تفسير سورة يس

بيان المعاني
تفسير سورة سورة يس من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قال تعالى مخاطبا رسوله ﷺ بلفظ:
«يس» ١ وجاء في الخبر أن الله سماني أحمدا ومحمدا وطه ويس. وقال ابن عباس معناه بلغة الحبشة وفي رواية عنه بلغة طي (يا إنسان) وقال غيره الياء للنداء والسين قائمة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه، ونظيره ما جاء في الحديث:
كفى بالسيف شا... أي شاهدا. وقال آخر هو اسم من أسمائه عليه السلام، مستدلا بقول السيد الحميري:
يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة على المودة إلا آل ياسين
وقيل هو مقطع حروف سميع منان قدير وشبهها من أسماء الله تعالى، وقد قال العلماء إن لله عزّ شأنه أن يطلق على ذاته المقدسة وعظماء خلقه ما أراد من الأسماء.
وتحمل حينئذ على التعظيم سواء كانت حروفا أو حرفا، مصغرة أو مكبرة، قال ابن الفارض رحمة الله:
ما قلت حبيبي من التحقير بل يعذب اسم الشيء بالتصغير
والكلام فيه من حيث الإعراب والبناء كالكلام في أوائل السور المتقدمة والحروف المتقطعة، وجاء في تتمة الخبر السابق والمزمل والمدثر وعبد الله، وقد ذكرت في القرآن هذه الأسماء كلها كما في هذه السور والسور المتقدمة وسورة الصف، الآية ٧ في ج ٣، وطه ومريم الآتيتين، وعبد الله في سورة الجن المارّة، ثم أقسم جل قسمه فقال «وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» ٢ في معانيه ومبانيه، العظيم في مقاصده ومراميه وهو مبالغة حاكم، وجواب القسم قوله عز قوله «إِنَّكَ» يا سيد الرسل المخاطب هنا بلفظ يس الذي هو من جملة أسمائك الكريمة التي سمينك بها في هذا القرآن «لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» ٣ إلى الخلق كافة حقا، يدل عليه التأكيد بكاف الخطاب وإن واللام، وذلك لأن هذه الآية نزلت ردا على الكفرة القائلين لست مرسلا، وكفى بالله شهيدا على رسالته العامة السائدة «عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ٤ عدل سوي لا اعوجاج فيه ولا ميل، وأن هذا القرآن الذي أنزلناه عليك «تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ» الغالب على خلقه القوي في ملكه «الرَّحِيمِ» ٥ بعباده الرؤوف بهم
22
وإنما أرسلناك يا محمد «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» الأقدمون من قبل رسولهم إسماعيل عليه السلام، وهذا على جعل ما موصولة مفعولا ثانيا لتنذر، وعليه يكون المطلوب الأمر بتبليغهم شريعة إبراهيم عليه السلام التي أنذر بها أسلافهم، أو العذاب الذي خوف به آباءهم الأولين، وإذا جعلت ما نافية يكون المعنى أنذرهم بما أمرت به، لأن آباءهم الأدنين بعد إسماعيل وجيله لم يأتهم نذير قبلك، وهذا أبلغ وأوفق لقوله تعالى «فَهُمْ غافِلُونَ» ٦ عن طريق الهدى ومسالك الرشد الذي جئتهم به، إذ لم ينذرهم ويخوفهم عذاب الله الذي أنذر به آباؤهم الأقدمون أحد بعد إسماعيل عليه السلام، ولم يرسل إليهم نبي بعده، ولم يترك لهم كتابا يتبعونه لذلك أرسلناك يا محمد إليهم لتنذرهم وتخوفهم عاقبة أمرهم إذا لم يؤمنوا بك، وزد في عظتهم وذكرهم بأحوال من قبلهم المكذبين، علّهم يعتبرون بما وقع عليهم، فهذا كله على جعل ما نافيه وهو الأنسب بالمقام والأليق للتأويل، إذ على المعنى الأول وهو جعل ما موصوله لا يستقيم هذا، وذلك لأن شريعة إبراهيم عليه السلام التي جاءهم بها إسماعيل لم يبق لها أثر عندهم ولا يعرفون شيئا عنها البتة لعدم تركه كتابا بها بدليل قوله تعالى (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) الآية ٤٤ من سبأ في ج ٢ لهذا، فأن الأمر تبليغهم شريعة إبراهيم لا معنى له ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٣ من سورة السجدة في ج ٢ والآية ٢٣ من سورة فاطر الآتية. ثم أقسم ثانيا فقال وعزتي وجلالي «لَقَدْ حَقَّ» وجب وثبت ووقع «الْقَوْلُ» في سابق أزلي وقديم علمي. والمراد بهذا القول العظيم قوله عز قوله لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين الآية ١٩ من سورة هود ونظيرها الآية ١١ من سورة السجدة في ج ٢ والآية ١٧ من سورة الأعراف المارة، وهذا القول قضى به «عَلى أَكْثَرِهِمْ» أما الأقل فهم في رحمة والأقل هو الأحسن من كل شيء قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الآية ١٣ من سورة سباء وقوله تعالى (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) الآية ٤١ من سورة هود في ج ٢ وقوله (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) الآية ٢٥ من سورة ص المارة
23
وهكذا القليلون هم الخيرون قولا وعملا من كل ملة والأكثرون هم المسيئون الداخلون في ذلك القول «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» ٧ بك بل يموتون على كفرهم إذ بت في أمرهم قبل وجودهم، والمراد بهم صناديد قريش المعارضون لحضرة الرسول وقد قتل أكثرهم في غزوة بدر، على الكفر تصديقا لقوله تعالى وليس المراد عموم قريش لأن أكثرهم آمنوا به صلى الله عليه وسلم، وسبب عدم إيمان أولئك «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا» لئلا يلتفتوا الى الحق ولا يعطفوا أعناقهم نحوه ولا يميلوا اليه «فَهِيَ» ملزقة برقابهم واصلة «إِلَى الْأَذْقانِ» متصلة برؤوسهم «فَهُمْ مُقْمَحُونَ» ٨ رافعون رؤوسهم بسببها لا يقدرون على إرخائها إلى الأسفل لينظروا أمامهم، وذلك لأن الغل عبارة عن طوق حديد يجمع به اليدان إلى العنق ويكون في ملنقى طرفيه حلقة فيها رأس العمود خارجا من الحلقة إلى الذقن وهو محدّد فلا يتركه يطاطىء رأسه خوفا من نخسه، فيضطر لإبقاء رأسه مرفوعا بالطبع، فصار كأنه متصل برأسه. قال السيد علاء الدين
علي بن محمد بن ابراهيم البغدادي في تفسيره لباب التأويل في معاني التنزيل نزلت هذه الآية في أبي جهل وأصحابه المخزوميين، لانه حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخنّ رأسه، فأتاه في المسجد ليدمغه بحجر في يده، فلما رفعه انثنت يده الى عنقه ولزق الحجر بيده، فأخبر أصحابه بما رأى، فقال له رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر، فأتاه ليرميه به، فأعمى الله بصره عنه، فرجع إلى أصحابه وقال ما رأيته، ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل (يطلق على الذكر من كل حيوان وخصه بعضهم بالذكر القوي في الدواب ويراد به هنا والله أعلم ذكر الأفعى بدليل قوله) يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني، فأنزل الله فيهم هذه الآية وهذا إنما يصح إذا كان ﷺ يتعبد بصلاة يتعاطاها كما سبق في الآية ١٨ من سورة الجن المارة، فراجعها ففيها ما فيها. ولا يخفى أن الآية هنا عامة وأن شمولها لهذه الحادثة على فرض صحتها لا يخصصها فيها بل يدخل فيها أبو جهل وغيره من كل من لم يؤمن به قال تعالى «وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا»
24
أي قدامهم «وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا» من ورائهم «فَأَغْشَيْناهُمْ» بالسدين المذكورين وغطيناهم بهما غطاء محكما، وقرىء فأعشيناهم بالعين من العشاء وهو ضعف البصر، والأول أبلغ وقرىء سدا بضم السين وفتحها، وقيل ما كان من فعل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق الله فهو بالضم، وقيل بالعكس «فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» ٩ سبل الهدى لانهم يتعامون عن النظر في آيات الله فلا يستطيعون الخروج من الكفر الى الإيمان. واعلم أن المانع من النظر بآيات الله قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه بالغلّ الذي يجعل صاحبه مقحما لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه كما مر آنفا، والمراد من جمع الأيدي الى الأذقان المشار إليه أعلاه عبارة عن منع التوفيق إلى الهدى، ولهذا استكبروا عن الحق، لأن المتكبر يوصف برفع العنق، والمتواضع بضده قال تعالى: (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) الآية ٥ من سورة الشعراء الآتية، وقسم يمنع النظر في الآفاق فشبّه بالسد المحيط بالشيء فإن الشيء انحاط به لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات، فمن ابتلي بهذين القسمين حرم من النظر بالكلية، وان الله تعالى شبه تصميم هؤلاء الكفرة على الكفر بالأغلال، وشبه استكبارهم عن قبول الحق والتواضع لاستماعه بالأقماح لأن القمح لا يقدر أن يطأطىء رأسه، وقوله تعالى إلى الأذقان تتمة للزوم الإقماح لهم، وشبه عدم نظرهم في أحوال الأمم السابقة بسد منيع من خلفهم، وشبه عدم نظرهم بالعواقب المستقبلة بسد عظيم من أمامهم ولذلك نفى الله عنهم الإبصار لأن من كان هذا حاله بعيد عن إبصار الحق لعماء بصيرته عن التفكر فيه، وان هذا وصف لما سينزله عليهم من العذاب الأخروي حين يلقون في النار، أجارنا الله منها. قال تعالى «وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ» أولئك الكفرة الموصوفين آنفا «أَأَنْذَرْتَهُمْ» يا محمد وخوفتهم عاقبة أمرهم إن لم يؤمنوا بك «أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» بما أمرت به فهم «لا يُؤْمِنُونَ» ١٠ بك ولا ينتفعون بوعظك وزجرك، إذ يستوي عندهم الحالان فوجود إنذارك وعدمه سواء لديهم، فلا تزعج نفسك بالإلحاح عليهم، لأنهم ضالّون أزلا، ومن يضلل الله فلا هادي له
25
وإنك يا سيد الرسل «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ» المنزل عليك وهو القرآن العظيم ليعمل بما فيه وينتفع باتباعه رغبة بك وبدينك وربك، وعبر بلفظ الماضي لتحقق وقوع اتباعهم له، لأنهم من الناجين فى علم الله الأزلي، ومن يهد الله فهو المهتد لا يقدر أحد على إضلاله، وهذا بمقابلته (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) لأن أولئك من غضب الله عليهم، وهؤلاء من رحمته بهم ورضاه عنهم «وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» خافه سرا وجهرا إذ لم يره وداوم على عبادته ولم يغتر برحمته لأنه مع عظيم رأفته أليم عذابه، قال تعالى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) الآية ٥١ من سورة الحجر في ج ٢ فهذا الذي يهابني ولم يرني «فَبَشِّرْهُ» يا محمد «بِمَغْفِرَةٍ» واسعة لذنوبه مهما عظمت «وَأَجْرٍ كَرِيمٍ» ١١ زيادة على المغفرة والأجر وأوله الجنة ونعيمها، وآخره رؤية المولى وهو الجواد على عباده بها، كيف لا وهو الكريم الذي يعطي لا لغرض أو عوض؟
وقل يا أكرم الرسل لمنكري الحياة الأخرى «إِنَّا» نحن إله السموات والأرض اللتين خلقهما أكبر من خلق الناس قادرون على أن «نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى» مرة ثانية للحشر والحساب كما أحييناهم من النطفة، وكما نحيي الأرض الميتة بالماء والقلوب الغافلة بالذكر، لأن القلوب الميتة بأدران الشرك لا تحيا إلا بطهارة الإيمان.
مطلب فيما بكتب من آثار الخلق:
«وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا» في دنياهم من خير وشر «وَ» نحصي «آثارَهُمْ» التي أبقوها بعدهم لنخلّدها لهم ليبقى ذكرهم إن كان حسنا كوصية لا جور فيها، ووقف لوجوه البرّ، وعلم ينتفع به، وتعليم الخير للغير، وكتاب صنفوه في أمر الدين، وبناء رباط، أو جامع، أو مستشفى، أو مدرسة، فيكون ذكرهم حسنا. وإن كان سيئا كمال تركوه حراما، وحكم حكموه جورا، ومظالم ارتكبوها يكون ذكرهم سيئا. روى مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام
26
سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. وعلى هذا يستحق على الأولى المدح والثناء والترحم، وعلى الثانية الذم والتحقير والشتم، وما قيل إن هذه الآية نزلت في بني سلمة استدلالا بما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد فكره رسول الله ﷺ أن تعرى (تخلى) المدينة فتترك عراء فضاء لا يسترها شيء فقال يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم؟ فأقاموا. ولما روى مسلم عن جابر قال خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة ان ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال لهم بلغني انكم تريدون ان تنتقلوا قرب المسجد؟ فقالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال بني سلمة (أي يا بني سلمة) الزموا دياركم تكتب آثاركم: فقالوا ما يسرّنا إذا تحولنا (أي لعدم رضاء حضرة الرسول) ورويا عن أبى موسى الأشعري قال قال صلى الله عليه وسلم: أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام. لا يصح لأن هذه الآية مكيّة بالاتفاق اما ما نقله بعض المفسرين من أنها مدنية فغير صحيح، لأنه لم يذكر المنقول عنه، وإنما قال بمدنيتها ليجعلها سبب النزول، وعلى الناقل صحة النقل حتى يكون حجة وإذا لم يكن حجة فلا احتجاج، وان ما جاء في هذه الأحاديث عبارة عن حكاية حال وقعت في المدينة، والآية عامة ولا يوجد ما يخصصّها فيدخل في معناها بنو سلمة وغيرهم من كل من يترك آثارا حسنة أو سيئة كما ذكرنا (وكلّ شيء) من أعمال الخلق خيرها وشرها هزلها وصحيحها «أَحْصَيْناهُ» عليهم وعددناه وبيناه للملائكة بعد أن حققناه وأثبتناه لدينا «فِي إِمامٍ» لوح من اللوح المحفوظ الذي هو أصل الكتب كلها فلا شيء مما كان ويكون الا وهو مدون فيه فهو المقتدى وفيه المنتهى والمبتدأ «مُبِينٍ» ١٢ واضح ظاهر فيه كل شيء إلى يوم القيمة وكيفية هذا اللوح العظيم الذي لم يأت ذكره إلا في سورة البروج المارة أما الألواح المذكورة في سورة الأعراف ثلاث مرات في الآيات ١٤٣ و ١٤٩ و ١٥٣ المارات فهي ألواح التوراة
27
وهي أيضا من جملة ما هو مدوّن في هذا اللوح الجليل لم يرد فيها ما يفيد القطع عن ماهيته وكميته وكيفيّته غير وصفه بهذا الاسم، لذلك ينبغي الإمساك عنه وان نكل علمه الى الله كالآيات المتشابهات، وغاية ما قيل فيه عند المسلمين انه جسم، ولا يخفى أن كل جسم متناهي الأبعاد كما تشهد به الأدلة، وان ما كان وسيكون الى يوم القيامة متناه كما تشهد به الآثار، والمطلق منها محمول على المقيد هذا وقد فسر بعض العلماء الامام بعلم الله الأزلي كما فسر أمّ الكتاب في قوله تعالى «وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» الآية ٣٩ من سورة الرعد قوله «هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ» الآية ٧ من سورة آل عمران ج ٣ والآية الرابعة من سورة الزخرف في ج ٢ فيكون بمعنى كل شىء على العموم بحيث يشمل ما في الدنيا وما في الآخرة وأحوال الجنة وما يتجدد فيها لأهلها دون انقطاع ولا تناه وكذلك النار قال صاحب أبدال الامالي:
ولا يفنى الجحيم ولا الجنان ولا أهلوهما أهل انتقال
وكذلك أحوال النار وأهلها وجميع ما يقع في الدنيا من التجدد على نحو ما يحكى من بيان الحوادث الكونية في الجفر الجامع على طراز أعلى وأشرف، ولهذا قال غير واحد إن القرآن الكريم يشتمل على كل شيء في الدنيا حتى على أسماء الملوك ومدد ملكهم وأسباب انقراضهم، ويشتمل على ما في الآخرة أيضا.
مطلب قصة رسل عيسى عليه السلام:
قال تعالى «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا» أي صف لهم يا محمد «أَصْحابَ الْقَرْيَةِ» جزم أكثر المفسرين بأنها انطاكية أي كيف كان أهلها «إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ» ١٣ من قبل عيسى عليه السلام ليدعوهم إلى ترك الأوثان وعبادة الرحمن والإخلاص في توحيد الملك الديان، فاذكر لقومك يا سيد الرسل قصتهم «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ» ردأ لعيسى وعضدا لانهاض دعوته وتقوية لبعثها في النفوس رجلين «اثْنَيْنِ» من حوارييّه. هذا إذا كان المرسل هو الله عز وجل، أو أن عيسى عليه السلام أرسلهما بأمر الله تعالى كأنه كان هو المرسل، لانّ
28
أمر المأمور بما أمره به آمره أمر لآمره، وهو اولى من القول بأن عيسى نفسه أرسلهما من تلقاء نفسه، لأن الرسول لا يعمل شيئا إلا بوحي من مرسله. وهذان الرسولان على ما قيل هما حنا وبولس عليهما السلام، فلما قربا من القرية رأيا حبيبا النجار يرعى أغنامه، فسلما عليه فقال: من أنتما؟ قالا رسولا عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه، فقال: ما جاء بكما إلى هنا من القدس؟ قالا: أتينا لندعوكم لعبادة الله وحده، ونحذركم من عبادة الأوثان، فقال: ما آيتكما على ذلك؟ قالا: آيتنا إبراء الأكمه والأبرص ونشفي المرضى بإذن الله، وان الذي أرسلنا يفعل هذا ويحيي الموتى بإذن الله. فأخذهما إلى منزله وعرض عليهما بنته المريضة المزمنة، فلمساها بيدهما فقامت بإذن الله صحيحة سليمة، ثم أتى لهما بمرضى آخرين فلمساهم فشفاهم الله على يديهما، فحلت به العناية وأسلم، وشاع خبرهما في المدينة بأنهما يشفيان المرضى دون عقاقير، فاستدعاهما ملك المدينة إذ ذاك واسمه انطيخش وقال لهما أولنا دون آلهتنا آلهة؟ قالا نعم. قال من هو؟ قالا الذي أوجدك وآلهتك. فأخذهما وحبسهما وضربهما. وهذا مغزى قوله تعالى «فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» قويناهما بإرسال رسول ثالث وهو على ما قيل شمعون عليه السلام، وذلك أن عيسى عليه السلام لما استبطأهما ولم يأت خبر منهما ولا عنهما أرسل بأمر الله رسولا آخر ليسير خبرهما ويبصر ما جرى لهما، فتوجه إلى انطاكية ودخلها متنكرا، وبعد أن استقر صار يختلط مع عامة أهلها ليقف على حالهم ويتعرف على رفيقيه، ولم يزل حتى عرفهما بالسجن من أجل دعوتهما وجود إله هو إله الملك والخلق أجمع، فاتصل بحاشية الملك وصار يعاشر كلا منهم بما يليق به ويكلم كلا بحسب مقامه بما آتاه الله من حنكة وحكمة ولين جانب وخلق واسع، حتى استمال الجميع من الخادم إلى الوزير ثم صار يعرض لهم أنه يود مقابلة الملك وأنه يحبه، وقد أنسوا به ولم يريدوا فراقه، فرفعوا أمره للملك وأخبروه بما هو عليه من لياقة ولباقة، فاشتاق إليه واستحضره، فلما كلّمه أنس به وأكرمه ورضي عشرته وأثنى على حاشيته الذين قدموه له نظرا لما كان يعاملهم به من التقية توصلا
29
لإنقاذ صاحبيه، وصار يجالس الملك ويقص عليه ما يؤنسه، حتى جاء على ذكر الرسولين في جملة حديثه معه وسأله عنهما وسبب حبسهما، فقال له الملك إنهما تجارأا وذكرا أن لهما إلها غير آلهتنا حتى انهما دعوني لعبادته، فأنفت منهما وأمرت بحبسهما.
قال له حينما دعواك إلى غير دينك هل سألتهما وسمعت منهما عن آلهتهما شيئا؟
قال لا إذ حال الغضب بيني وبين ذلك حتى اني أمرت بضربهما. قال إن رأى حضرة الملك إحضارهما ليطلع على ما عندهما من هذه الدعوة العظيمة، فدعاهما بالحال وفوضه بخطابهما، فقال لهما من أرسلكما إلى هنا؟ قالا الله الذي خلق كل شيء لا شريك له. قال لهما صفاه لنا وأوجزا، قالا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قال شيء عظيم هذا، ما آيتكما عليه؟ قالا ما يتمناه الملك، فتذاكر مع الملك صرا وقال لهما عندنا غلام مطموس العينين فهل تقدران أن تجعلاه بصيرا؟ قالا نعم، فأمر الملك بإحضاره فدعوا له، فانشق له موضع العينين فعملا بندقتين من طين ووضعاهما في موضع العينين، ودعوا الله فصارتا مقلتين يبصر بهما ذلك المطموس، فتعجبا من ذلك، ثم همس شمعون في أذن الملك، وقال لو سألت آلهتك تصنع مثل هذا لكان لك بها الشرف، فقال الملك ليس عليك سر مكتوم إن آلهتنا نفسها لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، فكيف لمثل هذا تصنع؟ فلم يرد أن يطعن بآلهته ليستدرجه على الإيمان ولئلا يتهمه مبدئيا بأنه ليس على دينه، وأراد أن يظهر شيئا يقسره على الإيمان عفوا، فقال له لنمتحنهما بأكثر من هذا، قال الملك هيا، فقال لهما شمعون إن أحيا إلهكما ميتا آمنا به وتركنا كما، قالا هات، فقال له الملك إن ابن الدهقان مات منذ سبعة أيام، فقال شمعون مر بإحضاره، فأمر فأحضروه له، فصارا يدعوان علانية ويطلبان من الله إحياءه، وصار شمعون يدعو ربه سرا ويؤمن على دعائهما، فأحياه الله، فقال لهما شمعون كلّماه، فإذا كان حيا حقا فليذكر لنا شيئا عن موته، فسألاه فقال: أيها الملك إني مت منذ سبعة أيام على الشرك الذي تدين به أنت، وأدخلت في سبعة أودية من النار، فأحذركم ما أنتم عليه، وآمنوا أيها الناس كلكم يا لله رب هؤلاء، فإني رأيت السماء
30
فتحت ونظرت فيها شابا حسن الوجه يشفع إلى هؤلاء الثلاثة، وأشار إلى شمعون وصاحبيه.
فعجب الملك من ذلك وآمن بهم وآمن معه خلق كثيرون من قومه، وأصر الآخرون على كفرهم. هذا ما نقله الأخباريون بقصص الأنبياء عن هؤلاء الرسل الثلاثة أخذا من قوله تعالى (فَكَذَّبُوهُما) أما ما قصه الله تعالى على نبيه فيهم فهو ما بينه بقوله جل قوله «فَقالُوا» الثلاثة إلى أهل أنطاكية «إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» ١٤ من قبل الله أو من قبل رسوله على الوجهين المارّين، فأجابوهم بقولهم «قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» لا مزية لكم علينا توجب اتباعنا لكم واختصاصكم بما تدعونه «وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ» الذي تدعونه إلها لكم ولسائر الخلق «مِنْ شَيْءٍ» من الوحي ولم يرسل رسولا كما تزعمون، وكان هذا بمقابلة قولهم لهم أتينا ندعوكم لعبادة الرحمن، ثم قالوا «إِنْ» ما «أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» ١٥ بدعواكم هذه «قالُوا» لهم أيضا «رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ» ١٦ استشهدوا بربهم إذ لا شاهد لهم من أهل القرية على ذلك، لأنهم لم يتعرفوا على أحد من أهلها أول مجيئهم وأكدوا قولهم بأن الدالة على التوكيد واللام المؤكدة لها، لأنه جواب عن إنكار يحتاج لزيادة التأكيد بخلاف قولهم الأول في الآية ١٤ المارة لأنه إخبار ابتداء، ثم قالوا لهم إنا لم نأت لقسركم على ما نريده بكم من الخير لأنا لم نؤمر بذلك «وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» ١٧ الظاهر المكشوف الذي لا غبار عليه الموثق والموضح بالآيات الدالة على صدقنا «قالُوا» أهل القرية لهم «إِنَّا تَطَيَّرْنا» تشاءمنا «بِكُمْ» لأنكم تدعون إلى إله واحد وترفضون الأوثان وإنا لا نعلم بوجود آلهة غير آلهتنا وقد هالنا ما سمعناه منكم وو الله «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا» عن مقالتكم هذه وتتركونا وما نحن عليه «لَنَرْجُمَنَّكُمْ» بالأحجار «وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» ١٨ خبر ما وحرفا تتمنون معهما الموت «قالُوا» لا تتشاءموا بنا إذ ما بنا شؤم لأنا رسل الله وإنما «طائِرُكُمْ» الذي تتشاءمون منه هو «مَعَكُمْ» لأنه ناشىء عن كفركم وتكذيبكم لما جئناكم به دون أن تسألونا عن آية صدقنا «أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ» فيما به سعادتكم في الدنيا ونجاتكم في الآخرة أطيرتم وصرتم
31
تهددوننا بسببه لا، لا تفعلوا شيئا «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» ١٩ في الضلال متجاوزون الحد في الشرك والعصيان، مفرطون فيما يعود لنفعكم، لأنا لم نعمل معكم شيئا يوجب رجمنا «وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى» يهرول اسمه حبيب النجار المار ذكره في القصة، الذي رأى آيات الرسولين وأنس بهما قبل حضور الرسول الثالث، وكان في غار يتعبد فيه عند فراغه من عمله، قالوا وكان يتصدق بنصف ما يربح، وقد مر في القصة أنه كان راعيا، إذ علم أن قومه كذبوا الرسل وقصدوا قتلهم، وهذا على القول بأنهم لم يؤمنوا، أوهم الذين لم يؤمنوا مع الملك لأن نسق الخطاب لا ينطبق على نسق القرآن، لأن الحكاية ذكر فيها أن التكذيب والضرب والحبس وقع على الرسولين الأولين فقط وأنهم آمنوا بعد حضور الثالث، والقرآن يسكت عما وقع مع الأولين ويتكلم عن الثلاثة معا «قالَ» الراعي حبيب «يا قَوْمِ» اتركوا الرسل لا تعتدوا عليهم فيصيبكم منهم معرة، وإذا أردتم الخير لأنفسكم «اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ» ٢٠ إلى ما يدعوكم إليه بغية نجاتكم من عذاب الله وكأنه التفت إلى الرسل وقال لهم أتطلبون أجرا على ما تدعون الناس إليه قالوا لا نحن أبعد الناس عن طلبه
فالتفت إلى قومه وقال «اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً» على إرشادكم لطريق الهدى والسداد «وَهُمْ مُهْتَدُونَ» ٢١ من قبل الله الذي أرسلهم فاقبلوا هدايتهم مجانا إلى خير الدنيا والآخرة واتبعوهم على ما هم عليه تربحوا رضاء الله خالقكم من غير أن تخسروا شيئا من دنياكم فقالوا له إذا أنت على دينهم مؤمن بربهم الذي فطرهم على هذا الدين الذي جاؤا يدعوننا إليه، ولذلك تحبذ دعوتهم فقال لهم «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي» خلقني وهو رحمه الله يعبد الذي فطره وإنما أرادهم بذلك، أي وما لكم لا تعبدون الذي فطركم مثلي لأني أعبده حقا أي أيّ شيء خذلكم وصرفكم عن عبادته «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ٢٢ حتما في الآخرة، لأن مصير الكل إليه خاطب نفسه رحمه الله في هذه الجملة وهو يريدهم فيها لأنه أبلغ في الزجر، وأمعن في الوعظ، وأحرى للقبول، وأبعد عن اللجاجة، ثم قال لهم «أَأَتَّخِذُ مِنْ
32
دُونِهِ»
أي الإله الواحد الذي آمنت به «آلِهَةً» أصناما مثلكم لا تضر ولا تنفع، كلا لا أفعل، وإنما أتخذ الله الإله الواحد الفعال لما يريد الذي لا رب غيره إلها لي وهو إله الخلق أجمع، واعلموا يا قومي إني «إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ» إله هؤلاء الرسل وإلهي وإله العالمين وخالق الكون وما فيه «بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ» أي شفاعة الأوثان التي اتخذتموها آلهة وترجون شفاعتها فلا تنفعني إذا حل بي الضر من الإله الواحد القادر «شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ» ٢٣ من مكاره الدنيا ولا من عذاب الآخرة لأنها أحجار وأخشاب لا تعصم نفسها من التعدي عليها فكيف تنفع غيرها؟ وإذا كان كذلك فكيف أتخذها آلهة «إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ٢٤ لا يقبل التأويل لشدة وضوحه ولا يخفى على أحد، ثم أقبل على الرسل وخاطبهم علنا بقوله «إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ» ٢٥ واشهدوا على إيماني فلا أبالي بما يصيبني منهم. أخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه قال لما قال صاحب يس (حبيب النجار المذكور إذ شهر بذلك) : يا قوم اتبعوا المرسلين، خنقوه ليموت، فالتفت إلى الأنبياء فقال: آمنت بربكم فاسمعون، فأسرع إليه قومه فقتلوه رجما بالحجارة. قال السدي رموه بالحجارة وهو يقول اللهم اهد قومي، حتى مات. وجاء في الحديث انه نصح قومه حيا وميتا، رحمه الله فلما مات شهيدا ولقي ربه «قِيلَ» له من قبل ملائكة الرحمة «ادْخُلِ الْجَنَّةَ» فأدخلت روحه فيها رحمه الله ودفن جثمانه في سوق انطاكية بالمحل الذي قتل فيه، وقبره معروف حتى الآن يزوره الغادي والبادي، ولما أحست روحه الطاهرة بنعيم الجنة ورأت ما فيها من السرور والروح تتصل بجسدها أحيانا «قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ» ٢٦ ما صرت إليه من النعيم «بِما غَفَرَ لِي رَبِّي» ما اقترفته من الذنوب وستر لي ما جنيته من العيوب وما أكرمني به في الجنة الدائمة، فلو علموا ذلك لآمنوا بالرسل، والله يعلم أنهم لم يؤمنوا، إذ لم تكتب لهم السعادة. وما هنا، مصدرية، أي بالغفران الذي غفره لي وعظمته وما ينتج عنه من خير وأجاز بعض القراء كونها استفهامية، أي بأي شيء غفر لي وهو هجره دينهم والصبر على أذاهم.
33
وقال الكسائي لو كان ذاك أي جعل ما استفهامية، لقال بم بدون الألف مثل عمّ يتساءلون، وبمثل قوله:
علام أقول الرمح أثقل عاتقي... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
على الاستفهام لأن اللغة الفصحى حذف الألف إذا جرت بحرف الجر فرقا بينها وبين ما الموصولة، ولا تثبت الألف مع حرف الجر إلا ضرورة لقوله:
على ما يشتمني لئيم... كخنزير تمرّغ في رماد
وقول الآخر:
إنا قتلنا بقتلانا سراتكم... أهل اللواء فقيما يكثر القتل
فأثبتت ما للضرورة في البيتين، ولا ضرورة هنا لأنه ليس بشعر فتبين أنها هنا مصدرية والله أعلم «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» ٢٧ فيها وذلك لما رأت روحه من إكرام الملائكة لها وإكرامهم إياها تمنى رحمه الله المغفرة والكرامة لقومه رحمة بهم وشفقة عليهم ليرغبهم في الإيمان ويحملهم على طاعة الرسل، فلما قتلوه ولم يسمعوا نصحه ولم يلتفتوا إلى رأفته بهم غضب الله عليهم، فعجل عقوبتهم المبينة في قوله جل جلاله «وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ» لأن أمر إهلاكهم أيسر لدينا من ذلك «وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ» ٢٨ جندا من الملائكة لإهلاكهم لأنهم أخس من ذلك «إِنْ كانَتْ» عقوبتهم في الإهلاك ما هي «إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» من بعض أملاكنا فأمر جبريل فصاح بهم «فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» ٢٩ جميعا لا حراك بهم، القاعد قاعدا والقائم قائما والمضجع مضجعا.
روي أن الله تعالى بعث عليهم جبرائيل عليه السلام فأخذ بعضادتي باب مدينتهم وصاح بهم صيحة فماتوا جميعا، وقد شبهت الصيحة بالنار على سبيل الاستعارة المكنية وجيء بالخمود وتخييل لها وقوله خامدون رمزا إلى أن الحي كشعلة من نار، والميت كالرماد، وهو كذلك قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوءه... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وما المال والأهلون الا ودائع... ولا بد يوما أن ترد الودائع
34
قال تعالى «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ» إذا لم يؤمنوا بالرسل ويا ويلهم من يوم الحسرة راجع تفسير الآية ٢٩ من سورة مريم الآتية، ثم بين سبب هذه الحسرة بقوله عز قوله «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ٣٠ يسخرون من قوله لا يسمعون نصحه، وهذه نظير الآية ١٠ من سورة الحجر في ج ٢، ومعنى الحسرة العم والندم على ما فات لأن الإنسان من شدة الندم على صنعه الضر وتضييعه فرصة تلاقيه بالخير، وإهماله أوقاته سدى يركبه غم لا نهاية له بعده، ونزلت الحسرة منزلة العقلاء بإدخال حرف النداء عليها كأنه قال يا حسرة احضري، فهذه الحال من الأحوال التي يجب أن تحضري فيها لأهميتها والمعنى أنهم أحقاء بان يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم المتلهفون لرفضهم الخير الذي جاء إليهم من الله عفوا دون طلب،
ثم التفت الى أهل مكة بعد الانتهاء من هذه القصة فقال عز قوله «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ» الخالية من أهل كل عصر. وسموا قرونا لاقترانهم في الوجود، والرؤية هنا علمية لا بصرية لأن أهل مكة لم يحضروا هلاك من قبلهم من الأمم الخالية حتى يروه عيانا بل علموه بالأخبار المتناقلة عن الأجيال بمشاهدة آثار المهلكين من أطلال مساكنهم، اما أهل الفيل أبرهة ومن معه فلا يعدون من القرون الخالية لأنهم كانوا في زقهم وآبائهم ومنهم من شاهد ما وقع بهم، راجع تفسير سورة الفيل المارة «أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» ٣١ لان الهالك في الدنيا لا يرجع إلى الدنيا، وإنما مصيره الآخرة ينم على هذا قوله «وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا» أي الأوان هنا بمعني لا النافية أي ما كل إلا جميع لدينا، قيل إنها مخففة وما زائدة وعليه يكون المعنى انه إي الحال والشان كل جميع لدينا، والأول أولى إذ لا زائد في كتاب الله «جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» ٣٢ يوم القيمة للحساب والجزاء أفلا يعتبر أهل مكة بهم ويتحققوا أن مصيرهم كمصيرهم بل انهم سيموتون ويرجعون إلينا فنحاسبهم ونعاقبهم، وقرىء لما بالتخفيف، وعليه تكون ما للتأكيد وان مخففة من الثقيلة، والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه، ويكون المعنى ان
35
كلهم مجموعون محضرون ليوم الدين «وَآيَةٌ لَهُمُ» لمنكري البعث أهل مكة وغيرهم دالة على إحياء الأموات «الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ» الجافة اليابة التي لا نبات فيها قد «أَحْيَيْناها» بعد موتها بانزال المطر وإخراج النبات فيها «وَأَخْرَجْنا مِنْها» من النبات الخارج فيها بسبب الغيث «حَبًّا» نكره ليعم جميع الحبوب مما يأكله الإنسان والحيوان «فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» ٣٣ جميعهم وقدم المتعلق بالكسر على المتعلق بالفتح لإفادة الحصر أي كأنهم لا يأكلون غيره، لأن مغظم أكلهم منه «وَجَعَلْنا فِيها» أيضا بسبب الغيث جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ» ٣٤ الكثيرة مياها متدفقة غزيرة لا تنضب وانما فعلنا ذلك «لِيَأْكُلُوا» كافه خلقنا من ثمره الحاصل من حبه ومن الأشجار الأخرى وذلك كله بسبب الغيث المسبب لحمأة الأرض، وأعاد بعض المفسرين ضمير ثمره الى الله جل شأنه وتوجيهه أن الثمر نفسه فعل الله وخلقه إلا أن فيه آثارا من فعل البشر، فيكون أصل الكلام من ثمرنا كما قال تعالى وفجرنا فنقل الكلام في التكلم الى الغيبة على طريق الالتفات، والأول أولى وأليق بالمقام وأنسبه للسياق، إذ لا داعي هذا التكلف مع ظهور المعنى على الأول «وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ» أي ذلك الحب والثمر البديع الصنع بل هيّء لهم بصنع الله لأن الزرع ليس زرعهم بل من فعل الله والغرس ليس غرسهم بل من عمل الله وان أتعابهم التي صرفوها في ذلك هي من قدرة الله، لأنه لو لم يقدرهم على ذلك لما قدروا على شيء أصلا ولو شاء لحرمهم منه بتسليط آفة سماوية عليه أو أرضية فيقطع عنهم الماء أو يرسل حرا أو بردا أو آفة فيدمره، راجع تفسير الآية ٦٣ فما بعدها من سورة الواقعة الآتية والآية ٩٦ من سورة الصافات في ج ٢ ويجوز أن يكون المراد ليأكلوا من ثمره رأسا أو مما عملته أيديهم منه كعصير العنب والبرتقال والثمر وسائر الفواكه وما يعقدونه منها أو يخرجونه بغيره كالحلويات والمعجنات وغيرها من أنواع السكاكر والمأكولات، فهذه كلها من الدلائل على صحة الإحياء بعد الموت «أَفَلا يَشْكُرُونَ» ٣٥ نفعا هذه عليهم واثباتنا لها
36
بالحجج والدلائل لإفناعهم على الإيمان بالإله الواحد والرسل والحياة الأخرى ووجود الجنة لمن أطاعنا والنار لمن عصانا، وهذا استفهام انكار لانكارهم وجحودهم واستقباح لعدم شكرهم نعم الله عليهم وكأنهم لم يكتفوا بهذه البراهين على ذلك «سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها» من أصناف الحيوان والجماد والنّبات «مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ» ٣٦ مما لم يطلعهم الله على علمه ومعرفته ولم يتوصلوا لها بعد لعدم وقوفهم على عظيم قدرته وسعة ملكه وما عرفه الناس المادة الكهربائية الا عثورا، ومن يعش ير لأنا رأينا أشياء لم يرها أسلافنا ولم يحلموا بها، ولو ذكرت لهم لكذبوها فقد كذبوا حديث الدجال من أنه إذا ظهر يبلغ خبره المشرق والمغرب بيوم واحد، وها ان المذياع (الراديو) يسمع أخباره أهل المشرق والمغرب بلحظة واحدة، وسيرى أحفادنا ما لم نره نحن من عظيم مكونات الله التي
سيطلع عليها خلقه بأوقاتها المقدرة عنده، فسبحان من لا يحيط بعلمه غيره، ثم ذكر برهانا على إمكان الحياة الأخرى بقوله عظم قوله «وَآيَةٌ لَهُمُ» على قدرتنا باعادة الخلق كما بدأناه ليتيقن هؤلاء المنكرون عظمتنا وحجة ما جاءهم به رسلنا «اللَّيْلُ نَسْلَخُ» نكشط ونقشط ونكشف (ويأتى بمعنى السّرى والتنفس) «منه النّهار» فلا نبقي معه شيئا من ضوء الشمس مثل نزع القميص الأبيض عن الزنجي الأسود، لأن ما بين الأرض والسماء ظلمة فيكسو بعض ذلك الفضاء ضوء شمس فيكون كيت مظلم أسرج فيه سراج، فاذا انطفأ السراج أظلم البيت «فَإِذا هُمْ» أي جميع المخلوقات التي كساها ضوء الشمس «مُظْلِمُونَ» ٣٧ بعد انسلاخ النهار بظلام الكون في المحيط الموجودين فيه، وينصرف أيضا للقسم الآخر منه، إذ تكون الحال في موضع ليلا وفي آخر نهارا وفي موضع صبحا وفي غيره مساء، وفي قطر ضحى وآخر عصرا وهكذا، ثم ذكر آية ثالثة لهؤلاء المنكرين على الحياة الآخرة بقوله عز وجل «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» لمقدار تنتهي إليه في منازلها بالنظر لما نراه لأن سيرها محدود غايته المستقر الذي قدره الله لها وقد صرح إمام الحرمين وغيره بأن الشمس تطلع عند
37
قوم وتغرب عند آخرين فبآن واحد طالعة في مكان غائبة في غيره، فيطول الليل عند أناس ويقصر عند آخرين، وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الاستواء، وفي أقصى بلاد البلغار قد يطلع الفجر قبل غياب الشفق، فلا وقت لصلاة العشاء عندهم إلا أنهم يقدرونه تقديرا بحسب الساعات، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالية ولا تزال غاربة في البروج القبلية، فنصف السنة في ذلك المكان ليل ونصفها نهار وقامت الأدلة على عدم سكونها عند غروبها والا لكانت ساكنة عند طلوعها بناء على ان غروبها في أفق، طلوع في غيره وأيضا هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها، أما ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ابي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر رضي الله عنه قال سألت رسول الله ﷺ عن قوله تعالى «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» قال مستقرها تحت العرش، فالمستقر اسم مكان، وظاهر الحديث الذي لا غبار عليه أن للشمس مستقرا أي قرارا حقيقيا، وقال النووي وجماعة من أهل العلم بظاهره أيضا لا سيما وأنه مروي عن أبي ذر وهو من عرفت مكانته وما هو عليه من الصدق والأمانة، والآية نصت على أن جريانها لمستقر لها أيضا، ولا يمكن التوفيق بين الآية والحديث وبين ما يقوله أهل الهيئة إلا إذا قلنا إن الشمس وسائر الكواكب مدركة عاقلة كما ينبىء عن هذا قوله تعالى «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» الآية الآتية ومثلها الآية ٣٤ من سورة الأنبياء في ج ٢ حيث لسند الفعل الى ضمير العقلاء مثله في قوله «إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً» الآية ٤ من سورة يوسف في ج ٢ حيث جمعها جمع من يعقل أيضا، وما جاء في هذا الحديث في رواية أخرى وهي أن النبي ﷺ قال لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب؟ قال الله ورسوله أعلم. قال إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) - أخرجاه في الصحيحين- والمتبادر من الاستيذان
38
ما يكون بلسان القال دون لسان الحال كفيرها من الجمادات التي خاطبها الله تعالى ومكنها من الإجابة حسبما أراد، راجع تفسير الآية ٧٣ من سورة الأعراف المارة بما يتعلق بهذا البحث، هذا وما يقال أن الله جل شأنه خلق فيها الإدراك والتمييز حال السجود والاستئذان ثم سلبه عنها، بعيد غاية البعد ولا حاجة الى مثل هذا.
والشواهد من الكتاب والسنة وكلام العترة على كونها ذات إدراك وتمييز مما لا تكاد تحصيه كثرة. والعترة نسل الرجل ورهطه وعشيرته الأدنون ممن مضى ونجد (أي بقي) والمراد بها هنا (آل الرسول ورهطه وعشيرته) والبروج المار ذكرها بيناها في سورة البروج المارة فراجعها تر بعضها يدل على ثبوت ذلك لها بالخصوص، وبعضها يدل على ثبوته لها في العموم أو بالغاية، إذ لا قائل بالفرق ومتى كانت كذلك فلا يبعد أن يكون لها نفس ناطقة كنفس الإنسان، بل صرح بعض الصوفية بكونها ذات نفس ناطقة كاملة.
مطلب في انسلاخ الأنفس:
اثبت الحكماء النفس للفلك، وصرح بعضهم بإثباتها للكواكب أيضا وقالوا كل ما في العالم العلوي والسفلي من الكواكب الأفلاك الكلية والجزئية والتداوير حيّ ناطق، والأنفس الناطقة الإنسانية إذا كانت قدسية قد تنسلخ من الأبدان وتذهب متمثلة ظاهرة بصور أبدانها أو بصور أخرى كما تمثل جبريل عليه السلام وظهر لحضرة المصطفى وأصحابه بصورة دحية الكلبي أو بصورة بعض الأعراب كما جاء بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه قال بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ﷺ فاسند ركبته إلى ركبتيه ودفع كفيه على فخذيه، وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله ﷺ أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال صدقت، فتعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته
39
وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال صدقت، قال فأخبرني عن الإحسان، قال أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فإنه يراك، قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال فأخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربّنها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان، ثمّ انطلق فلبثت مليا ثم قال يا عمر أتدري من السائل؟
قلت: الله ورسوله أعلم، قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. فقد ثبت في هذا الحديث أن جبريل جاء بصورة اعرابي، ثم تذهب تلك الصورة المنسلخة عن الجسد الظاهر حيث يشاء الله عز وجل، مع بقاء نوع تعلق لها بالأبدان الأصلية يتأتى معه صدور الأفعال منها كما يصدر عن أصلها المنسلخ منها. ومن هذا القبيل ما يحكى عن بعض الأولياء قدست أسرارهم أنهم يرون في وقت واحد في عدة مواضع، وبدنها الأصلي في موضع آخر وهذا من قبيل الكرامة التي يظهرها الله تعالى لهم وانا أشهد بهذا وأصدق وأنت أيها المنكر:
إذا لم تر إهلال فصدّق لأناس رأوه بالأبصار
وذلك أني سمعت هذا من أناس أثق بصدقهم وصلاحهم وهم من أهل هذا
لا تقل دارها بشرقي نجد كل نجد للعامرية دار
وهذا أمر مقدر عند السادة الصوفة مشهود فيما بينهم بالتواتر وهو غير طي المسافة المقرر عندهم أيضا والثابت وقوعه لديهم تواترا أيضا، ولا يسعنا إلا التصديق لأن إنكار هاتين الخصلتين عليهم مكابرة لا تصدر الا عن جاهل بحقيقتهم أو معاند لهم، وقد عجب العلامة التفتازاني من بعض فقهاء أهل السنة كابن مقاتل المشهور انه حكم بالكفر على معتقد ما روي عن ابراهيم بن أدهم قدس الله سره أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية (ثامن ذي الحجة سمي بذلك لأن ابراهيم عليه السلام رأى الرؤيا فيه بذبح ابنه) وأنه رئي ذلك اليوم بمكة وبنى حكمه هذا على زعمه أنه من جنس المعجزة العظيمة وهي مما لا تثبت كرامة للولي، وهذا حكم فاسد لا يلتفت اليه ولا يعول عليه، لان المعتمد عند أهل السنة والجماعة جواز ثبوت الكرامة مطلقا
40
للولي، وان كل ما جاز وقوعه معجزة للنّبي جاز أن يكون كرامة للولي إلا إذا ثبت بالدليل عدم إمكانه كالإتيان بسورة مثل القرآن، والتحدّي به، لأن ذلك من خصائص الرسالة، فمن أنكر هاتين الخصلتين أو إحداهما خرج عن دينه ولو طار بالهواء لانه بادعاء إحداهما يكون مدعيا الرسالة ولا رسالة بعد خاتمها، تدبر، حفظك الله من الزيغ وغرور النفس والحسد، فإن كلا من هذه الثلاثة داع للانكار، راجع الآية ١٤٧ من سورة الأعراف المارة، وما ترشدك اليه، هذا وقد أثبت غير واحد خبر نقل النفس وتطورها لنبينا محمد ﷺ بعد وفاته وادعى أنه عليه الصلاة والسلام يرى في عدة مواضع في وقت واحد، مع كونه في قبره الشريف يصلي، وضح أن موسى عليه الصلاة السلام يصلي في قبره مع أن الرسول ﷺ رآه في السماء وجرى بينهما ما جرى في أمر الصلوات المفروضة ليلة الإسراء كما بحث في تفسير أول الإسراء الآتية، وعليه فلا قيمة لما يقوله بعض من لا ثقة بعلمه ولا وثوق بذاته من إنكار هذه القضية البالغة من التواتر دون معارضته من أهل العلم العاملين، وما تعلل به من كون موسى عليه السلام عرج إلى السماء بجسده الذي كان في القبر بعد أن رآه النبي ﷺ عند قبره في الأرض مما لم يقل به أحد جزما، لأن القول به احتمال بعيد، بل لا بد أن يكون بصورة أخرى عنه، وقد رأى ﷺ ليلة أسري بروحه وجسده الى السماء جماعة من الأنبياء في السموات أيضا مع أن قبورهم في الأرض ولم يقل أحد إنهم نقلوا من الأرض إلى السماء على قياس ما سمعت آنفا، وليس ذلك مما ادعى الحكميون استحالته من شغل النفس لواحدة أكثر من بدن واحد وحيّز واحد، بل هو أمر ممكن كما لا يخفى على من نور الله بصيرته، فعلى هذا لا يقال إن الشمس نفس مثل تلك الأنفس القدسية وانّها تنسلخ عن الجرم المشاهد مع بقاء سيرها وعدم سكونها حسبما يدعيه أهل الهيئة وغيرهم، ويكون ذلك إذا غربت وتجاوزت الأفق الحقيقي بالنسبة لكل قطر وانقطعت رؤية سكان المعمور في الأرض لها، ولا يضر فيه طلوعها إذ ذاك في عرض تسعين ونحوه، لأن ما ذكرت من كون السجود
41
والسكون باعتبار النفس المنسلخة الممتثلة بما شاء الله، لا ينافي الجرم المعروف، بل لو كان السجود والسكون نصف النهار في خط الاستواء لم يضر أيضا بالنسبة لكل مدينة ولا يضر فيه كونها طالعة إذ ذاك في أفق آخر، إلا الذي يغلب على الظن ما يأتي بعد في تفسير قوله تعالى «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» وإذا علمت هذا تيقنت أن لا تعارض بين الحديث الصحيح المار ذكره في الشمس وبين كلام أهل الهيئة وما يقتضيه الحس أيضا والله أعلم اهو من روح المعاني وغيره بتصرف واختصار وتبسط «ذلِكَ» الجري البديع والمستقر الشان «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» ٤٨ به بحساب يكل النظر عن استخراجه وتتحير الافهام في استنباطه، لانه فعل الغالب بقدرته على هذا الجريان حسبما تفتضيه إرادته، فانظر رعاك الله في هذين الشخوص والهبوط المستمرين في الكون على المنوال المذكور في هذه الآية الكريمة، وتفكر هل كان أحد في عهد نزول
القرآن العظيم اطلع عليها وهل علمها أحد قبل إنشاء المراصد الفلكية واختراع المكبرات الرصدية غير صانع هذا الكون وبارئه على غير مثال سابق. وقد أخبرنا به المنزل عليه محمد ﷺ منذ أربعة عشر قرنا عن ربه عز وجل، ولا أبين من بيان الله في حق هذا القرآن الجليل، كيف لا وقد قال فيه (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) الآية ٩٠ من سورة النحل في ج ٢، قال تعالى «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» جمع منزلة والمراد بها المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة وهو لا يتعداها من أول ليلة إلى الثامن والعشرين ثم يستكن ليلة إذا كان تسعا وعشرين وليلتين إذا كان ثلاثين يوما.
مطلب منازل الكواكب وكيفية جريانها:
وقال أهل الهيئة إن المنازل سبعة وعشرون وثلث، وقد حذفوا الثلث لنقصه عن النصف كما هو مصطلح المنجمين. ويراد بالمنازل والله أعلم مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء الممطرة، وهي ثمان وعشرون منزلة:
١ الشرطان، ٢ البطين، ٣ الثريا، ٤ الدبران، ٥ الهقعة، ٦ الهنعة، ٧ الذراع، ٨ النثرة، ٩ الطرف، ١٠ الجبهة، ١١ الزّبرة، ١٢ الصرفة،
42
١٣ العوّا، ١٤ السماك، ١٥ الفقر، ١٦ لزّباني، ١٧ الإكليل، ١٨ القلب، ١٩ الشّوله، ٢٠ النعائم، ٢١ البلدة، ٢٢ سعد الذابح، ٢٣ سعد بلع، ٢٤ سعد السعود، ٢٥ سعد الأخبية، ٢٦ فرع الدلو المقدم، ٢٧ فرع الدلو المؤخر، ٢٨ الرشا.
ولكل منها معنى وتعريف خاص بها سنأتي على بيانه في تفسير الآية ١٥ من سورة الحجر في ج ٢ إن شاء الله إذ أننا أطلنا البحث هنا فيما يتعلق بانسلاخ الشمس الذي نشأ عنه الانسلاخ القوسي. هذا، واعلم أنه إذا كان القمر في آخر منازله رق وتقوس ولهذا أشار إليه تعالت إشارته بقوله «حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ» أحد شماريخ عذق النخل «الْقَدِيمِ» ٤٩ الذي مر عليه الحول، لأنه لشدّة يبسه يكون رفع من العرجون الحديث «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ» فتجتمع معه وتداخله في سلطانه ليلا، ولا يتمكن هو من الاجتماع معها ليشاركها في سلطانها نهارا «وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ» أيضا بل يتعاقبان بنظام بديع وحساب معلوم لا يتغير ولا يخطىء، لأنه إذا أدرك أحدهما الآخر اختل نظام الكون وقامت القيامة، قال تعالى: (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) الآيات من ٨ إلى ١١ من سورة القيامة المارة، أي يقال هذا القول يوم القيامة الذي يحار الإنسان فيه ويذهل عن ذويه وخاصته «وَكُلٌّ» من الشمس والقمر وما ينشأ عنهما من الليل والنهار وما يرتبط بسيرهما من الكواكب «فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» ٤٠ يسيرون، وكررت هذه الجملة في الآية ٣٣ من سورة الأنبياء في ج ٢، بما يدل على أن سير هذه كلها مقطوع بها حتما لا سبيل لانخرامه، تدبر، وفيها إشارة إلى أنها كلها عائمة بالهواء في الفضاء ليست مرتكزة على شيء ولا متعلقة بشيء كجريان السمك بالماء لجواز أن تكون السماء كلها لطيفه أو مجرى الكواكب منها لطيفا فيشق الكوكب ما يحاذيه يجري به كما تجري السمكة الكبيرة أو الصغيرة في البحر أو في النهر أو في ساقية منه.
أما ما يقوله الفلاسفة بانقطاع كرة الهواء عند كرة النار المماسة لقعر فلك القمر وانحصار الأجسام اللطيفة بالعناصر الثلاثة وصلابة جرم السماء وتساوي أجزائها واستحالة
43
الخرق والالتئام عليها واستحالة وجود الخلاء فلا قيمة له، إذ لم يقم لهم دليل قاطع على شيء من ذلك، وهو عبارة عن حدسيات وشبهات توغلوا فيها لإنكار عروج صاحب الرسالة، وقد بينا ما يتعلق في هذا في تفسير سورة والنجم المارة في الآية ١٨، ولهذا البحث صلة أول سورة الإسراء الآتية فراجعه ففيه كفاية، على أنه يجوز أن يكون الفلك عبارة عن جسم مستدير والكواكب فيه تجري بجريانه، وهناك أخبار تشير إلى صحته. أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس أنه قال في الآية هذه فلكة كفلكة المغزل يسبحون يدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: لا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل، والنجوم في فلكة كفلكة المغزل، فلا تدور إلا بها. وقال الشيخ لأكبر في فتوحاته المكية:
جعل الله السموات ساكنة وخلق فيها نجوما وجعل لها في عالم سيرها وسباقها في هذه السموات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص، وجعلهم عاقلة سامعة مطيعة بدليل قوله جل قوله (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) الآية ١٤ من سورة فصلت في ج ٢، ثم إنه تعالى شأنه لما جعل السباحة للنجوم أحدث لكل منها طريقين في السماء هو قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) الآية ٨ من سورة الذاريات في ج ٢، قسمت تلك الطرق أفلاكا، فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير فتخرق الهواء الماس السماء فيحدث منه أصوات ونعمات مطربة، لكون سيرها على وزن معلوم وتجري بعادة مستمرة، وقد علم بالرصد مقادير سيرها على التقريب، وكذلك دخول بعضها على بعض ظنا إذ لا يعلم ذلك على التحقيق إلا الله الذي جعل يسيرها عبرة للناظرين بين بطء وسرعة وتقدم وتأخر في أماكن من السماء معلومة بصورة بديعة.
ثم ذكر برهانا رابعا على عظيم قدرته فقال «وَآيَةٌ لَهُمْ» على بالغ قدرتنا وبديع صنعنا «أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ» أي ذرية آبائهم الأقدمين قبل نوح عليه السلام «فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» ٤١ سفينة أبيهم الثاني إذ ملأها به وبأهله ومن آمن به معه ومن عموم الحيوانات زوجين اثنين حتى من الطيور
44
راجع تفسير الآية ٣٧ من سورة هود في ج ٢. ويجوز أن يراد بالذرية أولاد المخاطبين، إذ كانوا يبعثونهم بالسفن البحرية الشراعية للتجارة، لأن أصل الذرية الصغار من الأولاد ويقع بالتعارف على الكبار والصغار، ويستعمل للواحد والجمع وفي الأصل هو للجمع فقط، وفي قوله المشحون إشارة إلى البواخر المحدثة بعد عهد نزول القرآن التي أصلها سفينة نوح عليه السلام هذه، لأنها مشحونة بالأشخاص والأموال ومشحونة أيضا بالبخار الذي بسوقها ولا شيء يمتلىء امتلاء البواخر بالبخار، يدل على هذا قوله جل قوله «وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ» أي ذلك الفلك المشحون «ما يَرْكَبُونَ» ٤٢ فيه بالبحر من السفن والبواخر الكبار في الهواء من الطيارات المتنوعة وفي البر من الحيوانات وخاصة الإبل إذ يسمونها سفن البر، والسيارات والدراجات والعجلات لتنوعة مما يركب ويحمل عليه، وكل هذا داخل في قوله تعالى من مثله كالقطارات، لأن هذه الإشارة تشمل الجميع ولأن بيوت بخارها مثل بيوت بخار البواخر المشار إليها بكلمة ذريتهم وهم أبناء هذا الزمان، وهذا كله من الإخبار بالغيب الذي يقصه الله علينا في كتابه ولا تناهي لمعجزاته، قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) الآية ٥٣ من سورة فصلت في ج ٢، أي آفاق السموات والأرض ولا يخترق هذه الآفاق إلا هذه المحدثات، وما ندري ما يحقق لنا القرآن فيما بعد مما يتصوره العقل من الجائزات، ولعل يكون ما قاله أبو الحسن الأشعري من أنه يجوز لأعمى الصين أن يرى بقعة الأندلس، وقد تحقق ذلك بعد أن ظهر المذياع المصور بكسر الواو الذي يسمع فيه صوت القارئ وترى صورته، والله على كل شيء قدير، ومن قدرته أقدار خلقه على مثل هذه الأشياء مما لا يكاد يقبله العقل ولا يتصوره مع وجوده، راجع الآية ١٠ من ص المارة والآية ٩٥ من سورة الصافات في ج ٢، قال تعالى «وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ» في البحر هم وسفنهم مهما عظمت إذ سماها الله جواري وشبهها بالجبال في قوله: (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الآية ٢٤ من سورة الرحمن في ج ٣، ونظيراتها الآية ٣١ من سورة الشورى في ج ٢، وكذلك إذا شاء يقلب القطارات ويوقع الطائرات بسبب وبغير سبب،
45
وإذا أغرقهم أو أسقطهم أو قلبهم «فَلا صَرِيخَ لَهُمْ» أي لا مغيث يستغيث لهم، وسمى المغيث صريخا لأنه ينادي من ينجيه مما حل فيه فيصرخ بأعلى صوته ولا أحدا يغيثه من قدر الله «وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ» ٤٣ ينجون منه لأن من يقدر هلاكه الله لا محيد له عنه البتة، لأن البشر عاجز عن الحؤول دونه «إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا» نحن الإله القادر على إغاثتهم بالنظر لما هو في علمنا الأزلي فنيسر لهم من يغيثهم أو نحفظهم من الهلاك وقتا مقدرا «وَمَتاعاً إِلى حِينٍ» ٤٤ انقضاء آجالهم قال أبو الطيب:
ولم أسلم لكي أبقى ولكن سلمت من الحمام إلى الحمام
وفي هاتين الحالتين ننقذهم نحن، وغيرنا لا يقدر على إنقاذهم إذا لم نشأه، حد قوله:
إذا نحن نؤمنك تأمن غيرنا وإذا لم تأخذ الأمن منا لم تزل حذرا
وهذه الآية المدنية من هذه السورة، قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ» لمنافقي المدينة «اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ» مما يتوقع حصوله من العذاب الدنيوي إذا أصررتم على نفاقكم كالأمم الماضية التي أصرت على كفرها «وَ» اتقوا أيضا «ما خَلْفَكُمْ» مما توعدون به من عذاب الآخرة، ويجوز أن يكون على العكس بأن يراد ما بين أيديهم عذاب الآخرة، لانهم مقبلون عليه، فكأنه بين أيديهم وبما خلفكم عذاب الدنيا لأنهم تاركوه وراءهم، ولكن الأول أولى وأنسب بالمقام، أي احذروا هذين العذابين المتوخى نزولهما بكم «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ٤٥ أي ترجون رحمة الله، وقال بعض المفسرين إن هذه الآية مكية والخطاب لكفار قريش أي اتقوا الوقائع التي ابتليت فيها الأمم المكذبة لانبيائها، واتقوا إنكار أمر الساعة وآمنوا بنبيكم علكم تصيبكم رحمة ربكم، وجواب إذا محذوف تقديره: فأعرضوا ولم يلتفتوا إلى هذا القول، على كلا القولين والمعنيين، ويدل على حذف الجواب قوله تعالى «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ» الدالة على قدرته وصدق نبيه «إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» ٤٦ دأبهم في كل آية فيها إنذار وبشارة «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا» أيها المتمولون على فقرائكم «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» وأحسنوا إليهم كما أحسن الله إليكم «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» المأمورون بالإنفاق من أهل مكة
46
وغيرهم «لِلَّذِينَ آمَنُوا» القائلين لهم أنفقوا «أَنُطْعِمُ» رزقنا الذي حصلنا عليه بكدنا «مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» أي كيف نطعمه وقد أفقره الله؟ فليطعمه الذي أفقره وهو استفهام إنكار، أي لا نفعل ذلك أبدا، والكلام مسوق لذمّهم على البخل وعدم شفقتهم على ذويهم وأبناء جنسهم من فضل ما منّ الله به عليهم إثر ذمهم بإنكار البعث والنبوة والمعاد، ثم لم يكتفوا بما قالوا بل أتبعوه بقولهم «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ٤٧ لأنكم تأمروننا بإعطاء رزقنا لمن لم يرد الله إعطاءه، وهذا أولى من قول من قال إن هذه الجملة من قول الله أي قال تعالى لهم إن أنتم إلخ، وأولى من قول من قال إن هذه الجملة من قول المؤمنين لهم لمخالفتها سياق الآية وسياق الحكاية، قالوا كان العاص بن وائل السهمي وبعض كفار قريش المتزندقين إذا سألهم المساكين من فضول أموالهم، ومما زعموا أنهم جعلوه لله من حروثهم وأنعامهم كما سيأتي بيانه في الآية ١٣٦ من سورة الأنعام في ج ٢ فما بعدها، قالوا له اذهب إلى ربك فهو أولى بك منا، أيمنعك هو ونعطيك نحن؟ كلا، لا نفعل هذا، فلو أراد رزقك لرزقك كما رزقنا، فنزلت فيهم هذه الآية. وقد تمسك بقولهم هذا البخلاء أسوة بسادتهم أولئك إذ يقولون لا نعطي من حرمه الله، وهو قول باطل يلجأ إليه كل عاطل من فعل الخير إخوان المنزل فيهم هذه الآية، لأن الله تعالى أغنى أناسا وأفقر آخرين ابتلاء واختبارا لا بخلا ولا استحقاقا، وأمر الغني بالإنفاق ليمتحنه أيقدر شكر نعمته عليه أم لا، وقد هدد الغني في الحديث القدسي: (الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي فإن بخل وكلائي على عيالي أذقتهم وبالي ولا أبالي.) وامتحن الفقير بهدر ماء وجهه ليختبره أيصبر أم لا، ألا فليتعظ الأغنياء ويتعظوا قبل أن يحل بهم ما لا كاشف له إلا الله. وما قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود لا صحة له لأنها مكية بالاتفاق كسائر هذه السورة إلا الآية المستثناة ٤٥ المارة على قول بأنها مدنية والأرجح عندي أنها مكية أيضا كما مر لك في تفسيرها الثاني والله أعلم، قال تعالى «وَيَقُولُونَ» هؤلاء الكفرة يا محمد «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به أنت وأصحابك من نزول العذاب
47
وقيام الساعة والحساب والجزاء في يوم البعث من القبور، قد طال علينا أمده أخبرونا وقته على الحقيقة «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ٤٨ بقولكم، قال تعالى قل لهم يا سيد الرسل إنه قريب بالنسبة لما عند الله وأنه على حين غفلة سيأتيكم غرة لأنه تعالى يقول:
مطلب في النفختين والذي لا يبلى من البشر:
«ما يَنْظُرُونَ» هؤلاء المستعجلون على شرهم «إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» من عبدنا جبريل الموكل بالنفخة الأولى والثانية «تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» ٤٩ فجاءة أثناء مخاصمتهم في بيعهم وشرائهم ومنازعتهم في أمورهم لدنيوية المنهمكين بها، وحينذاك «فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً» في شيء من أمورهم لأن كلا منهم يموت على حالته التي هو فيها حين سماعه الصيحة ولهذا قال تعالى ولا إلى أهلهم يرجعون ٥٠» إذ ليس باستطاعتهم لرجوع إذا كانوا خارجين لشأنهم وفي هذا تنبيه عظيم على عظمة هذه الصيحة التي لا تمهل القائم أن يقعد ولا القاعد أن يقوم إذ يموت كل بمكانه على هيأته دون حركة، ولا عجب من ذلك لأنه من فعل الله.
قالوا كان شبيب الحروري إذا صاح في القوم لا يلوي أحد على أحد وفيه يقول:
إن صاح يوما حسبت الصخر منحدرا والريح عاصفة والموج يلتطم
فإذا كانت صيحة عبد من عبيده في الدنيا تفعل هكذا، فما بالك في صيحة ملك عظيم من ملائكته. روى مسلم من حديث عمرو ابن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال: ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا (أي مال عنقه لان الليت صفحة العنق) فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله (أي يصلحه ويطينه) فيصعق وبصعق الناس، وقدمنا في تفسير الآية ١٨٥ من سورة الأعراف حديث أبي هريرة المتعلق بهذا مطولا فراجعه،
قال تعالى «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» أي النفخة الثانية للبعث والحساب وبينهما على ما قيل أربعون سنة «فَإِذا هُمْ» الأموات الذين ماتوا قبل النفخة الأولى جميعهم والذين ماتوا بعدها قائمين «مِنَ الْأَجْداثِ» المدافن أعم من القبور «إِلى رَبِّهِمْ» ومالك أمرهم «يَنْسِلُونَ» ٥١ يخرجون أحياء يتسابقون إلى الموقف وراء المنادي
48
قالوا لبعضهم متعجبين من حالتهم التي كانوا غافلين عنها في الدنيا ومنكرين وجودها «يا وَيْلَنا» يا هلاكنا «مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» الذي كنا فيه لأنهم يرون ما كانوا فيه من عذاب البرزخ بالنسبة لما شاهدوه من الهول هينا وكأنه في جنب شدة القيامة نوما، وهنا وقف لازم، أي سكنة خفيفة، فرقا بين كلامهم وكلام الملائكة القائلين لهم «هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ» به خلقه في الدنيا على لسان رسله «وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» ٥٢ بما قالوا لكم عنه بأنكم تموتون ثم تحيون وتسألون عما عملتم في دنياكم وتعاقبون وتثابون فكذبتموهم. ويوجد ثلاث سكنات أخر مثل هذه ينبغي للقارئ أن يسكت سكتة خفيفة عند تلاوتها: الآية ١٤ من سورة المطففين، والأولى من سورة الكهف ج ٢، والآية ٢٧ من سورة القيامة المارة، يقال: (من. راق) كما سنبينها في مواضعها «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» أي تلك النفخة من ملكنا جبريل عليه السلام «فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» ٥٣ أولهم وآخرهم في الموقف للحساب والجزاء عما كان منهم في الدنيا من خير وشر. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين النفختين أربعون، قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت، قالوا أربعون شهرا، قال: أبيت، قالوا أربعون سنة، قال: أبيت (يقول رضي الله عنه كلما سئل عن بيان الأربعين وتمييزها أبيت أي أمتنع عن القول، وذلك لانه لم يسمع من رسول الله ﷺ ما هي الأربعون، لانه أمين على ما سمع، فينقل ما سمعه بلا زيادة ولا نقص جزاه الله عنا خيرا. ومع هذا الحرص على حفظ كلام الرسول وأمانته عليه من أن يدخل فيه ما ليس منه ما لم يتحقق سماعه، فإن بعض من لا خلاق له من العلم يتهمه بسبب كثرة روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اعتذر لهم بأنه كان ملازما حضرة الرسول، وإخوانه بالأسواق وغيرها يتلهون بأعمالهم، لذلك صار أكثر رواية منهم أللهم حسن ظننا بعبادك المخلصين) ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ويأمر الله تعالى كل ذرة أينما كانت في البر أو البحر أو الهواء بالاتصال بجسدها التي انفصلت منه، وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا
49
عظما واحدا هو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة قال صاحب الجوهرة:
والجسم يفنى غير عجب الذنب وغير شهيد الحرب ونبي
وهذا أيضا جاء على قاعدة ما عموم إلا وخصص. هذا، وحينما يتظاهر أهل الموقف بالضجر مما يشاهدونه من الهول وعدم علمهم بما يؤول إليه أمرهم يقول الله تعالى «فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ» منكم أيها الخلق «شَيْئاً» مما عملتموه في دنياكم برة كانت نفسكم أو فاجرة حسنا كان عملها أو سيئا «وَلا تُجْزَوْنَ» جنّكم وإنسكم «إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»
فيها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ثم طفق يصف للناس أصحاب الخير بعد حسابهم بقوله جل قوله «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ» من معانقة الأبكار على ضفاف الأنهار وزيارة الأخيار عند سيد الأبرار وضيافة الملك الغفار في مشهد تحار فيه الأفكار والأبصار، مما لا توصف لذته ولا تقدر فرحته «فاكِهُونَ» ٥٥ متلذذون متنعمون «هُمْ وَأَزْواجُهُمْ» المؤمنات في الدنيا وما من الله عليهم من الحور والولدان جميعهم «فِي ظِلالٍ» من أكناف القصور والمواقع التي لا تقع عليها الشمس تسمى ظلالا في الدنيا أما الآخرة فلا شمس فيها قال تعالى «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» الآية ١٣ من سورة الرحمن في ج ٣، وإنما سميت ظلالا بالنسبة لما نعرفه من ظلال الأشجار وغيرها وكلهم «عَلَى الْأَرائِكِ» السور في الحجال أو الفراش في الحجال وحكى الطبرسي أن الأريكة هي الوسادة، وهذا مما يقبله الضمير قال تعالى «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ» في صدر الآية المارة والاتكاء عادة في الدنيا يكون على الوسائد، وما الدنيا إلا أنموذج الآخرة «مُتَّكِؤُنَ» ٦ ٥ وهذا مما يؤيد أن الأريكة هي الوسادة، وقال الزهري كل ما اتكئ عليه فهو أريكة. قال في الصحاح الأريكة سرير منجّد مزين في قبة أو بيت، وقال ابن عباس لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة ولا حجلة إذا لم يكن السرير فيها والحجلة كالقبة وموقع مزيّن بالثياب والستور للعروس. وعلى كل فإن المراد بها الوسادة، لأن السرير لا يكون بدون وسد فالذي يجلس عليه يتكىء على ما فيه من الوسد
50
«لَهُمْ فِيها» أي الجنة «فاكِهَةٌ» يتفكهون بها من أنواع الثمار والخضار «وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» ٥٧. ويطلبون من أصناف المآكل والمشارب مما يتمنون ويشتهون.
مطلب تحية الله لعباده وتوبيخ المجرمين:
وزيادة على هذا فإن الملائكة غير الحافين بهم تبلغهم من ربهم تحية وهي «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» ٥٨ أو انه جل جلاله يطلع عليهم بذاته المقدسة يدل على هذا ما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر ابن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع نور لهم فرفعوا رؤوسهم، فاذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله عز وجل سلام إلخ ينظر إليهم وينظرون اليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون اليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم قال صاحب بدء الامالي:
يراه المؤمنون بغير كيف وادراك وضرب في مثال
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
ومن هذه النعمة العظيمة رؤية الحق جل جلاله لانهم يتكرونها في الدنيا والآخرة فعوقبوا بحرمانهم منها راجع بحث الرؤية في تفسير الآية ١٤٣ من الأعراف المارة، ثم شرع ينعت أهل النار أجارنا الله منها بقوله «وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» ٥٩ اعتزلوا عن المؤمنين لانهم صاروا إلى ما وعدوا به في الدنيا على لسان الرسل، وبمجرد صدور هذه الكلمة بل قبل تمامها اعتزل جميع أهل النار من كل الملل عن أهل الجنة، لان أمره بين الكاف والنون وصار يوبخهم ويقرعهم بما هو أشد من عذابهم وأمر فقال لهم «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ» وأنتم في عالم الذر راجع تفسير الآية ١٧٢ من الأعراف المارة وأقول لكم «أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ» وافردوني وحدي بالعبادة وألم أقل لكم «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ٦٠ العداوة، إذ بدأها بأبيكم آدم فاحذروه
51
ولا تشركوا بي أحدا ولا شيئا، كيف وقد أعطيتموني هذا الميثاق وشهدتم به على أنفسكم وأشهدت عليكم ملائكتي وقد نقضتموه وعبدتم غيري
«وَأَنِ اعْبُدُونِي» وحدي لا تشركوا بي شيئا «هذا» الذي عهدت به إليكم من وجوب طاعتي وعبادتي ومعصية الشيطان وترك الشرك هو «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ٦١ لو اتبعتموه لنجوتم الآن لأنه سوي بليغ بالاعتدال لا اعوجاج فيه فلو تمسكتم به لكفى في إلزام أنفسكم طاعتي قال الآلوسي رحمه الله:
تفسر بعض الناس عنك كناية خوف الوشاة وأنت كل الناس
لأن الأصل الاستقامة، ولا يكون إلا باتباع الطريق المستقيم فمن اتبعه نجا ومن حاد عنه هلك، قال تعالى مخاطبا الخلق كلهم «وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ» أيها الناس «جِبِلًّا كَثِيراً» أي خلقا، لان الجبل الجماعة العظيمة والأمة التي لا تقل عن عشرة آلاف تشبيها لها بالجبل العظيم. مع كثرة إرسال الرسل إليكم لارشادكم «أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ» ٦٢ ما بلغوكم به عنّا لتستعدوا ليومكم هذا استفهام توبيخ وتقريع لعدم اتعاظهم بما جرى على الأمم الضالة قبلهم تكذيبهم رسلهم وطاعتهم عدوهم إبليس ثم التفت لأهل النار وقال لهم «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» ٦٣ بها من قبل الرسل في الدنيا والتي كانوا يخوفونكم بها وأنتم تكذبونهم ثم يقال لهم على سبيل الإهانة والتحقير من قبل ملائكة العذاب «اصْلَوْهَا الْيَوْمَ» أدخلوها لتكونوا وقودها «بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» ٦٤ بالله ورسله وتجحدون هذا اليوم ولما أرادوا أن يتكلموا الجمهم عن الكلام بقوله «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ» لئلا يتكلموا بها لانا سنأمر جوارحهم بالاعتراف عما فعلت «وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ» بما بطشت وما أخذت وأعطت «وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ» بما مشت ورمحت وهكذا كافة أعضائهم تنطق «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ٦٥ في الدنيا وذلك أنهم أرادوا أن يعتذروا إلى الله بأنهم انقادوا لأكابرهم وأنهم لم يكذبوا رسله ولم يشركوا به، كما مر في الآية ٥٩ فما بعدها من سورة ص وما سيأتي في الآية ٢٣ من سورة الأنعام في ج ٢
52
فيمنعون من الكلام إذ لا فائدة لهم به. روى مسلم عن أنس بن مالك قال:
كنا عند رسول الله ﷺ فضحك، (أي تبسم لأنه كان لا يضحك وكلما نقل عنه أنه ضحك فالمراد به تبسم) فقال هل تدرون ممّ أضحك؟ قلنا الله ورسوله أعلم، قال في مخاطبة العبد ربه، فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال يقول بلى، قال فيقول: فإني لا أجيز على نفسي الا شاهدا منّي (أي لا أقبل شاهدا عليّ من الغير) قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا «والآية في الإسراء بلفظ حَسِيباً» مما يفهم أن الاستشهاد بغير الآية، قال فيختم على فيه ويقال لاركانه: انطقي، قال فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل (أدافع وأخاصم ومعنى هذا هلاكا) والمراد بالختم على الأفواه ليس عدم شهادتها بل منع المحدث عنهم عن التكلم بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسن نفسها، وكيفية شهادة الجوارح أن يجعل الله تعالى القادر على كل شيء فيها علما وإرادة وقدرة على التكلم، فتتكلم وتشهد وأصحابها مختوم على أفواههم راجع كيفية هذا الختم في الآية ٢٤ من سورة النور في ج ٣، ولا نص فيها عن الأفواء كما أنه لا نص في هذه الآية على الألسنة أي لا ختم على الأفواه هناك ولا على الشهادة بالألسنة هنا وعليه فيجوز أن يكون المحدث عنهم في السورتين واحدا قال تعالى «وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا» مسخنا «عَلى أَعْيُنِهِمْ» كما أغشينا قلوبهم الباطنة بأن نجعلها كأنها غير مشقوقة، وهذا أبلغ من أعميناها أو أغشيناها «فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ» بادروا طريقهم المألوف لهم ويجوز أن يكون الكلام من باب الحذف والإيصال بان حذف الجار وهو إلى واتصل الفعل بالمجرور وهو الأصل فاستبقوا إلى الصراط «فَأَنَّى يُبْصِرُونَ» ٦٦ طريقهم وهم عمي القلوب عمي الأعين معا «وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ» حجارة بأن قلبنا ماهيتهم أو صيّرناهم قردة وخنازير كما فعلنا بأصحاب السبت أشار إليهم في الآية ١٦٣ من سورة الأعراف المارة والآتي ذكرهم في الآية ٦٠ من سورة المائدة في ج ٣ قالوا ان مسخ الحيوان أو تحويله إلى
53
أحجار يسمى رسخا وإلى نبات يسمى فسخا وإلى حيوان يسمى نسخا أي لغيرناهم عن خلقهم وهم «عَلى مَكانَتِهِمْ» المكانة كالمكان مثل المقامة والمقام ويكون بمعنى المنزلة العالية في غير هذا المكان أي لو أردنا مسخهم لمسخناهم في منازلهم «فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا» عنها فلا يقدرون ان يبرحوها ويتخلصوا منها من ويل ما وقعوا فيه «وَلا يَرْجِعُونَ» ٦٧ إلى ما كانوا عليه قبل النسخ أي عجزوا على الحالتين معا. واعملوا أيها الناس ان طول الأعمار وقصرها بايدينا وفق ما هو في أزلنا «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ» منكم زيادة على غيره «نُنَكِّسْهُ» أي نقلّبه «فِي الْخَلْقِ» فلا يزال يتزايد ضعفه وتنقص بنيته وتضعف قواه، وقد يقل عقله عكس ما كان عليه لأنه في بدأ طفولته كان يتزايد في الكبر والقوة والعقل والعلم، لأنه يكون عند ولادته عاريا عن ذلك كله فإذا بلغ أشده استكمل قوته وعقله وعلمه، وأنكس قلب الشيء على رأسه، والمنكوس الولد الذي تخرج رجلاه قبل رأسه والنكس عود المرض بعد النّقه وكل ما كان مقلوبا فهو منكوس ولهذا قال ننكسه أي نرجعه على حالة الطفولة من جهة نقص القوى وضعف الجوارح والنكس الشيخ المدرهمّ الساقط العاجز من الكبر بعد الهرم، والناكس المطأطئ رأسه من أجل ذلك «أَفَلا يَعْقِلُونَ» ٦٨ هؤلاء بأن من قدّر تعريف أحوال الإنسان بالصورة المذكورة وهي مدونة ومشاهدة، ألا يقدر على إحياء من يميته ويبعثه حيّا مرة ثانية، أفلا يعتبرون ويقيسون ما كان على ما يكون، أفلا يتدبرون هذا نظرا وفكرا؟ ثم التفت إلى كفار قريش الذين اتهموا نبيه ﷺ بكونه شاعرا بعد أن قالوا ساحر وكاهن ومعلم، لأنه هو المقصود بإنزال هذا القرآن بل من خلق الله كله فقال مكذبا لهم «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ» والكلام المنزل عليه لا يضاهي الشعر لأنه غير موزون بأوزانه.
مطلب أوزان الشعر ومخالفة القرآن لها:
أن الشعر عبارة عن تخيلات مرغبة أو منفّرة، وهو معدن الكذب ومقر الهزل في كثير من الأحيان ولهذا قيل في مدحه (أعذبه أكذبه) وهو مبني على
54
ستة أصول (١) سبب خفيف وهو كل حرف متحرك وراءه ساكن مثل من وعن وقد (٢) سبب ثقيل وهو كل حرفين متحركين مثل لم بما من (٣) وتد مجموع وهو كل حرفين متحركين بعدهما ساكن مثل غزا ورمى وعلا (٤) وتد مفروق وهو كل حرفين متحركين بينهما ساكن مثل سار، قال، باع (٥) فاصلة صغرى وهي كل ثلاثة أحرف متحركات بعدها ساكن مثل ذهبا خرجا أكلا (٦) فاصلة كبرى وهي كل أربعة أحرف متحركات مثل خرجتا، ذهبتا، أكلتا وهو عبارة عن ستة عشر بحرا لكل منها وزن خاص لا يتعداه وله أصول يتقيد فيها كالخبن والجزء. وهو علم خاص له فروع في عروضه وضروبه وقوافيه، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في النثر، ومتى خرم في أصوله ووزنه بشيء لا يسمى شعرا.
وهذا القرآن العظيم كله حكم وعقائد وشرائع وأمثال وقصص وأمر ونهي منزه عن الهزل، وكله قول حق وصدق قال تعالى «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» الآيتان ١٣ و ١٤ من سورة الطارق المارة وإذا كان منزّها من الهزل فبراءته عن غيره أولى، وليس على أوزان الشعر وقوافيه وأصوله فأين الثرى من الثريا، وأين الثريا من يد المتناول، وإذا لم يكن هذا القرآن شعرا، وهو كذلك، فإن محمدا ﷺ ليس بشاعر، لأنه لا ينطق عن الله بغير ما يوحيه إليه، فما يقوله هؤلاء الكفرة وأضرابهم وتلوكه ألسنتهم من الشعر غرضهم منه وصمه ﷺ بالشعر مع أن ما جاء به ليس بشعر وحاشاه ثم حاشاه «وَما يَنْبَغِي لَهُ» ولا يليق به الشعر. ولا تعلمّه ولا نطق به، لأنه قد يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن، وهذا ليس كذلك. والشعر أحسنه المبالغة في الوصف والمجازفة والإغراق في المدح والإفراط بتحسين ما ليس بحسن والتفريط في تقبيح ما ليس بقبيح، وهذا مما يستدعي الكذب أو يحاكيه وجلّ جناب الشارع عن ذلك روي عن عائشة رضي الله عنها وقد قيل لها هل كان النّبي شاعرا يتمثل بشيء من الشعر قالت كان يتمثل بشعر ابن رواحه ويقول:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود.........
55
أخرجه الترمذي، وفي رواية غيره قالت كان الشعر أبغض الحديث اليه ﷺ ولم يتكلم منه إلا ببيت أخي قيس طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار. فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس هكذا يا رسول الله، فقال إني لست بشاعر ولا ينبغي لي، وروى عن الحسن أنه ﷺ كان يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا. فقال أبو بكر يا نبي الله انما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا. أشهد أنك رسول، وتلا هذه الآية وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال لان يمتليء جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتليء شعرا وما صح من حديث جندب بن عبد الله أنه قال بينما نحن مع رسول الله ﷺ إذا أصابه حجر فدميت إصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت... وفي سبيل الله ما لقيت
ومن حديث أنس رضي الله عنه ان النبي ﷺ قال:
لهمّ إن العيش عيش الآخرة... فأكرم الأنصار والمهاجرة
وما روى أنه قال:
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب
فهو من جملة كلامه الذي يرمي به من غير صنعة فيه ولا تكلف، إلا أنه اتفق كذلك عفوا من غير قصد الشعرية وان كان موزونا كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس ومحاوراتهم ورسائلهم، كلام موزون مقفى يدخل في بحور الشعر وأوزانه اتفاقا، وقد جاء في القرآن العظيم ما هو بوزن شطر منه مثل قوله تعالى: «قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ» الآية ٢١ من سورة طه الآتية وقوله جل قوله: «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» الآية ٢٥ من سورة الأحقاف في ج ٢ وغيره كثير كما في الآية ١٤ من سورة النمل، والآية ٣٣ من سورة فاطر الآتيتين. فهل يسمى هذا شعرا؟ كلا، على أن الخليل قال المشطور من الرجز ليس بشعر، وهذا كله من
56
مشطور الرجز، وما روي عن الخليل أنه قال كان الشعر أحبّ إلى رسول الله ﷺ من كثير من الكلام مناف لما سمعت من الأحاديث والأخبار، ولعله قال ذلك بالتفضيل بين شعر وشعر كما قال حين أعجبه شعر أمية ابن الصلت (آمن شعره وكفر قلبه) وكما قال حين سمع قول النابغة:
بلغنا السماء بحدنا وسناؤنا وانا لنرجو بعد ذلك مظهرا
قال له إلى أين قال إلى الجنة يا رسول الله، فأعجبه ولما بلغ في قصيدته قوله:
ولا خير في علم إذا لم يكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن حليم إذا ما أورد الأمر اصدرا
قال له لا يفضض الله فاك. قالوا إنه عاش مائة وثلاثين سنة لم يسقط له فيها سن هذا، وان القرآن العظيم امتاز عن كلام البشر بما تقدم، وبنظم آياته على نظام السجع المستمر أو النثر من الشعر وبضرب الأمثال وسوق القصص وتكرارها بغير النسق الأول مع إعطاء المعنى كاملا، وهذا مما يعجز عنه البشر وعدم التزامه أسلوبا واحدا في الأداء والبحث فكما تجد في السورة الواحدة عدة أبحاث تجده في الآية الواحدة أيضا، وكما أن كثيره معجز فقليله معجز، فهو في هذه الحيثية لا يتجزأ كالنور فإنه إذا تجزا لا يخرج عن طبيعته كله لأن جزء النور نور وهكذا القرآن جل منزله. ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٢٢٦ من سورة الشعراء نستقصي فيها ما لا بد منه في هذا الشأن إن شاء الله تعالى، ولما نفى جل جلاله أن يكون نبيه شاعرا وأن يكون كلامه شعرا قال «إِنْ هُوَ» أي ما الذي علمناه لحضرة رسوله «إِلَّا ذِكْرٌ» من لدنا أنزلناه عليه ليذكر به عبادنا ويعظمهم به «وَقُرْآنٌ» يقرأه عليهم «مُبِينٌ» ٦٩ ظاهر واضح بأنه ليس من قول البشر ويلقم من تصدى لمعارضته الحجر كتاب سماوي لا مثل لمثله، تحدى الخلق كلهم ليأتوا بسورة مثله فعجزوا، وهو مصوغ صوغا إلهيا يباين كلام الإنسان ويخالف ما في الشعر من أصول وأوزان، موضح للحدود والأحكام، ومبين للحلال والحرام صادر عن حضرة الملك العلام القائل «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ
57
يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»
الآية ٨٨ من سورة الاسراء الآتية، فأين هو بعد هذا مما يتقوله المتقولون من مضاهاته للشعر المربوط بأوزان لا يتجاوزها، وبحور لا يتعداها، وهو من همزات الشياطين وأقاويل الكافرين ليمدحوا عليه أو ينالوا به شيئا من حطام الدنيا، إذ كان متعارفا بينهم للمدح والذم المبالغ فيهما، هذا وإنما أنزل الله جل شأنه هذا القرآن على رسوله ﷺ «لِيُنْذِرَ» بأوامره ونواهيه ويرشد «مَنْ كانَ حَيًّا» قلبه تنجع فيه النذر وتؤثر فيه المواعظ «وَيَحِقَّ الْقَوْلُ» بوجوب العذاب «عَلَى الْكافِرِينَ» ٧٠ الذين لا ينتفعون بالذكرى.
ثم شرع يعدد نعمه على خلقه الذين لا يجدر بهم ان يجحدوا كتابه ورسوله لو كان لهم ألباب فقال «أَوَلَمْ يَرَوْا» هؤلاء المعارضون لرسولنا «أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً» من الإبل والبقر والغنم وغيرها وخص الأنعام، مع أن غيرها مثلها وأحسن كالخيل والبغال والحمير والبراذين التي لا غنى لهم عنها إذ ذاك، لأنها أكثر أموالهم، ولهذا قال تعالى «فَهُمْ لَها مالِكُونَ» ٧١ يتصرفون فيها كيفما شاءوا أو أرادوا.
مطلب آيات الصفات ونعمة إذلال الحيوانات:
هذا، وقد سبق أن ذكرنا في تفسير الآية ٥٤ من الأعراف والآية ٣٠ من سورة ق المارتين بان آيات الصفات كهذه الآية مما لم يقطع بتفسيرها، إذ أن السلف أبقوها على ظاهرها وأطلقوا معناها عليه، وتأولها بعض الخلف وقال المتكلمون وبعض أهل الرأي أنه جل شأنه له يد لا كالأيدي ورجل لا كالأرجل وهكذا وهو مما طعن فيه أكثر الخلف لشدة تنزيههم الحضرة الإلهية عن مثله، وكل ما هو من شأن البشر، ولهذا فإنهم أولوا اليد بالقوة والنعمة والقدرة تحاشيا عن ذلك، قال تعالى «وَذَلَّلْناها لَهُمْ» جعلنا هذه الأنعام مسخرة منقادة لخلقنا لتمام الانتفاع بها إذ لو جعلت متوحشة كغيرها من الحيوانات لم يقدروا على ضبطها ولحرموا منافعها وهذا من أكبر نعم الله على خلقه، فانك تجد الطفل المميز
58
يقود البعير بخطامه ويتابعه حيث أراد، ولولا تذليله لعجز عنه الجماعة ولأتلف بضربة من رأسه الطائفة من الناس فله الحمد والشكر على هذا التسخير «فَمِنْها رَكُوبُهُمْ» عليها بسبب تذليلها وحملها الأثقال «وَمِنْها يَأْكُلُونَ» ٧٢ الرجل يذبح الثور والجمل فيأكل ويبيع ويهدي من لحمه وشحمه، ولولا تسخير الله لما تمكن من ذلك «وَلَهُمْ فِيها» غير الركوب والحمل «مَنافِعُ» كثيرة من أوبارها وأشعارها وصوفها وجلدها لباسا ومن نسلها قنية وتجارة إذ يبيعونها ويشترون بثمنها لوازمهم ويستكثرون بها مما يجب الشكر والحمد لمذللها «وَمَشارِبُ» من حليبها ولبنها وزبدها وسمنها وجبنها ولباها واقطها ومخيضها أكلا وشربا وبيعا وادخارا «أَفَلا يَشْكُرُونَ» ٧٣ هذا الرب الكريم على إنعامه هذا عليهم، فضلا عن باقي نعمه التي لا تعد ولا تحصى، قال ﷺ اتقوا الله لما يغذوكم به.
أي إن لم تتقوه لنعمة الحياة والسمع والبصر وبقية الجوارح والحواس وخوف المرض والفقر والعذاب فاتقوه على الأقل لنعمة الأكل والشرب واللبس التي لولاها لهلكتم، إذ فيها قوامكم فهذه كلها نعم من الله تعالى يجب عليكم شكرها فما بالكم تقابلونها بالكفر وتنكرون نعمها «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» من صنع أيديهم من الأحجار والأخشاب وعبدوها «لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ» ٧٤ إذا أضربهم أمر من خوف وجدب أو حلّ بهم ضر من مرض وفقر كلا «لا يَسْتَطِيعُونَ» أولئك الأوثان المتخذة «نَصْرَهُمْ» على غيرهم لأنها عاجزة عن نصر نفسها لأنها من صنعهم بدليل قوله واتخذوا «وَهُمْ» هؤلاء الكفرة الراجون من هذه الآلهة المزيفة نصرا ويعبدونها من دون الله مع علمهم أنها لا تضر ولا تنفع ولا عن أنفسها شرا تدفع ومع هذا تراهم «لَهُمْ جُنْدٌ» أعوان لأوثانهم وخدم «مُحْضَرُونَ» ٧٥ مهيئون يحمونها ممن يتعدى عليها ويرجون خيرها ويخافون شرها ولا ينظرون لخالقهم ورازقهم وحافظهم فيا سيد الرسل اتركهم الآن واصبر عليهم «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» بانك ساحر أو كاهن أو شاعر
59
وان كتابك سحر وشعر وكهانة، ووصم ربك بالشريك والولد والصاحب «إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ» لبعضهم ويكنون في قلوبهم من العداء لك والحسد على ما خولك ربك والحرص على إهلاكك «وَما يُعْلِنُونَ» ٧٦ في ذلك كله وتسافههم عليك وعكوفهم على عبادة أصنامهم على مرأى منك، واتهامك بالكذب، وتهديدك بالجلاء والقتل، وغير ذلك مما نحن عالمون به قبل إظهاره لك. واعلم يا أكمل الرسل أنا مجازوهم على ذلك كله لأنهم بوصمك هذا يكذبون الذي أرسلك ويجحدون آياته. راجع تفسير الآية ٣٢ من سورة الأنعام في ج ٢، ولذلك فإنا نجعل كيدهم في نحرهم وننصرك عليهم وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى على بصير وفيها أيضا وعد وتسلية من الله لرسوله ليقشع عنه ما لحقه من هم وحزن من قومه بسبب تقولاتهم هذه وإصرارهم على الكفر والتكذيب ورميهم له بما لا يليق بجنابه وليس في هذه الآيات ما ينم على حزنه نفسه بسبب ما تابه من أذاهم وإهانتهم وإنما على عدم قبولهم الايمان ورفضهم كتاب الله وإنكارهم رسالته وجحدهم الإله الواحد لأنها على حد قوله تعالى «فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» الآية ٨٨ وقوله ولا تدع مع الله إلها آخر الآية ٨٩ من سورة القصص الآتية ومن المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لا يظاهر الكافرين ولا يكون من المشركين ولا يدع مع الله إلها وان المخاطب فيها على الحقيقة غيره وانما خاطبه بها لإلهاب القلوب وركونها إلى المحبوب وجنوحها عن الأغيار وميلها عن مصاحبة الأشرار ولهذا البحث صلة في تفسير الآيات المذكورة إن شاء الله تعالى.
مطلب تفنيد من كفر القارئ انا بالفتح:
قال بعض المفسرين من قرأ انا هذه بالفتح فسدت صلاته وإذا اعتقد معناها كفر، وهو قول مبالغ فيه فلو اقتصر على تخطيئه أو غلطة لكان الأمر فيه ما فيه ولكن الكفر أمر عظيم لا يليق أن يجنح إليه عالم ما وجد مخرجا لعدم تكفير المسلم لأنه إذا وجد لمن يصدر عنه قول ظاهره الكفر احتمالا ما، يجب صرفه لهذا الاحتمال إذ لا يجوز تكفير المسلم حتى أن العلماء رحمهم الله قالوا إذا وجد قول
60
بعدم التكفير وتسع وتسعون قولا بالتكفير، يصار إلى عدم التكفير، وهنا يمكن حمل الكلام على حذف لام الفعل أي لأنا نعلم، ومثله كثير في القرآن وفي غيره أكثر، وعليه تلبية رسول الله ﷺ أحيانا إذ يقول أن الحمد والنعمة لك بفتح الهمزة من أن وقد قرأها الشافعي رضي الله عنه بالفتح وأبو حنيفة بالكسر ولكل منهما تعليل وتوجيه لانه إذا قرأتها بالفتح على أنها بدل من قوله «فَلا يَحْزُنْكَ» بحيث يكون المعنى فلا يحزنك علمنا ما يسرون وما يعلنون ففساده ظاهر لان هذا لا يحزنه بل يسره وفيه ما فيه وهذا المعنى يكون مع كسر إن أيضا إذا جعلتها مفعولة للقول أي كلمة قولهم لأن المصدر يعمل عمل فعله وعليه فيظهر من هذا أنه تعلق الحزن يكون الله عالما به وعدم تعلقه بذلك لا يدوران على فتح انا وكسرها وانما يدوران على تقديرك أنت أيها المتفحص وعليك أن تفعل فان فتحت انا قدرت معنى القليل لا معنى البدل لأن فيه الفساد كما علمت، وان كسرتها أي همزه إنا تفصل أيضا بأن تقدر معنى التعليل لا المفعولية وبهذا ننجو من الخطإ والفساد.
وليعلم القائل بالتكفير بان المسلم لا يكفر إلا بجحد ما يجب الإيمان به قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ» منكر البعث وهو أبي بن خلف الذي نزلت فيه الآية حينما أخذ عظما باليا من الأرض وقال يا محمد أترى ربك يحيي هذا بعد ما رمّ؟
فقال نعم ويبعثك ويدخلك جهنم. وانما أغلظ عليه في هذه الجملة لأنه ﷺ لا يغضب لنفسه وانما إذا انتهكت حرمات الله أو استهزأ بها كما هنا يغضب ويشتد غضبه ولهذا قال له ما قال وقيل أن القائل العاص ابن وائل وقيل غيره إذ يجوز أن تكون الآية واحدة لأسباب كثيرة وعموم لفظها لا يقيدها بمن نزلت فيه لأن لا عبرة بخصوص السبب فضلا عن أن الإنسان جاء معرفا بأل الجنسية فتشمل الواحد والمتعدد من جنس الإنسان ويجوز أن تكون أل فيه للاستغراق فيراد بها كل فرد من أفراد الإنسان أي أو لم يبصر هذا الساخر «أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ» زهيدة حقيرة وسويناه رجلا كاملا منها «فَإِذا هُوَ» بعد خلقنا له إعطائه القوة والعقل «خَصِيمٌ» لنا بما أنعمنا به عليه من الخلق والرزق «مُبِينٌ» ٧٧
61
في خصومته معلن لها يجادلنا بالباطل وينكر علينا إعادته كما بدأناه ولا يتفكر في كيفية إنشائه وما كان عليه من الضعف في قواه وجوارحه (وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا) بالعظم البالي وبغتة لرسولنا جاحدا قدرتنا على احيائه كما كان «وَنَسِيَ خَلْقَهُ» من تلك النطفة اليسيرة وتصييره تدريجا هيكلا عظيما على أحسن صورة وأبلغ خلقة مما هو أعظم وأقرب من إحياء العظم البالي فلان يتعجب في ماهيته وأدوار حياته وإعطائه القوة بعد الضعف والنطق بعد البكم أولى من أن يتعجب من احياء العظم وما إعادته بأهون علينا من بدايته وما بدايته بأهون علينا من إعادته ان كان له حجى يعقل به أو نهى يتدبر به أو لب يتذكر به. ثم ذكر مقالته القبيحة بقوله الحسن الجليل العظيم «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» ٧٨ أو لا يذكر هذا الحيوان أن الإعادة أهون من الإبداع لأن الله خلق الإنسان على غير مثال سابق فبالأحرى أن يعيده على مثل ما خلقه عليه وانه خلقه من التراب وانه مهما بلي ورمم: لا يصير الا ترابا فيخلقه منه كما بدأه قال تعالى «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» الآية ٢٨ من الأعراف المارة ثم التفت الى حبيبه فقال يا أكمل الرسل «قُلْ» لهذا السائل «يُحْيِيهَا» أي العظام البالية وغيرها «الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» قبل أن تكن شيئا وبعد أن كانت فمن باب أولى فانه يعيدها كما كانت «وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» ٧٩ ليس خلق الإنسان فقط الذي لا تخفى عليه أجزاؤه المفتتة المتفرقة ولا يعجزه جمعها من البر والبحر وبطون الوحوش والهوام والحيتان والطيور ولا كيفية إعادتها على خلقها لأنه عالم بذلك على التفصيل وهو قادر على ما يعلم وقادر على إعادة كل ذرة لجسدها سواء كان إنسانا أو غيره لا يتعاظمه شيء ولا يعزّ عليه شيء مما تتصوره العقول البتة، - راجع تفسير الآية ٥٣ المارة- واعتقد ولا تستكثر على الإله شيئا أبدا ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٢٥٩ من سورة البقرة في ج ٣.
مطلب خلق النار من الشجر وكيفية أمر الله:
كيف يتصور وهو الإله القادر الجبار «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ
62
الْأَخْضَرِ ناراً»
تنتفعون بها منافع جمة لا تحصى «فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ» أيها الناس «تُوقِدُونَ» ٨٠ للتوضئة والطبخ وتليين المعادن وتقويتها وصنعها فالإله الذي يقدر على جمع الماء والنار في الشجر وهما ضدان ألا يقدر على إعادة ما خلقه كما خلقه بلي والعجز من شيمة وصفة المخلوق لا الخالق، واعلم انما ضرب الله تعالى المثل بالنار لما كان في علمه أنه ينشأ منها ما لم يكن يعرف قبلا، فقد نشأ منها القوى الكهربائية التي هي أعظم قوة وقف عليها البشر حتى الآن، وهي جامعة بين الأضداد كالحرارة والبرودة، والجمع والتفريق، والحركة والسكون، فهي العامل الوحيد الآن لأكثر لوازم الإنسان والحيوان، وما ندري ما ينشأ عنها بعد، فتفكروا أيها الناس في آلاء الله تعالى تفتح أبصاركم وتنور بصائركم لمعرفة مكنونات ربكم في هذه الأرض التي أمر نبيكم بالتماس خباياها وفي عجائب مصنوعاته في السماء التي جعل فيها رزقكم وما وعدكم به. قال ابن عباس: أراد الله تعالى في هذه الشجر شجرتي المرخ والعفار الموجودتين في أرض الحجاز فمن أراد إذكاء النار قطع منها غصنين فيسحق المرخ على العفار فتخرج منها النار وهما خضراوان يقطران الماء، ولهذا تقول العرب في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار أي استكثر منها، هذا خلق الله أيها الناس وخلق السموات والأرض أكبر من خلقكم، فالذي يفعل هذه الأشياء إبداعا ألا يقدر على إعادة خلقكم من رميمكم البالي كما بدأكم؟
ثم ذكر مثلا أعظم من الأول فقال «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» بما فيهما من جبال وأودية وبحار وأنهار وكواكب وشموس ومناسك وبروج «بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» لأنهم بالنسبة لذلك لا يعدّون شيئا، قل أيها الإنسان قسرا «بَلى» قادر على أكثر من ذلك «وَهُوَ الْخَلَّاقُ» الموجد لأنواع المخلوقات العظيم «الْعَلِيمُ» ٨١ بكيفية خلقها أولا وإعادتها ثانيا لا يعجزه شيء ولا يحتاج في تكوينها إلى شيء من عقاقير ومحللات ومركبات. واعلم أيها الكامل «إِنَّما أَمْرُهُ» في الإيجاد «إِذا أَرادَ شَيْئاً» يوجده «أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ٨٢ حالا كما أراد لا محالة بين الكاف والنون، وكذلك إذا أراد إعدام شيء أعدمه
63
بقول كن أيضا، لا فرق عنده فيهما، هذا وقد عبر جل تعبيره عن إيجاد الأكوان بقول كن، من غير ان كان منه كاف ونون لسرعة الإيجاد، فكأنه جلّت قدرته يقول كما أنه لا يثقل قول كن عليكم أيها الناس فكذلك لا يثقل عليّ إبداء الخلق وإعادتهم، وهو يمثل لنا لتأثير قدرته تعالى في مراده بالأمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير امتناع وتوقف على شيء، وإذا نظرت إلى قوله تعالى «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» الآية ٤٠ من سورة النمل الآتية عرفت بعض قدرة ذلك الرب العظيم على كل عظيم بأقل من لفظ كن والظاهر من الآية أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن، وإليه ذهب معظم السلف، وذهب غيرهم إلى أن لا قول أصلا، وقال بعض العلماء إن هناك قولا نفسيا، والأحسن أن تضرب عن هذه الأقوال صفحا لأن شؤون الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام، فلا تشغل نفسك أيها العاقل العارف بمثل هذا الكلام وقل «فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» من كل شيء يتصرف به كيفما يشاء ويختار، وقد زيدت الواو والتاء في لفظ ملكوت للمبالغة كما زيدت في جبروت ورحموت في مبالغة الجبر والرحمة وقد أشرنا في تفسير الآية ١٨ الأعراف إلى ما يتعلق بهذا فراجعه. «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ٨٣ أيها الناس بعد الموت كسائر خلقه لا محيد لكم عنه. أخرج الامام أحمد وأبو داود والنسائي وغير عن معقل بن يسار أن رسول الله ﷺ قال: يس قلب القرآن. وأخر أبو النصر السنجري في الإبانة وحسنه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في القرآن لسورة تدعى العظيمة عند الله ويدعى صاحبها (حافظها الشريف عند الله تعالى، يشفع صاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول ﷺ قال سورة يس تدعى في التوراة المعمّة تعمّ صاحبها بخير الدنيا والآخرة أي تدفع وتدعى المدافعة القاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضى له كل حاجة واخرج الخطيب عن أنس مثله وعن معقل بن يسار قال قال صلى الله عليه وسلم: اقرأوا على موتاكم يس أخرجه أبو داود وغيره. هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
64
Icon