تفسير سورة فصّلت

بيان المعاني
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

[الجزء الرابع]

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير سورة فصلت عدد ١١- ٦١- ٤١
نزلت بمكة بعد سورة غافر المؤمن، وهي أربع وخمسون آية، وتسعمئة وست وتسعون كلمة، وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «حم» ١ «تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ٢ تقدم مثله وفيه ما فيه. واعلم يا أكرم الرسل أن المنزل عليك من لدنا هو «كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ» تفصيلا شافيا وبينت تبيينا كافيا وافيا وأعني به «قُرْآناً عَرَبِيًّا» أنزلناه «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ٣ هذه اللغة حق العلم فيجيلون النظر في مبانيه ويتفقهون في معانيه ويعرفون المراد منه، وفي هذه الآية إيذان بتعليم اللغة العربية للوقوف على معاني القرآن العظيم، فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمها، لأن القرآن لا يقرأ إلا بها:
مطلب عدم جواز ترجمة القرآن وبحث في الزكاة وفي معجزات القرآن:
وان الترجمة باللفظ والمعنى غير ممكنة، إذ الحروف العربية لا توجد كلها في اللغات الأجنبية، فيضطر المترجم الى تبديل حرف بغيره أو تحريره، ويجر هذا التغيير الى تبديل كلمة تعطي غير المعنى المراد من أجلها، ومن المعلوم أن تغير شيء من كتاب الله كفر، إذ قد يختل المعنى المقصود منه وهو مبرأ من الخلل، أما تفسيره باللغات الأجنبية مع المحافظة على متنه فجائز، ومن هنا طرأ التحريف على الكتب السماوية المترجمة، راجع هذا البحث في المقدمة تقف على ما تريده. وقد جعلنا هذا الكتاب المنزل عليك يا خاتم الرسل (بشيرا) للطائعين المنقادين لأحكامه بالجنة ونعيمها «وَنَذِيراً» للعاصين الجاحدين له بالنار وجحيمها «فَأَعْرَضَ»
1
أكثرهم عن الأخذ به والامتثال لأوامره «أَكْثَرُهُمْ» عنه لسابق سقائهم «فَهُمْ» أي قومك يا سيد الرسل «لا يَسْمَعُونَ» ٤ اليه تكبرا وأنفة مع أنه بلغتهم، وقد أنزل على رجل منهم، وعلى هذا المثل السائر (زجرته فلم يسمع) «وَقالُوا» لرسولنا الذي يدعوهم إليه «قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ» أغطية كثيفة «مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» ولذلك لا نفقهه «وَفِي آذانِنا وَقْرٌ» ثقل وصمم ولهذا لا نسمعه «وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» ستر كثيف غليظ مانع من الرؤية حاجز، من التواصل والتوفيق لما بين ديننا ودينك من البون الشاسع، وأرادوا بذكر هذه الموانع المختلقة إقناطه عليه السلام من إجابتهم إليه، وذلك أنه لما كان القلب محل المعرفة والسمع والبصر معينين على تحصيل المعارف قالوا له أن هذه الثلاثة محجورة عن أن يصل إليها شيء من قولك، فكيف تريد أن نعي ما تقوله لنا أو نفهمه «فَاعْمَلْ» على ما يقتضيه دينك واتركنا «إِنَّنا عامِلُونَ» ٥ على ديننا أيضا. قيل إن السبب في نزول هذه الآية أن قريشا أقبلت على رسول الله ﷺ فقال لهم ما يمنعكم من الإسلام فتسودوا العرب فقال له أبو جهل ذلك القول وأخذ ثوبا فمده بين يدي الرسول وبينهم حتى لا يرى أحدهم الآخر، وقالوا له إنك بشر مجنون ليس إلا قال تعالى «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» كما تقولون ولست ملكا ولا بي مما تقولونه من الجنون والسحر، وإنما «يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» سميع بصير لا أصنام جامدة لا تفقه ولا تعلم ولا تسمع ولا تبصر «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ» يا قومي وارفضوا ما أنتم عليه «وَاسْتَغْفِرُوهُ» من الشرك «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» ٦ به غيره «الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» لبخلهم وحبهم للمال وعدم شفقتهم على الفقراء المعدمين والأرامل المحتاجين، ولم يعلموا ما أعد الله للمشركين ولا يفقهون كنهه، قال ابن عباس المراد بالزكاة هنا تزكية النفس من الشرك بحجة ان الزكاة لم تفرض، إلا أن المعنى لا يستقيم لوجود فعل يؤتون، فمعه لا يجوز أن يقال يزكون أنفسهم، بل يعطون الزكاة والإعطاء يكون من الشخص لغيره مما هو عنده، وليس لديهم زكاة في هذا المعنى ليعطوها لأنفسهم، لهذا يكون الأولى أن يراد بالزكاة هنا ما كان متعارفا إعطاؤها عندهم
2
قبل نزول القرآن، كصلاة الركعتين قبل فرض الصلاة، إذ لم تخل أمة من الصلاة والزكاة والصيام، إذ تعبدهم بها كما تعبد هذه الأمة بها على اختلاف بالقدر والهيئة، فعلى ظاهر هذه الآية يكون عدم إعطاء الزكاة كفرا، ولهذا حكم أبو بكر رضي الله عنه بكفر مانعي الزكاة، وحجة من قال إنها تزكية النفس ان الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وهما حاصلان فلا يلزم الكفر وقال الفراء كانت قريش تطعم الحاج فمنعته عمن آمن بحمد أي، ونزلت «وَهُمْ» قومك يا محمد مع عدم إتيانهم بها تراهم «بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» ٧ جاحدون وجودها مع انها حق ثابت يعترف بها أهل الكتب السماوية كلهم، ومما يدل على هذا أن المراد بالزكاة إعطاء المال، قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» التي من جملتها انفاق المال للمعوزين «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» ٨ به عليهم لأنه بمقابل أعمالهم الصالحة وعطاء هذا الأجر فضل من الله تعالى، لأنه هو الذي أعطى المال للمتصدق وهو الذي وفقه للتصدق وجعل ثواب الزكاة غير مقطوع ولا منقوص لما فيها من الرأفة على عباد الله وعياله، هذا ولو كان المراد بالزكاة هنا تزكية النفس لكانت هذه الآية معترضة لعدم مناسبة ذكرها بل جيء بها استطرادا تعريضا بالمشركين المستغرقين بالدنيا التاركين للآخرة، وقد جعل جل شأنه منع الزكاة مقرونا بالكفر، لأنها معيار الإيمان المستكين بالقلب، ولهذا خصها
من بين أوصاف الكفرة، وقيل إن المال شقيق الروح، وهو عند من لا إيمان له أغلى منها قال بعض الأدباء البخلاء:
وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ به فأجبت المال خير من الروح
أرى حفظه يقضي بتحسين حالتي وتضييعه يقضي لتسآل مقبوح
قال في الكشف: الأولى إبقاء اللفظ على ظاهره لأن صرفه عن حقيقته الشائعة من غير موجب لا يجوز، كيف ومعنى الإيتاء لا يقر قراره، نعم لو كان بدل يؤتون يأتون كما في قوله تعالى «وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى» الآية ٥٦ من سورة التوبة لجاز ذلك بالنظر للفرق بين الإيتاء والإتيان، ولم يقرأ أحد من القراء بها، لهذا لا يجوز الركون لذلك القول، ولا يخفى أن اطلاق الاسم
3
على طائفة مخرجة من المال على وجه القربة من أناس عندهم فضل على حاجتهم كان شايعا قبل فرض الزكاة، وكان يسمى عندهم زكاة أيضا، وكانوا متفاخرين بإعطائها، بدليل قول أمية بن الصلت في مدح طائفة من قومه: الفاعلون للزكوات، وإن ما جاء في تفسير الإمام الرازي من ان ويلا خصت بالأصناف الثلاثة المشركين، ومانعي الزكاة والكافرين حسن جدا لولا ان الآية عدتهم صنفا واحدا، إذ وصفت المشركين بمانعي الزكاة وسمتهم الكافرين تدبر هذا، وان خطتنا في هذا التفسير المبارك اتباع الظاهر ما استطعنا، لأن الجنوح الى التأويل مع إمكان عدمه قد يكون خوضا والخوض قد يؤدي الى الوقوع فيما لا ينبغي، وقد ذم الله تعالى الخائضين راجع الآية ٦٧ من سورة الأنعام المارة والآية ١٤٠ من سورة المائدة والآية ٣١ من سورة التوبة في ج ٣، لهذا أرى الكف عن التوغل في مثل هذا مطلوبا لأن الله تعالى لو شاء لقول ما يقدمون على تأويله، ولكنه لم يشأ، فعلى العاقل أن يترك مشبثته لمشيئة الله ويعلم أن كثرة ذكر الزكاة في القرآن العظيم لزيادة الحث على اعطائها وشدة التحذير من منعها، لأن بذل المال في سبيل الله أقوى دليل على الاستقامة وصدق النية وقوة الإيمان ونصح الطوية، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا قرت بها عصبيتهم ولانت شكيمتهم، وما ارتد بنو حنيفة إلا بمنع الزكاة، ففي هذه الآية بعث لاستنهاض همم المؤمنين على أدائها عن طيب نفس وتخويف عظيم على منعها، قيل إن هذه الآية الأخيرة نزلت بالزمى والمرضى والهرمي المتحقق عجزهم عن العمل الصالح بأن يكتب لهم مثله، بدليل ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول، إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فشغله مرض أو سفر كتب الله له كصالح ما كان يعمل، وهو صحيح مستقيم. فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الكفرة القائلين ذلك القول المشار اليه في الآية الخامسة ما يلي:
مطلب خلق السموات والأرض وما فيها ولماذا كان في ستة ايام وفي خلق آدم:
«أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» استفهام انكار عن هذا المنكر وعن المنكر الآخر المبين في قوله «وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً»
4
أكفاء وأشباها من الملائكة والجن وغيرهما من سائر الأوثان المنحوتة من أحجار وأخشاب والمصوغة من الفضة والذهب والحديد وغيرهما من المعادن بصنع أيديكم لا تقدر على خلق شيء لأنها عاجزة عن حفظ نفسها ومع هذا فإنكم تعبدونها وتعرضون عن الإله الخلاق «ذلِكَ» المستحق للعبادة وحده «رَبُّ الْعالَمِينَ» ٩ أجمع الناطق منهم والأعجم والمتحرك والجامد «وَجَعَلَ فِيها» في الأرض التي خلقها في يومين الأحد والأثنين «رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها» راجع الآية ٩ من سورة لقمان المارة «وَبارَكَ فِيها» بالأشجار والثمار والزروع والأنهار والحيوان والحيتان من جميع ما يحتاجه البشر وغيره «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» أرزاقها لكل ما فيها وكميّتها وكيفيتها «فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ» اليومين الأولين والخميس والجمعة لأنه خلق السماء بعد الأرض في يومي الثلاثاء والأربعاء قبل خلق الروامي وتقدير الأقوات لا انه غيرهما وهذا كما تقول سرت من القنيطرة الى دمشق في يومين والى النبك في أربعة أيام أي في تنمة أربعة أيام، ولا بد من هذا التقدير لأنه بغيره يكون تمام الخلق بثمانية أيام وهو مناف لما جاء في قوله تعالى في آيات عديدة في ستة أيام كما أوضحناه في الآية ٥٤ من سورة الفرقان والآية ٥٩ من الأعراف في ج ١ «سَواءً لِلسَّائِلِينَ» ١٠ الذين يسألونك يا أكرم الخلق عن مقدار الزمن الذي خلق ربك فيه الأرض وما فيها بلا زيادة ولا نقص
«ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ» شيء ظلماني كالدخان، وقد مرّ أن عرش الرحمن كان على الماء وكان قبله عماء، راجع الآية ٦ من سورة هود المارة، وأحدث الله في هذا الماء سخونة، فارتفع زبد ودخان، فأما الزبد فبقي على وجه الماء فأيبسه الله وأحدث منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا، فخلق منه السموات، قال الراجز في صفة الأرض:
فبطنها محشوة بالغار وقشرها قد شق بالبحار
ومما يدل على هذا قوله تعالى (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) الآية ٧ من سورة الطور الآتية، وقوله صلّى الله عليه وسلم: (البحر طباق جهنم) وقد أسهبنا البحث في هذا في الآية ٢٧ من سورة الحجر المارة فراجعها، وفي هذه الآية معجزة من معجزات القرآن أيضا، إذ لم يكن عالم أو فيلسوف في ذلك العهد أخبر حضرة الرسول أن هذا الكون
5
كان بادىء بدء مملوء بالسديم أي الأثير والهيولى، مع أن هذه القضية لم تعرف إلا بعد نزول القرآن بمئات من السنين. والدخان أجزاء أرضية لطيفة ترتفع بالهواء مع الجرارة، والبخار أجزاء مائية ترتفع في الهواء مع الأشعة الراجعة من سطوح المياه، فعبر بالدخان عن مادة السماء أي الهيولى والصورة الجسمية أو عن الأجزاء المتصغرة المركبة منها أي الأجزاء التي لا تتجزأ. ولما كان أول حدوثها مظلمة سميت بالدخان تشبيها لها به من حيث أنها أجزاء متفرقة غير متراصة ولا متواصلة عديمة النور، أشبه شيء بالدخان. أما الإستواء فقد تقدم توضيحه في الآية ٥٤ من سورة الأعراف والآية ٥ من سورة طه المارتين في ج ١، وهو متى ما عدّي بعلى يكون بمعنى الاستيلاء والاستعلاء كقوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) الآية المذكورة من طله، ومنى ما عدي بإلى كما هنا يكون بمعنى الانتهاء، فاحفظ هذا وتذكره عند كل جملة من هذا القبيل، وراجع بيانه فيما أرشدناك إليه من المواضع.
قال تعالى «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً» وهذا تمثيل لتحتيم قدرة الله تعالى فيها واستحالة امتناعهما المشعر به «قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» ١١ فوجدتا كما أرادهما الله تعالى، وجاء الجمع بلفظ العقلاء لأنه تعالى لما خاطبهما بأوصاف العقلاء أجراهما في الجمع مجرى من يعقل، ونظيره (ساجِدِينَ) في الآية ٤ من سورة يوسف وهو جمع للكواكب وقد خاطب الله تعالى من لا يعقل بصيغة من يعقل في كثير من آي القرآن، لدلك السبب، ولهذا جرينا أيضا على هذا المجرى تبعا لكلام الله تعالى ولتلك الأسباب نفسها. وليعلم أن الله تعالى خلق أولا الأرض، ثم السماء، ثم دحا الأرض، بدليل قوله تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) الآية ٣٠ من سورة النازعات الآتية لا انها خلقت بعد السماء بل خلقت قبلها ودحيت بعدها، ولهذا قلنا آنفا في الآية العاشرة إن خلق الأرض في يومي الأحد والاثنين وما فيها في يومي الخميس والجمعة، إذ كان خلق السماء في الثلاثاء والأربعاء تدبر، ولا تغفل. وعلى هذا «فَقَضاهُنَّ» ذلك الإله العظيم كلهن وما فيهن وسواهن «سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها» مما أراد أن يكون فيها مما لا يعلمه على الحقيقة غيره، ولهذا البحث صلة في الآية المذكورة من
6
سورة النازعات الآتية إذ يفهم من هذه الآية أن خلق الأرض ودحوها قبل خلق السماء، وآية النازعات توضح أن الدحو بعد خلق السماء وهو ما أجمع عليه المفسرون وقال الأخباريون وأصحاب السير والمؤرخون: أول ما خلق الله التربة، أي الأرض بلا دحو ولا بسط ولا مد ولا تمهيد في يومي الأحد والإثنين، ثم سوى السموات السبع وما فيهن في الثلاثاء والأربعاء، ثم مد الأرض ودحاها وشق بحارها وأنهارها وثقلها بالجبال وجعل فيها فجاجا وأودية في الخميس والجمعة، ثم خلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة أي سوى خلقه من التراب وتركه ولم ينفخ فيه الروح بدليل أول سورة الإنسان وما جاء في الأخبار أن إبليس كان يمر به ويتأمله ويفكر في خلقه، ويقول إنه أجوف لا يتمالك، وهكذا إلى أن أراد الله تعالى نفخ الروح فيه فنفخها وصار بشرا سويا، أو أنه خلقه في غير تلك الجمعة التي أتم فيها خلق السموات والأرض، بدليل خلق الجان الذين سكنوا الأرض قرونا كثيرة، ثم فسدوا وبغوا فأهلكهم الله ولم يبق منهم طائعا في الظاهر إلا إبليس بدلالة الآية ٣٠ من البقرة في ج ٣ فراجعها، وبعد أن خلق الله الحيوانات بأصرها والوحوش والأشجار وكل ما في الأرض خلق آدم أي نفخ فيه الروح، لأن كل ما في الأرض خلقه لأجله ولذريته. هذا واعلم أن الله تعالى قادر على خلق الكون بما فيه وإبادته في لحظة واحدة، لأنه عبارة عن الأمر بلفظ كن فيكون بين الكاف والنون، قال تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) الآية ٨١ من سورة يس وهي مكررة كثيرا في القرآن في المعنى، وقال تعالى (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) الآية ٢٠ من سورة القمر المارة في ج ١، وإنما القصد من خلقها في ستة أيام هو أنه جعل لكل شيء حدا محدودا لا يتعداه، فلا يدخل شيء من مخلوقاته في الوجود إلا بالوقت الذي قدره لدخوله، وانه ليعلّم خلقه التثبت في الأمر والتأني بفعله، قال صلّى الله عليه وسلم التأني من الله والعجلة من الشيطان، وانه إذا جعل الشيء دفعة واحدة ظن وقوعه اتفاقيا، وإذا حدث تدريجيا شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة، والقول الفصل في هذا وأمثاله هو أن يقال إن أفعال الله لا تعلل، ومن علم أنه لا يسأل
7
هما يفعل، وأيقن بالقدرة، وأن الحكيم لا يفعل شيئا إلا عن حكمة، وعلم أن الله أحكم الحاكمين حكما وحكمة، سكت وسلم فحفظ وغنم وسلم، وإلا فهو على خطر عظيم حفظنا الله ووقانا. وهو القائل «وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ» كواكب مختلفة في الحجم والشكل واللون والضياء والسير «وَحِفْظاً» من الشيطان الذي يسترق السمع، راجع الآية ١١ من سورة الصافات المارة «ذلِكَ» الصنع البديع والتقدير العظيم «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» ١٢ البالغ علمه كل خفي وجلي
العالم بشئون خلقه كلها وفيما أودعه في مكوناته من الحكم والمنافع والمصالح لعباده «فَإِنْ أَعْرَضُوا» عنك يا سيد الرسل بعد أن أبديت لهم ذلك ولم يعتبروا بما أبدعه ربك من الآيات الدالات على وحدانيته وعظيم سلطانه وبالغ قدرته «فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» ١٣ وقرئ صعقة والصعق الموت خوفا، وذلك أن عادا أهلكوا بالريح وثمود بالصيحة، وإنما أهلكهم الله لأنهم حين «إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ» من كل جانب بمعنى أنهم بذلوا وسعهم وقصارى جهدهم بأنواع الإرشاد والنصح وأنذروهم «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» وحده واتركوا عبادة الأوثان «قالُوا» عنادا وعتوا إنا لا نطيع بشرا مثلنا «لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» يدعوننا لعبادته لأن البشر لا يصلح للنيابة عن الله في الدعوة إليه «فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» ١٤ لا نصدق بما جئتم به ونكذبكم لأنكم مثلنا لا فضل لكم علينا يؤهلكم لهذه الدعوة.
مطلب قول رسول قريش لمحمد صلّى الله عليه وسلم وما رد عليه به حضرة الرسول والأيام النحسات:
قال ملأ من قريش وأبو جهل: قد التبس علينا أمر محمد فالتمسوا رجلا عاقلا عالما بالشعر والسحر والكهانة يكلمه ويأتينا ببيانه، فاتفقوا على عتبة بن ربيعة، فذهب إليه، وقال يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله، فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا، فإن كان ما بك للرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رئيسا ما بقيت، وإن كان ما بك من الباءة زوجناك عشر نساء تختارهن من بنات قريش كلها، وإن كان ما بك من المال جمعنا لك ما تستغني به
8
أنت وعقبك من بعدك، والنبي صلّى الله عليه وسلم ساكت، فلما فرغ قال اسمع يا عتبة:
بسم الله الرحمن الرحيم حم حتى بلغ هذه الآية، فقام عتبة وأمسك على فيه، وناشده الرحم، ورجع إلى أهله، واحتبس عن قومه لما أدركه من مغزى ما تلاه عليه وقر لديه معناه، وما دخل في روعه من الخشية، فقال أبو جهل صبأ والله عتبة يا معشر قريش، وأعجبه طعام محمد لفاقته، هلم فانطلقوا إليه نؤنبه على ذلك، فلما وصلوا إليه قال له أبو جهل ما قال وزاد على التأنيب بأن قال له سنجمع لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، وقال يا معشر قريش إني من أكثركم مالا، ولكن أتيته فكلمته، وذكر لهم ما قال له، فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، وقرأ عليهم ما سمعه منه، ولما قرأ (فَإِنْ أَعْرَضُوا) نهضت فأمسكت بقية وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب، وهذا الذي ألزمني بيتي ما هو كما يقول أبو جهل، وأنتم تعلمون أني لست بذلك الرجل. وهذا الخبر رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله ونقله محمد بن كعب القرظي بزيادة، وقال إن عتبة كان سيدا حليما، وكانت هذه القصة بعد إسلام حمزة رضي الله عنه وتكاثر المسلمين، وقال أطيعوني يا معشر قريش واعتزلوه، فو الله ليكوننّ له نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه، وإن يظهر فعزّه عزكم، وأنتم أسعد الناس به.
قالوا سحرك والله، لقد جئت بغير الوجه الذي ذهبت به، قال هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم، ولم يرد الله له، ولأبي جهل وجماعته الخير، فأصروا على عنادهم فهلكوا كفارا. «فَأَمَّا عادٌ» قوم هود عليه السلام «فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» وتعاظموا على أهلها واستولوا على ما ليس لهم منها ظلما «وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً» لينزعنا عنها، يهدّدون نبيهم بهذا القول حينما خوفهم عذاب الله معتمدين على ضخامة أجسادهم وقوة سواعدهم، قالوا كان أحدهم يقلع الشجرة من الأرض والصخرة من الجبل بيده، فرد الله عليهم بقوله عزّ قوله «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً» لأنه قادر على إبادتهم بصيحة من أحد ملائكته، ولو شاء لانتزع قوتهم وجعلهم أضعف خلقه ولكنهم بغوا بما
9
أنعم الله عليهم «وَكانُوا بِآياتِنا» التي أريناهم إياها «يَجْحَدُونَ» ١٥ ويكذبون قدرتنا مع اعترافهم بها «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً» عاصفا شديدا باردا له صوت قاصف، وهذا أحد أسماء رياح العذاب، وعاصف وقاصف وعقيم، ورياح الرحمة لها أربعة أسماء أيضا: ناشرات ومبشرات ومرسلات وذاريات، ويأتي في القرآن العظيم ذكر الريح غير الموصوف للعذاب، والرياح للرحمة، كما أن المطر للعذاب، والغيث للرحمة، وكان ذلك الريح الصرصر «فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ» نكدات مشؤومات مغيرات للنعم مكدرات للعبش، قالوا كان أولها يوم الأربعاء من صفر، وآخرها الأربعاء من آخره، قالوا وما أنزل الله عذابا إلا يوم الأربعاء، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية ٢٠ من سورة القمر في ج ١ والآية ١٠٢ من سورة الصّافات والآية ٢٢ من سورة الحجر المارتين، وذكرنا أنه لا قباحة للأيام، وأن الشؤم والقباحة بعمل أهلها، قال الأصمعي:
إن الجديدين في طول اختلافهما لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وقال الآخر:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
إلى أن قال: ولو نطق الزمان لقد هجانا راجع الآيتين ٦٢/ ٥١ من سورة الزمر المارة، ومنه تعلم أن النحس والسعد والصفاء والكدر بتقدير الله تعالى لا علاقة للأيام والنجوم والأمكنة وغيرها بذلك، واعلموا أيها الناس إنما أرسلنا عليهم هذا العذاب بالدنيا «لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ» بسبب استكبارهم فيها فيذلوا ويحتقروا «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى» أشد إهانة وأكثر مهانة «وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» ١٦ منه البتة وكل ما كان من الله لا رافع ولا مؤخر له.
قال تعالى «وَأَمَّا ثَمُودُ» قوم صالح «فَهَدَيْناهُمْ» ودللناهم على طريق النجاة بواسطة نبيهم «فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى» اختاروا الكفر على الإيمان بطوعهم ورضاهم سوقا ورغبة ولم يلتفتوا لدعوة نبيهم عليه السلام ونبذوا نصحه وإرشاده وراء ظهورهم «فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ» داهية وقارعة الذل والمهانة «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ١٧ في الدنيا من إهانة نبيهم واحتقار
10
معجزته وهي الناقة إذ عقروها فعقرهم الله «وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا» منهم مع نبيهم «وَكانُوا يَتَّقُونَ» ١٨ التعدي عليه وعلى معجزته فأنجيناهم معه جزاء خشيتهم عقاب الله الدنيوي وخوفهم عذابه الأخروي.
مطلب معنى الهداية وما قيل فيها وشهادة الأعضاء وكلام ذويها:
واعلم أن معنى الهداية لدى أهل السنة والجماعة هو الدلالة فقط وصلت إلى المطلوب أو لم تصل، قال تعالى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآية ٥٣ من سورة الشورى الآنية، لأن الله تعالى أنزل الآيات وأرسل الرسل وأعطاهم العقل وأمرهم بالهداية ومكنهم منها وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذرا لحصول بغيتهم بحصول موجبها ومقتضيها، ولا وجه لقول بعضهم اشتراط التوصل إلى المطلوب أخذا من قوله هديته فاهتدى بمعنى حصول البغية كما تقول ردعته فارتدع لما تقدم، كما لا وجه لاستدلالهم في هذه الآية على أن الإيمان باختيار العبد على الاستقلال بناء على قولهم في قوله تعالى (فَهَدَيْناهُمْ) بكونه دل على نصب الأدلة وإزاحة العلة، وقوله (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى) يدل على أنهم أنفسهم آثروه، لأن الإيمان لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى، ولأن لفظ (فَاسْتَحَبُّوا) يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة، وأن لقدرة العبد مدخلا ما، وهو الجزء الاختياري للإنسان الذي يجعل له رغبة ورضا وشوقا ما، في فعل ما يقدم عليه، على أن المحبة مطلقا ليست اختيارية محضة بالاتفاق وإيثار العمى وهو الاستحباب المأخوذ من معنى استحبوا، وهو لا يكون إلا من الأفعال الاختيارية، ومعنى كون المحبة ليست اختيارية انها بعد حصول ما تتوقف عليه من أمور اختيارية تكون بجذب الطبيعة من غير اختيار للشخص في ميل قلبه وارتباط هواه بمن يحبه، فهي نفسها غير اختيارية باعتبار مقدماتها. اختيارية بحسب ما تؤول إليه لأنها لا تكون إلا عن رغبة وميل، ولذلك كلّفنا بمحبة الله تعالى ومحبة رسله صلوات الله عليهم وسلامه. قال تعالى (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) الآية ١٨٩ من الأعراف في ج ١ فقد جعل علّة ميلها كونها منه بما يدل على أن المحبة ميل روحاني طبيعي، وإليه الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم: الأرواح جنود بجندة ما تعارف منها أتلف. وقد تكون المحبة لأمور أخر كالحسن والإحسان والكمال
11
ولها آثار يطلق عليها محبة كالطاعة والانقياد والتعظيم، وهذه هي التي يكلف الإنسان بها، لأنها اختيارية، فتدبر وتفكر وافهم واعرف وفتح عينيك تهدى وترشد.
قال تعالى «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ» المتوغلون في إنكاره وجحود آياته وتكذيب أنبيائه «إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» ١٩ يستوقف أولهم ليلحق آخرهم. فيحبسون حتى إذا تكاملوا سيقوا إلى أرض الموقف «حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ» فروجهم وأيديهم وأرجلهم وجميع جوارحهم لأنها هي التي للامس الحرام بدليل تخصيصها بعد، وإنما كنى الله تعالى عنها بالجلود تحاشيا عن ذكرها وتعليما لعباده الأدب بالمكالمات، وكثير أمثاله في القرآن وشهادتهم «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ٢٠ بالدنيا فينطق كل بما وقع منه إذ تكت الألسنة عن النطق: فعلت الجوارح
«وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا» بما كتمناه نحن لئلا تعذبوا «قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ» ولا نقدر على المخالفة والكتمان «وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» من لا شيء، فهو قادر على انطاقنا «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ٢١ بعد الحساب إذ يضعكم موضع المجازات المترتبة عليكم، كما أرجعكم إليه بعد الموت «وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ» أيها العصاة عند ارتكابكم الفواحش بالحيطان والحجب خيفة من الله ليسترها عليكم الآن، وإنما كنتم تستترون خشية أن يطلع عليكم الناس وما كنتم تظنون «أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ» بأفعالكم القبيحة «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» ٢٢ في دنياكم من الخير والشر، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
اجتمع قريشيان وثقفي، أو ثقفيان وقريشي عند البيت كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فقال أحدهما للآخر أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا، وفي رواية قال: فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية. على أن الآية عامة ولا قول في الحديث من حيث الصحة، لأنه جاء برواية الشيخين وناهيك بهما ثقة، وإنما في كونه سببا للنزول وعلى صحة ذلك فإنه لا يخصص حكم الآية، ومثل هذا القول يقال في الحديث المذكور في
12
الآية ٨ المارة آنفا، وقدمنا في الآية ٦٥ من سورة يس في ج ١ ما يتعلق في شهادة الأعضاء من الأحاديث ما به كفاية فراجعها، فإذا كان الله تعالى وكل بالإنسان حفظة يحصون عليه أعماله وأنفاسه، وفضلا عن هذا فإنه يستنطق جوارحه عما يقع منها، فينبغي للمؤمن أن لا يمر عليه حال إلا بملاحظة ربه عز وجل، فإن عليه رقباء منه، قال أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
ويكفيك قوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) الآية ٤٢ من سورة إبراهيم الآتية، ولا يستغرب نطق الأعضاء بما وقع منها بقدرة الله تعالى، بعد أن نرى الأسطوانة تتكلم بما وقع عليها، والشريط السينمائي ينطق بما تكلم عليه على اختلافه، وهما من صنع البشر، فما بالك بما هو من صنع الله خالق البشر، إذا لا يتطرق أحدكم بالظن في ذلك فيهلك، وقد قال تعالى «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ» أوقعكم في الردى، أي الهلاك، وفي هذه الإشارة الدالة على البعد إيذان بغاية بعد منزلة ظنهم في الشر والسوء «فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» ٢٣ بسبب ظنكم ذلك، لأن الله تعالى أنعم عليكم في هذه الجوارح لتستعملوها فيما خلقت لها فتنالوا سعادة الدارين، فإذا حرفتموها لغير ما خلقت لها كانت سببا لشقائكم فيها، لأن استعمالكم إياها في طرق الخير يؤدي إلى إدراك ما تهتدون به إليه من اليقين ومعرفة رب العالمين الموصلة للسعادة الأبدية، وصرفها لغير ذلك يؤدي إلى كفران النعمة الموصل إلى الشقاء الأبدي، قال بعد أن حكم عليهم بشهادة أنفسهم وأعضائهم «فَإِنْ يَصْبِرُوا» على ما صاروا إليه من العذاب أو لا يصبروا «فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» لأن صبرهم ليس فيه مظنة الفرج حتى يأملوا الانتفاع به فصبرهم وفجرهم بحقهم سواء، والآية هذه على حد قوله تعالى (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) الآية ٢٠ من سورة إبراهيم الآتية، وقوله تعالى (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) الآية ١٦ من سورة الطور الآتية «وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا» يطلبوا العتبى والرضاء «فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» ٢٤
13
أيضا، إذ لا سبيل للرضاء حتى يكونوا من المسترضين ولا محل له «وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ» هيأنا لهم أخدانا من نظرائهم الشياطين (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» من زخارف الدنيا المحيطة بهم «وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ» الصادر ممّا بالعذاب «فِي» جملته «أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» ٢٥ دنياهم وآخرتهم كغيرهم من الأمم الظالمة «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ» الذي يتلوه عليكم محمد «وَالْغَوْا فِيهِ» قولوا عند قراءته قولا لا رقوع له كي يتشوش القارئ ويلتبس على السامع «لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» ٢٦ في لغوكم على تلاوة محمد، فلا تتركون مجالا للسامع أن يفهمه كما هو، وذلك أن المشركين علموا عذوبة ألفاظ القرآن وكمال معانيه وجزالة جمله، وعرفوا أن من أحبط به علما وعقله مال إليه، فخافوا على أنفسهم وغيرهم من الانخراط في الدين المنزل عليه وقبول ما جاءهم به، فلذلك صار بعضهم يوحي إلى بعض بأن كل من يسمع محمدا يقرأ فليكثر من اللغو ورفع الصوت ليختلط عليه الأمر وعلى السامع أيضا، فلا يعقله تماما خشية تسرب قوله إلى الناس فيؤمنوا به، فأنزل الله هذه الآية ينعى عليهم بها سوء صنيعهم، راجع الآية ١١٥ من الأعراف في ج ١، ثم هددهم بقوله «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» أظهر مكان الإضمار إشعارا بعظم عقابهم المشار بكونه «عَذاباً شَدِيداً» على فعلهم هذا «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» ٢٧ تهديدا مؤكدا بالقسم، أي وعزتي وجلالي لأعاقبتهم على سيئاتهم هذه بأسوأ منها ولا نكافئنهم على أعمالهم الحسنة من صلة رحم وإقراء ضيف وإغاثة ملهوف وغيرها، لأنهم كانوا يفعلونها لنشر الصيت رياء وسمعة وتفاخرا، ولا نثيبنهم على الأحسن من أعمالهم مما هي خالية من تلك الشوائب، لأنا كافيناهم عليها في الدنيا من صحة وسعة رزق وجاه وغيرها، بل نجازيهم ونعاقبهم على أفعالهم السيئة بأعظم العقوبات وأسوئها، وعلى الأسوإ أكثر من السيء «ذلِكَ» التشديد عليهم بالجزاء «جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ» المحاربين له في الدنيا هو «النَّارُ» التي لا يقاس عذابها بعذاب «لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ» الإقامة الدائمة «جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا
14
يَجْحَدُونَ»
٢٨ ويكذبون رسلنا الذين جاءوهم بها ويسخرون بهم «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بعد قذفهم بالنار وعدم النظر إلى طلباتهم الواهية «رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا» في الدنيا عن الدين القويم وأوقعانا في هذا العذاب الأليم «مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا» في هذه النار انتقاما منهم «لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ» ٢٩ فيها فيتالا عذابا أكبر من عذابنا، لأنهما هما اللذان أوقعانا فيه، فلا يلتفت إلى قولهم لأن أولئك لهم مكان خاص في النار أيضا مع أمثالهم.
مطلب ما للمؤمنين المستقيمين عند الله ومراتب الدعوة إلى الله ودفع الشر بالحسنة:
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا» بأفعالهم وأقوالهم على إيمانهم «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ» بالرحمة من الله عند الموت وفي القبر وزمن البعث تؤنسهم وتقول لهم «أَلَّا تَخافُوا» من هذه الأهوال التي ترونها في المواقع الثلاثة «وَلا تَحْزَنُوا» على ما فاتكم من الدنيا فإن الله تعالى أبدلكم خيرا منها وآمنكم من كل هم وغم وعناء، والحزن غم يلحق الإنسان من توقع مكروه أو خوف فوات محبوب أو حصول ضار، «وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» ٣٠ بها على لسان رسلكم في الدنيا والآن
«نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ»
وأنصاركم ومتولوا أمركم كما كنا لكم «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ»
اليوم «فِي الْآخِرَةِ»
كذلك لا نقارقكم أبدا حتى تدخلوا مقركم في الجنة «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ»
من أكل وشرب ولبس وظلال وترف وصحبة ونساء وغيرها «وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ»
٣١ تطلبون وتتمنون من كل ما يخطر ببالكم وهذا أعم من الأول «نُزُلًا» هذا الذي ذكر كله بمقام ما يقدم للضيف أول نزوله من شراب وقهوة، فما بالك بما يقدم له بعد، وناهيك برب المنزل «نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» ٣٢ بالنازلين كثير المغفرة لما وقع منهم كيف وهو أكرم الأكرمين ممطر الألطاف والكرامة على عصاته، فكيف بأضيافه ومطيعيه «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ» أيا كان من عباده المخلصين وأمر بطاعته ونهى عن معصيته، وهذا عام في كل مؤمن يدعو الناس عامة طائعهم وعاصيهم برّهم وفاجرهم إلى عبادة الله ويدخل فيه الأنبياء بالدرجة
15
الأولى ثم الأمثل فالأمثل، ولا وجه لتخصيصها بالرسل عليهم السلام كما قاله بعض المفسرين، لأن إجراءها على عمومها أوفق للفظ وأنسب بالمعنى وأحسن بالمقصد «وَعَمِلَ صالِحاً» بإخلاص وحسن نية «وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ٣٣ المذعنين المنقادين لله تعالى قلبا وقالبا. واعلم أن للدعوة إلى الله مراتب: الأولى دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالآيات والمعجزات والحجج والبراهين المقرونة بالتحدي وبالسيف إذا لم ينجع ذلك. الثانية دعوة العلماء بالحجج والبراهين وطرق الإرشاد والنصح وضرب الأمثال فقط، ولا شك أن العلماء أقسام: علماء بالله، وعلماء بصفاته، وعلماء بأحكامه، وقد يجمع الكل بواحد إذا كان من العارفين:
وليس على الله بمتنكر أن يجمع العالم في واحد
وكل من هؤلاء مكلف بإرشاد الناس إلى طرق الهداية، أوتوا من قوة في النطق وفي الدلائل الشرعية. الثالثة دعوة المجاهدين، وهذه لا تكون إلا بالسيف لأنهم مأمورون من قبل ولي الأمر يقتال الكفار حتى يؤمنوا، وفقال الخارجين عن الطريقة الإسلامية حتى يذعنوا، فإذا آمن الأولون وأذعن الآخرون وجب عليهم الكف عن قتالهم، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. الرابعة دعوة المؤذنين إلى الصلاة، فينبغي لمن سمع الصوت أن يجيب الداعي، ولهذا فما روي عن عائشة أن هذه الآية نزلت في المؤمنين خاصة، مع أنها عامة لا يخصصها رواية عائشة رضي الله عنها على فرض صحة نزولها فيما قالت، لأنها مطلقة في كل من يدعو إلى الله ويحث الناس على سلوك طريقة السوي لا يقيدها قيد أبدا. هذا، وعلي من يتصدى للإرشاد أن يكون بمقتضى الآية ١٣٥ من سورة النحل الآتية «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ» في الآثار والأعمال والأحكام، بل بينهما برن شاسع، فيا أيها الإنسان الكامل «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» بالإحسان إلى من أساء إليك والصبر على أذاه والتأني عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند القدرة، فهذه هي الحالة التي وصفها الله بالأحسن، وشتان بين من تحلى بالخصال الممدوحة، ومن تقمص بالخلال المذمومة، والآية عامة في كل فعل حسن وسيئ قليلا كان أو كثيرا، خطيرا كان أو حقيرا، فعلى العاقل أن يحسن لمن أساء إليه، ويصل من
16
قطعه، ويعرض عمن آذاه، ويعطي من حرمه، ويمدح من يذمه، ويدعو لمن شتمه، ويعفو عمن تعدى عليه أو على ماله أو ولده أو أهله، اتباعا لكلام الله وأحاديث رسوله، ولا يتأنى في ذلك، ففي التأني تفوت الفرص، وهو محمود في غير هذا وأمثاله مثل تزويج البكر وإقراء الضيف ودفن الميت وغيره، كان سيدنا عيسى عليه السلام إذا مرّ بأناس يشتمونه يدعو لهم فقال له أصحابه في ذلك، فقال كل ينفق مما عنده. وعليه المثل المشهور: وكل إناء بالذي فيه ينضح.
وكان من تعاليمه عليه السلام: من ضربك على خدّك الأيمن فأعطه الأيسر، ومن أخذ ثوبك فأعطه رداءك، وكان يأمر بمحبة الأعداء والعفو عن الاعتداء، وكان أزهد الناس في الدنيا عاش ثلاثا وثلاثين سنة في الأرض، ورفع إلى السماء ولم يختص بمحل يأوي إليه حتى آواه الله برفعه إليه «فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» ٣٤ مخلص صادق في محبتك ولوع في مودتك، لأن الله تعالى يقلب عداوته صداقة محضة بأن يجعله أدنى لك من قريبك، قال:
إن العداوة تستحيل مودة بتدارك الهفوات بالحسنات
«وَما يُلَقَّاها» أي تلك الخصال الحميدة «إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا» على أنفسهم وتحملوا المكاره وتجرعوا الشدائد وكظموا الغيظ وتركوا الانتقام، فصارت طبيعتهم الصبر وشأنهم العفو وديدنهم التحمل «وَما يُلَقَّاها» الأمور المذكورة آنفا ويقوم بها «إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» ٣٥ أي موقق للخير ميسّر للهدى مسوق المرشد ذو نصيب كبير من كمال النفس، وحظ عظيم من طهارة القلب، وحصة جليلة من مكارم الأخلاق.
مطلب في النزغ وسجود التلاوة وعهد الله في حفظ القرآن:
قال تعالى «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ» أيها الإنسان الكامل «مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» فتحس بما ينخسه في قلبك ويوسوس فيه بصدرك من ترغيبك لفعل ما لا ينبغي فعله وصرفك عن القيام بتلك الخصال النفيسة وحثك للانتقام، فاحذر أن تطيعه، وإن حاك في نفسك شيء من اجراء المقابلة «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» منه والجأ إليه
17
ليحفظك من خدعه وغشه «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لمن يستغيث به فيجيبه وهو «الْعَلِيمُ» ٣٦ بصدق ركونك إليه فيحفظك من شر نزغاته، ويحول دون التفاتك إليه، وقدمنا ما يتعلق بالنزغ في الآية ١٠٠ من سورة يوسف وفي الآية ١٢ من سورة يونس المارتين، وفيهما ما يرشدك لمراجعته من الآيات الباحثة عن هذا.
اعلم أن مناسبة هذه الآية لما قبلها هو دفع ما يتوهم إن فعل ذلك بمقابل إساءة الغير قد يكون ذلا أو خوفا أو عازا من الناس، وإن حصول هذه الوساوس من الشيطان الذي لا يريد إلا الشر للإنسان، كيف وقد حذّرنا الله منه بقوله عزّ قوله (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً) الآية ٦٠ من سورة النساء في ج ٣، بأن تجنحوا بكليتكم إلى المساوى والمكاره وتعرضوا عن العفو ومكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، فعلى العاقل أن ينتبه لذلك، لأن تلك الأعمال الحسنة ما هي إلا من علو النفس وزكاة القلب وكمال الإيمان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ» الدالة على توحيده وعظيم قدرته وبالغ حكمته «اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» المسخّرات بأمره لمنافع الخلق وما في الكون كله يخضعون لعظمته ويسجدون كل بحسبه انقيادا لجلاله، فإذا علمتم هذه تفعل هذا وهي دونكم في العقل والفضل، فيا أيها العقلاء «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ» لأنها ليست بأهل لذلك ولأنها من جملة مخلوقاته الكائنين في قبضته «وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ» لمنافعكم فهو وحده المستحق للسجود «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» ٣٧ تخصونه بعبادتكم وتطلبون ثوابها «فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا» عن حصر السجود لله وعمدوا إلى غيره، فاترك يا أكمل الرسل هؤلاء الذين اختاروا المخلوقين على الخالق «فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ» من الملائكة الكرام يسجدون له كما يسجد المؤمنون أمثالك و «يُسَبِّحُونَ» له «بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ» ٣٨ من عبادته ويملون منها ولا يتكاسلون عنها وهنا موضع السجود على الوجه الأكمل لا عند قوله (تَعْبُدُونَ) كما قاله بعض القراء، بل عند تمام هذه الآية الأخيرة لأن السجود يكون عند تمام المعنى المراد به فتكون السجدة آية واحدة فقط، كما في الإنشقاق والنجم والسجدة والفرقان
18
والحج ومريم والعلق والأعراف والرعد، وتكون آيتين كهذه، وسجدة ص، وتكون ثلاث آيات كالنمل والنحل والإسراء، وعلى هذا لا يكون السجود إلا عند ختام الآية الأولى بل عند تمام الثانية في فصّلت هذه وص، وعند تمام الثالثة في النمل والنحل والإسراء، وهذه السجدة من عزائم السجود، وقدمنا ما يتعلق فيها في الآية ٤٥ من سورة ص في ج ١، وفيها ما يرشدك لما تتمناه. قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً» متكامنة من شدة التبيس مغبّرة وعليها آثار الذل بسبب ذواء نبلتها «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ» تمايل نباتها وتحرك بمرور الرياح عليه «وَرَبَتْ» فاشت وانتفخت ولانت، ونظير هذه الآية الآية من سورة الحج في ج ٣ مع اختلاف في بعض الكلمات، فقل يا أكرم الرسل لهؤلاء المنكرين إعادة الأجسام من قومك «إِنَّ الَّذِي أَحْياها» بعد يبسها المشابه للموت في الإنسان «لَمُحْيِ الْمَوْتى» من البشر وغيرهم مرة ثانية كما خلقهم أول مرة وهو أهون عليه «إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ٣٩ لا يعجزه شيء وليس عليه شيء بأهون من غيره. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا» وينحرفون عن تأويلها فيميلون عن الحق المبشرة به إلى الباطل الذي يريدونه على حد قوله تعالى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) الآية ٤٥ من المائدة في ج ٣، وهي مكررة في القرآن لفظا ومعنى. واعلم يا سيد الرسل أن هؤلاء «لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا» لأنا نراهم ونرى ما يعملون، وفي هذه الجملة تهديد كبير بعظيم مجازاتهم «أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ» هذا تمثيل للكافر على الإطلاق «خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً» من العذاب «يَوْمَ الْقِيامَةِ» وهذا تمثيل للمؤمن مطلقا أيضا، وما قيل إن هذه الآية نزلت في أبي جهل وحضرة الرسول، أو في أبي بكر أو عمار بن ياسر أو عمر أو عثمان أو حمزة على اختلاف الأقوال في ذلك، وفرض صحة هذا السبب لا يقيدها عن عمومها ولا يخصصها عن إطلاقها، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. ثم ذكر تعالى ما هو غاية في التخويف والتهديد والوعيد لأولئك الملحدين بقوله عز قوله «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» أن تعملوه أيها الكفرة «إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ٤٠ والبصير بالشيء يعلمه ويعلم ما يستحقه
19
فاعله من العقوبة، وهذه الآية غاية في التشديد وعظم التهديد للملحدين خاصة، ويدخل فيها من على شاكلتهم من الكفرة
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ» الجملة من ان واسمها وخبرها واقعة مبتدأ وجملة (أُولئِكَ يُنادَوْنَ) إلخ خبرها، وما بينهما اعتراض، والمراد بالذكر هنا هو القرآن «وَإِنَّهُ» ذلك الذكر ولَكِتابٌ عَزِيزٌ» عديم النظير محمي بحماية الله كريم عليه محفوظ؟؟؟ التبديل والتغيير والتحريف «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ» الذي يريده الملحدون ليوقعوا فيه تناقضا بزعمهم «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» قبله وأمامه «وَلا مِنْ خَلْفِهِ» ورائه ودبره، لا يتطرق إليه الباطل بوجه من الوجوه لأنه «تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» ٤١ في أقواله وأفعاله محمود على ما أسداه من النعم المتتابعة إلى خلقه، ومن أجلّها هذا القرآن المصون، وتقدم في الآية ٩ من سورة الحجر ما يتعلق في هذا البحث، المراجعة. ثم إنه جل شأنه عزى حبيبه محمد على ما يلاقيه من قومه بقوله جل قوله «ما يُقالُ لَكَ» يا حبيبي مما تراه من الأذى والجفا في القول والفعل «إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» فلك أسوة بهم فلا تضجر ولا تحزن «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ» لمن آمن بك منهم ومن غيرهم عما سبق من ذنبه مهما كان «وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» ٤٢ لمن أصر على التكذيب «وَلَوْ جَعَلْناهُ»
ذلك الكتاب المعبر عنه بالذكر «قُرْآناً أَعْجَمِيًّا» يتلى بغير لغة قومك «لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ» بالعربية لفهمناه وآمنا به فكيف تريد أن نؤمن بما لا نفهمه «ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ» كيف يكون ذلك أتهدى أمة عربية بلسان أعجمي لا تعيه كلا، لا يكون ذلك، أي لتذرعوا بالإنكار في هذه الحجة ولصح قولهم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) الآية ٥ المارة، لأنهم لا يحيطون بمعناه أما وأنه أنزل بلغتهم فلم يبق لهم ما يعتذرون به، فلا يصح قولهم ذلك بأنه أعجمي لا نفهمه. وفي هذه الآية إشارة على أنه لو نزل بلسان العجم لكان قرآنا فيكون دليلا لأبي حنيفة رحمه الله في جواز الصلاة إذا قرأ بالفارسية، وتقدم أن بينا عدم جواز ترجمة القرآن باللغات الأجنبية في الآية ٣ المارة، لأنها لا تحتوي على جميع الحروف العربية، فليس بوسع أعظم عالم باللغة المترجم إليها وباللغة العربية أن يعبر
20
عن كل كلمة منه بلفظها ومعناها من غير أدنى تغيير فيها بل تعرض المحال، لأن إمكان وجود لغة أجنبية تحتوي على الحروف العربية كلها محال، وإن ما اطلعتما عليه من اللغات التركية والإفرنسية والعبرية والسريانية والكردية والهندية والإنجليزية والألمانية لا تحتوي عليها، وغيرها كذلك، وإمكان التعبير عن بعض كلماته لا يكفي، لأنه لا يجوز أن يترك منه حرف واحد. أما ما جاء عن أبي حنيفة فهي عبارة عن حفظ آية طويلة أو ثلاث آيات قصار بمقدار ما تصح به الصلاة للعاجز عن تعليمها بالعربية خشية من ترك الصلاة التي لا تصح بغير القراءة، فذلك ممكن، إذ يوجد في القرآن ما هو ممكن الترجمة بذلك القدر من آيات الدعاء والرجاء، أما كله أو نصفه أو عشره أو معشاره فلا يمكن البتة، لأنه خارج عن طوق البشر، وقدمنا في الآية ١٩٥ من سورة الشعراء في ج ١، ما يتعلق بهذا البحث بصورة موضحة فراجعها.
مطلب القرآن هدى لأناس ضلال الآخرين بآن واحد، وعدم جواز نسبة الظلم إلى الله تعالى:
قال تعالى «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً» من الضلال وإرشاد للحق «وَشِفاءٌ» من مرض الشرك والشك الذي يحوك بالقلب وبعض الأمراض لصاحب اليقين القوي الاعتقاد، راجع الآية ٨٠ من سورة الإسراء ج ١، «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» به «فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ» ثقل وصمم عن سماعه «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» لا يبصرونه لأنهم لا ينظرون إليه عن صدق وحقيقة ولا يسمعونه سماع قبول فيكون ظلمة وشبهة ومرضا عليهم فهو بآن واحد نور لأناس ظلمة لآخرين، لأنهم لا ينتفعون به فيكون عليهم بالضد من غيرهم «أُولئِكَ» الصم العمي عن القرآن «يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» ٤٤ فلم يسمعوا ذلك النداء ولم يعوه، شبه الله تعالى عدم فهمهم بما دعوا إليه بمن ينادى من مسافة بعيدة فإنه إن سمع الصوت لا يفقه المعنى، وهو مثل يقال للذي لا يفهم: أنت تنادي من مكان بعيد، والنداء على الشخص من بعد فيه إهانة له وعدم اكتراث به، ولهذا فإن الكفرة يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبح أعمالهم بأشنع أسمائهم من مكان بعيد هوانا بهم وإذلالا لهم، فتعظم السمعة عليهم وتتكاثف المصائب بفضيحتهم على رؤوس الأشهاد. قال تعالى
21
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» من قبل قومه، فمنهم من آمن ومنهم من كفر مثل قومك يا محمد «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» بتأخير العذاب «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» في الدنيا وأهلكوا جميعا كسائر الأمم السالفة، ولكن أرجأناهم بمقتضى سابق علمنا ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» ٤٥ صفة مؤكدة للشك، كما أن قوم موسى كانوا في ريب من كتابهم «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ٤٦ فلا يعذب إلا المسيء بحسب إساءته فقط، وحاشاه من الظلم، وقدمنا في الآية ١٦ من سورة يونس المارة ما يتعلق بعدم جواز نسبة الظلم إلى الله فراجعها، ونظير هذه الآية الآية ١٥ من سورة الجاثية الآتية، إلا أنها ختمت بغير ما ختمت به هذه. قال تعالى «إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ» عند السؤال عنها، أي إذا سئلت يا سيد الرسل عن زمن القيامة فقل علمها عند الله وحده «وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها» أو عينها، ومن الأولى مؤكدة للتنكير مما يزيد عمومه وإطلاقه، أي مطلق ثمره من جميع أنواعها، وكذلك من قوله «وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ» وأمره وإرادته أي لا يكون شيء من ذلك كما لا يكون غيره بغير علم الله وأنه ما يقع من ذلك على لسان بعض العارفين من الإخبار بوقت الإثمار ووقت تكون الحمل وزمن الوضع وبيان الموضع، هو من إلهام الله تعالى إياهم. أما ما يقوله المنجمون والسحرة والكهنة فمن طريق الحسبان والظن والتوسم، راجع الآية ٧٦ من سورة الحجر المارة تجد هذا البحث مستوفيا «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي» الذين سميتموهم بالدنيا أحضروهم إليّ الآن لأسألهم عن الذي حدا بهم لهذه الدعوى الباطلة «قالُوا آذَنَّاكَ» أخبرناك يا ربنا وأعلمناك بأنه «ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» ٤٧ الآن بأن لك شركاء البتة، وذلك لأن الذين اتخذوهم شركاء ينكرون ذلك ويتبرءون منهم عند معاينة العذاب، وقبله في الوقف وهو الحساب. قال تعالى «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ» من الشركاء «مِنْ قَبْلُ» في الدنيا «وَظَنُّوا» أيقنوا إيقانا لا ريب فيه أنهم «ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» ٤٨ من العذاب ولا محيد عنه وحاص
22
بمعنى عدل ومال وماد وحاد وهرب، والأنسب بالمقام ما ذكرناه «لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ» لا يمل ولا يضجر من تكرار طلبه بل يظل يسأله مالا وولدا وجاها ورياسة وعافية بصورة دائمة، ولو أعطى أحدكم نهرين لتمنى الثالث «وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ» من شدة وفقر وفاقة أو مرض وذل أو فقد شيء ما «فَيَؤُسٌ» شديد اليأس من روح الله «قَنُوطٌ» ٤٩ كثير التفاؤل بالشر وقطع الرجاء من رحمة الله وفضله، ولقد بولغ هذا الكلام من جهتين من جهة الصيغة، لأن فعولا من صيغ المبالغة، ومن جهة التكرار، وهذه صفة الكافر بالدنيا والآخرة أيضا. قيل نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة، وهي عامة يدخل في عمومها هذان الكافران وغيرهما دخولا أوليا. قال تعالى في وصف هذا الكافر أيضا «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا» من غنى وعافية ورياسة «مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ» من فقر ومرض وذل
«لَيَقُولَنَّ» بلا حياء ولا أدب «هذا لِي» حقي استحقيته بعملي «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ» التي تخبرنا بها يا محمد «قائِمَةً» واقعة، يريد أنه ليس موقنا بالبعث، وأن أهل هذه الدنيا يحيون حياة ثانية، ثم أقسم الخبيث فقال «وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي» على فرض صحة قولك «إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» المنزلة الحسنة بالآخرة أيضا كما هي بالدنيا على فرض وجودها، وهذا قياس مغلوط أشبه بقياس أخيه إبليس الذي أشرنا إليه في الآية ١٢ من الأعراف في ج ١، لأن نعم الدنيا لا يستدل بها على نعم الآخرة من حيث حيازتها، لأن الدنيا تملك بالمال والآخرة بالأعمال. قال تعالى مقسما ومؤكدا «فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» أمثل هذا القائل أن الأمر ليس كما زعم وأنهم مستحقون الإهانة لا الكرامة «بِما عَمِلُوا» في الدنيا من السوء ثم أقسم ثانيا فقال «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ» ٥٠ شديد لا يطاق في نار جهنم على ما فرط منهم.
قال تعالى «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى» تباعد بطرا عن شكر المنعم «بِجانِبِهِ» بنفسه تعاظمأ وتكبرا ووضع الجانب مكان النفس، لأن مكان الشيء وجهته لينزل منزلة نفسه، ومنه قول الكتاب في مكاتباتهم إلى جناب وجانب فلان يريدون نفسه وذاته، وعليه قوله تعالى:
23
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) الآية ٤٦ من سورة الرحمن ج ٣ أي ذاته، وقول الشاعر:
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذنب كالرجل اللعين
وقال أبو عبيد نأى نهض بجانبه وهو عبارة عن التكبر وشموخ الأنف، هذا وقد يعبر عن ذات الشخص بالمقام والمجلس بقصد التعظيم والاحتشام عن التصريح بالاسم ويتركون التصريح لزيادة الاحترام، قال زهير:
فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى وإياك أن تنسى فتذكر زينبا
سيكفيك من ذاك المسمى إشارة فدعه، مصونا بالجلال محجبا
وليس من هذا قوله تعالى (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) الآية ٣٦ من سورة النساء ج ٣، وقوله تعالى (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) الآية ٥٦ من سورة الزمر المارة كما ستطلع عليه في تفسيرها إن شاء الله «وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» ٥١ كثير مستمر كناية عن الإقبال على الدعاء بكليته والإلحاق به والابتهال صباح مساء، والعرض من وصف الأجسام وهو أقصر الامتدادين والطول أطولهما، ويفهم عرفا من العريض العظم والاتساع، يقال بالقلم العريض أي الكبير الذي يقرأ عن بعد، وإن صيغة المبالغة وتنوين التنكير فيه يشعران بذلك. ويستلزم وصف الدعاء بالعرض وصفه بالطول أيضا، هذا وقد تضمنت هذه الآيات نوعين من طغيان الإنسان الأول شدة حرصه على جمع الدنيا وشدّة جزعه على الفقد، والتعريض بتظليم ربه، تعالى عن ذلك، في قوله هنا لي مديحا فيه سوء اعتقاده بالمعاد المستجلب لتلك المساوى كلها، والثاني بين طيشه المتولد عنه إعجابه بنفسه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عند فقدها، وقد ضمّن ذلك ذمّه بشغله بالنعمة عن المنعم بالحالتين أما في الأولى فظاهر، وأما في الثانية فلأن التضرع جزعا على الفقد ليس رجوعا إلى المنعم، بل تأسفا على الفقد المشغل عن المنعم كل الإشغال، تدبر، قال تعالى أيها الناس «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ» هذا القرآن «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» كما ذكرت لكم «ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ» لقولكم إنه ليس من عنده، أخبروني «مَنْ أَضَلُّ» منكم بتجارئكم على هذا القول، وقد وضع محل هذه الجملة «مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ» خلاف «بَعِيدٍ» ٥٢ عن الحق وهو أبلغ إذ تفيد لا أضل منكم أبدا، لأنكم في
24
خلاف بعيد غاية البعد عن الحق السوي، قال تعالى «سَنُرِيهِمْ آياتِنا» عند حلول الوقت المقدر لخذلانهم «فِي الْآفاقِ» نواحي الأرض شرقا وغربا، ومن جميع جهاتها، وأفاق السماء نواحيها وجوانبها أيضا، والأفق القطر وما تراه من اتصال السماء بالأرض يسمى أفقا أيضا، وفسر بعض المفسرين هذه الآية بما أجراه الله تعالى على يد نبيه صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفائه الكرام رضي الله عنهم ومن حذا حذوهم وتبع خططهم من فتوحات البلاد والقرى والاستيلاء على الأراضي الدالة على قوة الإسلام ومتانة شكيمة المسلمين للمؤمنين الذين اخترقوا البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وافتتحوها وكانوا واسطة هداية أهلها، وعلى وهن الباطل وتفرق جنده وتشتيت أهله وخذلان الكفرة وإذلالهم، وذلك استدلالا من معنى السين في (سنريهم) لدلالتها على الاستقبال أي أنّا سنري أصحابك وأمتك بعدك آياتنا الدالة على قدرتنا بمحق الباطل وإظهار الحق من بعدك، كما أريناكه في حياتك، وعليه يكون الخطاب في الآية عاما للكافرين والمؤمنين الموجودين زمن صاحب الرسالة فمن بعدهم، ولا مانع من ذلك «وَفِي أَنْفُسِهِمْ» نريهم آياتنا أيضا بإنزال البلاء على الكافرين من قحط أو خوف وقتل وأصر وجلاء كما أراهم في بدر وما بعدها من المواقع وزمن الفتح وبعده، وبمقابل هذا للمسلمين رخاء وظفر وعز وغنيمة، وفي هذه الآية على التفسير الأول إشارة إلى فتح مكة عنوة لما فيها من معنى لتهديد في لفظ سنريهم والوعيد وهو من الإخبار بالعيب وإن مكة شرفها الله لم تفتح عنوة على يد أحد قبله قط، وعلى التفسير الثاني إلى فتح بلاد العرب خاصة استشعارا من قوله (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) والبلاد الأخرى عامة وإلى أن ذلك كله كائن لا محالة لإخبار الله تعالى به، وهذا وإن كان فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلاد فهو آية بالنسبة إلى الأنفس، ونفس الإنسان فيها آيات كثيرة لم يحط بها البشر، ومن قرأ علم التشريح ووقف على ماهيته وشاهد تراكيب الإنسان عرف مغزى قول علي كرم الله وجهه:
وتحسب أنك جرم صغير... وفيك انطوى العالم الأكبر
ومن العجيب أن بعض العلماء بالطب مع وقوفهم على علم التشريح ينكرون الإله مع أن المنكر يجب أن يؤمن لما يرى من صنع المبدع في هذا الوجود،
25
Icon