تفسير سورة فصّلت

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

سورة فصلت مكيةوهي ثلاث وخمسون آيةمبتدأ، و (ثلاث وخمسون آية) خبر أول، و (مكية) خبر ثان، وتسمى أيضاً سورة حم السجدة، وسورة المصابيح، وسورة السجدة. قوله: (الله أعلم بمراده) تقدم غير مرة أن هذا القول أسلم. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴾ خص هذين الاسمين، إشارة إلى نزول القرآن من أكبر النعم، ولا شك أن النعم من مظهر تجلي الرحمة، فالقرآن نعمة باقية إلى يوم القيامة. قوله: (مبتدأ) أي وسوغ الابتداء به، عمله في الجار والمجرور بعده على حد: ورغبة في الخير خير. قوله: ﴿ كِتَابٌ ﴾ (خبره) أي و ﴿ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ﴾ نعت للخبر. قوله: (بينت بالأحكام) أي ميزت ووضحت لفظاً ومعنى، فاللفظ في أعلى طبقات البلاغة معجز لجميع الخلق، والمعنى: كالوعد والوعيد والقصص والأحكام، وغير ذلك من المعاني المختلفة، فإذا تأملت في القرآن، تجد بعض آياته متعلقاً بذات الله وصفاته، وبعضها متعلقاً بعجائب خلقه، من السماوات والأرض وما فيهما، وبعضها متعلقاً بالمواعظ والنصائح، وغير ذلك، قال البوصيري في ذلك المعنى: فلا تعد ولا تحصى عجائبها   ولا تسام من الإكثار بالسأمقوله: (حال من كتاب) أي كل من ﴿ قُرْآناً ﴾ و ﴿ عَرَبِيّاً ﴾ فتكون حالاً مؤسسة، ويصح أن يكون الحال لفظ ﴿ قُرْآناً ﴾ و ﴿ عَرَبِيّاً ﴾ صفته. قوله: (بصفته) أي الكتاب، والمعنى أن المسوغ لمجيئ الحال منه مع كونه نكرة، وصفه بما بعده. قوله: (متعلق بفصلت) أي والمعنى بينت ووضحت لهؤلاء. قوله: (يفهمون ذلك) أي تفاصيل آياته. قوله: (وهم العرب) أي وإنما خصوا بالذكر، لأنهم يفهمونها بلا واسطة، لكون القرآن نزل بلغتهم، وأما غيرهم فلا يفهم القرآن إلا بواسطتهم. قوله: (صفة قرآناً) ويصح أن يكونا حالين من كتاب، وهذا على قراءة الجمهور، وقرئ شذوذاً على أنه خبر لمحذوف، أي﴿ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾[فصلت: ٤]، ونعت لكتاب.
قوله: ﴿ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ﴾ أي تكبراً وعناداً، واستفيد منه أن الأقل لم يعرض، بل خضع وانقاد وآمن، وذلك كأبي بكر وأضرابه. قوله: ﴿ وَقَالُواْ ﴾ معطوف على ﴿ فَأَعْرَضَ ﴾ وقوله: ﴿ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ ﴾ جمع كنان، وهو ما تجعل فيه السهام، ويسمى جعبة بفتح الجيم، ويجمع على جعاب. قوله: ﴿ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ﴾ ما واقعة على التوحيد، والفعل مرفوع بضمة مقدرة على الواو، والفاعل مستتر تقديره أنت، ونا مفعوله. قوله: ﴿ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ ﴾ شهوا أسماعهم بآذان فيها صمم، من حيث إنها تمج الحق، ولا تميل إلى استماعه. قوله: ﴿ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ ﴿ مِن ﴾ لابتداء الغاية، والمعنى: أن الحجاب ناشئ من جهتنا، فلا نستطيع التوصل لما عندك، والحجاب ناشئ من جهتم، فلا تستطيع التوصل لما عندنا، فنحن معذورون في عدم التوصل لما عندك، والحجاب ناشئ من جهتك. قوله: (خلاف) أي مخالفة في الدين. قوله: ﴿ فَٱعْمَلْ ﴾ (على دينك) أي استمر عليه، وقوله: ﴿ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ أي مستمرون على ديننا. قوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ هذا رد لما زعموا من الحجاب كأنه قال: دعواكم الحجاب باطلة لا أصل لها، لأني بشر من جنسكم، تعرفون حالي وطبعي، وأعرف حالكم وطبعكم، فلست مغايراً لكم، حتى يكون بيني وبينكم حجاب وتباين، ولست بداع لكم إلى شيء لا تقبله العقول والأسماع بل أنا ذاه لكم إلى توحيد خالقكم وموجدكم، الذي قامت عليه الأدلة العقلية والنقلية. قوله: ﴿ ٱسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ ﴾ ضمنه معنى توجهوا، فعداه بإلى. قوله: ﴿ وَٱسْتَغْفِرُوهُ ﴾ أي مما أنتم عليه من سوء العقيدة، وفيه إشارة إلى أن الاستقامة لا تتم، إلا بالاستغفار والندم على ما مضى، بحيث يكره أن يعود الكفر، كما يكره الوقوع في النار. قوله: ﴿ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ﴾ مبتدأ وخبر، وسوغ الابتداء به قصد الدعاء. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ﴾ إنما خص منع الزكاة، وقرته بالكفر في الآخرة، لأن المال أخو الروح، فإذا بذله الإنسان في سبيل الله، كان دليلاً على قوته وثباته في الدين، قال تعالى:﴿ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾[البقرة: ٢٦٥] إلخ، أي يثبتون أنفسهم، ولذا كان صلى الله عليه وسلم يؤلف حديث العهد بالإيمان بالمال، وقاتل أبو بكر مانعي الزكاة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الآية تخويف وتحذير للمؤمنين من منع الزكاة، وتحضيض على أدائها، وقال ابن عباس: هم الذين لا يقولون لا إله إلا الله، وهي زكاة الأنفس، والمعنى: لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد. فإن قلت: على تفسير الجمهور يشكل بأن الآية مكية، والزكاة فرضت بالمدينة، فلم يكن هناك أمر بالزكاة حتى يذم مانعها. والجواب: أن المراج بالزكاة، صرف المال في مراضي الله تعالى.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ إلخ، ذكر تعالى وعد المؤمنين إثر وعيد المشركين، جرياً على عادته سبحانه وتعالى في كتابه. قوله: ﴿ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ (مقطوع) أي بل هو دائم مستمر بدوام الله، وهذا أحد تفاسير في هذه الآية، وقيل غير منقوص، وقيل غير ممنون به عليهم، فلا يعدد الله ولا ملائكته عليهم النعم في الجنة ويطلبهم بشكرها، لانقطاع التكليف بالموت، وأيضاً نفوس أهل الجنة مطهرة، فلا تزال تشكر الله تعالى، وإن كان غير مطلوب منهم تلذذاً وفرحاً بنعم الله تعالى، ولأن الجنة دار ضيافة مولانا تعالى، والكريم لا يعدد نعمه على أضيافه. قوله: ﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ ﴾ قدم الاستفهام على التأكيد، لأن له صدر الكلام، وهو استفهام انكار وتشنيع، وأن اللام لتأكيد الإنكار، والمعنى: أنتم تعلمون أنه لا شريك له في العالم العلوي والسفلي، فكيف تجعلون له شريكاً؟ قوله: (وإدخال ألف) إلخ، فالمناسب أن يقول وتركه، لأن القراءات السبعية هنا أربع لا اثنتان كما يوهمه كلامه. قوله: ﴿ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ قال ابن عباس: إن الله خلق يوماً فسماه يوم الأحد، ثم خلق ثانياً فسماه يوم الاثنين، ثم خلق ثالثاً فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعاً فسماه الأربعاء، ثم خلق خامساً فمساه الخميس، فخلق الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق مواضع الأنهار والشجر والقرى يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحوش والسباع والهوام والآفات يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة، وفرغ من الخلق يوم السبت، وهذا هو الصحيح، وقد مشى عليه المفسر، وقيل إن مبدأ الخلق السبت. قوله: ﴿ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ﴾ عطف على ﴿ تَكْفُرُونَ ﴾ عطف سبب على مسبب. قوله: ﴿ ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ اسم الإشارة عائد على الموصول، وأتى بالخطاب مفرداً، اشارة إلى أن المخاطب فرد غير معين. قوله: (وجمع) إلخ جواب عما يقال: إنه اسم جنس يصدق على كل ما سوى الله، والجمع لا بد أن يكون له أفراد ثلاثة فأكثر. فأجاب: بأنه جمع باعتبار أنواعه. قوله: (بالياء والنون) اشارة لسؤال آخر، فلو أتى بالواو لكان أوضح. وحاصل هذا السؤال: أن هذا الجمع خاص بالعقلاء، والعالم غالبه غير عاقل. فأجاب بقوله: (تغليباً) إلخ. قوله: (مستأنف) إلخ، هذه العبارة في بعض النسخ، وهي معترضة بأنه لا محذور في الفصل بين المتعاطفين بالجمل المعترضة، ولا يقال إنه وقع بين أجزاء صلة الموصول؛ لأنه يقال: الموصول قد استوفى صلته، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، فالأولى اسقاط هذه العبارة، كما هو في بعض النسخ، وقوله: (للفاصل) أي وهو قوله: ﴿ وَتَجْعَلُونَ ﴾ إلخ، فإنه معطوف على ﴿ تَكْفُرُونَ ﴾ فليس من أجزاء الصلة.
قوله: ﴿ مِن فَوْقِهَا ﴾ الحكمة في قوله: ﴿ مِن فَوْقِهَا ﴾ أنه تعالى لو جعل لها رواسي من تحتها، لتوهم أنها هي التي أمسكتها عن النزول، فجعل الله الجبال فوقها، ليعلم الإنسان أن الأرض وما عليها ممسكة بقدرة الله تعالى. قوله: ﴿ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا ﴾ قال محمد بن كعب: قدر الأقوات قبل أن يخلق الخلق والأبدان، فخص كل قوت بقطر من الأقطار، وأضاف القوت إلى الأرض، لكونه متولداً منها، وناشئاً فيها، وذلك أنه تعالى جعل كل بلدة معدة لنوع من الأشياء المطلوبة، حتى أن أهل هذه البلدة، يحتاجون إلى الأشياء الموجودة في تلك البلدة، وهكذا، فصار ذلك سبباً لرغبة الناس في التجارة واكتساب الأموال؛ وجميع ما خلقه الله لا ينقص عن حاجة المحتاجين، ولو زادت الخلق أضعافاً، وإنما ينقص توصل بعضهم إله، فلا يجد له ما يكفيه، وفي الأرض أضعاف كفايته. قوله: ﴿ فِيۤ ﴾ (تمام) ﴿ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ﴾ أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، دفعاً لما يتوهم أن الأيام ثمانية: يومان في خلق الأرض، وأربعة في خلق الأقوات، ويومان في خلق السماوات، لينافي في قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾[ق: ٣٨] والحكمة في تقديره هذه المدة، مع أنه تعالى قادر على خلق كل في قدر لمحة نعليم العباد التمهل والتأني في الأمور، والبعد من العجلة. قوله: (في يوم الثلاثاء) بفتح الثاء وضمها. قوله: ﴿ لِّلسَّآئِلِينَ ﴾ متعلق بسواء، والمعنى مستوية للسائلين، أي جواب السائلين فيها سواء، لا يتغير لسائل بزيادة ولا نقص. قوله: (قصد) ﴿ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ﴾ أي أراد، والمعنى تعلقت ارادته بخلق السماوات. قوله: ﴿ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ المراد بخار الماء؛ وذلك أن العرش كان على الماء، قبل خلق السماوات والأرض، ثم أحدث الله في ذلك الماء اضطراباً، فأزبد وارتفع، فخرج منه دخان فارتفع وعلا، فخلق منه السماوات، وأما الزبد فبقي على وجه الماء، فخلق منه اليبوسة، وأحدث منه الأرض. قوله: ﴿ فَقَالَ لَهَا ﴾ إلخ، اختلف في قول الله للأرض والسماوات وحوابهما له، فقيل: هو حقيقة وأجابتاه بلسان المقال ولا مانع منه، لأن القادر لا يعجزه شيء، فخلق فيهما الحياة والعقل والكلام وتكلمتا، ويؤيده ما روي أنه نطق من الأرض موضع الكعبة، ونطق من السماء بحذائها، فوضع الله فيهما حرمه، وقيل: إن معنى القول في حق الله تعالى، ظهور تأثير قدرته، وكلاهما كناية عن الطاعة والانقياد. قوله: (فيه تغليب المذكر العاقل) أي حيث جمعوا جمعه.
قوله: ﴿ فَقَضَٰهُنَّ ﴾ تفصيل لتكوين السماء. قوله: (أي صير) ﴿ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ ﴾ أشار بذلك إلى أن قضى مضمن معنى صير، فسبع مفعول به. قوله: (وفيها خلق آدم) ظاهره أن آدم خلق في نفس اليوم الذي خلقت فيه السماوات، وهو خلاف المشهور من أن بين خلق آدم وخلقها ألوفاً من السنين. قوله: (ووافق ما هنا) إلخ، أي بتقدير المضاف السابق، والمشهور أن الأيام الستة بقدر أيام الدنيا؛ وقيل: كل يوم منها بقدر ألف سنة من أيام الدنيا، فتكون الستة أيام، بقدر الستة آلاف سنة. إن قلت: إن اليوم عبارة عن الليل والنهار، وذلك يحصل بطلوع الشمس وغروبها، وقبل خلق السماوات لا يعقل حصول اليوم، فضلاً عن تسميته بالأحد ونحوه. أجيب: بأن الله تعالى، قدر مقداراً خلق فيه الأرض وسماه الأحد والاثنين، ومقداراً خلق فيه الأقوات وسماه الثلاثاء والأربعاء، وهكذا، فالتسمية للمقادير التي خلقت فيها تلك الأشياء. بقي شيء آخر وهو: أن ما هنا يقتضي أن الأرض خلقت قبل السماوات، فيخالف آية النازعات المفيدة أن الأرض خلقت بعد السماوات، قال تعالى:﴿ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا ﴾[النازعات: ٢٧] إلى أن قال:﴿ وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾[النازعات: ٣٠].
وأجيب: بأن الله تعالى خلق الأرض أولاً في يومين كروية، ثم خلق بعدها السماء، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض وبسطها، فخلق الجميع في ستة أيام، والدحى بعد ذلك، فلا تناقض، واستشكل ذلك الرازي وأجاب عنه بما لا طائل تحته. قوله: ﴿ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا ﴾ الوحي كناية عن التكوين. قوله: (الذي أمر به من فيها) إلخ، وقيل: المعنى خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها، وخلق في كل سماء خلقها من الملائكة، والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد والثلج. قوله: (بفعله المقدر) أي وهو معطوف على. ﴿ زَيَّنَّا ﴾ قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي المذكور بتفاصيله. قوله: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ ﴾ مرتب على قوله فيما تقدم﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ ﴾[فصلت: ٩] إلخ، والمعنى: بين ما محمد لقومك طريق الرشاد، وأظهر لهم الحجج القاطعة الدالة على ذلك، فإن أعرضوا بعد إقامة الحجج وبيان الهدى، فخوفهم بعذاب مثل عذاب من تقدمهم من الأمم، لأنه جرت عادة الله تعالى، أن لا يعذب أمة إلا بعد طلوع شمس الحق لهم وإعراضهم عنهن وفي قوله: ﴿ أَعْرَضُواْ ﴾ التفات من خطابهم بقوله: (أئنكم) إلى الغيبة، إشارة إلى أنهم كما أعرضوا جوزوا بالإعراض واللتفات من خطابهم، لأن الخطاب شأن من يرجى إقباله، وهو ليسوا كذلك. قوله: ﴿ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ ﴾ عبر بالماضي اشارة إلى تحققه وحصوله. قوله: ﴿ صَاعِقَةً ﴾ هي في الأصل الصيحة التي يحصل بها الهلاك، أو قطعة نار تنزل من السماء معها رعد شديد، والمراد هنا العذاب المهلك، وقرئ شذوذاً، صعقة بغير ألف مع سكون العين في الموضعين، وقوله: ﴿ مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ التشبيه في مطلق الهلاك، وإن كان هلاك عاد وثمود عاماً، وهلاك هذه الأمة خاص ببعض أفرادهم، فهو تشبيه جزئي بكلي، وبهذا اندفع ما قد يقال: إن العذاب العام لا يأتي لهذه الأمة، لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أمن الأمة من ذلك. وأجيب أيضاً: بأنه لا يلزم من التخويف الحصول بالفعل، وحينئذ فالمعنى: أنتم ارتكبتم أموراً تستحقون عليها ما نزل بعاد وثمود.
قوله: ﴿ إِذْ جَآءَتْهُمُ ﴾ ظرف لصاعقة الثانية، والمعنى: صعقتهم وقت مجيء رسلهم إليهم، والضمير في ﴿ جَآءَتْهُمُ ﴾ عائد على﴿ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾[فصلت: ١٣] وقوله: ﴿ ٱلرُّسُلُ ﴾ المراد بهم هود وصالح ومن قبلهما من الرسل وهم نوح وإدريس وشيث وآدم، لكن مجيء هود وصالح لهاتين القبيلتين حقيقي، ومجيء من قبلهما لهاتين القبيلتين باعتبار اللازم، لأن كل رسول قد جاء بالتوحيد، وتكذيب واحد تكذيب للجميع. قوله: (أي مقبلين عليهم) أي وهم هود وصالح، وقوله: (ومدبرين عنهم) أي وهم الرسل الذين تقدموا على هود والصح، وهو لف ونشر مرتب. قوله: ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ ﴾ إلخ، يصح أن تكون ﴿ أَنْ ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن أو مصدرية أو تفسيرية، وكلام المفسر يشير للمعنيين الأولين، حيث قدر الياء و ﴿ لاَ ﴾ ناهية في الأوجه الثلاثة، ويصح أن تكون نافية أيضاً في الوجه الثاني، والفعل منصوب بأن، حذفت منه النون للناصب، و ﴿ لاَ ﴾ النافية لا تمنع عمل ﴿ أَنَّ ﴾ في الفعل. قوله: ﴿ قَالُواْ ﴾ أي عاد وثمود لهود وصالح. قوله: ﴿ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا ﴾ أي انزال ملائكته بالرسالة، فمفعول ﴿ شَآءَ ﴾ محذوف. والمعنى: لو شاء ربنا ارسال رسول، لجعله ملكاً لا بشراً، وهذا توصل منهم لإنكار الرسالة، لزعمهم أنها لا تكون للبشر. قوله: (على زعمكم) أي وإلا فلا فهم ينكرون رسالتهما. قوله: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي تعظموا على أهلها واستعلوا فيها، وهذا شروع في حكاية ما يخص كل طائة من القبائح والعذاب، بعد الإجمال في كفرهم. قوله: ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ أي فنحن نقدر على دفع العذاب على أنفسنا بقوتنا. قال ابن عباس: إن أطولهم كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعاً. قوله: (يجعلها) أي يضعها حيث شاء. قوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ إلخ، هذه الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم للتعجيب من مقالتهم الشنيعة، والهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة عليه، والتقدير: أيقولون ذلك ولم يروا؟ قوله: ﴿ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ ضمنه معنى يكفرون، فعداه بالباء وهو معطوف على قوله: ﴿ فَٱسْتَكْبَرُواْ ﴾.
قوله: ﴿ صَرْصَراً ﴾ من الصر وهو البرد، أو من الصرير، وهو التصويت بشدة، والمفسر جمع بينهما. قوله: (بكسر الحاء وسكونها) أي فهما قراءتان سبعيتان، وقيل: هما صفة مشبهة، والسكون للتخيف، كأشر وفرح، وقيل: إنه بالسكون مصدر وصف به. قوله: (مشؤومات) أي غير مباركات من الشؤم ضد اليمن. وهو تفسير لكل من القراءتين، وكان آخر شوال صبح الأربعاء، إلى غروب الأربعاء التي يليها، وذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوماً. قال ابن عباس: ما عذي قوم إلا في يوم الأربعاء. قوله: ﴿ عَذَابَ ٱلْخِزْيِ ﴾ أي العذاب الخزي، فهو من إضافة الموصوف لصفته، وقوله: (الذل) وصف به العذاب مبالغة، وإلا فحقه أن يوصف به أصحاب العذاب. قوله: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾ شروع في ذكر أحوال الطائفة الثانية. قوله: (بينا لهم طريق الهدى) أي فالمراد بالهداية الدلالة، لا الوصول بالفعل. قوله: ﴿ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾ أي الإيمان. قوله: (المهين) أي الموقع في الإهانة والذل. قوله: ﴿ كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ أي من الكفر وتكذيب نبيهم. قوله: ﴿ وَنَجَّيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي مع صالح وكانوا أربعة آلاف، وتقدم في الأعراف أنه نجا من كان مع هود، قال تعالى: (فأنجيناه والذين آمنوا معه برحمة منا) وكانوا أربعة آلاف أيضاً، كما تقدم لنا في سورة هود. قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكر) ﴿ يَوْمَ يُحْشَرُ ﴾ ﴿ يَوْمَ ﴾ ظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله: (اذكر). قوله: (بالياء) أي مع فتح الشين ورفع ﴿ أَعْدَآءُ ﴾ على أنه نائب فاعل. قوله: (وفتح الهمزة) أي من ﴿ أَعْدَآءُ ﴾ على أنه مفعول، والفاعل على أنه على كل هو الله تعالى، والقراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ ﴾ المراد بهم كل من كان من أهل الخلود في النار مطلقاً، من أول الزمان لآخره. قوله: ﴿ إِلَى ٱلنَّارِ ﴾ المراد موقف الحساب، وإنما عبر بالنار لأنها عاقبة حشرهم. قوله: (يساقون) وفسره البيضاوي بحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، ولا ينافي ما قاله المفسر، فإن المراد يساق آخرهم ليلحق أولهم، فيحصل الاجتماع والازدحام، حتى يكون على ألف قدم. قوله: (زائدة) أي للتأكيد، وإنما أكده لأنهم ينكرون مضمون الكلام. قوله: ﴿ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ ﴾ إلخ، أي بأن يخلق الله فيها النطق والفهم والإدراك كاللسان، فتقر بما فعلته من المعاصي حقيقة وهو التحقيق، وقيل: النطق كناية عن ظهور المعاصي على تلك الجوارح، كظهور النتونة على فروج الزناة، ونحو ذلك، وقيل: النطق من غير فهم ولا إدراك." عن أنس بن مالك قال: كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: " أتدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه فيقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز اليوم على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين البررة عليك شهوداً، قال: فيختم علي فيه ويقال لأركانه انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبينها فيقول: بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل "قوله: ﴿ وَجُلُودُهُم ﴾ المراد بها مطلق الجوارح، فيكون من عطف العام على الخاص، وقيل: المراد بالجلود خصوص الفروج، ويكون التعبير عنها بالجلود من باب الكناية، ويكون هذا في شهادة الزنا، وحينئذ فالآية فيها الوعيد الشديد على إتيان الزنا، والأقرب الأول.
قوله: ﴿ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ ﴾ أي توبيخاً وتعجباً من هذا الأمر. قوله: ﴿ قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ﴾ إلخ، أي جواباً لهم واعتذاراً عما صدر منهم. قوله: ﴿ تُرْجَعُونَ ﴾ أي تردون إيله بالبعث، وعبر بالمضارع مع أن المقالة بعد الرجوع بالفعل، لأن المراد بالرجوع البعث، وما يترتب عليه من العذاب الدائم، والعذاب مستقبل بالنسبة لمقالتهم. قوله: (قيل هو) أي قوله: ﴿ وَهُوَ خَلَقَكُمْ ﴾ إلخ. قوله: (كالذي بعده) أي وهو قوله: ﴿ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ ﴾.
قوله: (وموقعه) أي مناسبته. قوله: ﴿ وَهُوَ خَلَقَكُمْ ﴾ ووجه مناسبته له في المعنى، أنه يقربه من القول، من حيث إن القادر على الإبداء والإعادة؛ قادر على إنطاقها. قوله: ﴿ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ ﴾ أي تستخفون من هؤلاء الشهود، وهو لا يكون إلا بترك الفعل بالكلية، لأنها ملازمة للإنسان في حركاته وسكناته. قوله: (من) ﴿ أَن يَشْهَدَ ﴾ أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ أَن يَشْهَدَ ﴾ في محل نصب بنزع الخافض، ويصح أن يكون مفعولاً لأجله، والتقدير مخالفة أن يشهد، إلخ. قوله: (عند استتاركم) أي من الناس. قوله: ﴿ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً ﴾ المراد به ما أخفوه عن الناس من الأعمال، فظنوا أن علم الله مساو لعلم الخلق، فكل ما ستروه عن الناس لا يعلمه الله. قوله: ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ﴾ الخ، اعلم أن الظن قسمان: حسن وقبيح، فالحسن أن يظن العبد المؤمن بالله عز وجل الرحمة والإحسان والخير، ففي الحديث:" أنا عند ظن عبدي بي "والقبيح أن يظن الله نقصاً في ذاته أو صفاته أو أفعاله. قوله: ﴿ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ ﴾ نتيجة ما قبله.
قوله: ﴿ فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ﴾ إن قلت: إن النار مأوى لهم صبروا أولاً، فما وجه التقييد بالصبر؟ وأجيب: بأن في الآية حذفاً، والتقدير: فإن يصبروا أو لا يصبروا، فالنار مثوى لهم، وإنما حذف المقابل للعلم به، لأنه إذا كانت لهم النار مع الصبر، فهي لهم مع عدمه بالأولى، بخلاف الدنيا، فإن الإنسان مع الصبر، ربما تخفف مصيبته أو يعوض خيراً ومع عدمه يزاد فيها ويغضب الله عليه. قوله: (أي الرضا) وقيل العتبى الرجوع إلى ما يحبون. قوله: (المرضيين) أي المرضي عليهم. قوله: ﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ ﴾ أي لكفار مكة ومعنى (سببنا) هيأنا وبعثنا سببنا لهم قرناء يلازمونهم ويستولون عليهم استيلاء القيض وهو قشر البيض على البيض. قوله: ﴿ فَزَيَّنُواْ لَهُم ﴾ أي من القبائح. قوله: ﴿ مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (من أمر الدنيا) إلخ، وقيل: ما بين أيديهم من أمر الآخرة، وما خلفهم من أمر الدنيا، قال القشيري: إذا أراد الله بعبد سوءاً، قيض له إخوان سوء، وقرناء سوء، يحملونه على المخالفات، ويدعونه إليها، ومن ذلك الشيطان، وأشر منه النفس ويئس القرين، يدعوه اليوم إلى ما فيه الهلاك، ويشهد عليه غداً؛ وإذا أراد الله بعبد خيراً، قيض له قرناء خير يعينونه على الطاعة، ويحملونه عليها، ويدعونه إليها، وفي الحديث:" إذا أراد الله بعبد شراً، قيض له قبل موته شيطاناً، فلا يرةى حسناً إلا قبحه عنده، ولا قبيحاً إلا حسنه عنده "وعن عائشة قالت: إذا أراد الله بالوالي خيراً؛ جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد غير ذلك، جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما بعث الله نبي، وإلا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى ". قوله: ﴿ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ ﴾ أي ثبت وتحقق. قوله: ﴿ فِيۤ أُمَمٍ ﴾ حال من الضمير في ﴿ عَلَيْهِمُ ﴾ والمعنى كائنين في جملة أمم. قوله: ﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾ صفة لأمم. قوله: (هلكت) المناسب أن يقول مضت. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ ﴾ تعليل لاستحقاقهم العذاب. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي من كفار مكة، وإنما قالوا ذلك، لأنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ، يستميل القلوب بقراءته، فيصغي إليها المؤمن والكافر، فخافوا أن يتبعه الناس. قوله: ﴿ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ ﴾ اللغو الكلام الذي لا فائدة فيه، وهو بفتح الغين في قراءة العامة من لغي كفرح وقرئ شذوذاً بضم الغين من لغا يلغو كدعا يدعو ومنه حديث أنصت فقد لغوت. قوله: (باللغط) بسكون الغين وفتحها، وهو كلام فيه جلبة واختلاط. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ أي في القول فإذا غلبتموه وسكت، لأنه لم يكن مأموراً حينئذ بقتالهم. قوله: (قال تعالى فيهم) أي في شأنهم. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي استمروا على الكفر وماتوا عليه. قوله: (أي أقبح جزاء عملهم) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، دفعاً لما قد يتوهم، أنهم يجزون بنفس عملهم الذي عملوه في الدنيا كالكفر مثلاً، والمعنى أن المستهزئين برسول الله يجازون بأقبح جزاء أعمالهم، وفي هذه الآية وعيد لكل من يفعل اللغط في حال قراءة القرآن، ويشوش على القارئ ويخلط عليه، فإنه حرام بإجماع، إن لم يقصد إبطال النفع بالقرآن كراهة فيه، وإلا فهو كافر.
قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي المذكور من الأمرين كما قال المفسر. قوله: (بتحقيق الهمزة الثانية) أي الكائنة أول أعداء، والقراءتان سبعيتان. قوله: (عطف بيان) هذا أحد أوجه في إعرابها، ويصح أن يكون بدلاً من ﴿ جَزَآءُ ﴾ ورد بأن البدل يصح حلول المبدل منه محله، وهنا لا يصح لأنه يصير التقدير ذلك النار، ويصح أن يكون مبتدأ، و ﴿ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ ﴾ خبره، ويصح أن يكون خبر مبتدأ محذوف. قوله: ﴿ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ ﴾ في الكلام تجريد، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة، أمراً آخر موافقاً له في تلك الصفة على سبيل المبالغة، فقد انتزع من النار داراً أخرى سماها دار الخلط، والمعنى أن الدار نفسها هو الخلد. قوله: (منصوب على المصدر بفعله المقدر) والتقدير يجزون جزاء. قوله: ﴿ بِآياتِنَا ﴾ الباء إما زائدة أو ضمن ﴿ يَجْحَدُونَ ﴾ معنى يكفرون، فعداه بالباء. قوله: (في النار) حال من فاعل ﴿ قَال ﴾.
قوله: ﴿ أَرِنَا ﴾ أصله أرأينا، فالراء فاء الكلمة، والهمزة الثانية عينها، والياء لامها، حذفت الياء لبناء الفاعل على حذفها، ونقلت حركة الهمزة للساكن قبلها، فسقطت الهمزة وصار وزنه أفنا وهي بصرية، تعدت بالهمزة للمفعول الثاني الذي هو الاسم الموصول، ومفعولها الأول الضمير. والمعنى صيرنا رائين بأصارنا. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ ﴾ أي لأن الشيطان على قسمين: جني وإنسي، كما قال تعالى:﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ ﴾[الأنعام: ١١٢] وقدم الجن لأنهم أصل الضلال. قوله: (سنا الكفر والقتل) لف ونشر مرتب، فقابيل أخو هابيل، فهو أول من سن القتل، وإبليس أول من كفر بالله. قوله: ﴿ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا ﴾ أي إما حقيقة فيكونان أشد عذاباً منا، أو هو كناية عن كوهم في الدرك الأسفل. قوله: ﴿ لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ ﴾ أي في دركات النار.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ﴾ إلخ، شروع في بيان حال المؤمنين، إثر بيان وعيد الكافرين. والمعنى: قالوا ربنا الله اعترافاً بربوبيته وإقراراً بوحدانيته. قوله: ﴿ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ ﴾ أي ظاهراً أو باطناً، بأن فعلوا المأمورات، واجتنبوا المنهيات، وداموا على ذلك إلى الممات، قال عمر بن الخطاب: الاستقامة إن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تزوغ زوغان الثعلب. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق. قوله: (عند الموت) أو عند الخروج من القبر، ولا مانع من الجمع، والمراد ملائكة الرحمة تأتيهم بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم الخوف والحزن. قوله: ﴿ أَلاَّ تَخَافُواْ ﴾ ﴿ أَنْ ﴾ مخففة من الثقيلة، أو مصدرية، أو مفسرة، وكلام المفسر يحتمل المعنيين الأولين، والخوف غم يلحق النفس، لتوقع مكروه في المستقبل، والحزن غم يلحقها لفوات نفع في الماضي. قوله: ﴿ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ﴾ أي وهي دار الكرامة التي فيها من النعيم الدائم والسرور، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. قوله: ﴿ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ أي في الكتب المنزلة وعلى ألسنة الرسل. قوله: ﴿ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ الخ، يحتمل أن يكون هذا من كلام الله تعالى، وهو ولي المؤمنين ومولاهم، ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة. والمعنى: كنا أولياءكم في الدنيا، ونكون معكم في الآخرة، فلا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. قوله: ﴿ مَا تَدَّعُونَ ﴾ من الدعاء بمعنى الطلب، وعو أعم من الأول. والمعنى: لكم كل ما تشتهون وكل ما تطلبون، ولو لم يكن مشتهى، كالرتب العلية والفضائل السنية. قوله: (منصوب بجعل مقدراً) ويصح أن يكون حالاً من قوله: ﴿ مَا تَدَّعُونَ ﴾.
قوله: ﴿ مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ﴾ متعلق يتدعون أو صفة لنزلاً، وخص هذين الوصفين دون شديد العقاب مثلاً، إشارة إلى مزيد السرور لهم وإكرمهم، وأنه تعالى يعاملهم بالمغفرة والرحمة، ويتجلى لهم بأوصاف الجمال، دون أوصاف الجلال.
قوله: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً ﴾ إلخ، وقيل: نزلت هذه الآية في رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي جمع تلك الأوصاف، لأن الداعين إلى الله تعالى أقسام، فمنهم الداعون إلى الله بالتوحيد قولاً، كالأشعري والماتريدي ومن تبعهما إلى يوم القيامة، وفعلاً كالمجاهدين، ومنهم الداعون إلى الله بالأحكام الشرعية، كالأئمة الأربعة ومن على قدمهم، ومنهم الداعون إلى الله تعالى، بزوال الحجب الكائنة على القلوب لمشاهدة علام الغيوب، بحيث يكون دائماً في حضرة الله، ليس في قلبه سواه، كالجنيد وأضرابه من الصوفية أهل الحقيقة، ومنهم من يدعو إلى الله تعالى بالإعلام بأداء الفرائض، كالمؤذنين، وهذه الأقسام مجموعة في النبي عليه الصلاة والسلام، متفرقة في أصحابه، ثم انتقلت منهم إلى من بعدهم، وهكذا إلى يوم القيامة، لقوله في الحديث الشريف:" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، ولا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك "قوله: (بالتوحيد) أي وفروعه وإنما خصه لأنه رأس الأمور وأساسها. قوله: ﴿ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ أي امتثل أمر ربه واجتنب نواهيه، وحيث كان داعياً إلى الله، مع اتصافه بالعمل الصالح، كان قوله مقبولاً، ويؤثر في القلوب، وأما من كان بخلاف ذلك، فلا يكون قوله مقبولاً، ولا يؤثر في القلوب، ولا تنبغي صحبته، قال العارف: لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله، وقال بعضهم: أنتهي الناس ولا تنتهي   متى تلحق القوم يا لكعويا حجر السن ما تستحي   تسن الحديد ولا تقطعفمن لم يؤثر كلامه في نفسه، فلا يؤثر في غيره بالأولى. قال بعضهم: يا أيها الرجل المعلم غيره   هلا لنفسك كان ذا التعليمتصف الدواء لذي السقام وذي الضنا   كيما يصح به وأنت سقيمابدأ بنفسك فانهها عن غيبها   فإذا أنتهت عنه فأنت حكيمفهناك يسمع ما تقول ويشتفى   بالقول منك وينفع التعليملا تنه عن خلق وتأتي مثله   عار عليك إذا فعلت عظيموبالجملة، فالدعوة إلى الله لا تنفع إلا من قلب ناصح، وأعظم الداعين إلى الله تعالى الأولياء المسلكون، الذين يوصلون الخلق إلى طريق الحق، وهم موجودون في كل زمن، غير أنه لا يجتمع بهم ولا يعرفهم، إلا من لحظه الله تعالى بفضله، كما قال بعض العارفين: الأولياء عرائس مخدرة، ولا يرى العرائس المجرمون، نفعنا الله بهم أجمعين. قوله: ﴿ وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾ أي تحدثاً بنعمة ربه، وفرحاً بالإسلام. قوله: ﴿ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ﴾ يحتمل أن ﴿ لاَ ﴾ زائدة للتوكيد، لأن الاستواء لا يكون من واحد، بل من اثنين، كأنه قال: لا تستوي مراتب الحسنات، بل بعضها أعلى من بعض، ولا تستوي مراتب السيئات، بل بعضها أعلى من بعض، فأعلى الناس من ارتكب أعلى الحسنات، وأدنى الناس من ارتكب أعلى السيئات، وهذا ما مشى عليه المفسر. قوله: ﴿ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ أي حيث فعلت معك سيئة، ادفعها بخصلة هي أحسن. قوله: كالغضب بالصبر) إلخ، أي أعلى مراتب أن تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك، وقد كان هذا خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ ﴾ إلخ. ﴿ إِذَا ﴾ فجائية ظرف لمعنى التشبيه، فعاملها معنوي مؤخر، واغتفر تأخير عاملها المعنوي، لأنه يغتفر في الظروف ما لا يغتفر في غيرها؛ و ﴿ ٱلَّذِي ﴾ مبتدأ و ﴿ بَيْنَكَ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ عَدَاوَةٌ ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول، و ﴿ كَأَنَّهُ ﴾ إلخ، خبر الموصول، والمعنى: فإذا فعلت مع عدوك ما ذكر، فاجأك في الحضرة انقلابه وصيرورته مشابهاً في المحبة للصديق الذي لم تسبق منه عداوة. قوله: ﴿ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ الحميم يطلق على الماء الحار، وعلى القريب الذي تهتم لأمره، وهو المراد هنا. قوله: (فيصير عدوك كالصديق القريب) هذا تفسير لمعنى الولي الحميم، فالولي القريب والحميم القريب الصديق فهو أخص من الولي، قال بعضهم في وصفه: إن أخاك الحق من كان معك   ومن يضر نفسه لينفعكومن إذا ريب الزمان صدعك   شئت فيه شمله ليجمعكقوله: (في محبته) هذا هو وجه الشبه. قوله: (إذ فعلت ذلك) أي الإحسان للعدو. قوله: (التي هي أحسن) الإوضح أن يقول: وهي وقابلة الإساءة بالإحسان.
قوله: (ثواب) ﴿ عَظِيمٍ ﴾ وقيل: المراد بالحظ الخلق الحسن وكمال النفس. قوله: ﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ ﴾ إلخ، المراد بالنزع الوسوسة، والمعنى: وإن يوسوس الشيطان بترم ما أمرت به فاستعذ بالله، أي اطلب التحصن من شره، ومن جملة وسوسته الغضب، فإنه ربما يحمله على ارتكاب منهي عنه، فإذا حصل عنده فليدفعه باستعاذة، فإن لم يزل فليدفعه بالسكون، ثم بالجلوس إن كان قائماً، ثم بالاضطجاع إن كان جالساً، فإن لم يزل بعد ذلك، ذهب من المكان الذي هو به. قوله: ﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾ تعليل لما قبله، وفي هذه الآية دليل على استعمال التعوذات في الصباح والمساء، لأن الإنسان بينهما لا يخلو من نزغات شيطانية، فلذلك ورد في الأحاديث وفي كلام العارفين، كثرة التعوذ في هذين الوقتين، فتدبر. قوله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ ٱلَّيلُ ﴾ وما عطف عليه مبتدأ مؤخر، والمعنى: ومن دلائل قدرته وانفراده بالألوهية الليل إلخ، أي ظهور كل من هذه الأربع. قوله: ﴿ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ ﴾ خصهما بالذكر، لأن الكفار عبدوهما من دون الله. قوله: (أي الآيات الأربع) وإنما عبر عنها بضمير الإناث، مع أن غالبها مذكر، والعادة تغليب المذكر لا العكس، نظراً للفظ الآيات، فإن مفرده آية وهو مؤنث. قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ أي تفردونه بالعبادة، فاتركوا عبادة غيره. قوله: ﴿ فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُواْ ﴾ أي تكبروا وعاندوا، حيث جعلوا ما به الهدى والدلالة على توحيد الله إلهاً معبوداً. قوله: ﴿ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ ﴾ علة لجواب الشرط المحذوف، والتقدير فلا تنعدم العبادة لأن الذين إلخ، والعندية عندية مكانة وشرف لا مكان، فهو كما تقول: عند الملك من الجند كذا وكذا. قوله: ﴿ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ ﴾ هذا من مجاراة الكفر، وإلا فلو ترك جميع الخلق عبادته، لم ينقص ملكه شيء، لما في الحديث:" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ".
قوله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾ خبر مقدم و ﴿ إِنَّ ﴾ وما دخلت عليه، في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر، والتقدير: ومن آياته رؤيتك الأرض، وهو الذل والتقاصر. قوله: ﴿ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾ أي تحركت حركة عظيمة شديدة بسرعة، وارتفع ترابها وعلا، فالآية باقية على أصلها خلافاً لمن قال: إن فيها قلباً، والتقدير ربت واهتزت. قوله: ﴿ لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ ﴾ أي يبعثهم. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ آيَاتِنَا ﴾ أي يميلون عن الاستقامة في الدين، ويطعنون في آياتنا بالتحريف واللغو والأكاذيب. قوله: (من ألحد ولحد) أشار بذلك إلى أن هنا قراءتين سبعيتين وهما ضم الياء وكسر الحاء من ألحد رباعياً، وفتح الياء والحاء من لحد ثلاثياً، من باب نفع، والإلحاد الميل والعدول، ومنه اللحد في القبر، لأنه أميل إلى ناحية منه. قوله: (فنجازيهم) أي بأعمالهم. قوله: ﴿ أَم مَّن يَأْتِيۤ آمِناً ﴾ عدل عن مقتضى الظاهر حيث لم يقل: أم من يدخل الجنة، تصريحاً بحصول الأمن لهم؛ وانتفاء الخوف عنهم. قوله: (تهديد لهم) أي للكفار، وزيادة مسرة للمؤمنين. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ إلخ، خبر ﴿ إِنَّ ﴾ محذوف قدره المفسر بقوله: (نجازيهم) وهو أحد أعاريب وهو أسهلها، وقيل: إنه جملة لا ياتيه الباطل، إلخ، والعائد محذوف، والتقدير: لا يأتيه الباطل منهم، والمعنى لا يبلغون مرادهم فيه، بل هو محفوظ منهم، وقيل: إن الخبر قوله ما يقال لك، إلخ، والعائد محذوف ما يقال لك في شأنهم، وقيل غير ذلك. قوله: ﴿ لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾ ظرف لقوله: ﴿ كَفَرُواْ ﴾.
قوله: ﴿ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴾ الجملة حالية من الذكر والمعنى، والتقدير: كفروا بالقرآن حين جاءهم، والحال أنه كتاب يرد المعارض ويقهره، قال البوصيري: كم جدلت كلمات الله من جدل   فيه وكم خصم البرهان من خصمقوله: (منيع) فعيل بمعنى فاعل، أي مانع المعارض عن الخوض فيه، ويصح أن يفسر العزيز بعديم المثال. قوله: (أي ليس قبله كتاب يكذبه) إلخ، أي لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات، بل جميع ما فيه صدق مطابق للواقع، ليس بعده كتاب أصلاً، وليس قبله ما تقدح فيه، وفي كلام المفسر لف ونشر مشوش، فقوله: (ليس قبله) رادجع للخلق، وقوله: (ولا بعده) راجع لما بين يديه. قوله: ﴿ مِّنْ حَكِيمٍ ﴾ الحكيم هو الذي يضع الشيء في محله.
قوله: ﴿ مَّا يُقَالُ لَكَ ﴾ إلخ، شروع في تسليته صلى الله عليه وسلم على ما يصيبه من أذى الكفار. قوله: (من التكذيب) أي من أجل حصوله وقوعه. قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ﴾ إلخ، هذا هو المقول، والمعنى: ما يقال لك من أجل حصول التكذيب ووقعه منهم، إلا قولاً مثل ما قيل للرسل من قبلك وهو ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ﴾ إلخ. قوله: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً ﴾ لقولهم هلا نزل القرآن بلغة العجم. قوله: ﴿ لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ﴾ أي بلسان نفهمه وهو لسان العرب، وقوله: ﴿ ءَاعْجَمِيٌّ ﴾ إلخ، جملة مستقلة عن جملة مقولهم، والمعنى: أنهم طلبوا أولاً نزوله بلغة العجم، فرد الله عليهم بقوله: ﴿ لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ﴾ أي جاءت بلغة العرب، وأخبر الله تعالى أنه لو جاءهم بلغة العجم، لادعوا التنافي بين كونه بلغة العجم، وكون الجائي به عربياً، وغرضهم بذلك إنكار كون القرآن من عند الله على أي حال، والأعجمي يقال للكلام الذي لا يفهم وللمتكلم به، والياء للمبالغة في الوصف، كأحمري وأعجمي، خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله: (أقرآن) إلخ، وكذا قوله: ﴿ وَعَرَبِيٌّ ﴾ قوله: (بتحقيق الهمزة الثانية) أي من غير ألف بينهما، وقوله: (وقلبها ألفاً) أي ممدوداً مداً لازماً، وهاتان قراءتان، وقوله: (بإشباع ودونه) سبق قلم منهن والصواب أن يقول: وتسهيل الثانية بإشباع ودونه، فالإشباع هو إدخال ألف بين المحققة والمسهلة، وعدمه هو ترك الإشباع، وبقيت قراءة خامسة سبعية أيضاً وهي إسقاط الهمزة الأولى. قوله: ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي صدقوا به وأذعنوا له. قوله: ﴿ وَشِفَآءٌ ﴾ (من الجهل) أي ومن الأمراض الحسية والعنوية الظاهرية والباطنية. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ مبتدأ، و ﴿ فِيۤ آذَانِهِمْ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ وَقْرٌ ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر المبتدأ الأول. قوله: (فلا يسمعونه) أي لوجود الحجاب على قلوبهم، فلا يوفقون لاتباعه، قوله: (أي هم كالمنادي) إلخ، أي فالكلام فيه استعارة تمثيلية، حيث شبه حالهم في عدم قبول المواعظ، وإعراضهم عن القرآن وما فيه بحال من ينادي من مكان بعيد، والجامع عدم الفهم في كل. قوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ ﴾ كلام مستأنف سيق لبيان أن الاتختلاف في شأن الكتب عادة قديمة غير مختص بقومك، وهو تسلية له صلى الله عليه وسلم، والمعنى لا تحزن على اختلاف قومك في كتابك فقد اختلف من قبلهم في كتابه. قوله: ﴿ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي عجل لهم العذاب. قوله: ﴿ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ﴾ أي من أجل المخالفة، وقوله: ﴿ مُرِيبٍ ﴾ أي مورث شكاً آخر.
قوله: ﴿ فَلِنَفْسِهِ ﴾ (عمل) أشار بذلك إلى أن الجار والمجرور متعلق محذوف ويصح أن يكون خبر المحذوف، أي فعمله الصالح لنفسه، والجملة على كل حال جواب الشرط، إن جعلت شرطية، أو خبر لها إن جعلت موصولة، وكذا يقال في الجملة بعدها. قوله: (أي بذي ظلم) جواب عما يقال: إن الآية لم تنف أصل الظلم. فأجيب: بأن ظلام صيغة نسبة لا مبالغة، والمعنى ليس بمنسوب للظلم كتمار وخباز، أي منسوب للتمر والخبز. إن قلت: إن الظلن مستحيل على الله تعالى، لأن التصرف في ملك الغير، ولا ملك لأحد معه، فكيف يتصور إثباته حتى يحتاج لنفيه؟ أجيب: بأن المراد الظلم المنفي في الآية تعذيب المطيع لا حقيقة الظلم، وإنما سماه ظلماً تفضلاً منه وإحساناً، كأن الله تعالى يقول: لا أدخل أحداً النار من غير ذنب، فإن فعلت ذلك كنت ظالماً وهو مستحيل، على حد﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ﴾[الأنعام: ٥٤] فتدبر.
قوله: ﴿ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ ﴾ أي لله يرد علم جواب السؤال عن الساعة، وهذه الآية بمعنى قوله تعالى:﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ﴾[الأعراف: ١٨٧] لا يجليها لوقتها إلا هو فالمعنى تعيين وقت مجيئها لا يعلمه إلا الله تعالى وتقدم ذلك عند قوله:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ ﴾[لقمان: ٣٤].
قوله: (لا يعلمه غيره) أخذ الحصر من تقديم الجار والمجرور، والمعنى: لا يفيد علمه غيره تعالى، فلا ينافي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج من الدنيا، حتى اطلع على ما كان وما يكون وما هو كائن، ومن جملته وقت الساعة، ولكن أمر بكتمانه، فلا يفيد السائل عنه شيئاً. قوله: ﴿ مِن ثَمَرَاتٍ ﴾ المراد الجنس، وقوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً والجمع ظاهر. قوله: (جمع كم بكسر الكاف) أي وهو ما يغطي الثمرة من النوار والزهر، ويجمع أيضاً على أكمة وكمام، وأما يغطي اليد من القميص فالضم، وجمعه أكمام، وقيل: ما يغطي الثمرة بالضم والكسر، وما يغطي اليد بالضم فقط. قوله: ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ ﴾ إلخ، أي يعلم قدر أيام الحمل وساعاته، وكونه ذكراً أو أنثى، واحداً أو متعدداً، غير ذلك، ويعلم وقت وضعه ومكانه. قوله: ﴿ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ﴾ استثناء مفرع من عموم الأحوال، والتقدير: وما يحدث شيء، من خروج ثمرة، أو حمل حامل أو وضعها، إلا ملتبساً بعلمه، فقد حذف من الأولين، لدلالة الثالث عليه. إن قلت: قد يعلم ذلك بعض الخلق من أصحاب الكشف، وبعض الكهنة والمنجمين. أجيب: بأن صاحب الكشف عليه بإلهام من الله تعالى لبعض جزئيات فقط، وأما الكهنى والمنجمون، فعلمهم مستند لأمور ظنية قد تصيب، والغالب عليها الخطأ. قوله: ﴿ أَيْنَ شُرَكَآئِي ﴾ أي بزعمكم وفيه تقريع وتهكم بهم. قوله: ﴿ قَالُوۤاْ ﴾ أي يقولون: وعبر بالماضي لتحقق الوقوع. قوله: (الآن) أشار بذلك إلى أن المراد الإنشاء لا الإخبار عما سبق، فالجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى، ويصح أن يراد الإخبار لتنزيلهم علمه تعالى بحالهم منزلة إعلامهم به، فأخبروا وقالوا آذناك. قوله: ﴿ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ ﴾ أي غالب نفعهم عنهم، فلا يشفعون لهم، ولا ينصرونهم، وهذا في المحشر، وأما في النار فيجمعون معهم. قوله: ﴿ مِّن مَّحِيصٍ ﴾ فرار ومهرب من النار. قوله: (والنفي) أي وهو ﴿ مَّا ﴾ وقوله: (في الموضعين) أي وهما: ما منا، وما لهم. (معلق عن العمل) التعليق إبطال العمل لفظاً لا محلاً، والعامل المعلق هو آذن وظن. قوله: (وجملة النفي) أي في الموضعين. قوله: (سدت مسد المفعولين) أي الأول والثاني لظنوا، والثالث لآذنا، فإنه يتعدى لثلاثة، كأعلم وأرى، والمفعول الأول الكاف. قوله: ﴿ لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ ﴾ المراد به جنس الكافر كما يأتي في المفسر. قوله: ﴿ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ ﴾ المصدر مضاف لمفعوله. قوله: (وغيرهما) أي كالولد ونحوه من خير الدنيا. قوله: ﴿ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ﴾ خبر ان لمبتدأ محذوف، أي فهو قبل اليأس والقنوط إظهار آثاره على ظاهر البدن، ويطلق اليأس على العلم كما في قوله تعالى:﴿ أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾[الرعد: ٣١] ويئس من باب فهم، وقنط من باب جلس ودخل وطرف. قوله: (وما بعده) أي وهو قوله: ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ ﴾ إلى قوله: ﴿ لَلْحُسْنَىٰ ﴾ وأما قوله: ﴿ فَلَنُنَبِّئَنَّ ﴾ إلخ، تصريح في الكافرين لا يحتاج للتنبيه عليه. قوله: ﴿ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي ﴾ جواب القسم، وجواب الشرط محذوف، لسد جواب القسم مسده، للقاعدة المذكورة في قول ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم   جواب ما أخرت فهو ملتزمقوله: (أي بعملي) أي بما لي من الفضل والعمل والشجاعة والتدبير. قوله: ﴿ وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً ﴾ أي تقوم. قوله: ﴿ رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ ﴾ أي كما تقول الرسل على فرض صدقهم، وقد أكدت هذه الجملة بأمور زيادة في التعنت منها: القسم وإن، وتقديم الظرف والجار والمجرور. قوله: ﴿ فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ جواب لقول الكافر ﴿ وَلَئِن رُّجِعْتُ ﴾ إلخ. قوله: (الجنس) أي من خيث هو مسلماً أو كافراً، ولكنه مشكل بالنسبة للكافر، فإنه تقدم عند مس الشر، كان يؤوساً قنوطاً، وهنا أفاد أنه ذو دعاء عريض، فيقتضي أنه راج، فحصل بين الآيتين التناقض. وأجيب: بأنه يمكن حمل ما تقدم على أناس دون آخرين أو على الكل، لكن الأوقات مختلفة، فبعض الأوقات يكونون آيسين، وبعض الأوقات يكونون راجين.
قوله: ﴿ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾ بتقديم الألف على الهمزة بوزن قال، وقوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً وقوله: (بتقديم الهمزة) أي على الألف بوزن رمى، والنون مقدمة على كليهما. قوله: ﴿ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ ﴾ أي فهو ذو دعاء. قوله: (كثير) أشار بذلك إلى أن العرض يطلق على الكثرة كالطول يقال: أطال فلان الكلام، وأعرض في الدعاء إذا أكثر. قوله: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ ﴾ رأى في الأصل علمية أو بصرية، أطلق العلم أو الإبصار، وأريد ما ينشأ عنه وهو الخير، ثم أطلق الاستفهام عن العلم أو الإبصار، وأريد منه طلب الإخبار، ففيه مجازان. قوله: (كما قال النبي) المناسب إسقاطه. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله: (أوقع هذا) أي قوله: ﴿ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾.
قوله: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ ﴾ الضمير عائد على كفار مكة، والمعنى: سنري كفار مكة دلائل قدرتنا حال كونها في الآفاق، جمع أفق كأعناق وعنق، ويقال أفق بفتحتين، كعلم وأعلام. قوله: (من النيرات) أي الشمس والقمر والنجوم، وقوله: (والأشجار والنبات) أي والرياح والأمطار والجبال والبحار، وغير ذلك من العجائب العلوية والسفلية. قوله: ﴿ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ ﴾ أي كخلقهم أولاً، نطقاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً، ثم بعد تمام مدتهم في البطون، يخرجهم إلى فضاء الدنيا ضعافاً، ثم يعطيهم القوة شيئاً فشيئاً وهكذا، واستشكل ظاهر الآية، بأن السين تدل على تخليص المضارع للاستقبال، مع أنهم مشاهدون هذه الآيات في الحال. أجيب: بأن الكلام على حذف مضاف، والتقدير سنريهم عواقب آياتنا وأسرارها، ففيه وعد للمعتبر، ووعيد لغيره، لأن حكمة هذه الآيات، النظر والتأمل والاعتبار، فمن اعتبر بهذه الآيات فقد سعد، ومن تركه فقد شقي. قوله: (من لطيف الصنعة وبديع الحكمة) من ذلك ما خلقه وأبدعه في نفس الإنسان، كالأكل والشرب، يدخل من مكان واحد، ويتميز ذلك خارجاً من مكانين مختلفين، لا يختلط أحدهما بالآخر، وبالبصر فإنه ينظر به السماء من الأرض مسيرة خمسمائة عام، والسمع فإنه يفرق به بين الأصوات المختلفة، وغير ذلك، وهذا ما قرر به المفسر الآية. وهناك احتمالات أخر منها: أن المراد بالآيات ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الحوادث الآنية، والمراد بالآفاق فتح القرى له ولخلفائه من بعده، الذي لم يتيسر مثله لأحد من خلفاء الأرض قبلهم، والمراد بأنفسهم فتح مكة وملكهم، وقد تحقق ذلك لرسول الله وخلفائه من بعده، ومنها: أن المراد بالآيات وقائع الأمم السابقة، والمراد بأنفسهم ما حصل لهم يوم بدر من القتل والأسر، ومنها غير ذلك. قوله: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ ﴾ إلخ، الهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة عليه، والتقدير: أتحزن على إنكارهم ومعارضتهم لك، ولك يكفك ربك؟ والاستفهام انكاري، والباء زائدة في الفاعل، والمفعول محذوف تقديره يكفك، وإن وما دخلت عليه في تأويل مصدر بدل من الفاعل، بدل كل من كل، والمعنى: أتحزن على كفرهم، ولم يكفك شهادة ربك لك وعليهم؟ والمفسر قرر الآية بتقرير آخر، والمؤدى واحد، حيث جعل الآية إخباراً عن حالهم، وعليه فالمعنى: ألم يعتبروا؟ أو لم يكفهم شهادة ربك لك بالصدق، وعليهم بالتكذيب؟ قوله: (لأنكارهم البعث) أي بألسنتهم، والمعنى: أن الدليل لنا على كونهم في شك من لقاء ربهم، إنكارهم بألسنتهم للبعث، ولا يقال: إن عندهم جزماً في قلوبهم بعدم البعث، لأننا نقول: لا دليل لهم عليه، حتى يحصل الجزم بالأوهام، أو وساوس شيطانه، والحجة القطعية إنما هي على البعث، وهكذا سائر عقائد الكفر فتدبر. قوله: ﴿ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ﴾ تسلية له صلى الله عليه وسلم والمعنى: لا تحزن على كفرهم، فإن الله محيط بكل شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ومن لازمه أنه يجازيهم، فلذلك قال المفسر: (فيجازيهم).
Icon