تفسير سورة يس

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة يس من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة يس
هذه السورة مكية، إلا أن فرقة زعمت أن قوله :﴿ ونكتب ما قدموا ﴾، و ﴿ وآثارهم ﴾، نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول، وليس زعماً صحيحاً.
وقيل : إلا قوله :﴿ وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله ﴾ الآية.

ﭮﭯ ﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞ ﰿ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ
سورة يس
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١ الى ٨٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤)
قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩)
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
44
قَمَحَ الْبَعِيرُ رَأْسَهُ: رَفَعَهُ أَثَرَ شُرْبِ الْمَاءِ، وَيَأْتِي الكلام فيه مستوفى. الْعُرْجُونُ: عُودُ الْعَذْقِ مِنْ بَيْنِ الشِّمْرَاخِ إِلَى مَنْبَتِهِ مِنَ النَّخْلَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ فُعْلُونٌ مِنَ الِانْعِرَاجِ، وَهُوَ الِانْعِطَافُ. الْجَدَثُ: الْقَبْرُ، وَسُمِعَ فِيهِ جَدَفٌ بِإِبْدَالِ الثَّاءُ فَاءً، كَمَا قَالُوا: فُمَّ فِي ثُمَّ، وَكَمَا أَبْدَلُوا مِنَ الْفَاءِ ثَاءً، قَالُوا فِي مَعْفُورٍ مَعْثُورٌ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْكَمْأَةِ. الْمَسْخُ: تَحْوِيلٌ مِنْ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ مُنْكَرَةٍ. الرَّمِيمُ: الْبَالِي الْمُفَتَّتُ.
يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ، وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا أَنَّ فِرْقَةً زَعَمَتْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا، وآثارَهُمْ، نزلت فِي بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ وَيَنْتَقِلُوا إِلَى جِوَارِ مَسْجِدِ الرَّسُولِ، وَلَيْسَ زَعْمًا صَحِيحًا. وَقِيلَ: إِلَّا قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ.
47
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ هُنَا: إِنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَدَلِيلُهُ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. قَالَ السَّيِّدُ الْحَمَوِيُّ:
يَا نَفْسِ لَا تَمْحَضِي بِالْوِدِّ جَاهِدَةً عَلَى الْمَوَدَّةِ إِلَّا آلَ يَاسِينَا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ يَا إِنْسَانُ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَعَنْهُ هُوَ في لغة طيء، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِيسَانٌ بِمَعْنَى إِنْسَانٌ، وَيَجْمَعُونَهُ عَلَى أَيَاسِينَ، فَهَذَا مِنْهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَا حَرْفُ نِدَاءٍ، وَالسِّينُ مُقَامَةٌ مَقَامَ إِنْسَانٍ انْتُزِعَ مِنْهُ حَرْفٌ فَأُقِيمَ مُقَامَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ صَحَّ أَنَّ مَعْنَاهُ يَا إنسان في لغة طيء، فَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ يَا أَنَيْسِينُ، فَكَثُرَ النِّدَاءُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ حَتَّى اقْتَصَرُوا عَلَى شَطْرِهِ، كَمَا قَالُوا فِي الْقَسَمِ: مُ اللَّهِ فِي ايْمُنُ اللَّهِ. انْتَهَى. وَالَّذِي نُقِلَ عَنِ الْعَرَبِ فِي تَصْغِيرِهِمْ إِنْسَانٍ أُنَيْسِيَانٌ بِيَاءٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ أُنَيْسَانٌ، لِأَنَّ التَّصْغِيرَ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أُصُولِهَا، وَلَا نَعْلَمُهُمْ قَالُوا فِي تَصْغِيرِهِ أُنَيْسِينٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ بَقِيَّةُ أُنَيْسِينٍ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لَا أَنْ يُبْنَى عَلَى الضَّمِّ، وَلَا يَبْقَى مَوْقُوفًا، لِأَنَّهُ مُنَادًى مُقْبَلٌ عَلَيْهِ، مَعَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَحْقِيرٌ، وَيُمْتَنَعُ ذَلِكَ فِي حَقِّ النُّبُوَّةِ. وَقَوْلُهُ: كَمَا قَالُوا فِي الْقَسَمِ مُ اللَّهِ فِي ايْمُنُ اللَّهِ، هَذَا قَوْلٌ. وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مُ حَرْفُ قَسَمٍ وَلَيْسَ مبقى من أيمن. وقرىء: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِمَالَتِهَا مَحْضًا، وَبَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِسُكُونِ النُّونِ مُدْغَمَةً فِي الْوَاوِ وَمِنَ السَّبْعَةِ: الْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَوَرْشٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: مُظْهَرَةٌ عِنْدَ بَاقِي السَّبْعَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى: بِفَتْحِ النُّونِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يس قَسَمٌ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فَقِيَاسُ هَذَا الْقَوْلِ فَتْحُ النُّونِ، كَمَا تَقُولُ: اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّصْبُ، كَأَنَّهُ قَالَ: اتْلُ يس، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ. وَقَرَأَ الْكَلْبِيُّ: بِضَمِّ النُّونِ، وَقَالَ هي بلغة طيء: يَا إِنْسَانُ. وَقَرَأَ السَّمَّاكُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا: بِكَسْرِهَا قِيلَ:
وَالْحَرَكَةُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَالْفَتْحُ كَائِنٌ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ وَالضَّمِّ كَحَيْثُ، وَالْكَسْرُ عَلَى أَصْلِ الْتِقَائِهِمَا. وَإِذَا قِيلَ أَنَّهُ قَسَمٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعْرَبًا بِالنَّصْبِ عَلَى مَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ نَحْوُ: أَمَانَةُ اللَّهِ لَأَقُومَنَّ، وَالْجَرَّ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَالْحَكِيمِ: إِمَّا فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ، كَمَا تَقُولُ: عقدت العسل فهو عقيد: أَيْ مُعْقَدٌ، وَإِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ حَاكِمٍ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى السَّبَبِ، أَيْ ذِي حِكْمَةٍ. عَلى صِراطٍ:
خَبَرُ ثَانٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُرْسَلِينَ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ، وَالْأَشْهَبُ، وَعِيسَى: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ:
48
تَنْزِيلَ، بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْأَعْمَشُ: بِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ تَنْزِيلٌ وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْيَزِيدِيُّ، والقورصي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةَ بِالْخَفْضِ إِمَّا عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِمَّا عَلَى الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ. لِتُنْذِرَ: مُتَعَلِّقٌ بِتَنْزِيلَ أَوْ بِأَرْسَلْنَا مُضْمَرَةً. مَا أُنْذِرَ، قَالَ عِكْرِمَةُ: بِمَعْنَى الَّذِي، أَيِ الشَّيْءُ الَّذِي أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَمَا مَفْعُولٌ ثان، كقوله: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
«١». قَالَ ابن عطية: ويحتمل أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ، وَالْآبَاءُ عَلَى هَذَا هُمُ الْأَقْدَمُونَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكَانَتِ النذارة فيهم. وفَهُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِمَعْنَى فَإِنَّهُمْ، دَخَلَتِ الْفَاءُ لِقَطْعِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِلَةً، فَتَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ:
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. لِتُنْذِرَ، كَمَا تَقُولُ: أَرْسَلْتُكَ إِلَى فُلَانٍ لِتُنْذِرَهُ، فَإِنَّهُ غَافِلٌ، أَوْ فَهُوَ غَافِلٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا نَافِيَةٌ، أَيْ أَنَّ آبَاءَهُمْ لَمْ يُنْذَرُوا، فَآبَاؤُهُمْ على هذا هم القربيون مِنْهُمْ، وَمَا أُنْذِرَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ غَيْرُ مُنْذَرٍ آبَاؤُهُمْ، وَفَهُمْ غَافِلُونَ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّفْيِ، أَيْ لَمْ يُنْذَرُوا فَهُمْ غَافِلُونَ، عَلَى أَنَّ عَدَمَ إِنْذَارِهِمْ هُوَ سَبَبُ غَفْلَتِهِمْ. وَبِاعْتِبَارِ الْآبَاءِ فِي الْقِدَمِ وَالْقُرْبِ يَزُولُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِنْذَارِ وَنَفْيِهِ.
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَوْلَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «٢». وَقِيلَ: لَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وُجُوبُ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: حَقَّ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ وَبَانَ بُرْهَانُهُ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا الْآيَةَ هُوَ حَقِيقَةٌ لَا اسْتِعَارَةٌ. لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ يُضْعِفُ هَذَا، لِأَنَّ بَصَرَ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّمَا هُوَ حَدِيدٌ يَرَى قُبْحَ حَالِهِ. انْتَهَى، وَلَا يُضَعَّفُ هَذَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً «٣»، وَقَوْلِهِ: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى «٤» ؟ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «٥»، كِنَايَةٌ عَنْ إِدْرَاكِهِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يُبْصِرُهُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: ذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ: اسْتِعَارَةٌ لِحَالَةِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ أَرَادُوا الرَّسُولَ بِسُوءٍ، جَعَلَ اللَّهُ هَذَا لَهُمْ مَثَلًا فِي كَفِّهِ إِيَّاهُمْ عَنْهُ، وَمَنْعِهِمْ مِنْ أَذَاهُ حِينَ بَيَّتُوهُ. وقال
(١) سورة النبأ: ٧٨/ ٤٠.
(٢) سورة هود: ١١/ ١١٩.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٧.
(٤) سورة طه: ٢٠/ ١٢٥. [.....]
(٥) سورة ق: ٥٠/ ٢٢.
49
الضَّحَّاكُ، وَالْفَرَّاءُ: اسْتِعَارَةٌ لِمَنْعِهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ «١» وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ حِينَ أَرَادَ أَبُو جَهْلٍ ضَرْبَهُ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُوَاطِنِ، فَمَنَعَهُ اللَّهُ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
فَرُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ حَمَلَ حَجَرًا لِيَدْفَعَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَانْثَنَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ حَتَّى عَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَالْحَجَرُ فِي يَدِهِ قَدْ لَزِقَ، فَمَا فَكُّوهُ إِلَّا بِجُهْدٍ، فَأَخَذَ آخَرَ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الرَّسُولِ، طَمَسَ اللَّهُ بَصَرَهُ فَلَمْ يَرَهُ، فَعَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَمْ يُبْصِرْهُمْ حَتَّى نَادَوْهُ
، فَجَعْلُ الْغُلِّ يَكُونُ اسْتِعَارَةً عَنْ مَنْعِ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَلَمَّا كَانَ أَصْحَابُ أَبِي جَهْلٍ رَاضِينَ بِمَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ، فنسب ذلك إلى الجمع. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: اسْتِعَارَةٌ لِمَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَحَوْلِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي الْأَزَلِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْمَنْعِ وَإِحَاطَةِ الشَّقَاوَةِ مَا حَالُهُمْ مَعَهُ حَالُ الْمَغْلُولِينَ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَثَّلَ تَصْمِيمَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى دَعْوَاهُمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ كَالْمَغْلُولِينَ الْمُقْمَحِينَ فِي أَنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الْحَقِّ وَلَا يَعْطِفُونَ أَعْنَاقَهُمْ نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم لَهُ، وَكَالْحَاصِلِينَ بَيْنَ سَدَّيْنِ لَا يُبْصِرُونَ مَا قُدَّامَهُمْ وَلَا مَا خَلْفَهُمْ فِي أَنْ لَا تَأْمُّلَ لَهُمْ وَلَا يُبْصِرُونَ، أَنَّهُمْ مُتَعَامُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ اسْتِعَارَةٌ لِمَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ؟ وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ مَثَّلَ تَصْمِيمَهُمْ وَنِسْبَتُهُ الْأَفْعَالَ الَّتِي يَعْدُهَا إِلَيْهِمْ لَا إِلَى اللَّهِ.
وَالْغُلُّ مَا أَحَاطَ بِالْعُنُقِ عَلَى مَعْنَى التَّعْنِيفِ وَالتَّضْيِيقِ وَالتَّعْذِيبِ وَالْأَسْرِ، وَمَعَ الْعُنُقِ الْيَدَانِ أَوِ الْيَدُ الْوَاحِدَةُ عَلَى مَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي فَهِيَ إِلَى الْأَغْلَالِ، لِأَنَّهَا هِيَ الْمَذْكُورَةُ وَالْمُحَدَّثُ عَنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ عَرِيضَةٌ تَبْلُغُ بِحَرْفِهَا الْأَذْقَانَ، وَالذَّقَنُ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ، فَيَضْطَرُّ الْمَغْلُولُ إِلَى رَفْعِ وَجْهِهِ نَحْوُ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِقْمَاحُ، وَهُوَ نَحْوُ الْإِقْنَاعِ فِي الْهَيْئَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَغْلَالُ وَأَصْلُهُ إِلَى الْأَذْقَانِ مَكْزُوزَةٌ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ طَوْقَ الْغُلِّ الَّذِي هُوَ عُنُقُ الْمَغْلُولِ يَكُونُ فِي مُلْتَقَى طَرَفَيْهِ تَحْتَ الذَّقَنِ حَلْقَةٌ فِيهَا رَأْسُ الْعَمُودِ نَادِرًا مِنَ الْحَلْقَةِ إِلَى الذَّقَنِ، فَلَا تُخَلِّيهِ يطاطىء رأسه ويوطىء قَذَالَهُ، فَلَا يَزَالُ مُقْمَحًا. انْتَهَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْقَمْحُ الَّذِي يَغُضُّ بَصَرَهُ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ نَحْوَهُ قَالَ: يُقَالُ قَمَحَ الْبَعِيرُ رَأْسَهُ عَنْ رَيٍّ وَقَمَحَ هُوَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَمَحَ قُمُوحًا: رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ الْحَوْضِ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَالْجَمْعُ قِمَاحٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ بِشْرٍ يَصِفُ مَيْتَةَ أحدهم ليدفنها:
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٢٩.
50
وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ نَغُضُّ الطَّرْفَ كَالْإِبِلِ الْقِمَاحِ
وَقَالَ اللَّيْثُ: هُوَ رَفْعُ الْبَعِيرِ رَأْسَهُ إِذَا شَرِبَ الْمَاءَ الْكَرِيهَ ثُمَّ يَعُودُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِلْكَانُونَيْنِ شَهْرَا قِمَاحٍ، لِأَنَّ الْإِبِلَ إِذَا وردت الماء ترفع رؤوسها لِشِدَّةِ بَرْدِهِ، وَأَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ بَيْتَ الْهُذَلِيِّ:
فَتًى مَا ابْنُ الْأَعَزِّ إِذَا شَتَوْنَا وَحُبَّ الزَّادُ فِي شَهْرَيْ قُمَاحِ
رَوَاهُ بِضَمِّ الْقَافِ، وَابْنُ السِّكِّيتِ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَسُمِّيَا شَهْرَيْ قِمَاحٍ لِكَرَاهَةِ كُلِّ ذِي كَبِدٍ شُرْبَ الْمَاءِ فِيهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْقَامِحُ: الطَّافِحُ بِبَصَرِهِ إِلَى مَوْضِعِ قَدَمِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّافِعُ الرَّأْسَ، الْوَاضِحُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الضَّمِيرُ فِي فَهِيَ عَائِدٌ عَلَى الْأَيْدِي، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ، لِوُضُوحِ مَكَانِهَا مِنَ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْغُلُّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعُنُقِ مَعَ الْيَدَيْنِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْغُلُّ جَامِعَةً لِجَمْعِهِ الْيَدَ وَالْعُنُقَ.
وَأَرَى عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، النَّاسَ الْأَقْمَاحَ، فَجَعَلَ يَدَيْهِ تَحْتَ لِحْيَيْهِ وَأَلْصَقَهُمَا وَرَفَعَ رَأْسَهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
جَعَلَ الْأَقْمَاحَ نَتِيجَةَ قَوْلِهِ: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ. وَلَوْ كَانَ الضَّمِيرُ لِلْأَيْدِي، لَمْ يَكُنْ مَعْنَى التَّسَبُّبِ فِي الْأَقْمَاحِ ظَاهِرًا. عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِضْمَارَ فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّعَسُّفِ وَتَرْكِ الظَّاهِرِ الَّذِي يَدْعُوهُ الْمَعْنَى إِلَى نَفْسِهِ إِلَى الْبَاطِلِ الَّذِي يَجْفُو عَنْهُ تَرْكٌ لِلْحَقِّ الْأَبْلَجِ إِلَى الْبَاطِلِ اللَّجْلَجِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ: سَدًّا بِفَتْحِ السِّينِ فِيهِمَا وَالْجُمْهُورُ: بِالضَّمِّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ السَّدِّ فِي الْكَهْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَغْشَيْناهُمْ بَالْغَيْنِ مَنْقُوطَةً وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَعِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَيَزِيدُ الْبَرْبَرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ مِقْسَمٍ:
بِالْعَيْنِ مِنَ الْعَشَاءِ، وَهُوَ ضَعْفُ الْبَصَرِ، جَعَلْنَا عَلَيْهَا غِشَاوَةً. وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا تَفْسِيرًا وَإِعْرَابًا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ.
إِنَّما تُنْذِرُ: تَقَدَّمَ لِتُنْذِرَ قَوْماً، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَحْتُومًا عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا حَتَّى قَالَ: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، لَمْ يُجْدِ الْإِنْذَارُ لِانْتِفَاءِ مَنْفَعَتِهِ فَقَالَ: إِنَّما تُنْذِرُ: أَيْ إِنْذَارًا يَنْفَعُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. قَالَ قَتَادَةُ: أَوِ الْوَعْظُ. وَخَشِيَ الرَّحْمنَ: أَيِ الْمُتَّصِفَ بِالرَّحْمَةِ، مَعَ أَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ تَعُودُ إِلَى الرَّجَاءِ، لكنه مع بِرَحْمَتِهِ هُوَ يَخْشَاهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَسْلُبَهُ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ بِالْغَيْبِ، أي بالخلوة عند معيب
51
الْإِنْسَانِ عَنْ غُيُوبِ الْبَشَرِ. وَلَمَّا أَحْدَثَ فِيهِ النِّذَارَةَ، بَشَّرَهُ بِمَغْفِرَةٍ لِمَا سَلَفَ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ عَلَى مَا أَسْلَفَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الرِّسَالَةَ، وَهِيَ أَحَدُ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ الْمُكَلَّفُ مُؤْمِنًا، ذَكَرَ الْحَشْرَ، وَهُوَ أَحَدُ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ. وَالثَّالِثُ هُوَ تَوْحِيدٌ، فقال: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى: أَيْ بَعْدِ مَمَاتِهِمْ. وَأَبْعَدَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: إِحْيَاؤُهُمْ: إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى الْإِيمَانِ. وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا، كِنَايَةٌ عَنِ الْمُجَازَاةِ: أَيْ وَنُحْصِي، فَعَبَّرَ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِأَعْمَالِهِمْ بِالْكِتَابَةِ الَّتِي تُضْبَطُ بِهَا الْأَشْيَاءُ. وَقَرَأَ زِرٌّ وَمَسْرُوقٌ: وَيُكْتَبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارُهُمْ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَمَا قَدَّمُوا مِنَ الْأَعْمَالِ. وَآثَارُهُمْ: خُطَاهُمْ إِلَى الْمَسَاجِدِ.
وَقَالَ: السِّيَرُ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ. وَقِيلَ: مَا قَدَّمُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ وَآثَارِهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ الزمخشري: ونكتب مَا أَسْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ غَيْرَهَا، وَمَا هَلَكُوا عَنْهُ مِنْ أَثَرٍ حَسَنٍ، كَعِلْمٍ عَلَّمُوهُ، وَكِتَابٍ صَنَّفُوهُ، أَوْ حَبِيسٍ أَحَبَسُوهُ، أَوْ بِنَاءٍ بَنَوْهُ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ سيء كَوَظِيفَةٍ وَظَّفَهَا بَعْضُ الظُّلَّامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَسِكَّةٍ أَحْدَثَهَا فِيهَا تَحَيُّرُهُمْ، وَشَيْءٍ أَحْدَثَ فِيهِ صَدٌّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مِنْ أَلْحَانٍ وَمَلَاهٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ، أَوْ سَيِّئَةٍ يُسْتَنُّ بِهَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
«١»، مِنْ آثَارِهِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكُلَّ شَيْءٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ.
وَالْإِمَامُ الْمُبِينُ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَرَادَ صُحُفَ الْأَعْمَالِ.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ، قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ، وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ.
(١) سورة القيامة: ٨٥/ ١٣.
52
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اضْرِبْ مَعَ الْمَثَلُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً «١»، وَالْقَرْيَةُ: أَنْطَاكِيَةُ، فَلَا خِلَافَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ. إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ: هُمْ ثَلَاثَةٌ، جَمَعَهُمْ فِي الْمَجِيءِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي زَمَنِ الْمَجِيءِ. إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ.
الظَّاهِرُ مِنْ أَرْسَلْنَا أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ أَرْسَلَهُمُ الله، ويدل عليه قوله الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا. وَهَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَعْبٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ: بَعَثَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رُفِعَ وَصُلِبَ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ الشَّبَهُ، فَافْتَرَقَ الْحَوَارِيُّونَ فِي الْآفَاقِ، فَقَصَّ اللَّهُ قِصَّةَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَ أَهْلُهَا عُبَّادَ أَصْنَامٍ، صَادِقٌ وَصَدُوقٌ، قَالَهُ وَهْبٌ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَحَكَى النَّقَّاشُ بْنُ سَمْعَانَ:
وَيُحَنَّا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تُومَانُ وَيُونُسُ. فَكَذَّبُوهُما، أَيْ دَعْوَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَأَخْبَرَا بِأَنَّهُمَا رَسُولَا اللَّهِ، فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ: أَيْ قَوَّيْنَا وَشَدَّدْنَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَقَالَ:
يُقَالُ تَعَزَّزَ لَحْمُ النَّاقَةِ إِذَا صَلُبَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ الْمَطَرُ يُعَزِّزُ الْأَرْضَ إِذَا لَبَدَهَا وَشَدَّهَا، وَيُقَالُ لِلْأَرْضِ الصُّلْبَةِ الْقُرْآنُ، هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيدِ الزَّايِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْمُفَضَّلُ، وَأَبَانٌ: بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فَغَلَبْنَا.
انْتَهَى، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ مَنْ عَزَّنِي، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «٢». وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: بِالثَّالِثِ، بِأَلِفٍ وَلَامٍ، وَالثَّالِثُ شَمْعُونُ الصَّفَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ كَعْبٌ، وَوَهْبٌ: شَلُومُ وَقِيلَ: يُونُسُ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ فَعَزَّزْنَا مُشَدَّدًا، أَيْ قَوَّيْنَاهُمَا بِثَالِثٍ مُخَفَّفًا، فَغَلَبْنَاهُمْ: أَيْ بِحُجَّةِ ثَالِثٍ وَمَا يَلْطُفُ بِهِ مِنَ التَّوَصُّلِ إِلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى مِنَ الْمَلِكِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي قِصَّتِهِمْ، وَسَتَأْتِي هِيَ أَوْ بَعْضٌ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَجَاءَ أَوَّلًا مُرْسَلُونَ بِغَيْرِ لَامٍ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إِخْبَارٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَوْكِيدٍ بَعْدَ الْمُحَاوَرَةِ. لَمُرْسَلُونَ بِلَامِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ إِنْكَارٍ، وَهَؤُلَاءِ أُمَّةٌ أَنْكَرَتِ النُّبُوَّاتِ بِقَوْلِهَا: وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ، وراجعتهم الرُّسُلُ بِأَنْ رَدُّوا الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ وَقَنَعُوا بِعِلْمِهِ، وَأَعْلَمُوهُمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَلَيْهِمُ الْبَلَاغُ فَقَطْ، وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ هُدَاهُمْ وَضَلَالِهِمْ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ. وَوُصِفَ الْبَلَاغُ بِالْمُبِينِ، وَهُوَ الْوَاضِحُ بِالْآيَاتِ الشَّاهِدَةِ بِصِحَّةِ الْإِرْسَالِ، كَمَا رُوِيَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ مِنْ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ.
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ: أي تشاء منا. قَالَ مُقَاتِلٌ: احْتَبَسَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَسْرَعَ فِيهِمُ الْجُذَامُ عِنْدَ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَطَيُّرَ هَؤُلَاءِ كان
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦.
(٢) سورة ص: ٣٨/ ٢٣.
53
سَبَبَ مَا دَخَلَ فِيهِمْ مِنِ اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَافْتِتَانِ النَّاسِ، وَهَذَا عَلَى نَحْوِ تَطَيُّرِ قُرَيْشٍ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى نَحْوِ مَا خُوطِبَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَرِهُوا دِينَهُمْ وَنَفَرَتْ مِنْهُ نُفُوسُهُمْ، وَعَادَةُ الْجُهَّالِ أَنْ يَتَمَنَّوْا بِكُلِّ شَيْءٍ مَالُوا إِلَيْهِ واشتهوه وقبلته طباعهم، وتشاءموا بِمَا نَفَرُوا عَنْهُ وَكَرِهُوهُ، فَإِنْ أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ أَوْ بَلَاءٌ قَالُوا: بِبَرَكَةِ هَذَا وَبِشُؤْمِ هَذَا، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْقِبْطِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ «١» وعن مشركي مَكَّةَ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ «٢». انْتَهَى. وَعَنْ قَتَادَةَ: إِنْ أَصَابَنَا شَيْءٌ كَانَ مِنْ أجلكم. لَنَرْجُمَنَّكُمْ بِالْحِجَارَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. عَذابٌ أَلِيمٌ: هُوَ الْحَرِيقُ.
قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ: أَيْ حَظُّكُمْ وَمَا صَارَ لَكُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مَعَكُمْ، أَيْ مِنْ أَفْعَالِكُمْ، لَيْسَ هُوَ مِنْ أَجْلِنَا بَلْ بِكُفْرِكُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَزَرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: طَيْرُكُمْ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الطَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا نَقَلَ: اطَّيُّرْكُمْ مَصْدَرُ اطَّيَّرَ الَّذِي أَصْلُهُ تَطَيَّرَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، فَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ فِي الْمَاضِي وَالْمَصْدَرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: طَائِرُكُمْ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بِهَمْزَتَيْنِ، الْأُولَى هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالثَّانِيَةُ هَمْزَةُ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، فَخَفَّفَهَا الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ، وَسَهَّلَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ.
وَقَرَأَ زِرٌّ: بِهَمْزَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَطَلْحَةِ، إِلَّا إِنَّهَا الْبِنَاءُ الثَّانِيَةُ بَيْنَ بَيْنَ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي تَحْقِيقِهَا:
أَإِنْ كُنْتَ دَاوُدَ بْنَ أَحْوَى مَرْحَلَا فَلَسْتُ بِدَاعٍ لِابْنِ عَمِّكَ مَحْرَمَا
وَالْمَاجِشُونِيُّ، وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَدَنِيُّ:
بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَالْحَسَنُ: بِهَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ، وَزِرٌّ أَيْضًا: بِمَدَّةٍ قَبْلَ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ، استثقل اجتماعهما ففضل بَيْنَهُمَا بِأَلِفٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ، وَعِيسَى الْهَمْدَانِيُّ، وَالْأَعْمَشُ: أَيْنَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ، وَفَتْحِ النُّونِ ظَرْفَ مَكَانٍ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عِيسَى الثَّقَفِيِّ أَيْضًا. فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى عَلَى مَعْنَى: إِنْ ذُكِّرْتُمْ تَتَطَيَّرُونَ، بِجَعْلِ الْمَحْذُوفِ مَصَبَّ الِاسْتِفْهَامِ، عَلَى مَذْهَبِ سيبويه، وبجعله لِلشَّرْطِ، عَلَى مَذْهَبِ يُونُسَ فَإِنْ قَدَّرْتَهُ مُضَارِعًا كَانَ مَجْزُومًا. وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى مَعْنَى: أَلَإِنْ ذُكِّرْتُمْ تَطَيَّرْتُمْ، فَإِنْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَكَذَلِكَ الْهَمْزَةُ الْوَاحِدَةُ الْمَفْتُوحَةُ وَالَّتِي بِمَدَّةٍ قَبْلَ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَقِرَاءَةُ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ وَحْدَهَا، فَحَرْفُ شَرْطٍ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، أَيْ إِنْ ذُكِّرْتُمْ
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٣١.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٧٨.
54
تَطَيَّرْتُمْ. وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ الْأَخِيرَةُ أَيْنَ فِيهَا ظَرْفُ أَدَاةِ الشَّرْطِ، حُذِفَ جَزَاؤُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ: أَيْنَ ذُكِّرْتُمْ صَحِبَكُمْ طَائِرُكُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ. وَمَنْ جَوَّزَ تَقْدِيمَ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، وَهُمُ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو زَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ طائِرُكُمْ مَعَكُمْ، وَكَانَ أَصْلُهُ: أَيْنَ ذُكِّرْتُمْ فَطَائِرُكُمْ مَعَكُمْ، فَلَمَّا قُدِّمَ حُذِفَتِ الْفَاءُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذُكِّرْتُمْ، بِتَشْدِيدِ الْكَافِ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ، وَطَلْحَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْأَعْمَشُ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ: بِتَخْفِيفِهَا. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ: مُجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي ضَلَالِكُمْ، فَمَنْ ثَمَّ أَتَاكُمُ الشؤم.
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى اسْمُهُ حَبِيبٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ. قِيلَ: وَهُوَ ابْنُ إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ قَصَّارًا، وَقِيلَ: إِسْكَافًا، وَقِيلَ: كَانَ يَنْحِتُ الْأَصْنَامَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِهَذِهِ الصَّنَائِعِ. ومِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ: أَيْ مِنْ أَبْعَدِ مَوَاضِعِهَا. فَقِيلَ: كَانَ فِي خَارِجِ الْمَدِينَةِ يُعَانِي زَرْعًا لَهُ. وَقِيلَ:
كَانَ فِي غَارٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ. وَقِيلَ: كَانَ مَجْذُومًا، فَمَيَّزَ لَهُ أَقْصَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا، عَبَدَ الْأَصْنَامَ سَبْعِينَ سَنَةً يَدْعُوهُمْ لِكَشْفِ ضُرِّهِ. فَلَمَّا دَعَاهُ الرُّسُلُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ قَالَ: هَلْ مِنْ آيَةٍ؟ قَالُوا:
نَعَمْ، نَدْعُو رَبَّنَا الْقَادِرَ يُفَرِّجُ عَنْكَ مَا بِكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعَجِيبٌ! لِي سَبْعُونَ سَنَةً أَدْعُو هَذِهِ الْآلِهَةَ فَلَمْ تَسْتَطِعْ، يُفَرِّجُهُ رَبُّكُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَبُّنَا عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ، وَهَذِهِ لَا تَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا تَضُرُّ، فَآمَنَ. وَدَعَوْا رَبَّهُمْ، فَكَشَفَ اللَّهُ مَا بِهِ، كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ.
فَأَقْبَلَ عَلَى التَّكَسُّبِ، فَإِذَا مَشَى، تَصَدَّقَ بِكَسْبِهِ، نِصْفٌ لِعِيَالِهِ، وَنِصْفٌ يُطْعِمُهُ. فلماهم قَوْمُهُ بِقَتْلِ الرُّسُلِ جَاءَهُمْ فَقَالَ: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. وَحَبِيبٌ هَذَا مِمَّنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيْنَهُمَا سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ، كَمَا آمَنَ بِهِ تُبَّعٌ الْأَكْبَرُ، وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِنَبِيٍّ غَيْرِهِ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: سُبَّاقُ الْأُمَمِ ثَلَاثَةٌ، لَمْ يَكْفُرُوا قَطُّ طَرْفَةَ عَيْنٍ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَصَاحِبُ يس، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ.
وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ قَبْلُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ كَانَ مَجْذُومًا، عَبَدَ الْأَصْنَامَ سَبْعِينَ سَنَةً، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُنَا تَقَدَّمَ: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَفِي الْقِصَصِ تَأَخَّرَ، وَهُوَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْبَلَاغَةِ. رَجُلٌ يَسْعى: يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْهِ. قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ إِيمَانِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي قِصَّةِ.
وَقِيلَ: جَاءَ عِيسَى وَسَمِعَ قَوْلَهُمْ وَفَهِمَهُ فِيمَا فَهِمَهُ. رُوِيَ أَنَّهُ تَعَقَّبَ أَمْرَهُمْ وَسَبَرَهُ بِأَنْ قَالَ لَهُمْ: أَتَطْلُبُونَ أَجْرًا عَلَى دَعْوَتِكُمْ هَذِهِ؟ قَالُوا: لَا، فَدَعَا عِنْدَ
55
ذَلِكَ قَوْمَهُ إِلَى اتِّبَاعِهِمْ وَالْإِيمَانِ بِهِمْ
، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ: أَيْ وهم عَلَى هُدًى مِنَ اللَّهِ. أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ هُمْ رُسُلُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَاتَّبِعُوهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِجُمَلَةٍ جَامِعَةٍ فِي التَّرْغِيبِ، فِي كَوْنِهِمْ لَا يَنْقُصُ مِنْهُمْ مِنْ حُطَامِ دُنْيَاهُمْ شَيْءٌ، وَفِي كَوْنِهِمْ يَهْتَدُونَ بِهُدَاهُمْ، فَيَشْتَمِلُونَ عَلَى خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي مَنْ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْمُرْسَلِينَ، ظَهَرَ فِيهِ الْعَامِلُ كَمَا ظَهَرَ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ «١».
وَالْجُمْهُورُ: لَا يُعْرِبُونَ مَا صُرِّحَ فِيهِ بِالْعَامِلِ الرَّافِعِ وَالنَّاصِبِ، بَدَلًا، بَلْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِحَرْفِ الْجَرِّ. وَإِذَا كَانَ الرَّافِعُ وَالنَّاصِبُ، سمعوا ذَلِكَ بِالتَّتْبِيعِ لَا بِالْبَدَلِ. وَفِي قَوْلِهِ:
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً، دَلِيلٌ عَلَى نَقْصِ مَنْ يَأْخُذُ أَجْرًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الشَّرْعِ الَّتِي هِيَ لَازِمَةٌ لَهُ، كَالصَّلَاةِ.
وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ، أَخَذَ يُبْدِي الدَّلِيلَ فِي اتِّبَاعِهِمْ وَعِبَادَةِ اللَّهِ، فَأَبْرَزَهُ فِي صُورَةِ نُصْحِهِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ نُصْحَهُمْ لِيَتَلَطَّفَ بِهِمْ وَيُرَادُ بِهِمْ وَلِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي إِمْحَاضِ النُّصْحِ حَيْثُ لَا يُرِيدُ لَهُمْ إِلَّا مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ، فَوَضَعَ قَوْلَهُ: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، مَوْضِعَ: وَمَا لَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَلَوْلَا أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ لَقَالَ: وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ. ثُمَّ أَتْبَعَ الْكَلَامَ كَذَلِكَ مُخَاطِبًا لِنَفْسِهِ فَقَالَ: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قَاصِرَةً عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ؟ فَإِنْ أَرَادَكُمُ اللَّهُ بِضُرٍّ، وَشَفَعَتْ لَكُمْ، لَمْ تَنْفَعْ شَفَاعَتُهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إِنْقَاذِكُمْ فِيهِ، أَوَّلًا بِانْتِفَاءِ الْجَاهِ عَنْ كَوْنِ شَفَاعَتِهِمْ لَا تَنْفَعُ، ثُمَّ ثَانِيًا بِانْتِفَاءِ الْقَدْرِ. فَعَبَّرَ بِانْتِفَاءِ الْإِنْقَاذِ عَنْهُ، إِذْ هُوَ نَتِيجَتُهُ. وَفَتَحَ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ فِي يُرِدْنِيَ مَعَ طَلْحَةَ السَّمَّانُ، كَذَا فِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ طَلْحَةُ بْنُ مُطَرِّفٍ، وَعِيسَى الهمداني، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وَأَبِي عَمْرٍو. وقال الزمخشري:
وقرىء إِنْ يَرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ بِمَعْنَى: إِنْ يَجْعَلْنِي مُورِدًا لِلضُّرِّ. انْتَهَى. وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ رَأْيٌ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ، يَرِدْنِي بِفَتْحِ الْيَاءِ، فَتَوَهَّمَ أَنَّهَا يَاءُ الْمُضَارَعَةِ، فَجَعَلَ الْفِعْلَ مُتَعَدِّيًا بِالْيَاءِ الْمُعَدِّيَةِ كَالْهَمْزَةِ، فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ عَلَيْهِ هَمْزَةَ التَّعْدِيَةِ، وَنَصَبَ بِهِ اثْنَيْنِ. وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْقُرَّاءِ الشَّوَاذِّ أَنَّهَا يَاءُ الْإِضَافَةِ الْمَحْذُوفَةِ خَطًّا وَنُطْقًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ فِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ: بِفَتْحِ يَاءِ الْإِضَافَةِ. وَقَالَ فِي اللَّوَامِحِ: إِنْ يَرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ أَصْلُ الْيَاءِ عِنْدَ الْبَصَرِيَّةِ، لَكِنْ هَذِهِ مَحْذُوفَةٌ، يَعْنِي الْبَصَرِيَّةَ، أَيِ الْمُثْبَتَةَ بِالْخَطِّ الْبَرْبَرِيِّ بالبصر،
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ٣٣.
56
لِكَوْنِهَا مَكْتُوبَةً بِخِلَافِ الْمَحْذُوفَةِ خَطًّا وَلَفْظًا، فَلَا تُرَى بِالْبَصَرِ. إِنِّي إِذاً، إِنْ لَمْ أَعْبُدِ الَّذِي فَطَرَنِي وَاتَّخَذْتُ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ، فِي حَيْرَةِ وَاضِحَةٍ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ صَحِيحٍ.
ثُمَّ صَرَّحَ بِإِيمَانِهِ وَصَدَعَ بِالْحَقِّ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لِقَوْمِهِ: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ: أَيِ الَّذِي كَفَرْتُمْ بِهِ، فَاسْمَعُونِ: أَيِ اسْمَعُوا قَوْلِي وَأَطِيعُونِ، فَقَدْ نَبَّهْتُكُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمَنْ مِنْهُ نَشْأَتُكُمْ وَإِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ بِالْكَافِ وَالْمِيمِ وَبِالْوَاوِ، وَهُوَ لِقَوْمِهِ، وَالْأَمْرُ عَلَى جِهَةِ المبالغة والتنبيه، قاله ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ وَوَهْبٌ.
وَقِيلَ: خَاطَبَ بِقَوْلِهِ فَاسْمَعُونِ الرُّسُلَ، عَلَى جِهَةِ الِاسْتِشْهَادِ بِهِمْ وَالِاسْتِحْفَاظِ لِلْأَمْرِ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ فِي بِرَبِّكُمْ، وَفِي فَاسْمَعُونِ لِلرُّسُلِ. لَمَّا نَصَحَ قَوْمَهُ أَخَذُوا يَرْجُمُونَهُ، فَأَسْرَعَ نَحْوَ الرُّسُلِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ فَقَالَ ذَلِكَ، أَيِ اسْمَعُوا إِيمَانِي وَاشْهَدُوا لِي بِهِ.
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَجَبَتْ لَكَ الْجَنَّةُ، فَهُوَ خَبَرٌ بِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ دُخُولَهَا، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْبَعْثِ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ قُتِلَ. فَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا أَرَادَ قَوْمُهُ قَتْلَهُ، رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَمُوتُ إِلَّا بِفَنَاءِ السموات وهلاكه الْجَنَّةِ، فَإِذَا أَعَادَ اللَّهُ الْجَنَّةَ دَخَلَهَا. وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ ذَلِكَ، رَفَعُوهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَطَوَّلَ مَعَهُمُ الْكَلَامَ لِيُشْغِلَهُمْ عَنْ قَتْلِ الرُّسُلِ إِلَى أَنْ صَرَّحَ لَهُمْ بِإِيمَانِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ بِوَطْءِ الْأَرْجُلِ حَتَّى خَرَجَ قَلْبُهُ مِنْ دُبُرِهِ وَأُلْقِيَ فِي بِئْرٍ، وَهِيَ الرَّسُّ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: رَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي»، حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: رَمَوْهُ فِي حُفْرَةٍ، وَرَدُّوا التُّرَابَ عَلَيْهِ فَمَاتَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: حَرَقُوهُ حَرْقًا، وَعَلَّقُوهُ فِي بَابِ الْمَدِينَةِ، وَقَبْرُهُ فِي سُورِ أَنْطَاكِيَةَ. وَقِيلَ: نَشَرُوهُ بِالْمَنَاشِيرِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَهُوَ فِيهَا حَيٌّ يُرْزَقُ. أَرَادَ قَوْلَهُ تَعَالَى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ «١» :
وَفِي النُّسْخَةِ الَّتِي طَالَعْنَا مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ مَا نَصَّهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاسْمَعُونَ بِفَتْحِ النُّونِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هَذَا خَطَأٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ، فَإِمَّا حَذْفُ النُّونِ، وَإِمَّا كَسْرُهَا عَلَى جِهَةِ الْبِنَاءِ. انْتَهَى، يَعْنِي يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ وَالنُّونُ لِلْوِقَايَةِ. وَقَوْلُهُ: وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَهْمٌ فَاحِشٌ، وَلَا يَكُونُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِلَّا مِنَ النَّاسِخِ بَلِ الْقُرَّاءُ مُجْمِعُونَ فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى كَسْرِ النُّونِ، سَبْعَتُهُمْ وَشَوَاذُّهُمْ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عِصْمَةَ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ فَتْحِ النُّونِ، ذَكَرَهُ فِي الْكَامِلِ مُؤَلِّفُ أَبِي الْقَاسِمِ الْهُذَلِيِّ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَهْمٌ مِنْ عِصْمَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنَا محذوف تواترت به
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٦٩، ١٧٠.
57
الْأَحَادِيثُ وَالرِّوَايَاتُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَقِيلَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، وَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، بِأَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ مِنْهَا، وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ مِنْ سَاكِنِيهَا، فَرَأَى مَا أَقَرَّ عَيْنَهُ، فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ، تَمَنَّى أَنْ يَعْلَمَ قَوْمُهُ بِذَلِكَ. انْتَهَى. وقوله: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ كَأَنَّهُ جَوَابٌ لِسَائِلٍ عَنْ حَالِهِ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّصَلُّبِ فِي دِينِهِ فَقِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ: قِيلَ لَهُ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ الْمُخَاطَبُ، وَتَمَنِّيهِ عِلْمَ قَوْمِهِ بِذَلِكَ هُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ عَنْ مَا وَجَدَ مِنْ قَوْلِهِ عِنْدَ ذَلِكَ اسْتِيفَاقًا وَنُصْحًا لَهُمْ، أَيْ لَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَآمَنُوا بِاللَّهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «نَصَحَ قَوْمَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا».
وَقِيلَ: تَمَنَّى ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى خَطَأٍ فِي أَمْرِهِ، وَهُوَ عَلَى صَوَابٍ، فَيَنْدَمُوا وَيُحْزِنَهُمْ ذَلِكَ وَيُبَشِّرَ بِذَلِكَ. وَمَوْجُودٌ فِي طِبَاعِ النشر أَنَّ مَنْ أَصَابَ خَيْرًا فِي غَيْرِ مَوْطِنِهِ، وَدَّ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ جِيرَانُهُ وَأَتْرَابُهُ الَّذِينَ نَشَأَ فِيهِمْ. وَبَلَغَنَا أَنَّ الْوَزِيرَ ذِنْكَ الدِّينِ الْمَسِيرِيَّ، وَكَانَ وَزِيرًا لِمَلِكِ مِصْرَ، رَاحَ إِلَى قَرْيَتِهِ الَّتِي كَانَ مِنْهَا، وَهِيَ مَسِيرُ، وَهِيَ مِنْ أَصْغَرِ قُرَى مِصْرَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَرَانِي عَجَائِزُ مَسِيرٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي أَنَا فِيهَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْعِزُّ مَطْلُوبٌ وَمُلْتَمَسٌ وَأَحَبُّهُ مَا نِيلَ فِي الْوَطَنِ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: بِما غَفَرَ لِي رَبِّي مَصْدَرِيَّةٌ، جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بِالَّذِي غَفَرَهُ لِي رَبِّي مِنَ الذُّنُوبِ، وَلَيْسَ هَذَا بِجَيِّدٍ، إِذْ يُؤَوَّلُ إِلَى تَمَنِّي عِلْمِهِمْ بِالذُّنُوبِ الْمُغْفَرَةِ، وَالَّذِي يَحْسُنُ تَمَنِّي عِلْمِهِمْ بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ وَجَعْلِهِ مِنَ الْمُكْرَمِينَ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَوْ صَحَّ هَذَا، يَعْنِي الِاسْتِفْهَامَ، لَقَالَ بِمَ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِمَا بِالْأَلِفِ، وَأَنْشَدَ فِيهِ أَبْيَاتًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، يَعْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ غَفَرَ لِي رَبِّي، يُرِيدُ مَا كَانَ مِنْهُ مَعَهُمْ مِنَ الْمُصَابَرَةِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ قَوْلَكَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي يُرِيدُ مَا كَانَ مِنْهُ مَعَهُمْ بِطَرْحِ الْأَلِفِ أَجْوَدُ، وَإِنْ كَانَ إِثْبَاتُهَا جَائِزًا فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ بِمَا صَنَعْتُ هَذَا وَبِمَ صَنَعْتُ. انْتَهَى. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَلِفِ فِي مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ جَرٍّ، مُخْتَصٌّ بِالضَّرُورَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
وَحَذْفُهَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْكَلَامِ، نَحْوُ قَوْلِهِ:
58
وقرىء: مِنَ الْمُكَرَّمِينَ، مُشَدَّدَ الرَّاءِ مَفْتُوحَ الْكَافِ وَالْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ.
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ، إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ، يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ، وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ، لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ، سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ، وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ، وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ.
أَخْبَرَ تَعَالَى بِإِهْلَاكِ قَوْمِ حَبِيبٍ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ صَاحَ بِهِمْ جِبْرِيلُ، وَفِي ذَلِكَ تَوَعُّدٌ لِقُرَيْشٍ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، إِذْ هُمُ الْمَضْرُوبُ لَهُمُ الْمَثَلُ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ عَلَيْهِمْ لِإِهْلَاكِهِمْ جُنْدًا مِنَ السَّمَاءِ، كَالْحِجَارَةِ وَالرِّيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانُوا أَهْوَنَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ، يَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَلَا عَاتَبَهُمْ بَعْدَ قَتْلِهِ، بَلْ عَاجَلَهُمْ بِالْهَلَاكِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ نَافِيَةٌ، فَالْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، أَيْ وَمَا كَانَ يَصِحُّ فِي حُكْمِنَا أَنْ نُنْزِلَ فِي إِهْلَاكِهِمْ جُنْدًا مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى هَلَاكَ كُلِّ قَوْمٍ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «١» الْآيَةَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَا اسْمٌ مَعْطُوفٌ عَلَى جُنْدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ مِنْ جُنْدٍ وَمِنَ الَّذِي كُنَّا مُنْزِلِينَ عَلَى الْأُمَمِ مِثْلِهِمْ. انْتَهَى، وَهُوَ تَقْدِيرٌ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مِنْ فِي مِنْ جُنْدٍ زَائِدَةٌ. وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ غَيْرُ الْأَخْفَشِ أَنَّ لِزِيَادَتِهَا شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا نَفْيٌ، أَوْ نَهْيٌ، أَوِ اسْتِفْهَامٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا نَكِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَلَى النَّكِرَةِ مَعْرِفَةً. لَا يَجُوزُ: مَا ضَرَبْتُ مِنْ رَجُلٍ وَلَا زَيْدٍ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ:
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤٠.
59
وَلَا مِنْ زَيْدٍ، وَهُوَ قَدَّرَ الْمَعْطُوفَ بِالَّذِي، وَهُوَ مَعْرِفَةٌ، فَلَا يُعْطَفُ عَلَى النَّكِرَةِ الْمَجْرُورَةِ بِمِنِ الزَّائِدَةِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا زَائِدَةٌ، أَيْ وَقَدْ كُنَّا مُنْزِلِينَ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَقَرَأَ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً، بِنَصْبِ الصَّيْحَةِ، وَكَانَ نَاقِصَةٌ وَاسْمُهَا مُضْمَرٌ، أَيْ إِنْ كَانَتِ الْأَخْذَةُ أَوِ الْعُقُوبَةُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَمُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ الْقَارِئُ: صَيْحَةٌ بِالرَّفْعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّ كَانَتْ تَامَّةٌ، أي ما خدثت أَوْ وَقَعَتْ إِلَّا صَيْحَةٌ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُلْحِقُ التَّاءَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى مَا بَعْدَ إِلَّا مِنْ الْمُؤَنَّثِ، لَمْ تَلْحَقِ الْعَلَامَةُ لِلتَّأْنِيثِ فَيَقُولُ: مَا قَامَ إِلَّا هِنْدٌ، وَلَا يَجُوزُ: مَا قَامَتْ إِلَّا هِنْدٌ، عِنْدَ أَصْحَابِنَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قِلَّةٍ. وَمِثْلُهُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَأَبِي رَجَاءٍ، وَالْجَحْدَرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَأَبِي بَحْرِيَّةَ: لَا تُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ بِالتَّاءِ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْيَاءِ، وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
وَمَا بَقِيَتْ إِلَّا الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ وَقَوْلُ الْآخَرِ:
عَلَى مَ يَقُولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ كَاهِلِي إِذَا أَنَا لَمْ أَطْعُنْ إِذَا الْخَيْلُ كَرَّتِ
مَا بَرِئَتْ مِنْ رِيبَةٍ وَذَمٍّ فِي حَرْبِنَا إِلَّا بَنَاتُ الْعَمِّ
فَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِمٍ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِسَبَبِ لُحُوقِ تَاءِ التَّأْنِيثِ. فَإِذا هُمْ خامِدُونَ: أَيْ فَاجَأَهُمُ الْخُمُودُ إِثْرَ الصَّيْحَةِ، لَمْ يَتَأَخَّرْ. وَكَنَّى بِالْخُمُودِ عَنْ سُكُوتِهِمْ بَعْدَ حَيَاتِهِمْ، كَنَارٍ خَمَدَتْ بَعْدَ تَوَقُّدِهَا. وَنِدَاءُ الْحَسْرَةِ عَلَى مَعْنَى هَذَا وَقْتُ حُضُورِكَ وَظُهُورِكَ، هَذَا تَقْدِيرُ نِدَاءٍ، مِثْلِ هَذَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ مُنَادًى مَنْكُورٌ عَلَى قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ: يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ
، عَلَى الْإِضَافَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَسْرَةُ مِنْهُمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَسْرَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ، لِمَا فَاتَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ حِينَ أُحْضِرُوا لِلْعَذَابِ وَطِبَاعُ الْبَشَرِ تَتَأَثَّرُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِ غَيْرِهِمْ وَتَتَحَسَّرُ عَلَيْهِمْ.
وَقَرَأَ أَبُو الزِّنَادِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ الْمَدَنِيُّ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَابْنُ جُنْدُبٍ: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ، بِسُكُونِ الْهَاءِ فِي الْحَالَيْنِ حَمَلَ فِيهِ الْوَصْلَ عَلَى الْوَقْفِ، وَوَقَفُوا عَلَى الْهَاءِ مُبَالَغَةً فِي التَّحَسُّرِ، لِمَا فِي الْهَاءِ مِنَ التَّأَهُّهِ كَالتَّأَوُّهِ، ثُمَّ وَصَلُوا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، قَالَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: يا حسرة على العباد بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، انْتَهَى، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ اجْتَزَأَ بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلِفُ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي النِّدَاءِ، كَمَا
60
اجْتَزَأَ بِالْكَسْرَةِ عَنِ الْيَاءِ فيه. وقد قرىء: يَا حَسْرَتَا، بِالْأَلِفِ، أَيْ يَا حَسْرَتِي، وَيَكُونُ مِنَ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ فِي مَعْنَى تَعْظِيمِ مَا جَنَوْهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَفَرْطِ إِنْكَارِهِ وَتَعْجِيبِهِ مِنْهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعِبَادَ هُمْ مُكَذِّبُو الرُّسُلِ، تَحَسَّرَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: الْمَعْنَى يَا حَسْرَةَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى عِبَادِنَا الرُّسُلِ حَتَّى لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْإِيمَانُ لَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: المراد بالعباد الرسل الثَّلَاثَةُ، وَكَانَ هَذَا التَّحَسُّرُ هُوَ مِنَ الْكُفَّارِ، حِينَ رَأَوْا عَذَابَ اللَّهِ تَلَهَّفُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ مَا يَأْتِيهِمْ الْآيَةَ يَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ.
انْتَهَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَسْرَةُ أَمْرٌ يَرْكَبُ الْإِنْسَانَ مِنْ كَثْرَةِ النَّدَمِ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ حَتَّى يَبْقَى حَسِيرًا. وَقِيلَ: الْمُنَادَى مَحْذُوفٌ، وَانْتُصِبَ حَسْرَةً عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ يَا هَؤُلَاءِ تَحَسَّرُوا حَسْرَةً. وَقِيلَ: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى، لَمَّا وَثَبَ الْقَوْمُ لِقَتْلِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ، قَالُوا ذَلِكَ حِينَ قَتَلُوا ذَلِكَ الرجل وجل بِهِمُ الْعَذَابُ، قَالُوا: يَا حَسْرَةً عَلَى هَؤُلَاءِ، كَأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا قَدْ آمَنُوا. انْتَهَى.
فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْعِبَادَ الْمُرَادُ بِهِمُ الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ أَوْ مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِ وَهُمُ الْهَالِكُونَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِتَعْرِيفِ جِنْسِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ وَتَلَخَّصَ أَنَّ الْمُتَحَسِّرَ الْمَلَائِكَةُ أَوِ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ الْمُؤْمِنُونَ أَوِ الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ أَوْ ذَلِكَ الرَّجُلُ، أَقْوَالٌ.
مَا يَأْتِيهِمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: تَمْثِيلٌ لِقُرَيْشٍ، وَهُمُ الَّذِينَ عَادَ عَلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَمْ هُنَا خَبَرِيَّةٌ، وَأَنَّهُمْ بَدَلٌ مِنْهَا، وَالرُّؤْيَةُ رُؤْيَةُ الْبَصَرِ. انْتَهَى. فَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ خَبَرِيَّةً فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَهْلَكْنَا، وَلَا يَسُوغُ فِيهَا إِلَّا ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، امْتُنِعَ أَنْ يَكُونَ أَنَّهُمْ بَدَلٌ مِنْهَا، لِأَنَّ الْبَدَلَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، وَلَوْ سُلِّطَتْ أَهْلَكْنَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَصِحَّ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ أَهْلَكْنَا انْتِفَاءَ رُجُوعِهِمْ، أَوْ أَهْلَكْنَا كَوْنَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، لَمْ يَكُنْ كَلَامًا؟ لَكِنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ تَوَهَّمَ أَنَّ يَرَوْا مَفْعُولُهُ كَمْ، فَتَوَهَّمَ أَنَّ قَوْلَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ بَدَلٌ، لِأَنَّهُ يَسُوغُ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ فَتَقُولَ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ؟ وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِهِ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الْقُرُونَ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، لِأَنَّ عَدَمَ الرُّجُوعِ وَالْهَلَاكِ بِمَعْنَى النَّهْيِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّجَّاجُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَدَلًا صِنَاعِيًّا، وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمَعْنَى وَلَمْ يَلْحَظْ صَنْعَةَ النَّحْوِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ. انْتَهَى، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ كَمْ لَيْسَ بِمَعْمُولٍ لِيَرَوْا. وَنُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ يَعْمَلُ يَرَوْا فِي الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِبْدَالٍ،
61
وَقَوْلُهُمْ فِي الْجُمْلَتَيْنِ تَجُوزُ، لِأَنَّ أَنَّهُمْ وَمَا بَعْدَهُ لَيْسَ بِجُمْلَةٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ هَذَا الْعَمَلِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلَمْ يَرَوْا: أَلَمْ يَعْلَمُوا، وَهُوَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي كَمْ، لِأَنَّ كَمْ لَا يَعْمَلُ فِيهَا عَامِلٌ قَبْلَهَا كَانَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ أَوْ لِلْخَبَرِ، لِأَنَّ أَصْلَهَا الِاسْتِفْهَامُ، إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهَا نَافِذٌ فِي الْجُمْلَةِ، كَمَا نَفَذَ فِي قَوْلِكَ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ زَيْدًا لَمُنْطَلِقٌ؟ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلْ فِي لفظه.
وأَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بَدَلٌ مِنْ أَهْلَكْنا عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ تَقْدِيرُهُ: أَلَمْ يَرَوْا كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَوْنَهُمْ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَيْهِمْ؟ انْتَهَى. فَجَعَلَ يَرَوْا بِمَعْنَى يَعْلَمُوا، وَعَلَّقَهَا عَلَى الْعَمَلِ فِي كَمْ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ كَمْ لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا، كَانَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ أَوْ لِلْخَبَرِ، وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ أَوِ اسْمًا مُضَافًا جَازَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا، نَحْوُ كَمْ عَلَى: كَمْ جِذْعٍ بَيْتُكَ؟ وَأَيْنَ: كَمْ رَئِيسٍ صَحِبْتَ؟ وَعَلَى: كَمْ فَقِيرٍ تَصَدَّقْتَ؟ أَرْجُو الثَّوَابَ، وَأَيْنَ: كَمْ شَهِيدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ؟ وَقَوْلُهُ: أَوْ لِلْخَبَرِ الْخَبَرِيَّةُ فِيهَا لُغَتَانِ: الْفَصِيحَةُ كَمَا ذَكَرَ لَا يَتَقَدَّمُهَا عَامِلٌ إِلَّا مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَارِ وَاللُّغَةِ الْأُخْرَى، حَكَاهَا الْأَخْفَشُ يَقُولُونَ فِيهَا: مَلَكْتَ كَمْ غُلَامٍ؟ أَيْ مَلَكْتَ كَثِيرًا مِنَ الْغِلْمَانِ.
فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْعَامِلُ عَلَى كَثِيرٍ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى كَمْ لِأَنَّهَا بِمَعْنَاهَا.
وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ أَصْلَهَا الِاسْتِفْهَامُ، لَيْسَ أَصْلُهَا الِاسْتِفْهَامَ، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَصْلٌ فِي بَابِهَا، لَكِنَّهَا لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهَا نَافِذٌ فِي الْجُمْلَةِ، يَعْنِي مَعْنَى يَرَوْا نَافِذٌ فِي الْجُمْلَةِ، لأن جَعَلَهَا مُعَلَّقَةً، وَشَرَحَ يَرَوْا بِيَعْلَمُوا. وَقَوْلُهُ: كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِكَ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ زَيْدًا لَمُنْطَلِقٌ؟ فَإِنَّ زيد المنطلق مَعْمُولٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِيَرَوْا، وَلَوْ كَانَ عَامِلًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لَمْ تَدْخُلِ اللَّامُ، وَكَانَتْ أَنَّ مَفْتُوحَةً، فَأَنَّ وَفِي خَبَرِهَا اللَّامُ مِنَ الْأَدَوَاتِ الَّتِي تُعَلِّقُ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ. وَقَوْلُهُ: وأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، لَا عَلَى اللَّفْظِ وَلَا عَلَى الْمَعْنَى. أَمَّا عَلَى اللَّفْظِ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ يَرَوْا مُعَلَّقَةٌ، فَيَكُونُ كَمِ اسْتِفْهَامًا، وَهُوَ مَعْمُولٌ لَأَهْلَكْنَا، وَأَهْلَكْنَا لَا يَتَسَلَّطُ عَلَى أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَتَقَدَّمَ لَنَا ذَلِكَ. وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى، فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَالَ تَقْدِيرُهُ، أَيْ عَلَى الْمَعْنَى: أَلَمْ يَرَوْا كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَوْنَهُمْ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَيْهِمْ؟ فَكَوْنُهُمْ غَيْرَ كَذَا لَيْسَ كَثْرَةَ الْإِهْلَاكِ، فَلَا يَكُونَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كل، وَلَا بَعْضًا مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَلَا يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَلَا يَكُونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ يَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا أُبْدِلَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ هُنَا. لَا تَقُولُ: أَلَمْ يَرَوُا انْتِفَاءَ رُجُوعِ كَثْرَةِ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَفِي بَدَلِ الِاشْتِمَالِ نَحْوُ: أَعْجَبَنِي الْجَارِيَةُ مَلَاحَتُهَا، وَسُرِقَ زَيْدٌ ثَوْبُهُ، يَصِحُّ
62
أَعْجَبَنِي مَلَاحَةُ الْجَارِيَةِ، وَسُرِقَ ثَوْبُ زِيدٍ، وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ «١»، فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ صِنَاعَةُ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ أَنَّهُمْ مَعْمُولٌ لِمَحْذُوفٍ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، وَتَقْدِيرُهُ: قَضَيْنَا أَوْ حَكَمْنَا أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: إِنَّهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَطْعِ الْجُمْلَةِ عَنْ مَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَتْحِ مَقْطُوعَةٌ عَنْ مَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ لِتَتَّفِقَ الْقِرَاءَتَانِ وَلَا تَخْتَلِفَا. وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى كَمْ، وَهُمُ الْقُرُونُ، وَإِلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ يَرَوْا، وَهُمْ قُرَيْشٌ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى مَنْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ يَرَوْا، وَفِي إِلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُهْلَكِينَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْبَاقِينَ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْمُهْلَكِينَ بِنَسَبٍ وَلَا وِلَادَةٍ، أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ وَقَطَعْنَا نَسْلَهُمْ، وَالْإِهْلَاكُ مَعَ قَطْعِ النَّسْلِ أَتَمُّ وَأَعَمُّ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:
أَلَمْ يَرَوْا مَنْ أَهْلَكْنَا، وَأَنَّهُمْ عَلَى هَذَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ وَفِي قَوْلِهِمْ: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، رَدٌّ عَلَى القائلين بالرجعة. وقيل لا بن عَبَّاسٍ: إِنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا مَبْعُوثٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: لَيْسَ الْقَوْمُ نَحْنُ إِذَا نَكَحْنَا نِسَاءَهُ وَقَسَّمْنَا مِيرَاثَهُ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِتَثْقِيلِ لَمَّا وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَخْفِيفِهَا. فَمَنْ ثَقَّلَهَا كَانَتْ عِنْدَهُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَإِنْ نَافِيَةٌ، أَيْ مَا كَلٌّ، أَيْ كُلُّهُمْ إِلَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا، مُحْضَرُونَ:
أَيْ مَحْشُورُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: مُعَذَّبُونَ وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لِمَنْ مَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَمَنْ خَفَّفَ لَمَّا جَعَلَ أن المخففة من الثقيلة، وَمَا زَائِدَةً، أَيْ إِنْ كُلٌّ لَجَمِيعٌ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ، فَإِنْ عِنْدَهُمْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَمَا زَائِدَةٌ، وَلَمَّا الْمُشَدَّدَةُ بِمَعْنَى إِلَّا ثَابِتٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بنقل الثقات، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى زَعْمِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فِي كَوْنِ لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا مَعْنًى مناسب، وَهُوَ أَنَّ لَمَّا كَأَنَّهَا حَرْفَا نَفْيٍ جَمِيعًا. وَهُمَا لَمْ وَمَا، فَتَأَكَّدَ النَّفْيُ وَإِلَّا كَأَنَّهَا حَرْفَا نَفْيٍ إِنْ وَلَا، فَاسْتُعْمِلَ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ. انْتَهَى، وَهَذَا أَخَذَهُ مِنَ قَوْلِ الْفَرَّاءِ فِي إِلَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مَنْ إِنْ وَلَا، إِلَّا أَنَّ الْفَرَّاءَ جَعَلَ إِنِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَمَا زَائِدَةً، أَيْ إِنْ كُلٌّ لَجَمِيعٌ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ، فَإِنْ عِنْدَهُمْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَمَا زَائِدَةٌ، وَلَمَّا الْمُشَدَّدَةُ بِمَعْنَى إِلَّا ثَابِتٌ حَرْفُ نَفْيٍ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ عِنْدَ النُّحَاةِ رَكِيكٌ، وَمَا تَرَكَّبَ منه وزاد تحريفا أَرَكُّ مِنْهُ، وَكُلٌّ بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ، وَجَمِيعٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ،
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٦.
63
وَجَمِيعٌ مُحْضَرُونَ هُنَا عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا أُفْرِدَ مُنْتَصِرٌ عَلَى اللَّفْظِ، وَكِلَاهُمَا بَعْدَ جَمِيعٍ يُرَاعَى فِيهِ الْفَوَاصِلُ.
وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِهْلَاكِ تَبْيِينًا أَنَّهُ تعالى ليس من أهله يُتْرَكُ، بَلْ بَعْدَ إِهْلَاكِهِمْ جَمْعٌ وَحِسَابٌ وَثَوَابٌ وَعِقَابٌ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ هَذَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَشْرِ مِنْ قَوْلُهُ:
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ. وَبَدَأَ بِالْأَرْضِ، لِأَنَّهَا مُسْتَقَرُّهُمْ، حَرَكَةً وَسُكُونًا، حَيَاةً وَمَوْتًا. وَمَوْتُ الْأَرْضِ جَدْبُهَا، وَإِحْيَاؤُهَا بِالْغَيْثِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ فِي إِنْكَارِ الْحَشْرِ. وأَحْيَيْناها: اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِكَوْنِ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ آيَةٌ، وَكَذَلِكَ نَسْلَخُ. وَقِيلَ: أَحْيَيْنَاهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا آيَةٌ بِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْإِعْلَامِ، وَيَكُونُ آيَةٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا، وَالْأَرْضُ الْمَيْتَةُ مُبْتَدَأٌ فالنية بآية التَّأْخِيرُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْأَرْضُ الْمَيْتَةُ آيَةٌ لَهُمْ مُحْيَاةً كَقَوْلِكَ: قَائِمٌ زَيْدٌ مُسْرِعًا، أَيْ زَيْدٌ قَائِمٌ مُسْرِعًا، وَلَهُمْ متعلق بآية، لَا صِفَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْأَرْضُ وَاللَّيْلُ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِمَا الْجِنْسَانِ مُطْلَقَيْنِ لَا أَرْضٌ، وَلَيْلٌ بِإِحْيَائِهِمَا، فَعُومِلَا مُعَامَلَةَ النَّكِرَاتِ فِي وَصْفِهَا بِالْأَفْعَالِ وَنَحْوِهِ:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي انْتَهَى.
وَهَذَا هَدْمٌ لِمَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ أَئِمَّةِ النَّحْوِ مِنْ أَنَّ النَّكِرَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالنَّكِرَةِ، وَالْمَعْرِفَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا يَسُبُّنِي فَحَالٌ، أي سابا لِي، وَقَدْ تَبِعَ الزَّمَخْشَرِيُّ ابْنَ مَالِكٍ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّسْهِيلِ مِنْ تَأْلِيفِهِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ تَعَدُّدٌ نَعَمْ إِحْيَاؤُهَا بِحَيْثُ تَصِيرُ مُخْضَرَّةً تُبْهِجُ النَّفْسَ وَالْعَيْنَ، وَإِخْرَاجُ الْحَبِّ مِنْهَا حَيْثُ صَارَ مَا يَعِيشُونَ بِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُسْتَقِرُّونَ، لَا فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْهَوَاءِ، وَجَعَلَ الْحَبَّاتِ لِأَنَّهُمْ أَكَلُوا مِنَ الْحَبِّ، وَرُبَّمَا تَاقَتِ النَّفْسُ إِلَى النَّقْلَةِ، فَالْأَرْضُ يُوجَدُ مِنْهَا الْحَبُّ، وَالشَّجَرُ يُوجَدُ مِنْهُ الثَّمَرُ، وَتَفْجِيرُ الْعُيُونِ يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِمَادُ عَلَى تَحْصِيلِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يُدْرَ أَيْنَ يُغْرَسُ وَلَا أَيْنَ يَقَعُ الْمَطَرُ. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: وَفَجَّرْنا بِالتَّخْفِيفِ، وَالْجُمْهُورُ: بِالتَّشْدِيدِ. ومِنْ ثَمَرِهِ بِفَتْحَتَيْنِ وَطَلْحَةُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِضَمَّتَيْنِ وَالْأَعْمَشُ: بِضَمِّ الثَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالضَّمِيرُ فِي ثَمَرِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَاءِ، قِيلَ: لِدَلَالَةِ الْعُيُونِ عَلَيْهِ وَلِكَوْنِهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ مَاءِ الْعُيُونِ وَقِيلَ:
64
عَلَى النَّخِيلِ، وَاكْتَفَى بِهِ لِلْعِلْمِ فِي اشْتِرَاكِ الْأَعْيَانِ فِيمَا عُلِّقَ بِهِ النَّخِيلُ مِنْ أَكْلِ ثَمَرِهِ، أَوْ يُرَادُ مِنْ ثَمَرِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الْجَنَّاتُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ قُلْتَ بِعُيُونٍ، كَأَنَّهُ وَالَّذِي تَقَدَّمَ خُطُوطٌ؟ فَقَالَ أَرْتٌ: كَانَ ذَاكَ. وَقِيلَ:
عَائِدٌ إِلَى التَّفْجِيرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَفَجَّرْنَا الْآيَةَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَعَنَى بِثَمَرَهِ: فَوَائِدَهُ، كَمَا تَقُولُ:
ثَمَرَةُ التِّجَارَةِ الرِّبْحُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَصْلُهُ مِنْ ثَمَرِنَا، كَمَا قَالَ: وَجَعَلْنا، وَفَجَّرْنا، فَنَقَلَ الْكَلَامَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَالْمَعْنَى: لِيَأْكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الثَّمَرِ، وَمِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغَرْسِ وَالسَّقْيِ وَالْآبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَى أَنْ بَلَغَ الثَّمَرُ مُنْتَهَاهُ، وَبَانَ أُكُلُهُ يَعْنِي أَنَّ الثَّمَرَ فِي نَفْسِهِ فِعْلُ اللَّهِ وَخَلْقُهُ، وَفِيهِ آثَارٌ مِنْ كَدِّ بَنِي آدَمَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، عَلَى أَنَّ الثَّمَرَ خَلْقُ الله، ولم تعمله أيديه النَّاسِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى خَلْقِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَما عَمِلَتْهُ بِالضَّمِيرِ، فَإِنْ كَانَتْ مَا مَوْصُولَةً فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الثَّمَرِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ، وَعِيسَى، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِغَيْرِ ضَمِيرٍ مَفْعُولُ عَمِلَتْ عَلَى التقديرين محذوفة، وَجُوِّزَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ وَعَمَلِ أَيْدِيهِمْ، وَهُوَ مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَعْمُولُ، فَيَعُودُ إِلَى مَعْنَى الْمَوْصُولِ.
وَلَمَّا عَدَّدَ تَعَالَى هَذِهِ النِّعَمَ، حَضَّ عَلَى الشُّكْرِ فَقَالَ أَفَلا يَشْكُرُونَ، ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ عن كُلِّ مَا يُلْحِدُ بِهِ مُلْحِدٌ، أَوْ يُشْرِكُ بِهِ مُشْرِكٌ، فَذَكَرَ إِنْشَاءَ الْأَزْوَاجِ، وَهِيَ الْأَنْوَاعُ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ: مِنْ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكُلُّ صِنْفٍ زَوْجٌ مُخْتَلِفٌ لَوْنًا وطمعا وَشَكْلًا وَصِغَرًا وَكِبَرًا، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ: ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ: أَيْ وَأَنْوَاعًا مِمَّا لَا يَعْلَمُونَ، أُعْلِمُوا بِوُجُودِهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا هُوَ، إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ عِلْمُهُمْ بِمَاهِيَّتِهِ، أَمْرٌ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا. وَفِي إِعْلَامِهِ بِكَثْرَةِ مَخْلُوقَاتِهِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّسَاعِ ملكه وعظم قدرته.
ولكا ذَكَرَ تَعَالَى الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ، وَهِيَ الْمَكَانُ الْكُلِّيُّ، ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُوَ الزَّمَانُ الْكُلِّيُّ وَبَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ، لِأَنَّ الْمَكَانَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ الْجَوَاهِرُ، وَالزَّمَانَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ الْأَعْرَاضُ، لِأَنَّ كُلَّ عَرَضٍ فَهُوَ فِي زَمَانٍ، وَمِثْلُهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ:
65
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «١»، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً «٢» الْآيَةَ. وَبَدَأَ هُنَاكَ بِالزَّمَانِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ «٣» الْآيَةَ، ثُمَّ الْحَشْرِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى «٤»، وَهَذَا الْمَقْصُودُ الْحَشْرُ أَوَّلًا لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِيهَا أَكْثَرُ، وَذِكَرَ التَّوْحِيدِ فِي فُصِّلَتْ أَكْثَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ «٥». انْتَهَى، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ، وفيه تلخيص.
ونَسْلَخُ: مَعْنَاهُ نَكْشِطُ وَنُقَشِّرُ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِإِزَالَةِ الضَّوْءِ وَكَشْفِهِ عن مكان الليل.
ومُظْلِمُونَ: دَاخِلُونَ فِي الظَّلَامِ، كَمَا تَقُولُ: أَعَتَّمْنَا وَأَسْحَرْنَا: دَخَلْنَا فِي الْعَتَمَةِ وَفِي السَّحَرِ. وَاسْتَدَلَّ قَوْمٌ بِهَذَا عَلَى أَنَّ اللَّيْلَ أَصْلٌ وَالنَّهَارَ فَرْعٌ طَارِئٌ عَلَيْهِ، وَمُسْتَقَرُّ الشَّمْسِ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ تَسْجُدُ فِيهِ كُلَّ لَيْلَةٍ بَعْدَ غُرُوبِهَا. كَمَا
جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «وَيُقَالُ لَهَا اطْلَعِي مِنْ حَيْثُ طَلَعْتِ، فَإِذَا كَانَ طُلُوعُهَا مِنْ مَغْرِبِهَا يُقَالُ لَهَا اطْلَعِي مِنْ حَيْثُ غَرَبْتِ، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا».
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا غَرَبَتْ وَانْتَهَتْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا تَتَجَاوَزُهُ، اسْتَوَتْ تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى أَنْ تَطْلُعَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لِلشَّمْسِ فِي السَّنَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَطْلَعًا، تَنْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ مَطْلَعًا، ثُمَّ لَا تَنْزِلُ إِلَى الْحَوْلِ، وَهِيَ تَجْرِي فِي فَلَكِ الْمَنَازِلِ، أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ غَيْبُوبَتِهَا، لِأَنَّهَا تَجْرِي كُلَّ وَقْتٍ إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ تَغْرُبُ فِيهِ، أَوْ أَحَدِ مَطَالِعِهَا فِي الْمُنْقَلِبَيْنِ، لِأَنَّهُمَا نِهَايَتَا مَطَالِعِهَا فَإِذَا اسْتَقَرَّ وُصُولُهَا كَرَّتْ رَاجِعَةً، وَإِلَّا فَهِيَ لَا تَسْتَقِرُّ عَنْ حَرَكَتِهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَنَحَا إِلَى هَذَا ابْنُ قُتَيْبَةَ، أَوْ وُقُوفُهَا عِنْدَ الزَّوَالِ كال يَوْمٍ، وَدَلِيلُ اسْتِقْرَارِهَا وُقُوفُ ذَلِكَ الظَّلَامِ حِينَئِذٍ. وَقَالَ الزمخشري: بمستقر لها: لحدّ لها مُؤَقَّتٌ مُقَدَّرٌ تَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنْ فَلَكِهَا فِي آخِرِ السَّنَةِ. شَبَّهَ بِمُسْتَقَرِّ الْمُسَافِرِ إِذَا قَطَعَ مَسِيرَهُ، أَوْ كَمُنْتَهَى لَهَا مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، لِأَنَّهَا تَتَقَصَّاهَا مَشْرِقًا مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا مَغْرِبًا حَتَّى تَبْلُغَ أَقْصَاهَا ثُمَّ تَرْجِعَ، فَلِذَلِكَ حَدُّهَا وَمُسْتَقَرُّهَا، لِأَنَّهَا لَا تَعْدُوهُ أَوْ لَا يعدلها مِنْ مَسِيرِهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي مَرْأَى عُيُونِنَا وَهُوَ الْمَغْرِبُ. وَقِيلَ:
مُسْتَقَرُّهَا: مَحَلُّهَا الَّذِي أَقَرَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهَا فِي جَرْيِهَا فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ آخِرُ السَّنَةِ.
وَقِيلَ: الْوَقْتُ الَّذِي تَسْتَقِرُّ فِيهِ وَيَنْقَطِعُ جَرْيُهَا، وَهُوَ يوم القيامة.
(١) سورة فصلت: ٤١/ ٣٧.
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٣٩.
(٣) سورة فصلت: ٤١/ ٣٧. [.....]
(٤) سورة فصلت: ٤١/ ٣٩.
(٥) سورة فصلت: ٤١/ ٩.
66
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: فِي الْمُسْتَقَرِّ وُجُوهٌ فِي الزَّمَانِ وَفِي الْمَكَانِ، فَفِي الزَّمَانِ اللَّيْلُ أَوِ السَّنَةُ أَوْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَفِي الْمَكَانِ غَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي الصَّيْفِ وَانْخِفَاضِهَا فِي الشِّتَاءِ، وَتَجْرِي إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَتَرْجِعُ، أَوْ غَايَةُ مَشَارِقِهَا، فَلَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَشْرِقٌ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَعُودُ عَلَى تِلْكَ الْمُقَنْطَرَاتِ وَهَذَا هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي الِارْتِفَاعِ. فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْمَشَارِقِ سَبَبُ اخْتِلَافِ الِارْتِفَاعِ، أَوْ وُصُولِهَا إِلَى بَيْتِهَا فِي الْأَسَدِ، أَوِ الدَّائِرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا حَرَكَتُهَا، حَيْثُ لَا تَمِيلُ عَنْ مِنْطَقَةِ الْبُرُوجِ عَلَى مُرُورِ الشَّمْسِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: تَجْرِي مَجْرَى مُسْتَقَرِّهَا، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْهَيْئَةِ قَالُوا: الشَّمْسُ فِي فَلَكٍ، وَالْفَلَكُ يَدُورُ فَيُدِيرُ الشَّمْسَ، فَالشَّمْسُ تَجْرِي مَجْرَى مستقرها. انتهى. وقرىء: إِلَى مُسْتَقَرِّهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءُ بْنُ رَبَاحٍ،
وَزَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَالْبَاقِرُ، وَابْنُهُ الصَّادِقُ، وَابْنُ أَبِي عَبْدَةَ: لَا مستقر لها، نفيا مبينا عَلَى الْفَتْحِ
، فَيَقْتَضِي انْتِفَاءَ كُلِّ مُسْتَقَرٍّ وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، أَيْ هِيَ تَجْرِي دَائِمًا فِيهَا، لَا تَسْتَقِرُّ إِلَّا ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ، فَإِنَّهُ قَرَأَ بِرَفْعِ مُسْتَقَرٌّ وَتَنْوِينِهِ عَلَى إِعْمَالِهَا إِعْمَالَ لَيْسَ، نَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَعَزَّ فَلَا شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ بَاقِيَا وَلَا وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا
الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى جَرْيِ الشَّمْسِ: أَيْ ذَلِكَ الْجَرْيُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَالْحِسَابِ الدَّقِيقِ.
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ: الْغَالِبُ بِقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ مَقْدُورٍ، الْمُحِيطُ عِلْمًا بِكُلِّ مَعْلُومٍ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ. وَالْقَمَرَ:
بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ. وقَدَّرْناهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ قدرنا سيره، ومَنازِلَ: طرف، أَيْ مَنَازِلَهُ وَقِيلَ: قَدَّرْنَا نُورَهُ فِي مَنَازِلَ، فَيَزِيدُ مِقْدَارُ النُّورِ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْمَنَازِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَيَنْقُصُ فِي الْمَنَازِلِ الِاسْتِقْبَالِيَّةِ. وَقِيلَ:
قَدَّرْنَاهُ: جَعَلْنَا أَنَّهُ أُجْرِيَ جَرْيُهُ عَكْسَ مَنَازِلِ أَنْوَارِ الشَّمْسِ، وَلَا يَحْتَاجَ إِلَى حَذْفِ حَرْفِ الصِّفَةِ، فَإِنَّ جِرْمَ الْقَمَرِ مُظْلِمٌ، يَنْزِلُ فِيهِ النُّورُ لِقَبُولِهِ عَكْسُ ضِيَاءِ الشَّمْسِ، مِثْلُ الْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ إِذَا قُوبِلَ بِهَا الشُّعَاعُ.
وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً، يَنْزِلُ الْقَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، لَا يَتَخَطَّاهُ وَلَا يَتَقَاصَرُ عَنْهُ، عَلَى تَقْدِيرٍ مستولا يتفاوت، يَسِيرُ فِيهَا مِنْ لَيْلَةِ الْمُسْتَهَلِّ إِلَى الثَّامِنَةِ وَالْعِشْرِينَ، ثُمَّ يَسِيرُ لَيْلَتَيْنِ إِذَا نَقَصَ الشَّهْرُ، وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ هِيَ مَوَاقِعُ النُّجُومِ الَّتِي نَسَبَتْ إِلَيْهَا الْعَرَبُ الْأَنْوَاءَ المستمطرة، وهي: الشرطين، الْبَطِينُ، الثُّرَيَّا، الدَّبَرَانِ، الْهَقْعَةُ، الْهَنْعَةُ، الذِّرَاعُ، النَّثْرَةُ، الطَّرْفُ، الْجَبْهَةُ، الدَّبْرَةُ، الصَّرْفَةُ، الْعَوَّاءُ،
67
السِّمَاكُ، الْعَفْرُ، الزُّبَانَى، الْإِكْلِيلُ، الْقَلْبُ، الشَّوْلَةُ، النَّعَائِمُ، الْبَلْدَةُ، سَعْدُ الذَّابِحِ، سَعْدُ بُلَعَ، سَعْدُ السُّعُودِ، سَعْدُ الْأَخْبِيَةِ، فَرْعُ الدَّلْوِ الْمُقَدَّمُ، فَرْعُ الدَّلْوِ الْمُؤَخَّرُ، بَطْنُ الْحُوتِ، وَيُقَالُ لَهُ الرِّشَاءُ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ مَنَازِلِهِ دَقَّ وَاسْتَقْوَسَ وَاصْفَرَّ، فَشُبِّهَ بِالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ مِنْ ثَلَاثَةٍ الأوجه. وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: كَالْعِرْجَوْنِ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْجِيمِ والجمهور:
بضمهما، وهما لغتان كالبريون. والْقَدِيمِ: مَا مَرَّ عَلَيْهِ زَمَانٌ طَوِيلٌ. وَقِيلَ: أَقَلُّ عِدَّةِ الْمَوْصُوفِ بِالْقِدَمِ حَوْلٌ، فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي قَدِيمٌ فَهُوَ حُرٌّ، أَوْ كَتَبَ ذَلِكَ فِي وَصِيَّةٍ، عَتَقَ مِنْهُمْ مَنْ مَضَى لَهُ حَوْلٌ وَأَكْثَرُ. انْتَهَى. وَالْقِدَمُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ سَنَةٌ وَلَا سَنَتَانِ، فَلَا يُقَالُ الْعَالَمُ قَدِيمٌ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ فِي ذَلِكَ.
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ: يَنْبَغِي لَهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا لَا يُمْكِنُ خِلَافُهُ، أَيْ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا قُدْرَةً عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا الْإِدْرَاكُ الْمُنْبَغِي هُوَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لكل واحد من اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَآيَتِيهِمَا قِسْمًا مِنَ الزَّمَانِ، وَضَرَبَ لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا، وَدَبَّرَ أَمْرَهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ. فَلَا يَنْبَغِي لِلشَّمْسِ أَنْ لَا يَسْتَهِلَّ لَهَا، وَلَا يَصِحَّ، وَلَا يَسْتَقِيمَ، لِوُقُوعِ التَّدْبِيرِ عَلَى الْعَاقِبَةِ. وَإِنْ جُعِلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّيِّرَيْنِ سُلْطَانٌ، عَلَى حِيَالِهِ أَنْ يُدْرِكَ الْقَمَرَ، فَتَجْتَمِعَ مَعَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَتُدَاخِلَهُ فِي سُلْطَانِهِ، فَتَطْمِسَ نُورَهُ. وَلَا يَسْبِقَ اللَّيْلُ النَّهَارَ، يَعْنِي آيَةَ اللَّيْلِ آيَةَ النَّهَارِ، وَهُمَا النَّيِّرَانِ. وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَى أَنْ يُبْطِلَ اللَّهُ مَا دَبَّرَ مِنْ ذَلِكَ، وَيُنْقِصَ مَا أَلَّفَ، فَيَجْمَعَ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَتَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، والضحاك: إِذَا طَلَعَتْ، لَمْ يَكُنْ لِلْقَمَرِ ضَوْءٌ وَإِذَا طَلَعَ، لَمْ يَكُنْ لِلشَّمْسِ ضَوْءٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يُشْبِهُ ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الْآخَرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِكُلِّ أَحَدٍ حَدٌّ لَا يَعْدُوهُ وَلَا يَقْصُرُ دُونَهُ، إِذَا جَاءَ سُلْطَانُ هَذَا ذَهَبَ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا:
إِذَا اجْتَمَعَا فِي السَّمَاءِ، كَانَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ يَدِيِ الْآخَرِ، فِي مَنَازِلَ لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي السَّمَاءِ لَيْلَةَ الْهِلَالِ خَاصَّةً، أَيْ لَا تَبْقَى الشَّمْسُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَلَكِنْ إِذَا غَرَبَتْ طَلَعَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: لَا تُدْرِكُهُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ يُبَادِرُ بِالْمَغِيبِ قَبْلَ طُلُوعِهَا. وَقِيلَ: لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تُدْرِكَهُ فِي سُرْعَتِهِ، لِأَنَّ دَائِرَةَ فَلَكِ الْقَمَرِ دَاخِلَةٌ فِي فَلَكِ عُطَارِدٍ، وَفَلَكُ عُطَارِدٍ دَاخِلٌ فِي فَلَكِ الزُّهْرَةِ، وَفَلَكُ الزُّهْرَةِ دَاخِلٌ فِي فَلَكِ الشَّمْسِ.
فَإِذَا كَانَ طَرِيقُ الشَّمْسِ أَبْعَدَ، قَطَعَ الْقَمَرُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ فَلَكِهِ، أَيْ مِنَ الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشْرَ، فِي زَمَانٍ نقطع الشَّمْسُ فِيهِ بُرْجًا وَاحِدًا مِنْ فَلَكِهِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: مَا قِيلَ فِيهِ، وَأَبَيْنُهُ أَنَّ مَسِيرَ الْقَمَرِ مَسِيرٌ سَرِيعٌ، وَالشَّمْسُ لَا تُدْرِكُهُ فِي السَّيْرِ. انْتَهَى، وَهُوَ مُلَخَّصُ الْقَوْلِ الَّذِي
68
قَبْلَهُ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، لَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً «١»، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، أَنَّ النَّهَارَ سَابِقٌ أَيْضًا، فَيُوَافِقُ الظَّاهِرَ. وَفَهِمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أَنَّ النَّهَارَ يَطْلُبُ اللَّيْلَ، وَاللَّيْلُ سَابِقُهُ. وَفَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، أَنَّ اللَّيْلَ مَسْبُوقٌ لَا سَابِقٌ، فَأَوْرَدَهُ سُؤَالًا. وَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ اللَّيْلُ سَابِقًا مَسْبُوقًا؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّيْلِ هَنَا سُلْطَانُ اللَّيْلِ، وَهُوَ الْقَمَرُ، وَهُوَ لَا يَسْبِقُ الشَّمْسَ بِالْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ السَّرِيعَةِ. وَالْمُرَادُ مِنَ اللَّيْلِ هُنَاكَ نَفْسُ اللَّيْلِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ لَمَّا كَانَ فِي عَقِبِ الْآخَرِ كَانَ طَالِبَهُ. انْتَهَى. وَعَرَضَ لَهُ هَذَا السُّؤَالُ لِكَوْنِهِ جَعَلَ الضَّمِيرَ الْفَاعِلَ فِي يَطْلُبُهُ عَائِدًا عَلَى النَّهَارِ، وَضَمِيرَ الْمَفْعُولِ عَائِدًا عَلَى اللَّيْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ الْفَاعِلِ عَائِدٌ عَلَى مَا هُوَ الْفَاعِلُ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ اللَّيْلُ، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ هَمْزَةِ النَّقْلِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ «٢»، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ عَلَى النَّهَارِ، لِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ قَبْلَ النَّقْلِ وَبَعْدَهُ. وَقَرَأَ عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ بِلَالِ بْنِ جَرِيرٍ الْخَطَفِيُّ: سَابِقُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، النَّهَارَ:
بِالنَّصْبِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَرَدْتُ سَابِقَ النَّهَارِ، فَحَذَفْتُ لِأَنَّهُ أَخَفُّ. انْتَهَى، وَحَذَفَ التَّنْوِينَ فِيهِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَالظَّاهِرُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ أنه يراد به الأنباء وَمَنْ نَشَأَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: يَنْطَلِقُ عَلَى الْآبَاءِ وَعَلَى الْأَبْنَاءِ، قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا تَخْلِيطٌ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي اللُّغَةِ. انْتَهَى.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الذُّرِّيَّةِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُمْ وَفِي ذُرِّيَّاتِهِمْ عَائِدٌ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَمَلَ ذُرِّيَّاتِ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ آبَاؤُهُمُ الْأَقْدَمُونَ، فِي سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ. وَمِنْ مِثْلِهِ: لِلسُّفُنِ الْمَوْجُودَةِ فِي جِنْسِ بَنِي آدَمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ذُرِّيَّاتِهِمْ، حَذْفُ مُضَافٍ، أَيْ ذُرِّيَّاتِ جِنْسِهِمْ، وَأُرِيدَ بِالذُّرِّيَّةِ مَنْ لَا يُطِيقُ الْمَشْيَ وَالرُّكُوبَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ وَالضُّعَفَاءِ. فَالْفَلَكُ اسْمُ جِنْسٍ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَكَوْنُ الْفَلَكِ مُرَادًا بِهِ الْجِنْسُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيٌّ، وَمِنْ مِثْلِهِ: الْإِبِلُ وَسَائِرُ مَا يُرْكَبُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ مُخْتَلِفَانِ، أَيْ ذُرِّيَّةُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ آيَةً لِهَؤُلَاءِ، إِذْ هُمْ نَسْلُ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ. وَقِيلَ: الذُّرِّيَّةُ: النُّطَفُ،
وَالْفُلْكِ الْمَشْحُونِ:
بُطُونُ النِّسَاءِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَنُسِبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
، وَهَذَا لَا يصح، لأنه من
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٥٤.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٥٤.
69
نَوْعِ تَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ وَغُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ كِتَابَ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِجِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الدَّلَالَةِ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ ظَاهِرُ الْفُلْكِ قَوْلُهُ: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ: يَعْنِي الْإِبِلَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي أَنَّهُ مَرْكُوبٌ مُبَلِّغٌ لِلْأَوْطَانِ فَقَطْ، هَذَا إِذَا كَانَ الْفُلْكُ جِنْسًا. وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِهِ سَفِينَةُ نُوحٍ، فَالْمُمَاثَلَةُ تَكُونُ فِي كَوْنِهَا سُفُنًا مِثْلَهَا، وَهِيَ الْمَوْجُودَةُ فِي بَنِي آدَمَ. وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ:
الذُّرِّيَّةُ فِي الْفُلْكِ قَوْمُ نُوحٍ فِي سَفِينَتِهِ، وَالْمِثْلُ الْأَجَلُ: وَمَا يُرْكَبُ، لِأَنَّهُ يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ:
ذُرِّيَّاتِهِمْ بِالْجَمْعِ وَكَسَرَ زَيْدٌ وَأَبَانٌ الذَّالَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى: بِالْإِفْرَادِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذُرِّيَّتَهُمْ: أَوْلَادَهُمْ وَمَنْ يُهِمُّهُمْ حَمْلُهُ. وَقِيلَ: اسْمُ الذُّرِّيَّةِ يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ، لِأَنَّهُنَّ مَزَارِعُهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الذَّرَارِي»
، يَعْنِي النِّسَاءَ.
مِنْ مِثْلِهِ: مِنْ مِثْلِ الْفُلْكِ، مَا يَرْكَبُونَ: مِنَ الْإِبِلِ، وَهِيَ سَفَائِنُ الْبَرِّ. وَقِيلَ:
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ: سَفِينَةُ نُوحٍ. وَمَعْنَى حَمَلَ اللَّهُ ذُرِّيَّاتِهِمْ فِيهَا: أَنَّهُ حُمِلَ فِيهَا آبَاؤُهُمُ الْأَقْدَمُونَ، وَفِيِ أَصْلَابِهِمْ هُمْ وَذُرِّيَّاتُهُمْ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذُرِّيَّاتِهِمْ دُونَهُمْ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ، وَأَدْخَلُ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ قُدْرَتِهِ فِي حَمْلِ أَعْقَابِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ في سفينة نوح.
ومِنْ مِثْلِهِ: مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْفُلْكِ، مَا يَرْكَبُونَ: مِنَ السُّفُنِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: إِنَّمَا خَصَّ الذُّرِّيَّاتِ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الْمَوْجُودِينَ كَانُوا كُفَّارًا لَا فَائِدَةَ فِي وُجُودِهِمْ، أَيْ لَمْ يَكُنِ الْحَمْلُ حَمْلًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ حَمْلًا لِمَا فِي أَصْلَابِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ أَيْضًا:
الضَّمِيرُ فِي وَآيَةٌ لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْعِبَادِ فِي قَوْلِهِ: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها، وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ، وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ: ذُرِّيَّاتِ الْعِبَادِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «١»، إِنَّمَا يُرِيدُ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فكذلك هَذَا. وَآيَةٌ لَهُمْ: أَيْ آيَةُ كُلِّ بَعْضٍ مِنْهُمْ، أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّةَ كُلِّ بَعْضٍ مِنْهُمْ، أَوْ ذُرِّيَّةَ بَعْضٍ مِنْهُمْ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقْنا أَنَّهُ أُرِيدَ الْإِنْشَاءُ وَالِاخْتِرَاعُ، فَالْمُرَادُ الْإِبِلُ وَمَا يُرْكَبُ، وَتَكُونُ مِنْ لِلْبَيَانِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَصْنَعُهُ الْإِنْسَانُ قَدْ يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ خَلْقًا، لَكِنَّ الْأَكْثَرَ مَا ذَكَرْنَا. وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ السُّفُنُ، تَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَلَهُمُ الظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ وَآيَةٌ لَهُمْ، لِأَنَّهُ الْمُحَدِّثَ عَنْهُمْ، وَجَوَّزَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مثله عائد على
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٩.
70
الْفُلْكِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورِ وَتَقْدِيرُهُ: مِنْ مِثْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ «١»، كَمَا قَالُوا: فِي قَوْلِهِ مِنْ ثَمَرِهِ، أَيْ مِنْ ثَمَرِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: نُغَرِّقُهُمْ مُشَدَّدًا وَالْجُمْهُورُ: مُخَفَّفًا وَالصَّرِيخُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى صَارِخٍ: أَيْ مُسْتَغِيثٍ، وَبِمَعْنَى مُصْرِخٍ: أَيْ مُغِيثٍ، وَهَذَا مَعْنَاهُ هُنَا، أَيْ فَلَا مُغِيثَ لَهُمْ وَلَا مُعِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ: أَيْ فَلَا إِغَاثَةَ لَهُمْ. انْتَهَى. كَأَنَّهُ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مِنْ أَفْعَلَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلِ أَنَّ صَرِيخًا يَكُونُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى صُرَاخٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ: أَيْ لَا مُغِيثَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ شَاءَ اللَّهُ إِغْرَاقَهُمْ، وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ: أَيْ يَنْجُونَ مِنَ الْمَوْتِ بِالْغَرَقِ. نَفَى أَوَّلًا الصَّرِيخَ، وَهُوَ خَاصٌّ ثُمَّ نَفَى ثَانِيًا إِنْقَاذَهُمْ بِصَرِيخٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنِ الْمُسَافِرِينَ فِي الْبَحْرِ، نَاجِينَ كَانُوا أَوْ مُغْرَقِينَ، فَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا نَجَاةَ لَهُمْ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ مَرْبُوطًا بِالْمُغْرَقِينَ، وَقَدْ يَصِحُّ رَبْطُهُ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ فَتَأَمَّلْهُ. انْتَهَى، وَلَيْسَ بِحَسَنٍ وَلَا أَحْسَنَ. وَالْفَاءُ فِي فَلا صَرِيخَ لَهُمْ تُعَلِّقُ الْجُمْلَةَ بِمَا قَبْلَهَا تَعْلِيقًا وَاضِحًا، وَتَرْتَبِطُ بِهِ رَبْطًا لَائِحًا. وَالْخَلَاصُ مِنَ الْعَذَابِ بِمَا يَدْفَعُهُ مِنْ أَصْلِهِ، فَنُفِيَ بِقَوْلِهِ: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ، وَمَا يَرْفَعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَنُفِيَ بِقَوْلِهِ:
وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. وانتصب رَحْمَةً على الاستثناء الْمُفَرَّغِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِرَحْمَةٍ مِنَّا. وَقَالَ الْكِسَائِيُ، وَالزَّجَّاجُ: إِلى حِينٍ: أَيْ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِمَّا لِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَلِيَتَمَتَّعَ بِالْحَيَاةِ إِلَى حِينٍ: أَيْ إِلَى أَجَلٍ يَمُوتُونَ فِيهِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ بَعْدَ النَّجَاةِ مِنْ مَوْتِ الْغَرَقِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ: لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَوْتِ الْغَرَقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ وَإِنْ نَشَأْ: أَيْ إِغْرَاقَهُمْ، نُغْرِقْهُمْ: فَمَنْ شَاءَ إِغْرَاقَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ بِالْغَرَقِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَحْمَةً، وَمَتاعاً إِلى حِينٍ يَكُونُ لِلَّذِينِ يُنْقَذُونَ، فَلَا يُفِيدُ الدَّوَامَ، بَلْ يُنْقِذُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لَهُ وَيُمَتِّعُهُ إِلَى حِينٍ ثُمَّ يُمِيتُهُ. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْسِيمٌ، إِلَّا رَحْمَةً لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤْمِنُ فَيُنْقِذُهُ اللَّهُ رَحْمَةً، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ يَمْنَعُهُ زَمَانًا وَيَزْدَادُ إِثْمًا.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ، وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ، فَلا
(١) سورة يس: ٣٦/ ٣٦.
71
يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ، قالُوا يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ، فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
الضَّمِيرُ فِي لَهُمُ لِقُرَيْشٍ، وما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: عَذَابُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ، وَما خَلْفَكُمْ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَكْسَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
خُوِّفُوا بِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَمَا يَأْتِي مِنْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، كَقَوْلِ الْحَسَنِ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَمَا تَأَخَّرَ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، أَيْ أَعْرَضُوا. وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ: أَيْ دَأْبُهُمُ الْإِعْرَاضُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ تَأْتِيهِمْ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا: لَمَّا أَسْلَمَ حَوَاشِي الْكُفَّارِ مِنْ أَقْرِبَائِهِمْ وَمَوَالِيهِمْ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، قَطَعُوا عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُوَاسُونَهُمْ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ أَوَّلًا قَبْلَ نُزُولِ آيَاتِ الْقِتَالِ، فَنَدَبَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى صِلَةِ قُرَابَاتِهِمْ فَقَالُوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ.
وَقِيلَ: سُحِقَ قُرَيْشٌ بِسَبَبِ أَذِيَّةِ الْمَسَاكِينِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَغَيْرِهِ، فَنَدَبَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ.
وَقِيلَ:
قَالَ فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ: أَعْطُونَا مَا زَعَمْتُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، إِنَّهَا لِلَّهِ، فَحَرَّمُوهُمْ وَقَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بِمَكَّةَ زَنَادِقَةٌ، إِذَا أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ قَالُوا: لَا وَاللَّهِ، أَيُفْقِرُهُ الله ونطمعه نَحْنُ؟ أَوْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْمُؤْمِنِينَ يُعَلِّقُونَ الْأَفْعَالَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَغْنَى فُلَانًا، وَلَوْ شَاءَ لَأَعَزَّهُ، وَلَوْ شَاءَ لَكَانَ كَذَا، فَأَخْرَجُوا هَذَا الْجَوَابَ مُخْرَجَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَبِمَا كَانُوا يَقُولُونَ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِالصَّانِعِ، اسْتِهْزَاءً بِالْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ، أَيِ الْيَهُودِ، أُمِرُوا بِإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ. وَجَوَابُ لَوْ نَشَاءُ قَوْلُهُ: أَطْعَمَهُمْ، وَوُرُودُ الْمُوجَبِ بِغَيْرِ لَامٍ فَصِيحٌ، وَمِنْهُ: أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ «١»، لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً «٢» وَالْأَكْثَرُ مَجِيئُهُ بِاللَّامِ، والتصريخ بِالْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقُولَ لَهُمْ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَالْقَائِلُ لَهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنَّ كُلَّ وَصْفٍ حَامِلٌ صَاحِبَهُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ، إِذْ كُلُّ إِنَاءٍ بِالَّذِي فِيهِ يَرْشَحُ. وَأُمِرُوا بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْإِطْعَامِ وَغَيْرِهِ، فَأَجَابُوا بِغَايَةِ الْمُخَالَفَةِ، لِأَنَّ نَفْيَ إِطْعَامِهِمْ يَقْتَضِي نَفْيَ الإنفاق
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٠٠.
(٢) سورة الواقعة: ٥٦/ ٧٠.
72
الْعَامِّ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا نُنْفِقُ، وَلَا أَقَلَّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانُوا يَسْمَحُونَ بِهَا وَيُؤْثِرُونَ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ الَّذِي بِهِ يَفْتَخِرُونَ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. كَمَنْ يَقُولُ لِشَخْصٍ:
أَعْطِ لِزَيْدٍ دِينَارًا، فَيَقُولُ: لَا أُعْطِيهِ دِرْهَمًا، فَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ لَا أُعْطِيهِ دِينَارًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْكُفَّارِ يُخَاطِبُونَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ حَيْثُ طَلَبْتُمْ أَنْ تُطْعِمُوا مَنْ لَا يُرِيدُ اللَّهُ إِطْعَامَهُ، إِذْ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ إِطْعَامَهُ لَأَطْعَمَهُ هُوَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قول الله لهم اسْتَأْنَفَ زَجْرَهُمْ بِهِ، أَوْ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ مَا يَقُولُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعْجِيلِ: لِمَا تُوعِدُونَ بِهِ؟ أَيْ مَتَى يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي أَنْتُمْ تُوعِدُونَنَا بِهِ؟ أَوْ مَتَى هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي تُهَدِّدُونَنَا بِهِ؟ وَهُوَ سُؤَالٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ مِنْهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالتَّقْوَى، وَلَا يُتَّقَى إِلَّا مِمَّا يُخَافُ، وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ. سَأَلُوا مَتَى يَقَعُ هَذَا الَّذِي تُخَوِّفُونَا بِهِ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ.
مَا يَنْظُرُونَ: أي ما ينتطرون. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصَّيْحَةُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ مُنْتَظِرُوهَا، وَهَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى تَأْخُذُهُمْ فَيَهْلِكُونَ، وَهُمْ يَتَخَاصَمُونَ، أَيْ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ، فِي أَمَاكِنِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِمْهَالٍ لِتَوْصِيَةٍ، وَلَا رُجُوعٍ إِلَى أَهْلٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلَانِ قَدْ نَشَرَا ثَوْبَهُمَا يَتَبَايَعَانِهِ، فَمَا يَطْوِيَانِهِ حَتَّى تَقُومَ، وَالرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ، وَالرَّجُلُ يَرْفَعُ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ، فَمَا تَصِلُ إِلَى فِيهِ حَتَّى تَقُومَ».
وَقِيلَ:
لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِهِمْ قَوْلًا وَقِيلَ: وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أَبَدًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: يَخْتَصِمُونَ عَلَى الْأَصْلِ وَالْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْأَعْرَجُ، وَشِبْلٌ، وَابْنُ فُنْطَنْطِينَ: بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الصَّادِ وَنَقَلَ حَرَكَتِهَا إِلَى الْخَاءِ وَأَبُو عَمْرٍو أَيْضًا، وَقَالُونُ: يُخَالِفُ بِالِاخْتِلَاسِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَعَنْهُمَا إِسْكَانُ الْخَاءِ وَتَخْفِيفُ الصَّادِ مِنْ خَصَمَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِكَسْرِ الْخَاءِ وَشَدِّ الصَّادِ وَفُرْقَةٌ: بِكَسْرِ الْيَاءِ إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ الْخَاءِ وَشَدِّ الصَّادِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: يُرْجَعُونَ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: فِي الصُّوَرِ، بِفَتْحِ الْوَاوِ والجمهور: بإسكانها.
وقرىء: مِنَ الْأَجْدَافِ، بِالْفَاءِ بَدَلَ الثَّاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالثَّاءِ، وَيَنْسِلُونَ، بِكَسْرِ السِّينِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِضَمِّهَا. وَهَذِهِ النَّفْخَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ الَّتِي يَقُومُ النَّاسُ أَحْيَاءً عَنْهَا. وَلَا تَنَافُرَ بَيْنَ يَنْسِلُونَ وَبَيْنَ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «١»، لِأَنَّهُ لَا يَنْسِلُ إِلَّا قَائِمًا، وَلِأَنَّ تَفَاوُتَ الزَّمَانَيْنِ يَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ زَمَانٌ واحد.
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٦٨.
73
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَا وَيْلَتَنَا، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَعَنْهُ أَيْضًا: يَا وَيْلَتَى، بِالتَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ بَدَلٌ مِنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ يَا ويلتى. والجمهور:
ومَنْ بَعَثَنا: من استفهام، وَبَعَثَ فِعْلٌ مَاضٍ
وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو نَهِيكٍ: مِنْ حَرْفُ جَرٍّ، وَبَعْثِنَا مَجْرُورٌ بِهِ.
وَالْمَرْقَدُ: اسْتِعَارَةٌ عَنْ مَضْجَعِ الْمَيِّتِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ مِنْ رُقَادِنَا، وَهُوَ أَجْوَدُ. أَوْ يَكُونَ مَكَانًا، فَيَكُونَ الْمُفْرَدُ فِيهِ يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، أَيْ مِنْ مَرَاقِدِنَا. وَمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ: مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ يَنَامُونَ نَوْمَةً قَبْلَ الْحَشْرِ، فَقَالُوا: هُوَ غَيْرُ صَحِيحِ الْإِسْنَادِ. وَقِيلَ: قَالُوا مِنْ مَرْقَدِنَا، لِأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ كَانَ كَالرُّقَادِ فِي جَنْبِ مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، فقيل: مِنَ اللَّهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وَالتَّوْقِيفِ عَلَى إِنْكَارِهِمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ: مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْكُفَّارِ، عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ قَوْلِ الْكَفَرَةِ، أَوِ الْبَعْثِ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، قَالُوا ذَلِكَ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَنْ سُؤَالٌ عَنِ الَّذِي بَعَثَهُمْ، وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ، ذِكْرَ الْبَاعِثِ، أَيِ الرَّحْمَنِ الَّذِي وَعَدَكُمُوهُ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً عَلَى سِمَةِ الْمَوْعُودِ، وَالْمَصْدَرُ فِيهِ بِالْوَعْدِ وَالصِّدْقِ، وَبِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ هَذَا الَّذِي وَعَدَهُ الرَّحْمَنُ. وَالَّذِي صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، أَيْ صَدَقَ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَدَقْتُ زَيْدًا الْحَدِيثَ، أَيْ صَدَقَهُ فِيهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: صدقني سن بكره، أي فِي سِنِّ بِكْرِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْمَرْقَدِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ، وَيُضْمَرُ الْخَبَرُ حَقٌّ أَوْ نَحْوُهُ. وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا صِفَةً لِلْمَرْقَدِ، وَمَا وَعَدَ خبر مبتدأ محذوف، أي هَذَا وَعْدُ الرَّحْمَنِ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أي مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ حَقٌّ عَلَيْكُمْ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ إِلَّا صَيْحَةً بِالرَّفْعِ وَتَوْجِيهُهَا. فَالْيَوْمَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَانْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ لَا يَظْلِمُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. قِيلَ: وَالصَّيْحَةُ قَوْلُ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ النَّخِرَةُ وَالْأَوْصَالُ الْمُنْقَطِعَةُ وَالشُّعُورُ الْمُتَمَزِّقَةُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُنَّ أَنْ تَجْتَمِعْنَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ «١».
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ، هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ، لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ، سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ، وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا
(١) سورة ق: ٥٠/ ٤٢.
74
الْمُجْرِمُونَ، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ، هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ، وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ، وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ، وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ، لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِحَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ لَنَا بِمَا يَكُونُونَ فِيهِ إِذَا صَارُوا إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةُ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ زِيَادَةُ تَصْوِيرٍ لِلْمَوْعُودِ لَهُ فِي النُّفُوسِ، وَتَرْغِيبٌ إِلَى الْحِرْصِ عَلَيْهِ وَفِيمَا يُثْمِرُهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشُّغُلَ هُوَ النَّعِيمُ الَّذِي قَدْ شَغَلَهُمْ عَنْ كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ. وَقَالَ قَرِيبًا مِنْهُ مُجَاهِدٌ، وَبَعْضُهُمْ خَصَّ هَذَا الشُّغُلَ بِافْتِضَاضِ الْأَبْكَارِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَنْهُ أَيْضًا: سَمَاعُ الْأَوْتَارِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: شُغِلُوا عَنْ مَا فِيهِ أَهْلُ النَّارِ.
وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: عَنْ أَهَالِيهِمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، لَا يَذْكُرُونَهُمْ لِئَلَّا يتنغصوا. وَعَنِ ابْنِ كَيْسَانَ:
الشُّغُلُ: التَّزَاوُرُ. وَقِيلَ: ضِيَافَةُ اللَّهِ، وَأُفِرَدَ الشُّغُلُ مَلْحُوظًا فِيهِ النَّعِيمُ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَعِيمٌ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو السَّمَّالِ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ فِيمَا نَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنْهُ: بِفَتْحَتَيْنِ وَيَزِيدُ النَّحْوِيُّ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ، فِيمَا نَقَلَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: بِفَتْحِ الشِّينِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
فاكِهُونَ، بِالْأَلِفِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَمُجَاهِدٌ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَيَحْيَى بْنُ صُبَيْحٍ، وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ: بِغَيْرِ أَلِفٍ وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: فَاكِهِينَ، بِالْأَلِفِ وَبِالْيَاءِ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، وَفِي شُغُلٍ هُوَ الْخَبَرُ. فَبِالْأَلِفِ أَصْحَابُ فَاكِهَةٍ، كَمَا يُقَالُ لَابِنٍ وَتَامِرٍ وَشَاحِمٍ وَلَاحِمٍ، وَبِغَيْرِ أَلِفٍ مَعْنَاهُ: فَرِحُونَ طَرِبُونَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الفكاهة وهي المزحة، وقرىء: فَكِهِينَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ وَبِالْيَاءِ. وقرىء: فَكُهُونَ، بِضَمِّ الْكَافِ. يُقَالُ: رَجُلٌ فَكُهٌ وَفَكِهٌ، نَحْوُ: يَدُسٌ وَيَدِسٌ. وَيَجُوزُ فِي هُمْ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرَهُ في ضلال، وَمُتَّكِئُونَ خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ خَبَرُهُ مُتَّكِئُونَ، وَفِي ظِلَالٍ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، أَوْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي فَاكِهُونَ، وَفِي ظِلَالٍ حَالٌ، وَمُتَّكِئُونَ خَبَرٌ ثَانٍ لِإِنَّ، أَوْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي شُغُلٍ، الْمُنْتَقِلِ إِلَيْهِ مِنَ الْعَامِلِ فِيهِ.
75
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَالَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ الْأَزْوَاجُ قَدْ شَارَكُوهُمْ فِي التَّفَكُّهِ وَالشُّغُلِ وَالِاتِّكَاءِ عَلَى الْأَرَائِكِ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَنْطُوقِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ، شَارَكُوهُمْ فِي الظِّلَالِ وَالِاتِّكَاءِ عَلَى الْأَرَائِكِ مِنْ حَيْثُ الْمَنْطُوقُ، وَهُنَّ قَدْ شَارَكْنَهُمْ فِي التَّفَكُّهِ وَالشُّغُلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي ظِلالٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ جَمْعُ ظِلٍّ، إِذِ الْجَنَّةُ لَا شَمْسَ فِيهَا، وَإِنَّمَا هَوَاؤُهَا سَجْسَجٌ، كَوَقْتِ الْأَسْفَارِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. انْتَهَى. وَجَمْعُ فُعُلٍ عَلَى فِعَالٍ فِي الْكَثْرَةِ، نَحْوُ: ذِئْبٌ وَذِئَابٌ. وَأَمَّا أَنَّ وَقْتَ الْجَنَّةِ كَوَقْتِ الْأَسْفَارِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟
وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى حَوْرَاءَ مِنْ حُورِ الْجَنَّةِ، لَوْ ظَهَرَتْ لَأَضَاءَتْ مِنْهَا الدُّنْيَا
، أَوْ نَحْوٌ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ ظُلَّةٍ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَبُرْمَةٍ وَبِرَامٍ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: جَمْعُ ظِلَّةٍ، بِكَسْرِ الظَّاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهِيَ لُغَةٌ فِي ظُلَّةٍ. انْتَهَى. فَيَكُونَ مِثْلَ لُقْحَةٍ وَلِقَاحٍ، وَفِعَالٌ لَا يَنْقَاسُ فِي فُعْلَةٍ بَلْ يُحْفَظُ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالسُّلَمِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: فِي ظِلٍّ جَمْعُ ظِلَّةٍ، وَجَمْعُ فِعْلَةٍ عَلَى فِعْلٍ مَقِيسٌ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَلَابِسِ وَالْمَرَاتِبِ مِنَ الْحِجَالِ وَالسُّتُورِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُظِلُّ. وَقَرَأَ عَبْدُ الله: متكئين، نصب عَلَى الْحَالِ وَيَدَّعُونَ مُضَارِعُ ادَّعَى، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنْ دَعَا، وَمَعْنَاهُ: وَلَهُمْ مَا يَتَمَنَّوْنَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَرَبُ تَقُولُ ادْعُ عَلَيَّ مَا شِئْتَ، بِمَعْنَى تَمَنَّ عَلَيَّ وَتَقُولُ فُلَانٌ فِي خَبَرٍ مَا تَمَنَّى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ مِنَ الدُّعَاءِ، أَيْ مَا يَدْعُونَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَأْتِيهِمْ. وَقِيلَ: يَدْعُونَ بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: يَتَدَاعُونَهُ لِقَوْلِهِ ارْتَمُوهُ وَتَرَامُوهُ.
وَقَرَأَ الجمهور: سلام بالرفع. وقيل: وَهُوَ صِفَةٌ لِمَا، أَيْ مُسَلَّمٌ لَهُمْ وَخَالِصٌ. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ كَانَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، لِأَنَّهَا تَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَعْرِفَةً. وَسَلَامٌ نَكِرَةٌ، وَلَا تُنْعَتُ الْمَعْرِفَةُ بِالنَّكِرَةِ. فَإِنْ كَانَتْ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً جَازَ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ عُمُومٌ، كَحَالِهَا، بِمَعْنَى الَّذِي.
وَقِيلَ: سَلَامٌ مُبْتَدَأٌ وَيَكُونُ خَبَرُهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ النَّاصِبَ لِقَوْلِهِ: قَوْلًا، أَيْ سَلَامٌ يُقَالُ، قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ، أَوْ يَكُونُ عَلَيْكُمْ مَحْذُوفًا، أَيْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ. وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ سَلَامٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَلامٌ قَوْلًا بَدَلٌ مِنْ مَا يَدَّعُونَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَهُمْ سَلَامٌ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلًا مِنْ جِهَةِ رَبٍّ رَحِيمٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِمْ، وَذَلِكَ مُتَمَنَّاهُمْ، وَلَهُمْ ذَلِكَ لَا يُمْنَعُونَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ بِالتَّحِيَّةِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ سَلَامٌ بَدَلًا مِنْ مَا يَدَّعُونَ، كان مَا يَدَّعُونَ خُصُوصًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عُمُومٌ فِي
76
كُلِّ مَا يَدَّعُونَ، وَإِذَا كَانَ عُمُومًا، لَمْ يَكُنْ سَلَامٌ بَدَلًا مِنْهُ. وَقِيلَ: سَلَامٌ خَبَرٌ لِمَا يَدَّعُونَ، وَمَا يَدَّعُونَ مُبْتَدَأٌ، أَيْ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلَامٌ خَالِصٌ لَا شُرْبَ فِيهِ، وَقَوْلًا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، كَقَوْلِهِ:
وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ: أَيْ عِدَّةٌ مِنْ رَحِيمٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ مِنْ مَجَازِهِ. انْتَهَى. وَيَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلِّقًا عَلَى هَذَا الإعراب بسلام. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: سِلْمٌ، بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَمَعْنَاهُ سَلَامٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: مُسَالِمٌ لَهُمْ، أَيْ ذَلِكَ مُسَالِمٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعِيسَى، وَالْقَنَوِيُّ:
سَلَامًا، بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ لَهُمْ مُرَادُهُمْ خَالِصًا.
وَامْتازُوا الْيَوْمَ: أَيِ انْفَرَدُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمَحْشَرَ جَمَعَ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، فَأُمِرَ الْمُجْرِمُونَ بِأَنْ يَكُونُوا عَلَى حِدَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثَمَّ قَوْلًا مَحْذُوفًا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يُقَالُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ، قِيلَ: وَيُقَالُ لِلْمُجْرِمِينَ:
امْتازُوا. وَلَمَّا امْتَثَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، قَالَ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ؟ وَقَّفَهُمْ عَلَى عَهْدِهِ إِلَيْهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: لِكُلِّ كَافِرٍ بَيْتٌ مِنَ النَّارِ يَكُونُ فِيهِ لَا يَرَى وَلَا يُرَى، فَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ: اعْتَزَلُوا عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَالْعَهْدُ: الْوَصِيَّةُ، عَهِدَ إِلَيْهِ إِذَا وَصَّاهُ. وَعَهْدُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ: مَا رَكَّزَ فِيهِمْ مِنْ أَدِلَّةِ الْعَقْلِ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَدِلَّةِ السَّمْعِ. وَعِبَادَةُ الشَّيْطَانِ: طَاعَتُهُ فِيمَا يُغْوِيهِ وَيُزَيِّنُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَعْهَدْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ، وَالْهُذَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الْكُوفِيُّ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، قَالَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَقَالَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهَذَا الْكَسْرُ فِي النُّونِ وَالتَّاءِ أَكْثَرُ مِنْ بَيْنِ حُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ، يَعْنِي: نِعْهَدْ وَتِعْهَدْ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: أَلَمْ أَعْهَدْ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ:
أَلَمْ أَحَدْ، لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْهُذَيْلُ بْنُ وثاب: ألم إعهد، بكسر الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، وَهِيَ عَلَى لُغَةِ مَنْ كَسَرَ أَوَّلَ الْمُضَارِعِ سِوَى الْيَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ وثاب: ألم إعهد، بكسر الْهَاءِ، يُقَالُ: عَهِدَ يَعْهِدُ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ يَعْنِي أَنَّ كَسْرَ الْمِيمِ يَدُلُّ عَلَى كَسْرِ الْهَمْزَةِ، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ الَّتِي فِي الْمِيمِ هِيَ حَرَكَةُ نَقْلِ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ حِينَ نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا وَهُوَ الْمِيمُ. أَعْهَدْ بِالْهَمْزَةِ الْمَقْطُوعَةِ الْمَكْسُورَةِ لَفْظًا، لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء إِعْهَدْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَبَابُ فَعِلَ كُلُّهُ يَجُوزُ فِي حُرُوفِ مُضَارَعَتِهِ الْكَسْرُ إِلَّا فِي الْيَاءِ وَأَعْهِدُ بِكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَدْ جَوَّزَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ نَعَمَ يَنْعِمُ، وَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَأَحْهَدُ بِالْحَاءِ وَأَحَدُ، وَهِيَ لُغَةُ
77
تَمِيمٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: دَحَّا مَحَّا. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: إِلَّا فِي الْيَاءِ، لُغَةٌ لِبَعْضِ كَلْبٍ أَنَّهُمْ يَكْسِرُونَ أَيْضًا فِي الْيَاءِ، يَقُولُونَ: هَلْ يِعْلَمُ؟ وَقَوْلُهُ: دَحَّا مَحَّا، يُرِيدُونَ دَعْهَا مَعَهَا، أَدْغَمُوا الْعَيْنَ فِي الْحَاءِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مَا عَهِدَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَعْصِيَةِ الشَّيْطَانِ وَطَاعَةِ الرَّحْمَنِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ: جِبِلًّا، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ، وَسُهَيْلٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةَ، وَأَبِي رجاء والحسن: بخلاف عنه. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ، وَالْهُذَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ: بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّهَا وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَفْصُ بْنُ حُمَيْدٍ: بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ، وَالْيَمَانِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ: بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَالْأَعْمَشُ: جِبِلًا، بِكَسْرَتَيْنِ وتخفيف اللام. وقرىء:
جِبَلًا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، جَمْعُ جِبْلَةٍ، نَحْوُ فِطْرَةٍ وَفِطَرٍ، فهذه سبع لغات قرىء بِهَا.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَبَعْضُ الْخُرَاسَانِيِّينَ: جِيلًا، بِكَسْرِ الْجِيمِ بَعْدَهَا يَاءُ آخِرِ الْحُرُوفِ
، وَاحِدُ الْأَجْيَالِ وَالْجِبْلُ بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أَسْفَلُ الْأُمَّةُ الْعَظِيمَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
أَقَلُّهُ عَشَرَةُ آلَافٍ. خَاطَبَ تَعَالَى الْكُفَّارَ بِمَا فَعَلَ مَعَهُمُ الشَّيْطَانُ تَقْرِيعًا لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
أَفَلَمْ تَكُونُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، عَائِدًا عَلَى جبل. وَيُرْوَى أَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ وَيُخَاصِمُونَ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِمْ جِيرَانُهُمْ وَعَشَائِرُهُمْ وَأَهَالِيهِمْ، فَيَحْلِفُونَ مَا كَانُوا مُشْرِكِينَ، فَحِينَئِذٍ يُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «يَقُولُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنِّي لَا أجيز عليّ شاهد إِلَّا مِنْ نَفْسِي فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ فَيُقَالُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فعنكنّ كنت أناضل».
وقرىء: يختم مبينا لِلْمَفْعُولِ، وَتَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ، بِتَاءَيْنِ وقرىء: ولتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام الْأَمْرِ وَالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْأَعْضَاءَ بِالْكَلَامِ وَالشَّهَادَةِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ طَلْحَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: وَلِتُكَلِّمَنَا أَيْدِيهِمْ وَلِتَشْهَدَ، بِلَامِ كَيْ وَالنَّصْبُ عَلَى مَعْنَى: وَكَذَلِكَ يُخْتَمُ عَلَى أَفَوَاهِهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَعْيُنَ هِيَ الْأَعْضَاءُ الْمُبْصِرَةُ، وَالْمَعْنَى: لَأَعْمَيْنَاهُمْ فَلَا يَرَوْنَ كَيْفَ يَمْشُونَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَيُؤَيِّدُهُ مُنَاسَبَةُ الْمَسْخِ، فَهُمْ فِي قَبْضَةِ الْقُدْرَةِ وَبُرُوجِ الْعَذَابِ إِنْ شَاءَهُ اللَّهُ لَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ عَيْنَ البصائر، والمعنى: لو نَشَاءُ لَخَتَمْتُ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ فَلَا يَهْتَدِي مِنْهُمْ أَحَدٌ أَبَدًا. وَالطَّمْسُ: إِذْهَابُ الشَّيْءِ وَأَثَرِهِ جُمْلَةً حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ. فَإِنْ
78
أُرِيدَ بِالْأَعْيُنِ الْحَقِيقَةُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَطْمِسُ بِمَعْنَى يَمْسَخُ حَقِيقَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّمْسُ يُرَادُ بِهِ الْعَمَى مِنْ غَيْرِ إِذْهَابِ الْعُضْوِ وَأَثَرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاسْتَبَقُوا، فِعْلًا مَاضِيًا مَعْطُوفًا عَلَى لَطَمَسْنا، وَهُوَ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ. وَالصِّرَاطَ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ إِلَى حُذِفَتْ وَوُصِلَ الْفِعْلُ، وَالْأَصْلُ فَاسْتَبَقُوا إِلَى الصِّرَاطِ، أَوْ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى تَضْمِينِ اسْتَبَقُوا مَعْنَى تَبَادَرُوا، وَجَعْلِهِ مَسْبُوقًا إِلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَنْتَصِبُ عَلَى الظَّرْفِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الصِّرَاطَ هُوَ الطَّرِيقُ، وَهُوَ ظَرْفُ مَكَانٍ مُخْتَصٌّ. لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ إِلَّا بِوَسَاطَةِ فِي إِلَّا فِي شُذُوذٍ، كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
لَدْنٌ بِهَزُّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
وَمَذْهَبُ ابْنِ الطَّرَاوَةِ أَنَّ الصِّرَاطَ وَالطَّرِيقَ وَالْمَخْرِمَ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الظُّرُوفِ الْمَكَانِيَّةِ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً، فَعَلَى مَذْهَبِهِ يَسُوغُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ عِيسَى: فَاسْتَبِقُوا عَلَى الْأَمْرِ، وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمُ اسْتَبِقُوا الصِّرَاطَ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ، إِذْ لَا يُمْكِنُهُمُ الِاسْتِبَاقُ مَعَ طَمْسِ الْأَعْيُنِ. فَأَنَّى يُبْصِرُونَ: أَيْ كَيْفَ يُبْصِرُ مَنْ طُمِسَ عَلَى عَيْنِهِ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسْخَ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ تَبْدِيلُ صِوَرِهِمْ بِصُوَرٍ شَنِيعَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لَمَسَخْناهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقِيلَ حِجَارَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَجَمَاعَةٌ: لَأَقْعَدْنَاهُمْ وَأَزَمْنَاهُمْ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَصَرُّفًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: هَذَا التَّوَعُّدُ كُلُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: عَلى مَكانَتِهِمْ، بِالْإِفْرَادِ، وَهِيَ الْمَكَانُ، كَالْمَقَامَةِ وَالْمَقَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِالْجَمْعِ.
وَالْجُمْهُورُ: مُضِيًّا، بِضَمِّ الْمِيمِ: وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ:
بِكَسْرِهَا اتِّبَاعًا لِحَرَكَةِ الضَّادِ، كَالْعِتِبِيِّ وَالْقِتِبِيِّ، وَزْنُهُ فَعُولٌ. الْتَقَتْ وَاوٌ سَاكِنَةٌ وَيَاءٌ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا لتصح الياء. وقرىء: مَضِيًّا، بِفَتْحِ الْمِيمِ، فَيَكُونُ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعِيلٍ، كَالرَّسِيمِ وَالْوَجِيفِ.
وَلِمَا ذَكَرَ تَعَالَى الطَّمْسَ وَالْمَسْخَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُشَبَّهِ، ذَكَرَ تَعَالَى دَلِيلًا عَلَى بَاهِرِ قُدْرَتِهِ فِي تَنْكِيسِ الْمُعَمَّرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا هُوَ تَعَالَى. وتنكيسه: قبله وَجَعَلَهُ عَلَى عَكْسِ مَا خَلَقَهُ أَوَّلًا، وَهُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ عَلَى ضَعْفٍ فِي جَسَدٍ وَخُلُوٍّ مِنْ عَقْلٍ وَعِلْمٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ يَتَزَايَدُ وَيَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَتُسْتَكْمَلَ قُوَّتُهُ، وَيَعْقِلَ وَيَعْلَمَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ.
فَإِذَا انْتَهَى نَكَّسَهُ فِي الْخَلْقِ، فَيَتَنَاقَصُ حَتَّى يَرْجِعَ فِي حَالٍ شَبِيهَةٍ بِحَالِ الصِّبَا فِي ضَعْفِ
79
جَسَدِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ وَخُلُوِّهِ مِنَ الْفَهْمِ، كَمَا يُنَكَّسُ السَّهْمُ فَيُجْعَلُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَطْمِسَ وَأَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا أَرَادَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُنَكِّسْهُ، مُشَدَّدًا وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَبَّاسٍ: تَعْقِلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ.
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ: الضَّمِيرُ فِي عَلَّمْنَاهُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ شَاعِرٌ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْقَائِلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَوْلُهُمْ فِيهِ شَاعِرٌ. أَمَّا مَنْ كَانَ فِي طَبْعِهِ الشِّعْرُ، فَقَوْلُهُ مُكَابَرَةٌ وَإِيهَامٌ لِلْجَاهِلِ بِالشِّعْرِ وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ فِي طَبْعِهِ، فَقَوْلُهُ جَهْلٌ مَحْضٌ. وَأَيْنَ هُوَ مِنَ الشِّعْرِ؟ وَالشِّعْرُ إِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مَوْزُونٌ مُقَفًّى يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى تَنْتَخِبُهُ الشُّعَرَاءُ مِنْ كَثْرَةِ التَّخْيِيلِ وَتَزْوِيقِ الْكَلَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَرَّعُ الْمُتَدَيِّنُ عَنْ إِنْشَادِهِ، فَضْلًا عَنْ إِنْشَائِهِ: وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَقُولُ الشِّعْرَ، وَإِذَا أَنْشَدَ بَيْتًا أَحْرَزَ الْمَعْنَى دُونَ وَزْنِهِ، كَمَا أَنْشَدَ:
سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا وَيَأْتِيكَ مَنْ لَمْ تُزَوَّدْ بِالْأَخْبَارِ
وَقِيلَ: مِنْ أَشْعَرِ النَّاسِ، فَقَالَ الَّذِي يَقُولُ:
أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا وَجَدْتُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تُطَيَّبْ طِيبَا
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْ دِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ
وَأَنْشَدَ يَوْمًا:
كَفَى بِالْإِسْلَامِ وَالشَّيْبِ نَاهِيَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ، وَرُبَّمَا أَنْشَدَ الْبَيْتَ مُتَّزِنًا فِي النَّادِرِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنْشَدَ بَيْتَ ابْنِ رَوَاحَةَ:
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فراشه إذا استثقلت بالمشركين الْمَضَاجِعُ
وَلَا يَدُلُّ إِجْرَاءُ الْبَيْتِ عَلَى لِسَانِهِ مُتَّزِنًا أَنَّهُ يَعْلَمُ الشِّعْرَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَدْخُلُهُ الْوَزْنُ
كَقَوْلِهِ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
80
وَهُوَ كَلَامٌ مَنْ جِنْسِ كَلَامِهِ الَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى طَبِيعَتِهِ، مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ فِيهِ وَلَا قَصْدٍ لِوَزْنٍ وَلَا تَكَلُّفٍ. كَمَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ مَوْزُونٌ وَلَا يُعَدُّ شِعْرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «١». وَقَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «٢». وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النَّثْرِ الَّذِي تُنْشِئُهُ الْفُصَحَاءُ، وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ شِعْرًا، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُنْشِي وَلَا السَّامِعِ أَنَّهُ شِعْرٌ. وَما يَنْبَغِي لَهُ: أَيْ وَلَا يُمْكِنُ لَهُ وَلَا يَصِحُّ وَلَا يُنَاسَبُ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي طَرِيقِ جِدٍّ مَحْضٍ، وَالشِّعْرُ أَكْثَرُهُ فِي طَرِيقِ هَزْلٍ، وَتَحْسِينٌ لِمَا لَيْسَ حَسَنًا، وَتَقْبِيحٌ لِمَا لَيْسَ قَبِيحًا وَمُغَالَاةٌ مُفْرِطَةٌ. جَعَلَهُ تَعَالَى لَا يَقْرِضُ الشِّعْرَ، كَمَا جَعَلَهُ أُمِّيًّا لَا يَخُطُّ، لِتَكُونَ الْحُجَّةُ أَثْبَتَ وَالشُّبْهَةُ أَدْحَضَ. وَقِيلَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى غَضَاضَةِ الشِّعْرِ،
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أَنَا بِشَاعِرٍ وَلَا يَنْبَغِي لِي».
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا غَضَاضَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ اللَّهُ نبيه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَإِنْ كَانَ حِلْيَةً جَلِيلَةً لِيَجِيءَ الْقُرْآنُ مِنْ قِبَلِهِ أَغْرَبَ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ إِدْرَاكُ الشِّعْرِ لَقِيلَ فِي الْقُرْآنِ: هَذَا مِنْ تِلْكَ الْقُوَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَلَيْسَ الْأَمْرُ عِنْدِي كَذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ فِي النَّثْرِ فِي الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا، وَلَكِنَّ كَلَامَ اللَّهِ يُبِينُ بِإِعْجَازِهِ وَيَنْدُرُ بِوَصْفِهِ، وَيُخْرِجُهُ إِحَاطَةُ عِلْمِ اللَّهِ عَنْ كُلِّ كَلَامٍ وَإِنَّمَا مَنَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنَ الشِّعْرِ تَرْفِيعًا لَهُ عَنْ مَا فِي قَوْلِ الشُّعَرَاءِ مِنَ التَّخْيِيلِ وَالتَّزْوِيقِ لِلْقَوْلِ.
وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ ذِكْرٌ بِحَقَائِقَ وَبَرَاهِينَ، فَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ، وَهَذَا كَانَ أُسْلُوبُ كَلَامِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قولا وَاحِدًا. انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ لِلرَّسُولِ، أَيْ وَمَا يَنْبَغِي الشِّعْرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أنه عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ وَمَا يَنْبَغِي الشِّعْرُ لِلْقُرْآنِ، وَلَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَقُولَ: يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَيُبَيِّنُهُ عَوْدُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ: أَيْ كِتَابٌ سَمَاوِيٌّ يُقْرَأُ فِي الْمَحَارِيبِ، وَيُنَالُ بِتِلَاوَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ مَا فِيهِ فَوْزُ الدَّارَيْنِ. فَكَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشِّعْرِ الَّذِي أَكْثَرُهُ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ؟ وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: لِتُنْذِرَ بِتَاءِ الْخِطَابِ لِلرَّسُولِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْيَاءِ لِلْغَيْبَةِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الرَّسُولِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: لِيُنْذِرَ، بالياء مبينا لِلْمَفْعُولِ، وَنَقَلَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنِ الْجَحْدَرِيِّ. وَقَالَ عَنْ أَبِي السَّمَّالِ وَالْيَمَانِيِّ أَنَّهُمَا قَرَآ:
لِيَنْذَرَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالذَّالِ مُضَارِعُ نَذِرَ بِكَسْرِ الذَّالِ، إِذَا عَلِمَ بِالشَّيْءِ فَاسْتَعَدَّ لَهُ. مَنْ كانَ حَيًّا: أَيْ غَافِلًا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، لِأَنَّ الْغَافِلَ كَالْمَيِّتِ ويريد به من حتم عليه بالإيمان،
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٩٢.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٢٩.
81
وَكَذَلِكَ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: وَيَحِقَّ الْقَوْلُ: أَيْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، عَلَى الْكافِرِينَ الْمَحْتُومِ لَهُمْ بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ، وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ، لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ، فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
الْإِخْبَارُ وَتَنْبِيهُ الِاسْتِفْهَامِ لِقُرَيْشٍ، وَإِعْرَاضِهَا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَعُكُوفِهَا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ الْمَصْنُوعَةُ لَا يُبَاشِرُهَا الْبَشَرُ إِلَّا بِالْيَدِ، عَبَّرَ لَهُمْ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ أَفْهَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا: أَيْ مِمَّا تُوَلَّيْنَا عَمَلَهُ، وَلَا يُمْكِنُ لِغَيْرِنَا أَنْ يَعْمَلَهُ.
فبقدرتنا وإرادتنا بَرَزَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، لَمْ يُشْرِكْنَا فِيهَا أَحَدٌ، وَالْبَارِي تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْيَدِ الَّتِي هِيَ الْجَارِحَةُ، وَعَنْ كُلِّ مَا اقْتَضَى التَّشْبِيهَ بِالْمُحْدَثَاتِ. وَذَكَرَ الْأَنْعَامَ لَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ جُلَّ أَمْوَالِهِمْ، وَنَبَّهَ عَلَى مَا يَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ مَنَافِعِهَا. لَها مالِكُونَ: أَيْ مَلَكْنَاهَا إِيَّاهُمْ، فَهُمْ مُتَصَرِّفُونَ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، مُخْتَصُّونَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا، أَوْ مالِكُونَ: ضَابِطُونَ لَهَا قَاهِرُونَهَا، مِنْ قَوْلُهُ:
هَلْ أَنْتَ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا
أَيْ: لَا أَضْبُطُهُ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ. فَلَوْلَا تَذْلِيلُهُ تَعَالَى إِيَّاهَا وَتَسْخِيرُهُ، لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا. أَلَا تَرَى إِلَى مَا ندّ منها لا يكاد يقدر على رَدِّهِ؟ لِذَلِكَ أُمِرَ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ رَاكِبُهَا، وَشُكْرِهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ بِقَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ «١». وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَكُوبُهُمْ، وَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْحَضُورِ وَالْحَلُوبِ وَالْقَذُوعِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْقَاسُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَائِشَةُ: رَكُوبَتُهُمْ بِالتَّاءِ، وَهِيَ فَعُولَةٌ بِمَعْنَى مُفَعْوِلَةٍ. وَقَالَ
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ١٣.
82
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ الرَّكُوبَةُ جَمْعٌ. انْتَهَى، وَيَعْنِي اسْمَ جَمْعٍ، لِأَنَّ فَعُولَةً بِفَتْحِ الْفَاءِ لَيْسَ بِجَمْعِ تَكْسِيرٍ. وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَبْنِيَةَ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا فَعُولَةً، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهَا أَنَّهَا اسْمُ مفرد لا جَمْعُ تَكْسِيرٍ وَلَا اسْمُ جَمْعٍ، أَيْ مَرْكُوبَتُهُمْ كَالْحَلُوبَةِ بِمَعْنَى الْمَحْلُوبَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو الْبَرَهْسَمِ، وَالْأَعْمَشُ: رُكُوبُهُمْ، بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِغَيْرِ تَاءٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ حُذِفَ مُضَافُهُ، أَيْ ذُو رُكُوبِهِمْ، أَوْ فَحُسْنُ مَنَافِعِهَا رُكُوبُهُمْ، فَيُحْذَفُ ذُو، أَوْ يُحْذَفُ مَنَافِعُ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: الْعَرَبُ تَقُولُ: نَاقَةٌ رَكُوبٌ حَلُوبٌ، وَرَكُوبَةٌ حَلُوبَةٌ، وَرَكْبَاةٌ حَلْبَاةٌ، وَرَكْبُوبٌ حَلْبُوبٌ، وَرَكْبِيٌّ حَلْبِيٌّ، وَرَكْبُوتًا حَلْبُوتًا، كُلُّ ذَلِكَ مَحْكِيٌّ، وَأَنْشَدَ:
رَكْبَانَةٌ حَلْبَانَةٌ زُفُوفٌ تَخْلِطُ بَيْنَ وَبَرٍ وَصُوفِ
وَأَجْمَلُ الْمَنَافِعِ هُنَا، وفصلها فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ «١» الْآيَةَ.
وَالْمَشَارِبُ: جَمْعُ مَشْرَبٍ، وَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ، أَيْ شُرْبٌ، أَوْ مَوْضِعُ الشُّرْبِ. ثُمَّ عَنَّفَهُمْ وَاسْتَجْهَلَهُمْ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً لِطَلَبِ الِاسْتِنْصَارِ. لَا يَسْتَطِيعُونَ: أَيِ الْآلِهَةُ، نَصْرَ مُتَّخِذِيهِمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. لَمَّا اتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً لِلِاسْتِنْصَارِ بِهِمْ، رَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى نَصْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي يَسْتَطِيعُونَ عائدا لِلْكُفَّارِ، وَفِي نَصْرَهُمْ لِلْأَصْنَامِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي لَا يَسْتَطِيعُونَ، أَيْ وَالْآلِهَةُ لِلْكُفَّارِ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الْحِسَابِ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالنِّقْمَةِ. وَسَمَّاهُمْ جُنْدًا، إِذْ هُمْ مُعَدُّونَ لِلنِّقْمَةِ مِنْ عَابِدِيهِمْ وَلِلتَّوْبِيخِ، أَوْ مُحْضَرُونَ لِعَذَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُجْعَلُونَ وَقُودًا لِلنَّارِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي وَهُمْ عَائِدًا عَلَى الْكُفَّارِ، وَفِي لَهُمْ عَائِدًا عَلَى الْأَصْنَامِ، أَيْ وَهُمُ الْأَصْنَامُ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ مُتَعَصِّبُونَ لَهُمْ مُتَحَيِّرُونَ، يَذُبُّونَ عَنْهُمْ، يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُونَ، أَيِ الْكُفَّارُ التَّنَاصُرَ. وَهَذَا الْقَوْلُ مُرَكَّبٌ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَا يَسْتَطِيعُونَ لِلْكُفَّارِ. ثُمَّ آنَسَ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِقَوْلِهِ: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ: أَيْ لَا يَهُمُّكَ تَكْذِيبُهُمْ وَأَذَاهُمْ وَجَفَاؤُهُمْ، وَتَوَعَّدَ الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، فَنُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ.
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ: قَبَّحَ تَعَالَى إِنْكَارَ الْكَفَرَةِ الْبَعْثَ، حَيْثُ قَرَّرَ أَنَّ عُنْصُرَهُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ هُوَ نُطْفَةُ مَاءٍ مَهِينٍ خَارِجٍ مِنْ مَخْرَجِ النَّجَاسَةِ. أَفْضَى بِهِ مَهَانَةُ أَصْلِهِ إِلَى أَنْ يُخَاصِمَ الْبَارِي تَعَالَى وَيَقُولَ: مَنْ يحيي الميت بعد ما رُمَّ؟ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُنْشَأٌ مِنْ مَوَاتٍ. وَقَائِلٌ ذلك
(١) سورة النحل: ١٦/ ٨٠. [.....]
83
الْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، أَوْ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، أَوْ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ. وَالْقَوْلُ أَنَّهُ أُمَيَّةُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ وَاقِعٌ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَدْ كَانَ لِأُبَيٍّ مَعَ الرَّسُولِ مُرَاجَعَاتٌ وَمَقَامَاتٌ، جَاءَ بِالْعَظْمِ الرَّمِيمِ بِمَكَّةَ، فَفَتَّتَهُ فِي وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَقَالَ: مَنْ يُحْيِى هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: «اللَّهُ يُحْيِيهِ وَيُمِيتُكَ وَيُحْيِيكَ وَيُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ»، ثُمَّ نَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأُبَيٌّ هَذَا قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ يَوْمَ أُحُدٍ بِالْحَرْبَةِ، فَخَرَجَتْ مِنْ عُنُقِهِ.
وَوَهَمَ مَنْ نَسَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجَائِيَ بِالْعَظْمِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بْنُ سَلُولَ، لِأَنَّ السُّورَةَ وَالْآيَةَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَلِأَنَّ عبد الله بن أبي لَمْ يُهَاجِرْ قَطُّ هَذِهِ الْمُهَاجَرَةَ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ:
فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَبَيْنَ: خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ تَبَيَّنَ أَكْثَرُهَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ «١»، وَإِنَّمَا أَعْتَقَبَ قوله: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ الْوَصْفَ الَّذِي آلَ إِلَيْهِ مِنَ التَّمْيِيزِ وَالْإِدْرَاكِ الَّذِي يَتَأَتَّى مَعَهُ الْخِصَامُ، أي فإذا هو بعد ما كَانَ نُطْفَةً، رَجُلٌ مُمَيِّزٌ مِنْطِيقٌ قَادِرٌ عَلَى الْخِصَامِ، مُبِينٌ مُعْرِبٌ عَمَّا فِي نَفْسِهِ.
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ: أَيْ نَشْأَتَهُ مِنَ النُّطْفَةِ، فَذَهَلَ عَنْهَا وَتَرَكَ ذِكْرَهَا عَلَى طَرِيقِ اللَّدَدِ وَالْمُكَابَرَةِ وَالِاسْتِبْعَادِ لِمَا لَا يُسْتَبْعَدُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَنَسِيَ خَالِقَهُ، اسْمُ فَاعِلٍ وَالْجُمْهُورُ: خَلْقَهُ، أَيْ نَشْأَتَهُ. وَسَمَّى قَوْلَهُ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ قِصَّةٍ عَجِيبَةٍ شَبِيهَةٍ بِالْمَثَلِ، وَهِيَ إِنْكَارُ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، كَمَا هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالرَّمِيمُ اسْمٌ لِمَا بَلَى مِنَ الْعِظَامِ غَيْرُ صِفَةٍ، كَالرِّمَّةِ وَالرُّفَاةِ، فَلَا يُقَالُ: لِمَ لَمْ يُؤَنَّثْ؟ وَقَدْ وَقَعَ خَبَرًا لِمُؤَنَّثٍ، وَلَا هُوَ فَعِيلٌ أَوْ مَفْعُولٌ. انْتَهَى.
وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: قُلْ يُحْيِيهَا عَلَى أَنَّ الحياة تحلها، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ظَاهِرٌ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَيَاةَ لَا تَحُلُّهَا، قَالَ: الْمُرَادُ بِإِحْيَاءِ الْعِظَامِ: رَدُّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ غَضَّةً رَطْبَةً فِي بَدَنٍ حَسَنٍ حَسَّاسٍ. وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ: يَعْلَمُ كَيْفِيَّاتِ مَا يَخْلُقُ، لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ مِنَ الْمُنْشَآتِ وَالْمُعِدَّاتِ جِنْسًا وَنَوْعًا، دِقَّةً وَجَلَالَةً.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا: ذَكَرَ مَا هُوَ أَغْرَبُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ، وَهُوَ إِبْرَازُ الشَّيْءِ مِنْ ضِدِّهِ، وَذَلِكَ أَبْدَعُ شَيْءٍ، وَهُوَ اقْتِدَاحُ النَّارِ مِنَ الشَّيْءِ الْأَخْضَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ يطفىء النَّارَ؟ وَمَعَ ذَلِكَ خَرَجَتْ مِمَّا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الماء.
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١٣.
84
وَالْأَعْرَابُ تُوَرِي النَّارَ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ، وَأَكْثَرِهَا مِنَ الْمَرْخِ وَالْعِفَارِ. وَفِي أَمْثَالِهِمْ: فِي كُلِّ شَيْءٍ نَارٌ، وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعِفَارُ. يَقْطَعُ الرَّجُلُ مِنْهُمَا غُصْنَيْنِ مِثْلَ السِّوَاكَيْنِ، وَهُمَا أَخْضَرَانِ يُقَطَّرُ مِنْهُمَا الْمَاءُ، فَيَسْتَحِقُّ الْمَرْخَ وَهُوَ ذَكَرٌ، وَالْعِفَارَ وَهِيَ أُنْثَى، يَنْقَدِحُ النَّارُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ شَجَرٌ إِلَّا وَفِيهِ نَارٌ إِلَّا الْعَنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
الْأَخْضَرِ وقرىء: الْخَضْرَاءِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُؤَنِّثُونَ الْجِنْسَ الْمُمَيَّزَ وَاحِدُهُ بِالتَّاءِ وَأَهْلُ نَجْدٍ يَذْكُرُونَ أَلْفَاظًا، وَاسْتُثْنِيَتْ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ أَبْدَعُ وَأَغْرَبُ مِنْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ، وَمِنْ إِعَادَةِ الْمَوْتَى، وَهُوَ إِنْشَاءُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الْغَرِيبَةِ مِنْ صَرْفِ الْعَدَمِ إِلَى الوجود، فقال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ قرأ الْجُمْهُورُ: بِقَادِرٍ، بِبَاءِ الْجَرِّ دَاخِلَةٌ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْأَعْرَجُ، وَسَلَّامٌ، وَيَعْقُوبُ:
يَقْدِرُ، فِعْلًا مُضَارِعًا، أَيْ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ مِنْ عِظَمِ شَأْنِهِمَا، كَانَ عَلَى خَلْقِ الْأُنَاسِ قَادِرًا، وَالضَّمِيرُ فِي مِثْلَهُمْ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: عائد على السموات وَالْأَرْضِ، وَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمَا كَضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِثْلَهُمْ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فِي الصِّغَرِ وَالْقَمَاءَةِ بِالْإِضَافَةِ إلى السموات وَالْأَرْضِ، أَوْ أَنْ يُعِيدَهُمْ، لِأَنَّ الْمَصَادِرَ مِثْلٌ لِلْمُبْتَدَأِ وَلَيْسَ بِهِ. انْتَهَى. وَيَقُولُ: إِنَّ الْمَعَادَ هُوَ عَيْنُ الْمُبْتَدَأِ، وَلَوْ كَانَ مِثْلَهُ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ إِعَادَةٌ، بَلْ يَكُونُ إِنْشَاءً مُسْتَأْنَفًا. وقرأ الجمهور: الْخَلَّاقُ بنسبة الْمُبَالَغَةِ لِكَثْرَةِ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: الْخَالِقُ، اسْمُ فَاعِلٍ.
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: تَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالْخِلَافُ فِي فَيَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْقِرَاءَةِ نَصْبًا وَرَفْعًا. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ: تَنْزِيهٌ عَامٌّ لَهُ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَلَكُوتُ وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: مَلَكَةُ عَلَى وَزْنِ شَجَرَةٍ، وَمَعْنَاهُ: ضَبْطُ كُلِّ شَيْءٍ والقدرة عليه. وقرىء:
مَمْلَكَةُ، عَلَى وَزْنِ مَفْعَلَةٍ وقرىء: مَلِكُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ عَلَى مَا أَرَادَ وَقَضَى.
وَالْجُمْهُورُ: تُرْجَعُونَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.
85
Icon