تفسير سورة غافر

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة غافر من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية قال الحسن إلاّ قوله ‏ " ‏ وسبح بحمد ربك لأن الصلوات نزلت بالمدينة وقد قيل في الحواميم‏ :‏ كلها إنها مكيات عن ابن عباس وابن الحنفية، وهي خمس وثمانون آية‏. ‏ وقيل‏ :‏ ثنتان وثمانون. ‏

قوله وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ من القائل ذلك؟ قلت: المقضى بينهم إما جميع العباد وإما الملائكة، كأنه قيل: وقضى بينهم بالحق، وقالوا الحمد لله على قضائه بيننا بالحق، وإنزال كل منا منزلته التي هي حقه.
عن عائشة رضى الله عنها: أنّ رسول الله ﷺ كان يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزمر «١»
سورة المؤمن
مكية. قال الحسن: إلا قوله وسبح بحمد ربك، لأن الصلوات نزلت بالمدينة وقد قيل في الحواميم كلها: أنها مكيات: عن ابن عباس وابن الحنفية وهي خمس وثمانون آية، وقيل ثنتان وثمانون [نزلت بعد الزمر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)
قرئ بإمالة ألف «حا» وتفخيمها، وبتسكين الميم وفتحها. ووجه الفتح: التحريك لالتقاء الساكنين، وإيثار أخف الحركات، نحو أين وكيف أو النصب بإضمار اقرأ ومنع الصرف للتأنيث والتعريف أو للتعريف وأنها على زنة أعجمى نحو قابيل وهابيل. التوب والثوب والأوب:
أخوات في معنى الرجوع والطول والفضل والزياد. يقال: لفلان على فلان طول، والإفضال. يقال:
طال عليه وتطوّل، إذا تفضل. فإن قلت: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا، والموصوف معرفة يقتضى أن يكون مثله معارف؟ قلت: أمّا غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان، لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن. أو غدا حتى يكونا في
(١). أخرجه النسائي من رواية حماد بن زيد عن أبى أمامة عن عائشة في أثناء حديث، وأخرجه أحمد وإسحاق وأبو يعلى والترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب في التاسع عشر من هذا الوجه.
148
تقدير الانفصال، فتكون إضافتهما غير حقيقية، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش. وأما شديد العقاب فأمره مشكل، لأنه في تقدير: شديد عقابه لا ينفك من هذا التقدير، وقد جعله الزجاج بدلا. وفي كونه بدلا وحده بين الصفات نبوّ ظاهر. والوجه أن يقال: لما صودف بين هؤلاء المعارف هذه النكرة الواحدة، فقد آذنت بأنّ كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن، فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل «١» ولقائل أن يقول: هي صفات، وإنما حذف الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا، فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج، حتى قالوا: ما يعرف سحادليه من عنادليه، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع، على أنّ الخليل قال في قولهم ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك، وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل أنه على نية الألف واللام كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف.
ويجوز أن يقال: قد تعمد تنكيره، وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال: هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال. فإن قلت: ما بال الواو في قوله وَقابِلِ التَّوْبِ؟ قلت:
فيها نكتة جليلة، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات. وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول.
وروى أنّ عمر رضى الله عنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له: تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب، من عمر إلى فلان: سلام عليك، وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو: بسم الله الرحمن الرحيم: حم إلى قوله إليه المصير. وختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما أتته الصحيفة
(١). قال محمود: «فان قلت لما اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا والموصوف معرفة يقتضى أن يكون مثله معارف؟ وأجاب بأن غافر الذنب وقابل التوب معرفان، لأنهما صفتان لازمتان، وليستا لحدوث الفعل حتى يكونا حالا أو استقبالا، بل إضافتهما حقيقة. وأما شديد العقاب فلا شك في أن إضافته غير حقيقية، يريد:
لأنه من الصفات المشبهة، ولا تكون إضافتها محضة أبدا. عاد كلامه قال: وجعله الزجاج بدلا وحده، وانفراد البدل من بين الصفات فيه نبو ظاهر. والوجه أن يقال: إن جميعها أبدال غير أوصاف، لوقوع هذه النكرة التي لا يصح أن تكون صفة كما لو جاءت قصيدة تفاعيلها كلها على مستفعل، قضى عليها بأنها من بحر الرجز، فان وقع فيها جزء واحد على متفاعلن: كانت من الكامل»
قال أحمد: وهذا لأن دخول مستفعلن في الكامل يمكن، لأن متفاعلن يصير بالاضمار إلى مستفعلن، وليس وقوع متفاعلن في الرجز ممكنا، إذ لا يصبر إليه مستفعلن البتة، فما يفضى إلى الجمع بينهما فانه يتعين، وهذا كما يقضى الفقهاء بالخاص على العام لأنه الطريق في الجمع بين الدليلين.
149
جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يردّدها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته، فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلة فسدّدوه ووقفوه، وادعوا له الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه «١».
[سورة غافر (٤٠) : آية ٤]
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤)
سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر: والمراد: الجدال بالباطل، من الطعن فيها، والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله، وقد دلّ على ذلك وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ جدالا في القرآن كفر» «٢» وإيراده منكرا، وإن لم يقل: إنّ الجدال، تمييز منه بين جدال وجدال. فإن قلت: من أين تسبب لقوله فَلا يَغْرُرْكَ ما قبله؟ قلت: من حيث إنهم لما كانوا مشهودا عليهم من قبل الله بالكفر، والكافر لا أحد أشقى منه عند الله: وجب على من تحقق ذلك أن لا نرجح أحوالهم في عينه، ولا يغره إقبالهم في دنياهم وتقلبهم في البلاد بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة، وكانت قريش كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن، ولهم الأموال يتجرون فيها ويتربحون، فانّ مصير ذلك وعاقبته إلى الزوال، ووراءه شقاوة الأبد. ثم ضرب لتكذيبهم وعداوتهم للرسل وجدالهم بالباطل وما ادّخر لهم من سوء العاقبة مثلا: ما كان من نحو ذلك من الأمم، وما أخذهم به من عقابه وأحله بساحتهم من انتقامه. وقرئ: فلا يغرّك.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥)
الْأَحْزابُ الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم وهم عاد وثمود وفرعون وغيرهم وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ
(١). أخرجه أبو نعيم في ترجمة يزيد الأصم من روآية كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن يزيد الأصم «أن رجلا كان ذا بأس- فذكره بتمامه» ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن كثير بن هشام باختصار. وكذا ابن أبى حاتم والثعلبي.
(٢). أخرجه الطيالسي. ومن طريقه البيهقي في الشعب في التاسع عشر من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما بلفظ «لا تجادلوا في القرآن فان جدالا فيه كفر» وفي الباب عن أبى هريرة بلفظ «مراه في القرآن كفر» في الصحيح والسنن
من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب بِرَسُولِهِمْ وقرئ برسولها لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا منه، ومن الإيقاع به وإصابته بما أرادوا من تعذيب أو قتل. ويقال للأسير: أخيذ فَأَخَذْتُهُمْ يعنى أنهم قصدوا أخذه، فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ فإنكم تمرون على بلادهم ومساكنهم فتعاينون أثر ذلك. وهذا تقرير فيه معنى التعجيب
[سورة غافر (٤٠) : آية ٦]
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)
أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ في محل الرفع بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ أى مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار. ومعناه: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل، كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة، أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل. والذين كفروا: قريش، ومعناه. كما وجب إهلاك أولئك الأمم، كذلك وجب إهلاك هؤلاء، لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار. قرئ: كلمات.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧ الى ٩]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
روى أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم. وعن النبي ﷺ «لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة» «١» فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل: زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سماوات، وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع «٢». وفي الحديث: إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا
(١). أخرجه الثعلبي. وروى شهر بن حوشب: أن ابن عباس رفعه بهذا تعليقا، وهو في كتاب العظمة لأبى الفتح.
(٢). قوله «كأنه الوصع» طائر أصغر من العصفور. (ع)
151
ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة «١». وقيل: خلق الله العرش من جوهرة خضراء، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وقيل حول العرش سبعون ألف صنف من الملائكة، يطوفون به مهللين مكبرين، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم مائه ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وقرأ ابن عباس: العرش بضم العين. فإن قلت: ما فائدة قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يخفى على أحد أنّ حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمد ربهم مؤمنون؟ «٢» قلت:
فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى: وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة «٣»، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين، ولما وصفوا بالإيمان، لأنه إنما يوصف بالإيمان: الغائب، فلما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم، علم أنّ إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء: في أنّ إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير، إلا هذا، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا، وأنه منزه عن صفات الأجرام. وقد روعي التناسب في قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
كأنه قيل: ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم. وفيه تنبيه على أنّ الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة، وأبعثه على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن. فإنه
(١). لم أجده.
(٢). قال محمود: «إن قلت. ما قائدة قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة مؤمنون بالله تعالى... الخ» قال أحمد: كلام حسن إلا استدلاله بقوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ على أنهم ليسوا مشاهدين، فهذا لا يدل، لأن الايمان هو التصديق غير مشروط فيه غيبة المصدق به، بدليل صحة إطلاق الايمان بالآيات مع أنها مشاهدة، كانشقاق القمر وقلب العصاحية. وإنما نقب الزمخشري بهذا التكلف عما في قلبه من مرض، لكنه طاح بعيدا عن الغرض، فقرر أن حملة العرش غير مشاهدين، بدليل قوله تعالى وَيُؤْمِنُونَ لأن معنى الايمان عنده التصديق بالغائب. ثم يأخذ من كونهم غير مشاهدين: أن الباري عز وجل لو صحت رؤيته لرأوه، فحيث لم يروه لزم أن تكون رؤيته تعالى مما لا يصححه العقل، وقد أبطلنا ما ادعاه من أن الايمان مستلزم عدم الرؤية، ولو سلمناه فلا نسلم أنه يلزم من كون حملة العرش غير مشاهدين له تعالى أن تكون رؤيته غير صحيحة، وقوله: ولو كانت صحيحة لرأوه:
شرطية عقيمة الانتاج، لأن الرؤية عبارة عن إدراك: يخلق الله تعالى هذا الإدراك لحملة العرش، إلا أن يذهب بالزمخشرى الوهم إلى أن مصححى الرؤية يعتقدون الجسمية والاستقرار على العرش، فيلزمهم رؤية حملة العرش له تعالى الله عن ذلك، وحاشى أهل السنة ومصححى الرؤية من ذلك. [.....]
(٣). قوله «كما تقول المجسمة» يريد أهل السنة، لأنهم لما جوزوا رؤيته تعالى معاينة: لزمهم القول بأنه تعالى جسم، ولكن الرؤية لا تستلزم الجسمية، خلافا للمعتزلة، كما بين في علم التوحيد. (ع)
152
لا تجانس بين ملك وإنسان، ولا بين سماوي وأرضى قط، ثم لما جاء جامع الإيمان جاء معه التجانس الكلى والتناسب الحقيقي، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض. قال الله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. أى يقولون رَبَّنا وهذا المضمر يحتمل أن يكون بيانا ليستغفرون مرفوع المحل مثله، وأن يكون حالا. فإن قلت: تعالى الله عن المكان، فكيف صحّ أن يقال: وسع كل شيء؟ قلت: الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى. والأصل:
وسع كل شيء رحمتك وعلمك، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم، وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء. فإن قلت: قد ذكر الرحمة والعلم فوجب أن يكون ما بعد الفاء مشتملا على حديثهما جميعا، وما ذكر إلا الغفران وحده؟ قلت: معناه فاغفر للذين علمت منهم التسوية واتباع سبيلك «١». وسبيل الله: سبيل الحق التي نهجها «٢» لعباده ودعا إليها إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أى الملك الذي لا يغلب: وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئا إلا بداعي الحكمة وموجب حكمتك أن تفي بوعدك وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أى العقوبات. أو جزاء السيئات. فحذف المضاف على أن السيئات هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها. والوقاية منها: التكفير أو قبول التوبة: فإن قلت: ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون موعودون المغفرة والله لا يخلف الميعاد؟ قلت: هذا بمنزلة الشفاعة، وفائدته زيادة الكرامة والثواب. وقرئ: جنة عدن. وصلح، بضم اللام، والفتح أفصح. يقال: صلح فهو صالح، وصلح فهو صليح، وذريتهم.
(١). قال محمود: «فان قلت قد ذكر أولا الرحمة والعلم، ثم ذكر ما توجبه الرحمة وهو الغفران، فأين موجب العلم؟ وأجاب بأن معناه فاغفر للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيلك... الخ» قال أحمد: كلامه هاهنا محشو بأنواع الاعتزال: منها اعتقاد وجوب مراعاة المصلحة ودواعي الحكم على الله تعالى. ومنها اعتقاد أن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر وجوبا وإن لم يكن توبة. ومنها اعتقاد امتناع غفران الله تعالى للكبائر التي لم يتب عنها. ومنها اعتقاد وجوب قبول التوبة على الله تعالى. ومنها جحد الشفاعة، واعتقاد أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه مراعاة المصلحة، وأنه يجوز أن يعذب على الصغائر وإن اجتنب الكبائر، وأنه يجوز أن يغفر الكبائر ما عدا الشرك وإن لم يتب منها، وأن قبول التوبة بفضله ورحمته، لا بالوجوب عليه، وأنها تنال أهل الكبائر المصرين من الموحدين، فهذه جواهر خمسة نسأل الله تعالى أن يقلد عقائل عقائدنا بها إلى الخاتمة، وأن لا يحرمنا ألطافه ومراحمه آمين. وجميع ما يحتاج إلى تزييفه مما ذكره على قواعد الاعتزال في هذا الموضع قد تقدم، غير أنه جدد هاهنا قوله: إن فائدة الاستغفار كفائدة الشفاعة، وذلك مزيد الكرامة لا غير، يريد: أن المغفرة للتائب واجبة على الله فلا تسئل، وهذا الذي قاله مما يجعل لنفسه فيه الفضيحة، زادت على بطلانه هذه الآية بالألسن الفصيحة، كيف يجعل المسئول مزيدة الكرامة لا غير. ونص الآية: فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، فهي ناطقة بأنهم يسألون من الله تعالى المغفرة للتائب ووقاية عذاب الجحيم، وهو الذي أنكر الزمخشري كونه مسؤلا.
(٢). قوله «التي نهجها» أى: أبانها وأوضحها. أفاده الصحاح. (ع)
153

[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٠ الى ١٢]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)
أى ينادون يوم القيامة، فيقال لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ والتقدير: لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغنى بذكرها مرة. وإِذْ تُدْعَوْنَ منصوب بالمقت الأوّل. والمعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة: كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر، حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان، فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشدّ مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار إذا أوقعتكم فيها باتباعكم هواهنّ. وعن الحسن: لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم، فنودوا لمقت الله. وقيل: معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض، كقوله تعالى يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وإِذْ تُدْعَوْنَ: تعليل. والمقت: أشدّ البغض، فوضع في موضع أبلغ الإنكار وأشدّه اثْنَتَيْنِ
إماتتين وإحياءتين. أو موتتين وحياتين.
وأراد بالإماتتين: خلقهم أمواتا أوّلا، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم، وبالإحياءة الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. وناهيك تفسيرا لذلك قوله تعالى وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ وكذا عن ابن عباس رضى الله عنهما. فإن قلت: كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتا: إماتة؟ قلت: كما صح أن تقول: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل! وقولك للحفار: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر ولا من صغر إلى كبر، ولا من ضيق إلى سعة، ولا من سعة إلى ضيق. وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات، والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معا على المصنوع الواحد، من غير ترجح لأحدهما، وكذلك الضيق والسعة. فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما «١» على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله
(١). قال محمود: «إحدى الإماتتين خلقهم أمواتا أولا، والأخرى إماتتهم عند انقضاء آجالهم، ثم قال: فان قلت كيف سمى خلقه لهم أمواتا إماته، وأجاب بأنه كما يقال: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل، وكما يقال للحفار: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من صغر إلى كبر ولا عكسه، ولا من ضيق إلى سعة ولا عكسه. وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات. والسبب في صحته أن الكبر والصغر جائزان معا على المصنوع الواحد، وكذلك الضيق والسعة، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن من الآخر، جعل صرفا عن الآخر وهو متمكن منه» قال أحمد: ما أسد كلامه هاهنا حيث صادق التمسك بأذيال نظر مالك رحمه الله في مسألة ما إذا باعه إحدى وزنتين معينتين على اللزوم لإحداهما والخيرة في عينها، فانه منع من ذلك، لأن المشترى لما كان متمكنا من تعيين كل واحدة منهما على سواء، فإذا عين واحدة منهما بالاختيار نزل عدوله عن الأخرى، وقد كان متمكنا منها منزلة اختيارها أولا، ثم الانتقال عنها إلى هذه، فإذا آل إلى بيع إحداهما بالأخرى غير معلومتى التماثل، وهو الذي لخصه أصحابنا في قولهم: إن من خير بين شيئين فاختار أحدهما: عد متنقلا، وقد سبقت هذه القاعدة لغير هذا الغرض فيما تقدم.
154
منه، ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر لزمه إثبات ثلاث إحياآت، وهو خلاف ما في القرآن، إلا أن يتمحل فيجعل إحداها غير معتدّ بها. أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور، وتستمرّ بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها، ويعدّهم في المستثنين من الصعقة في قوله تعالى إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ. فإن قلت: كيف تسبب هذا لقوله تعالى فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا؟ قلت: قد أنكروا البعث فكفروا، وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى، لأن من لم يخش العاقبة تخرق «١» في المعاصي، فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّرا عليهم، علموا بأن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ أى إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء مِنْ سَبِيلٍ قط، أم اليأس واقع دون ذلك، فلا خروج ولا سبيل إليه. وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط. وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك، وهو قوله ذلِكُمْ أى ذلكم الذي أنتم فيه، وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك «٢» به فَالْحُكْمُ لِلَّهِ حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد: وقوله الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ دلالة على الكبرياء والعظمة، وعلى أن عقاب مثله لا يكون إلا كذلك، وهو الذي يطابق كبرياءه ويناسب جبروته. وقيل:
كأن الحرورية «٣» أخذوا قولهم: لا حكم إلا لله، من هذا.
(١). قوله «تخرق في المعاصي» في الصحاح: يقال: هو يتخرق في السخاء، إذا توسع فيه. (ع)
(٢). قال محمود: «أى إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل قط، أم اليأس واقع دون ذلك، فلا خروج ولا سبيل إليه، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط، وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك، وهو قوله ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ معناه: أن اعتياض السبيل إلى خروجكم من النار سببه كفركم بتوحيد الله تعالى، وإيمانكم بالاشراك» قال أحمد: وعلى هذا النمط بنى الشعراء مثل قولهم:
هل إلى نجد وصول... وعلى الخيف نزول
وإنما قصدهم أن هذا أمر غالب فيه اليأس على الطمع.
(٣). قوله «الحرورية» في الصحاح: أنها طائفة من الخوارج تنسب إلى «حرور» اسم قرية، وكأنه يريد أهل السنة، فإنهم الذين اشتهر عنهم هذا القول، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن الفعل قد يدرك الحكم قبل ورود الشرع، كما بين في الأصول. (ع)
155

[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٣ الى ١٦]

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦)
يُرِيكُمْ آياتِهِ من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها. والرزق: المطر، لأنه سببه وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله، فإن المعاند لا سبيل إلى تذكره واتعاظه، ثم قال للمنيبين فَادْعُوا اللَّهَ أى اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك. وإن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم. رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ ثلاثة أخبار، لقوله «هو» مترتبة على قوله الَّذِي يُرِيكُمْ أو أخبار مبتدإ محذوف، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا. وقرئ: رفيع الدرجات بالنصب على المدح. ورفيع الدرجات، كقوله تعالى ذِي الْمَعارِجِ وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش، وهي دليل على عزته وملكوته. وعن ابن جبير: سماء فوق سماء. والعرش فوقهن. ويجوز أن يكون عبارة عن رفعة شأنه وعلوّ سلطانه، كما أنّ ذا العرش عبارة عن ملكه. وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه في الجنة الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ الذي هو سبب الحياة من أمره، يريد: الوحى الذي هو أمر بالخير وبعث عليه، فاستعار له الروح، كما قال تعالى أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ لِيُنْذِرَ الله. أو الملقى عليه: وهو الرسول أو الروح. وقرئ: لتنذر، أى: لتنذر الروح لأنها تؤنث، أو على خطاب الرسول. وقرئ: لينذر يوم التلاق، على البناء للمفعول ويَوْمَ التَّلاقِ يوم القيامة، لأن الخلائق تلتقي فيه. وقيل: يلتقى فيه أهل السماء وأهل الأرض. وقيل:
المعبود والعابد يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لأنّ الأرض بارزة قاع صفصف، ولا عليهم ثياب، إنما هم عراة مكشوفون، كما جاء في الحديث «يحشرون عراة حفاة غرلا» «١» لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ أى من أعمالهم وأحوالهم. وعن ابن مسعود رضى الله عنه: لا يخفى عليه منهم شيء. فإن قلت: قوله لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ:
بيان وتقرير لبروزهم، والله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء برزوا أو لم يبرزوا، فما معناه؟ قلت:
معناه أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب: أنّ الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه. قال الله تعالى: ولكن ظننتم أنّ الله لا يعلم كثيرا مما تعملون. وقال تعالى:
(١). متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وذلك لعلمهم أنّ الناس يبصرونهم، وظنهم أن الله لا يبصرهم، وهو معنى قوله وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ حكاية لما يسئل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به. ومعناه: أنه ينادى مناد فيقول: لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر: لله الواحد القهار. وقيل: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط «فأوّل ما يتكلم به أن ينادى مناد: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ... الآية فهذا يقتضى أن يكون المنادى هو المجيب.
[سورة غافر (٤٠) : آية ١٧]
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)
لما قرّر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدّد نتائج ذلك، وهي أنّ كل نفس تجزى ما كسبت وأن الظلم مأمون، لأن الله ليس بظلام للعبيد، وأن الحساب لا يبطئ، لأن الله لا يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إذا أخذ في حسابهم لم يقل «١»
أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها.
[سورة غافر (٤٠) : آية ١٨]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨)
الآزفة: القيامة، سميت بذلك لأزوفها، أى: لقربها. ويجوز أن يريد بيوم الآزفة: وقت الخطة الآزفة، وهي مشارفتهم دخول النار، فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم، فلا هي تخرج فيموتوا، ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروّحوا، ولكنها معترضة كالشجا، كما قال تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. فإن قلت: كاظِمِينَ بم انتصب؟
قلت: هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى، لأن المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. ويجوز أن يكون حالا عن القلوب، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر، وإنما جمع الكاظم جمع السلامة، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء، كما قال تعالى رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وقال فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ وتعضده قراءة من قرأ: كاظمون. ويجوز أن يكون حالا عن قوله: وأنذرهم، أى: وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم، كقوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ الحميم: المحب المشفق. والمطاع: مجاز في المشفع، لأن حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلا لمن فوقك. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى:
(١). قوله «لم يقل أهل الجنة إلا فيها» من قال يقيل قيلولة. (ع)
157
وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ؟ قلت: يحتمل أن يتناول النفي الشفاعة والطاعة معا، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة، «١» كما تقول: ما عندي كتاب يباع، فهو محتمل نفى البيع وحده، وأن عندك كتابا إلا أنك لا تبيعه، ونفيهما جميعا، وأن لا كتاب عندك، ولا كونه مبيعا. ونحوه:
ولا ترى الضّبّ بها ينجحر «٢»
يريد: نفى الضب وانجحاره. فإن قلت: فعلى أى الاحتمالين يجب حمله؟ قلت: على نفى الأمرين جميعا، من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله، وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون إلا من أحبه الله ورضيه، وأن الله لا يحب الظالمين، فلا يحبونهم، وإذا لم يحبوهم لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم.
قال الله تعالى وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ولأن الشفاعة لا تكون إلا في زيادة التفضل، «٣» وأهل التفضل وزيادته إنما هم أهل الثواب، بدليل قوله تعالى وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وعن الحسن رضى الله عنه: والله ما يكون لهم شفيع البتة، فإن قلت: الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه، فما الفائدة في ذكر هذه الصفة ونفيها؟ قلت: في ذكرها فائدة جليلة، وهي أنها ضمت إليه، ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة، لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف، بيانه: أنك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت: ما لي فرس أركبه، ولا معى سلاح أحارب به، فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علة مانعة من الركوب والمحاربة، كأنك تقول: كيف يتأتى منى الركوب والمحاربة ولا فرس لي ولا سلاح معى، فكذلك قوله وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ معناه:
كيف يتأتى التشفيع ولا شفيع، فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع:
وضعا لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف «٤» غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه.
(١). قال محمود: «يحتمل أن يكون المنفي الشفيع الذي هو الموصوف وصفته وهي الطاعة، ويحتمل أن يكون المنفي الصفة وهي الطاعة والشفيع ثابت» قال أحمد: إنما جاء الاحتمال من حيث دخول النفي على مجموع الموصوف والصفة. ونفى المجموع، كما يكون بنفي كل واحد من جزئيه، وكذلك يكون بنفي أحدهما، على أن المراد هنا- كما قال-: نفى الأمرين جميعا. قال: وفائدة ذكر الموصوف أنه كالدليل على نفى الصفة، لأنه إذا انتفى الموصوف انتفت الصفة قطعا، قلت: فكأنه نفى الصفة مرتين من وجهين مختلفين.
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٤٢٦ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣). قوله «لا تكون إلا في زيادة التفضل» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فتكون في الخروج من النار أيضا، كما تقرر في التوحيد. وحديث الشفاعة مشهور، نعم الكفار لا خروج لهم من النار. (ع)
(٤). قوله «موضع الأمر المعروف» أى الذي يعرفه السامع ويسلمه، كما هو شأن الشاهد على الدعوى، وإذا كان انتفاء الشفيع معروفا فلا ينتفي أن يتوهم وجوده، وبهذا يتبين قوله فيما سبق، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف. (ع)
158

[سورة غافر (٤٠) : آية ١٩]

يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)
الخائنة: صفة للنظرة. أو مصدر بمعنى الخيانة، كالعافية بمعنى المعافاة، والمراد: استراق النظر إلى ما لا يحل، كما يفعل أهل الريب، ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين، لأن قوله وَما تُخْفِي الصُّدُورُ لا يساعد عليه «١». فإن قلت: بم اتصل قوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ؟
قلت: هو خبر من أخبار هو في قوله هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ مثل يُلْقِي الرُّوحَ ولكن يُلْقِي الرُّوحَ قد علل بقوله لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ثم استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فبعد لذلك عن أخواته.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢٠]
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ يعنى: والذي هذه صفاته وأحواله لا يقضى إلا بالحق والعدل.
لاستغنائه عن الظلم. وآلهتكم لا يقضون بشيء، وهذا تهكم بهم، لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه: يقضى، أو لا يقضى إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تقرير لقوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون، وأنه يعاقبهم عليه وتعريض بما يدعون من دون الله، وأنها لا تسمع ولا تبصر. وقرئ: يدعون، بالتاء والياء.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)
هُمْ في كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ فصل. فإن قلت: من حق الفصل أن لا يقع إلا بين معرفتين، فما باله واقعا بين معرفة وغير معرفة؟ وهو أشدّ منهم. قلت: قد ضارع المعرفة في أنه لا تدخله الألف واللام، فأجرى مجراها. وقرئ: منكم، وهي في مصاحف أهل الشأم وَآثاراً
(١). قال محمود: «الخائنة إما صفة للنظرة وإما مصدر كالعافية» قال: «ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين» لأنه لا يساعد عليه قوله تعالى وَما تُخْفِي الصُّدُورُ قال أحمد: إنما لم يساعد عليه لأن خائنة الأعين على هذا التقدير معناه الأعين الخائنة، وإنما يقابل الأعين الصدور، لا ما تخفيه الصدور، بخلاف التأويل الأول، فان المراد به نظرات الأعين فيطابق خفيات الصدور. [.....]
يريد حصونهم وقصورهم وعددهم، وما يوصف بالشدة من آثارهم. أو أرادوا: أكثر آثارا، كقوله:
متقلدا سيفا ورمحا «١»
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥)
وَسُلْطانٍ مُبِينٍ وحجة ظاهرة وهي المعجزات، فقالوا: هو ساحر كذاب، فسموا السلطان المبين سحرا وكذابا فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ: بالنبوّة: فإن قلت: أما كان قتل الأبناء واستحياء النساء من قبل خيفة أن يولد المولود الذي أنذرته الكهنة بظهوره وزوال ملكه على يده؟ قلت: قد كان ذلك القتل حينئذ، وهذا قتل آخر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله قالُوا اقْتُلُوا أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولا، يريد أن هذا قتل غير القتل الأول فِي ضَلالٍ في ضياع وذهاب، باطلا لم يجد عليهم، يعنى. أنهم باشروا قتلهم أولا فما أغنى عنهم، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه، فما يغنى عنهم هذا القتل الثاني، وكان فرعون قد كف عن قتل الولدان، فلما بعث موسى وأحس بأنه قد وقع: أعاده عليهم غيظا وحنقا، وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى، وما علم أنّ كيده ضائع في الكرتين جميعا.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢٦]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦)
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى كانوا إذا همّ بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقاوم إلا ساحرا مثله، ويقولون: إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك قد عجزت عن معارضته بالحجة، والظاهر أنّ فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبىّ، وأنّ ما جاء به آيات وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة، وكان قتالا سفاكا الدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه، ولكنه كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك. وقوله
(١).
ورأيت زوجك في الوغى... متقلدا سيفا ورمحا
الوغى: الحرب. ورمحا: نصب بمحذوف يناسبه، أى: متقلدا سيفا وحاملا رمحا. وروى بدل الشطر الأول:
يا ليت زوجك قد غدا
أى ذهب إلى الحرب غدوة لابسا سلاحه.
وَلْيَدْعُ رَبَّهُ شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، وكان قوله ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى تمويها «١» على قومه، وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغير ما أنتم عليه، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام، بدليل قوله وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ والفساد في الأرض: التفاتن والتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش، ويهلك الناس قتلا وضياعا، كأنه قال: إنى أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه. أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه. وفي مصاحف أهل الحجاز وأن يظهر بالواو، ومعناه. إنى أخاف فساد دينكم ودنياكم معا. وقرئ: يظهر، من أظهر «٢»، والفساد منصوب، أى: يظهر موسى الفساد. وقرئ يظهر، بتشديد الظاء والهاء، من تظهر بمعنى تظاهر، أى: تتابع وتعاون.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢٧]
وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
لما سمع موسى عليه السلام بما أجراه فرعون من حديث قتله: قال لقومه إِنِّي عُذْتُ بالله الذي هو ربى وربكم، وقوله وَرَبِّكُمْ فيه بعث لهم على أن يقتدوا به، فيعوذوا بالله عياذه، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه، وقال مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة، وليكون على طريقة التعريض، فيكون أبلغ، وأراد بالتكبر: الاستكبار عن الإذعان للحق، وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة صاحبه ومهانة نفسه، وعلى فرط ظلمه وعسفه، وقال لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القسوة والجرأة على الله وعباده، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها: وعذت ولذت: أخوان. وقرئ: عت، بالإدغام.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢٨]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨)
(١). قال محمود: «كانوا إذا هم بقتله كفوه عنه بقولهم: ليس هذا ممن يخاف، وإنما هو ساحر لا يقاومه إلا مثله، وقتله يوقع الشبهة عند الناس أنك إنما قتلته خوفا، وكان فرعون لعنه الله في ظاهر أمره- والله أعلم- عالما أنه نبى خائفا من قتله مع رغبته في ذلك لولا الجزع، وأراد أن يكتم خوفه من قتله بأن يقول لهم: ذروني أقتله، ليكفوه عنه فينسب الانكفاف عن قتله إليهم، لا إلى جزعه وخوفه. ويدل على خوفه منه لكونه نبيا قوله وَلْيَدْعُ رَبَّهُ وهذا من تمويهاته المعروفة» قال أحمد: هو من جنس قوله إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ فقد تقدم أن مراده بذلك أن يظهر لقومه قلة احتفاله بهم، ويوهمهم أن قتله لهم ليس خوفا منهم، ولكن غيظا عليهم، وكان من عادته الحذر والتحصن وحماية الذريعة في المحافظة على حوزة المملكة، لا أن ذلك خوف وهلع، ولقد كذب، إنما كان فؤاده مملوءا رعبا.
(٢). قوله «وقرئ يظهر من أظهر» يفيد أن القراءة المشهورة: يظهر من ظهر، والفساد مرفوع. (ع)
161
رَجُلٌ مُؤْمِنٌ وقرئ: رجل، بسكون الجيم كما يقال: عضد، في عضد وكان قبطيا ابن عم لفرعون:
آمن بموسى سرا وقيل كان إسرائيليا ومِنْ آلِ فِرْعَوْنَ صفة لرجل. أو صلة ليكتم، أى:
يكتم إيمانه من آل فرعون، واسمه: سمعان أو حبيب. وقيل: خربيل، أو حزبيل. والظاهر:
أنه كان من آل فرعون، فإنّ المؤمنين من بنى إسرائيل لم يقلوا ولم يعزوا. والدليل عليه قول فرعون: أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. وقول المؤمن فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا دليل ظاهر على أنه ينتصح لقومه أَنْ يَقُولَ لأن يقول. وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت شديد، كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة، وما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله رَبِّيَ اللَّهُ مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله بينة واحدة، ولكن بينات عدّة من عند من نسب إليه الربوبية، وهو ربكم لا ربه وحده، وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به، وليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم «١»، ولك أن تقدر مضافا محذوفا، أى: وقت أن تقول. والمعنى. أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره. وقوله بِالْبَيِّناتِ يريد بالبينات العظيمة التي عهدتموها وشهدتموها، ثم أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال: لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ أى يعود عليه كذبه ولا يتخطاه ضرره، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ما يعدكم إن تعرّضتم له. فإن قلت: لم قال: بعض الَّذِي يَعِدُكُمْ وهو نبىّ صادق، لا بد لما يعدهم أن يصيبهم
(١). قال محمود: «الظاهر أن الرجل من آل فرعون، وقيل: إنه من بنى إسرائيل. ومن آل فرعون: متعلق بيكتم، تقديره: يكتم إيمانه من آل فرعون، وهو بعيد، لأن بنى إسرائيل كان إيمانهم ظاهرا فاشيا، ولقد استدرجهم هذا المؤمن في الايمان باستشهاده على صدق موسى بإحضاره عليه السلام من عند من تنسب إليه الربوبية ببينات عدة لا بينة واحدة، وأتى بها معرفة، معناه: البينات العظيمة التي شهدتموها وعرفتموها على ذلك، ليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم... الخ» قال أحمد: لقد أحسن الفهم والتفطن لأسرار هذا القول، ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا قوله تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فقدم الشاهد أمارة صدقها على أمارة صدق يوسف، وإن كان الصادق هو يوسف دونها، لرفع التهمة وإبعاد الظن، وإدلالا بأن الحق معه، ولا يضره التأخير لهذه الفائدة.
وقريب من هذا التصرف لابعاد التهمة ما في قصة يوسف مع أخيه، إذ بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، حتى قيل:
إنه لما انتهى إليه قال: اللهم ما سرق هذا ولا هو بوجه سارق، فاطمأنت أنفسهم وانزاحت التهمة عن يوسف أن يكون قصد ذلك، فقالوا: والله لنفتشنه، فاستخرجها من وعائه.
162
كله لا بعضه؟ قلت: لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى ومنا كريه إلى أن يلاوصهم «١» ويداريهم، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول، ويأتيهم من وجهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه، فقال وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه، ليسمعوا منه ولا يردّوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا، فضلا أن يتعصب له، أو يرمى بالحصا من ورائه، وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل، وكذلك قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ. فإن قلت: فعن أبى عبيدة أنه فسر البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد:
ترّاك امكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها «٢»
قلت: إن صحت الرواية عنه. فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقى: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ يحتمل أنه كان مسرفا كذابا خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر، فيتخلصون منه. وأنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله للنبوّة، ولما عضده بالبينات. وقيل: ما تولى أبو بكر من رسول الله ﷺ كان أشدّ من ذلك طاف ﷺ بالبيت، فلقوه حين فرغ، فأخذوا بمجامع ردائه فقالوا له: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا، فقال: أنا ذاك، فقام أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه فالتزمه من ورائه وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم، رافعا صوته بذلك، وعيناه تسفحان، حتى أرسلوه «٣». وعن جعفر الصادق: أنّ مؤمن آل فرعون قال ذلك سرا، وأبو بكر قاله ظاهرا.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢٩]
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩)
ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ في أرض مصر عالين فيها على بنى إسرائيل، يعنى: أنّ لكم ملك
(١). قوله «إلى أن يلاوصهم ويداريهم» في الصحاح: فلان يلاوص الشجر، أى: ينظر كيف يأتيها لقلعها. (ع)
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٦٤١ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣). أخرجه النسائي من طريق هشام عن عروة عن أبيه عن عمرو بن العاص. وابن حبان من طريق يحيى ابن عروة عن عروة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أتم منه. قلت: علقه البخاري نحوهما.
مصر وقد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرّضوا لبأس الله وعذابه، فإنه لا قبل لكم به إن جاءكم، ولا يمنعكم منه أحد. وقال يَنْصُرُنا وجاءنا، لأنه منهم في القرابة، وليعلمهم بأنّ الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أى: ما أشير عليكم برأى إلا بما أرى من قتله، يعنى: لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب وَما أَهْدِيكُمْ بهذا الرأى إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ يريد: سبيل الصواب والصلاح.
أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب، ولا أدّخر منه شيئا، ولا أسرّ عنكم خلاف ما أظهر يعنى أنّ لسانه وقلبه متواطنان على ما يقول، وقد كذب، فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى، ولكنه كان يتجلد، ولولا استشعاره لم يستشر أحدا ولم يقف الأمر على الإشارة. وقرئ: الرشاد، فعال من رشد بالكسر، كعلام. أو من رشد بالفتح، كعباد. وقيل:
هو من أرشد كجبار من أجبر، وليس بذلك، لأنّ فعالا من أفعل لم يجئ إلا في عدّة أحرف، نحو: درّاك وسارّ وقصار وحبار، ولا يصح القياس على القليل. ويجوز أن يكون نسبة إلى الرشد، كعوّاج وبتات «١»، غير منظور فيه إلى فعل.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١)
مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مثل أيامهم، لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، ولم يلبس أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دمار، اقتصر على الواحد من الجمع، لأنّ المضاف إليه أغنى عن ذلك كقوله:
كلوا في بعض بطنكمو تعفوا «٢»
وقال الزجاج: مثل يوم حزب حزب، ودأب هؤلاء: دؤوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي، وكون ذلك دائبا دائما منهم لا يفترون عنه، ولا بدّ من حذف مضاف، يريد:
مثل جزاء دأبهم. فإن قلت: بم انتصب مثل الثاني؟ قلت: بأنه عطف بيان لمثل الأوّل لأنّ
(١). قوله «كعواج وبتات» أى: صاحب العاج، والعاج: عظم الفيل. والبتات: الذي يبيع البتوت، او يعملها. والبت: الطيلسان من الخز، كذا في الصحاح. (ع)
(٢).
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فان زمانكم زمن خميص
أى كلوا في بعض بطونكم. وأفرد البطن لأمن اللبس، أى: لا تملؤوها، فان أطعتمونى عففتم عن الطعام. وعف يعف- بكسر عين المضارع، من باب ضرب يضرب، ثم قال: فان زمانكم، أى أمرتكم بذلك لأن زمانكم مجدب.
والخميص: الضامر البطن، فشبه الزمان المجدب بالرجل الجائع على طريق الكناية، ووصفه بالخمص تخييل لذلك.
آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح، ولو قلت أهلك الله الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود، لم يكن إلا عطف بيان لإضافة قوم إلى أعلام، فسرى ذلك الحكم إلى أوّل ما تناولته الإضافة وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يعنى أن تدميرهم كان عدلا وقسطا، لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وهو أبلغ من قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ حيث جعل المنفي إرادة الظلم، لأنّ من كان عن إرادة الظلم بعيدا، كان عن الظلم أبعد. وحيث نكر الظلم، كأنه نفى أن يريد ظلما مّا لعباده «١». ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله تعالى وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ أى لا يريد لهم أن يظلموا، يعنى أنه دمّرهم لأنهم كانوا ظالمين «٢».
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)
التنادى. ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف من قوله وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ، وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ويجوز أن يكون تصايحهم بالويل والثبور. وقرئ بالتشديد:
وهو أن يندّ بعضهم من بعض، كقوله تعالى يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وعن الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندّوا هربا، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا، فبيناهم يموج بعضهم في بعض: إذ سمعوا مناديا: أقبلوا إلى الحساب تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ عن قتادة منصرفين عن موقف الحساب إلى النار. وعن مجاهد: فارّين عن النار غير معجزين.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)
(١). قوله «كأنه نفى أن يريد ظلما ما لعباده» هذا على مذهب المعتزلة من أنه تعالى لا يفعل الشر ولا يريده، وأن الارادة بمعنى الرضا. وعند أهل السنة أنه تعالى يخلق الشر ويريده كالخير ولا يرضى الشر، فالرضا غير الارادة عندهم، كما تقرر في التوحيد. (ع)
(٢). قال محمود: «يجوز أن يكون معناه معنى: وما ربك بظلام للعبيد. وهذا أبلغ، لأنه إذا لم يرد الظلم كان عن فعله الظلم أبعد، وحيث نكر الظلم أيضا، كأنه نفى أن يريد ظلما ما لعباده. قال: ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فيكون المعنى: أن الله لا يريد لعباده أن يظلموا، لأنه ذمهم على كونهم ظالمين» قال أحمد: هذا من الطراز الأول، وقد تقدم مذهب أهل السنة فيما يتعلق بارادة الله تعالى خلافا لهذا وأشياعه.
165
هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام. وقيل: هو يوسف بن إبراهيم «١» بن يوسف بن يعقوب:
أقام فيهم نبيا عشرين سنة. وقيل: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمر إلى زمنه.
وقيل: هو فرعون آخر. وبخهم بأن يوسف أتاكم بالمعجزات فشككتم فيها ولم تزالوا شاكين كافرين حَتَّى إِذا قبض قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا حكما من عند أنفسكم من غير برهان وتقدمة عزم منكم على تكذيب الرسل، فإذا جاءكم رسول جحدتم وكذبتم بناء على حكمكم الباطل الذي أسستموه، وليس قولهم لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا بتصديق لرسالة يوسف، وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها، وإنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته. وقرئ: ألن يبعث الله، على إدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرّر بعضا بنفي البعث. ثم قال كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ أى مثل هذا الخذلان المبين «٢» يخذل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه الَّذِينَ يُجادِلُونَ بدل من مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ فإن قلت: كيف جاز إبداله منه وهو جمع وذاك موحد؟ قلت: لأنه لا يريد مسرفا واحدا، فكأنه قال: كل مسرف. فإن قلت: فما فاعل كَبُرَ؟ قلت: ضمير من هو مسرف. فإن قلت:
أما قلت هو جمع، ولهذا أبدلت منه الذين يجادلون؟ قلت: بلى هو جمع في المعنى. وأما اللفظ فموحد، فحمل البدل على معناه، والضمير الراجع إليه على لفظه، وليس ببدع «٣» أن يحمل على
(١). قوله «وقيل هو يوسف بن إبراهيم» عبارة النسفي: أفراثيم. (ع)
(٢). قوله «أى مثل هذا الخذلان المبين» المعتزلة يؤولون الإضلال بالخذلان والترك، بناء على مذهبهم: أن الله لا يخلق الشر. وأهل السنة يفسرونه بخلق الضلال في القلب، بناء على أنه تعالى بخلق الشر كالخير كما بين في التوحيد. (ع)
(٣). قال محمود: «الذين يجادلون بدل من من هو مسرف، لأن المراد كل مسرف. وجاز إبداله على معنى من، لا على لفظها. قال: فان قلت ما فاعل كبر؟ وأجاب بأنه ضمير من هو مسرف، فحمل البدل على المعنى، والضمير على اللفظ، وليس ببدع» اه كلامه. قال أحمد: فيما ذكره معاملة لفظ من بعد معاملة معناها، وهذا مما قدمت أن أهل العربية يستغربونه، والأولى أن يجتنب في إعراب القرآن، فان فيه إبهاما بعد إيضاح، والمعهود في قراءة البلاغة عكسه، والصواب أن يجعل الضمير في قوله كَبُرَ راجعا إلى مصدر الفعل المتقدم، وهو قوله يُجادِلُونَ تقديره: كبر جدالهم مقتا، ويجعل الَّذِينَ مبتدأ، على تأويل حذف المضاف، تقديره: جدال الذين يجادلون في آيات الله، والضمير في قوله كَبُرَ مَقْتاً عائد إلى الجدال المحذوف، والجملة مبتدأ وخبر. ومثله في حذف المصدر المضاف وبناء الكلام عليه: قوله تعالى أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ على أحد تآويله، ومثله كثير. وفيه سوى ذلك من الوجوه السالمة عما ينطرق إلى الوجه المتقدم. فالوجه العدول عنه [.....]
166
اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى، وله نظائر، ويجوز أن يرفع الذين يجادلون على الابتداء، ولا بدّ في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في كبر، تقديره: جدال الذين يجادلون كبر مقتا، ويحتمل أن يكون الَّذِينَ يُجادِلُونَ مبتدأ، وبِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ خبرا، وفاعل كبر قوله كَذلِكَ أى كبر مقتا مثل ذلك الجدال، ويَطْبَعُ اللَّهُ كلام مستأنف، ومن قال:
كبر مقتا عند الله جدالهم، فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه. وفي كَبُرَ مَقْتاً ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم، والشهادة على خروجه من حد إشكاله من الكبائر.
وقرئ: سلطان بضم اللام. وقرئ: قلب، بالتنوين. ووصف القلب بالتكبر والتجبر، لأنه مركزهما ومنبعهما، كما تقول: رأت العين، وسمعت الأذن. ونحوه قوله عز وجل فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وإن كان الآثم هو الجملة. ويجوز أن يكون على حذف المضاف. أى: على كل ذى قلب متكبر، تجعل الصفة لصاحب القلب.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧)
قيل: الصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، اشتقوه من صرح الشيء إذا ظهر، وأَسْبابَ السَّماواتِ طرقها وأبوابها وما يؤدى إليها، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه، كالرشاء ونحوه، فإن قلت: ما فائدة هذا التكرير؟ ولو قيل: لعلى أبلغ أسباب السماوات لأجزأ؟ قلت: إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيما لشأنه، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السماوات أبهمها ثم أوضحها، ولأنه لما كان بلوغها أمرا عجيبا أراد أن يورده على نفس متشوفة إليه، ليعطيه السامع حقه من التعجب، فأبهمه ليشوف إليه نفس هامان، ثم أوضحه. وقرئ: فأطلع بالنصب «١» على جواب الترجي، تشبيها للترجى بالتمني. ومثل ذلك التزيين وذلك الصدّ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ والمزين: إما الشيطان بوسوسته، كقوله تعالى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أو الله تعالى على وجه التسبيب، لأنه مكن»
الشيطان وأمهله. ومثله زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ وقرئ: وزين له سوء عمله «٣»،
(١). «وقرئ فأطلع بالنصب» يفيد أن القراءة المشهورة بالرفع على العطف. (ع)
(٢). قوله «على وجه التسبيب لأنه مكن» أول بهذا، لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة، أما عند أهل السنة فيخلقه كالخير فلا حاجة إلى هذا التأويل، والآية على ظاهرها. (ع)
(٣). قوله «وقرئ وزين له سوء عمله» أى بدل قوله تعالى وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ. (ع)
على البناء للفاعل والفعل لله عزّ وجلّ، دلّ عليه قوله إِلى إِلهِ مُوسى وصدّ، بفتح الصاد وضمها وكسرها، على نقل حركة العين إلى الفاء، كما قيل: قيل. والتباب الخسران والهلاك.
وصدّ: مصدر معطوف على سوء عمله. وصدّوا هو وقومه.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩)
قال أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ فأجمل لهم، ثم فسر فافتتح بذم لدنيا وتصغير شأنها، لأنّ الإخلاد إليها هو أصل الشر كله، ومنه يتشعب جميع ما يؤدى إلى سخط الله ويجلب الشقاوة في العاقبة. وثنى بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها، وأنها هي الوطن والمستقر، وذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما، ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف، ثم وازن بين الدعوتين: دعوة إلى دين الله الذي ثمرته النجاة، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وحذر، وأنذر، واجتهد في ذلك واحتشد، لا جرم أن الله استثناه من آل فرعون، وجعله حجة عليهم وعبرة للمعتبرين، وهو قوله تعالى فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ وفي هذا أيضا دليل بين على أنّ الرجل كان من آل فرعون. والرشاد نقيض الغى. وفيه تعريض شبيه بالتصريح أنّ ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغى.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٤٠]
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠)
فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها لأنّ الزيادة على مقدار جزاء السيئة قبيحة، لأنها ظلم. وأما الزيادة على مقدار جزاء الحسنة فحسنة، لأنها فضل. قرئ: يدخلون ويدخلون بِغَيْرِ حِسابٍ واقع في مقابلة إلا مثلها، يعنى: أن جزاء السيئة لها حساب وتقدير، لئلا يزيد على الاستحقاق، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب، بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢)
فإن قلت: لم كرر نداء قومه؟ ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت: أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ عن سنة الغفلة. وفيه: أنهم قومه وعشيرته وهم فيما يوبقهم،
وهو يعلم وجه خلاصهم، ونصيحتهم عليه واجبة، فهو يتحزن لهم ويتلطف بهم، ويستدعى بذلك أن لا يتهموه، فإنّ سرورهم سروره، وغمهم غمه، وينزلوا على تنصيحه لهم، كما كرر إبراهيم عليه السلام في نصيحة أبيه: يا أبت. وأما المجيء بالواو العاطفة، فلأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو، وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. يقال: دعاه إلى كذا ودعاه له، كما تقول: هداه إلى الطريق وهداه له ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أى بربوبيته، والمراد بنفي العلم: نفى المعلوم، كأنه قال:
وأشرك به ما ليس بإله، وما ليس بإله كيف يصح أن يعلم إلها «١»
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤)
لا جَرَمَ سياقه على مذهب البصريين: أن يجعل لا ردّا لما دعاه إليه قومه. وجرم:
فعل بمعنى حق، وأنّ مع ما في حيزه فاعله، أى: حق ووجب بطلان دعوته. أو بمعنى: كسب، من قوله تعالى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أى: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته، على معنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته.
ويجوز أن يقال: أن لا جرم، نظير: لا بدّ، فعل من الجرم، وهو القطع، كما أن بدّا فعل من التبديد وهو التفريق، فكما أن معنى: لا بد أنك تفعل كذا، بمعنى: لا بعد لك من فعله، فكذلك لا جرم أن لهم النار، أى: لا قطع لذلك، بمعنى أنهم أبدا يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم ولا قطع، لبطلان دعوة الأصنام، أى لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقا. وروى عن العرب: لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء، بزنة بد، وفعل وفعل: أخوان. كرشد ورشد، وعدم وعدم لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ معناه: أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط، أى:
من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى طاعته، ثم يدعو العباد إليها إظهارا لدعوة ربهم وما تدعون إليه وإلى عبادته، لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعى الربوبية، ولو كان حيوانا ناطقا لضجّ من دعائكم. وقوله فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ يعنى أنه في الدنيا جماد لا يستطيع شيئا
(١). قال محمود: المراد بنفي العلم نفى المعلوم، كأنه قال: وأشرك به ما ليس باله، وما ليس باله كيف يصح أن يعلم إلها» قال أحمد: وهذا من قبيل
على لا حب لا يهتدى بمناره
أى: لا منار له فيهتدى به، وكلام الزمخشري هاهنا أشد من كلامه على قوله تعالى حكاية عن فرعون ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي.
من دعاء وغيره، وفي الآخرة: إذا أنشأه الله حيوانا، تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته. وقيل معناه ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا ولا في الآخرة. أو دعوة مستجابة، جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة فيها كلا دعوة، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة، كما سمى الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قولهم: كما تدين تدان. قال الله تعالى لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ. الْمُسْرِفِينَ عن قتادة: المشركين. وعن مجاهد: السفاكين الدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرهم خيرهم هم المسرفون. وقرئ: فستذكرون، أى:
فسيذكر بعضكم بعضا وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ لأنهم توعدوه.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم. وقيل: نجا مع موسى وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ ما هموا به من تعذيب المسلمين. ورجع عليهم كيدهم النَّارُ بدل من سوء العذاب. أو خبر مبتدإ محذوف، كأن قائلا قال: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار. أو مبتدأ خبره يُعْرَضُونَ عَلَيْها وفي هذا الوجه تعظيم للنار وتهويل من عذابها، وعرضهم عليها: إحراقهم بها. يقال: عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به، وقرئ: النار، بالنصب، وهي تعضد الوجه الأخير. وتقديره: يدخلون النار يعرضون عليها. ويجوز أن ينتصب على الاختصاص غُدُوًّا وَعَشِيًّا في هذين الوقتين يعذبون بالنار، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم، فإمّا أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفس عنهم.
ويجوز أن يكون غُدُوًّا وَعَشِيًّا: عبارة عن الدوام. هذا ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قيل لهم أَدْخِلُوا يا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ عذاب جهنم. وقرئ: أدخلوا آل فرعون، أى:
يقال لخزنه جهنم: أدخلوهم. فإن قلت: قوله وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ معناه: أنه رجع عليهم ما هموا به من المكر بالمسلمين، كقول العرب: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا، فإذا فسر سوء العذاب بنار جهنم: لم يكن مكرهم راجعا عليهم، لأنهم لا يعذبون بجهنم. قلت:
يجوز أن بهم الإنسان بأن يغرق قوما فيحرق بالنار، ويسمى ذلك حيقا لأنه همّ بسوء فأصابه ما يقع عليه اسم السوء. ولا يشترط في الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه، ويجوز أن بهمّ فرعون- لما سمع إنذار المسلمين بالنار، وقول المؤمن وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ- فيفعل نحو ما فعل نمروذ ويعذبهم بالنار، فحاق به مثل ما أضمره وهمّ بفعله. ويستدل بهذه الآية على إثبات عذاب القبر.

[سورة غافر (٤٠) : آية ٤٧]

وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧)
واذكر وقت يتحاجون تَبَعاً تباعا، كخدم في جمع خادم. أو ذوى تبع، أى: أتباع، أو وصفا بالمصدر.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٤٨]
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨)
وقرئ. كلا، على التأكيد لاسم إن، وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه، يريد: إنا كلنا. أو كلنا فيها. فإن قلت: هل يجوز أن يكون «كلا» حالا قد عمل فِيها فيها؟
قلت: لا لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمه كما يعمل في الظرف متقدما تقول كل يوم لك ثوب ولا تقول قائما في الدار زيد قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ قضى بينهم وفصل بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠)
لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ للقوّام بتعذيب أهلها. فإن قلت: هلا قيل: الذين في النار لخزنتها؟ قلت:
لأن في ذكر جهنم تهويلا وتفظيعا ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعرا، من قولهم: بئر جهنام بعيدة القعر «١»، وقولهم في النابغة: جهنام، تسمية بها، لزعمهم أنه يلقى الشعر على لسان المنتسب إليه، فهو بعيد الغور في علمه بالشعر «٢»، كما قال أبو نواس في خلف الأحمر:
قليذم من العياليم الخسف «٣»
(١). قوله «بئر جهنام بعيدة القعر... الخ» في الصحاح: بكسر الجيم والهاء. (ع)
(٢). قال محمود: «فان قلت: فهلا قيل لخزنتها، وأجاب أن في ذكر جهنم تهويلا وتفظيعا، ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعرا من قولهم: بئر جهنام، أى: بعيدة القعر، وكان النابغة يسمى الجهنام لبعد غوره في الشعر» قال أحمد: الأول أظهر، والتفخيم فيه من وجهين، أحدهما: وضع الظاهر موضع المضمر، وهو الذي أشار إليه والثاني: ذكره وهو شيء واحد بظاهر غير الأول أفظع منه، لأن جهنم أفظع من النار، إذ النار مطلقة، وجهنم أشدها.
(٣).
أو دى جميع العلم مذ أودى خلف من لا يعد العلم إلا ما عرف
راوية لا يجتنى من الصحف قليذم من العياليم الخسف
لأبى نواس يرثى خلف الأحمر بن أحمد. وأودى ملك ومن لا يعد العلم صفة خلف، أى: لا يعتبر من العلم إلا بما عرفه حق اليقين وتلقاه بالتلقين. أو عرفه بالاستنباط من قواعد السابقين، فهو راوية، أى: كثير الرواية لا يأخذ من الكتب، شبهها بالروضة المثمرة على طريق المكنية، والاجتناء تخييل. وقليذم: البئر الغزيرة الماء.
والعيلم: الحفرة الكثيرة الماء. والخف: البعيدة الغور العميقة، شبهه بذلك تشبيها بليغا، لكثرة علمه ومعرفته للمعاني البعيدة الخفية.
وفيها أعتى الكفار وأطغاهم، فلعل الملائكة الوكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله تعالى، فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ إلزام للحجة وتوبيخ، وأنهم خلفوا وراءهم أوقات الدعاء والتضرع، وعطلوا الأسباب التي يستجيب الله لها الدعوات قالُوا فَادْعُوا أنتم، فإنا لا نجترئ على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين: كون المشفوع له غير ظالم، والإذن في الشفاعة مع مراعاة وقتها، وذلك قبل الحكم الفاصل بين الفريقين، وليس قولهم فَادْعُوا لرجاء المنفعة، ولكن للدلالة على الخيبة، فإنّ الملك المقرّب إذا لم يسمع دعاؤه، فكيف يسمع دعاء الكافر.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أى في الدنيا والآخرة، يعنى أنه يغلبهم في الدارين جميعا بالحجة والظفر على مخالفيهم، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحانا من الله، فالعاقبة لهم، ويتيح الله من يقتص «١» من أعدائهم ولو بعد حين: والأشهاد. جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، يريد: الحفظة من الملائكة والأنبياء والمؤمنين من أمّة محمد ﷺ لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ. واليوم الثاني بدل من الأوّل، يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة، وأنهم لو جاءوا بمعذرة لم تكن مقبولة «٢» لقوله تعالى وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ البعد من رحمة الله وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أى سوء دار الآخرة وهو عذابها. وقرئ: تقوم. ولا تنفع، بالتاء والياء.
(١). قوله «من يقتص» أى: يقدر. (ع)
(٢). قال محمود: «يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة لكنها لا تنفعهم، لأنها باطلة. ويحتمل أنهم لا يعتذرون، ولو جاءوا بمعذرة لم تكن مقبولة قال أحمد: «هما الاحتمالان في قوله تعالى وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ ولكن بين الموضعين فرقا يصير أحدهما معه عكس الآخر، وذلك أنه هنا على تقدير أن يكون المراد أنهم لا معذرة لهم البتة، يكون قد نفى صفة المعذرة وهي المنفعة التي لها تراد المعذرة، قطعا لرجائهم كى لا يعتذروا البتة، كأنه قيل إذا لم يحصل ثمرة المعذرة فكيف يقع ما لا ثمرة له وفي الآية المتقدمة جعل نفى الموصوف بتا لنفى الصفة ولهذا أولى النفي في هذه الآية الفعل، وفي المتقدمة أولى النفي الذات المنسوب إليها الفعل.

[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤)
يريد بالهدى جميع ما آتاه في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع وَأَوْرَثْنا وتركنا على بنى إسرائيل من بعده الْكِتابَ أى التوراة هُدىً وَذِكْرى إرشادا وتذكرة، وانتصابهما على المفعول له أو على الحال. وأولو الألباب: المؤمنون به العاملون بما فيه.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥٥]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعنى أنّ نصرة الرسل في ضمان الله، وضمان الله لا يخلف، واستشهد بموسى وما آتاه من أسباب الهدى والنصرة على فرعون وجنوده، وإبقاء آثار هداه في بنى إسرائيل، والله ناصرك كما نصرهم، ومظهرك على الدين كله، ومبلغ ملك أمّتك مشارق الأرض ومغاربها، فاصبر على ما يجرّعك قومك من الغصص، فإن العاقبة لك وما سبق به وعدى من نصرتك وإعلاء كلمتك حق، وأقبل على التقوى واستدرك الفرطات بالاستغفار، ودم على عبادة ربك والثناء عليه بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ وقيل: هما صلاتا العصر والفجر.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥٦]
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦)
إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ إلا تكبر وتعظم، وهو إرادة التقدّم والرياسة، وأن لا يكون أحد فوقهم، ولذلك عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدّمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك، لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة. أو إرادة أن تكون لهم النبوّة دونك حسدا وبغيا. ويدل عليه قوله تعالى لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أو إرادة دفع الآيات بالجدال ما هُمْ بِبالِغِيهِ أى ببالغي موجب الكبر ومقتضية، وهو متعلق إرادتهم من الرياسة أو النبوّة أو دفع الآيات.
وقيل: المجادلون هم اليهود، وكانوا يقولون: يخرج صاحبنا المسيح بن داود، يريدون الدّجال، ويبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله فيرجع إلينا الملك، فسمى الله تمنيهم ذلك كبرا، ونفى أن يبلغوا متمناهم فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فالتجئ إليه من كيد من
يحسدك ويبغى عليك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقول ويقولون الْبَصِيرُ بما تعمل ويعملون، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥٧]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
فإن قلت. كيف اتصل قوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بما قبله؟ قلت: إن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث، وهو أصل المجادلة ومدارها، فحجوا بخلق السماوات والأرض لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها وبأنها خلق عظيم لا يقادر قدره، وخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين، فمن قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله «١» لا يَعْلَمُونَ لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥٨]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨)
ضرب الأعمى والبصير مثلا للمحسن والمسيء. وقرئ: يتذكرون بالياء والتاء، والتاء أعم.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥٩]
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩)
لا رَيْبَ فِيها لا بد من مجيئها ولا محالة، وليس بمرتاب فيها، لأنه لا بد من جزاء لا يُؤْمِنُونَ لا يصدقون بها.
(١). قال محمود: «فان قلت: كيف اتصل قوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بما قبله؟ وأجاب بأن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث، وهو أصل المجادلة ومدارها، فحجوا بخلق السماوات والأرض لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها، وبأنها خلق عظيم، فخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين، فمن قدر على خلقها مع عظمها كان على الإنسان الضعيف أقدر، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله» قال أحمد: الأولوية في هذا الاستشهاد ثابتة بدرجتين، أحدهما ما ذكره من أن القادر على العظيم هو على الحقير أقدر. الثانية: أن مجادلتهم كانت في البعث وهو الاعادة ولا شك أن الابتداء أعظم وأبهر من الاعادة، فإذا كان ابتداء خلق العظيم يعنى السماوات والأرض داخلا تحت القدرة فابتداء خلق الحقير: يعنى الناس أدخل تحتها، وإعادته أدخل من ابتدائه، فهو أولى بأن يكون مقدورا عليه مما اعترفوا به من خلق السماوات والأرض بدرجتين، وإلى هذا الترتيب وقعت الاشارة بقوله تعالى في الم غُلِبَتِ الرُّومُ:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ فقرر أن قيام السماء والأرض هو بأمره، أى: خلقها من آياته، فكيف بما هو أحط من قيامها بدرجتين وهو إعادة البشر أهون عليه من الابتداء ليتحقق الدرجتان المذكورتان، فقال تعالى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وإذا تأملت الذي ذكرته منسوبا لما ذكره الزمخشري: علمت أن ما ذكره هو لباب المراد فجدد عهدا به إن لم تعلم ذلك.

[سورة غافر (٤٠) : آية ٦٠]

وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠)
ادْعُونِي اعبدوني، والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن. ويدل عليه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي والاستجابة: الإثابة وفي تفسير مجاهد: اعبدوني أثبكم. وعن الحسن- وقد سئل عنها-: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله. وعن الثوري أنه قيل له: ادع الله، فقال. إن ترك الذنوب هو الدعاء. وفي الحديث «إذا شغل عبدى طاعتي عن الدعاء. أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» «١» وروى النعمان بن بشير رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الدعاء هو العبادة» «٢» وقرأ هذه الآية. ويجوز أن يريد الدعاء والاستجابة على ظاهرهما، ويريد بعبادتي: دعائي، لأنّ الدعاء باب من العبادة ومن أفضل أبوابها، يصدقه قول ابن عباس رضى الله عنهما: أفضل العبادة الدعاء «٣». وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاث خلال لم يعطهن إلا نبيا مرسلا: كان يقول لكل نبىّ أنت شاهدي على خلقي، وقال لهذه الأمة لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وكان يقول: ما عليك من حرج، وقال لنا ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وكان يقول: ادعني أستجب لك، وقال لنا ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. وعن ابن عباس: وحدوني أغفر لكم، وهذا تفسير للدعاء بالعبادة، ثم للعبادة بالتوحيد داخِرِينَ صاغرين.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٦١]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١)
مُبْصِراً من الإسناد المجازى، لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار. فإن قلت: لم قرن الليل بالمفعول له، والنهار بالحال؟ وهلا كانا حالين أو مفعولا لهما فيراعى حق المقابلة؟ قلت:
هما متقابلان من حيث المعنى، لأن كل واحد منهما يؤدى مؤدى الآخر، ولأنه لو قيل:
(١). أخرجه عبد الرزاق عن سفيان عن منصور عن مالك بن الحرث قال «يقول الله: إذا اشتغل عبدى بثنائه عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» وهذا مرسل، وفي الترمذي عن أبى سعيد «من شغله قراءة القرآن عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين».
(٢). أخرجه أصحاب السنن، وتقدم في مريم.
(٣). أخرجه الحاكم في الدعاء من وجهين عنه.
لتبصروا فيه، فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازى، ولو قيل: ساكنا- والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم: ليل ساج، وساكن لا ريح فيه- لم تتميز الحقيقة من المجاز. فإن قلت: فهلا قيل: لمفضل، أو لمتفضل؟ قلت: لأن الغرض تنكير الفضل، وأن يجعل فضلا لا يوازيه فضل، وذلك إنما يستوي بالإضافة. فإن قلت: فلو قيل:
ولكن أكثرهم، فلا يتكرر ذكر الناس؟ قلت: في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه، كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ، إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣)
ذلِكُمُ المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة، أى: هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وإنشائه لا يمتنع عليه شيء، والوحدانية: لا ثانى له فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف ومن أى وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان. ثم ذكر أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همة طلب الحق وخشية العاقبة: أفك كما أفكوا. وقرئ: خالق كل شيء، نصبا على الاختصاص. وتؤفكون: بالتاء والياء.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)
هذه أيضا دلالة أخرى على تمييزه بأفعال خاصة، وهي أنه جعل الأرض مستقرا وَالسَّماءَ بِناءً أى قبة. ومنه: أبنية العرب لمضاربهم، لأنّ السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وقرئ بكسر الصاد والمعنى واحد. قيل: لم يخلق حيوانا أحسن صورة من الإنسان: وقيل لم يخلقهم منكوسين كالبهائم، كقوله تعالى فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فَادْعُوهُ فاعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أى الطاعة من الشرك والرياء، قائلين الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من قال لا إله إلا الله. فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين «١».
(١). أخرجه الطبري، والحاكم أيضا، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن مردويه من رواية الأعمش عن مجاهد عنه. [.....]

[سورة غافر (٤٠) : آية ٦٦]

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦)
فإن قلت: أما نهى رسول الله ﷺ عن عبادة الأوثان بأدلة العقل حتى جاءته البينات من ربه؟ قلت: بلى ولكن البينات لما كانت مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومضمنة ذكرها نحو قوله تعالى أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل- كان ذكر البينات ذكر الأدلة العقل والسمع جميعا، وإنما ذكر ما يدل على الأمرين جميعا، لأن ذكر تناصر الأدلة أدلة العقل وأدلة السمع أقوى في إبطال مذهبهم، وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية «١».
[سورة غافر (٤٠) : آية ٦٧]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧)
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ متعلق بفعل محذوف تقديره: ثم يبقيكم لتبلغوا. وكذلك لتكونوا. وأما وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى فمعناه: ونفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى، وهو وقت الموت. وقيل:
يوم القيامة. وقرئ: شيوخا، بكسر الشين. وشيخا، على التوحيد، كقوله طِفْلًا والمعنى:
كل واحد منكم. أو اقتصر على الواحد، لأنّ الغرض بيان الجنس مِنْ قَبْلُ من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في ذلك من العبر والحجج.
(١). قال محمود: «فان قلت: النبي عليه الصلاة والسلام قد اتضحت له أدلة العقل على التوحيد قبل مجيء الوحى، فعلام تحمل الآية؟ وأجاب بأن الأمر كذلك ولكن البينات مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومتضمنة ذكرها، نحو قوله أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل والسمع جميعا، وإنما ذكر ما يدل على الأمرين جميعا لأن ذكر الأمرين أقوى في إبطال مذهبهم، وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية» قال أحمد: اللائق بقواعد السنة أن يقال: أما معرفة الله تعالى ومعرفة وحدانيته واستحالة كون الأصنام آلهة، فمستفاد من أدلة العقول، وقد ترد الأدلة العقلية في مضامين السمعيات. وأما وجوب عبادة الله تعالى وتحريم عبادة الأصنام، فحكم شرعي لا يستفاد إلا من السمع، فعلى هذا يترك الجواب عن هذا السؤال. وقوله تعالى إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنما أريد به- والله أعلم-: تحريم عبادة غير الله، فهذا لا يستفاد إلا من نهى الله تعالى عن ذلك، لا من العقل، لكن قاعدة الزمخشري تقتضي أن تحريم عبادة غير الله تعالى تتلقى من العقل قبل ورود الشرع، إذ العقل عنده حاكم بمقتضى التحسين والتقبيح، ولهذا أورد الاشكال عليه، واحتاج إلى الجواب عنه، ثم قوله في الجواب أن أدلة الشرع مقوية لأدلة العقل ضعيف، مع اعتقاده أن العقل يدل على الحكم قطعا، وما دل قطعا كيف يحتمل الزيادة والتأكيد، والقطعيات لا تفاوت في ثبوتها.

[سورة غافر (٤٠) : آية ٦٨]

هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يكونه من غير كلفة ولا معاناة. جعل هذا نتيجة من قدرته على الإحياء والإماتة، وسائر ما ذكر من أفعاله الدالة على أنّ مقدورا لا يمتنع عليه، كأنه قال: فلذلك من الاقتدار إذا قضى أمرا كان أهون شيء وأسرعه.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)
بِالْكِتابِ بالقرآن وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من الكتب. فإن قلت: وهل قوله فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ إلى مثل قولك: سوف أصوم أمس؟ قلت:
المعنى على إذا: إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوعا بها: عبر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال. وعن ابن عباس: والسلاسل يسحبون بالنصب وفتح الياء، على عطف الجملة الفعلية على الاسمية. وعنه: والسلاسل يسحبون بحر السلاسل.
ووجهه أنه لو قيل: إذ أعناقهم في الأغلال مكان قوله إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ لكان صحيحا مستقيما، فلما كانتا عبارتين معتقبتين: حمل قوله وَالسَّلاسِلُ على العبارة الأخرى. ونظيره:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلّا ببين غرابها «١»
كأنه قيل: بمصلحين. وقرئ: وبالسلاسل يسحبون فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ من سجر التنور إذا
(١). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٣٨١ فراجعه إن شئت اه مصححه.
ملأه بالوقود. ومنه: السجير «١»، كأنه سجر بالحب، أى: مليء. ومعناه: أنهم في النار فهي محيطة بهم، وهم مسجورون بالنار مملوءة بها أجوافهم. ومنه قوله تعالى نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ اللهم أجرنا من نارك فإنا عائذون بجوارك ضَلُّوا عَنَّا غابوا عن عيوننا، فلا نراهم ولا ننتفع بهم. فإن قلت: أما ذكرت في تفسير قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ: أنهم مقرونون بآلهتهم، فكيف يكونون معهم وقد ضلوا عنهم؟ قلت:
يجوز أن يضلوا عنهم إذا وبخوا وقيل لهم: أينما كنتم تشركون من دون الله فيغيثوكم ويشفعوا لكم، وأن يكونوا معهم في سائر الأوقات «٢»، وأن يكونوا معهم في جميع أوقاتهم، إلا أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم ضالون عنهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أى تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا كما تقول: حسبت أنّ فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيرا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم، حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا ذلِكُمْ الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشرك وعبادة الأوثان ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ السبعة المقسومة لكم. قال الله تعالى لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ. خالِدِينَ مقدّرين الخلود فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الحق المستخفين به مثواكم أو جهنم. فإن قلت:
أليس قياس النظم أن يقال: فبئس مدخل المتكبرين، كما تقول: زر بيت الله فنعم المزار، وصل في المسجد الحرام فنعم المصلى؟ قلت: الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٧٧]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧)
فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ أصله: فإن ترك. و «ما» مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل «٣». ألا تراك لا تقول. إن تكرمني أكرمك، ولكن: إما تكرمني أكرمك. فإن قلت:
لا يخلو إما أن تعطف أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ على نرينك وتشركهما في جزاء واحد وهو قوله تعالى فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ فقولك: فإمّا نرينك بعض الذي نعدهم فإلينا يرجعون: غير صحيح، وإن
(١). قوله «ومنه السجير» في الصحاح: «سجير الرجل» : صفيه وخليله، والجمع السجراء. (ع)
(٢). قوله «في سائر الأوقات» أى باقى الأوقات بعد وقت التوبيخ. (ع)
(٣). قال محمود: «المصحح للحاق النون المؤكدة دخول ما المؤكدة للشرط، ولولا «ما» لم يجز دخولها» قال أحمد: وإنما كان كذلك لأن النون المؤكدة حقها أن تدخل في غير الواجب، والشرط من قبيل الواجب، إلا أنه إذا أكد قوى إبهامه فقربته قوة الإبهام من غير الواجب، فيساغ دخول النون فيه.
جعلت فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ مختصا بالمعطوف الذي هو نتوفينك، في المعطوف عليه بغير جزاء.
قلت: فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ متعلق بنتوفينك، وجزاء نُرِيَنَّكَ محذوف، تقديره: فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل والأسر يوم بدر فذاك. أو إن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم «١» منهم أشدّ الانتقام ونحره قوله تعالى فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٧٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ قيل: بعث الله ثمانية آلاف نبىّ: أربعة آلاف من بنى إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس. وعن علىّ رضى الله عنه: أنّ الله تعالى بعث نبيا أسود «٢»، فهو ممن لم يقصص عليه. وهذا في اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنادا، يعنى: إنا قد أرسلنا كثيرا من الرسل وما كان لواحد منهم أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فمن لي بأن آتى بآية مما تقترحونه إلا أن يشاء الله ويأذن في الإتيان بها فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وعيد وردّ عقيب اقتراح الآيات. وأمر الله: القيامة الْمُبْطِلُونَ هم المعاندون الذين اقترحوا الآيات وقد أتتهم الآيات فأنكروها وسموها سحرا.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)
(١). قال محمود: «إما أن يشرك مع الأول في الشرط ويكون قوله فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ جزاء مشركا بينهما فلا يستقيم المعنى، على: فاما نرينك بعض الذي نعدهم.. فالينا يرجعون وإن جعل الجزاء مختصا بالثاني بقي الأول بغير جزاء. وأجاب بأنه مختص بالثاني، وجزاء الأول محذوف، تقديره: فاما نرينك بعض الذي نعدهم وهو ما حل بهم يوم بدر، فذاك. أو نتوفينك، فالينا يرجعون فننتقم منهم» قال أحمد: وإنما حذف جواب الأول دون الثاني لأن الأول إن وقع فذاك غاية الأمل في إنكائهم، فالثابت على تقدير وقوعه معلوم، وهو حصول المراد على التمام.
وأما إن لم يقع ووقع الثاني وهو توفيه قبل حلول المجازاة بهم، فهذا هو الذي يحتاج إلى ذكره للتسلية وتطمين النفس، على أنه وإن تأخر جزاؤهم عن الدنيا فهو حتم في الآخرة ولا بد منه. قال: ومثله قوله تعالى فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ: كأنه يستشهد على أن جزاء الأول محذوف بذكر هذه الآية
(٢). أخرجه الطبري والطبراني في الأوسط وابن مردويه من رواية جابر الجعفي عن عبد الله بن يحيى عن على رضى الله عنه في قوله وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ قال أرسل الله عبدا حبشيا، فهو الذي لم نقصص عليك» وروى الثعلبي من وجه آخر عن جابر عن أبى الطفيل عن على «كان أصحاب الأخدود نبيهم حبشي. بعث نبى من الحبشة إلى قومه. ثم قرأ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ الآية.
الأنعام: الإبل خاصة. فإن قلت: لم قال لِتَرْكَبُوا مِنْها ولتبلغوا عليها، ولم يقل، لتأكلوا منها ولتصلوا إلى منافع؟ أو هلا قال: منها تركبون ومنها تأكلون وتبلغون «١» عليها حاجة في صدوركم؟ قلت: في الركوب: الركوب في الحج والغزو، وفي بلوغ الحاجة: الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم، وهذه أغراض دينية إمّا واجبة أو مندوب إليها مما يتعلق به إرادة الحكيم. وأما الأكل وإصابة المنافع: فمن جنس المباح الذي لا يتعلق «٢» به إرادته: ومعنى قوله وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وعلى الأنعام وحدها لا تحملون، ولكن عليها وعلى الفلك في البر والبحر. فإن قلت: هلا قيل: وفي الفلك، كما قال قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ؟
قلت: معنى الإيعاء «٣» ومعنى الاستعلاء: كلاهما مستقيم، لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها، فلما صح المعنيان صحت العبارتان. وأيضا فليطابق قوله وَعَلَيْها ويزاوجه أَيَّ آياتِ اللَّهِ
جاءت على اللغة المستفيضة. وقولك: فأية آيات الله قليل، لأنّ التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب، وهي في أى أغرب لإبهامه.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣)
(١). قال محمود: «فان قلت: هلا قيل لتركبوا منها ولتأكلوا منها ولتبلغوا، ومنها تركبون ومنها تأكلون، وعليها تبلغون؟ وأجاب بأن في الركوب الركوب في الغزو والحج، وفي بلوغ الحاجة الهجرة من بلد إلى بلد لاقامة دين أو علم، وهذه أغراض دينية: إما واجبة أو مندوبة مما يتعلق به إرادة الحكيم. وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا يتعلق به الارادة» قال أحمد: جواب متداع للسقوط مؤسس على قاعدة واهية، وهي أن الأمر راجع إلى الارادة، فالواجب والمندوب مرادان، لأنهما مندرجان في الأمر، والمباح غير مراد، لأنه غير مأمور به، وهذا من هنيات المعتزلة في إنكار كلام النفس، فلا نطيل فيه النفس. وقاعدة أهل الحق أنه لا ربط بين الأمر والارادة، فقد يأمر بخلاف ما يريد، ويريد خلاف ما يأمر به، فالجواب الصحيح إذا أن المقصود المهم من الأنعام والمنفعة المشهورة فيها إنما هي الركوب وبلوغ الحوائج عليها بواسطة الأسفار والانتقال في ابتغاء الأوطار، فلذلك ذكرهما هنا مقرونين باللام الدالة على التعليل والغرض. وأما الأكل وبقية المنافع كالأصواف والأوبار والألبان وما يجرى مجراها فهي وإن كانت حاصلة منها فغير خاصة بها خصوص الركوب والحمل وتوابع ذلك، بل الأكل بالغنم خصوصا الضأن أشهر، فلذلك اختيرت الضحايا منها على الغنم، فلذلك جردت هذه المنافع بالأخبار عن وجودها فيها غير مقرونة بما يدل على أنها المقصود.
(٢). قوله «المباح الذي لا يتعلق به» مبنى على مذهب المعتزلة: أن الارادة بمعنى الأمر فلا تتعلق إلا بالمطلوب.
وعند أهل السنة: هي صفة تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه، فتتعلق بجميع الممكنات، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
(٣). قوله «معنى الايعاء» في الصحاح: أوعيت الزاد والمتاع: إذا جعلته في الوعاء. (ع)
181
وَآثاراً قصورهم ومصانعهم. وقيل: مشيهم بأرجلهم لعظم أجرامهم فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما نافية أو مضمنة معنى الاستفهام، ومحلها النصب، والثانية موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع، يعنى أى شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فيه وجوه: منها أنه أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ: وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون لا نبعث ولا نعذب، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء، كما قال عز وجل كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ومنها: أن يريد علم الفلاسفة والدهريين من بنى يونان، وكانوا إذا سمعوا بوحي الله: دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. وعن سقراط: أنه سمع بموسى صلوات الله عليه وسلامه، وقيل له.
لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. ومنها: أن يوضع قوله فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ولا علم عندهم البتة، موضع قوله: يفرحوا بما جاءهم من العلم، مبالغة في نفى فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة، مع تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلماء. ومنها أن يراد: فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، كأنه قال: استهزؤا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوحى فرحين مرحين. ويدل عليه قوله تعالى وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ومنها: أن يجعل الفرح للرسل. ومعناه: أن الرسل لما رأوا جهلهم المتمادى واستهزائهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم:
فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.
ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم: علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات- وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف «١» عن الملاذ والشهوات- لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به.
(١). قوله «والظلف» في الصحاح: ظلفت نفسي عن كذا- بالكسر- تظلف ظلفا، أى: كفت. (ع)
182

[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]

فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
البأس: شدّة العذاب. ومنه قوله تعالى بِعَذابٍ بَئِيسٍ. فإن قلت: أى فرق بين قوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ وبينه لو قيل: فلم ينفعهم إيمانهم؟ قلت: هو من كان في نحو قوله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ والمعنى: فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم «١». فإن قلت:
كيف ترادفت هذه الفاءات؟ قلت: أما قوله تعالى فَما أَغْنى عَنْهُمْ فهو نتيجة قوله كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وأما قوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فجار مجرى البيان والتفسير، لقوله تعالى فَما أَغْنى عَنْهُمْ كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا تابع لقوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ كأنه قال: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، وكذلك:
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله سُنَّتَ اللَّهِ بمنزلة وَعَدَ اللَّهُ وما أشبهه من المصادر المؤكدة. وهُنالِكَ مكان مستعار للزمان، أى: وخسروا وقت رؤية البأس، وكذلك قوله وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ بعد قوله فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ أى: وخسروا وقت مجيء أمر الله، أو وقت القضاء بالحق.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبى ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له» «٢»
(١). قال محمود: «فان قلت: أى فرق بين قوله: فلم يك بنفعهم إيمانهم. وبينه لو قيل: فلم بنفعهم، وأجاب بأن معنى كانَ هنا معناها في قوله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ بمعنى: فلم يستقم ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم، قال أحمد: كان الذي ثبت التصرف فيها بإجراء نونها مجرى حروف العلة حتى حذفت للجازم هي كانَ الكثير استعمالها، المكرر دورانها في الكلام. وأما كانَ هذه فليست كثيرة التصرف حتى يتسع فيها بالحذف، بل هي مثل: صان، وحان» في القلة، فالأولى بقاؤها على بابها المعروف، وفائدة دخولها في هذه الآية وأمثالها: المبالغة في نفى الفعل الداخلة عليه بتعديد جهتى نفيه عموما باعتبار الكون، وخصوصا باعتباره في هذه الآية مثلا، فكأنه نفى مرتين، والله أعلم.
(٢). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.
Icon