهلاكهم، حيث اكتفى في استئصالهم بما يتوسل به إلى زجر، نحو الطيور والوحوش، من صيحة عبد واحد مأمور، وإيماء إلى تفخيم شأن الرسول - ﷺ -؛ لأنه إذا كان أدنى صيحة ملك واحد، كافيًا في إهلاك جماعة كثيرة، ظهر أن إنزال الجنود من السماء يوم بدر والخندق لم يكن إلا تعظيمًا لشأنه، وإجلالًا لقدره، لا لاحتياج الملائكة إلى المظاهرة والمعاونة.
فإن قيل: كما لم ينزل عليهم جندًا من السماء، لم يرسل إليهم جندًا من الأرض أيضًا، فما فائدة قوله: ﴿مِنَ السَّماءِ﴾؟
فالجواب: أنه ليس للاحتراز، بل لبيان أن النازل عليهم من السماء لم يكن إلا صيحةً واحدة أهلكتهم بأسرهم؛ أي: ليسوا بأحقّاء بأن ننزل لإهلاكهم جندًا من السماء،
٢٩ - بل أهلكناهم بصيحة واحدة، كما يفيده قوله: ﴿إِنْ كانَتْ﴾؛ أي: ما كانت الأخذة أو العقوبة على أهل أنطاكية ﴿إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً﴾ صاح بها جبرائيل، فأهلكهم قال المفسرون: أخذ جبرائيل بعضادتي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحة، فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حسّ، كالنار إذا انطفأت، وهو معنى قوله:
10
﴿فَإِذا﴾ هم؛ أي: أهل أنطاكية ﴿خامِدُونَ﴾ أي: قوم خامدون؛ أي: ميتون لا يسمع لهم حسّ، ولا يشاهد لهم حركة، شبّهوا بالنار الخامدة رمزًا إلى أن الحي كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب، والميت كالرماد، يقال: خمدت النار إذا سكن لهبها ولم ينطفىء جمرها، وهمدت إذا طفىء جمرها قال في «الكواشي»: لم يقل: هامدون وإن كان أبلغ لبقاء أجسادهم بعد هلاكهم. و ﴿إذا﴾ فجائية (١)؛ أي: فاجأهم الخمود إثر الصيحة، لم يتأخر ووقعت (٢) الصيحة في اليوم الثالث من قتل حبيب والرسل، أو في اليوم الذي قتلوهم فيه. وفي رواية، في الساعة التي عادوا فيها بعد قتلهم إلى منازلهم فرحين مستبشرين، وإنما عجّل الله عقوبتهم، غضبا لأوليائه الشهداء، ولم يذكر لنا الكتاب الكريم، كيف كانت الصيحة، ولا كيف نزل بهم العذاب. وتفصيل ذلك لا يعنينا، فالعبرة تحصل بدون بيانه، إذ المراد: انتقام الله وعذابه لمن كذب أولياءه على أي نحو كان ذلك العذاب. نسأل الله سبحانه أن يحفظنا من موجبات غضبه وسخطه وعذابه.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿صَيْحَةً﴾ بالنصب، على أن ﴿كان﴾ ناقصة، واسمها ضمير يعود إلى ما يفهم من السياق، كما قدمنا. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والأعرج ومعاذ القارىء ﴿صيحةٌ﴾ بالرفع على أنّ ﴿كان﴾ تامة؛ أي: ما حدثت أو ما وقعت إلا صيحة واحدة. وكان الأصل أن لا يلحق التاء؛ لأنه إذا كان الفعل مسندا إلى ما بعد إلا من المؤنث لم تلحق العلامة للتأنيث، فيقال: ما قام إلا هند، ولا يجوز (ما قامت إلا هند) عند أصحابنا إلا في الشعر. وجوّزه بعضهم في الكلام على قلّة، ومثله قراءة الحسن، ومالك بن دينار، وأبي رجاء، والجحدري، وقتادة، وأبي حيوة، وابن أبي عبلة، وأبي بحرية ﴿لا ترى إلا مساكنهم﴾ بالتاء. والقراءة المشهورة ﴿لا يرى﴾ بالياء، فأنكر أبو حاتم، وكثير من النحويين هذه القراءة، أعني: قراءة الرفع، بسبب لحوق تاء التأنيث في قوله: ﴿إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً﴾. قال أبو حاتم: فلو كان كما قرأ أبو جعفر.. لقال: إن
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط والشوكاني.
11
كان إلا صيحة. وقدّر الزجاج هذه القراءة بقوله: إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة، وقدّرها غيره: ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة، وقرأ عبد الله بن مسعود: إن كانت إلا زقية واحدة. والزقية: الصيحة. قال النحاس: وهذا مخالف للمصحف.
٣٠ - ﴿يا حَسْرَةً﴾ يا ندامة ﴿عَلَى الْعِبادِ﴾ المصرين على العناد تعالي، فهذا أوانك ووقت ظهورك، فهذه من الأحوال التي حقّها أن تحضري فيها، وهي ما دل عليه قوله تعالى: ﴿ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾، فإن المستهزئين بالناصحين الذين نيطت بنصائحهم سعادة الدارين، أحقاء بأن يتحسروا ويتحسّر عليهم المتحسرون، وقد تلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين. والمراد (١) بالعباد هنا: مكذبو الرسل؛ أي: يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة، إذا عاينوا العذاب على تكذيبهم رسل الله ومخالفة أوامره.
ثم بيّن سبب الحسرة والندامة، فقال: ﴿ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ...﴾ الخ؛ أي: ما جاءهم رسول إلا استهزؤوا به، وكذبوه، وجحدوا ما أرسل به من الحق.
والخلاصة: أن المستهزئين بالناصحين المخلصين، المنوط بنصحهم خير الدارين، جديرون أن يتحسروا على أنفسهم، إذ فوّتوا عليها السعادة الأبدية، وعرّضوها لعذاب مقيم، وكأنه قيل: يا حسرة احضري فهذه شدة لا سبيل للخلاص منها.
وقرأ الجمهور (٢): بنصب ﴿حَسْرَةً﴾ على كونها مشابهة بالمنادى المضاف في طولها، بما تعلق بها من الجار والمجرور، فكأنه نادى الحسرة وقال لها: هذا أوانك فاحضري، وقيل: إنها منصوبة على المصدرية، والمنادى محذوف والتقدير: يا هؤلاء تحسروا حسرة على العباد المكذبين للرسل حين جاؤوهم فاستهزؤوهم، وقرأ أبي، وابن عباس، وعلي بن الحسين، والضحاك، ومجاهد
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط والشوكاني بتصرف.
والحسن ﴿يا حسرة العباد﴾ بالإضافة إما إلى الفاعل أو إلى المفعول، فيجوز أن تكون الحسرة منهم على ما فاتهم، ويجوز أن تكون الحسرة من غيرهم عليهم، لما فاتهم من اتباع الرسل حين أحضروا للعذاب، وطباع البشر تتأثر عند معاينة عذاب غيرهم، وتتحسر عليهم أو من الملائكة، وقرأ أبو الزناد، وابن هرمز، ومسلم بن جندب، وعكرمة ﴿يا حسره على العباد﴾ بسكون الهاء إجراء للوصل مجرى الوقف، وقال ابن خالويه: ﴿يا حسرةَ على العباد﴾ بغير تنوين، قاله ابن عباس، اهـ. ووجهه: أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف التي هي بدل من ياء المتكلم في النداء، كما اجتزأ بالكسرة على الياء فيه، وقد قرىء ﴿يا حسرتا﴾ بالألف؛ أي: يا حسرتي، ويكون من الله على طريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه على أنفسهم، شبّه استعظام الله سبحانه لجنايتهم على أنفسهم، بتحسر الإنسان على غيره، لأجل ما فاته من الدولة العظمى، من حيث أن ذلك التحسر يستلزم استعظام ما أصاب ذلك الغير، والإنكار على ارتكابه، والوقوع فيه.
وجملة قوله: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ...﴾ إلخ، مستأنفة مسوقة لبيان ما كانوا عليه من تكذيب الرسل والاستهزاء بهم، وأن ذلك هو
سبب التحسر عليهم، وفي «بحر العلوم»: قوله: ﴿ما يَأْتِيهِمْ﴾ إلخ، حكاية حال ماضية مستمرة؛ أي: كانوا في الدنيا على الاستمرار يستهزئون بمن يأتيهم من الرسول من غاية الكبر، ويستحقرون، ويستنكفون عن قبول دينه ودعوته، وفيه تسلية لرسول الله - ﷺ - عن استهزاء قومه له.
٣١ - ولما بيّن حال الأولين نبه الحاضرين، فقال: ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ وعيد للمشركين في مكة بمثل عذاب الأمم الماضية، ليعتبروا ويرجعوا عن الشرك. والاستفهام للتقرير؛ أي: قد رأوا كثرة إهلاكنا، وكم في قوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ خبرية؛ أي: ألم يعلم أهل مكة كثرة إهلاكنا من قبلهم، من المذكورين آنفًا، ومن غيرهم بشؤم تكذيبهم. وقوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ معلّق عن العمل فيما بعده؛ لأن ﴿كَمْ﴾ لا يعمل فيها ما قبلها، خبرية كانت كما هنا، أو استفهامية، خلا أن معناه نافذ في الجملة، كما نفذ في قولك: ألم تر إن زيدا لمنطلق. وإن لم يعمل
13
في لفظه، فالجملة منصوبة المحل بـ ﴿يَرَوْا﴾.
وقوله: ﴿أَنَّهُمْ﴾؛ أي: المهلكين من القرون ﴿إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: إلى أهل مكة ﴿لا يَرْجِعُونَ﴾ بدل من ﴿أَهْلَكْنا﴾ على المعنى؛ أي (١): ألم يعلموا كثرة إهلاكنا القرون الماضية والأمم السالفة كونهم؛ أي: الهالكين غير راجعين إليهم؛ أي: إلى هؤلاء المشركين؛ أي: أهلكوا إهلاكًا لا رجوع لهم من بعده في الدنيا؛ أي: أفلا يعتبرون، ولم لا ينتبهون، فكما أنهم مضوا وانقرضوا إلى حيث لم يعودوا إلى ما كانوا، فكذلك هؤلاء سيهلكون وينقرضون إثرهم ثم لا يعودون، وقال بعضهم: ألم يروا أن خروجهم من الدنيا، ليس كخروج أحدهم من منزله إلى السوق، أو إلى بلد آخر، ثم عودته إلى منزله عند إتمام مصلحته هناك، بل هو مفارق من الدنيا أبدًا، فكونهم غير راجعين إليهم عبارة عن هلاكهم بالكلية، ويجوز أن يكون المعنى: أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة؛ أي: أهلكناهم وقطعنا نسلهم، والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم، وقال أبو حيان: والذي تقتضيه صناعة العربية أن ﴿أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ معمول لمحذوف دل عليه السياق، تقديره: قضينا أو حكمنا أنهم إليهم لا يرجعون، ولا يصح إبداله مما قبله لفظًا ولا معنًى وقرأ ابن عباس، والحسن إنهم بكسر الهمزة على الاستئناف وقطع الجملة عما قبلها من جهة الإعراب، ودل ذلك على أن قراءة الفتح مقطوعة عن ما قبلها من جهة الإعراب، لتتفق القراءتان ولا تختلفان، وقرأ عبد الله ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا﴾، و ﴿أَنَّهُمْ﴾ على هذا بدل اشتمال مما قبله، اهـ «البحر».
والمعنى (٢): أي ألم يعتبروا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل: كعاد، وثمود. وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا، كما تعتقد الدهرية جهلًا منهم، بأنهم يعودون إليها كما كانوا، وهذه الآية ترد قول أهل الرجعة (٣)؛ أي: من يزعم
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
14
أن من الخلق من يرجع إلى الدنيا قبل القيامة بعد الموت، كما حكي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قيل له: إن قومًا يزعمون أن عليًا رضي الله عنه مبعوث قبل يوم القيامة، فقال ابن عباس: بئس القوم نحن، إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه؛ أي: لو كان راجعًا إلى الدنيا لكان حيًا، والحي لا تنكح نساؤه، ولا يقسم ميراثه، كما قال الفقهاء إذا بلغ إلى المرأة وفاة زوجها، فاعتدت وتزوجت وولدت، ثم جاء زوجها الأول فهي امرأته؛ لأنها كانت منكوحته، ولم يعترض شيء من أسباب الفرقة، فبقيت على النكاح السابق، ولكن لا يقربها حتى تنقضي عدتها من النكاح الثاني.
ويجب إكفار الروافض في قولهم: بأن عليًا وأصحابه يرجعون إلى الدنيا، فينتقمون من أعدائهم، ويملؤون الأرض قسطًا كما ملئت جورًا، وذلك القول مخالف للنص.
٣٢ - وبعد أن ذكر أنه أهلكهم وبيّن طريق ذلك، أعقب هذا بأن لهم حسابًا وعقابًا، فقال: ﴿وَإِنْ﴾ نافية أو مخففة ﴿كُلٌّ﴾ تنوينه عوض عن المضاف إليه ﴿لَمَّا﴾ بالتشديد بمعنى: إلا على القول: بأن ﴿إِنْ﴾: نافية، وبالتخفيف على أن اللام هي الفارقة، و ﴿ما﴾: زائدة على القول: بأن ﴿إِنْ﴾: مخففة من الثقيلة. ﴿جَمِيعٌ﴾ فعيل بمعنى مفعول، جمع بين كل وجميع؛ لأن الكل يفيد الإحاطة دون الاجتماع، والجميع يفيد أن المحشر يجمعهم، ولدينا بمعنى عندنا، ظرف لجميع أو لـ ﴿مُحْضَرُونَ﴾ والمعنى على التشديد: وما كل الخلائق إلا مجموعون لدينا، محضرون عندنا للحساب والجزاء، وعلى التخفيف. وإنه كل الخلائق لمجموعون عندنا، محضرون لدينا للحساب والجزاء.
وهذه الآية (١): بيان لرجوع الكل إلى المحشر، بعد بيان عدم الرجوع إلى الدنيا، وأن من مات ترك على حاله، ولو لم يكن بعد الموت بعث وجمع وحبس وعقاب وحساب، لكان الموت راحة للميت، ولكنه يبعث ويسأل، فيكرم
(١) روح البيان.
المؤمن، والمخلص، والصالح والعادل، ويهان الكافر، والمنافق، والمرائي والفاسق، والظالم. فيفرح من يفرح، ويتحسر من يتحسر، فللعباد موضع التحسر إن لم يتحسروا اليوم.
وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر (١): بتشديد ﴿لما﴾، وباقي السبعة بتخفيفها، فمن شددها كانت عنده بمعنى إلا، و ﴿إِنْ﴾ نافية، ومن خفف ﴿لما﴾ جعل ﴿إِنَّ﴾ مخففة من الثقيلة، واللام في ﴿لَمَّا﴾ فارقة، و ﴿ما﴾ زائدة.
فائدة: وقال (٢) أبو عبد الله الرازي في كون لما بمعنى: إلا معنى مناسب، وهو أن ﴿لَمَّا﴾ كأنها حرفا نفي جميعًا، وهما: لم وما، فتأكد النفي، وإلا كأنها حرفا نفي: «إن ولا»، فاستعمل أحدهما مكان الآخر، انتهى. والمعنى؛ أي: وإن جميع الأمم ماضيها، وحاضرها، وآتيها ستحضر يوم القيامة بين يدي الله، فيجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة له، وما أحسن قوله:
إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتٍ نَسْجُهُ مِن عَنْكَبُوتٍ
ولو أنّا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كُلِّ حَيِّ
وَلكنَّا إذَا مِتنا بُعثنا وَنُسأل بعدها عن كلِّ شَيِّ
ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ﴾.
والخلاصة: أن الناس يجمعون للحساب والجزاء، ويوفى كل عامل جزاء عمله من خير أو شر.
٣٣ - ثم ذكر سبحانه البرهان على التوحيد، والحشر مع تعداد النعم وتذكيرها، فقال: ﴿وَآيَةٌ﴾؛ أي: علامة عظيمة، ودلالة واضحة على البعث والجمع والإحضار، وهو خبر مقدم للاهتمام به، وقوله: ﴿لَهُمُ﴾؛ أي: لأهل مكة، إما متعلق بآية؛ لأنها بمعنى: العلامة أو بمضمر هو صفة لها، والمبتدأ قوله: ﴿الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾؛ أي: اليابسة الجامدة، قرأ أهل المدينة (٣): ﴿الميِّتة﴾ بالتشديد،
(١) البحر المحيط.
(٢) الفخر الرازي.
(٣) الشوكاني.
16
وخففها الباقون، وجملة قوله: ﴿أَحْيَيْناها﴾ مستأنفة مبينة لكيفية كون الأرض الميتة آية، كأن قائلًا قال: كيف تكون آية؟ فقال: أحييناها، والإحياء في الحقيقة: إعطاء الحياة، وهي صفة تقتضي الحس والحركة، والمعنى هاهنا: هيجنا القوى النامية فيها، وأحدثنا نضارتها بأنواع النباتات في وقت الربيع، بإنزل الماء من بحر الحياة، وكذلك النشور، فإنا نحيي الأبدان البالية المتلاشية في الأجداث، بإنزال رشحات من بحر الجود، فنعيدهم أحياء كما أبدعناهم أولًا من العدم.
وبدأ في تفصيل الآيات بالأرض (١)؛ لأنها مستقرهم حركةً، وسكونًا، حياةً وموتًا، فنبههم الله سبحانه بهذا، على إحياء الموتى، وذكرهم نعمه وكمال قدرته، فإنه سبحانه أحيا الأرض بالنبات، وأخرج منها الحبوب التي يأكلونها، ويتغذون بها. وهو معنى قوله: ﴿وَأَخْرَجْنا مِنْها﴾؛ أي: من الأرض ﴿حَبًّا﴾ وبزرًا. والحب هو الذي يطحن، والبزر الذي يعصر منه الدهن، وهو جمع حبة، والمراد: جنس الحبوب التي تصلح قواما للناس من الأرز، والذرة، والحنطة، والشعير، وغيرها. ﴿فَمِنْهُ﴾؛ أي: فمن ذلك الحب ﴿يَأْكُلُونَ﴾ تقديم (٢) الصلة ليس لحصر جنس المأكول في الحب، حتى يلزم أن لا يؤكل غيره، بل هو لحصر معظم المأكول فيه، ولبيان أنه أكثر ما يقوم به المعاش، فإن الحب معظم ما يؤكل، ويعاش به، ومنه صلاح الإنس حتى إذا قل قل.. الصلاح، وكثر الضر والصياح، وإذا فقد.. فقد النجاح بإخلال الأشباح ولأمر ما قال النبي - ﷺ -: «أكرموا الخبز فإن الله أكرمه، فمن أكرم الخبز أكرمه الله».
قال في شرعة الإسلام: ويكرم الخبز بأقصى ما يمكن، فإنه يعمل في كل لقمة يأكلها الإنسان من الخبز ثلاث مئة وستون صانعًا. أولهم: ميكائيل الذي يكيل الماء من خزانة الرحمة، ثم الملائكة التي تزجر السحاب والشمس والقمر والأفلاك، وملائكة الهواء، ودواب الأرض، وآخرهم الخباز. ومن إكرام الخبز: أن تلتقط الكسرة من الأرض، وإن قلت، فيأكلها تعظيما لنعمة الله تعالى. وفي الحديث: «من أكل ما يسقط من المائدة.. عاش في وسعة، وعوفي في ولده،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
17
وولد ولده، من الحمق». ويقال: إن التقاط الفتات مهور الحور العين، ولا يضع القصعة على الخبز، ولا غيرها، إلا ما يؤكل به من الإدام، ويكره مسح الأصابع والسكين بالخبز، إلا إذا أكله بعده، وكذا يكره وضع الخبز جنب القصعة لتستوي، وكذا يكره أكل وجه الخبز أو جوفه، ورمي باقيه لما في كل ذلك من الاستخفاف بالخبز، والاستخفاف بالخبز يورث الغلاء والقحط، كذا في شرح «النقاية والعوارف».
ومعنى الآية (١): أي ومن الأدلة على قدرتنا على البعث: إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها، بإنزالنا الماء عليها، فتهتز، وتربو، وتنبت نباتًا مختلفًا ألوانه وأشكاله، وتخرج حبًا هو قوت لكم ولأنعامكم، وبه قوام حياتكم.
٣٤ - ﴿وَجَعَلْنا فِيها﴾؛ أي: وخلقنا في الأرض ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين مملوءة ﴿مِنْ نَخِيلٍ﴾ جمع نخلة ﴿وَأَعْنابٍ﴾ جمع عنب؛ أي: من أنواع النخل والعنب، ولذلك جمعا دون الحب، فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف، ولا كذلك الدال على الأنواع. وخصهما بالذكر لأنهما أعلى الثمار، وأنفعها للعباد.
فإن قلت (٢): لم ذكر النخيل دون التمور حتى يطابق الحب والأعناب في كونها مأكولة، لأن التمور والحب والأعناب كلها مأكولة دون النخيل؟
قلت: ذكر النخيل لاختصاص شجرها بمزيد النفع، وآثار الصنع. وذلك لأنها أول شجرة استقرت على وجه الأرض، وهي عمتنا لأنها خلقت من فضل طينة آدم عليه السلام على ما قيل وهي تشبه الإنسان، من حيث استقامة قدها وطولها. وامتياز ذكرها من بين النبات، واختصاصها باللقاح، ورائحة طلعها كرائحة المني، ولطلعها غلاف كالمشيمة التي يكون الولد فيها، ولو قطعت رأسها ماتت كما قالوا: أقرب الجماد إلى النبات المرجان، لأنه ينبت في البحر كالنبات، ويكون له أغصان. وأقرب النبات إلى الحيوان النخل، لأنها تموت بقطع رأسها، ولا تثمر بدون اللقاح، كما ذكر. وأقرب الحيوان إلى الإنسان
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
18
الفرس، ويرى المنامات كبني آدم. ولو أصاب النخلة آفة هلكت، والجمار من النخلة كالمخ من الإنسان. وإذا تقارب ذكورها وإناثها حملت حملًا كثيرًا؛ لأنها تستأنس بالمجاورة.
ومن خواص النخلة: أن مضغ خوصها يقطع رائحة الثوم، وكذا رائحة الخمر. وأما العنب فقد جاء في بعض الكتب المنزلة «أتكفرون بي وأنا خالق العنب». وله خواص كثيرة، وكذا الزبيب. وروي: أنه أهدي إلى النبي - ﷺ - الزبيب، فقال: «بسم الله، كلوا نعم الطعام الزبيب يشد العصب، ويذهب الوصب، ويطفىء الغضب، ويرضي الرب ويطيب النكهة، ويذهب البلغم، ويصفي اللون». وماء الكرم الذي يتقاطر من قضبانها بعد كسحها ينفع للجرب شربا، ويسقى للمشغوف بالخمر بعد شربه الخمر، من غير علمه، فيبغض الخمر قطعًا.
وأول من استخرج الخمر جمشيد الملك، فإنه توجه مرة إلى الصيد فرأى في بعض الجبال كرمة، وعليها عنب، فظنها من السموم، فأمر بحملها حتى يجربها، ويطعم العنب لمن يستحق القتل، فتكسرت حباته فعصروها، وجعلوا ماءها في ظرف، فما عاد الملك إلى قصره إلا وقد تخمر العصير، فأحضر رجلًا وجب عليه القتل، فسقاه من ذلك، فشربه بكره ومشقة ونام نومة ثقيلة ثم انتبه، وقال: اسقوني منه فسقوه أيضًا مرارًا، فلم يحدث فيه إلا السرور والطرب، فسقوه غيره وغيره، فذكروا أنهم انبسطوا بعدما شربوه، ووجدوا سرورا وطربا، فشرب الملك فأعجبه، ثم أمر بغرسه في سائر البلاد. وكانت الخمر حلالًا في الأمم السالفة، فحرمها الله تعالى علينا، لأنها مفتاح لكل شر، وجالبة لكل سوء وضر، ومميتة للقلب، ومسخطة للرب.
وقد قيل: خير خلكم خل خمركم. وذلك لأن انقلاب الخمر إلى الخل مرضاة للرب. وفيه خواص كثيرة. وأكثر الناس السعال والتنحنح في مجلس معاوية، فأمر بشرب خل الخمر. والخل ورد فيه «نعم الإدام»، وقد تعيش به كثير من السلف الكرام، نسأل الله القناعة على الدوام.
19
﴿وَفَجَّرْنا﴾؛ أي: شققنا وأسلنا ﴿فِيها﴾؛ أي: في الأرض ﴿مِنَ الْعُيُونِ﴾؛ أي: بعضًا من ماء العيون. فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه أو ﴿مِنْ﴾ زائدة، و ﴿الْعُيُونِ﴾ مفعول به على رأي من جوز زيادتها في الإثبات. وهو الأخفش، ومن وافقه. وقرأ الجمهور ﴿فَجَّرْنا﴾: بالتشديد. وقرأ جناح بن حبيش بالتخفيف. والفجر، والتفجير كالفتح والتفتيح لفظًا ومعنى.
واعلم (١): أن تفجير الأنهار والعيون في البلاد، رحمة من الله تعالى، إذ حياة كل شيء من الماء، وللبساتين منه النضارة والنماء. والعيون إما جارية وإما غير جارية، والجارية غير الأنهار، إذ هي أكثر وأوسع من العيون، ومنبعها غير معلوم غالبا كالنيل المبارك، حيث لم يوجد رأسه. وغير الجارية هي الآبار.
٣٥ - واللام في قوله: ﴿لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ﴾ متعلق بـ ﴿جَعَلْنا﴾، وتأخيره عن تفجير العيون لأنه من مبادىء الأثمار، والضمير في ﴿مِنْ ثَمَرِهِ﴾ يعود إلى المذكور من الجنات والنخيل؛ أي: وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب، ورتبنا مبادىء إثمارها ليأكلوا من ثمر ما ذكر من الجنات والنخيل والأعناب، ويواظبوا على الشكر أداء لحقوقنا. ففيه إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة. وقيل: الضمير راجع إلى ماء العيون؛ لأن الثمر منه، قاله الجرجاني. وقيل: الضمير لله على طريقة الالتفات، والإضافة إليه، لأن الثمر بخلقه كما في «البيضاوي». وقرأ الجمهور (٢): ﴿ثَمَرِهِ﴾ بفتح الثاء والميم. وقرأ حمزة، والكسائي، وطلحة، وابن وثاب بضمهما. وقرأ الأعمش بضم الثاء، وإسكان الميم.
وقوله: ﴿وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ معطوف على ﴿ثَمَرِهِ﴾؛ أي: ليأكلوا من ثمره، ويأكلوا من الذي عملته أيديهم. وهو ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما، وكذلك ما غرسوه وحفروه على أن ما موصولة. وقيل: ﴿مَا﴾: نافية، والمعنى: والحال أنه لم تعمل ذلك الثمر، ولم تصنعه أيديهم؛ لأن الثمر وجد بخلق الله تعالى لا بفعلهم، ومحل الجملة حينئذ النصب على الحال. ويؤيد الأول
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
20
قراءة ﴿وما عملت﴾ بلا هاء، فإن حذف العائد من الصلة أحسن من الحذف من غيرها. والأيدي في قوله: ﴿أَيْدِيهِمْ﴾ كناية عن القوة، لأن أقوى جوارح الإنسان في العمل يده، فصار ذكر اليد غالبًا في الكناية، ومثله ﴿ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَما عَمِلَتْهُ﴾ بالضمير، فإن كانت ﴿مَا﴾ موصولة فالضمير عائد عليها، وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر. وقرأ طلحة، وعيسى وحمزة، والكسائي، وأبو بكر بغير ضمير. ومفعول ﴿عملت﴾ على كلا التقديرين محذوف. وجوز في هذه القراءة أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: وعمل أيديهم، وهو مصدر أريد به المعمول، فيعود إلى معنى الموصول.
والمعنى (٢): أي وأنشأنا في هذه الأرض التي أحييناها، بساتين من نخيل وأعناب، وجعلنا فيها أنهارًا سارحة، في أمكنة تنشر فيها، ليأكلوا من ثمر الجنات، ومما عملت أيديهم مما غرسوا وزرعوا.
ولما عدد سبحانه هذه النعم.. حض على الشكر، فقال: ﴿أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾؛ أي: أفلا يشكرون خالق هذه النعم، على ما تفضل به عليهم، من نعم لا تعد ولا تحصى. وهو إنكار واستقباح لعدم شكرهم النعم المعدودة. والهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير (٣): أيرون هذه النعم أو أيتنعمون بها فلا يشكرونها بالتوحيد والتقديس والتحميد، فيرجعون عن عبادة غير الله تعالى. وفي ذلك استدلال على وحدانية الله تعالى، وتعداد للنعم. فالأرض مكان لهم لا بد لهم منها، فهي نعمة، ثم إحياؤها بالنبات نعمة ثانية، فإنها تصير أنزه، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة، فإن قوتهم يصير في مكانهم، ثم جعل الجنان فيها نعمة رابعة؛ لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة. وكل ذلك مفيد إلى بيان إحياء الموتى. فيقول الله تعالى: كما فعلنا في موات الأرض كذلك نفعل في الأموات
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
21
في الأرض، فنحييهم ونعطيهم ما لا بد لهم منه في بقائهم من الأعضاء المحتاج إليها وقواها كالعين، والأذن وغير ذلك. ونزيد له ما هو زينة كالعقل الكامل والإدراك الشامل، فكأنه تعالى قال: نحيى الموتى إحياءً تامًا، كما أحييت الأرض إحياءً تامًا.
٣٦ - وجملة قوله: ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها﴾ مستأنفة، مسوقة لتنزيهه سبحانه عما وقع منهم، من ترك الشكر لنعمه المذكورة، والتعجب من إخلالهم بذلك. فالمعنى: تنزه بذاته عن كل ما لا يليق مما فعلوه، اه «أبو السعود». وفي «القرطبي»: ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها﴾ تنزه (١) نفسه سبحانه عن قول الكفار، إذ عبدوا غيره، مع ما رأوا من نعمه وآثار قدرته. وفيه تقدير معنى الأمر. والمعنى: سبحوا أيها العباد ربكم، الذي خلق وأوجد الأزواج، والأصناف، والأنواع كلها جميعا. ونزهوه عما لا يليق به من الإشراك، فإنه سبحانه انفرد بخلق هذه الأزواج، فأفردوه بالعبادة والطاعة، ولا تجعلوا له شريكًا مما لا يخلق، ولا ينفع، ولا يضر. وقيل: فيه معنى التعجب. والمعنى: عجبًا لهؤلاء الكفرة في كفرهم، وإعراضهم عن شكر الذي خلق الأزواج كلها، مع ما يشاهدونه من هذه الآيات. وفي الغالب من تعجب من شيء قال: سبحان الله. والأزواج: الأصناف والأنواع، فكل زوج صنف؛ لأنه مختلف في الألوان كألوان العنب، فمنه أبيض، وأسود، وأحمر وكذلك ألوان الرطب. وفي الطعوم: كالرمان، فمنه حامض، وحال، ومر. وفي «الأشكال»: كالمربع، والمدور، والمثلث، والطويل، والعريض. وفي الصغر والكبر. فمعنى ازدواجها: اختلافها فيما ذكر.
وقوله: ﴿مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ من نجم، وشجر، ومعدن بيان للأزواج، وكذا ما بعده بيان له. والمراد: كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها.
وخلق الأزواج ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: الذكور والإناث وخلق الأزواج {مِمَّا
(١) القرطبي.
22
لا يَعْلَمُونَ} من أصناف (١) خلقه في البر، والبحر، والسماء والأرض. ثم يجوز أن يكون ما يخلقه لا يعلمه البشر، ويعلمه الملائكة، ويجوز أن لا يعلمه مخلوق. ويقال: دواب البحر والبر، ألف صنف لا يعلم الناس أكثرها. فبين الأزواج بهذه الأمور الثلاثة، التي لا يخرج عنها شيء من أصناف المخلوقات، وغيره تعالى، لم يخلق شيئًا منها. وإنما ذكر (٢) الله تعالى كون الكل مخلوقًا، لينزه الله تعالى عن الشريك. فإن المخلوق لا يصلح شريكا للخالق، والتوحيد الحقيقي، لا يحصل إلا بالاعتراف بأن لا إله إلا الله، فلا تشركوا بالله شيئًا، مما تعلمون ومما لا تعلمون.
قال في «بحر العلوم»: ويجوز أن يكون معنى ﴿مِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾: مما لا يدركون كنهه مما خلق من الأشياء كالثواب والعقاب، كما قال - ﷺ -: «أربع لا تدرك غايتها: شرور النفس، وخداع إبليس، وثواب أهل الجنة، وعقاب أهل النار». ومنه الروح، فإنه ما بلغنا أن الله تعالى أطلع أحدًا على حقيقة الروح. وفي الآية (٣) إشارة إلى أنه ما من مخلوق إلا وقد خلق شفعًا، إذ الفردية من أخص أوصاف الربوبية، كما قال عبد العزيز المكي رحمه الله تعالى: خلق الأزواج كلها، ليستدل بذلك، إلى أن خالق الأشياء منزه عن الزوج، وإلى أن في كل شيء دليلا على وجوده تعالى، ووحدته، وكمال قدرته. قال أبو العتاهية:
فيا عجبًا كيف يعصي الإله أم كيف يجحده الجَاحِدُ
ولله فِي كُلٍّ تحريكةٍ وتسكينة أبدًا شَاهِدُ
وَفيْ كُلٍّ شَيْءٍ لهُ آيةٌ تدلُّ على أَنِّهُ وَاحِدُ
ومعنى الآية (٤): أي تنزيهًا لمن خلق هذه الأنواع كلها من الزرع والثمار ومختلف النبات، وخلق من أولادهم ذكورًا وإناثًا، وخلق مما لا يعلمون من الأشياء، التي لم يطلعهم عليها، ولم يجعل لهم طريقًا إلى معرفتها تفصيلًا، بل
(١) القرطبي.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
23
علمهم ذلك بطريق الإجمال بنحو قوله: ﴿وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾، ليستدلوا بذلك على عظمة الخالق، وسعة ملكه، وجلالة قدره.
والخلاصة: تنزه ربنا خالق هذا الخلق العظيم، من نبات وحيوان وإنسان، وخالق، ما لا نعلم مما لا ندرك كنهه ولا نعلم حقيقته عن كل نقص لا يليق بجليل عظمته. وفيه الدليل على عظيم قدرته، وواسع ملكه.
٣٧ - ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ﴾؛ أي: علامة عظيمة لأهل مكة على كمال قدرتنا. وهو مبتدأ، خبره قوله: ﴿اللَّيْلُ﴾ المظلم، كأنه قيل: كيف كان آية؟ فقيل: ﴿نَسْلَخُ﴾ ونزيل، وننزع، ونكشط ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من الليل ﴿النَّهارَ﴾ المضيء؛ أي: نزيل ضوء النهار ونكشفه عن مكان الليل، ونلقي ظله بحيث لا يبقي معه شيء من ضوئه، الذي هو شعاع الشمس في الهواء. مستعار من السلخ، وهي إزالة ما بين الحيوان وجلده من الاتصال، وإن غلب في الاستعمال تعليقه بالجلد، يقال: سلخت الإهاب بمعنى أخرجتها عنه. قال المرزوقي: دلت الآية على أن الليل قبل النهار؛ لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ، كما أن المعطي قبل العطاء.
﴿فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾؛ أي: داخلون في الظلام مفاجأة، فإن ﴿إذا﴾ للمفاجأة؛ أي: ليس لهم بعد ذلك أمر سوى الدخول فيه. وفيه رمز إلى أن الأصل هو الظلمة، والنور عارض متداخل في الهواء، فإذا خرج منه أظلم. فعلى هذا المعنى، كان الواقع عقيب إذهاب الضوء عن مواضع ظلمة الليل هو ظهور الظلمة، كما كان الواقع عقيب سلخ الإهاب هو ظهور المسلوخ. وأما على معنى الإخراج فالواقع بعده هو الإبصار دون الإظلام، والمقام حينئذ مقام أن يقال: فإذا هم مبصرون، لكن لما كان الليل زمان ترح وألم وعدم إبصار، والنهار وقت فرح وسرور وإبصار، جعل الليل كأنه يفاجئهم عقيب إخراج النهار من الليل بلا مهلة، إذ زمان السرور ليس فيه مهلة حكمًا، وإن كان ممتدًا، بخلاف زمان الغم، فإنه كان فيه المهلة، وإن كان قصيرًا، كما قيل: سنة الوصل سنة، وسنة الهجر سنة. ولبعضهم:
وقال آخر:
ويوم لا أراك كألفِ شهرِ وشهرٌ لا أراك كألفِ عامِ
محنُ الزَّمان كثيرةٌ لا تنقضيْ وسرورهُ يأْتيك كالأَعياد
ومعنى الآية: أي ومن آيات قدرته تعالى الدالة على إمكان البعث والحشر والنشر، وعلى قدرته على فعل كل ما يشاء: الليل ينزع عنه النهار، فتأتي الظلمة، ويذهب النهار. فإذا الخلق قد صاروا في ظلمة بمجيء الليل، الذي كان الضياء ساترًا له. وفي الضياء سرور، ولذة، وراحة للنفس، وسعي على الرزق. وفي زواله وحشة، وانقباض تشعر بألمه النفوس، كما أن فيه تركًا للعمل الذي به قوام الحياة. ومن ثم جعل الآية ظهور الليل، ولم يجعلها مجيء النهار، والآية تحصل بكل منهما.
والخلاصة: أن تعاقب الليل والنهار على ظهر البسيطة، من أكبر الأدلة على قدرة المولى سبحانه، وفيه عبرة لمن يعي ويفهم. وإن البعث والنشور من أيسر الأمور عليه سبحانه.
٣٨ - وقوله: ﴿وَالشَّمْسُ﴾ معطوف على الليل؛ أي: وآية لهم الشمس المضيئة المشرقة على صحائف الكائنات، كأنه قيل: كيف كانت آية؟ فقيل: هي تجري أو حال كونها جارية، وسائرة إلى مستقر لها. ويجوز أن تكون الواو ابتدائية، ﴿وَالشَّمْسُ﴾ مبتدأ، وما بعدها الخبر، ويكون الكلام مستأنفًا مشتملًا على ذكر آية مستقلة. وقوله: لمستقر لها فيه وجوه:
الأول: أن الكلام في ﴿لِمُسْتَقَرٍّ﴾ للتعليل، والمستقر: اسم مكان؛ أي: تجري لبلوغ مستقر وحد معين، ينتهي إليه دورها في آخر السنة. فشبه بمستقر المسافر إذا قطع سيره.
والثاني: أن اللام بمعنى إلى، والمستقر كبد السماء؛ أي: وسطها، والمعنى: تجري إلى أن تبلغ إلى وسط السماء، وتستقر فيه. شُبه بطء حركتها فيه بالوقفة والاستقرار، وإلا فلا استقرار لها حقيقةً. كما قال في «المفردات» الزوال يقال في شيء قد كان ثابتًا، ومعلوم أن لا ثبات للشمس، فكيف يقال
25
زوال الشمس؟ فالجواب: قالوه لاعتقادهم في الظهيرة، أن لها ثباتًا في كبد السماء.
والثالث: أن اللام لام العاقبة، والمستقر مصدر ميمي؛ أي: تجري بحيث يترتب على جريها استقرارها في كل برج من البروج الاثني عشرة، على نهج مخصوص، بأن تستقر في كل برج شهرا، ويأخذ الليل من النهار في نصف الحول، والنهار من الليل في النصف الآخر منه، وتبلغ نهاية ارتفاعها في الصيف، ونهاية انحطاطها في الشتاء. ويترتب عليه اختلاف الفصول الأربعة، وتهيئة أسباب معاش الأرضيات، وتربيتها.
والرابع: لمنتهى مقدر لكل يوم من المشارق والمغارب، فإن لها في دورها ثلاث مئة وستين مشرقًا ومغربًا، تطلع كل يوم من مطلع، وتغرب من مغرب، ثم لا تعود إليها إلى العام القابل. فالمستقر اسم زمان؛ أي: تجري إلى زمان استقرارها، وانقطاع حركتها عند خراب العالم، أو إلى وقت قرارها وتغير حالها بالطلوع من مغربها. وهذا القول هو الراجح، لما روى أبو ذر - رضي الله عنه - قال: دخلت المسجد ورسول الله - ﷺ - جالس، فلما غابت الشمس، قال النبي - ﷺ -: يا أبا ذر، أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: تذهب تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد، ولا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، ويقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها. فذلك قوله: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها﴾. والمعنى المفهوم من الحديث تنتهي في سيرها لمستقر لها، فتقف فيه ولا تنتقل عنه. ومستقرها هو مكان تحت العرش، تسجد فيه كل ليلة عند غروبها، فتستمر ساجدة فيه طول الليل، فعند طلوع النهار يؤذن لها في أن تطلع من مطلعها أولًا، فإذا كان آخر الزمان لا يؤذن لها في الطلوع من المشرق، بل يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من المغرب. وهذا هو الصحيح الواضح، اهـ «فتوحات».
قال إمام الحرمين، وغيره من الفضلاء: لا خلاف أن الشمس تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين، والليل يطول عند قوم ويقصر عند قوم آخرين. وعند
26
خط الاستواء يكون الليل والنهار مستويين أبدًا. والأرض مدورة مسيرة خمس مئة عام، كأنها نصف كرة مدورة، فيكون وسطها أرفع. وحول الأرض البحر الأعظم، المحيط فيه ماء غليظ منتن، لا تجري فيه المراكب، وحول هذا البحر جبل قاف، خلق من زمرد أخضر، والسماء مقببة عليه، ومنه خضرتها.
وقرىء (١): ﴿إلى مستقر لها﴾. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، وعطاء بن رباح، وزين العابدين، وابنه الباقر، والصادق بن الباقر، وابن أبي عبدة ﴿لا مستقرَّ لها﴾ نفيًا مبنيًا على الفتح، فيقتضي انتفاء كل مستقر. وذلك في الدنيا؛ أي: هي تجري دائمًا فيها لا تستقر. وقرأ ابن أبي عبلة ﴿لا مستقرٌّ لها﴾ برفع مستقر، وتنويه على إعمال ﴿لا﴾ عمل ﴿ليس﴾، نحو قول الشاعر:
تعز فلا شيء على الأرض باقيًا ولا وزر مما قضى الله واقيًا
﴿ذلِكَ﴾ الجري البديع، المنطوي على الحكم العجيبة التي تتحير في فهمها العقول والأفهام ﴿تَقْدِيرُ﴾ وتدبير ﴿الْعَزِيزِ﴾؛ أي: الغالب بقدرته على كل مقدور ﴿الْعَلِيمِ﴾؛ أي: المحيط علمه بكل معلوم، وتقدير الله الأشياء أن يجعلها على مقدار مخصوص، ووجه مخصوص حسبما اقتضته الحكمة البالغة.
وقيل معنى الآية: أي والشمس تجري حول مركز مدارها الثابت، الذي تسير حوله بحسب وضعها النجمي. فقد ثبت أن لها حركةً رحويةً حول هذا المركز، تقدر بمئتي ميل في الثانية الواحدة. وهذا الوضع العجيب من تقدير العزيز القاهر لعباده، القابض على زمام مخلوقاته، العليم بأحوالها، الذي لا تخفى عليه خافية من أمرها.
٣٩ - ﴿وَالْقَمَرَ﴾ بالنصب، بإضمار فعل يفسره قوله: ﴿قَدَّرْناهُ﴾ كما في زيدا ضربته، فهو من باب الاشتغال، يجوز فيه النصب والرفع. قرأ بالرفع نافع، وابن كثير، وأبو عمرو وابن محيصن، والحسن بخلاف عنه، والرفع يكون على الابتداء، وما بعده خبر. وقرأ الباقون: بالنصب على الاشتغال، والتقدير: وقدرنا
(١) البحر المحيط.
27
القمر قدرناه، والقمر مفعول أول لقدرنا. وقوله: ﴿مَنازِلَ﴾ مفعول ثان له، لأن ﴿قدرنا﴾ بمعنى: صيرنا، فيتعدى إلى مفعولين؛ أي: صيّرنا القمر وعيّنا له منازل، ومواضع من الأبراج ينزل فيها كل ليلة. ويجوز انتصاب ﴿مَنازِلَ﴾ على الظرفية، والكلام حينئذ على حذف مضاف؛ أي: وقدرنا سير القمر في منازل من الأبراج، أو على الحال؛ أي: وقدرنا سيره حال كونه ذا منازل ومواضع ينزل فيها.
وتلك المنازل معروفة عند العرب. وهي ثمان وعشرون، ينزل القمر كل ليلة، في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو، لا بتفاوت يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين. ثم يتقوس، ويدق، ويستتر ليلتين، إن كان الشهر ثلاثين أو ليلة، إن كان تسعًا وعشرين. وهذه (١) المنازل، هي مواقع النجوم، التي نسبت إليها العرب الأنواء، المستمطرة أربعة عشر منها شامية، وأربعة عشر منها يمانية. أولها: الشرطين، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرقة، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك وهو آخر الشامية. والغفر، والزبانان، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، والسعد الذابح، والسعد البلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، ومقدم الدلو، ومؤخر الدلو، والحوت وهو آخر اليمانية. وهذه المنازل مقسومة على الاثني عشر برجًا، كما استوفينا الكلام عليها في أوائل سورة يونس.
فإذا كان في آخر منازله دق، واصفر، واستقوس ﴿حَتَّى عادَ﴾ وصار في التقوس ﴿كَالْعُرْجُونِ﴾؛ أي: مثل العذق ﴿الْقَدِيمِ﴾؛ أي: العتيق الذي مر عليه حول. قال الزجاج: العرجون: هو عود العذق، الذي فيه الشماريخ اليابس المنحني، شبه به الهلال إذا انحنى وتقوس. والعذق بالكسر في النخل، بمنزلة العنقود في الكرم. وقال ابن الشيخ: حتى صار القمر في آخر الشهر وأول الشهر
(١) روح البيان.
28
الثاني في دقته، واستقواسه، واصفراره كالعرجون القديم. فالعرجون إذا قدم، وعتق.. دق وتقوس، واصفر. شبه به القمر في آخر الشهر في هذه الوجوه الثلاثة؛ أي: في عين الناظر، وإن كان في الحقيقة عظيمًا بنفسه. فالعرجون عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة. والشماريخ، جمع شمراخ أو شمروخ: ما عليه البسر من العيدان الصغار. والقديم: ما تقادم عهده بحكم العادة، ولا يشترط في إطلاق لفظ القديم عليه مدة بعينها، إذ يقال لبعض الأشياء: قديم وإن لم يمض عليه حول. وقيل: أقل هذا القديم الحول.
واعلم: أنه قد صح أن دور هذه الأمة، هو الدور القمري العربي، الذي حسابه مبني على الشهر تامًا كان أو ناقصًا، لا الدور الشمسي الذي هو مبني حسابه على الأيام فلا يكون ناقصًا. وقد صام - ﷺ - ثمانية أو تسعة رمضانات، خمس منها كانت تسعًا وعشرين يومًا، والباقي ثلاثين. وقد قال - ﷺ -: «شهرا عيد لا ينقصان»؛ أي: حكمهما إذا كانا تسعًا وعشرين، مثل حكمهما، إذا كانا ثلاثين في الفضل والثواب.
وقرأ الجمهور (١): ﴿العرجون﴾ بضم العين والجيم. وقرأ سليمان التيمي: بكسر العين وفتح الجيم. وهما لغتان. والمعنى؛ أي: وجعلنا لسير القمر منازل، وهي ثمانية وعشرون منزلة، ينزل في كل واحد منها ليلة واحدة، ثم يستتر ليلتين أو ليلة، إذا نقص الشهر، فإذا كان في آخر منازله دق وتقوس حتى صار كالعرجون القديم، والعذق العتيق الذي عليه الشماريخ.
٤٠ - ﴿لَا الشَّمْسُ﴾ مبتدأ، والخبر ما بعده؛ لأنه لا يجوز أن تعمل ﴿لَا﴾ في المعرفة ﴿يَنْبَغِي﴾ ويتيسر، ويمكن ﴿لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾؛ أي (٢): لا يصح، ولا يمكن، ولا يسهل للشمس أن تدرك القمر في سرعة سيره، وتنزل في المنزل الذي فيه القمر؛ لأن لكل واحد منهما سلطانا على انفراده، فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر، فيذهب سلطانه إلى أن يأذن الله سبحانه بالقيامة، فتطلع
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
29
الشمس من مغربها.
أو المعنى (١): لا يمكن للشمس أن تلحق القمر في سرعة سيره. فإن القمر أسرع سيرا، حيث يقطع فلكه ويدور في منازله الثماني والعشرين في شهر واحد، بخلاف الشمس فإنها أبطأ منه، حيث لا تقطع فلكها ولا تدور في تلك المنازل المقسومة على الاثني عشر برجا إلا في سنة. فيكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يومًا، فهي لا تدرك القمر في سرعة سيره، فإنه تعالى جعل سيرها أبطأ من سير القمر. وأسرع من سير زحل، وهو كوكب في السماء السابعة. وذلك لأن الشمس كاملة النور، فلو كانت بطيئة السير لدامت زمانًا كثيرًا في مسامتة شيء واحد فتحرقه، ولو كانت سريعة السير.. لما حصل لها لبث في بقعة واحدة، بقدر ما يخرج النبات من الأرض والأوراق والثمار من الأشجار، وبقدر ما ينضج الثمار والحبوب، ويجف. فلو أدركت القمر في سرعة سيره، لكان في شهر واحد صيف وشتاء، فيختل بذلك أحكام الفصول، وتكون النبات وتعيش الحيوان.
ويجوز أن يكون المعنى: ليس للشمس أن تدرك القمر في آثاره ومنافعه مع قوة نورها وإشراقها. فإن لكل واحد منهما آثارا ومنافع تخصه، وليس للآخر أن يدركه فيها كما قالوا: الثمرة تنضجها الشمس، ويلونها القمر، ويعطيها الطعم الكوكب. وقالوا: إن سهيلًا، وهو كوكب يمني يعطي الحجر اللون الأحمر، فيصير عقيقًا.
ويجوز أن يكون المعنى: ﴿أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾؛ أي: في مكانه. فإن القمر في السماء الدنيا، والشمس في السماء الرابعة؛ فهي لا تدركه في مكانه ولا يجتمعان في موضع واحد. قال النحاس: وأحسن ما قيل في معناه: وأبينه أن سير القمر سير سريع، والشمس لا تدركه في السير. وأما قوله: ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)﴾ فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع لخراب الدنيا. ويأتي في سورة القيامة، أن
(١) روح البيان.
30
جمعهما علامة لانقضاء الدنيا، وقيام الساعة.
والمعنى (١): أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر في سرعة سيره؛ لأن الشمس تجري في اليوم مقدار درجة، والقمر يسير في اليوم مقدار -
١٣ - ثلاث عشرة درجة، ولأن لكل منهما مدارًا خاصًا لا يجتمع مع الآخر فيه.
﴿وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ﴾؛ أي: ولا الليل سابق انقضاء النهار، فلا يأتي الليل في أثناء النهار، كأن يأتي وقت الظهر، ولكن يعاقبه ويناوبه ويجيء كل واحد منهما في وقته ولا يسبق صاحبه؛ أي: هما (٢) يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته. وقيل معناه: لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر، فلا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار، وله ضوء، فإذا اجتمعا وأدرك أحدهما صاحبه قامت القيامة. وقيل معناه: إن الشمس لا تجتمع مع القمر في فلك واحد، ولا يتصل ليل بليل، لا يكون بينهما نهار فاصل. وقرأ عمارة بن عقيل الخطفي: ﴿سابق﴾ بغير تنوين، ﴿النهار﴾ بالنصب، وحذف التنوين فيه لالتقاء الساكنين. وقيل (٣): المراد بالليل والنهار آيتاهما، وهما النيران، وبسبق الليل سبق القمر إلى سلطان الشمس في محو نورها. فيكون التركيب عكسًا للأول، فالمعنى: لا يصح للقمر أيضًا أن يطلع في وقت ظهور سلطان الشمس وضوئها، بحيث يغلب نورها ويصير الزمان كله ليلًا، بل هما يسيران الدهر على نظامهما، ولا يدخل أحدهما على الآخر، ولا يجتمعان إلا عند إبطال الله هذا التدبير، ونقض هذا التأليف، وتطلع الشمس من مغربها، ويجتمع معها القمر.
فإن قلت: إذا كان هذا التركيب عكس ما ذكر قبله كان المناسب أن يقال ولا الليل مدرك النهار.
قلت: إيراد السبق مكان الإدراك لأنه الملائم لسرعة سير القمر.
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
31
﴿وَكُلٌّ﴾ والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه، الذي هو الضمير العائد إلى الشمس والقمر؛ أي: وكلهم؛ أي: وكل من الشموس والأقمار. والجمع باعتبار التكاثر العارض لهما بتكاثر مطلعهما، فإنّ اختلاف الأحوال يوجب تعددا ما في الذات، أو العائد إلى الكوكب فإن ذكرهما مشعر بها. ﴿فِي فَلَكٍ﴾ مخصوص معين من الأفلاك السبعة. والفلك: مجرى الكواكب ومسيرها، وتسميته بذلك لكونه كالفلك؛ أي: فلك المغزل. وقال الشوكاني: والفلك: هو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة. والخلاف في كون السماء مبسوطة أو مستديرة معروف. والجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَسْبَحُونَ﴾؛ أي: كل من الشموس والأقمار أو كل من الكواكب السيارة يسيرون في فلك خاص به، وهو سماء الدنيا للقمر، والرابعة للشمس. والمعنى: يسيرون بانبساط وسهولة، لا مزاحم لهم سير السابح في سطح الماء. وجوز التعبير عنهم بضمير العقلاء، نسبة السباحة التي هي من أوصاف العقلاء إليهم.
فائدة: قال في «فتح الرحمن»: إن قلت: كيف نفى الله تعالى الإدراك للقمر عن الشمس، دون عكسه في قوله: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾؟
قلت: لأن سير القمر أسرع؛ لأنه يقطع فلكه في شهر، والشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، فكانت جديرةً بأن توصف بنفي الإدراك لبطء سيرها، والقمر خليقا بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره.
٤١ - ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعًا آخر مما امتن به على عباده من النعم، فقال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ﴾؛ أي: علامة عظيمة لأهل مكة، أو لكفار العرب أو للكفار على الإطلاق، الكائنين في عصر محمد عليه السلام، على كمال قدرتنا. وهو خبر مقدم لقوله: ﴿أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾؛ أي: أنا حملنا أولادهم الكبار الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم ﴿فِي الْفُلْكِ﴾؛ أي: في السفينة. وهو ههنا مفرد بدليل وصفه بقوله: ﴿الْمَشْحُونِ﴾؛ أي: المملوء منهم ومن غيرهم أو المعنى: حملنا صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم. وتخصيص الذرية بمعنى الضعفاء الذين يستصحبونهم في سفر البحر، مع أن تسخير البحر والفلك نعمة في حق أنفسهم أيضًا، لما أن
استقرارهم في السفن أشق، واستمساكهم فيها أعجب. وقيل: الضمير في ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ يرجع إلى القرون الماضية، والمعنى: أن الله حمل ذرية القرون الماضية في الفلك المشحون، فالضميران مختلفان. وقيل: الذرية: الآباء والأجداد، والفلك هو سفينة نوح، أي: إن الله حمل آباء هؤلاء وأجدادهم في سفينة نوح. وعبارة «الخازن» حمل آباءهم الأقدمين، في أصلاب الذين كانوا في السفينة، فكانوا ذرية لهم. وفي «فتح الرحمن»: إن قلت: الذرية اسم للأولاد، والمحمول في سفينة نوح آباء المذكورين، لا أولادهم.
قلت: الذرية من أسماء الأضداد عند كثير، تطلق على الآباء والأولاد، والمراد هنا: الفريقان، فمعناه: حملنا آباءهم وأولادهم؛ لأنهم كانوا في ظهور آبائهم المحمولين ظاهرًا، انتهى. قال الواحدي: والذرية تقع على الآباء كما تقع على الأولاد؛ لأنها من الذرء بمعنى الخلق، فيصلح الاسم للأصل والنسل. وقيل: الذرية: النطف الكائنة في بطون النساء وشبه البطون بالفلك المشحون. والراجح: القول الثاني ثم الأول ثم الثالث.
وقيل: إن الضمير في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ﴾ يرجع إلى العباد المذكور في قوله: ﴿يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ﴾؛ لأنه قال بعد ذلك: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾، وقال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ﴾، ثم قال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ فكأنه قال: وآية للعباد، أنا حملنا ذرية العباد، وهذا قول حسن؛ لأنه لا يلزم عليه اختلاف الضميرين.
٤٢ - ﴿وَخَلَقْنا لَهُمْ﴾؛ أي: وآية لهم أنا خلقنا لهم ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾؛ أي: مما يماثل الفلك، ويشابهه ﴿ما يَرْكَبُونَ﴾؛ أي: ما يركبونه. قال مجاهد، وقتادة، وجماعة من أهل التفسير: هي الإبل، خلقها لهم للركوب في البر، مثل السفن المركوبة في البحر، والعرب تسمي الإبل سفائن البر. وعلى هذا، فتعريف الفلك للجنس؛ لأن المقصود من الآية: الاحتجاج على أهل مكة، ببيان صحة البعث وإمكانه. استدل عليهم أولًا بإحياء الأرض الميتة، وجعلها سببا لتعيّشهم، ثم استدل عليهم بتسخير الرياح والبحار والسفن الجارية فيها، على وجهه، يتوسلون بها إلى تجارات البحر، ويستصحبون من يهمهم حمله من النساء والصبيان. كما قال
33
تعالى: ﴿وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ وقيل: تعريفه للعهد الخارجي، والمراد: فلك نوح عليه السلام، المذكور في قوله: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا﴾، فيكون المعنى: أنا حملنا ذريتهم؛ أي: أولادهم إلى يوم القيامة، في ذلك الفلك المشحون منهم، ومن سائر الحيوانات التي تعيش في الماء، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل ولا عقب. وخلقنا لهم من مثله؛ أي: مما يماثل ذلك الفلك في صورته وشكله من السفن والزوارق والبواخر، قاله الحسن، والضحاك، وأبو مالك. قال النحاس: وهذا أصح؛ لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس.
فإن قلت (١): فعلى هذا لم لم يقل: حملناهم وذريتهم مع أن أنفسهم محمولون أيضًا؟
قلت: إشارة إلى أن نعمة التخليص عامة لهم ولأولادهم إلى يوم القيامة. ولو قيل: حملناهم لكان امتنانا بمجرد تخليص أنفسهم من الغرق، وجعل السفن مخلوقة لله تعالى مع كونها من مصنوعات العباد، ليس لمجرد كونها صنعتهم بإقدار الله تعالى وإلهامه، بل لمزيد اختصاص أهلها بقدرته تعالى وحكمته، حسبما يعرب عنه قوله تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا﴾. والتعبير عن ملابستهم بهذه السفن بالركوب؛ لأنها باختيارهم، كما أن التعبير عن ملابسة ذريتهم، بفلك نوح، بالحمل، لكونها بغير شعور منهم واختيار. وأما قوله تعالى في سورة المؤمنين: ﴿وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)﴾ فبطريق التغليب.
وجعل بعضهم المعنى الثاني أظهر؛ لأنه إذا أريد بمثل الفلك: الإبل لكان قوله: ﴿وَخَلَقْنا لَهُمْ﴾ إلخ، فاصلًا بين متصلين، لأن قوله: ﴿وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ متصل بالفلك. واعتذر عنه في الإرشاد بأن حديث خلق الإبل في خلال الآية بطريق الاستطراد، لكمال التماثل بين الإبل والفلك، فكأنها نوع منه.
والمعنى: ومن آيات (٢) قدرته الدالة على رحمته بعباده، أن جعل أولادهم يركبون السفن الموقرة، بسائر السلع التي ينقلونها من بلد إلى آخر، ليستفيدوا مما
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
34
تحمله من الأقوات وسائر حوائجهم المعيشية، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل، ولا عقب من بعده.
ونحو الآية قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١)﴾.
﴿وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢)﴾؛ أي: وخلقنا من مثل تلك السفن البحرية، سفنا برية، وهي الإبل التي تسير في الصحاري، كما قال شاعرهم:
سَفائِنُ برٍّ والسَّرابُ بِحَارُهَا
ونحوها قطر السكك الحديدية، والسيارات والسفن الهوائية من مطاود، وطائرات تسير في الجو حاملة للناس السلع المختلفة. والذخائر الحربية، ومن جراء هذا لم يعين الكتاب الكريم، ما يركبون لما سيظهر في عالم الوجود، مما هو مخبأ في صحيفة الغيب. وهذا من إعجاز الكتاب الكريم. ونحو الآية: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨)﴾.
٤٣ - ثم ذكر لطفه بعباده حين ركوبهم تلك السفن، فقال: ﴿وَإِنْ نَشَأْ﴾ إغراقهم ﴿نُغْرِقْهُمْ﴾ في اليم مع ما حملناهم فيه من الفلك. وهذا من تمام الآية التي امتن بها عليهم. ووجه الامتنان أنه لم يغرقهم في لجج البحار مع قدرته على ذلك. والضمير (١) يرجع إما إلى أصحاب الذرية أو إلى الذرية أو إلى الجميع على اختلاف الأقوال. وتعليق الإغراق بمحض المشيئة. إشعار بأنه قد تكامل ما يوجب هلاكهم من معاصيهم، ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به. ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾؛ أي: فلا مغيث لهم يحرسهم من الغرق، ويدفعه عنهم قبل وقوعه ﴿وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ﴾؛ أي: ينجون منه بعد وقوعه، ولا يخلّصون. يقال: أنقذه واستنقذه إذا خلّصه من ورطة ومكروه
٤٤ - ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا﴾ استثناء مفرغ من أعم العلل الشاملة للباعث المتقدم، والغاية المتأخرة؛ أي: لا يغاثون، ولا ينقذون لشيء من الأشياء، إلا لرحمة عظيمة ناشئة من قبلنا داعية إلى الإغاثة والإنقاذ، كذا قال
(١) الشوكاني.
الكسائي، والزجاج، وغيرهما. وقيل: هو استثناء منقطع؛ أي: لكن يغاثون وينقذون لرحمة منا. وقيل: هو منصوب على المصدرية بفعل مقدر؛ أي: إلا أن يرحموا رحمة منا. ﴿و﴾ انتصاب ﴿مَتاعًا﴾ بالعطف على ﴿رَحْمَةً﴾؛ أي: لا يغاثون، ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة منا، وتمتيع منا لهم ﴿إِلى حِينٍ﴾؛ أي: إلى زمان قدر لآجالهم، أو إلا أن يرحمهم الله، ويمتعهم إلى انقضاء آجالهم.
وفي الآية رد على ما زعم الطبيعي، من أن السفينة تحمل بمقتضى الطبيعة، وأن المجوف لا يرسب الماء. فقال تعالى في رده: ليس الأمر كذلك، بل لو شاء الله تعالى إغراقهم، لأغرقهم، وليس ذلك بمقتضى الطبيعة، وإلا لما طرأ عليها آفة ورسوب.
وفيها الإشارة إلى أن المنعم عليه، ينبغي أن لا يأمن في حال النعمة عذاب الله تعالى. فإن كفار الأمم السالفة، أمنوا من بطشه تعالى، فأخذوا من حيث لا يشعرون، فكيف يأمن أهل مكة، وأهل السفينة؟! لكن لا يعرفون قدر النعمة إلا بعد تحولها عنهم. ولا قدر العافية إلا بعد الابتلاء بمصيبة، فلا بد من مقابلة النعمة بالشكر والعطاء بالطاعة والاجتهاد في طريق التوحيد والمعرفة. فإن المقصود من الإمهال هو تدارك الحال.
والمعنى: أي وإن نشأ إغراقهم في الماء مع ما حملته السفن والزوارق، فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق، وينجيهم من الموت، ولكن رحمة منا بهم وتمتيعا لهم إلى حين، بلذات الحياة الدنيا أبقيناهم، وحفظناهم من الغرق. وإلى هذا أشار بقوله: ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ (٤٤)﴾.
٤٥ - ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ﴾؛ أي: لكفار مكة بطريق الإنذار ﴿اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ﴾؛ أي: ما قبلكم من العقوبات النازلة على الأمم الماضية الذين كذبوا رسلهم، واحذروا من أن ينزل بكم مثلها، إن لم تؤمنوا. جعلت الوقائع الماضية باعتبار تقدمها عليهم، كأنها بين أيديهم. ﴿وَما خَلْفَكُمْ﴾؛ أي: وما بعدكم من العذاب المعد لكم في الآخرة بعد هلاكهم. جعلت أحوال الآخرة باعتبار أنها تكون بعد
هلاكهم كأنها خلفهم. أو المعنى: ﴿ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ﴾؛ أي: ما أمامكم من أمر الآخرة، فاعملوا لها، فإنهم مستقبلون لها ﴿وَما خَلْفَكُمْ﴾ من أمر الدنيا، فلا تغتروا بها، فإنهم تاركون لها. وقيل: ﴿ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ﴾؛ أي: ما مضى من الذنوب وَما خَلْفَكُمْ؛ أي: ما بقي منها. وقيل غير ذلك. وما قدمناه أولى؛ لأن الله تعالى خوّف الكفار بشيئين:
أحدهما: العقوبات النازلة على الأمم الماضية.
والثاني: عذاب الآخرة.
وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ إما حال من واو ﴿اتَّقُوا﴾؛ أي: اتقوا حالة كونكم راجين أن ترحموا، أو غاية لهم؛ أي: اتقوا كي ترحموا فتنجوا من ذلك، لما عرفتم أن مناط النجاة، ليس إلا رحمة الله. وجواب ﴿إِذا﴾ محذوف؛ أي: أعرضوا عن الموعظة، حسبما اعتادوه، وتمرنوا عليه، وزادوا مكابرة وعنادا، كما دلت عليه الآية الثانية، أعني: قوله: ﴿إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ﴾.
٤٦ - ﴿وَمَا﴾ نافية ﴿تَأْتِيهِمْ﴾ تنزل إليهم ﴿مِنْ﴾: مزيدة لتأكيد العموم ﴿آيَةٍ﴾ تنزيلية، كائنة ﴿مِنْ﴾ تبعيضية ﴿آياتِ رَبِّهِمْ﴾ التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بما فصل، من بدائع صنع الله، وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها، والإيمان بها ﴿إِلَّا كانُوا عَنْها﴾ متعلق بقوله: ﴿مُعْرِضِينَ﴾ والجملة حال من مفعول ﴿تأتي﴾، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ أي (١): وما تأتيهم آية من آيات ربهم، في حال من الأحوال، إلا حال إعراضهم عنها، على وجه التكذيب والاستهزاء. ويجوز أن يراد بالآيات: ما يعم الآيات التنزيلية والتكوينية، فالمراد بإتيانهم: ما يعم نزول الوحي، وظهور تلك الأمور لهم. والمعنى: ما يظهر لهم آية من الآيات الشاهدة بوحدانيته تعالى، وتفرده بالألوهية، إلا كانوا تاركين النظر الصحيح فيها، المؤدي إلى الإيمان به تعالى. فكل ما في الكون فهو مركز صفة من صفاته تعالى، وسر من أسرار ذاته.
(١) روح البيان.
ومعنى الآيتين (١): أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بما نزل الله من الآيات: احذروا ما مضى بين أيديكم من نقم الله، ومثلاته التي حلت بمن قبلكم من الأمم، وخافوا أن يحل بكم مثلها من جراء شرككم وتكذيبكم لرسوله، وما خلفكم؛ أي: وما بعد هلاككم مما أنتم قادمون عليه إن متم على كفركم الذي أنتم عليه، لعل ربكم يرحمكم ويغفر لكم ما اجترحتم من السيئات.. أعرضوا ونكصوا على أعقابهم مستكبرين. ثم بين أن الإعراض ديدنهم، وليس ببدع منهم، فقال: ﴿وَما تَأْتِيهِمْ..﴾ إلخ؛ أي: وما تجيء هؤلاء المشركين حجة من حجج الله، الدالة على توحيده وتصديق رسوله، إلا بادروا بتكذيبها، وأعرضوا عنها، وتركوا النظر الصحيح المؤدي إلى الإيمان به ومعرفة صدق رسوله.
الخلاصة: أنه ما ظهرت لهم آية من الآيات الناطقة، ببدائع صنع الله، وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها إلا أعرضوا عنها مكذبين مستهزئين، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في صدقها، والاستدلال بها على وحدانيته وصدق رسوله.
٤٧ - وبعد أن ذكر إعراضهم عن الخالق.. بيّن قسوتهم على المخلوقين، فقال: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾؛ أي: للكافرين بطريق النصيحة ﴿أَنْفِقُوا﴾ على المحتاجين ﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ تعالى؛ أي: بعض ما أعطاكم بطريق التفضل والإنعام من أنواع الأموال. فإن ذلك مما يرد البلاء، ويدفع المكاره؛ أي (٢): تصدقوا على الفقراء مما أعطاكم الله، وأنعم به عليكم من الأموال. قال الحسن: يعني: اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقال مقاتل: إن المؤمنين قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله سبحانه: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا﴾، فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله: ﴿قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالصانع تعالى. قيل: هم زنادقة، كانوا بمكة. والزنديق: من لا يعتقد إلهًا، ولا بعثًا، ولا حرمة شيء من الأشياء
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
38
﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ استهزاء بهم، وتهكمًا بهم، وبما كانوا عليه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى، حيث كانوا يقولون: لو شاء الله لأغنى فلانًا، ولو شاء الله لأعزه، ولو شاء الله لكان كذا وكذا. وإنما حمل على التهكم، لأن المعطلة ينكرون الصانع، فلا يكون جوابهم المذكور عن اعتقاد وجد. ﴿أَنُطْعِمُ﴾ من أموالنا حسبما تعظوننا؛ أي: لا نطعم، فإن الهمزة للإنكار. ﴿مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ﴾ سبحانه إطعامه ﴿أَطْعَمَهُ﴾؛ أي: رزقه على زعمكم. وقد كانوا سمعوا المسلمين يقولون: إن الرازق هو الله، وأنه يغني من يشاء ويفقر من يشاء، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمسلمين، وقالوا: نحن نوافق مشيئة الله، فلا نطعم من لم يطعمه الله. وهذا غلط منهم، ومكابرة، ومجادلة بالباطل. فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه، وأفقر بعضا، وأمر الغني أن يطعم الفقير، وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة. وقوله: ﴿مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ هو وإن كان كلاما صحيحا في نفسه، ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله أو إنكار جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله، كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلًا.
وقوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ﴾ أيها المؤمنون؛ أي: ما أنتم ﴿إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وخطأ بيّن واضح، ظاهر من تمام كلام الكفار. والمعنى: أنكم أيها المؤمنون في سؤال المال، وأمرنا بإطعام الفقراء، أو في اتباعكم محمدًا وترك ما نحن عليه، لفي ضلال وخطأ في غاية الوضوح والظهور. وقيل: هو مستأنف من كلام الله تعالى، جوابًا وردا لهذه المقالة، التي قالها الكفار. قال القشيري، والماوردي: إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة، وقد كان في كفار قريش وغيرهم، من سائر العرب قوم يتزندقون، فلا يؤمنون بالصانع، فقالوا هذه المقالة استهزاء بالمسلمين، ومناقضة لهم. وحكى نحو هذا القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والمعنى (١): أي وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج
(١) المراغي.
39
من المسلمين.. قالوا لمن طلب منهم ذلك: لو شاء الله لأغناهم، وأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم.
وفي قوله: ﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ ترغيب في الإنفاق على نهج قوله: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، وتنبيه إلى عظيم جرمهم في ترك الامتثال للأمر، وذم لهم على ترك الشفقة على عباد الله. وإجمال ذلك: أنهم لم يعظموا الخالق، ولم يشفقوا على المخلوق.
ثم ذكر أنهم على شحهم وبخلهم عابوا الأمر بالإنفاق، ووصفوه بالضلال البين الذي لا شبهة فيه، فقال: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: ما أنتم أيها المؤمنون في قيلكم لنا: أنفقوا مما رزقكم الله على مساكينكم إلا في جور بيّن، وبعد عن سبيل الرشاد لمن تأمل وتدبر.
وهذا معذرة البخلاء في كل عصر ومصر، إذ تراهم دائمًا يقولون: لا نعطي من حرمه الله. وتلك قربة منهم؛ لأن الله أغنى بعض الخلق وأفقر بعضًا ابتلاء منه لعباده، ولأسباب وحكمة نحن لا نعلمها؛ لا بخلًا منه وشحًا. وأمره الأغنياء بالإنفاق على الفقراء، ليس لحاجة منه إلى مالهم بل ليبلوهم، ويرى أيمتثلون الأمر ويؤدون الواجب، أم ينكصون على أعقابهم ويولون مدبرين.. وفي الحديث «لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم، ولو شاء لجعلكم فقراء لا غني فيكم، ولكنه ابتلى بعضكم ببعض لينظر كيف عطف الغني، وكيف صبر الفقير». وهذه الآية ناطقة بترك شفقتهم على خلق الله. وجملة التكاليف ترجع إلى أمرين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله. وهم قد تركوا الأمرين جميعا. وقد تمسك البخلاء الآن بما تمسكوا به حيث يقولون: لا نعطي من حرم الله، ولو شاء لأغناه. نعم لو كان هذا الكلام صادرا عن يقين وشهود وعيان لكان مفيدًا، بل توحيدًا محضًا يدور عليه كمال الإيمان، ولكنهم سلكوا طريق التقليد والإنكار والعناد ومن لم يهد الله فما له من هاد.
وكان لقمان يقول إذا مر بالأغنياء: يا أهل النعيم لا تنسوا النعيم الأكبر وإذا مر بالفقراء يقول: إياكم أن تغبنوا مرتين. وعن علي - رضي الله عنه - إن
40
المال حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام، قال الفضيل - رحمه الله -: من أراد عز الآخرة، فليكن مجلسه مع المساكين. نسأل الله تعالى فضله الكثير، ولطفه الوفير. فإنه مسبب الأسباب، ومنه فتح الباب.
٤٨ - ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: أهل مكة لرسول الله - ﷺ -، والمؤمنين إنكارًا واستبعادًا ﴿مَتى هذَا الْوَعْدُ﴾ بقيام الساعة والحساب والجزاء؛ أي: متى يقع هذا الموعود، الذي تعدوننا به من العذاب والقيامة، والمصير إلى الجنة أو النار. أقريب أم بعيد؟ أي: متى إنجاز هذا الوعد، وإلا فالوعد بالبعث كان واقعا لا منتظرا، أو أراد بالوعد الموعود. ومعنى طلب القرب في لفظة ﴿هذَا﴾ إما بطريق الاستهزاء والتهكم وإما باعتبار قرب العهد بالوعد. قال في «كشف الأسرار»: إنما ذكروا بلفظ الوعد الذي يكون في الخير غالبا، دون الوعيد، لأنهم زعموا أن لهم الحسنى عند الله، إن كان الوعد حقًا. يقول الفقير: هذا إنما يتمشى في المشركين دون المعطلة، وقد سبق أنهم زنادقة كانوا بمكة. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ فيما تعدوننا به وتقولونه، فبينوا لنا وقت وقوعه. وهذا (١) الاستعجال بهجوم الساعة، والاستبطاء لقيام القيامة إنما وقع تكذيبا للدعوة، وإنكارا للحشر والنشر؛ لأنهم قالوا ذلك استهزاءً منهم، وسخريةً بالمؤمنين، ولو كان تصديقًا وإقرارًا واستخلاصًا من هذا السجن، وشوقًا إلى الله تعالى، ولقائه.. لنفعهم جدًا، ولما قامت عليهم القيامة عند الموت، كما لا تقوم على المؤمنين، بل يكون الموت لهم عيدًا وسرورًا.
ومعنى الآية (٢): أي ويقولون استهزاءً وإنكارًا: متى يحصل هذا البعث، الذي تهددوننا به تارة تصريحًا، وأخرى تلويحًا، إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون. والخطاب لرسول الله - ﷺ - والمؤمنين، من قبل أنهم كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه، الآمرة بالإيمان به.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
٤٩ - فأجابهم ربهم بقوله: ﴿ما يَنْظُرُونَ﴾ والنظر هنا، بمعنى: الانتظار؛ أي: ما ينتظر كفار مكة ﴿إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً﴾ لا تحتاج إلى ثانية. هي النفخة الأولى، التي هي نفخة الصعق والموت، ينفخها إسرافيل في الصور. ﴿تَأْخُذُهُمْ﴾ مفاجأة، وتصل إلى جميع أهل الأرض والسموات. وجملة قوله: ﴿وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ في محل النصب على الحال من مفعول ﴿تَأْخُذُهُمْ﴾؛ أي: والحال أنهم يتخاصمون فيما بينهم، ويتنازعون في تجاراتهم ومعاملاتهم ويشتغلون بأمور دنياهم حتى تقوم الساعة وهم في غفلة عنها.
فإن قلت: هم (١) ما كانوا منتظرين، بل كانوا جازمين بعدم الساعة والصيحة؟
قلت: نعم إلا أنهم جعلوا منتظرين، نظرًا إلى ظاهر قولهم: متى يقع هذا الوعد؛ لأن من قال: متى يقع الشيء الفلاني، يفهم من كلامه أنه ينتظر وقوعه.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: تهيج الساعة والرجلان يتبايعان قد نشرا أثوابهما فلا يطويانها، والرجل يلوط حوضه فلا يسقي منه، والرجل قد انصرف بلبن لقحته فلا يطعمه، والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يأكلها. ثم تلا: ﴿تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾.
والمعنى: أي ما ينتظرون بحلول العذاب إلا نفخة واحدة في الصور، بها يموت أهل الأرض جميعا، تأخذهم بغتة وهم يتنازعون في أمور معايشهم، لا يخطر ببالهم مجيؤها. ونحو الآية قوله: ﴿أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾.
وقرأ أبي (٢): ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ على الأصل. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والأعرج، وشبل، وهشام، وابن فنطنطين بإدغام التاء في الصاد، ونقل حركتها إلى الخاء، وأبو عمرو أيضًا. وقالون بإخفاء فتحة الخاء وتشديد الصاد، وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصم الثلاثي، والمفعول محذوف؛
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
أي: يخصم بعضهم بعضًا، وباقي السبعة بكسر الخاء، وشد الصاد. وفرقة بكسر الياء اتباعًا لكسرة الخاء وشد الصاد.
فإن قلت: الصيحة المذكورة هنا مكررة مع الصيحة التي سبقت في قوله: ﴿إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)﴾.
قلت: لا تكرار؛ لأن السابقة هي صيحة جبرائيل، لا هلاك أهل أنطاكية مدينة الروم، والمذكورة هنا هي صيحة إسرافيل، حين ينفخ في الصور نفخة الصعق، النفخة الأولى.
٥٠ - ثم بين سبحانه سرعة حدوثها، وأنها كلمح البصر، أو هي أقرب فقال: ﴿فـ﴾ حينئذ ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ﴾؛ أي: لا يقدرون ﴿تَوْصِيَةً﴾؛ أي: إيصاء في شيء من أمورهم إذ كانت فيما بين أيديهم؛ أي: لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بماله وما عليه، أو لا يستطيع أن يوصيه بالتوبة والإقلاع عن المعاصي، بل يموتون في أسواقهم ومزارعهم ومواضعهم. قال ابن الشيخ (١): لا يستطيعون توصية ما، ولو كانت بكلمة يسيرة، فإذا لم يقدروا عليها يكونون أعجز عما يحتاجون فيه إلى زمان طويل، من أداء الواجبات، ورد المظالم، ونحوها؛ لأن القول أيسر من الفعل، فإذا عجزوا عن أيسر ما يكون من القول، تبين أن الساعة لا تمهلهم بشيء ما. واختار الوصية من جنس الكلمات، لكونها أهم بالنسبة إلى المحتضر، فالعاجز عنها يكون أعجز عن غيرها. ﴿وَلا إِلى أَهْلِهِمْ﴾ متعلق بقوله: ﴿يَرْجِعُونَ﴾؛ أي: لا يستطيعون توصية إلى أهليهم إن كانوا بين أهلهم، ولا يرجعون إلى أهلهم ومنازلهم إن كانوا في خارج أبوابهم، بل تبغتهم الصيحة، فيموتون حيث ما كانوا.
والمعنى (٢): أي فلا يستطيعون أن يوصوا في أموالهم أحدًا. إذ لا يمهلون بذلك، ولا يستطيع من كان منهم خارجًا من أهله أن يرجع إليهم، بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا، ويرجعون إلى ربهم. واعلم: أن الموت يدرك
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
الإنسان سريعًا، والإنسان لا يدرك كل الأماني. فعلى العبد أن يتدارك الحال بقصر الآمال. وقرأ ابن محيصن ﴿يرجعون﴾ بضم الياء وفتح الجيم.
ومن السنة (١): حسن الوصية عند الموت، وإن كان الذي يوصي عند الموت كالذي يقسم ماله عند التشبع. ومن مات بغير وصية، لم يؤذن له في الكلام في البرزخ إلى يوم القيامة، ويتزاور الأموات، ويتحدثون وهو ساكت فيقولون: إنه مات بغير وصية، فيوصي بثلث ماله. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: الضرار في الوصية من الكبائر، جعلنا الله وإياكم من المتداركين لحالهم، والمتفكرين في مآلهم، والمكثرين من صالح الأعمال، والمنتقلين من الدنيا إلى الآخرة على أحسن الأقوال.
٥١ - ثم بين أنهم بعد أن يموتوا ينفخ في الصور النفخة الثانية نفخة البعث من القبور، فقال: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾؛ أي: ينفخ في الصور. وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع. والنفخ: نفخ الريح في الشيء. وقرأ الجمهور ﴿الصور﴾ بإسكان الواو. وفيه وجهان:
أحدهما: أنه القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، وفيه بعدد كل روح ثقبة هي مقامه. والمعنى حينئذٍ: ونفخ في القرن نفخًا، هو سبب لحياة الموتى.
وثانيهما: أنه جمع صورة كصوف جمع صوفة، ويؤيد هذا الوجه قراءة الأعرج ﴿ونفخ في الصوَر﴾ بفتح الواو. فالمعنى عليه: ونفخ في الصور الأرواح، وذلك أيضًا بنفخ القرن.
والمراد: النفخة الثانية، التي يحيي الله بها كل ميت، لا النفخة الأولى التي يميت الله بها كل حي. وبينهما أربعون سنة، تبقى الأرض على حالها مستريحة بعدما مر بها من الأهوال العظام والزلازل، وتمطر سماؤها، وتجري مياهها، وتطعم أشجارها، ولا حي على ظهرها من المخلوقات، فإذا مضى بين النفختين أربعون عامًا، أمطر الله من تحت العرش ماءً غليظًا، كمني الرجال، يقال له: ماء
(١) روح البيان.
44
الحيوان، فتنبت أجسامهم كما ينبت البقل، وتأكل الأرض ابن آدم إلا عجب الذنب، فإنه يبقي مثل عين الجرادة، لا يدركه الطرف، فينشأ الخلق من ذلك، وتركب عليه أجزاؤه كالهباء في شعاع الشمس. فإذا تكاملت الأجساد، يحيي الله تعالى إسرافيل، فينفخ في الصور، فيطير كل روح إلى جسده، ثم ينشق عنه القبر.
﴿فَإِذا هُمْ﴾ بغتة من غير لبث؛ أي: الكفار، كما دل عليه ما بعد الآية ﴿مِنَ الْأَجْداثِ﴾؛ أي: من القبور. فإن قيل: أين يكون في ذلك الوقت الأجداث، وقد زلزلت الصيحة الجبال؟ أجيب: بأن الله تعالى، يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقبر فيه، فيخرج من ذلك الموضع. وهو جدثه. وقرأ الجمهور ﴿الْأَجْداثِ﴾ بالثاء المثلثة. وقرىء ﴿من الأجداف﴾ بالفاء بدل الثاء، وهما لغتان، واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة. ﴿إِلى رَبِّهِمْ﴾؛ أي: دعوة ربهم، ومالك أمرهم على الإطلاق. وهي دعوة إسرافيل للنشور، أو إلى موقف ربهم الذي أعد للحساب والجزاء. وقد صح أن بيت المقدس هي أرض المحشر والمنشر. وكل من الجارين متعلق بقوله: ﴿يَنْسِلُونَ﴾ كما دل عليه قوله: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعًا﴾؛ أي: يسرعون بطريق الإجبار دون الاختيار، لقوله تعالى: ﴿لَدَيْنا مُحْضَرُونَ﴾. وقرأ الجمهور: ﴿يَنْسِلُونَ﴾ بكسر السين، وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بخلاف عنه بضمها. وإذا المفاجأة بعد قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ إشارة إلى كمال قدرته تعالى، وإلى أن مراده لا يتخلف عن إرادته زمانًا، حيث حكم بأن النسلان وهو سرعة المشي، وشدة العدو يتحقق في وقت النفخ، لا يتخلف عنه مع أن النسلان لا يكون إلا بعد مراتب. وهي جمع الأجزاء المتفرقة، والعظام المتفتتة، وتركيبها، وإحياؤها وقيام الحي ثم نسلانه.
فإن قلت: قال تعالى في آية أخرى: ﴿فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ﴾، وقال هاهنا: ﴿فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ والقيام غير النسلان، وقد صدر كل واحد منهما في موضعه بـ ﴿إذا﴾ الفجائية، فيلزم أن يكونا معًا؟
والجواب من وجهين:
45
الأول: أن القيام لا ينافي المشي السريع، لأن الماشي قائم، ولا ينافي النظر أيضًا.
والثاني: أن الأمور المتعاقبة التي لا يتخلل بينها زمان ومهلة تجعل كأنها واقعة في زمان واحد، كما إذا قيل: مقبل مدبر.
والمعنى: أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث، والنشور، والخروج. فإذا هم جميعًا يسرعون للقاء ربهم للحساب والجزاء. ونحو الآية قوله: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعًا كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣)﴾.
٥٢ - ثم ذكر، أنهم يعجبون حين يرون أنفسهم قد خرجوا من قبورهم للبعث، كما حكي عنهم بقوله: ﴿قالُوا﴾؛ أي: الكفار في ابتداء بعثهم من القبور، منادين لويلهم، وهلاكهم من شدة ما غشيهم من أمر القيامة ﴿يا وَيْلَنا﴾ ويا هلاكنا، احضر إلينا لنتعجب منك، فهذا أوانك ووقت مجيئك. فويل: منادى مضاف إلى ضمير المتكلمين، وهو كلمة عذاب وبلاء، كما أن كلمة ويح كلمة رحمة. ويحتمل كون المنادى محذوفا؛ أي: قالوا: يا قومنا انظروا هلاكنا وتعجبوا منه. قال ابن الأنباري. الوقف على ﴿يا وَيْلَنا﴾ وقف حسن. ثم يبتدىء الكلام بقوله: ﴿مَنْ﴾ استفهام استخباري وتعجب ﴿بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا﴾ كان حفص يقف على ﴿مَرْقَدِنا﴾ وقفة لطيفة دون قطع نفس، لئلا يتوهم أن اسم الإشارة صفة لـ ﴿مَرْقَدِنا﴾، ثم يبتدىء ﴿هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ﴾ على أنها جملة مستأنفة. ويقال لهذه الوقفة: وقفة السكت. وهي قطع الصوت مقدارًا أخصر من زمان النفس.
أي: من أقامنا، وأيقظنا من رقادنا ونومنا إن قلنا: إن المرقد مصدر، أو من مكاننا الذي كنا فيه راقدين إن قلنا. إنه اسم مكان. ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول، وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياما. قال في «الأسئلة المقحمة»: إن قيل: أخبر الكفار، بأنهم كانوا في القبر قبل البعث، في حال الرقاد، وهذا يرد عذاب القبر؟
قلت: إنهم لاختلاط عقولهم يظنون أنهم كانوا نيامًا، أو أن الله تعالى يرفع
46
عنهم العذاب بين النفختين، فكأنهم يرقدون في قبورهم كالمريض يجد خفة ما، فينسلخ عن الحس بالمنام. فإذا بعثوا بعد النفخة الآخرة، وعاينوا القيامة دعوا بالويل. ويؤيد هذا الجواب قوله - ﷺ -: «بين النفختين أربعون سنة، وليس بينهما قضاء، ولا رحمة ولا عذاب إلا ما شاء ربك». أو أن الكفار إذا عاينوا جهنم، وأنواع عذابها، وافتضحوا على رؤوس الأشهاد، وصار عذاب القبر في جنبها كالنوم قالوا: من بعثنا من مرقدنا. وذلك أن عذاب القبر روحاني فقط. وأما عذاب يوم القيامة، فجثماني وروحاني، وهو أشد من الروحاني فقط.
قرأ الجمهور: ﴿يا وَيْلَنا﴾. وقرأ ابن أبي ليلى ﴿يا ويلتنا﴾ بتاء التأنيث وعنه أيضًا ﴿يا ويلتي﴾ بالتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة. وقرأ الجمهور: ﴿مَنْ بَعَثَنا﴾ بفتح ميم ﴿مَنْ﴾ على الاستفهام. وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرف جر. ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب، وعلى هذه القراءة تكون ﴿مَنْ﴾ متعلقة بالويل. وقرأ الجمهور: ﴿مَنْ بَعَثَنا﴾. وفي قراءة أبي ﴿من أهبنا﴾ من هب من نومه إذا انتبه. وأنشد ثعلب على هذه القراءة:
وَعَاذلةٍ هَبَّت بليلٍ تلومني وَلَمْ يعتمدني قبل ذاك عَذولُ
وقوله: ﴿هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ﴾ مبتدأ وخبر، و ﴿ما﴾ موصولة، والعائد محذوف؛ أي: هذا البعث هو الذي وعدكموه الرحمن في الدنيا وأنتم قلتم: متى هذا الوعد إنكارًا. ﴿وَصَدَقَ﴾ في أخباره ﴿الْمُرْسَلُونَ﴾ فقد حق عليكم، ونزل بكم. وهو جواب من جهة الملائكة أو من جهة المؤمنين. عدل به عن سنن سؤال الكفار تذكيرًا لكفرهم وتقريعا لهم عليه، وتنبيهًا على أن الذي يهمهم هو السؤال عن نفس البعث، ماذا هو؟ دون الباعث، كأنهم قالوا: بعثكم الرحمن الذي وعدكم ذلك في كتبه، وأرسل إليكم الرسل، فصدقوكم فيه، وليس بالبعث الذي تتوهمونه. وهو بعث النائم من مرقده، حتى تسألوا عن الباعث. وإنما هذا هو البعث الأكبر ذو الأفزاع والأهوال. وفي «فتح الرحمن»، قوله: ﴿قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا...﴾ إلخ، إذا قلت: قولهم ذلك، سؤال عن الباعث، فكيف طابقه الجواب بقوله: ﴿هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ...﴾ إلخ؟
47
قلت: معناه بعثكم الرحمن الذي وعدكم بالبعث، وأخبركم به الرسول، وإنما جيء به على هذه الطريقة، تبكيتًا لهم وتوبيخًا. وقيل: هو من كلام الكفرة، يجيب به بعضهم على بعض. قال بالأول الفرّاء، وبالثاني مجاهد. وقال قتادة: هي من قول الله سبحانه. قال الزجاج: ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى المرقد صفة له، ثم استأنف ﴿ما وَعَدَ الرَّحْمنُ﴾، ويضمر الخبر حق؛ أي: ما وعد الرحمن حق عليكم.
٥٣ - ﴿إِنْ كانَتْ﴾؛ أي: ما كانت تلك النفخة الثانية المذكورة ﴿إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً﴾ لا ثانية لها، صاحها إسرافيل بنفخه في الصور. وقيل: صيحة البعث هو قول إسرافيل على صخرة بيت المقدس: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، والأعضاء المتمزقة، والشعور المنتشرة، إن الله المصور الخالق، يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، فاجتمعوا وهلموا إلى العرض، وإلى جبار الجبابرة. قال بعضهم: إن هذا القول، ليس غير النفخ في الحقيقة، فيجوز أن يكون المراد من أحدهما هو المراد من الآخر، أو بأن يقال ذلك أثناء النفخ، بحيث يحصل هو والنفخ معا، إذ ليس من ضرورة التكلم على الوجه المعتاد، حتى يحصل التنافي بينهما.
﴿فَإِذا هُمْ﴾ بغتة من غير لبث ما طرفة عين. و ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، خبره قوله: ﴿جَمِيعٌ﴾؛ أي: مجموعون. وقوله: ﴿لَدَيْنا﴾؛ أي: عندنا، متعلق بقوله: ﴿مُحْضَرُونَ﴾ للفصل والحساب؛ أي: فإذا هم مفاجأة مجموعون في المحشر، محضرون لدينا بسرعة للحساب والجزاء. وفيه من تهوين أمر البعث والحشر، والإيذان باستغنائهما عن الأسباب ما لا يخفى، كما هو عسير على الخلق يسير على الله تعالى، لعدم احتياجه إلى مزاولة الأسباب، ومعالجة الآلات كالخلق، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون.
والمعنى: أي ما كانت إعادتهم إحياء بعد مماتهم إلا نفخة واحدة، فإذا هم مجتمعون لدينا، قد أُحضروا للعرض والحساب لم يتخلف منهم أحد. ونحو الآية: ﴿فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)﴾، وقوله: {وَما أَمْرُ السَّاعَةِ
إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}.
٥٤ - ثم بين ما يكون في ذلك اليوم من الحساب بالعدل والقسطاس، فقال: ﴿فَالْيَوْمَ﴾؛ أي: فيقال للكفار حين يرون العذاب المعد لهم: اليوم؛ أي: يوم القيامة، وهو منصوب بقوله: ﴿لا تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ من النفوس برة كانت أو فاجرة ﴿شَيْئًا﴾ نصب على المصدرية؛ أي: شيئًا من الظلم بنقص الثواب أو زيادة العقاب، أو على أنه مفعول به ثان؛ أي: لا تظلم شيئًا مما تستحقه ﴿وَلا تُجْزَوْنَ﴾ أيها الكفار ﴿إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الكفر، والمعاصي، والأوزار. فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والارتباط بينهما، كأنهما شيء واحد، أو إلا بما كنتم تعملونه؛ أي: بسببه أو في مقابلته.
فقوله: ﴿لا تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ ليأمن المؤمن. وقوله: ﴿وَلا تُجْزَوْنَ﴾ إلخ لييأس الكافر. فإن قلت: ما الفائدة في إيثار طريق الخطاب عند الإشارة إلى يأس المجرم، والعدول عن الخطاب عند الإشارة إلى أمان المؤمن؟
فالجواب: أن قوله: ﴿لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ يفيد العموم. وهو المقصود في هذا المقام، فإنه تعالى لا يظلم أحدًا مؤمنًا كان أو مجرمًا. وأما قوله: ﴿لا تُجْزَوْنَ﴾ فإنه يختص بالكافر، فإنه تعالى يجزي المؤمن بما لم يعمله من جهة الوراثة، ومن جهة الاختصاص الإلهي، فإنه تعالى، يختص برحمته من يشاء من المؤمنين، بعد جزاء أعمالهم فيوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله أضعافًا مضاعفة.
أي: ففي هذا اليوم الرهيب، يوم القيامة، لا تبخس نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، ولا يحمل عليها وزر غيرها، بل توفى كل نفس أجر ما عملت من صالح، ولا تعاقب إلا بما اكتسبت من طالح جزاءً وفاقًا لما عملت في الدنيا.
وهذا حكاية لما سيقال لهم حين يرون العذاب، المعد لهم تحقيقًا للحق، وتقريعًا لهم، وتوبيخًا عليهم.
49
الإعراب
﴿وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)﴾.
﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَنْزَلْنا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلى قَوْمِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنا﴾. ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾: جار ومجرور، حال من ﴿قَوْمِهِ﴾، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿جُنْدٍ﴾: مفعول به، ﴿مِنَ السَّماءِ﴾: صفة لـ ﴿جُنْدٍ﴾ أو متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنا﴾. والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لاحتقار أمرهم. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿مُنْزِلِينَ﴾: خبره. والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلْنا﴾: معللة لها؛ أي: لأن عادتنا المستمرة في الأزمنة الماضية، قبل زمن محمد - ﷺ -، أنا لم ننزل ملائكة لإهلاك الكفار، بل نهلكهم بغير الملائكة. ﴿إِنْ﴾ نافية، ﴿كَانَتْ﴾ فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على العقوبة، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿صَيْحَةً﴾ خبر ﴿كَانَ﴾، ﴿واحِدَةً﴾: صفة ﴿صَيْحَةً﴾؛ أي: ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة. وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿فَإِذا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿إذا﴾: حرف فجأة، ﴿هُمْ خامِدُونَ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿كان﴾.
﴿يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)﴾.
﴿يا حَسْرَةً﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿حَسْرَةً﴾: منادى شبيه بالمضاف؛ لأنه اتصل به شيء من تمام معناه، منصوب، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة، ﴿عَلَى الْعِبادِ﴾ متعلق بـ ﴿حَسْرَةً﴾. وجواب النداء محذوف، تقديره: احضري فهذا أوانك. ويحتمل كون المنادى محذوفًا، و ﴿حسرة﴾ منصوب على المصدرية بفعل محذوف؛ أي: يا هؤلاء تحسروا حسرة على العباد. جملة النداء مستأنفة. ﴿مَا﴾: نافية، ﴿يَأْتِيهِمْ﴾: فعل، ومفعول به، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿رَسُولٍ﴾: فاعل يأتي. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل التحسر عليهم. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء من أعم
50
الأحوال، ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِهِ﴾ متعلق بما بعده، وجملة ﴿يَسْتَهْزِؤُنَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل النصب على الحال، من الهاء في ﴿يَأْتِيهِمْ﴾؛ أي: ما يأتيهم رسول في حال من الأحوال؛ إلا حال كونهم مستهزئين إياه. ﴿أَلَمْ﴾: الهمزة: للاستفهام التقريري، ﴿لَمْ﴾ حرف نفي وجزم، ﴿يَرَوْا﴾ فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. والجملة مستأنفة. ﴿كَمْ﴾ خبرية بمعنى عدد كثير، في محل النصب، مفعول مقدم لـ ﴿أَهْلَكْنا﴾؛ لأنها مما يلزم الصدارة، ﴿أَهْلَكْنا﴾ فعل وفاعل، ﴿قَبْلَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَهْلَكْنا﴾. والجملة الفعلية في محل النصب، سادة مسد مفعولي ﴿يَرَوْا﴾؛ لأنها قلبية معلقة بكم عن العمل فيما بعدها. ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ حال من ﴿كَمْ﴾، ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿إِلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَرْجِعُونَ﴾، وجملة ﴿لا يَرْجِعُونَ﴾ خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر منصوب، على كونه بدلًا من معنى ﴿كَمْ أَهْلَكْنا﴾ والتقدير: ألم يروا إهلاكنا كثيرًا من القرون، كونهم غير راجعين إليهم أو على كونه معمولًا لفعل محذوف، دل عليه السياق؛ أي: وقضينا وحكمنا عدم رجوعهم إليهم. ﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ، ﴿لَمَّا﴾ حرف بمعنى: إلا التي للحصر، ﴿جَمِيعٌ﴾ خبر أول لكل، ﴿لَدَيْنا﴾ متعلق به؛ لأنه بمعنى مجموعون أو بمحضرون، و ﴿مُحْضَرُونَ﴾ خبر ثان للمبتدأ؛ أي: وما كل الخلائق إلا مجموعون عندنا، محضرون لدينا للحساب والجزاء. والجملة معطوفة على جملة ﴿كَمْ أَهْلَكْنا﴾ أو مستأنفة.
﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥)﴾.
﴿وَآيَةٌ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿آيَةٌ﴾ خبر مقدم، ﴿لَهُمُ﴾ صفة لـ ﴿آيَةٌ﴾، ﴿الْأَرْضُ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿الْمَيْتَةُ﴾ صفة لـ ﴿الْأَرْضُ﴾ وجملة ﴿أَحْيَيْناها﴾ حال من الضمير المستكن في الميتة، أو صفة ثانية لـ ﴿الْأَرْضُ﴾، لأن أل فيها جنسية فهي بمنزلة النكرات. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَأَخْرَجْنا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿أحيينا﴾، ﴿مِنْها﴾: متعلق بـ ﴿أَخْرَجْنا﴾، ﴿حَبًّا﴾ مفعول به، ﴿فَمِنْهُ﴾ الفاء: استئنافية، ﴿منه﴾ متعلق بـ ﴿يَأْكُلُونَ﴾، و ﴿يَأْكُلُونَ﴾ فعل وفاعل. والجملة
51
مستأنفة. ﴿وَجَعَلْنا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿أحيينا﴾، ﴿فِيها﴾ متعلق بـ ﴿جَعَلْنا﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له إن قلنا: إن ﴿جَعَلْنا﴾ من أفعال التصيير، ﴿جَنَّاتٍ﴾ مفعول به أول على التقدير المذكور، ﴿مِنْ نَخِيلٍ﴾ صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾، ﴿وَأَعْنابٍ﴾ معطوف على ﴿نَخِيلٍ﴾، ﴿وَفَجَّرْنا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿أحيينا﴾، ﴿فِيها﴾ متعلق بـ ﴿فَجَّرْنا﴾، ﴿مِنَ الْعُيُونِ﴾ صفة لمفعول ﴿فَجَّرْنا﴾ المحذوف، تقديره: وفجرنا فيها ينابيع كائنات من العيون. ﴿لِيَأْكُلُوا﴾ اللام، حرف جر وتعليل، ﴿يأكلوا﴾ فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، ﴿مِنْ ثَمَرِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يأكلوا﴾. والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جَعَلْنا﴾؛ أي: وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب لأكلهم من ثمره؛ أي: من ثمر المذكور من النخيل والأعناب. ﴿وَما﴾ موصولة أو موصوفة، معطوفة على ثمره، ﴿عَمِلَتْهُ﴾ فعل ومفعول، ﴿أَيْدِيهِمْ﴾ فاعل. والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ويصح كونها مصدرية؛ أي: ومن عمل أيديهم كالدبس والعصير. قال الزمخشري: ويصح أن تكون ﴿ما﴾: نافية، وتكون الجملة الفعلية حينئذ حالًا من الثمر. ﴿أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾ الهمزة: للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيرون تلك النعم، فلا يشكرون الله عليها؟! ﴿لا﴾ نافية، ﴿يَشْكُرُونَ﴾ فعل وفاعل، معطوف على ذلك المقدر.
﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦)﴾.
﴿سُبْحانَ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الله سبحانًا، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿سُبْحانَ﴾: مضاف، ﴿الَّذِي﴾: مضاف إليه، ﴿خَلَقَ الْأَزْواجَ﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة صلة الموصول. ﴿كُلَّها﴾ توكيد للأزواج، ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور، حال من الأزواج، ﴿تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ فعل، وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: مما تنبته الأرض. ﴿وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ جار ومجرور، معطوف
52
على الجار والمجرور في قوله: ﴿مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾، وكذا قوله: ﴿وَمِمَّا﴾ معطوف عليه، وجملة ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها.
﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)﴾.
﴿وَآيَةٌ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿آيَةٌ﴾ خبر مقدم، ﴿لَهُمُ﴾ صفة لآية، ﴿اللَّيْلُ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾ ﴿نَسْلَخُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿نَسْلَخُ﴾، ﴿النَّهارَ﴾ مفعول به. والجملة الفعلية مستأنفة في محل النصب، حال من الضمير المستكن في الخبر العائد إلى الليل، ولكنها حالة سببية. ﴿فَإِذا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿إذا﴾ فجائية، ﴿هُمْ مُظْلِمُونَ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة معطوفة على جملة ﴿نَسْلَخُ﴾: عطف اسمية على فعلية. ﴿وَالشَّمْسُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿تَجْرِي﴾: خبره، ﴿لِمُسْتَقَرٍّ﴾ متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾، ﴿لَهَا﴾ صفة لـ ﴿مستقر﴾، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ﴾. ويجوز أن يكون ﴿الشَّمْسُ﴾ معطوفًا على الأرض، وجملة ﴿تَجْرِي﴾ حال من الشمس. ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ، ﴿تَقْدِيرُ﴾ خبره، ﴿الْعَزِيزِ﴾ مضاف إليه، ﴿الْعَلِيمِ﴾ صفة لـ ﴿الْعَزِيزِ﴾. والجملة مستأنفة. ﴿وَالْقَمَرَ﴾ بالنصب منصوب على الاشتغال بفعل مضمر، يفسره المذكور بعده، تقديره: وقدرنا القمر، وجملة ﴿قَدَّرْناهُ﴾ جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب. ﴿مَنازِلَ﴾ منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿قدرنا﴾ المقدر؛ أي: قدرنا سير القمر في منازل من الأبراج، أو حال من القمر، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: حال كونه ذا منازل، أو مفعول ثان لقدرنا؛ أي: صيّرناه منازل، وبالرفع معطوف على المبتدأ المذكور قبله على أنه مبتدأ، خبره جملة ﴿قَدَّرْناهُ﴾ ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية، ﴿عَادَ﴾: فعل ناقص واسمه ضمير يعود على القمر، ﴿كَالْعُرْجُونِ﴾ ﴿الكاف﴾ اسم بمعنى مثل، في محل النصب خبر عاد، ﴿كَالْعُرْجُونِ﴾:
53
مضاف إليه للكاف، ﴿الْقَدِيمِ﴾ صفة لـ ﴿العرجون﴾؛ أي: حتى صار مثل العرجون القديم. والجملة الفعلية في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى؛ أي: إلى عوده مثل العرجون القديم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿قدرنا﴾، ﴿لَا﴾ نافية ﴿الشَّمْسُ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَنْبَغِي﴾ خبره. والجملة مستأنفة. ﴿لَهَا﴾ متعلق بـ ﴿يَنْبَغِي﴾، ﴿أَنْ﴾ حرف نصب، ﴿تُدْرِكَ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الشمس، منصوب بأن المصدرية ﴿الْقَمَرَ﴾ مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر، مرفوع على الفاعلية لينبغي؛ أي: لا ينبغي لها إدراكها القمر. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَا﴾ نافية، ﴿اللَّيْلُ﴾: مبتدأ، ﴿سابِقُ﴾: خبره، ﴿النَّهارِ﴾ مضاف إليه. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا الشَّمْسُ﴾. ﴿وَكُلٌّ﴾ مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد العموم؛ ولأن التنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف؛ أي: كل واحد من الشمس والقمر والنجوم والكواكب ﴿فِي فَلَكٍ﴾ متعلق بما بعده، وجملة ﴿يَسْبَحُونَ﴾ خبر المبتدأ، وعبّر عنها بالواو التي للعقلاء، تنزيلًا لها منزلتهم. والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ (٤٤)﴾.
﴿وَآيَةٌ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿آيَةٌ﴾ خبر مقدم، ﴿لَهُمْ﴾ صفة له، ﴿أَنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول، ﴿فِي الْفُلْكِ﴾ متعلق بـ ﴿حَمَلْنا﴾، ﴿الْمَشْحُونِ﴾: صفة لـ ﴿الْفُلْكِ﴾، وجملة ﴿حَمَلْنا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء؛ أي: وحملنا ذريتهم في الفلك المشحون آية لهم. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ﴾. ﴿وَخَلَقْنا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿حَمَلْنا﴾، ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿خَلَقْنا﴾، ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ حال من المفعول المؤخر، وهو ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿خَلَقْنا﴾، وجملة ﴿يَرْكَبُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما يركبونه. ﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِنْ﴾ حرف شرط، ﴿نَشَأْ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، مجزوم
54
بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿نُغْرِقْهُمْ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿فَلا صَرِيخَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لا﴾ نافية للجنس تعمل عمل ﴿إِنْ﴾، ﴿صَرِيخَ﴾ في محل النصب اسمها، ﴿لَهُمْ﴾ خبرها. وجملة ﴿لا﴾ معطوفة على جملة الجواب. واختار ابن عطية كون الفاء: استئنافية، ففيه قطع الكلام عما قبله. ﴿وَلا هُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾، نافية مهملة، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿يُنْقَذُونَ﴾ فعل مغير، ونائب فاعل في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ من أعم العلل، ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول لأجله، منصوب بـ ﴿يُنْقَذُونَ﴾، ﴿مِنَّا﴾ صفة لـ ﴿رَحْمَةً﴾، ﴿وَمَتاعًا﴾ معطوف على رحمة، ﴿إِلى حِينٍ﴾ متعلق بـ ﴿مَتاعًا﴾ أو صفة له، وتقدير الكلام؛ أي: لا يغاثون، ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة منا، وتمتيع منا لهم. وسبق بسط الكلام على هذا في مبحث التفسير فراجعه.
﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمُ﴾ متعلق بـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ...﴾ إلى آخر الآية نائب فاعل، محكي لـ ﴿قِيلَ﴾. وجملة ﴿قِيلَ﴾ في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونه فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، وجوابه محذوف دل عليه ما سيأتي تقديره: أعرضوا عنه. وجملة ﴿إِذا﴾ مستأنفة. وإن شئت قلت: ﴿اتَّقُوا﴾ فعل أمر، وفاعل، ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب، مفعول به، وجملة ﴿اتَّقُوا﴾ في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿بَيْنَ أَيْدِيكُمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه صلة لما الموصولة، ﴿وَما خَلْفَكُمْ﴾ معطوف على ما بين أيديكم، ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ﴿لعل﴾ حرف نصب وتعليل أو ترجّ، والكاف اسمها، وجملة ﴿تُرْحَمُونَ﴾ خبرها. وجملة ﴿لعل﴾ في محل النصب حال من واو اتقوا؛ أي: اتقوا حالة كونكم راجين أن ترحموا، أو تعليل للأمر بالتقوى؛ أي: اتقوا كي ترحموا فتنجوا من ذلك، كما سبق هناك ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾ نافية،
55
﴿تَأْتِيهِمْ﴾: فعل، ومفعول به، ﴿مِنْ﴾ زائدة، ﴿آيَةٍ﴾: فاعل، ﴿مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه صفة لـ ﴿آيَةٍ﴾. والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿إذا﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال، ﴿كانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿عَنْها﴾ متعلق بما بعده، ﴿مُعْرِضِينَ﴾: خبر. ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل النصب، حال من مفعول تأتي، والتقدير: وما تأتيهم آية من آيات ربهم، في حال من الأحوال إلا حالة كونهم معرضين عنها.
﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨)﴾.
﴿وَإِذا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به، ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾. والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. وإن شئت قلت: ﴿أَنْفِقُوا﴾ فعل أمر، وفاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لقيل، ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أَنْفِقُوا﴾. ﴿رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ فعل، ومفعول أول، وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما رزقكم الله إياه. ﴿قالَ الَّذِينَ﴾ فعل، وفاعل. والجملة جواب ﴿إِذا﴾، وجملة ﴿إِذا﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ﴾. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل، وفاعل، صلة الموصول، ﴿لِلَّذِينَ﴾ متعلق بـ ﴿قالَ﴾. ﴿آمَنُوا﴾ فعل، وفاعل، صلة الموصول، ﴿أَنُطْعِمُ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري، ﴿نُطْعِمُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على المتكلمين من الكفار، ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿نُطْعِمُ﴾، وجملة ﴿نُطْعِمُ﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قالَ﴾ الذين كفروا، ﴿لَوْ﴾ حرف شرط غير جازم، ﴿يَشاءُ اللَّهُ﴾ فعل مضارع، وفاعل، فعل لـ ﴿لو﴾، ﴿أَطْعَمَهُ﴾ فعل، ومفعول، وفاعل مستتر يعود على الله جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿إِنْ﴾ نافية، ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ، ﴿فِي ضَلالٍ﴾ خبر المبتدأ، ﴿مُبِينٍ﴾ صفة ضلال، الجار والمجرور خبر
56
المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿وَيَقُولُونَ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿يَقُولُونَ﴾ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿مَتى﴾ اسم استفهام عن الزمان، في محل النصب على الظرفية، متعلق بمحذوف خبر مقدم، ﴿هذَا﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿الْوَعْدُ﴾: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان له. والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم، ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿صادِقِينَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية محذوف، تقديره: إن كنتم صادقين فيما تدّعون، فبيّنوا لنا وقت وقوعه ومجيئه. وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾.
﴿ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)﴾.
﴿ما﴾: نافية، ﴿يَنْظُرُونَ﴾: فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿صَيْحَةً﴾: مفعول به، ﴿واحِدَةً﴾: صفة له، ﴿تَأْخُذُهُمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل النصب. صفة ثانية لصيحة، أو حال منها لوصفها بواحدة. ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَخِصِّمُونَ﴾: خبره. والجملة الاسمية في محل النصب. حال من مفعول ﴿تَأْخُذُهُمْ﴾، ﴿فَلا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لا﴾ نافية، ﴿يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة معطوفة مفرعة على جملة ﴿تَأْخُذُهُمْ﴾. ﴿ولا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾ نافية، ﴿إِلى أَهْلِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَرْجِعُونَ﴾، و ﴿يَرْجِعُونَ﴾: معطوفة على جملة ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾.
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)﴾.
﴿وَنُفِخَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿نُفِخَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿فِي الصُّورِ﴾: جار ومجرور نائب فاعل. والجملة مستأنفة. ﴿فَإِذا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾ فجائية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿مِنَ الْأَجْداثِ﴾ متعلق بـ ﴿يَنْسِلُونَ﴾، و ﴿إِلى رَبِّهِمْ﴾
57
متعلق بـ ﴿يَنْسِلُونَ﴾ أيضًا، وجملة ﴿يَنْسِلُونَ﴾: في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوف على جملة ﴿نُفِخَ﴾. ﴿قالُوا﴾ فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يا وَيْلَنا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿وَيْلَنا﴾: منادى مضاف. وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿بَعَثَنا﴾: فعل، ومفعول، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿مَنْ﴾: الاستفهامية، وجملة ﴿مَنْ﴾ الاستفهامية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿مِنْ مَرْقَدِنا﴾: متعلق بـ ﴿بعثنا﴾، هذا: مبتدأ، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: قالت الملائكة أو المؤمنون: هذا البعث ما وعد الرحمن، وجملة القول المحذوف، مستأنفة. ﴿وَعَدَ الرَّحْمنُ﴾: فعل، وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: هذا ما وعده الرحمن إياكم. ﴿وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿وَعَدَ الرَّحْمنُ﴾، والعائد محذوف؛ أي: وصدق المرسلون في إخباره إياكم.
﴿إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)﴾.
﴿إِنْ﴾ نافية ﴿كانَتْ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على النفخة؛ أي: ما كانت النفخة المذكورة سابقا، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿صَيْحَةً﴾ خبر ﴿كان﴾، ﴿واحِدَةً﴾: صفة لـ ﴿صَيْحَةً﴾، وجملة كانت مستأنفة. ﴿فَإِذا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾: فجائية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿جَمِيعٌ﴾ خبر أول، ﴿لَدَيْنا﴾ متعلق بـ ﴿مُحْضَرُونَ﴾، و ﴿مُحْضَرُونَ﴾: خبر ثان. والجملة معطوفة على جملة ﴿كان﴾. ﴿فَالْيَوْمَ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿اليوم﴾ ظرف متعلق بـ ﴿تُظْلَمُ﴾، ﴿لا﴾ نافية، ﴿تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ فعل، ونائب فاعل. والجملة مستأنفة. ﴿شَيْئًا﴾ مفعول مطلق، ﴿وَلا تُجْزَوْنَ﴾ فعل، ونائب فاعل، معطوف على ﴿لا تُظْلَمُ﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب. مفعول ثان لـ ﴿تُجْزَوْنَ﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خبره. وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول.
58
التصريف ومفردات اللغة
﴿مِنْ جُنْدٍ﴾ الجند: العسكر، واحده جندي، والمراد بهم هنا: الجند من الملائكة؛ لأنهم جند الله الأكبر. ﴿خامِدُونَ﴾ والخمود: انطفاء النار، والمقصود به هنا: الموت. ﴿يا حَسْرَةً﴾ والحسرة على ما قال الراغب: الغم على ما فات، والندم عليه، كأن المتحسر انحسرت عنه قواه من فرط الإعياء. ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ جمع قرن، والقرن: القوم المقترنون في زمن واحد.
﴿وَفَجَّرْنا﴾ الفجر: شق الشيء شقًا واسعًا، كما في «المفردات». قال بعضهم: التفجير كالتفتيح لفظًا ومعنًى، وبناء التفعيل للتكثير. ﴿فِيها مِنَ الْعُيُونِ﴾ جمع عين، وهي في الأصل: الجارحة. ويقال لمنبع الماء: عين، تشبيهًا بها في الهيئة، وفي سيلان الماء منها، ومن عين الماء اشتق ماء معين؛ أي: ظاهر للعيون. ومعنى ﴿مِنَ الْعُيُونِ﴾: من ماء العيون، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه.
﴿سُبْحانَ الَّذِي﴾ سبحان: علم للتسبيح، الذي هو التبعيد عن السوء اعتقادًا وقولًا؛ أي: اعتقاد البعد عنه، والحكم به. فإن العلم كما يكون علمًا للأشخاص، كزيد وعمرو، وللأجناس كأسامة.. يكون للمعاني أيضًا. لكن علم الأعيان لا يضاف، وهذا لا يجوز بغير إضافة كما في الآية، أقيم مقام المصدر، وبيّن مفعوله بإضافته إليه. ﴿الْأَزْواجَ﴾: جمع زوج، وهو ضد الفرد، ويقال للأنواع: أزواج؛ لأن كل نوع زوج بقسيمه. وفي ﴿سُبْحانَ﴾ استعظام ما في حيِّز الصلة، من بدائع آثار قدرته، وروائع نعمائه الموجبة للشكر، وتخصيص العبادة به. والتعجب من إخلال الكفرة بذلك، والحالة هذه، فإن التنزيه لا ينافي التعجب. والمعنى: أسبح الذي أوجد الأصناف والأنواع سبحانه؛ أي: أنزهه عما لا يليق به عقدًا وعملًا تنزيهًا خاصًا به، حقيقًا بشأنه. فهو حكم منه تعالى بتنزهه، وبراءته عن كل ما لا يليق به، كما فعله الكفار من الشرك وما تركوه من الشكر، وتلقين للمؤمنين أن يقولوه، ويعتقدوا مضمونه، ولا يخلّوا به ولا يغفلوا عنه. وقال بعضهم: ﴿سُبْحانَ﴾ مصدر كغفران أريد به: التنزه التام، والتباعد
59
الكلي عن السوء على أن تكون الجملة إخبارًا من الله بالتنزه. والمعنى: تنزه تعالى بذاته عن كل ما لا يليق به تنزهًا خاصًا. ومن هو خالق الأصناف والأنواع كيف يجوز أن يشرك به ما لا يخلق شيئًا؟، بل هو مخلوق عاجز. اهـ من «الروح».
﴿نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ﴾ أصل السلخ: كشط الجلد عن الشاة ونحوها، واستعمل هنا في كشف الضوء من مكان الليل، وملقى ظله. ومعنى ﴿نَسْلَخُ﴾: نفصل، يقال: سلخ جلد الشاة إذا كشطه عنها، وأزاله. وفي معاجم اللغة: سلخ يسلخ من باب نصر وفتح سلخًا، وسلخ الخروف كشط جلده، وسلخت المرأة درعها نزعته، وسلخت الحية انكشفت عن سلختها، وسلخها قشرها. فاستعير السلخ هنا لإزالة الضوء، وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله.
﴿لِمُسْتَقَرٍّ لَها﴾؛ أي: حول مستقر لها، وهو مركز مدارها. تقدير العزيز والتقدير: تبيين كمية الشيء. وتقدير الله الأشياء على وجهين:
أحدهما: بإعطاء القدرة.
والثاني: أن يجعلها على مقدار مخصوص، ووجه مخصوص حسبما اقتضته الحكمة.
﴿مَنازِلَ﴾: جمع منزل، وهو المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة. ﴿حَتَّى عادَ﴾؛ أي: صار في أواخر سيره، وقربه من الشمس. ﴿كَالْعُرْجُونِ﴾ في رأي العين. والعرجون: هو العود الذي عليه الشماريخ، فإذا أتي عليه الحول تقوّس، ودقّ، واصفرّ. قال أعشى بني قيس:
شرق المسك والعبير بها فهي صفراء كعرجون القمر
والعرجون: بضم العين، ويقال له أيضًا: العرجد، والعرجد بتشديد الدال، أصل العذق الذي يعوج ويبقى على النخل يابسًا بعد أن تقطع عنه الشماريخ، والجمع عراجين. وقال الزجاج: هو فعلون من الانعراج، وهو الانعطاف، والاعوجاج. والشماريخ جمع شمراخ، والشمراخ كالشمروخ بالضم: عيدان
60
العنقود، الذي عليه الرطب، وما يجمعه مما فوقه يسمى العذق بكسر العين، كذا في «المصباح». وفيه العذق بكسر العين الكباسة، والكباسة: عنقود النخل، اهـ.
﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها﴾؛ أي: لا يتيسر لها ﴿أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾؛ أي: أن تجتمع معه في وقت واحد، فتداخله وتطمس نوره؛ لأن لكل منهما دورة خاصة في فلكه. وقوله: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها﴾ هو أبلغ من (لا ينبغي للشمس)، كما أن، أنت لا تكذب، بتقديم المسند إليه، آكد من، لا تكذب أنت لاشتمال الأول على تكرر الإسناد. ففي ذكر حرف النفي مع الشمس دون الفعل، دلالة على أن الشمس مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها، وقدّر لها. وينبغي من الانفعال، وثلاثية بغي يبغي بمعنى طلب، وأما استعمال انبغي ماضيًا فقليل. قال في «كشف الأسرار»: يقال: بغيت الشيء فانبغى لي، أي: استسهلته فتسهل لي، وطلبته فتيسر لي. والمعنى: لا الشمس يصح لها ويتسهل ﴿أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾؛ أي: تجتمع معه في وقت واحد، فتداخله وتطمس نوره؛ لأن لكل منهما دورة خاصة في فلكه. كما مر آنفًا.
﴿فِي فَلَكٍ﴾؛ أي: في جنس فلك، كقولهم: كساهم الأمير حلة يريدون: كساهم هذا الجنس. والفلك: مجرى الكواكب ومسيرها، وتسميته بذلك لكونه كالفلك، كما في «المفردات».
﴿يَسْبَحُونَ﴾ السبح: المر السريع في الماء أو في الهواء، واستعير لمر النجوم في الفلك، كما في «المفردات». وقال في «كشف الأسرار»: السبح: الانبساط في السير، كالسباحة في الماء، وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه. قال الحسن: ﴿يَسْبَحُونَ﴾ يدورون. وقال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل.
﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ الذرية أصلها: صغار الأولاد، ثم استعملت في الصغار والكبار، ويقع على الواحد والجمع، وأصله الجمع. وهي من ذرأ الله الخلق، فتركت همزته نحو: برية من برأ. قال في «القاموس»: ذرأ كجعل: خلق، وذرأ الشيء: كثر، ومنه الذرية - مثلثة - لنسل الثقلين، انتهى.
﴿فِي الْفُلْكِ﴾؛ أي: السفينة ﴿الْمَشْحُونِ﴾؛ أي: المملوء. ومع ذلك نجّاه الله
61
من الغرق، فهذا الوصف له دخل في الامتنان. وكانت السفينة مملوءة بالحيوان؛ لأنه جعلها ثلاث طبقات. السفلي: وضع فيها السباع والهوام، والوسطي: وضع فيها الدواب والأنعام، والعليا: وضع فيها الآدميين والطير، اهـ شيخنا. والشحناء: عداوة امتلأت منها النفوس، كما في «المفردات» وهو اسم مفعول من شحن السفينة إذا ملأها، وأتم جهازها كله. ويقال: بينهما شحناء؛ أي: عداوة، وهو مشاحن لأخيه، ويقال للشيء الشديد الحموضة: إنه ليشحن الذباب؛ أي: يطرده، وبابه فتح إذا كان بمعنى الملء، وإذا كان بمعنى الطرد فهو من باب فتح ونصر، يقال: شحنت الكلاب؛ أي: أبعدت الطرد ولم تصد شيئًا، وإذا كان بمعنى الحقد فهو من باب تعب.
﴿وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ الغرق: الرسوب في الماء. ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾ الصريخ فعيل بمعنى: مفعل؛ أي: مصرخ، وهو المغيث، ويطلق أيضًا على الصارخ؛ أي: المستغيث، فهو من الأضداد، ويكون مصدرًا بمعنى الإغاثة. وكل منهما مراد هنا. وفي «الأساس»: وصرخ يصرخ صراخًا وصريخًا وهو صارخ وصريخ. والصراخ: صوت المستغيث، وصوت المغيث إذا صرخ بقومه للإغاثة.
﴿مَتى هذَا الْوَعْدُ﴾؛ أي: متى يتحقق ويجيىء ما وعدنا به. والوعد يستعمل في الخير والشر والنفع والضر، والوعيد في الشر خاصة. والوعد هنا يتضمن الأمرين؛ لأنه وعد بالقيامة. وجزاء العباد إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
﴿ما يَنْظُرُونَ﴾ من النظر بمعنى الانتظار، كما سبق. ﴿إِلَّا صَيْحَةً﴾ والصيحة: رفع الصوت. ﴿تَأْخُذُهُمْ﴾ والأخذ: حوز الشيء، وتحصيله. وذلك تارة بالتناول نحو: ﴿مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ﴾، وتارة بالقهر نحو: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾. ويقال: أخذته الحمّى، ويعبر عن الأسير بالمأخوذ والأخيذ.
﴿يَخِصِّمُونَ﴾ بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد المشددة. أصله: يختصمون، فقلبت التاء صادًا، ثم أسكنت وأدغمت في الصاد الثانية، ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين، فصار ﴿يَخِصِّمُونَ﴾، وماضيه خصّم، أصله: اختصم، فنقلت حركة التاء إلى الخاء ثم قلبت؛ أي: التاء صادًا وأدغمت في الصاد،
62
وحذفت همزة الوصل للاستغناء عنها بتحريك الخاء، فوقع الإعلال في الماضي كما وقع في مضارعه.
﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ الاستطاعة: استفعال من الطوع، وذلك وجود ما يصير به الفعل متأتيًا. ﴿تَوْصِيَةً﴾ مصدر وصّى توصية كزكّى تزكية، لأن فعله من المضعف المعتل. والوصية اسم مصدر من الإيصاء، يقال: وصّيت الشيء بالشيء إذا وصلته به، ويسمى إلزام شيء من مال أو نفقة بعد الموت بالوصية؛ لأنه لما أوصى به؛ أي: أوجب وألزم وصل ما كان من أمر حياته بما بعده من أمر مماته.
﴿وَلا إِلى أَهْلِهِمْ﴾ الأهل: يفسر بالأزواج والأولاد، وبالعبيد والإماء. والأقارب، وبالأصحاب، وبالمجموع، كما في شرح المشارق لابن الملك. قال الراغب: أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب، وعبّر بأهل الرجل عن امرأته.
﴿مِنَ الْأَجْداثِ﴾؛ أي: القبور، جمع جدث كفرس وأفراس، محركة وهو القبر، كما في «القاموس». وقرىء شاذًا ﴿من الأجداف﴾ بالفاء، وهي لغة في الأجداث يقال: جدث وجدف بمعنى.
﴿فِي الصُّورِ﴾ هو القرن أو ما يسمى اليوم البوق، وهو شيء مجوّف مستطيل، ينفخ فيه ويزمر ويجمع على أبواق وبيقان وبوقان. قال أبو الفتح بن جنيّ: عاب على أبي الطيب من لا خبرة له بكلام العرب، جمع بوق على بوقات في قوله:
إذا كان بعض النَّاسِ سيفًا لدولةٍ ففي النَّاسِ بوقاتٌ لها وطبول
والقياس يعضده، إذ له نظائر كثيرة مثل: حمام وحمامات، وسرادق وسرادقات وجواب وجوابات، وهو كثير في جمع ما لا يعقل من المذكر.
﴿يَنْسِلُونَ﴾؛ أي: يعدون بكسر السين وضمها، يقال: نسل الذئب ينسل من باب ضرب يضرب، وقيل: ينسل بالضم أيضًا، وهو الإسراع في المشي. وفي القاموس: نسل ينسل وينسل بكسر السين وضمها نسلًا ونسلًا ونسلانًا في مشيه أسرع. ومنه: قول امرىء القيس:
63
فإن تك قد ساءتك منِّي خليقةٌ فسلِّي ثيابي من ثيابك تنسل
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق بين ﴿أَنْزَلْنا﴾ و ﴿مُنْزِلِينَ﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿فَإِذا هُمْ خامِدُونَ﴾ شبههم بالنار الخامدة، التي صارت رمادًا على حد قول لبيد:
وما المرء إلّا كالشِّهاب وضوئهِ يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع
شبهوا بالنار الخامدة رمزًا إلى أن الحي كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب، والميت كالرماد.
ومنها: حكاية حال ماضية مستمرة في قوله: ﴿ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ﴾؛ أي: كانوا في الدنيا على الاستمرار يستهزئون بمن يأتيهم من الرسول من غاية الكبر.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا﴾.
ومنها: التنكير للتفخيم والتعظيم في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ﴾؛ أي: آية عظيمة باهرة على قدرة الله.
ومنها: الطباق بين الموت والإحياء في قوله: ﴿الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ فإن الأيدي كناية عن القوة؛ لأن أقوى جوارح الإنسان في العمل يده، فصار ذكر اليد غالبًا في الكناية. ومثله قوله: ﴿ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾.
ومنها: فن التناسب في قوله: ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ الآية، وهو أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه، لكونه مجملًا يحتاج إلى التفصيل. فقد أجمل الأزواج أولًا، ثم فصله بما بعده، فأحسن التفصيل والترتيب. فقد قدم سبحانه النبات، وانتقل على طريق
64
البلاغة إلى الأعلى، فثنى بأشرف الحيوان، وهو الإنسان، ليستلزم ذكره بقية الحيوان، ثم ثلّث بقوله: ﴿وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾ فانتقل من الخصوص إلى العموم، ليندرج تحت العموم. فسبحان منزل القرآن على ما فيه من بديع البيان.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ﴾ شبّه إزالة ضوء النهار، وانكشاف ظلمة الليل بسلخ الجلد عن الشاة، بجامع الإزالة والتعرية في كل. فكما أن الشاة تتعرى حين يسلخ إهابها كذلك الليل إذا انسلخ عنه النهار زال ضوء، وبدت ظلمته الحالكة. واستعار اسم السلخ للإزالة والإخراج، واشتق منه ﴿نَسْلَخُ﴾ بمعنى نخرج منه النهار على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.
وفيه من المحسنات أيضًا الطبقات بين الليل والنهار في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ﴾.
ومنها: في هذه الآية أيضًا التوشيح، وهو أن يكون في أول الكلام، معنى إذا علم علمت منه القافية، إن كان شعرًا، أو السجع إن كان نثرًا، أو الفاصلة إن كان آية. فإن من كان حافظًا للسورة، متفطنًا إلى أن مقاطع آيها النون المردفة، وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل، علم أن الفاصلة تكون مظلمون؛ لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم؛ أي: دخل في الظلمات ما دامت تلك الحال.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ فإنه شبه الهلال بالعرجون في الدقة، والتقوس والاصفرار؛ أي: في رأي العين لا في المقدار. ووجه الشبه مركب من ثلاثة أشياء، ولما لم يذكر سمي مجملًا.
ومنها: تقديم المسند إليه لتقوية الحكم المنفي في قوله: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾ فإنه أبلغ من أن يقال: لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر، وآكد في إفادة أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. فإن قولك: أنت لا تكذب، بتقديم المسند إليه، أبلغ من قولك: لا تكذب، فإنه أشد في نفي الكذب من العبارة الثانية. كما مر.
65
ومنها: تنزيل غير العقلاء منزلتهم في قوله: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ بدل يسبح. فقد عبر عن الشمس، والقمر، والكواكب، بضمير جمع المذكر تنزيلًا لها منزلة العقلاء. والذي سوّغ ذلك وصفهم بالسباحة؛ لأنها من صفات العقلاء.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يَسْبَحُونَ﴾ فإنه استعار المر السريع في الماء، لمر النجوم في الفلك، المعبر عنه عرفًا بالدوران.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا﴾ فقد استعار الرقاد للموت، والجامع بينهما عدم ظهور الفعل في كل؛ لأن كلا من النائم والميت لا يظهر فيه فعل. والمراد: الفعل الاختياري المعتد به، فلا يرد أن النائم يصدر منه فعل. وإنما قلنا: إنها أصلية؛ لأن المرقد مصدر ميمي، كما تقدم. وأما إذا جعلناه اسم مكان فتكون الاستعارة تبعية.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ﴾؛ أي: تقول لهم الملائكة أو المؤمنون: هذا ما وعدكم به الرحمن.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري الذي يراد به التهكم في قوله: ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿تَوْصِيَةً﴾ لغرض التعميم؛ أي: في شيء من أمورهم.
ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ للدلالة على تحقق الوقوع.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
66
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما بيّن أنّ ذلك اليوم كائن لا
(١) المراغي.
67
محالة، وأنه سيأتي بغتةً من حيث لا يشعر به أحد، فما هو إلا صيحة واحدة، فإذا الناس خارجون من قبورهم ينسلون.. أردف ذلك ببيان ما أعده للمحسن والمسيء في هذا اليوم، من ثواب وعقاب، ليكون في ذلك ترغيب في صالح الأعمال، وترهيب من فعل الفجور، واجتراح السيئات.
قوله تعالى: ﴿وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر ما للمحسنين من نعيم، واجتماع بالمحبين والإخوان والأزواج في الجنات.. أعقبه بذكر حال المجرمين، وأنهم في ذلك اليوم يطلب منهم التفرق، وابتعاد بعضهم من بعض. فيكون لهم عذابان: عذاب النار، وعذاب الوحدة. ولا عذاب فوق هذا.
ثم أردف هذا، بأنه قد كان لهم مندوحة من كل هذا، بما أرسل إليهم من الرسل، الذين بلّغوهم أوامر ربهم ونواهيه. ومنها: نهيهم عن اتباع خطوات الشيطان، وعن اتباعه فيما يوسوس به. ثم ذكر: أنه كان لهم فيمن قبلهم من العظات، ما فيه مزدجر لهم لو تذكروا، لكنهم اتبعوا وساوسه، فحل بهم من النكال والوبال ما رأوا آثاره بأعينهم في الدنيا. وفيه دليل على ما سيكون لهم في العقبى. ثم ذكر مآل أمرهم، وأنهم سيصلون نار جهنم، خالدين فيها أبدًا بما اكتسبت أيديهم. وهم في هذا اليوم، لا ينطقون ببنت شفة، ولا تقبل منهم معذرة، بل تتكلم أيديهم بما عملت، وتشهد أرجلهم بما اكتسبت. ثم ذكر: أنه رحمة منه بعباده، لم يشأ أن يعاقبهم في الدنيا شديد العقوبات، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم حتى لو أرادوا الاستباق، وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه، ما قدروا ولا أبصروا، ولم يشأ أن يمسخ صورهم، ويجعلهم كالقردة والخنازير، حتى لو أرادوا الذهاب إلى مقاصدهم ما استطاعوا، ولو أرادوا الرجوع ما قدروا. ثم دفع معذرة أخرى ربما احتجوا بها. وهي أن ما عمروه قليل، ولو طال عمرهم لأحسنوا العمل، واهتدوا إلى الحق. فرد ذلك عليهم بأنهم كلما عمروا في السن ضعفوا عن العمل، وقد عمروا مقدار ما يتمكنون به من البحث والإدراك، كما قال: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾، ولكن ذلك ما
68
كفاهم. فهم مهما طالت أعمارهم لا يجديهم ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ...﴾ الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه، لما ذكر أمر الوحدانية في قوله: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)﴾، وذكر أمر البعث في قوله: ﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ﴾.. ذكر هنا الأصل الثالث، وهو الرسالة في هاتين الآيتين.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما (١) ذكر الأدلة على الأصول الثلاثة الوحدانية، والحشر، والرسالة.. أعاد الكلام في الوحدانية، وذكر بعض دلائلها.
قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر أنهم كفروا بأنعم الله عليهم، وأنكروها.. أردف ذلك ببيان أنهم زادوا في ضلالهم، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع، وتوقعوا منه النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم، كما قال تعالى حاكيًا عنهم: ﴿قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾. وفي الحقيقة أنها لا هي ناصرة ولا منصورة.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)...﴾ إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف الدلائل على عظيم قدرته، ووجوب عبادته، وبطلان إشراكهم به، بعد أن عاينوا فيما بين أيديهم، ما يوجب التوحيد والإقرار بالبعث.. أردف ذلك ذكر حجة من أنفسهم، دالة على قدرته تعالى، ومبطلة لإنكارهم له. ثم ذكر أن بعض خلقه استبعدوا البعث، ونسوا بدء أمرهم وكيف خلقوا، وقالوا: كيف ترجع الحياة إلى هذه العظام النخرة. فأجابهم عن شبهتهم: بأن الذي أنشأها أول مرة من العدم، هو الذي يحييها، وهو العليم بتفاصيل أجزائها، مهما وزّعت وتفرّقت. ثم ذكر لهم دليلًا آخر يرفع هذا الاستبعاد، وهو: أن من قدر على
(١) المراغي.
69
إحداث النار من الشجر الأخضر، مع ما فيه من الماء.. قادر على إعادة الحياة إلى ما كان غضا طريا، ثم يبس وبلي، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان، وفيه الدليل على قدرته، وهو خلق السموات والأرض، ثم أعقب ذلك بما هو كالنتيجة لما سلف، وفيه بطلان لإنكارهم. فأبان أن كل شيء هين عليه، فما هو إلا بقول: ﴿كُنْ﴾ ﴿فَيَكُونُ﴾. تنزه ربنا ذو الملك والملكوت عن كل ما يقول المشركون. فإليه يرجع جميع الخلق للحساب والجزاء.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآيات: ما أخرجه مجاهد، وعكرمة، وعروة بن الزبير، وقتادة أن أبي بن خلف، جاء إلى رسول الله - ﷺ - في يده عظم رميم، وهو يفتّته بيده ويذروه في الهواء، ويقول: أتزعم يا محمد، أن الله يبعث هذا؟ قال - ﷺ -: «نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار». ثم نزلت هذه الآيات من سورة يس: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ...﴾ إلى آخرهن.
التفسير وأوجه القراءة
٥٥ - ولما ذكر الله سبحانه حال الكافرين.. أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين، وجعله من جملة ما يقال للكفار يومئذ، ويخاطبون به زيادة لحسرتهم، وتكميلًا لجزعهم، وتتميما لما نزل بهم من البلاء، وما شاهدوه من الشقاء. فإذا رأوا ما أعده الله لهم من أنواع العذاب، وما أعده لأوليائه من أنواع النعيم.. بلغ ذلك من قلوبهم مبلغًا عظيمًا، وزاد في ضيق صدورهم زيادة لا يقادر قدرها، فقال: ﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ﴾؛ أي: يوم القيامة مستقرون ﴿فِي شُغُلٍ﴾ عظيم الشأن، خبر أول لـ ﴿إِنَّ﴾، والمراد بالشغل هنا: الشأن الذي يصد المرء عما سواه من شؤونه، لإيجابه كمال المسرة والبهجة؛ أي: لكائنون في شغل عظيم بما هم فيه من اللذات، التي هي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، عن الاهتمام بأمر الكفار، ومصيرهم إلى النار، وإن كانوا من أقربائهم.
70
وقوله: ﴿فاكِهُونَ﴾ خبر ثان لـ ﴿تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: متنعمون بنعيم مقيم، فائزون بملك كبير دائم. ويجوز أن يكون ﴿إِنَّ﴾ هو الخبر، ﴿وفِي شُغُلٍ﴾ متعلق به، في محل النصب على الحال؛ أي: متلذذون في شغل، فشغلهم شغل التلذذ لا شغل فيه تعب كشغل أهل الدنيا.
والتعبير عن حالهم هذه، بالجملة الاسمية قبل تحققها، تنزيل للمترقب المتوقع منزلة الواقع، للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها، وزيادة مساءة المخاطبين بذلك. وهم الكفار. والأولى عدم تخصيص الشغل بشيء معين. ثم إن الشغل فسّر على وجوه بحسب اقتضاء مقام البيان ذلك، منها افتضاض الأبكار. وفي الحديث: «إن الرجل ليعطى قوة مئة رجل، في الأكل والشرب والجماع»، فقال رجل من أهل الكتاب: إن الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة، فقال النبي - ﷺ -: «يفيض من جسد أحدهم، عرق مثل المسك الأذفر، فيضمر بذلك بطنه». وفي الحديث: «إن أحدهم ليفتض في الغداة الواحدة مئة عذراء». قال عكرمة: فتكون الشهوة في أخراهن كالشهوة في أولاهن، وكلما افتضها رجعت على حالها عذراء، ولا تجد وجع الافتضاض أصلًا كما في الدنيا. وجاء رجل فقال: يا رسول الله، أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي إليهن في الدنيا؟ قال: «والذي نفسي بيده، إن المؤمن ليفضي في اليوم الواحد، إلى ألف عذراء».
وفي «الفتوحات المكية»: ولذة الجماع هناك، تضاعف على لذة جماع أهل الدنيا أضعافًا مضاعفةً، فيجد كل من الرجل والمرأة لذة لا يقدر قدرها، لو وجداها في الدنيا غشي عليهما من شدة حلاوتها، لكن تلك اللذة إنما تكون بخروج ريح إذ لا مني هناك كالدنيا، كما صرحت به الأحاديث، فيخرج من كل من الزوجين ريح، كرائحة المسك، وليس لأهل الجنة أدبار مطلقًا، لأن الدبر إنما خلق في الدنيا مخرجًا للغائط ولا غائط هناك. ولولا أن ذكر الرجل أو فرج المرأة يحتاج إليه في جماعهم، لما كان وجد في الجنة فرج لعدم البول فيها. ونعيم أهل الجنة، والراحة فيها مطلقة إلا راحة النوم، فليس عندهم من نعيم راحته شيء؛ لأنهم لا ينامون.
71
ومنها: سماع الأصوات الطيبة، والنغمات اللذيذة. ثم إنه ليس في الجنة سماع المزامير والأوتار، بل سماع القرآن، وسماع أصوات الأبكار المغنية، والأوراق، والأشجار، ونحو ذلك. وروي: أن في الجنة أشجارًا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع، يهب الله ريحًا من تحت العرش، فتقع في تلك الأشجار، فتحرك تلك الأجراس بأصوات، لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربًا.
ومنها: التزاور، وفي الحديث: «إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة، في رحال الكافور، وأقربهم منه مجلسًا، أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوا». وروي: «أنهم إذا نظروا إلى الله، نسوا نعيم الجنة».
ومنها: شغلهم عما فيه أهل النار على الإطلاق، وشغلهم عن أهاليهم في النار لا يهمهم، ولا يبالون بهم، ولا يذكرونهم كي لا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم. وقيل: ضيافة الله، وأفرد الشغل ملحوظًا فيه النعيم. وهو واحد من حيث هو نعيم، ذكره أبو حيان.
والظاهر (١): أن المراد بالشغل ما هم فيه من فنون الملاذ، التي تلهيهم عما عداها بالكلية؛ أي: شغل كان كما مر. وفي الآية إشارة إلى أن أهل النار، لا نعيم لهم من الطعام، والشراب، والنكاح، وغيرها. وفي «تذكرة القرطبي»: أن بعض العصاة، ينامون في النار إلى وقت خروجهم منها، ويكون عذابهم نفس دخولهم في النار. فإنه عار عظيم وذل كبير، ألا ترى: أن من حبس في السجن، كان هو عذابًا له بالنسبة إلى مرتبته، وإن لم يعذب بالضرب والقيد ونحوهما. ثم إنا نقول: والعلم عند الله؛ لأنه ليس له مستند، ولا أصل أثر فيه.
وقرأ الكوفيون، وابن عامر (٢): ﴿شُغُلٍ﴾ بضمتين. وقرأ الحرميان: ابن كثير ونافع، وأبو عمرو: بضم الشين وسكون الغين. وهما لغتان، كما قال الفرّاء. وقرأ مجاهد، وأبو السمّال، وابن هبيرة، فيما نقل ابن خالويه عنه: بفتحتين.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
72
وقرأ يزيد النحوي، وابن هبيرة فيما نقل أبو الفضل الرازي: بفتح الشين وإسكان الغين. وقرأ الجمهور (١): ﴿فاكِهُونَ﴾ بالألف بالرفع على أنه خبر ﴿إِنَّ﴾. وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وأبو حيوة، وأبو رجاء، وشيبة، وقتادة، ومجاهد، ويحيى بن صبيح، ونافع في رواية: بغير ألف. قال الفراء: هما لغتان كالفاره والفره، والحاذر والحذر. وقال الكسائي، وأبو عبيدة: الفاكه ذو الفاكهة مثل: تامر ولابن، والفكه المتفكه والمتنعم. وقال قتادة: الفكهون: المعجبون. وقال أبو زيد: يقال: رجل فكه إذا كان طيب النفس ضحوكًا. وقال مجاهد، والضحاك كما قال قتادة. وقال السدي: كما قال الكسائي. وفي «البحر»: ﴿فاكِهُونَ﴾ بغير ألف، معناه: فرحون طربون، انتهى. وقرأ طلحة، والأعمش: فاكهين بالألف وبالياء، نصبا على الحال، و ﴿فِي شُغُلٍ﴾ هو الخبر. وقرىء فكهين بغير ألف وبالياء. وقرىء فكهون بضم الكاف يقال: رجل فكه وفكه.
ومعنى الآية: أي إن من يدخل الجنة يتمتع بنعيمها ولذاتها، ويكون بذلك في شغل عما سواه، إذ يرى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فأنى له أن يفكر فيما سواه؟. وهو بذلك، فرح مستبشر، ضحوك السن هادىء النفس، لا يرى شيئًا يغمه، أو ينغص عليه حبوره وسروره.
٥٦ - ثم ذكر ما يكمل به تفكههم، ويزيد في سرورهم فقال: ﴿هُمْ...﴾ الخ، استئناف، مسوق لبيان كيفية شغلهم، وتفكههم، وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسرورًا من شركة أزواجهم لهم، فيما هم فيه من الشغل والفكاهة. و ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، والضمير لأصحاب الجنة. ﴿وَأَزْواجُهُمْ﴾ عطف عليه. والمراد: نساؤهم اللاتي كن لهم في الدنيا، أو الحور العين أو أخلاؤهم، كما في قوله تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ﴾. ويجوز أن يكون الكل مرادًا.
فقوله: ﴿وَأَزْواجُهُمْ﴾ إشارة (٢) إلى عدم الوحشة؛ لأن المنفرد يتوحش إذا لم يكن له جليس من معارفه، وإن كان في أقصى المراتب. والجاران في قوله: {فِي
(١) البحر المحيط والشوكاني.
(٢) روح البيان.
73
ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ} متعلق بقوله: ﴿مُتَّكِؤُنَ﴾ وهو خبر المبتدأ قُدّما عليه لرعاية الفواصل. ويجوز أن يكون ﴿فِي ظِلالٍ﴾ خبرًا، ومتكئون على الأرائك خبرًا ثانيًا. والظلال: جمع ظل أو ظلة، وهو الستر الذي يسترك من الشمس. والأرائك: السرر في الحجال، كما سيأتي بسطه. والاتكاء: الاعتماد على الشيء؛ أي: معتمدون في ظلال على السرر في الحجال. والاتكاء على السرر دليل التنعيم والفراغ.
فإن قلت: كيف يكون أهل الجنة في ظلال، والظل إنما يكون حيث تكون الشمس، وهم لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا؟.
قلت: المراد بالظل هناك: ظل أشجار الجنة من نور العرش، لئلا يبهر أبصار أهل الجنة. فإنه أعظم وأقوى من نور الشمس، وقيل: من نور قناديل العرش. كذا في حواشي ابن الشيخ.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فِي ظِلالٍ﴾ بكسر الظاء وبالألف، جمع ظل كذئب، وذئاب. وقرأ ابن مسعود، وعبيد بن عمير، والأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي، وخلف: ﴿في ظلل﴾ بضم الظاء من غير ألف، جمع ظلة. وعلى القراءتين فالمراد: الفرش والستور، التي تظلل كالخيام والحجال. وقرأ عبد الله ﴿متكئين﴾ بالنصب على الحال.
ومعنى الآية (٢): أي هم وأزواجهم في ظل لا يضحون لشمس، لأنه لا شمس فيها. وألذ شيء لدى العربي أن يرى مكانًا فيه ظل ظليل وأنهار جارية، وأشجار مورقة وهم فيها متكئون على السرر التي عليها الحجال (الناموسيات). وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من لذة، لدى من نزل عليه التنزيل.
وقال الإمام في سورة النساء: إن بلاد العرب كانت في غاية الحرارة، فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة. وهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة. قال النبي - ﷺ -: «السلطان ظل الله في الأرض».
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
74
٥٧ - وبعد أن ذكر ما لهم فيها من مجالس الأنس، ذكر ما يتمتعون به من مآكل، ومشارب، ولذات جسمانية وروحية. فقال: ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لأصحاب الجنة ﴿فِيها﴾؛ أي: في الجنة ﴿فاكِهَةٌ﴾ كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه. وهذه (١) الجملة، مسوقة لبيان ما يتمتعون به في الجنة، من المآكل والمشارب، ويتلذذون به من الملاذ الجسمانية والروحية، بعد بيان ما لهم فيها من مجالس الأنس، ومحافل القدس تكميلًا لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة. والفاكهة: الثمار كلها. والمعنى: لهم في الجنة غاية مناهم فاكهة كثيرة، من كل نوع من أنواع الفواكه، عظيمة لا توصف جمالًا وبهجة، وكمالًا ولذةً، كما روي: أن الرمانة منها تشبع السكن، وهو أهل الدار. والتفاحة تنفتق عن حوراء عيناء. وكل ما هو من نعيم الجنة، فإنما يشارك نعيم الدنيا في الاسم دون الصفة. وفيه إشارة إلى أن لا جوع في الجنة؛ لأن التفكه لا يكون لدفع ألم الجوع.
وجملة قوله: ﴿وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ﴾؛ أي: يطلبون. معطوفة على الجملة السابقة، وعدم الاكتفاء بعطف ﴿ما يَدَّعُونَ﴾ على ﴿فاكِهَةٌ﴾ لئلا يتوهم كون ﴿ما﴾ عبارة عن توابع الفاكهة وتتماتها. و ﴿ما﴾ عبارة عن مدعو عظيم الشأن، معين، أو مبهم. و ﴿يَدَّعُونَ﴾ أصله: يدتعيون على وزن يفتعلون، من الدعاء بمعنى الإتيان بالدعوى، لا من الادعاء بمعنى التمني، كما سيأتي.
والمعنى: ولهم ما يدعون الله سبحانه به، لأنفسهم من مدعو عظيم الشأن، أو كل ما يدعون به كائنًا ما كان، من أسباب البهجة وموجبات السرور. قال ابن الشيخ؛ أي: ما يصح أن يطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب، كما قال الإمام: ليس معناه: أنهم يدعون لأنفسهم شيئًا، فيستجاب لهم بعد الطلب بل معناه: لهم ذلك، فلا حاجة إلى الدعاء، كما إذا سألك أحد شيئًا، فقلت: لك ذلك، وإن لم تطلبه. ويجيء الادعاء بمعنى: التمني من قولهم: ادع علي ما شئت، بمعنى: تمنه علي. فالمعنى عليه: ولهم ما يتمنونه. وقرىء (٢) ﴿يدعون﴾ بالتخفيف،
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
وم ﴿عناها واض﴾ ح.
ومعنى الآية: أي لهم في ﴿ها من الفواكه ما لذ وطاب، مما تقربه أعينهم وتسر به نفوسهم، كما هو شأن المترفين المنعمين في الدنيا. ولهم فوق ذلك كل ما يتمنون، وتشتاق﴾ إليه نفوسهم.
٥٨ - ثم فسر ذلك الذي يدعون بقوله: ﴿سَلامٌ﴾ بدل من ﴿ما يَدَّعُونَ﴾ كأنه قيل: ولهم سلام وتحية. يقال لهم: ﴿قَوْلًا﴾ كائنًا ﴿مِنْ﴾ جهة ﴿رَبٍّ رَحِيمٍ﴾؛ أي (١): يسلم عليهم من جهته تعالى، بواسطة الملك أو بدونها، مبالغة في تعظيمهم. فـ ﴿قَوْلًا﴾ مصدر مؤكد لفعل هو صفة لـ ﴿سَلامٌ﴾، وما بعده من الجار متعلق بمضمر هو صفة له. والأوجه: أن ينتصب ﴿قَوْلًا﴾ على الاختصاص؛ أي: بتقدير أعني، فإن المقام مقام المدح، من حيث إن هذا القول صادر من رب رحيم، فكان جديرا بأن يعظم أمره.
والمعنى: أي ذلك الذي يتمنونه هو التسليم من الله عليهم تعظيمًا لهم. وهذا السلام يكون بوساطة الملائكة، كما قال سبحانه: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾، أو بدونها، مبالغة في تعظيمهم وفي الحديث: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)﴾، فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم، ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» رواه البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.
والسلام أمان من كل مكروه، ونيل لكل محبوب. وذلك منتهى درجات النعيم الروحي والجسماني، الذي تصبو إليه النفوس في دنياها وآخرتها. فكأن هذا إجمال لما تقدم من اللذات، التي فصلت فيما سلف.
وفي «التأويلات النجمية»: يشير إلى أن سلامه - تبارك وتعالى - كان قولًا
(١) روح البيان.
منه بلا واسطة، وأكده بقوله: ﴿رَبٍّ﴾ ليعلم أنه ليس بسلام على لسان سفير، وقوله: ﴿رَحِيمٍ﴾. فالرحمة في تلك الحالة، أن يرزقهم الرؤية حال ما يسلم عليهم، ليكمل لهم النعمة.
وفي «حقائق البقلي»: سلام الله أزلي إلى الأبد، غير منقطع عن عباده الصادقين في الدنيا والآخرة، لكن في الجنة يرفع عن آذانهم جميع الحجب، فيسمعون سلامه، وينظرون إلى وجهه كفاحًا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿سَلامٌ﴾ بالرفع على أنه بدل من ﴿ما﴾ وخبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو سلام، كما سيأتي في مبحثه. وقرأ أبي، وعبد الله، وعيسى والقنوي ﴿سلامًا﴾ بالنصب على المصدر. وقال الزمخشري: نصب على الحال؛ أي: لهم مرادهم خالصًا. وقرأ محمد بن كعب القرظي (سِلْم) بكسر السين وسكون اللام، ومعناه: سلام. وقال أبو الفضل الرازي: مسالم لهم؛ أي: ذلك مسالم.
٥٩ - ﴿وَامْتازُوا﴾؛ أي: اعتزلوا، وانفردوا، وتميزوا ﴿الْيَوْمَ﴾؛ أي: في هذا اليوم. وهو يوم القيامة، والفصل والجزاء من المؤمنين الصالحين. وكونوا على حدة ﴿أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾؛ أي: أيها المشركون؛ أي (٢): ويقال للمشركين: انفردوا اليوم أيها المجرمون عن المؤمنين، حين يسار بهم إلى الجنة. إذ لا دواء لألمكم، ولا شفاء لسقمكم.
وقال داود بن الجراح: يمتاز المسلمون من المجرمين، إلا أصحاب الأهواء، فإنهم يكونون مع المجرمين. وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة.
وقيل: إن لكل كافر في النار بيتًا، فيدخل ذلك البيت، ويردم بابه، فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى. وهو على خلاف ما للمؤمن من الاجتماع
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
بالإخوان، وعذاب الفرقة عن القرناء، والأصحاب من أسوأ العذاب وأشد العقاب، قاله قتادة. فعلى هذا القول يمتاز بعضهم عن بعض. ودل التعبير (١) بالامتياز، على أنه حين يحشر الناس يختلط المؤمن والكافر، والمخلص والمنافق. ثم يمتاز أحد الفريقين عن الآخر، كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤)﴾. وهو عطف قصة سوء حال هؤلاء وكيفية عقابهم على قصة حسن أولئك ووصف ثوابهم. وكان تغيير الأسلوب لتخييل كمال التباين بين الفريقين، وحاليهما. ويجوز أن يكون معطوفًا على مضمر، ينساق إليه حكاية حال أهل الجنة، كأنه قيل بعد بيان كونهم في شغل عظيم الشأن، وفوزهم بنعيم مقيم، يقصر عنه البيان، فليقروا بذلك عينا، وامتازوا عنهم اليوم أيها المجرمون إلى مصيركم، فكونوا في السعير، وفنون عذابها ولهبها بدل الجنة لهم، وألوان نعمها وطربها.
والمعنى (٢): فارقوا المؤمنين أيها المجرمون، وادخلوا مساكنكم من النار. فلم يبق لكم اجتماع بالمؤمنين أبدًا. ونحو الآية قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤)﴾، وقوله: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣)﴾.
٦٠ - ولما أمروا بالامتياز، وشخصت منهم الأبصار، وكلحت الوجوه، وتنكست الرؤوس، قال سبحانه موبخًا لهم: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾؛ أي: ألم أوصكم ﴿يا بَنِي آدَمَ﴾ بما نصبت من الأدلة، ومنحت من العقول، وبعثت من الرسل، وأنزلت من الكتب، بيانًا للطريق الموصل إلى النجاة بـ ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾؛ أي: بأن تتركوا طاعة الشيطان، فيما يوسوس به إليكم من معصيتي، ومخالفة أمري. وهذا من جملة (٣) ما يقال لهم يوم القيامة، بطريق التقريع والتوبيخ، والإلزام والتبكيت،
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
78
بين الأمر بالامتياز، وبين الأمر بدخول جهنم بقوله تعالى: ﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ﴾ الخ. والعهد: الوصية، والتقديم بأمر فيه خير ومنفعة. والمراد هاهنا: ما كلفهم الله تعالى به، على ألسنة الرسل، من الأوامر والنواهي، التي من جملتها، قوله تعالى: ﴿يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، وغيرها من الآيات الكريمة، الواردة في هذا المعنى. والمراد ببني آدم: المجرمون. وقيل: المراد بالعهد: الميثاق المأخوذ عليهم، حين أخرجوا من ظهر أخرجوا من ظهر آدم عليه السلام.
و ﴿أَنْ﴾ في قوله: ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾ إما مفسرة للعهد (١)، الذي فيه معنى القول بالأمر والنهي، أو مصدرية حذف منها الجار؛ أي: ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان. والمراد بعبادة الشيطان. عبادة غير الله؛ لأن الشيطان لا يعبده أحد، ولم يرد عن أحد أنه عبد الشيطان، إلا أنه عبر عن عبادة غير الله بعبادة الشيطان، لوقوعها بأمر الشيطان، وتزيينه، والانقياد فيما سوله، ودعا إليه بوسوسته. فسمي إطاعة الشيطان، والانقياد له عبادة له، تشبيهًا لها بالعبادة، من حيث إن كل واحد منهما ينبىء عن التعظيم والإجلال، ولزيادة التحذير والتنفير عنها، ولوقوعها في مقابلة عبادته تعالى، قال ابن عباس: من أطاع شيئًا فقد عبده. دل عليه قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ﴾.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَعْهَدْ﴾ بفتح الهمزة والهاء. وقرأ طلحة، والهذيل بن شرحبيل الكوفي بكسر الهمزة، قاله «صاحب اللوامح»، وقال: لغة تميم، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين حروف المضارعة، يعني: نعهد وتعهد. وقال ابن عطية: وقرأ الهذيل بن وثاب ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ﴾ بكسر الميم والهمزة، وفتح الهاء. وهي على لغة من كسر أول المضارع، سوى الياء. وروي عن ابن وثاب ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ﴾ بكسر الهاء، يقال: عهد يعهد، انتهى.
ثم علل النهي عن عبادة الشيطان، وقبول وسوسته بقوله: ﴿أَنَّهُ﴾؛ أي:
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
79
لأن الشيطان ﴿لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾؛ أي: عدو ظاهر العداوة لكم، يريد أن يصدكم عما جبلتم عليه من الفطرة، وكلفتم به من الخدمة. ووجه عداوة إبليس لبني آدم: أنه تعالى، لما أكرم آدم عليه السلام.. عاداه إبليس حسدًا. والعاقل لا يقبل من عدوه، وإن كان ما يلقيه إليه خيرًا إذ لا أمن من مكره. فإن ضربة الناصح، خير من تحية العدو.
قال بعضهم (١): اعلم أن عداوة إبليس لبني آدم، أشد من معاداته لأبيهم آدم عليه السلام. وذلك أن بني آدم، خلقوا من ماء والماء منافر للنار، وأما آدم فجمع بينه وبين إبليس اليبس الذي في التراب، فبين التراب والنار جامع، ولهذا صدّقه، لما أقسم له بالله أنه لناصح، وما صدقه الأبناء، لكونه لهم ضدا من جميع الوجوه. فبهذا كانت عداوة الأبناء، أشد من عداوة الأب. ولما كان العدو محجوبا عن إدراك الأبصار، جعل الله لنا علامات في القلب، من طريق الشرع، نعرفه بها، تقوم لنا مقام البصر، فنتحفظ بتلك العلامة من إلقائه ووسوسته، وإعانة الله لنا عليه بكلمة الاستعاذة.
وفي «التأويلات النجمية»: في الآية (٢) إشارة إلى كمال رأفته تعالى، وغاية مكرمته في حق بني آدم. إذ يعاتبهم معاتبة الحبيب للحبيب، ومناصحة الصديق للصديق، وأنه تعالى يكرمهم ويجلهم عن أن يعبدوا الشيطان لكمال رتبتهم، واختصاص قربتهم بالحضرة، وغاية ذلة الشيطان، وطرده ولعنه من الحضرة. وسماه عدوًا لهم وله، وسمى بني آدم الأولياء والأحباب. وخاطب المجرمين منهم كالمعتذر الناصح لهم بقوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ ألم أنصح لكم، ألم أخبركم عن خيانة الشيطان وعداوته لكم، وأنكم أعز من أن تعبدوا مثله ملعونًا مهينًا.
٦١ - ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ وحدي، وأطيعوني فيما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه؛ لأن مثلكم يستحق لعبادة مثلي، فإني أنا العزيز الغفور، وإني خلقتكم
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
لعبادتي، وخلقت المخلوقات لمنافعكم، وعززتكم وأكرمتكم، بأن أسجدت لكم ملائكتي المقربين، وعبادي المكرمين، وهو عطف على ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا﴾ و ﴿أَنْ﴾ فيه كما هي فيه؛ أي: وحدوني بالعبادة، ولا تشركوا بها أحدًا. وتقديم النهي على الأمر، لما أن حق التخلية التقدم على التحلية، وليتصل به قوله تعالى: ﴿هَذَا﴾ التوحيد الذي أمرتكم به. فإنه إشارة إلى عبادته تعالى، التي هي عبارة عن التوحيد والإسلام. ﴿صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾؛ أي: قويم لا اعوجاج فيه، موصل إلى النجاة والجنة، لكنكم سلكتم غيره، فوقعتم في مزالق الضلال، وترديتم في مهاوي الردى. والتنكير فيه للتفخيم، كما سيأتي. وفي قوله: ﴿هَذَا صِرَاطٌ﴾ إشارة إلى أن الإنسان مار في الدنيا لا مقيم فيها.
٦٢ - وبعد أن نبههم إلى أنهم نقضوا العهد، وبّخهم على عدم اتعاظهم بغيرهم، ممن أوقعهم الشيطان في المهالك، وكانت عاقبتهم، ما يرون من سوء المتقلب في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ﴾ جواب قسم محذوف، والخطاب لبني آدم. وفي «الإرشاد»: الجملة مستأنفة، مسوقة لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع، ببيان أن جناياتهم ليست بنقض العهد فقط، بل بعدم الاتعاظ بما شاهدوا من العقوبات، النازلة على الأمم الخالية، بسبب طاعتهم للشيطان. والخطاب لمتأخريهم الذين من جملتهم كفار مكة، خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم.
أي: وعزتي وجلالي لقد صد الشيطان منكم يا بني آدم ﴿جِبِلًّا كَثِيرًا﴾؛ أي: خلقًا كثيرًا عن طاعتي، وإفرادي بالألوهية، فاتخذوا من دوني آلهة يعبدونها. وقرأ نافع، وعاصم (١): ﴿جِبِلًّا﴾ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام. وهي قراءة أبي حيوة، وسهيل، وأبي جعفر، وشيبة، وأبي رجاء، والحسن بخلاف عنه. وقرأ العربيان - أبو عمرو وابن عامر - والهذيل بن شرحبيل: بضم الجيم وإسكان الباء. وباقي السبعة: بضمها وتخفيف اللام. والحسن بن أبي
(١) البحر المحيط.
81
إسحاق، والزهري، وابن هرمز، وعبد الله بن عبيد بن عمير، وحفص بن حميد بضمتين وتشديد. والأشهب العقيلي، واليماني وحماد بن مسلمة عن عاصم: بكسر الجيم وسكون الباء. والأعمش ﴿جِبِلًّا﴾ بكسرتين وتخفيف اللام. وقرىء ﴿جِبِلًّا﴾ بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام، جمع جبلة نحو: فطرة وفطر. فهذه سبع لغات قرىء بها. وأبينها القراءة الأولى، والدليل على ذلك، أنهم قد قرؤوا جميعًا ﴿وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ﴾ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، فيكون جبلًا جمع جبلة، واشتقاق الكل من جبل الله الخلق؛ أي: خلقهم. وقرأ علي بن أبي طالب، وبعض الخراسانيين: ﴿جيلًا﴾ بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف، واحد الأجيال. والجبل بالباء الموحدة: الأمة العظيمة، وقال الضحاك: أقله عشرة آلاف. ولما تصور (١) من الجبل العظم، قيل للجماعة العظيمة، جبل تشبيها لها بالجبل في العظم. وإسناد الإضلال إلى الشيطان مجاز عقلي، علاقته السببية.
والمعنى: والله لقد أضل الشيطان منكم خلقًا كثيرًا، يعني: صار سببًا لضلالهم عن ذلك الصراط المستقيم، الذي أمرتكم بالثبات عليه. فأصابهم لأجل ذلك، ما أصابهم من العقوبات الهائلة، التي ملأت الآفاق أخبارها، وبقيت مدى الدهر آثارها.
وقال بعضهم: وكيف تعبدون الشيطان، وتنقادون لأمره، مع أنه قد أضل منكم يا بني آدم، جماعة متعددة من بني نوعكم، فانحرفوا بإضلاله عن سواء السبيل، فحرموا من الجنة الموعودة لهم.
فائدة (٢): واعلم: أنه إذا جاءك شخص، يأمرك بشيء.. فانظر، إما أن يكون ذلك موافقًا لأمر الله أو لا، فإن لم يكن موافقًا له فذلك الشخص معه الشيطان يأمرك بما يأمرك به. فإن أطعته فقد عبدت الشيطان. وإن دعتك نفسك إلى فعل شيء، فانظر أهو مأذون فيه من جهة الشرع أولًا، فإن لم يكن مأذونًا فيه، فنفسك هي الشيطان، أو معها الشيطان يدعوك، فإن اتبعته فقد عبدته. ثم إن
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
82
الشيطان يأمر أولًا بمخالفة الله ظاهرًا، فمن أطاعه فقد عبده، ومن لم يطعه فيقول له: اعبد الله كي لا تهان، وليرتفع شأنك عند الناس، وينتفع بك إخوانك. فإن أجاب إليه فقد عبده.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا﴾ للاستفهام التوبيخي (١)، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم، فلم تكونوا تعقلون، أنها لضلالهم وطاعتهم إبليس، أو فلم تكونوا تعقلون شيئًا أصلا، حتى ترتدعوا عما كانوا عليه، كيلا يحيق بكم العقاب. وقرأ الجمهور: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ بتاء الخطاب. وقرأ طلحة، وعيسى بياء الغيبة عائدًا على جبل. وفي «كشف الأسرار»: هو استفهام تقريع على تركهم الانتفاع بالعقل، مع أنه نور يستضاء به.
ثم اعلم (٢): أن الجاهل الأحمق، والضال المطلق في يد الشيطان، يقوده حيث يشاء، ولو علم حقيقة الحال، وعقل أن الله الملك المتعال، واهتدى إلى طريق التوحيد، الطاعة، ولحفظه الله من تلك الساعة. فإن التوحيد حصنه الحصين، ومن دخل فيه أمن من مكر العدو المهين، ومن خرج عنه طالبا للنجاة، أدركه الهلاك ومات في يد الآفات، ومن أهمل نفسه فلم يتحرك لشيء، كان كمجنون لا يعرف شمسًا من فيء. فنسأل الله الاشتغال بطاعته واستيعاب الأوقات بعبادته، وطرد الشيطان بأنوار الخدمة وقهر النفس بأنواع الهمة.
٦٣ - وبعد أن أنبوا ووبخوا بما سلف، خوطبوا بما يزيدهم حسرةً وألمًا، فقيل لهم من جهة الملائكة: ﴿هذِهِ﴾ النار المسعرة هي ﴿جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تُوعَدُونَ﴾ بها على ألسنة الرسل والمبلغين عنهم. إذ أنتم اتبعتم وساوس الشيطان، وعصيتم الرحمن، وعبدتم من دونه الأصنام والأوثان، واجترحتم الفسوق والعصيان.
٦٤ - ثم أمرهم أمر إهانة، وتحقير لهم، بقوله: ﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ﴾؛ أي: ادخلوا في
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
هذا اليوم، الحاضر نار جهنم، وقاسوا حرها وفنون عذابها ﴿بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾؛ أي: بسبب كفركم المستمر في الدنيا، وجحودكم بها، وتكذيبكم إياها، بعد أن نبهتم فلم تتنبهوا، وأوقظتم فلم تستيقظوا. وفي ذكر اليوم، ما يوجب شدة ندامتهم وحسرتهم. يعني: أن أيام لذاتكم قد مضت، ومن هذا الوقت واليوم وقت عذابكم.
وخلاصة ذلك (١): أنه قد ذكر ما يوجب الحزن والأسى من وجوه ثلاثة:
١ - أنه أمرهم أمر تنكيل وإهانة بقوله: ﴿اصْلَوْهَا﴾ نحو قوله لفرعون: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)﴾.
٢ - أنه ذكر لفظ اليوم، الذي يدل على أن العذاب حاضر، وأن لذاتهم قد مضت، وبقي العذاب اليوم.
٣ - أن قوله: ﴿بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ يومىء إلى أن هناك نعمة، قد كانت، فكفروا بها، وحياء الكفور من المنعم أشد ألمًا، وأعظم مضاضةً، كما قيل:
أَلَيْسَ بِكَافٍ لذِيْ همَّةٍ حياءُ الْمُسِيْءِ مِنَ الْمُحَسِنِ
٦٥ - ثم بين أنهم في هذا اليوم، لا يستطيعون دفاعًا عن أنفسهم، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم. فقال: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ﴾؛ أي: ففي هذا اليوم يعني: يوم القيامة نمنع أفواههم من النطق، ونفعل بها ما لا يمكنهم معه أن يتكلموا، فتصير أفواههم كأنها مختومة، فتعترف جوارحهم بما صدر منها من الذنوب، كما قال: ﴿وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ﴾ باستنطاقنا ﴿بِما كانُوا﴾ في الدنيا ﴿يَكْسِبُونَ﴾ من الذنوب والمعاصي والمراد (٢): جميع الجوارح، لا أن كل عضو يعترف بما صدر منه فقط. قال بعضهم: لما قيل لهم: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾ جحدوا، وقالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، وما عبدنا من دونك من شيء، وما أطعنا الشيطان في شيء من المنكرات. فيُختم على أفواههم وتعترف جوارحهم بمعاصيهم.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
84
والختم لازم للكفار أبدًا. أما في الدنيا فعلى قلوبهم، كما قال تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾، وأما في الآخرة، فعلى أفواههم، في الوقت الذي كان الختم على قلوبهم، كان قولهم بأفواههم كما قال تعالى: ﴿ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ﴾ فلما خُتم على أفواههم أيضًا، لزم أن يكون قولهم بأعضائهم لأن الإنسان لا يملك غير القلب واللسان والأعضاء، فإذا لم يبق القلب واللسان تعين الجوارح والأركان. وفي الكلام، التفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم.
وقرىء (١) ﴿اليوم يُختم على قلوبهم﴾ مبنيًا للمفعول، والنائب الجار والمجرور بعده. وقُرىء ﴿وتتكلم أيديهم﴾ بتاءين. وقرأ الجمهور ﴿تكلمنا﴾ و ﴿تشهد﴾. وقرأ طلحة بن مصرف ﴿ولِتكلمنا ولِتشهد﴾ بلام كي. وقُرىء ﴿ولْتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم﴾ بلام الأمر، والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة.
وقيل: سبب الختم على أفواههم، ليعرفهم أهل الموقف. وقيل: خُتم على أفواههم، لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم؛ لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق، لخروجه مخرج الإعجاز. وقيل: ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانًا لهم في معاصي الله، صارت شهودًا عليهم، فلا ينبغي لأحد أن يلتفت إلى ما سوى الله تعالى، ويصحب أحدًا غير الله لئلا يفتضح ثمة بسبب صحبته. ولقد أجاد من قال:
كُنْ مِنَ الْخَلْقِ جَانِبًا وارْضَ بِاللهِ صَاحِبَا
قَلِّبِ الْخَلْقَ كَيْفَ شِئْـ ـتَ تَجِدْهُ عَقَارِبَا
وجعل (٢) ما تنطق به الأيدي كلامًا وإقرارًا، لأنها كانت المباشرة لغالب المعاصي. وجعل نطق الأرجل شهادة؛ لأنها حاضرة عند كل معصية، وكلام الفاعل إقرار، وكلام الحاضر شهادة. وهذا باعتبار الغالب، وإلا فالأرجل قد
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
85
تكون مباشرة للمعصية، كما تكون الأيدي مباشرةً لها.
وفي «التأويلات النجمية»: يشير إلى أن الغالب على الأفواه الكذب، كما قال: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾. والغالب على الأعضاء الصدق. ويوم القيامة، يوم يسأل الصادقين عن صدقهم، فلا يسأل الأفواه، فإنها كثيرة الكذب، ويسأل الأعضاء، فإنها كثيرة الصدق، فتشهد بالحق. أما الكفار فشهادة أعضائهم عليهم مبيدة لهم، وأما العصاة من المؤمنين الموحدين، فقد تشهد عليهم أعضاؤهم بالعصيان، ولكن تشهد لهم بعض أعضائهم أيضًا بالإحسان. قيل (١): أول عظم من الإنسان، ينطق يوم يختم على الأفواه، فخذه من رجله اليسرى وكفها، كما جاء في الحديث.
ومعنى الآية: أي ففي هذا اليوم، يُنكر الكافرون ما اجترحوا في الدنيا من الشرور والآثام، ويحلفون أنهم ما فعلوا. كما حكى الله عنهم من قولهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾. فيختم على أفواههم، فلا تنطق ببنت شفة، ويستنطق جوارحهم، بما اجترحت من الفسوق والعصيان، الذي لم يتوبوا عنه.
٦٦ - ثم بين سبحانه، أنه قادر على إذهاب الأبصار، كما أنه قادر على إذهاب البصائر، فقال: ﴿وَلَوْ نَشاءُ﴾ أن نطمس على أعينهم، ونمحو نور أبصارهم. و ﴿لَوْ﴾ للمضي إن دخل على المضارع، ولذا لا يجزمه؛ أي: ولو أردنا عقوبة المشركين من أهل مكة في الدنيا.. ﴿لَطَمَسْنا﴾؛ أي: لجعلنا الطمس والمحو ﴿عَلى﴾ مواضع ﴿أَعْيُنِهِمْ﴾ ولضربنا عليهم، وأزلنا أثرها، بحيث لا يبقى لها أثر، ولا يبدو لها شق ولا جفن، وتصير مطموسة ممسوحة، كسائر أعضاهم ﴿فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ﴾ معطوف على ﴿طمسنا﴾؛ أي: فبادروا إلى الطريق الواسع الذي اعتادوا سلوكه فرارًا من الطمس والعقوبة ليجوزوه، ويمضوا فيه. ﴿فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾؛ أي: فكيف يبصرون الطريق، ويحسنون سلوكه ولا أبصار لهم؟! أي: لا يُبصرون لأن ﴿أنى﴾ بمعنى كيف، وكيف هنا إنكار فتفيد النفي. والمراد (٢): إن في قدرتنا
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
إزالة نعمة البصر عنهم، فيصيروا عميًا، لا يقدرون الى التردد في الطريق لمصالحهم، ولكن أبقينا عليهم نعمة البصر، فضلًا وكرمًا، فحقهم أن يشكروا عليها، ولا يكفروا. وهذا تهديد لأهل مكة بالطمس، فإن الله قادر على ذلك، كما فعل بقوم لوط حين كذبوه، وراودوه عن ضيفه. وإجمال المراد (١): ولو شئنا لأذهبنا أحداقهم، فلو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق، الذي اعتادوا سلوكه.. لم يستطيعوا ذلك. وفي «الخازن»: والمعنى (٢): ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى، وتركناهم عميا يترددون، فكيف يبصرون الطريق حينئذ. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يعني: لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم، فأعميناهم عن غيّهم، وحوّلنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فأبصروا رشدهم، فأنى يبصرون، ولم نفعل ذلك بهم، انتهى.
وقرأ الجمهور: ﴿فَاسْتَبَقُوا﴾ فعلًا ماضيًا، معطوفًا على ﴿لَطَمَسْنا﴾. وهو على الفرض والتقدير. وقرأ عيسى بن عمر ﴿فَاسْتَبَقُوا﴾ على الأمر. وهو على إضمار القول؛ أي: فيقال لهم: استبقوا الصراط. وهذا على سبيل التعجيز. إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين.
٦٧ - ثم زاد في تهديدهم وتوبيخهم، وبيان أنه قادر على منعهم من الحركة، فقال: ﴿وَلَوْ نَشاءُ﴾؛ أي: ولو أردنا أن نمسخهم، ونحول صورهم الأصلية، ونسقطهم (٣) عن رتبة التكليف ودرجة الاعتبار ﴿لَمَسَخْناهُمْ﴾ لغيرنا وحولنا صورهم، بأن جعلناها قردةً وخنازير، كما فعلنا بقوم داود عليه السلام، أو بأن جعلناهم حجارة ومدرة. وهذا أشد من الأول وأقبح، لأن الأول خروج عن رتبة الإنسانية إلى الحيوانية، وهذا عن الحيوانية إلى الجمادية، التي ليس لها شعور أصلًا وقطعًا ﴿عَلى مَكانَتِهِمْ﴾؛ أي: في مكانهم ومنزلهم الذي هم فيه قعود. وقال بعضهم: معنى ﴿لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ﴾؛ أي: لأقعدناهم على أرجلهم
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
وأزمناهم، انتهى. ﴿فَمَا اسْتَطاعُوا﴾؛ أي: فلم يقدروا ﴿مُضِيًّا﴾؛ أي: ذهابًا وإقبالًا إلى جانب أمامهم ﴿وَلا يَرْجِعُونَ﴾؛ أي: ولم يقدروا رجوعًا وإدبارًا إلى جهة خلفهم. فوضع الفعل موضع المصدر لمراعاة الفاصلة. قال الحسن: ﴿فلا يستطيعون﴾ أن يمضوا أمامهم، ولا يرجعوا وراءهم وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل: المعنى: لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم. وقيل: لمسخناهم في المكان، الذي فعلوا فيه المعصية.
والمعنى (١): أي ولو نشاء لمسخناهم مسخًا يحل بهم في منازلهم، لا يقدرون أن يفروا منه بإقبال ولا إدبار.
وحاصل معنى الآيتين (٢): ولو نشاء عقوبتهم، بما ذكر من الطمس والمسخ، جريا على موجب جناياتهم، المستدعية لها لفعلنا، ولكنا لم نشأها جريًا على سنن الرحمة، والحكمة، الداعيتين إلى إمهالهم زمانًا إلى أن يتوبوا، ويؤمنوا، ويشكروا النعمة، أو إلى أن يتولد منهم من يتصف بذلك.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿عَلى مَكانَتِهِمْ﴾ بالإفراد. وقرأ الحسن، والسلمي، وزر بن حبيش، وأبو بكر عن عاصم ﴿مكاناتهم﴾ بالجمع. وقرأ الجمهور: ﴿مُضِيًّا﴾ بضم الميم. وقرأ أبو حيوة، وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي: بكسرها إتباعًا لحركة الضاد. وقُرىء ﴿مضيًا﴾ بفتحها، فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل، كالرسيم والوجيف.
٦٨ - ثم شرع يقطع معذرةً لهم، ربما احتجوا بها. وهي قولهم: أنهم لو عمروا لأحسنوا العمل. فقال: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ﴾؛ أي: ومن نطل عمره في الدنيا ﴿نُنَكِّسْهُ﴾ ونقلبه ﴿فِي الْخَلْقِ﴾ والشكل والصورة؛ أي: نغير خلقه، ونجعله على عكس ما كان عليه أولًا، من القوة والطراوة، ونرده إلى أرذل العمر، شبه الصبي في أول الخلق. والمعنى: نقلبه في شكله، ونجعله على عكس ما خلقناه أولًا،
(١) الفتوحات.
(٢) أبو السعود.
(٣) البحر المحيط والشوكاني.
فلا يزال يتزايد ضعفه، وتتناقص قوته، وتنتقض بنيته، ويتغير شكله وصورته، حتى يعود على حالة شبيهة بحال الصبي، في ضعف الجسد، وقلة العقل، والخلو عن الفهم والإدراك. وفي الحديث: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك». وفي هذا كله، دليل على أن من فعل هذه الأفاعيل، قادر على أن بطمس، ويفعل بهم ما أراد. وقرأ الجمهور: ﴿نُنَكِّسْهُ﴾ مشددًا؛ أي: بضم النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الكاف مشددة. وقرأ عاصم، وحمزة مخففا؛ أي: بفتح النون الأولى، وسكون الثانية، وضم الكاف مخففة.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أيرون ذلك التنكيس، فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على ما ذكر من الطمس والمسخ فإنه مشتمل عليهما وزيادة، غير أنه على تدرج، وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما.
وقرأ نافع، وابن ذكوان، وأبو عمرو في رواية عباس (١): ﴿تعقلون﴾ بتاء الخطاب. وباقي السبعة بياء الغيبة؛ أي: أفلا يعقلون، أنهم كلما تقدمت بهم السن، ضعفوا، وعجزوا عن العمل، فلو عمروا أكثر مما عمروا، ما ازدادوا إلا ضعفًا، فلا يستطيعون أن يصلحوا ما أفسدوا في شبابهم. وقد عمرناهم مقدار ما يتمكنون من البحث، والتفكير، والتروي في عواقب الأمور ومصايرها، فلم يفعلوا وجاءتهم النذر فلم يهتدوا فمهما، طالت أعمارهم فلن يفيدهم ذلك، ولن يصلح من حالهم قليلًا ولا كثيرًا. ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥)﴾.
٦٩ - ولما قال كفار مكة: إن القرآن شعر، وإن محمدًا شاعر.. رد الله سبحانه
(١) البحر المحيط.
89
عليهم، بقوله: ﴿وَمَا عَلَّمْناهُ﴾؛ أي: وما علمنا محمدًا - ﷺ - ﴿الشِّعْرَ﴾ وليس القرآن بشعر. وهذا رد وإبطال لما كانوا يقولونه في حقه - ﷺ -، من أنه شاعر، وما يقوله شعر.
والظاهر في الرد أن يقال (١): إنه ليس بشاعر، وأن ما يتلوه عليهم ليس بشعر، إلا أن عدم كونه شاعرًا، لما كان ملزومًا لعدم كون معلمه، علمه الشعر، نفي اللازم وأريد نفي الملزوم بطريق الكناية، التي هي أبلغ من التصريح. والشعر لغة: العلم الدقيق، واصطلاحًا: كلام مقفى، موزون على سبيل القصد والاختيار بأجزاء تفاعيل بحور العروضيين الستة عشر، فخرج بالقصد والاختيار ما كان وزنه اتفاقيًا، كآيات شريفة، اتفق جريان الوزن فيها، نحو قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا﴾، وقوله: ﴿وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ﴾، وقوله: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾. وكلمات نبوية، جاء الوزن فيها اتفاقًا، من غير قصد إليه وعزم عليه، نحو قوله - ﷺ - حين عثر في بعض الغزوات، فأصاب إصبعه حجر فدميت:
هل أنتِ إلّا إِصبعٌ دُميت وفي سبيلِ اللهِ مَا لقيت
وقوله يوم حنين حين نزل، ودعا، واستنصر أو يوم فتح مكة:
أَنَا النَّبيُّ لا كذب أَنَا ابْنُ عَبْد المُطَّلِبْ
وقوله يوم الخندق:
بِاسْم الإِلهِ وَبِهِ بَدَيْنَا وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرهُ شَقَينا
﴿وَما يَنْبَغِي لَهُ﴾؛ أي: وما كان الشعر يليق به - ﷺ - ولا يصلح له. وذلك لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى، لمراعاة اللفظ والوزن. فالشارع يكون اللفظ منه تبعًا للمعنى، والشاعر يكون المعنى منه تبعًا للفظ. لأنه يقصد لفظًا يستقيم به وزن الشعر أو قافيته، فيحتاج إلى التحيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ. ولو صدر من النبي - ﷺ - كلام موزون مقفى، كما ذكر آنفًا لا يكون شعرًا لعدم قصده اللفظ، وإنما قصد المعنى، فجاء على تلك الألفاظ.
(١) روح البيان.
90
ومعنى قوله: ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ﴾؛ أي: وما علمنا محمدًا - ﷺ - الشعر، بتعليم القرآن على معنى: أن القرآن ليس بشعر. فإن الشعر كلام متكلف موضوع، ومقال مزخرف مصنوع، منسوج على منوال الوزن والقافية، مبني على خيالات وأوهام واهية. فأين ذلك من التنزيل الجليل، الخطر، المنزه عن مماثلة كلام البشر، المشحون بفنون الحكم والأحكام الباهرة، الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة. ومن أين اشتبه عليهم الشؤون، واختلط بهم الظنون، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
وفي الآية إشارة إلى أن النبي - ﷺ - معلم من عند الله تعالى؛ لأنه سبحانه علمه علوم الأولين والآخرين، وما علمه الشعر؛ لأن الشعر قرآن إبليس وكلامه؛ لأنه قال: رب اجعل لي قرآنًا، قال تعالى قرأنك الشعر. واعلم: أن الشعر محل للإجمال واللغز والتورية؛ أي: وما رمزنا لمحمد - ﷺ - شيئًا، ولا ألغزنا، ولا خاطبناه بشيءٍ، ونحن نريد شيئًا، ولا أجملنا له الخطاب، حيث لم يفهم، انتهى.
وفي «التأويلات النجمية»: يشير قوله: ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ﴾ إلى أن كل أقوال، وأعمال، وأحوال تجري على العباد في الظاهر والباطن، كلها تجري بتعليم الحق تعالى، حتى الحرف والصنائع. وذلك سر قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها﴾. وتعليمه الصنائع لعباده على ضربين: بواسطة وبغير واسطة. وأما بالواسطة: فبتعليم بعضهم بعضا، وأما بغير الواسطة، فكما علم داود عليه السلام، صنعة اللبوس. وكل حرفة وصنعة يعلمها الإنسان، من قريحته، بغير تعليم أحد، فهي من هذا القبيل، انتهى.
ومعنى قوله: ﴿وَما يَنْبَغِي لَهُ﴾؛ أي: وما يصح لمحمد الشعر، ولا يتسهل ولا يتسخر، ولا يتأتى له لو طلبه؛ أي: جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر، لم يتأت له، ولم يكن لسانه يجري به إلا منكسرًا عن وزنه، بتقديم وتأخير أو نحو ذلك، كما جعلناه أميا لا يهتدي للخط، ولا يحسنه، ولا يحسن قراءة ما كتبه غيره، لتكون الحجة أثبت، وشبهة المرتابين في حقية رسالته أدحض. فإنه لو كان
91
شاعرًا لدخلت الشبهة على كثير من الناس، في أن ما جاء به بقوله من عند نفسه؛ لأنه شاعر صناعته نظم الكلام.
﴿إِنْ هُوَ﴾؛ أي: ما هذا القرآن ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾؛ أي: إلا تذكير، وعظة، وإرشاد من الله سبحانه وتعالى، للإنس والجن. كما قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾. ﴿وَقُرْآنٌ﴾؛ أي: كتاب سماوي، جامع للأحكام ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: بين كونه كذلك، وأنه ليس من كلام البشر، أو فارق بين الحق والباطل، يقرأ في المحاريب، ويتلى في المعابد، وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين. فكم بينه وبين ما قالوا. فعطف (١) القرآن على الذكر من عطف الشيء على أحد أوصافه. فإن القرآن ليس مجرد الوعظ، بل هو مشتمل على المواعظ والأحكام ونحوها، فلا تكرار.
٧٠ - ﴿لِيُنْذِرَ﴾؛ أي: القرآن أو محمد - ﷺ -، كما يدل عليه قراءة من قرأ بتاء الخطاب. وهو متعلق بقوله: ﴿وَقُرْآنٌ﴾ أو بمحذوف دل عليه قوله: ﴿إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: إلا ذكر أنزل لينذر، ويخوف القرآن أو محمد به ﴿مَنْ كانَ حَيًّا﴾ من الثقلين؛ أي: عاقلًا فهيمًا يميز المصلحة من المفسدة، ويستخدم قلبه فيما خلق له، ولا يضيعه فيما لا يعنيه. فإن الغافل بمنزلة الميت. وجعل العقل والفهم للقلب، بمنزلة الحياة للبدن، من حيث إن منافع القلب منوطة بالعقل، كما أن منافع البدن منوطة بالحياة.
وفيه إشارة، إلى أن كل قلب، تكون حياته بنور الله وروح منه، يفيده الإنذار، ويتأثر به. وأمارة تأثره الإعراض عن الدنيا، والإقبال على الآخرة والمولى. وقال بعضهم: ﴿مَنْ كانَ حَيًّا﴾؛ أي: مؤمنًا في علم الله. فإن الحياة الأبدية بالإيمان، يعني: أن إيمان من كان مؤمنًا في علم الله، بمنزلة الحياة للبدن. لكونه سببًا للحياة الأبدية.
وتخصيص الإنذار بمن كان حي القلب، مع أنه عام له، ولمن كان ميت
(١) روح البيان.
القلب؛ لأنه المنتفع به. ثم الإنذار صفة النبي - ﷺ - في الحقيقة. وقرأ (١) نافع، وابن عامر ﴿لتنذر﴾ بتاء الخطاب للرسول - ﷺ -. وقرأ باقي السبعة: بياء الغيبة، فاحتمل أن يعود على الرسول، واحتمل أن يعود على القرآن.
والمعنى (٢): أي وما القرآن إلا مواعظ من ربنا، يُرشد بها عباده إلى ما فيه نفعهم وهدايتهم في معاشهم ومعادهم، نزل من الملأ الأعلى وليس من كلام البشر. فقد تحدى المخالفين أن يأتوا بمثله؛ فما استطاعوا، فلجؤوا إلى السيف والسنان، وتركوا المقاولة بالحجة والبرهان. ثم ذكر من ينتفع به فقال: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا﴾؛ أي: لينتفع بنذارته من كان حي القلب، مستنير البصيرة، يعرف مواقع الهدى والرشاد، فيسترشد بهديه، وليس له من صوارف الهوى ما يصده عن اتباع الحق، ولا من نوازع الاستكبار والإعراض، ما يكون حائلًا بينه وبين الهدى. فهو يتواثب على الإقرار بالحق، إذا لاح له بريق من نوره، فتمتلىء جوانبه إشراقًا وضياءً، ويخر له مذعنًا مستسلمًا. وكأن طائفًا من السماء نزل عليه فأثلج صدره، وألان قلبه، فاطمأن له وركن إليه. وذلك من رزقه الله التوفيق والهداية، وكتب له الفوز والسعادة.
وبعدئذ بيّن عاقبة من أعرض عنه، فقال: ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ﴾؛ أي: ويجب القضاء من الله تعالى، وتجب كلمة العذاب. وهي ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾. ﴿عَلَى الْكافِرِينَ؛﴾ أي: على المصرين على الكفر به تعالى، الذين هم كأنهم أموات، لخلوهم من النفوس الحساسة اليقظة، التي دأبها اتباع الحق ومخالفة الهوى؛ لأنه إذا انتفت الريبة إلا المعاندة فيحق القول عليهم. وفي إيرادهم في مقابلة ﴿مَنْ كانَ حَيًّا﴾ إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة، وأحكامها، التي هي المعرفة، أموات في الحقيقة، كالجنين ما لم ينفخ فيه الروح. فالمعرفة تؤدي إلى الإيمان والإسلام والإحسان التي لا يموت أهلها، بل ينتقل من مكان إلى مكان.
٧١ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ للاستفهام التقريري للتعجيب خلافًا لما قاله
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
93
بعضهم هنا، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو عاطفة على ذلك المقدر، والضمير للمشركين من أهل مكة، والتقدير: ألم يتفكر أهل مكة ولم يعلموا علما يقينيًا هو في حكم المعاينة؛ أي: قد رأوا وعلموا (أنا) نحن بمقتضى جودنا وكرمنا ﴿خَلَقْنا﴾ وأوجدنا ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لأجلهم وانتفاعهم ﴿مِمَّا عَمِلَتْـ﴾ ـه ﴿أَيْدِينا﴾؛ أي: مما تولينا إحداثه بيدنا، لم يشاركنا فيه غيرنا، بمعاونة وتسبب؛ أي: مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا شركة. وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص والتفرد بالخلق، كما يقول الواحد منا: عملته بيدي للدلالة على تفرده بعمله. وقال في «الأسئلة المقحمة»: الأيدي هنا صلة، وهو كقوله: ﴿بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾، ومذهب العرب الكناية باليد، والوجه عن الجملة، انتهى. والجمع في الأيدي للتعظيم، كأنه قال: مما عملته يدنا. واليد صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى، نثبته ونعتقده، لا نمثله ولا نكيفه. و ﴿ما﴾ موصولة بمعنى الذي، وحذف العائد لطول الصلة. ويجوز أن تكون مصدرية. ﴿أَنْعامًا﴾ مفعول ﴿خَلَقْنا﴾، أخّره جمعًا بينه وبين أحكامه، المتفرعة عليه بقوله تعالى: ﴿فَهُمْ لَهَا﴾ إلخ. جمع نعم. وهي الماشية الراعية. وهي: الإبل والبقر والغنم؛ أي: الضأن والمعز مما في سيره نعومة؛ أي: لين، ولا يدخل فيها الخيل، والبغال، والحمر لشدة وطئها الأرض. وخص بالذكر من بين سائر ما خلق الله من المعادن، والنبات، والحيوان غير الأنعام لما فيها من بدائع الفطرة، كما في الإبل، وكثرة المنافع كما في البقر والغنم.
والفاء في قوله: ﴿فَهُمْ لَها مالِكُونَ﴾ للتفريع، و ﴿الفاء﴾ التفريعية هي التي كان ما قبلها علة لما بعدها، عكس التعليلية، أي: فلأجل خلقنا إياها لمنافعهم، هم لتلك الأنعام مالكون ملك التصرف بتمليكنا إياهم، وهم متصرفون فيها بالاستقلال، يختصون بالانتفاع بها، لا يزاحمهم في ذلك غيرهم.
ومعنى الآية (١): أي أولم يشاهد هؤلاء المشركون بالله الأصنام والأوثان أنا
(١) المراغي.
94
خلقنا لهم بقدرتنا وإرادتنا بلا معين ولا ظهير أنعامًا من الإبل والبقر والغنم، يصرفونها كما شاؤوا بالقهر والغلبة. فهي ذليلة منقادة لهم. فالجارية الصغيرة إن شاءت أناخت البازل الكبير، وإن شاءت ساقته وصرفته كما تريد. قال العباس بن مرداس:
وَتَضْربُهُ الوَليْدةُ بالهَراوي فَلا غَيرٌ لَديْه وَلا نَكِيرُ
٧٢ - ثم ذكر منافعها، فقال: ﴿وَذَلَّلْناها﴾؛ أي (١): وصيرنا تلك الأنعام ذليلة منقادة ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء المشركين وغيرهم، بحيث لا تستعصي عليهم في شيء مما يريدون بها، من الركوب والسوق إلى ما شاؤوا، والذبح مع كمال قوتها وقدرتها. فهو نعمة من النعم الظاهرة، ولهذا ألزم الله الراكب أن يشكر هذه النعمة، ويسبح بقوله: ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾.
والفاء في قوله: ﴿فَمِنْها رَكُوبُهُمْ﴾ لتفريع أحكام التذليل عليه، و ﴿من﴾ تبعيضية، والركوب - بفتح الراء - بمعنى: المركوب كالحلوب بمعنى: المحلوب؛ أي: فلأجل تذليلنا إياها لهم، كان بعض منها مركوبهم؛ أي: معظم منافعها الركوب، وقطع المسافات، وعدم التعرض للحمل لكونه من تتمات الركوب.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿رَكُوبُهُمْ﴾ بفتح الراء، وهو فعول بمعنى مفعول. وقرأ أبي، وعائشة ﴿ركوبتهم﴾ بالتاء، وهي فعولة بمعنى: مفعولة. والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة، والحمول والحمولة. وقال أبو عبيدة: الركوبة للواحد والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة. وقرأ الحسن، والأعمش، وابن السميفع، وأبو الرهسم: ﴿فمنها رُكوبهم﴾ بضم الراء وبغير تاء، فيقدّر مضاف؛ أي: فمنها ذو ركوبهم، أو فمن منافعها ركوبهم. وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز ﴿فمنها رُكوبهم﴾ بضم الراء؛ لأنه مصدر بمعنى: كون الإنسان على ظهر حيوان أو غيره، والمقصود هنا: المركوب. وأجاز ذلك الفرّاء، كما يقال: فمنها أكلهم، ومنها شربهم.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
﴿وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾؛ أي: وبعض منها يأكلون لحمه وشحمه، كالغنم يعني: لا تصلح للركوب، بل للأكل فقط. وليس المراد: أن المركوبة منها كالإبل، لا تؤكل فإنها كما تركب تؤكل.
والمعنى: أي وسخرنا لهم هذه الأنعام، فمنها ما يركبون في الأسفار، ويحملون عليها الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار، ومنها: ما ينحرون فيأكلون لحومها وينتفعون بدهنها.
٧٣ - ﴿وَلَهُمْ فِيها﴾؛ أي: في الأنعام المركوبة والمأكولة ﴿مَنافِعُ﴾ أخر غير الركوب والأكل كالجلود، والأصواف، والأوبار، والأشعار، والنسائل؛ أي: النتائج، والحراثة بالثيران. وأجمل المنافع هنا، وفصلها في سورة النحل في قوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ﴾ الآية، ﴿وَمَشارِبُ﴾ من اللبن، جمع مشروب، جمعه باعتبار أنواع النعم، أو باعتبار هيآت اللبن؛ لأن منه الحليب، والحامض، والخاثر، والجبن، والأقط، والزبد، والسمن.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أيشاهدون هذه النعم التي يتنعمون بها، فلا يشكرون المنعم بها، بأن يوحدوه، ولا يشركوا به في العبادة، فقد تولى المنعم إحداث تلك النعم، ليكون إحداثها ذريعة إلى أن يشكروها، فجعلوها وسيلة إلى الكفران.
والمعنى: أي ولهم فيها منافع أخرى، غير الركوب والأكل منها، كالجلود والأصواف والأوبار والأشعار والحراثة وإدارة المنجنون (الساقية)، ولهم منها مشارب من ألبانها. ثم حثهم على الشكر على هذه النعم وتوحيد صانعها، فقال: ﴿أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾ نعمتي عليهم، وإحساني إليهم بطاعتي، وإفرادي بالألوهية والعبادة، وترك وساوس الشيطان بعبادة الأصنام، والأوثان.
٧٤ - ثم ذكر سبحانه جهلهم واغترارهم، ووضعهم كفران النعمة مكان شكرها. فقال: ﴿وَاتَّخَذُوا﴾؛ أي: واتخذ هؤلاء المشركون مع هذه الوجوه من الإحسان ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: متجاوزين الله، المتفرد بالقدرة المتفضل بالنعمة
﴿آلِهَةً﴾؛ أي: معبودات من الأصنام، وأشركوها به تعالى في العبادة ﴿لَعَلَّهُمْ﴾؛ أي: لعل المشركين ﴿يُنْصَرُونَ﴾؛ أي: رجاء أن ينصروا من جهة آلهتهم، فيما أصابهم من الأمور، أو ليشفعوا لهم في الآخرة.
٧٥ - وجملة قوله: ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ﴾ مستأنفة، مسوقة لبيان بطلان ما رجوه منها، وأملوه من نفعها. وجمعهم بالواو والنون جمع العقلاء، بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون ويضرون ويعقلون؛ أي: لا تستطيع تلك الآلهة على نصر المشركين، ولا تقدر على نفعهم في أمر ما. ﴿وَهُمْ﴾ المشركون ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لآلهتهم ﴿جُنْدٌ﴾؛ أي: عسكر ﴿مُحْضَرُونَ﴾ إثرهم في النار؛ أي: يشيعون عند مساقهم إلى النار، ليجعلوا وقودًا لها. قال الكواشي: روي: أنه يؤتى بكل معبود من دون الله، ومعه أتباعه كأنهم جنده فيحضرون في النار، هذا لمن أمر بعبادة نفسه، أو كان جمادًا، انتهى.
وقيل المعنى: ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: المشركون لآلهتهم بمنزلة الجند، فهم قائمون بين أيديهم كالعبيد، ويخدمونها، ويغضبون لها في الدنيا. قال الحسن: يمنعون منهم، ويدفعون عنهم. وقال الزجاج: ينتصرون للأصنام، وهي لا تستطيع نصرهم. وقيل المعنى: يعبدون الآلهة، ويقومون بها. فهم لهم بمنزلة الجند. هذه (١) الأقوال على جعل ضميرهم للمشركين، وضمير ﴿لَهُمْ﴾ للآلهة. وقيل: و ﴿هُمْ﴾؛ أي: الآلهة ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: للمشركين جند محضرون معهم في النار، ليكونوا وقودًا لهم، فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل: معناه: وهذه الأصنام لهؤلاء المشركين، جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم، ويتبرؤون منهم. وقيل المعنى: إن الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم، يحضرون يوم القيامة لإعانتهم.
والمعنى (٢): أي واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة، يعبدونهم طمعًا في نصرتهم، ودفع العذاب عنهم، وتقريبهم إلى الله زلفى. ثم بيّن بطلان آرائهم،
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
وخيبة رجائهم، وانعكاس تدبيرهم. فقال: ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ﴾ إلخ؛ أي: لا تقدر هذه الآلهة على نصر عابديها. فهي أضعف من ذلك، وأحقر، ولا تقدر على الاستنصار لأنفسها، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء؛ لأنها جماد لا تسمع، ولا تعقل. ﴿وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ﴾؛ أي: والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهم لا يسوقون إليهم خيرًا ولا يدفعون عنهم ضرًا.
والخلاصة: أنّ العابدين وهم المشركون، كالجند لحمايتهم والذب عنهم في الدنيا، والمعبودون يوم القيامة، لا يستطيعون أن يقدموا لهم معونة، ولا يدفعون عنهم مضرة.
٧٦ - ثم سلّى رسوله على ما يلقاه من قومه من الأذى، بنحو قولهم: هو شاعر، وهو كاهن، وهو ساحر إلى نحو ذلك، من مقالاتهم التي كانوا يجابهون بها الرسول إرادة تحقيره وإهانته. فقال: ﴿فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ والفاء: فيه فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سمعت قولهم في الله: أن له شريكًا وولدًا، وفيك: إنك كاذب شاعر، وتألمت من إيذائهم وجفائهم وأردت بيان ما هو الأصلح لك، والأكثر أجرًا.. فأقول لك: لا يحزنك قولهم؛ أي: لا يهمنك قولهم في الله بالإلحاد والشرك، وفيك بالتكذيب والتهجين، وتسل بإحاطة علمي بجميع أحوالهم. فـ ﴿إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ﴾؛ أي: جميع ما يضمرون في صدورهم من العقائد الفاسدة، ومن العداوة لك، والبغضاء ﴿وَما يُعْلِنُونَ﴾؛ أي: وجميع ما يظهرون بألسنتهم من كلمات الشرك، والكفر بالله، والإنكار للرسالة. فنجازيهم على جميع جناياتهم الخافية والبادية.
قال ابن الشيخ (١): والفاء في قوله: ﴿فَلا يَحْزُنْكَ﴾ جزائية؛ أي: إذا سمعت قولهم في الله: أن له شريكًا وولدًا، وفيك: أنك كاذب شاعر، وتألمت من إيذائهم وجفائهم، فتسل بإحاطة علمي بجميع أحوالهم، وبأني أجازيهم على تكذيبهم إياك وإشراكهم بي. وقرأ الجمهور: ﴿فَلا يَحْزُنْكَ﴾ بفتح الياء وضم
(١) روح البيان.
98
الزاي، وهي لغة قريش. وقرأ نافع: بضم الياء وكسر الزاي. وهي لغة بني تميم. وهما لغتان، يقال: حزنه وأحزنه.
والمعنى (١): أي فلا يحزنك أيها الرسول، قول هؤلاء المشركين من قومك: إنك شاعر، وما جئتنا به شعر، ولا تكذيبهم بآيات الله وجحودهم نبوتك. ثم ذكر أنه، سيجازيهم على ما يضمرون في أنفسهم، ويتفوهون بألسنتهم. فقال: ﴿إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ﴾؛ أي: إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قول ذلك، إنما هو الحسد، وأنهم يعقدون أن الذي جئتهم به ليس بشعر، ولا يشبه الشعر، وأنك لست بكذاب.
والخلاصة: أنّا نعلم ما يسرون من معرفتهم، حقيقة ما تدعوهم إليه، وما يعلنون من جحود ذلك بألسنتهم علانية، وسنجزيهم وصفهم، ونعاملهم بما يستحقون، يوم يجدون جليل أعمالهم وحقيرها حاضرًا لديهم. وجملة قوله: ﴿إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ﴾ تعليل لما قبله من النهي عن الحزن. فإن علمه سبحانه بما يسرون وما يعلنون، مستلزم للمجازاة لهم بذلك، وأن جميع ما صدر منهم، لا يعزب عنه، سواء كان خافيًا أو باديًا سرًا أو جهرًا مظهرًا أو مضمرًا وتقديم (٢) السر على العلن، إما للمبالغة في بيان شمول علمه تعالى، لجميع المعلومات، كأن علمه تعالى، بما يسرون، أقدم منه بما يعلنون، مع استوائهما في الحقيقة. فإن علمه تعالى، بمعلوماته، ليس بطريق حصول صورها، بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى. وفي هذا المعنى، لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة. وإما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن، إذ ما من شيء يعلن إلا وهو. أو مبادية مضمر في القلب قبل ذلك، فتعلق علمه بحالته الأولى، متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقةً.
وفي الآية: إشارة إلى أن كلام الأعداء، الصادر من العداوة والحسد، جدير بأن يحزن قلوب الأنبياء، مع كمال قوتهم، وأنهم ومتابعيهم مأمورون بعدم
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
99
الالتفات، وتطييب القلوب في مقاساة الشدائد في الله، بأن لها ثمرات كريمة عند الله تعالى. وإذا علم العبد، أن ألمه آت من الحق، هان عليه ما يقاسه، لا سيما إذا كان في الله، كما في «التأويلات النجمية». قال بعضهم: ليخفف ألم البلاء، علمك بأن الله هو المبتلي.
قال في «برهان القرآن» قوله: ﴿فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ﴾ هنا، وفي يونس: ﴿وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ تشابها (١) في الوقف على لفظة ﴿قَوْلُهُمْ﴾ في السورتين؛ لأن الوقف عليه لازم. و ﴿إن﴾ فيهما مكسورةً في الابتداء لا في الحكاية، ومحكي القول فيهما محذوف. ولا يجوز الوصل؛ لأن النبي - ﷺ - منزه عن أن يخاطب بذلك، انتهى.
٧٧ - وجملة قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ مستأنفة (٢) مسوقة لبيان إقامة الحجة، على من أنكر البعث، وللتعجيب من جهله. فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم، على هذه الصفة من البداية إلى النهاية.. مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم، على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام، وردها كما كانت، والإنسان المذكور في الآية، المراد به جنس الإنسان، كما في قوله: ﴿أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (٦٧)﴾ ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين، كما قيل: إنه عبد الله بن أبي، وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث. وقال الحسن: هو أمية بن خلف. وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي. وقال قتادة، ومجاهد: هو أبي بن خلف الجمحي، فإن أحد هؤلاء وإن كان سببًا للنزول، فمعنى الآية: خطاب الإنسان من حيث هو لا إنسان معين، ويدخل من كان سببًا للنزول تحت جنس الإنسان دخولًا أوليًا. والنطفة هي اليسير من الماء. وقيل: هي الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل.
والهمزة في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ﴾ للاستفهام التقريري المضمن للتعجب، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو: عاطفة على ذلك المقدر، والرؤية قلبية،
(١) برهان القرآن.
(٢) الشوكاني.
100
والتقدير: ألم يتفكر الإنسان، المنكر للبعث، أيًا كان، ولم يعلم علمًا يقينيًا، أنا خلقناه من نطفة. وفي «الإرشاد»: وإيراد الإنسان موضع المضمر؛ لأن مدار الاستفهام متعلق بأحواله، من حيث هو إنسان، كما في قوله تعالى: ﴿أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (٦٧)﴾.
﴿فَإِذا هُوَ﴾؛ أي: الإنسان ﴿خَصِيمٌ﴾؛ أي: شديد الخصومة والجدال بالباطل. ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: مظهر الجدال في خصومته أو مظهر للحجة. والجملة الاسمية (١) معطوفة على الجملة المنفية، داخلة في حيز الاستفهام والتعجيب كأنه قيل: أولم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء، وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر، يشهد بصحته، وتحققه مبدأ فطرته شهادةً بينة. فهذا حال الإنسان الجاهل الغافل. ونعم ما قيل:
أُعلِّمه الرِّمَاية كُلَّ يومٍ فَلمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمَانِي
أُعلِّمه الْقَوافِي كُلَّ حِينٍ فَلمَّا قَالَ قَافيةً هَجَانِي
وما قيل:
لقَدْ رَبَّيت جَروًا طُولَ عُمرِي فَلمَّا صَارَ كلَبًا عَضَّ رِجْلِي
قال السمرقندي: العامل في ﴿إذا﴾ المفاجأة معنى المفاجأة، وهو عامل لا يظهر، استغني عن إظهاره بقوة ما فيها من الدلالة، عليه، ولا يقع بعدها إلا الجملة المركبة من المبتدأ والخبر. وهو في المعنى فاعل؛ لأن معنى ﴿فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾: فاجأه خصومة بينة، كما أن معنى قوله: ﴿إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ فاجأهم قنوطهم أو مفعول؛ أي: فاجأ الخصومة، وفاجؤوا القنوط. يعني: خاصم خالقه مخاصمة ظاهرة، وقنطوا من الرحمة.
والمعنى (٢): أي أو لا يستدل من أنكر البعث بسهولة المبدأ، على سهولة الإعادة. فإن من بدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، ثم جعله بشرًا سويًا يخاصم ربه، فيما قال إني فاعل، فيقول: من يحيي العظام وهي رميم إنكارًا منه
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
101
لقدرته على إحيائها، قادر على إعادته بعد موته وحسابه وجزائه على أعماله.
والخلاصة: أنه تعالى خلق للإنسان ما خلق من النعم ليشكر، فكفر وجحد المنعم والنعم. وخلقه من نطفة قذرة، ليكون متذللا فطغى وبغى وتجبر وخاصم ربه، واستبعد البعث والإعادة.
٧٨ - وقوله: ﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا﴾ معطوف (١) على الجملة الفجائية؛ أي: ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلًا؛ أي: أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر. وهي في الغرابة والبعد عن العقول كالمثل، وهي إنكار إحيائنا العظام ونفي قدرتنا عليه. قال ابن الشيخ: المثل يستعار للأمر العجيب تشبيهًا له في الغرابة بالمثل العرفي، الذي هو القول السائر، ولا شك أن نفي قدرة الله سبحانه على البعث، مع أنه من جملة الممكنات، وأنه تعالى على كل شيء قدير، من أعجب العجائب. ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ عطف على ﴿ضَرَبَ﴾، داخل في حيز الاستفهام والتعجيب أو حال بتقدير ﴿قد﴾. وهو مضاف إلى المفعول؛ أي: نسي خلقنا إياه من النطفة القذرة؛ أي: ترك التفكر في بدء خلقه ليدله ذلك على قدرته على البعث. فإنه لا فرق بينهما من حيث إن كلًا منهما إحياء مواتٍ وجماد. وقرأ زيد بن علي ﴿ونسي خالقه﴾ اسم فاعل، والجمهور ﴿خَلْقَهُ﴾؛ أي: نشأته، مصدرًا.
وقوله: ﴿قالَ﴾؛ أي: الإنسان، كلام مستأنف، واقع في جواب سؤال مقدر، نشأ عن حكاية ضرب المثل، كأنه قيل: أي مثل ضرب أو ماذا قال؟ فقيل: ﴿قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ﴾ منكرًا له أشد النكير، مؤكدًا له بقوله: ﴿وَهِيَ رَمِيمٌ﴾؛ أي: بالية أشد البلى بعيدة من الحياة غاية البعد حيث لا جلد عليها، ولا لحم، ولا عروق، ولا أعصاب.
وهذا (٢) الاستفهام للإنكار؛ لأنه قاس قدرة الله سبحانه على قدرة العبد فأنكر أن الله تعالى، يحيي العظام البالية، حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر،
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
وعدم تأنيث الرميم، مع وقوعه خبرًا للمؤنثة، حيث لم يقل: وهي رميمة، لأنه اسم لما بلي من العظام، غير صفة كالرفات والرمة. والأولى: أن يقال: إنه فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث، كما قيل في جريح وقتيل.
ومعنى الآية: ﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾؛ أي: وذكر أمرًا عجيبًا ينفي به قدرتنا على إحياء الخلق، فـ ﴿قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ ونسي خلقنا له، أفلم يكن نطفة فجعلناه خلقًا سويًا ناطقًا. ولا شك أن من فعل ذلك، لا يعجزه أن يعيد الأموات أحياءً، والعظام الرميم بشرًا كهيئتهم التي كانوا عليها قبل الفناء.
وإجمال ذلك: أن بعض المشركين استبعدوا إعادة الله، ذي القدرة العظيمة، التي خلقت السموات والأرض، للأجساد والعظام الرميم، ونسوا أنفسهم، وأنه تعالى خلقهم من العدم، فكيف هم بعد هذا، يستبعدون أو يجحدون.
ونحو الآية، حكايةً عن المشركين قوله: ﴿وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾، وقوله أيضًا، على طريق الحكاية: ﴿قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)﴾ ﴿أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ﴾.
٧٩ - ثم أمر الله سبحانه، نبيه - ﷺ -، أن يجيبهم عن استبعادهم ويبكتهم بتذكيرهم بما نسوه من حقيقة أمرهم، وخلقهم من العدم، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد، تبكيتًا لذلك الإنسان، المنكر للبعث، بتذكير ما نسيه من الفطرة، الدالة على حقيقة الحال. ﴿يُحْيِيهَا﴾؛ أي: يحيي تلك العظام الخالق ﴿الَّذِي أَنْشَأَها﴾؛ أي: خلقها وأوجدها ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾؛ أي: في أول مرة ولم تكن شيئًا، ومن قدر على النشأة الأولى، قدر على النشأة الثانية. فإن قدرته كما هي لاستحالة التغير فيها، والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها. وهو من النصوص القاطعة، الناطقة بحشر الأجساد، استدلالًا بالابتداء على الإعادة. وفيه رد على من لم يقل به، وتكذيب له.
103
﴿وَهُوَ﴾؛ أي: الله المنشىء سبحانه ﴿بِكُلِّ خَلْقٍ﴾؛ أي: مخلوق ﴿عَلِيمٌ﴾ لا تخفى عليه خافية، ولا يخرج عن علمه خارج كائنًا ما كان، يعلم تفاصيل المخلوقات بعلمه وكيفية خلقها. فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتتة المتفرقة في المشارق والمغارب، والتي بعضها في أبدان السباع، وبعضها في جدران الرباع، أصولها وفروعها وأوضاع بعضها من بعض، من الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق، فيعيد كلا من ذلك، على النمط السابق، مع القوى التي كانت قبل.
وقد استدل أبو حنيفة (١)، وبعض أصحاب الشافعي، بهذه الآية، على أن العظام، مما تحله الحياة. وقال الشافعي: لا تحله الحياة، وأن المراد بقوله: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ﴾؛ أي: من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف، ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر.
وعبارة الروح هنا: وقد تمسك (٢) بظاهر الآية الكريمة من أثبت للعظم حياة، وبنى عليه الحكم بنجاسة عظم الميت. وهو الشافعي، ومالك، وأحمد. وأما أصحابنا الحنفية، فلا يقولون بنجاسته كالشعر، ويقولون: المراد بإحياء العظام: ردها إلى ما كانت عليه من الغضاضة والرطوبة في بدن حي حساس. واختلفوا في الآدمي هل يتنجس بالموت؟. فقال أبو حنيفة: يتنجس؛ لأنه دموي، إلا أنه يطهر بالغسل كرامة له، وتكره الصلاة عليه في المسجد. وقال الشافعي، وأحمد: لا يتنجس به، ولا تكره الصلاة عليه فيه. وعن مالك خلاف، والأظهر عنه: الطهارة، وأما الصلاة عليه في المسجد فالمشهور من مذهبه كراهتها، كقول أبي حنيفة، انتهى. انظر ما بين عبارة الشوكاني، وعبارة البروسوي من التناقض فيما قاله الشافعي. والصواب ما في البروسوي.
والمعنى (٣): أي قل أيها الرسول لهذا المشرك القائل لك: من يحيي العظام وهي رميم: يحييها الذي ابتدع خلقها أول مرة ولم تكن شيئًا، وهو العليم
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
104
بالعظام، وأين تفرقت في سائر أقطار الأرض، وأين ذهبت؟، لا يخفى عليه شيء من أمر خلقه، فهو يعيده على النمط السابق والأوضاع التي كان عليها مع قواه السالفة.
٨٠ - ثم ذكر دليلًا ثانيًا يرفع استبعادهم، ويبطل إنكارهم. فقال: ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ وخلق ﴿لَكُمْ﴾؛ أي: لمنفعتكم ﴿مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ﴾؛ أي: الرطب ﴿نارًا﴾ محرقة، بدل من الموصول الأول، وعدم الاكتفاء بعطف الصلة للتأكيد، ولتفاوتهما في كيفية الدلالة؛ أي: الذي خلق لأجلكم ومنفعتكم من الشجر الرطب الندي، كالمرخ والعفار نارًا محرقة. فنبه (١) سبحانه، على وحدانيته، ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه، من إخراج النار المحرقة، من العود الندي الرطب. وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ، والشجر المعروف بالعفار، إذا قطع عودان وضرب أحدهما على الآخر، انقدحت منهما النار، وهما أخضران. قيل: المرخ هو الذكر، والعفار هو الأنثى. ويسمى الأول الزند، والثاني الزندة. والمرخ (٢) بالخاء المعجمة: شجر سريع الورى. والعفار بالعين المهملة كسحاب: شجر معروف تقدح منه النار. قال الحكماء: لكل شجر نار إلا العناب. فمن ذلك يدق القصار الثوب عليه، ويتخذ منه المطرقة، والعرب تتخذ زنودها من المرخ والعفار، وهما موجودان في أغلب المواضع من بوادي العرب، يقطع الرجل منهما غصنين كالمسواكين، وهما أخضران يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فتنقدح النار بإذن الله تعالى. وذلك قوله تعالى: ﴿فَإِذا أَنْتُمْ﴾ أيها المشركون ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من الشجر الأخضر، متعلق بـ ﴿تُوقِدُونَ﴾. و ﴿إذا﴾ للمفاجأة؛ أي: تشتعلون النار وتقدحونها من ذلك الشجر، لا تشكون في أنها نار تخرج منه، كذلك لا تشكون في أن الله يحيي الموتى، ويخرجهم من القبور للسؤال والجزاء من الثواب والعقاب. فإن من قدر على إحداث النار، وإخراجها من الشجر الأخضر، مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفية، كان أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضًا فطرأ عليه اليبوسة
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
والبلى. وعلم منه أن الله تعالى، جامع الأضداد، ألا ترى: أنه جمع الماء والنار في الشجر، فلا الماء يطفىء النار، ولا النار تحرق الشجر.
وقرأ الجمهور: ﴿الْأَخْضَرِ﴾ اعتبارًا باللفظ. وقرىء ﴿الخضراء﴾ اعتبارًا بالمعنى. وقد تقرر، أنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه كما في قوله تعالى: ﴿نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ وقوله: ﴿نَخْلٍ خاوِيَةٍ﴾. فبنو تميم ونجد يذكرونه، وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادرًا.
والمعنى (١): أي وهو الذي بدأ خلق الشجر من ماء، حتى صار أخضر ناضرًا، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا توقد به النار، ومن فعل ذلك، فهو قادر على ما يريد، لا يمنعه شيء. إذ من أحدث النار في الشجر الأخضر على ما فيه من المائية المضادة للاحتراق، فهو أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا، فيبس وبلي.
٨١ - ثم ذكر بعد ذلك بدليل ثالث على قدرته، أعجب من سابقيه، فقال: ﴿أَوَلَيْسَ﴾ الهمزة (٢) فيه للإنكار، وإنكار النفي إيجاب، فصار الاستفهام تقريريًا، كما هو القاعدة عندهم، خلافًا لمن تغافل عنها، فجعل الاستفهام في أمثال هذه المواضع إنكاريًا. داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو عاطفة على ذلك المقدر. فهمزة الاستفهام، وإن دخلت على حرف العطف ظاهرًا، لكنها في التحقيق، داخلة على كلمة النفي قصدًا، إلى إثبات القدرة له وتقريرها.
والمعنى: أليس القادر المقتدر، الذي أنشأ الأناسي أول مرة، وأليس الذي جعل لهم من الشجر الأخضر نارا، وأليس ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ﴾؛ أي: الأجرام العلوية وما فيها ﴿وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: الأجرام السفلية وما عليها مع كبر جرمهما وعظيم شأنهما ﴿بِقادِرٍ﴾ في تقدير النصب؛ لأنه خبر ليس؛ أي: قادرًا ﴿عَلى أَنْ يَخْلُقَ﴾ في الآخرة ﴿مِثْلَهُمْ﴾؛ أي: مثل الأناسي في الصغر والحقارة بالنسبة إليهما، ويعيدهم أحياء كما كانوا. فإن بدهية العقل قاضية بأن من قدر على
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
106
خلقهما فهو على خلق الأناسي أقدر، كما قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾. أو مثلهم في أصول الذات وصفاتها، وهو المعاد، فإن المعاد مثل الأول في الاشتمال على الأجزاء الأصلية والصفات المشخصة، وإن غايره في بعض العوارض؛ لأن أهل الجنة جرد مرد، وإن الجهنمي ضرسه مثل أحد وغير ذلك. وقال بعضهم: لفظ ﴿مثل﴾ في قوله: ﴿مِثْلَهُمْ﴾ مقحم كقولك مثل يجود؛ أي: على أن يخلقهم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿بِقادِرٍ﴾ بباء الجر، داخلة على اسم الفاعل. وقرأ الجحدري، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وسلام بن المنذر، وأبو يعقوب الحضرمي ﴿يقدر﴾ فعلًا مضارعًا.
وقوله: ﴿بَلى﴾ جواب من جهته تعالى، وتصريح بما أفاده الاستفهام الإنكاري من تقرير ما بعد النفي، وإيذان بتعين الجواب بهذا نطقوا به، أو تلعثموا فيه مخافة الإلزام. قال ابن الشيخ: هي مختصة بإيجاب النفي المتقدم ونقضه، فهي هاهنا لنقض النفي الذي بعد الاستفهام؛ أي: بلى إنه قادر، كقوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى﴾؛ أي: بلى أنت ربنا.
وقوله: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ معطوف على ما يفيده الإيجاب؛ أي: بلى وهو قادر على أن يخلق مثلهم، وهو المبالغ في الخلق والعلم كمًا وكيفًا، على أكمل وجه وأتمه. وقرأ الجمهور: ﴿الْخَلَّاقُ﴾ بصيغة المبالغة لكثرة مخلوقاته. وقرأ الحسن، والجحدري، ومالك بن دينار، وزيد بن علي ﴿وهو الخالق﴾ بصيغة اسم الفاعل. وقال بعضهم معنى: ﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ﴾ العليم؛ أي: كثير المخلوقات والمعلومات، يخلق خلقًا بعد خلق، ويعلم جميع الخلق.
وذكر البرهان الرشيدي: أن صفات الله تعالى، التي على صيغة المبالغة كلها مجاز؛ لأنها موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها؛ لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما له، وصفاته تعالى متناهية في الكمال، لا يمكن المبالغة فيها، وأيضا
(١) البحر المحيط.
107
فالمبالغة تكون في صفات تفيد الزيادة والنقصان، وصفات الله منزهة عن ذلك. واستحسنه الشيخ تقي الدين السبكي.
وقال الزركشي في «البرهان»: التحقيق: أن صيغة المبالغة قسمان:
أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل.
والثاني: بحسب زيادة المفعولات. ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة، إذ الفعل الواقع قد يقع على جماعة متعددين. وعلى هذا القسم تنزل صفات الله، وارتفع الإشكال. ولهذا قال بعضهم، في حكيم، معنى المبالغة فيه، تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع. وقال في «الكشاف»: المبالغة في «التواب» للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده، أو لأنه بليغ في قبول التوبة، ينزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه.
٨٢ - ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته، وتيسر المبدأ والإعادة عليه فقال: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ﴾؛ أي: إنما شأنه سبحانه وتعالى: ﴿إِذا أَرادَ شَيْئًا﴾؛ أي: إذا تعلقت إرادته بوجود شيء من الأشياء ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ﴾؛ أي: لذلك الشيء ﴿كُنْ﴾؛ أي: احدث، واحصل ﴿فَيَكُونُ﴾؛ أي: فيحدث، ويحصل من غير توقف على شيء آخر أصلًا. قرأ الجمهور: ﴿فَيَكُونُ﴾ بالرفع، بناءً على أنه في تقدير فهو يكون فتعطف الجملة الاسمية على الجملة الاسمية المتقدمة، وهي قوله: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ﴾. وقرأ الكسائي: بالنصب عطفًا على ﴿يَقُولَ﴾.
والمعنى: أي إنما شأنه تعالى في إيجاد الأشياء، أن يقول لما يريد إيجاده: تكوّن فيتكوّن، ويحدث فورًا بلا تأخير، ولا افتقار إلى مزاولة عمل، ولا استعمال آلة.
٨٣ - وبعد أن أثبت لنفسه القدرة التامة، والسلطة العامة، نزّه نفسه عما وصفوه به، وعجّب السامعين مما قالوه. فقال: ﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)﴾ والفاء، فيه: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا تقرر ما يوجب تنزهه تعالى وتنزيهه أكمل إيجاب من الشؤون
108
المذكورة كالإنشاء والإحياء، وأن إرادته لا تتخلف عن مراده ونحو ذلك، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: نزهوا الإله ﴿الَّذِي بِيَدِهِ﴾؛ أي: تحت يده وقبضته ﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ أي: ملك كل شيء، وضبطه وتصرفه عما وصفوه تعالى به من العجز، وتعجبوا مما قالوه في شأنه تعالى من النقصان. ونزهوا الذي ﴿إِلَيْهِ﴾ لا إلى غيره. إذ لا مالك سواه على الإطلاق ﴿تُرْجَعُونَ﴾؛ أي: تردون بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم. وهو وعد للمقرين، ووعيد للمنكرين؛ لأن الخطاب عام للمؤمنين والكافرين.
وقرأ الجمهور: ﴿مَلَكُوتُ﴾. وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وإبراهيم التيمي ﴿ملكة﴾ بزنة شجرة. وقرىء ﴿مملكة﴾ بزنة مفعلة. وقرىء ﴿ملك﴾. والملكوت أبلغ من الجميع. وقرأ الجمهور: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بالفوقية على الخطاب مبنيًا للمفعول. وقرأ السلمي، وزر بن حبيش، وأصحاب بن مسعود بالتحية على الغيبة مبنيًا للمفعول أيضًا. وقرأ زيد بن علي على البناء للفاعل.
الإعراب
﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦)﴾.
﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ﴾: ناصب واسمه ومضاف إليه، ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿أَصْحابَ الْجَنَّةِ﴾، ﴿فِي شُغُلٍ﴾: خبر ﴿إن﴾ الثاني، ﴿فاكِهُونَ﴾: خبرها الأول. ويجوز العكس. ويجوز أن يتعلق ﴿فِي شُغُلٍ﴾ بـ ﴿فاكِهُونَ﴾ أو في محل نصب على الحال. وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لبيان أحوال الجنة، وتقريرها، إغاظة للكفار وتقريعًا وزيادة في ندامتهم وحسرتهم. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿وَأَزْواجُهُمْ﴾: معطوف على هم، ﴿فِي ظِلالٍ﴾: خبر المبتدأ؛ أي: لا تصيبهم الشمس لانعدامها بالكلية. ﴿عَلَى الْأَرائِكِ﴾: متعلق بـ ﴿مُتَّكِؤُنَ﴾، و ﴿مُتَّكِؤُنَ﴾، خبر ثان لـ ﴿هم﴾. ويجوز أن يكون ﴿فِي ظِلالٍ﴾: حالًا من المبتدأ على رأي سيبويه. والجملة الاسمية مستأنفة، استئنافًا بيانيًا، مسوقة لبيان كيفية شغلهم.
109
﴿لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)﴾.
﴿لَهُمْ﴾، خبر مقدم، ﴿فِيها﴾: جار ومجرور حال، من ضمير الغائبين، ﴿فاكِهَةٌ﴾: مبتدأ، مؤخر. والجملة مستأنفة. ﴿وَلَهُمْ﴾: خبر مقدم، و ﴿ما﴾: مبتدأ مؤخر. والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ويجوز أن تكون ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة أو مصدرية، وجملة ﴿يَدَّعُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد محذوف، تقديره: يدعونه. ﴿سَلامٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو؛ أي: ما يدعون سلام. ﴿قَوْلًا﴾ منصوب على المصدرية بفعل محذوف؛ أي: يقال قولًا، وجملة القول المحذوف صفة لسلام. ﴿مِنْ رَبٍّ﴾: صفة لـ ﴿قَوْلًا﴾، ﴿رَحِيمٍ﴾ صفة لـ ﴿رَبٍّ﴾. وجملة ﴿سَلامٌ﴾ مع مبتدئه المحذوف بدل من ﴿ما يَدَّعُونَ﴾ أو مستأنفة. أو ﴿سَلامٌ﴾ مبتدأ، خبره جملة القول المحذوف الناصب لـ ﴿قَوْلًا﴾، وسوغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء؛ أي: سلام، يقال لهم: قولًا من رب رحيم. وقيل: تقديره: سلام عليكم، حال كونه قولًا من رب رحيم. وقيل: إنه مبتدأ، وخبره ﴿مِنْ رَبٍّ﴾، و ﴿قَوْلًا﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة، وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر.
﴿وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)﴾.
﴿وَامْتازُوا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿امْتازُوا﴾: فعل أمر، وفاعل، مبني على حذف النون، ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق به. والجملة في محل النصب. مقول لقول محذوف؛ أي: يقول الله لهم امتازوا اليوم؛ أي: انفردوا عن المؤمنين. وجملة القول المحذوف مستأنفة. ﴿أَيُّهَا﴾ ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء، ﴿ها﴾ حرف تنبيه زائد تعويضا عما فات؛ أي: من الإضافة، ﴿الْمُجْرِمُونَ﴾ بدل من؛ أي: على اللفظ. وجملة النداء أيضًا مقول للقول المحذوف. ﴿أَلَمْ﴾ الهمزة: للاستفهام التقريري، المضمن للتوبيخ والتبكيت ﴿لَمْ﴾: حرف جزم، ﴿أَعْهَدْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بـ لَمْ والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف؛ أي: يقول الله لهم أيضًا: ألم أعهد إليكم.
110
و ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَعْهَدْ﴾، ﴿يا بَنِي آدَمَ﴾: منادى مضاف منصوب بالياء. وجملة النداء في محل النصب، مقول للقول المحذوف. ﴿أَنْ﴾: مفسرة؛ لأنها وقعت بعد جملة، فيها معنى القول دون حروفه، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَعْبُدُوا﴾: فعل مضارع، وفاعل مجزوم بلا الناهية، ﴿الشَّيْطانَ﴾: مفعول به. والجملة الفعلية جملة مفسرة، لا محل لها من الإعراب. ويجوز أن تكون ﴿أَنْ﴾: مصدرية، فتكون هي ومدخولها في محل نصب بنزع الخافض؛ أي: ألم أعهد إليكم يا بني آدم ترك عبادة الشيطان؛ أي: بترك عبادته. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿عَدُوٌّ﴾، و ﴿عَدُوٌّ﴾ خبر ﴿إن﴾، ﴿مُبِينٌ﴾ صفة ﴿عَدُوٌّ﴾. وجملة ﴿أَنْ﴾ في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف، على كونها معللة للنهي المذكور قبلها. ﴿وأن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة على ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا﴾، ﴿أَنِ﴾ مفسرة أو مصدرية، ﴿اعْبُدُونِي﴾ فعل أمر، وفاعل، ونون وقاية، ومفعول به، مبني على حذف النون. والجملة إما مفسرة أو في محل جر بحرف جر محذوف؛ أي: بعبادتي. ﴿هذا﴾: مبتدأ، ﴿صِراطٌ﴾: خبره، ﴿مُسْتَقِيمٌ﴾: صفة. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول للقول المحذوف، على كونها معللة لأمر المذكور قبلها.
﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿أَضَلَّ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، ﴿مِنْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَضَلَّ﴾، ﴿جِبِلًّا﴾: مفعول به، ﴿كَثِيرًا﴾: صفة لـ ﴿جِبِلًّا﴾. والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿أَفَلَمْ﴾ الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المقدر، تقديره: أتشاهدون آثار عقوباتهم، فلم تكونوا تعقلون. والجملة المحذوفة جملة استفهامية، لا محل لها من الإعراب. ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿تَكُونُوا﴾ فعل مضارع ناقص واسمه مجزوم بـ ﴿لم﴾، وجملة ﴿تَعْقِلُونَ﴾ خبره. وجملة ﴿تَكُونُوا﴾: معطوفة على تلك المحذوفة.
{هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
111
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)}.
﴿هذِهِ جَهَنَّمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، مسوقة لمجابهتهم المصير الهائل، الذي يصيرون إليه، بعد أن بلغ الغاية في تقريعهم وتوبيخهم. ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿جَهَنَّمُ﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تُوعَدُونَ﴾: من الفعل المغير، ونائب فاعله في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول. ﴿اصْلَوْهَا﴾: فعل أمر، وفاعل، ومفعول، ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق به. والجملة مستأنفة. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اصْلَوْهَا﴾ أيضًا، والباء حرف جر وسبب، ﴿مَا﴾: مصدرية، ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَكْفُرُونَ﴾ خبره. وجملة ﴿كان﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء؛ أي: بسبب كفركم، ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿نَخْتِمُ﴾، ﴿نَخْتِمُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على الله، ﴿عَلى أَفْواهِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿نَخْتِمُ﴾ أيضًا. والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَتُكَلِّمُنا﴾: الواو عاطفة، ﴿تُكَلِّمُنا﴾: فعل مضارع، ومفعول به، ﴿أَيْدِيهِمْ﴾: فاعل. والجملة معطوفة على جملة ﴿نَخْتِمُ﴾. ﴿وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿تُكَلِّمُنا﴾، ﴿بِما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَشْهَدُ﴾، و ﴿ما﴾: مصدرية أو موصولة، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْسِبُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾. وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية أو موصولة؛ أي: بكسبهم، أو بالذي يكسبونه.
﴿وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط، ﴿نَشاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾. ﴿لَطَمَسْنا﴾ اللام: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾، ﴿طمسنا﴾: فعل، وفاعل، والجملة جواب شرط لـ ﴿لَوْ﴾، وجملة ﴿لَوْ﴾ مستأنفة أو معطوفة على ﴿نَخْتِمُ﴾، ﴿عَلى أَعْيُنِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿طمسنا﴾، ﴿فَاسْتَبَقُوا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿استبقوا﴾ فعل ماض، وفاعل معطوف على ﴿طمسنا﴾، ﴿الصِّراطَ﴾: مفعول به على التوسع؛ لأنه ظرف مكان أو
112
منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى الصراط، ﴿فَأَنَّى﴾ الفاء: عاطفة، ﴿أنى﴾: اسم استفهام بمعنى: كيف، في محل نصب على الحال، ﴿يُبْصِرُونَ﴾: فعل، وفاعل معطوف على ﴿استبقوا﴾. والاستفهام هنا معناه النفي؛ أي: لا يبصرون. ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط، ﴿نَشاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر. والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ ﴿لَمَسَخْناهُمْ﴾ اللام: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية، ﴿مسخناهم﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، ﴿عَلى مَكانَتِهِمْ﴾: جار ومجرور حال من مفعول ﴿مسخناهم﴾. وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿لَوْ﴾ الأولى. ﴿فَمَا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿ما﴾ نافية، ﴿اسْتَطاعُوا مُضِيًّا﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة معطوفة على جملة ﴿مسخناهم﴾. ﴿وَلا يَرْجِعُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر، من غير سابك لإصلاح المعنى، معطوف على ﴿مُضِيًّا﴾، والتقدير: فما استطاعوا مضيًا ولا رجوعًا.
﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، ﴿نُعَمِّرْهُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به مجزوم بمن الشرطية على كونها فعل شرط لمن الشرطية. ﴿نُنَكِّسْهُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به مجزوم بمن الشرطية على كونه جوابًا لها. وجملة ﴿مَنْ﴾: الشرطية مستأنفة. ﴿فِي الْخَلْقِ﴾: متعلق بننكسه، ﴿أَفَلا﴾ الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿لا﴾: نافية، ﴿يَعْقِلُونَ﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ذلك المقدر، والتقدير: أيرون ذلك التنكيس فلا يعقلون، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَما﴾: الواو استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ﴾: فعل، وفاعل ومفعولان. والجملة مستأنفة. ﴿وَما﴾: الواو عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿يَنْبَغِي﴾ فعل مضارع، وفاعل
113
مستتر يعود على الشعر، ﴿لَهُ﴾ متعلق بينبغي. والجملة معطوفة على جملة ﴿وَما عَلَّمْناهُ﴾. ﴿إِنْ﴾ نافية، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر، ﴿ذِكْرٌ﴾: خبر، ﴿وَقُرْآنٌ﴾: معطوف عليه، ﴿مُبِينٌ﴾: صفة قرآن. والجملة مستأنفة. ﴿لِيُنْذِرَ﴾ اللام حرف جر وتعليل، ﴿ينذر﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد أو على القرآن. والجملة الفعلية مع ﴿أن﴾ المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإنذاره من كان حيا، الجار والمجرور متعلق بمحذوف معلوم من السياق، تقديره: أرسل أي: محمد لإنذاره أو أنزل القرآن لإنذاره. والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب، مفعول لينذر، ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿حَيًّا﴾: خبره، وجملة كان صلة لمن الموصولة. ﴿وَيَحِقَّ﴾ فعل مضارع، معطوف على ينذر، ﴿الْقَوْلُ﴾: فاعل، ﴿عَلَى الْكافِرِينَ﴾ متعلق بيحق، ﴿أَوَلَمْ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: ألم يتفكروا ولم يروا، ﴿يَرَوْا﴾: فعل، وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿أَنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿خَلَقْنا﴾ فعل، وفاعل، ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿خَلَقْنا﴾، وجملة ﴿خَلَقْنا﴾ في محل الرفع خبر أن، وجملة ﴿أن﴾ سادة مسد مفعولي رأى. وجملة الرؤية معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور حال من ﴿أَنْعامًا﴾، ﴿عَمِلَتْ أَيْدِينا﴾ فعل، وفاعل، صلة لما الموصولة، والعائد محذوف تقديره: مما عملته أيدينا، ﴿أَنْعامًا﴾ مفعول خلقنا، ﴿فَهُمْ﴾ الفاء حرف عطف وتفريع، ﴿لَها﴾ متعلق بمالكون، و ﴿مالِكُونَ﴾: خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة مفرّعة على جملة ﴿خَلَقْنا﴾.
﴿وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)﴾.
﴿وَذَلَّلْناها﴾: فعل، وفاعل، ومفعول، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿ذَلَّلْناها﴾. والجملة
114
معطوفة على جملة ﴿خَلَقْنا﴾. ﴿فَمِنْها﴾: الفاء: عاطفة تفريعية، ﴿مِنْها﴾: خبر مقدم، ﴿رَكُوبُهُمْ﴾: مبتدأ مؤخر. والجملة معطوفة مفرّعة على جملة ﴿ذللنا﴾. ﴿وَمِنْها﴾: متعلق بـ ﴿يَأْكُلُونَ﴾، وجملة ﴿يَأْكُلُونَ﴾ معطوفة على جملة ﴿فَمِنْها رَكُوبُهُمْ﴾ عطف فعلية على اسمية. ﴿وَلَهُمْ﴾ الواو عاطفة، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿فيها﴾: حال من ﴿مَنافِعُ﴾، و ﴿مَنافِعُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿وَمَشارِبُ﴾ معطوف عليه. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَمِنْها رَكُوبُهُمْ﴾ ﴿أَفَلا﴾ الهمزة: للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أيشاهدون تلك النعم، فلا يشكرون المنعم عليها. والجملة المقدرة، جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿لا﴾: نافية، وجملة ﴿يَشْكُرُونَ﴾: معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿وَاتَّخَذُوا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿اتَّخَذُوا﴾ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿اتَّخَذُوا﴾، ﴿آلِهَةً﴾ مفعول أول لـ ﴿اتَّخَذُوا﴾. والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿يُنْصَرُونَ﴾ من الفعل المغير، ونائب فاعله في محل الرفع، خبره. وجملة ﴿لعل﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿اتَّخَذُوا﴾؛ أي: حالة كونهم راجين النصر من آلهتهم. ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿نَصْرَهُمْ﴾ مفعول به، ﴿وَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، ﴿لَهُمْ﴾ حال من جند؛ لأنه كان في الأصل صفة له، ﴿جُنْدٌ﴾ خبرهم، ﴿مُحْضَرُونَ﴾ خبر ثان لهم أو نعت لـ ﴿جُنْدٌ﴾. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يَسْتَطِيعُونَ﴾ أو من ضمير ﴿نَصْرَهُمْ﴾. ﴿فَلا﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سمعت قولهم في الله وفيك، وأردت بيان ما هو الأكثر لك أجرا وأرفع لك درجةً فأقول لك. ﴿لا﴾ ناهية جازمة، ﴿يَحْزُنْكَ﴾: فعل مضارع، ومفعول به، مجزوم بلا الناهية، ﴿قَوْلُهُمْ﴾ فاعل. والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿نَعْلَمُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب، مفعول به
115
لـ ﴿نَعْلَمُ﴾، وجملة ﴿يُسِرُّونَ﴾ صلة لما الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما يسرونه، ﴿وَما يُعْلِنُونَ﴾ معطوف على ﴿ما يُسِرُّونَ﴾.
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)﴾.
﴿أَوَلَمْ يَرَ﴾: الهمزة: فيه للاستفهام التقريري المضمن للتعجب، داخلة على مقدر يقتضيه السياق، والواو عاطفة على ذلك المقدر. والجملة المقدرة مستأنفة. ﴿لَمْ﴾ حرف جزم، ﴿يَرَ﴾ فعل مضارع، مجزوم بلم، ﴿الْإِنْسانُ﴾: فاعل. والجملة معطوفة على تلك المقدرة. ﴿أَنَّا﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿خَلَقْناهُ﴾ خبره، وجملة ﴿أن﴾ في محل النصب، سادة مسد مفعولي ﴿يرى﴾. ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿خلقنا﴾، ﴿فَإِذا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿إذا﴾ فجائية، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، ﴿خَصِيمٌ﴾ خبر، ﴿مُبِينٌ﴾ صفة خصيم. والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿خلقنا﴾؛ لأنه في تأويل خلقناه من نطفة ففاجأ خصومتنا.
﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠)﴾.
﴿وَضَرَبَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ضَرَبَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، ﴿لَنا﴾ متعلق بـ ﴿ضَرَبَ﴾، ﴿مَثَلًا﴾ مفعول به. والجملة معطوفة على جملة إذا الفجائية؛ لأنها في تأويل الفعل، كما مر. ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على ضرب، ﴿قالَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الإنسان. والجملة مستأنفة. ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل الرفع، مبتدأ، ﴿يُحْيِ الْعِظامَ﴾: فعل، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب مقول قال. ﴿وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من العظام. ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. ﴿يُحْيِيهَا﴾ فعل، ومفعول، ﴿الَّذِي﴾ فاعل. والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَنْشَأَها﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به،
116
والجملة صلة الموصول، ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ ﴿أنشأ﴾، ﴿وَهُوَ﴾ مبتدأ، ﴿بِكُلِّ خَلْقٍ﴾ متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾، ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل أنشأ. ﴿الَّذِي﴾ بدل من الموصول الأول، ﴿جَعَلَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر، والجملة صلة الموصول، ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور في موضع المفعول الثاني، ﴿مِنَ الشَّجَرِ﴾ حال من ﴿نارًا﴾؛ لأنه في الأصل صفة نار، ﴿الْأَخْضَرِ﴾ صفة لـ ﴿الشَّجَرِ﴾ ﴿نارًا﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾ وجملة ﴿جَعَلَ﴾ صلة الموصول، ﴿فَإِذا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿إذا﴾ حرف فجأة، ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ، ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿تُوقِدُونَ﴾، وجملة ﴿تُوقِدُونَ﴾ خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿جَعَلَ﴾؛ لأنه في تأويل ففاجأتم الإيقاد.
﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨١)﴾.
﴿أَوَلَيْسَ﴾ الهمزة: للاستفهام التقريري، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو: عاطفة على ذلك المقدر، ﴿لَيْسَ الَّذِي﴾: فعل ناقص، واسمه، ﴿خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ صلة الموصول، ﴿بِقادِرٍ﴾ خبر ﴿لَيْسَ﴾، والباء: زائدة. وجملة ﴿لَيْسَ﴾ معطوفة على تلك المقدرة، والجملة المقدرة مستأنفة. ﴿عَلى أَنْ﴾ متعلق بقادر، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿يَخْلُقَ﴾ فعل مضارع منصوب بأن، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿مِثْلَهُمْ﴾ مفعول ﴿يَخْلُقَ﴾، وجملة ﴿يَخْلُقَ﴾ في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلى﴾، تقديره: بقادر على خلق مثلهم. ﴿بَلى﴾ حرف جواب لإثبات النفي، والواو: عاطفة على ما يفيده الإيجاب؛ أي: بلى هو قادر على ذلك. والجملة المحذوفة، جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ﴾ مبتدأ وخبر، ﴿الْعَلِيمُ﴾ خبر ثان. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة.
﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾.
﴿إِنَّما﴾: كافة ومكفوفة، ﴿أَمْرُهُ﴾ مبتدأ، ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من
117
الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ ﴿يَقُولَ﴾، ﴿أَرادَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به. والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذا﴾، ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿يَقُولَ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على الله، ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿يَقُولَ﴾. والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية، تقديره: إنما أمره قوله لشيء: كن وقت إرادة إيجاده. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿كُنْ﴾ فعل أمر، تام بمعنى أحدث، وفاعله ضمير يعود على الشيء. والجملة في محل النصب مقول ﴿يَقُولَ﴾. ﴿فَيَكُونُ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿يكون﴾: فعل مضارع تام، وفاعله ضمير يعود على الشيء. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فهو يكون. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ﴾. وقرىء بالنصب عطفًا على ﴿يَقُولَ﴾.
﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)﴾.
﴿فَسُبْحانَ الَّذِي﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا تقرر ما يوجب تنزهه تعالى وتنزيهه عما لا يليق به، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: سبحان الله.. إلخ. وجملة ﴿اذا﴾ المقدرة مستأنفة. ﴿سبحن﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الذي بيده ملكوت كل شيء سبحانًا؛ أي: نزّهوه تنزيهًا. وجملة ﴿سبحن﴾: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿سبحن﴾ مضاف، ﴿الَّذِي﴾ مضاف إليه، ﴿بِيَدِهِ﴾: خبر مقدم، ﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾: مبتدأ مؤخر مضاف إليه. والجملة الاسمية صلة الموصول. ﴿وَإِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾، و ﴿تُرْجَعُونَ﴾: فعل، ونائب فاعل، معطوف على جملة الصلة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فِي شُغُلٍ﴾ بسكون الغين وضمها، وقد قرىء بهما. وفي «القاموس»: الشغل بالضم وبضمتين، وبالفتح وبفتحتين: ضد الفراغ، وجمعه أشغال وشغول، وشغله كمنعه شغلًا ويضم، وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة، واشتغل به وشغل
118
كعني، ويقال منه ما أشغله وهو شاذ؛ لأنه لا يتعجب من المجهول. وأنكر شارح «القاموس» أشغل، وقال: لا يعرف نقله عن أحد من أئمة اللغة. قال في «المفردات» الشغل بضم الغين وسكونها: العارض الذي يذهل الإنسان. وفي «الإرشاد»: والشغل: هو الشأن الذي يصد المرء، ويشغله عما سواه من شؤونه، لكونه أهم عنده من الكل، إما لإيجابه كمال المسرة والبهجة، أو كمال المساءة والغم. والمراد هنا: هو الأول. وما فيه من التنكير والإبهام للإيذان بارتفاعه عن رتبة البيان، والمراد به: ما هم فيه من فنون الملاذ، التي تلهيهم عما عداها بالكلية، كما فصّلناه في مبحث التفسير.
﴿فاكِهُونَ﴾؛ أي: ناعمون أو متلذذون في النعمة، من الفكاهة بالضم. وهي التمتع والتلذذ، مأخوذ من الفاكهة. قال الجوهري في صحاحه: الفاكهة بالضم: المزاح، والفكاهة بالفتح: مصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب العيش فرحانا ذا نشاط من التنعم. فإذا فسرنا قوله: ﴿فاكِهُونَ﴾ بأنهم ناعمون كانت من الفكاهة بالفتح. وفي «القاموس»: الفاكهة: الثمر كله، وقول مخرج التمر والعنب والرمان منها مستدلًا بقوله تعالى: ﴿فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ باطل مردود. والفاكهاني: بائعها، وكخجل آكلها، والفاكه صاحبها، وفكههم تفكيهًا أتاهم بها، والفاكهة: النخلة المعجبة واسم الحلواء، وفكههم بملح الكلام تفكيها أطرفهم بها، والاسم الفكيهة والفكاهة بالضم. وقال أبو زيد: الفاكه: الطيب النفس، الضحوك.
﴿وَأَزْواجِهِمْ﴾ والمراد: نساءهم اللاتي كن لهم في الدنيا، أو الحور العين. ﴿فِي ظُلَلٍ﴾ جمع ظل كشعاب جمع شعب. والظل: ضد الضح، أو جمع ظلة، كقباب جمع قبة. وهو الستر الذي يسترك من الشمس. وقال في «المفردات»: ويعبر بالظل عن العز والمنعة، وعن الرفاهة. قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١)﴾؛ أي: في عزة ومنعة. وأظلني فلان؛ أي: حرسني، وجعلني في ظله؛ أي: في عزه ومنعته، ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ كناية عن نضارة العيش، انتهى.
119
﴿عَلَى الْأَرائِكِ﴾ جمع أريكة، وهي كسفينة سرير في حجلة، والحجلة محركة موضع يزين بالثياب والستور للعروس، كما في «القاموس». وقيل: الفرش الكائن في الحجلة، بفتحتين أو بسكون الجيم مع ضم الحاء، وقيل مع كسرها، والمراد: نحو قبة تعلق على السرير، وتزين به العروس. ﴿مُتَّكِؤُنَ﴾ من الاتكاء، وهو الاعتماد.
﴿وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ﴾؛ أي: يطلبون مضارع ادعى بوزن افتعل الشيء إذا فعله لنفسه من دعا يدعو بمعنى طلب. وقد أشرب هنا معنى التمني، ومن مجيء الادعاء بمعنى التمني، كما قال في «تاج المصادر» قولهم: ادع علي ما شئت، بمعنى: تمنه علي. والمعنى هنا: ولهم ما يتمنونه من ربهم. وأصل ﴿يَدَّعُونَ﴾ يدتعيون على وزن يفتعلون، استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى ما قبلها، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار يدتعون، ثم أبدلت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال فصار يدعون، اهـ زاده. وقيل: افتعل بمعنى تفاعل؛ أي: ما يتداعونه.
﴿وَامْتازُوا الْيَوْمَ﴾؛ أي: انفردوا، وابتعدوا عن المؤمنين. يقال: مازه عنه يميزه ميزًا؛ أي: عزله ونحاه. فامتاز والتمييز: الفصل بين المتشابهات. ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ والعهد: الوصية، وعرض ما فيه خير ومنفعة. ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾ وعبادة الشيطان كناية عن عبادة غير الله تعالى، من الآلهة الباطلة، وأضيفت إلى الشيطان، لأنه الآمر بها، والمزين لها.
﴿جِبِلًّا﴾ والجبل: الجماعة العظيمة من الخلق، أقلها عشرة آلاف، والكثير الذي لا يحصيه إلا الله تعالى. ويقال فيه: جبلًا بكسر الجيم والباء وتشديد اللام كسجل، وجبلًا بضم الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام، وجبلا بكسر وسكون الباء. وهذه اللغات في الجبل بمعنى الخلق.
﴿اصْلَوْهَا﴾؛ أي: ذوقوا حرها. يقال: صلى اللحم كرمى يصليه صليا شواه وألقاه في النار، وصلى النار قاسى حرها، وأصله: اصليوها، فأعل كاخشوا. وهو أمر تنكيل وإهانة.
120
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ﴾ والختم على الأفواه يراد به: المنع من الكلام. والأفواه جمع فم، وأصل فم فوه بالفتح. وهو مذهب سيبويه والبصريين كثوب وأثواب، حذفت الهاء حذفا على غير قياس لخفائها، ثم الواو لاعتدالها، ثم أبدل الواو المحذوفة ميما لتجانسهما؛ لأنهما من حروف الشفة، فصار فم. فلما أضيف رد إلى أصله ذهابا به مذهب أخواته من الأسماء. وقال الفراء: جمع فوه بالضم كسوق وأسواق، اهـ من «الروح».
﴿لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ﴾ طمس الشيء: إزالة أثره بالكلية. يقال: طمسته؛ أي: محوته، واستأصلت أثره كما في «القاموس». ﴿فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ﴾ الاستباق افتعال من السبق. والصراط من السبيل: ما لا التواء فيه، بل يكون على سبيل القصد؛ أي: ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم.
﴿وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ﴾ المسخ تحويل الصورة إلى ما هو أقبح منها، سواء كان ذلك التحويل، بقلبها إلى صورة البهيمية، مع بقاء الصورة الحيوانية، أو بقلبها حجرا ونحوه من الجمادات، بإبطال القوى الحيوانية. ﴿عَلى مَكانَتِهِمْ﴾؛ أي: في أماكنهم حيث يجترحون القبائح، والمكانة، بمعنى: المكان، إلا أن المكانة أخص، كالمقامة والمقام. ﴿فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا﴾ أصله: مضوي بزنة فعول، قلبت الواو ياءً وأدغمت الياء في الياء، وكسرت الضاد قبل الياء لتسلم الياء. ومن قرأ ﴿مضيا﴾ بكسر الميم، فإنما كسرها اتباعًا للضاد.
﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ﴾؛ أي: ومن نطل عمره في الدنيا. والعمر: مدة عمارة البدن بالروح. ﴿نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ من التنكيس، وهو أبلغ من النكس، والنكس أشهر. وهو قلب الشيء على رأسه، ومنه: نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه. والنكس في المرض: أن يعود في مرضه بعد إفاقته. والنكس في الخلق: الرد إلى أرذل العمر.
﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ﴾ قال الراغب: يقال: شعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا؛ أي: علمت علما في الدقة كإصابة الشعر. وسمي الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته. يقال: شعر به كنصر وكرم علم به، وفطن له، وعقله. وفي
121
«القاموس»: الشعر غُلِّب على منظوم القول لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعرا. والجمع أشعار، انتهى. والشعر: ضرب من ضروب الكلام، ذو وزن خاص، ينتهي كل بيت منه بحرف خاص يسمى قافية. وهو يسير مع العواطف والأهواء، ولا يتبع ما يميله العقل والمنطق الصحيح. ومن ثم كان مستقر الأكاذيب والمبالغات في الأهاجي، والمدائح، والتفاخر، والتنافر. فإذا غضب الشاعر أقذع في القول، وبالغ في الذم، وضرب بالحقيقة عرض الحائط، ولا يرى في ذلك ضيرًا، وإذا هو استرضي بعد قليل رفع من هجاه إلى السماكين، وأدخله في زمرة العظماء الشجعان، أو الكرماء الأجواد إلى نحو هذا، مما تراه في شعر الهجائين المداحين، حتى لقد بلغ الأمر بهم أن قالوا: أعذب الشعر أكذبه. والقرآن الكريم آداب، وأخلاق، وحكم، وأحكام وتشريع. فيه سعادة البشر في دنياهم ودينهم، وآخرتهم فرادى وجماعات، فحاشى أن يكون شعرًا ولا كهانةً ولا سحرًا.
﴿وَما يَنْبَغِي لَهُ﴾ البغاء: الطلب، والانبغاء انفعال منه. يقال: بغيته؛ أي: طلبته فانطلب. ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا﴾ العمل: كل فعل من الحيوان يقصد. فهو أخص من الفعل. قال الراغب: الأيدي جمع يد بمعنى الجارحة، خص لفظ اليد لقصورنا، إذ هي أجل الجوارح التي يتولى بها الفعل فيما بيننا. ﴿وَذَلَّلْناها﴾ وفي «المفردات»: الذل: ما كان عن قهر، والذل ما كان بعد تصعب وشماس من غير قهر، وذلت الدابة بعد شماس ذلًا، وهي ذلول ليست بصعب.
﴿فَمِنْها رَكُوبُهُمْ﴾ والركوب بفتح الراء بمعنى: المركوب كالحلوب بمعنى: المحلوب، والركوب بالضم: كون الإنسان على ظهر حيوان. وقد يستعمل في السفينة والسيارة وغيرهما؛ أي: مركوب كان. والراكب اختص في التعارف بممتطي البعير. ﴿وَمَشارِبُ﴾ جمع مشرب بالفتح مصدر أو مكان. والظاهر أن المراد به: ضروعها، اهـ شيخنا. والشرب: تناول كل مائع ماءً كان أو غيره.
﴿خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ والخصيم: المبالغ في الجدل والخصومة إلى أقصى الغاية أو هو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: مخاصم مجادل. والخصومة: الجدل. قال في
122
«القاموس»: خاصمه مخاصمة وخصومة فخصمه يخصمه غلبه، وهو شاذ؛ لأن فاعلته ففعلته يرد يفعل منه إلى الضم إن لم تكن عينه حرف حلق. فإنه بالفتح كفاخره ففخره يفخره.
﴿وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ والرميم كالرمة، والرفات العظم البالي؛ أي: بالية. وفي «المختار»: رم بالفتح يرم رمة بالكسر فيهما إذا بلي، وبابه ضرب، فهو اسم لا صفة ولذلك لم يؤنث، وقد وقع خبر المؤنث، ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. وإيضاح هذا الكلام: أن فعيلًا بمعنى فاعل، لا تلحق التاء في مؤنثه إلا إذا بقيت وصفيته، وما هنا انسلخ عنها وغلبت عليه الاسمية؛ أي: صار بالغلبة اسمًا لما بلي من العظام.
﴿مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ﴾ والشجر من النبت ما له ساق. والخضرة أحد الألوان بين البياض والسواد، وهو إلى السواد أقرب. فلهذا سمي الأسود أخضر، والأخضر أسود. وقيل: سواد العراق للموضع الذي تكثر فيه الخضرة، ووصف الشجر بالأخضر دون الخضراء نظرا إلى اللفظ، فإن لفظ الشجر مذكر، ومعناه مؤنث؛ لأنه جمع شجرة كثمر وثمرة، والجمع مؤنث لكونه بمعنى الجماعة.
﴿بَلى﴾ كلمة جواب كنعم، تأتي بعد كلام منفي. وفي «المفردات»: بلى جواب استفهام مقترن بنفي، نحو قوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى﴾. ونعم يقال في الاستفهام المجرد نحو: ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ﴾ ولا يقال هاهنا بلى. فإذا قيل: ما عندي شيء فقلت: بلى، فهو رد لكلامه، فإذا قلت: نعم فإقرار منك. انتهى.
﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ الملكوت، والرحموت، والرهبوت، والجبروت مصادر. زيدت الواو والتاء فيها للمبالغة في الملك، والرحمة، والرهبة، والجبر. قال في «المفردات»: الملكوت مختص بملك الله تعالى. والملك ضبط الشيء، والتصرف فيه بالأمر والنهي. والعرب تقول: جبروتي خير من رحموتي.
123
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التنوين للتفخيم في قوله: ﴿فِي شُغُلٍ﴾؛ أي: في شغل عظيم الشأن.
ومنها: التعبير بالجملة الاسمية في قوله: ﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥)﴾ عن حالهم هذه، قبل تحققها، تنزيلًا للمترقب المتوقع منزلة الواقع، للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها، ولزيادة مساءة المخاطبين بذلك. وهم الكفار.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾، ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ فالأول سلب، والآخر إيجاب.
ومنها: التنوين في ﴿صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ للتفخيم.
ومنها: تقديم النهي في قوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾ على الأمر في قوله: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ رعاية للقاعدة عندهم، من تقديم التخلية على التحلية، وليتصل به قوله: ﴿هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾.
ومنها: تقديم الجارين على متعلقهما في قوله: ﴿فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ﴾ لمراعاة الفواصل.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا﴾ حيث أن الإضلال من الشيطان لكونه سبب ضلالهم.
ومنها: الالتفات من قوله: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا﴾ الخ إلى الغيبة في قوله: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ﴾ للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعي أن يعرض عنهم، ويحكي أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن ذلك من مقتضيات الختم؛ لأن الخطاب لتلقي الجواب، وقد انقطع بالكلية.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾، وفي قوله:
124
﴿أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾، وأمثال ذلك.
منها: الطباق بين ﴿مُضِيًّا﴾ ﴿يَرْجِعُونَ﴾.
ومنها: وضع الفعل موضع المصدر في قوله: ﴿وَلا يَرْجِعُونَ﴾ لمراعاة الفاصلة؛ لأن الأصل مضيًا ولا رجوعًا.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ﴾؛ لأنه كناية عن نفي كونه شاعرًا، فنفى اللازم الذي هو تعليم الشعر وأراد نفي الملزوم الذي هو كونه شاعرا، بطريق الكناية، التي هي أبلغ من التصريح.
ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا﴾ الآية، قابل بين الإنذار والإعذار، وبين المؤمنين والكفار في قوله: ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ﴾. وهو من ألطف العبارة.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا﴾ الأنعام تخلق ولا تعمل، ولكن شبّه اختصاصه بالخلق والتكوين بمن يعمل أمرًا بيديه، ويصنعه بنفسه. واستعار لفظ العمل للخلق، بطريقة الاستعارة التمثيلية.
ومنها: ذكر العام بعد الخاص في قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ﴾ بعد قوله: ﴿فَمِنْها رَكُوبُهُمْ﴾ الآية. وفائدته تفخيم النعمة، وتعظيم المنة.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾؛ أي: كالجند في الخدمة والدفاع، حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه، فأصبح بليغًا.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾، وقوله: ﴿الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾، وفي قوله: ﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ لأنه صيغة مبالغة من الملك، ومعناه: الملك الواسع التام مثل: الرحموت، والرهبوت، والجبروت.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا﴾ حيث استعار المثل الذي هو القول السائر للأمر العجيب تشبيهًا له في الغرابة بالمثل العرفي الذي هو القول السائر.
125
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فشبه سرعة تأثير قدرته تعالى، ونفاذها في الأشياء، بأمر المطاع، من غير توقف ولا امتناع. فإذا أراد شيئًا وجد من غير إبطاء ولا تأخير. وهو من لطائف الاستعارة، وعبارة الروح: وهذا تمثيل لتأثير قدرته تعالى، فيما أراده بأمر الآمر، المطاع للمأمور المطيع، في سرعة حصول المأمور به، من غير توقف على شيء ما، وهو قول أبي منصور الماتريدي، لأنه قال: لا وجه لحمل الكلام على الحقيقة، إذ ليس هناك قول ولا آمر ولا مأمور.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) إلى هنا وقفت الأقلام في كتابة ما أردنا إيراده على سورة يس من التفسير والتأويل في تاريخ ٢٥/ ٢/ ١٤١٤، في صباح يوم الجمعة، بعيد صلاة الفجر، اليوم الخامس والعشرين من شهر صفر المبارك من شهور، سنة ألف وأربع مئة وأربع عشرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلوات، وأتم الصلات، وأزكى التحيات، وعلى آله وأصحابه، وجميع الأمّات.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، كما أعنتنا على كتابة ما مضى فأكرمنا بإتمام ما بقي من كتابة تفسير كتابك الكريم، خالصا مخلصا لوجهك الكريم، مع النفع التام به إلى يوم القيامة، لي ولجميع المسلمين، آمين يا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
126
أهم مقاصد هذه السورة
١ - بيان أن محمدًا - ﷺ -، رسول من عند الله حقا، وأنه نذير للأميين وغيرهم.
٢ - المنذرون من النبي - ﷺ - صنفان: صنف ميؤوس من صلاحه، وآخر قد سعى لفلاحه.
٣ - أعمال الفريقين تحصى عليهم، فتحفظ أخبارهم، وتكتب آثارهم.
٤ - ضرب المثل لهم بأهل أنطاكية، إذ كذبوا الناصح لهم وقتلوه، فدخلوا النار، ودخل الجنة بما قدم من إيمان وعمل صالح وهداية وإرشاد.
٥ - الدليل الطبيعي والعقلي على البعث.
٦ - تبيان قدرة الله ووحدانيته وعلمه ورحمته الشاملة.
٧ - جزاء الجاحدين على كفرانهم أنعم الله عليهم، وسرعة أخذهم، وندمهم حين معاينة العذاب.
٨ - الجنة ونعيمها وما أعد للمؤمنين فيها.
٩ - توبيخ الكافرين على اتباعهم همزات الشياطين.
١٠ - قدرته تعالى على مسخهم في الدنيا وطمسهم.
١١ - الانتفاع بالأنعام في المأكل والمشرب والملبس.
١٢ - إثبات البعث بما أقامه من أدلة في الآفاق والأنفس.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
127
سورة الصافات
سورة الصافات مكية قال القرطبي في قول الجميع، وأخرج ابن الضريس، وابن النحاس، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس قال: نزلت بمكة.
وهي (١) مئة واثنتان وثمانون آية، وثمان مئة وستون كلمة، وثلاث آلاف وثمان مئة وستة أو تسعة وعشرون حرفًا.
تسميتها: وسميت (٢) باسم أول كلمة منها، من باب تسمية الشيء باسم بعضه على حكم عادته سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. فضلها: ومن فضائلها ما أخرجه (٣) النسائي والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال: كان رسول الله يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات. قال ابن كثير: تفرد به النسائي، وأخرج ابن أبي داود في فضائل القرآن، وابن النجار في تاريخه من طريق نهشل بن سعد الورداني، عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: «من قرأ يس والصافات يوم الجمعة، ثم سأل الله، أعطاه سؤله»، وأخرج أبو نعيم في «الدلائل»، والسلفي في «الطيوريات» عن ابن عباس: أن النبي - ﷺ - لما سأله ملوك حضرموت، عند قدومهم عليه، أن يقرأ عليهم شيئًا مما أنزل الله قرأ: ﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١)﴾ حتى بلغ ﴿بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ﴾ الحديث. وعن رسول الله - ﷺ -: «من قرأ والصافات أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كل جن وشيطان، وتباعدت عنه مردة الجن والشياطين، وبرىء من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنًا بالمرسلين».
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها من وجوه (٤):
(١) الخازن.
(٢) الصاوي.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
128
١ - أن فيها تفصيل أحوال القرون الغابرة، التي أشير إليها إجمالًا في السورة السابقة في قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١)﴾.
٢ - أن فيها تفصيل أحوال المؤمنين، وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة، مما أشير إليه إجمالًا في السورة قبلها.
٣ - المشاكلة بين أولها وآخر سابقتها، ذاك أنه ذكر فيما قبلها قدرته تعالى على المعاد وإحياء الموتى، وعلل ذلك بأنه منشئهم، وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان. وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك. وهو وحدانيته تعالى، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادًا وإعدامًا إلا إذا كان المريد واحدًا، كما يشير إلى ذلك قوله: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾.
وعبارة أبي حيان هنا: مناسبة أول هذه السورة لآخر يس (١): أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى، وأنه هو منشئهم، وإذا تعلقت إرادته بشيء كان.. ذكر تعالى هنا وحدانيته. إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجودًا وعدمًا إلا بكون المريد واحدًا. وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾.
الناسخ والمنسوخ فيها: ذكر أبو عبد الله محمد بن حزم في كتابه «الناسخ والمنسوخ» سورة الصافات كلها محكم إلا أربع آيات:
الأولى والثانية: قوله تعالى: ﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩)﴾، نسختا بآية السيف.
الثالثة والرابعة: قوله تعالى: ﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩)﴾، نسختا أيضًا بآية السيف.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) البحر المحيط.
129

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْرًا (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْرًا (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا...﴾ الآيات، افتتح سبحانه هذه
130
السورة بإثبات وجود الخالق ووحدانيته وعلمه وقدرته بذكر خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق المشارق والمغارب، وهنا أثبت الحشر، والنشر، وقيام الساعة، ببيان أن من خلق هذه العوالم، التي هي أصعب في الخلق منكم، فهو قادر على إعادة الحياة فيكم بالأولى، كما جاء في السورة السابقة: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾، وجاء في قوله: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) فيما سلف إنكارهم للبعث في الدنيا، وشديد إصرارهم على عدم حدوثه.. أردف هذا، ببيان أنهم يوم القيامة يرجعون على أنفسهم بالملامة، إذا عاينوا أهوال هذا اليوم، ويعترفون بأنهم كانوا في ضلال مبين، ويندمون على ما فرّطوا في جنب الله سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين فيما سلف، أن الكافرين يندمون يوم القيامة، على ما فرط منهم، من العناد والتكذيب للبعث، حيث لا يجدي الندم.. أردف هذا بذكر أنهم يتلاومون فيما بينهم حينئذ، ويتخاصم الأتباع والرؤساء، فيلقي الأولون تبعة ضلالهم على الآخرين، فيجيبونهم بأن التبعة عليكم أنفسكم دوننا، إذ كنتم قوما ضالين بطبيعة حالكم، وما ألزمناكم بشيء مما كنتم تعبدون، أو تعتقدون، بل تمنينا لكم من الخير ما تمنينا لأنفسنا، فاتبعتمونا دون قسر ولا جبر منا لكم. ثم أعقبه بذكر ما أوقعهم في هذا الذل والهوان، فبين أنهم قد كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد، أعرضوا عنها استكبارًا، وقالوا: أنترك دين آبائنا اتباعًا لقول شاعر مجنون. ثم رد عليهم مقالهم بأنه ليس بالمجنون، ولا هو بالشاعر، بل جاء بما هو الحق، الذي لا محيص عن تصديقه، وهو التوحيد الذي جاء به المرسلون كافة.
(١) المراغي.
131
Icon