تفسير سورة الواقعة

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة الواقعة مكية وآيها ست وتسعون آية.

(٥٦) سورة الواقعة
مكية وآيها ست وتسعون آية
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣)
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إذا حدثت القيامة، سماها واقعة لتحقق وقوعها وانتصاب إِذا بمحذوف مثل اذكر أو كان كيت وكيت.
لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله تعالى، أو تكذب في نفيها كما تكذب الآن، واللام مثلها في قوله: قَدَّمْتُ لِحَياتِي أو ليس لأحد في وقعتها كاذبة فإن من أخبر عنها صدق، أو ليس لها حينئذ نفس تحدث صاحبها بإطاقة شدتها واحتمالها وتغريه عليها من قولهم: كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم، إذا شجعته عليه وسولت له أنه يطيقه.
خافِضَةٌ رافِعَةٌ تخفض قوماً وترفع آخرين، وهو تقرير لعظمتها فإن الوقائع العظام كذلك، أو بيان لما يكون حينئذ من خفض أعداء الله ورفع أوليائه، أو إزالة الأجرام عن مقارها بنثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو، وقرئتا بالنصب على الحال.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤ الى ٧]
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧)
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا حركت تحريكاً شديداً بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، والظرف متعلق ب خافِضَةٌ أو بدل من إِذا وَقَعَتِ.
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لته، أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها، فَكانَتْ هَباءً غباراً. مُنْبَثًّا منتشراً.
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً أصنافاً. ثَلاثَةً وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨ الى ٩]
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩)
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ فأصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنيئة من تيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل، أو أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم، أو أصحاب اليمن والشؤم فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. والجملتان الاستفهاميتان خبران لما قبلهما بإقامة الظاهر مقام الضمير ومعناهما التعجب من حال الفريقين.

[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١٠ الى ١٢]

وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ والذين سبقوا إلى الإِيمان والطاعة بعد ظهور الحق من غير تلعثم وتوان، أو سبقوا في حيازة الفضائل والكمالات، أو الأنبياء فإنهم مقدمو أهل الأديان هم الذين عرفت حالهم وعرفت مآلهم كقول أبي النجم:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي أو الذين سبقوا إلى الجنة أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ الذين قربت درجاتهم في الجنة وأعليت مراتبهم.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١٣ الى ١٤]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي هم كثير من الأولين يعني الأمم السالفة من لدن آدم إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام ولا يخالف ذلك
قوله عليه الصلاة والسلام «إن أمتي يكثرون سائر الأمم».
لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعو هذه أكثر من تابعيهم، ولا يرده قوله في أصحاب اليمين، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ. لأن كثرة الفريقين لا تنافي أكثرية أحدهما، وروي مرفوعاً أنهما من هذه الأمة، واشتقاقها من الثل وهو القطع.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١٥ الى ١٩]
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ خبر آخر للضمير المحذوف، وال مَوْضُونَةٍ المنسوجة بالذهب مشبكة بالدار والياقوت، أو المتواصلة من الوضن وهو نسج الدرع.
مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ حالان من الضمير في عَلى سُرُرٍ.
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ للخدمة. وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ مبقون أبداً على هيئة الولدان وطراوتهم.
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ حال الشرب وغيره، والكوب إناء بلا عروة ولا خرطوم له، والإِبريق إناء له ذلك.
وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ من خمر.
لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْها بخمار. وَلا يُنْزِفُونَ ولا تنزف عقولهم، أو لا ينفد شرابهم. وقرأ الكوفيون بكسر الزاي لاَّ يُصَدَّعُونَ بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يختارون.
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يتمنون.
وَحُورٌ عِينٌ عطف على وِلْدانٌ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي وفيها أو ولهم حور، وقرأ حمزة والكسائي بالجر عطفاً على جَنَّاتِ بتقدير مضاف أي هم في جنات ومصاحبة حور، أو على أكواب لأن معنى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ ينعمون بأكواب، وقرئتا بالنصب على ويؤتون حوراً.
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ المصون عما يضربه في الصفاء والنقاء.
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً باطلاً. وَلا تَأْثِيماً ولا نسبة إلى الإِثم أي لا يقال لهم أثمتم.
إِلَّا قِيلًا أي قولاً. سَلاماً سَلاماً بدل من قِيلًا كقوله: لاَّ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً أو صفته أو مفعوله بمعنى إلا أن يقولوا سلاماً، أو مصدر والتكرير للدلالة على فشو السلام بينهم. وقرئ «سلام سلام» على الحكاية.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠)
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ لا شوك فيه من خضد الشوك إذا قطعه، أو مثني أغصانه من كثرة حمله من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب.
وَطَلْحٍ وشجر موز، أو أم غيلان وله أنوار كثيرة طيبة الرائحة، وقرئ بالعين. مَنْضُودٍ نضد حمله من أسفله إلى أعلاه.
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣)
وَماءٍ مَسْكُوبٍ يسكب لهم أين شاؤوا وكيف شاؤوا بلا تعب، أو مصبوب سائل كأنه لما شبه حال السابقين في التنعم بأعلى ما يتصور لأهل المدن شبه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتمناه أهل البوادي إشعاراً بالتفاوت بين الحالين.
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ كثيرة الأجناس.
لاَّ مَقْطُوعَةٍ لا تنقطع في وقت. وَلا مَمْنُوعَةٍ لا تمنع عن متناولها بوجه.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧)
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ رفيعة القدر أو منضدة مرتفعة. وقيل الفرش النساء وارتفاعها أنها على الأرائك، ويدل عليه قوله:
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أي ابتدأناهن ابتداء جديداً من غير ولادة إبداء أو إعادة.
وفي الحديث «هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطاً رمصاً، جعلهن الله بعد الكبر أتراباً على ميلاد واحد، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً».
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً متحببات إلى أزواجهن جمع عروب، وسكن راءه حمزة وأبو بكر وروي عن نافع وعاصم مثله. أَتْراباً فإن كلهن بنات ثلاث وثلاثين وكذا أزواجهن.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)
لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلق ب أَنْشَأْناهُنَّ أو «جعلنا»، أو صفة ل أَبْكاراً أو خبر لمحذوف مثل هن أو لقوله:
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وهي على الوجه الأول خبر محذوف.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤)
وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ في حر نار ينفذ في المُسام. وَحَمِيمٍ وماء متناه في الحرارة.
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ من دخان أسود يفعول من الحممة.
لاَّ بارِدٍ كسائر الظل. وَلا كَرِيمٍ ولا نافع، نفى بذلك ما أوهم الظل من الاسترواح.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦)
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ منهمكين في الشهوات.
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ الذنب العظيم يعني الشرك، ومنه بلغ الغلام الحنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب، وحنث في يمينه خلاف بر فيها وتحنث إذا تأثم.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠)
وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ كررت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقاً وخصوصاً في هذا الوقت كما دخلت العاطفة في قوله:
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ للدلالة على أن ذلك أشد إنكاراً في حقهم لتقادم زمانهم وللفصل بها حسن العطف على المستكن في لَمَبْعُوثُونَ، وقرأ نافع وابن عامر أَوْ بالسكون وقد سبق مثله، والعامل في الظرف ما دل عليه «مبعوثون» لا هو للفصل بأن والهمزة.
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ. وقرئ «لمجمعون». إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ إلى ما وقت به الدنيا وحدت من يوم معين عند الله معلوم له.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ أي بالبعث والخطاب لأهل مكة وأضرابهم.
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ مِنْ الأولى للابتداء والثانية للبيان.
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ من شدة الجوع.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ لغلبة العطش، وتأنيث الضمير في منها وتذكيره في عَلَيْهِ على معنى الشجر ولفظه، وقرئ «من شجرة» فيكون التذكير لل زَقُّومٍ فإنه تفسيرها.
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ الإِبل التي بها الهيام وهو داء يشبه الاستسقاء، جمع أهيم وهيماء قال ذو الرمة:
وقيل الرمال على أنه جمع هيام بالفتح وهو الرمل الذي لا يتماسك جمع على هيم كسحب، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض وكل من المعطوف والمعطوف عليه أخص من الآخر من وجه فلا اتحاد، وقرأ نافع وحمزة وعاصم شُرْبَ بضم الشين.
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء فما ظنك بما يكون لهم بعد ما استقروا في الجحيم، وفيه تهكم كما في قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ لأن النزل ما يعد للنازل تكرمة له، وقرئ «نزلهم» بالتخفيف.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩)
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بالخلق متيقنين محققين للتصديق بالأعمال الدالة عليه، أو بالبعث فإن من قدر على الإِبداء قدر على الإِعادة.
أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أي ما تقذفونه في الأرحام من النطف، وقرئ بفتح التاء من منى النطفة بمعنى أمناها.
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تجعلونه بشراً سوياً. أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢)
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ قسمناه عليكم وأقتنا موت كل بوقت معين، وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال.
وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ لا يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته، أو لا يغلبنا أحد من سبقته على كذا إذا غلبته عليه.
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
على الأول حال أو علة ل قَدَّرْنا وعلى بمعنى اللام، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ اعتراض وعلى الثاني صلة، والمعنى على أن نبدل منكم أشباهكم فنخلق بدلكم، أو نبدل صفاتكم على أن أمثالكم جمع مثل بمعنى صفة. وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لاَ تَعْلَمُونَ
في خلق أو صفات لا تعلمونها.
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أن من قدر عليها قدر على النشأة الأخرى فإنها أقل صنعاً لحصول المواد وتخصيص الاجزاء وسبق المثال، وفيه دليل على صحة القياس.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٧]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧)
أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ تبذرون حبه.
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه. أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ المنبتون.
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً هشيماً. فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ تعجبون أو تندمون على اجتهادكم فيه، أو على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه، والفكه التنقل بصنوف الفاكهة وقد استعير للتنقل بالحديث، وقرئ «فَظَلْتُمْ» بالكسر و «فظللتم» على الأصل.
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ لملزمون غرامة ما أنفقنا، أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام، وقرأ أبو بكر «أإنا لمغرمون» على الاستفهام.
بَلْ نَحْنُ قوم. مَحْرُومُونَ حرمنا رزقنا، أو محدودون لا مجدودون.

[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]

أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠)
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أي العذب الصالح للشرب.
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ من السحاب واحده مزنة، وقيل الْمُزْنِ السحاب الأبيض وماؤه أعذب.
أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ بقدرتنا والرؤية إن كانت بمعنى العلم فمتعلقة بالاستفهام.
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ملحاً أو من الأجيج فإنه يحرق الفم، وحذف اللام الفاصلة بين جواب ما يتمحض للشرط وما يتضمن معناه لعلم السامع بمكانها، أو الاكتفاء بسبق ذكرها أو يختص ما يقصد لذاته ويكون أهم وفقده أصعب بمزيد التأكيد. فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أمثال هذه النعم الضرورية.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧١ الى ٧٤]
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ تقدحون.
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ يعني الشجرة التي منها الزناد.
نَحْنُ جَعَلْناها جعلنا نار الزناد. تَذْكِرَةً تبصرة في أمر البعث كما مر في سورة «يس»، أو في الظلام أو تذكيراً وأنموذجاً لنار جهنم. وَمَتاعاً ومنفعة. لِلْمُقْوِينَ الذين ينزلون القواء وهي القفر، أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام، من أقوت الدار إذا خلت من ساكنيها.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فأحدث التسبيح بذكر اسمه تعالى أو بذكره فإن إطلاق اسم الشيء ذكره والعظيم صفة للاسم أو الرب، وتعقيب الأمر بالتسبيح لما عدد من بدائع صنعه وإنعامه إما لتنزيهه تعالى عما يقول الجاحدون لوحدانيته الكافرون لنعمته، أو للتعجب من أمرهم في غمط نعمه، أو للشكر على ما عدها من النعم.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)
فَلا أُقْسِمُ إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم، أو فأقسم و «لا» مزيدة للتأكيد كما في لِئَلَّا يَعْلَمَ أو فلأنا أقسم فحذف المبتدأ وأشبع فتحة لام الابتداء، ويدل عليه قراءة فلا قسم أو فَلا رد لكلام يخالف المقسم عليه. بِمَواقِعِ النُّجُومِ بمساقطها، وتخصيص المغارب لما في غروبها من زوال أثرها والدلالة على وجود مؤثر لا يزول تأثيره، أو بمنازلها ومجاريها. وقيل النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها، وقرأ حمزة والكسائي بموقع.
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ لما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة وكمال الحكمة وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى، وهو اعتراض في اعتراض فإنه اعتراض بين القسم والمقسم عليه، ولَوْ تَعْلَمُونَ اعتراض بين الموصوف والصفة.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧٧ الى ٨٠]
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠)
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ كثير النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد، أو حسن
مرضي في جنسه.
فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ مصون وهو اللوح المحفوظ.
لاَّ يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا يطلع على اللوح إلا المطهرون من الكدورات الجسمانية وهم الملائكة، أو لا يمس القرآن إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من الأحداث فيكون نفياً بمعنى النهي، أو لا يطلبه إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من الكفر، وقرئ «المتَطَهِرُونَ» و «المطهرون» من أطهره بمعنى طهره و «المطهرون» أي أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والإِلهام.
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة ثالثة أو رابعة للقرآن، وهو مصدر نعت به وقرئ بالنصب أي نزل تنزيلاً.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن. أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به.
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي شكر رزقكم. أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أي بمانحه حيث تنسبونه إلى الأنواء، وقرئ «شكركم» أي وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به وتكذبون أي بقولكم في القرآن أنه سحر وشعر، أو في المطر أنه من الأنواء.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨٣ الى ٨٥]
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥)
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ أي النفس.
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ حالكم، والخطاب لمن حول المحتضر والواو للحال.
وَنَحْنُ أَقْرَبُ أي ونحن أعلم. إِلَيْهِ إلى المحتضر. مِنْكُمْ عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى سبب الاطلاع. وَلكِنْ لاَّ تُبْصِرُونَ لا تدركون كنه ما يجري عليه.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧)
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي مجزيين يوم القيامة أو مملوكين مقهورين من دانه إذا أذله واستعبده، وأصل التركيب للذل والانقياد.
تَرْجِعُونَها ترجعون النفس إلى مقرها وهو عامل الظرف والمحضض عليه بلولا الأولى والثانية تكرير للتوكيد وهي بما في حيزها دليل جواب الشرط، والمعنى إن كنتم غير مملوكين مجزيين كما دل عليه جحدكم أفعال الله وتكذيبكم بآياته. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أباطيلكم فَلَوْلا ترجعون الأرواح إلى الأبدان بعد بلوغها الحلقوم.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨٨ الى ٩١]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١)
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي إن كان المتوفى من السابقين.
فَرَوْحٌ فله استراحة وقرئ «فَرَوْحٌ» بالضم وفسر بالرحمة لأنها كالسبب لحياة المرحوم وبالحياة
الدائمة. وَرَيْحانٌ ورزق طيب. وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ذات تنعم.
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ يا صاحب اليمين. مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي من إخوانك يسلمون عليك.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٩٢ الى ٩٤]
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤)
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ يعني أصحاب الشمال، وإنما وصفهم بأفعالهم زجراً عنها وإشعاراً بما أوجب لهم ما أوعدهم به.
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ وذلك ما يجد في القبر من سموم النار ودخانها.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)
إِنَّ هَذَا أي الذي ذكر في السورة أو في شأن الفرق. لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي حق الخبر اليقين.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فنزهه بذكر اسمه تعالى عما لا يليق بعظمه شأنه.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا».
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
فَأَصْبَحَّتُ كَالهَيْمَاءِ لاَ المَاءُ مُبْردٌ صَدَاهَا وَلاَ يَقْضِي عَلَيْهَا هَيَامُهَا