ﰡ
مكية، وآيها: ثلاث وثمانون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وعشرون حرفًا، وكلمها: سبع مئة وسبع وعشرون كلمة.
روى أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن رسول الله - ﷺ - قال: "إنَّ لكل شيء قلبًا، وإن قلبَ القرآن يس" (١)، وروي: "من قرأ يس، كتب الله له بقراءتها قراءةَ القرآن عشرَ مرات" (٢).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يس (١)﴾.[١] ﴿يس﴾ أمال الياء: حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، وروح عن يعقوب، وفتحها الباقون، وأبو جعفر يقطع الحروف
(٢) هو قطعة من حديث أنس السابق.
* * *
﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)﴾.
[٢] ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ أي: المحكم. قرأ ابن كثير: (وَالْقُرَانِ) بالنقل، والباقون: بالهمز (٣).
* * *
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٦٣١)، و"تفسير القرطبي" (١٥/ ٤).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٦٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٩٦).
[٣] ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ المعنى: أنّه تعالى أقسم بالقرآن أن محمدًا من المرسلين، وهو رد على الكفار حيث قالوا: ﴿لَسْتَ مُرْسَلًا﴾ [الرعد: ٤٣].
* * *
﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)﴾.
[٤] ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي: طريق هدى، ومهيع: رشاد لا اعوجاج فيه، ولا عدول عن الحق، ولم يقسم الله - تبارك وتعالى - لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إِلَّا له - ﷺ -، وهو خبر بعد خبر إنّه من المرسلين، وإنه على صراط مستقيم. قرأ قنبل عن ابن كثير، ورويس عن يعقوب: (السِّرَاط) بالسين، وأشم الصاد الزاي: حمزة، والباقون: بالصاد (١)، وكلها لغات صحيحة.
* * *
﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥)﴾.
[٥] ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تَنْزِيلَ) بنصب اللام بإضمار أعني، أو فعله؛ أي: نزله تنزيلَ، وقرأ الباقون: بالرفع (٢)؛ أي: هو تنزيلُ.
* * *
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٣٩)، و "التيسير" للداني (ص: ١٨٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٣١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٩٧).
[٦] ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ﴾ نفي؛ أي: لم تنذَرْ ﴿آبَاؤُهُمْ﴾ لأنّ قريشًا لم يأتهم نبي قبل محمّد - ﷺ - ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ عن الإيمان والرشد.
* * *
﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧)﴾.
[٧] ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ﴾ وجب العذاب ﴿عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾ أي: أهل مكّة بالكفر.
﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ لما سبق في علمه تعالى من عدم إيمانهم.
* * *
﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)﴾.
[٨] ولما حلف أبو جهل أن يرضخ رأس النّبيّ - ﷺ - بحجر إنَّ رآه يصلّي، فرآه ساجدًا، فأراد أن يلقي عليه حجرًا، فلزق في يده، وتشبثت يده في عنقه، نزل قوله تعالى:
﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ (١) أراد: في أعناقهم وأيديهم؛ لأن الغُلَّ لا يكون في العنق دون اليد.
﴿فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ﴾ جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين؛ أي: فأيديهم مجموعة إلى أذقانهم.
* * *
﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩)﴾.
[٩] فلما عاد أبو جهل إلى أصحابه، وأخبرهم بما رأى، وسقط الحجر من يده بعد أن فكوه عنها بجهد، قال رجل من بني مخزوم: أنا أقتله بهذا الحجر، فأتاه وهو يصلّي ليرميه بالحجر، فأعمى الله بصره، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتّى نادوه، وأخبرهم بالحال فنزل: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (سَدًّا) بفتح السين فيهما، وقرأ الباقون: بالضم (١)، وهما لغتان، والسدُّ: ما سدَّ وحال.
﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾ أعميناهم؛ من التغشية.
﴿فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ طريقَ الهدى، أو محمدًا - ﷺ - حيث أرادوه بالسوء.
* * *
﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي: مستوٍ عندهم.
﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ أعلمتهم محذِّرًا.
* * *
﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)﴾.
[١١] ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ﴾ أي: إنّما ينفع إنذارك ﴿مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ القرآنَ، وعمل به ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ أي: بالخلوات عند (١) مغيب الإنسان من عيون البشر.
﴿فَبَشِّرْهُ﴾ وحد الضمير مراعاة للفظ.
﴿بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ هو الجنَّة.
[١٢] ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى﴾ عند البعث ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا﴾ أسلفوا من الأعمال من خير وشر؛ ليجازوا عليه ﴿وَآثَارَهُمْ﴾ ما سَنُّوا من حسنة وسيئة.
* * *
﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ﴾ حفظناه وبيناه.
﴿فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ هو اللوح المحفوظ.
قال - ﷺ -: "مَنْ سَنَّ في الإسلام سُنةً حسنةً يُعمل بها من بعده، كان له أجرُها ومثلُ أجر من عمل بها من غير أن ينقصَ من أجورهم شيئًا، ومن سنَّ في الإسلام سُنَّةً سَيِّئة يُعمل بها مِنْ بعده، كان عليه وِزْرُها ووزرُ من عمل بها مِن غير أن يَنْقُصَ من أوزارهم شيئًا" (١).
* * *
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ أي: مَثِّل للمشركين مثلًا من قصة أصحاب القرية، وهي أنطاكية.
﴿إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ رسلُ عيسى -عليه السّلام-.
[١٤] ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا﴾ أي: أَرسل عيسى بأمرنا ﴿إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ﴾ هما يوحنا ويونس؛ ليدعواهم إلى الإسلام، فقربا منها، فرأيا شيخًا، وهو حبيب النجار، فأخبراه خبرهما، فقال: هل من آية؟ قالا: نبرئ الأكمه والأبرص والمريض، فأبرأا خلقًا كثيرًا، فدعاهما الملك، واسمه أنطيخس، وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام، فقال: لم جئتما؟ قالا: ندعوك إلى عبادة الرّحمن، فقال: أَلَنا رَبٌّ سوى آلهتنا؟ قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك، فقال: قُوما حتّى أنظر في أمركما، فذهبا عنه.
﴿فَكَذَّبُوهُمَا﴾ وضربوهما وحبسوهما.
﴿فَعَزَّزْنَا﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم: بتخفيف الزاي؛ من عزه: غلبه، فالمفعول محذوف؛ أي: غلبنا أهل المدينة ﴿بِثَالِثٍ﴾ وقرأ الباقون: بتشديدها (١)؛ من القوة، والمفعول محذوف أيضًا؛ أي: قوينا المرسلين برسول ثالث، وهو شمعون الصفا رأس الحواريين؛ لأنّ عيسى بعثه بعد الرسولين تقويةً لهما، فتوصل إلى أن أَنِسَ به الملك، فقال له يومًا: سمعتُ إنك حبست رجلين، فهل سمعت ما يقولان؟ قال: لا، فأحضرهما، فقال لهما شمعون: من أرسلكما؟ قالا: الله، قال: صِفاه وأوجزا، قالا: يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فدعا بغلام مطموس العينين موضع عينيه كالجبهة، فدعوا الله، فانشق له بصره، فقال شمعون للملك: ادع إلهك
﴿فَقَالُوا﴾ أي: رسل عيسى.
﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ﴾ أي: أهل أنطاكية ﴿مُرْسَلُونَ﴾ (١).
* * *
﴿قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ لا مزيةَ لكم علينا.
﴿وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ﴾ وحوي ورسالة.
﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ﴾ في دعواكم.
* * *
﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾ وقوله: ﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ﴾ جرى مجرى القسم في التوكيد، وكذلك: شهد الله، وعلم الله، ولم يأت باللام
* * *
﴿وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ التبليغ الظّاهر الأدلة الواضحة؛ لأنّه لو ادعى إنسان شيئًا، وقال: والله إنِّي لصادق بلا بينة، استُقبح ذلك، ولم يُسمع قولُه.
* * *
﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨)﴾.
[١٨] فثم ﴿قَالُوا﴾ للرسل: ﴿إِنَّا تَطَيَّرْنَا﴾ تشاءمنا ﴿بِكُمْ﴾ وذلك أن المطر حُبس عنهم، ثمّ قالوا للرسل:
﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا﴾ عن مقالتكم ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾ لنقتلنكم بالحجارة.
﴿وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
* * *
﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ﴾ شؤمكم ﴿مَعَكُمْ﴾ بكفركم، ثمّ أدخل همزة الاستفهام على الشرط توبيخًا لهم، فقال:
﴿أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ﴾ وُعظتم، وجواب الشرط محذوف؛ أي: أئن ذُكِّرتم تطيرتم بنا وكفرتم؟! قرأ أبو جعفر: (أَأَنْ) بفتح الهمزة الثّانية وتسهيلها بين
﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ مشركون مجاوزون الحدَّ.
* * *
﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ﴾ وهو حبيب النجار، وكان قد آمن بالرسل، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة.
﴿يَسْعَى﴾ يشتد عَدْوًا؛ ليعلِمَ الرسلَ بذلك.
ثمّ ﴿قَالَ﴾ لقومه: ﴿يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾.
* * *
﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا﴾ على تبليغ الرسالة.
﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ إلى خير الدارين.
* * *
[٢٢] فقالوا: أنت على دينهم، وكان يكتم إيمانه، فقال عاتبًا على نفسه؛ تنبيهًا لهم، وإثباتًا للحجة عليهم: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بعد الموت فيجازيكم. قرأ حمزة، ويعقوب، وخلف: (وَمَا لِي) بإسكان إلياء، والباقون: بفتحها (١)، أضاف الفطرة إلى نفسه، والرجوع إليهم؛ لأنّ الفطرة أثر النعمة، وكان عليه أظهر، وفي الرجوع معنى الزجر، وكان بهم أليق. وقرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم.
* * *
﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ استفهام بمعنى الإنكار؛ أي: لا أتخذ من دونه آلهة. واختلاف القراء في الهمزتين من (أَأَتَّخِذُ) كاختلافهم فيهما من (أَأَنْذَرْتَهُمْ).
﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ﴾ بسوء ﴿لَا تُغْنِ﴾ لا تدفِع ﴿عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ﴾ أي: شفاعة الأصنام ﴿شَيْئًا﴾ أي: لا شفاعة لها فتغني ﴿وَلَا يُنْقِذُونِ﴾ من مكروه ما. قرأ أبو جعفر: (يُرِدْنِي) بإثبات الياء ساكنة وقفًا، مفتوحة
* * *
﴿إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ إن عبدت غيره.
* * *
﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥)﴾.
[٢٥] ثمّ أظهر إيمانه بقوله: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ أي: أطيعون. قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (إِنِّي إِذًا) (إِنِّي آمَنْتُ) بإسكان الياء فيهما، وافقهما ابن كثير في الأوّل، وقرأ يعقوب: (فَاسْمَعُوني) بإثبات الياء (٣).
* * *
﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦)﴾.
[٢٦] فلما قال ذلك، وثب إليه القوم وثبة رجل واحد، فقتلوه، فمات
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥٦ - ٣٥٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٠٣).
(٣) المصادر السابقة.
* * *
﴿بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي﴾ أي: بالذي غفر لي من الذنوب.
﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ ليؤمنوا، أراد بذلك الإشفاق والنصح لهم؛ أي: لو علموا ذلك، لآمنوا بالله تعالى، وفي ذلك قال النّبيّ - ﷺ -: "نصحَ قومَه حيًّا وميتًا" (٢)، وقال قتادة: نفعهم على حالة الغضب والرضا، وكذلك المؤمّن لا يكون إِلَّا ناصحًا للناس.
* * *
﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨)﴾.
[٢٨] فلما قُتل حبيب، غضب الله له، وعجل لهم النقمة، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة، فهلكوا عن آخرهم، فذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ﴾ أي: قوم حبيب ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي: من بعد إهلاكهم {مِنْ
(٢) ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٥/ ٢٠) عن ابن عبّاس، ورواه ابن مردويه كما قال الحافظ ابن حجر في "الكافي الشاف" من حديث المغيرة بن شعبة، في قصة عروة بن مسعود.
﴿وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾ ملائكةً بعد إهلاك هؤلاء لتعذيب أحد، و (ما) في هذين الحرفين نافية.
* * *
﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ثمّ بين عقوبتهم فقال: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ رُوي أن جبريل أخذ بعضادتي باب المدينة، ثمّ صاح بهم صيحة واحدة ﴿فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ ميتون، شبهوا بالرماد الّذي خمدت ناره وطفئت. قرأ أبو جعفر: (صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ) بالرفع فيهما على أن (كان) تامة، و (صيحةً) فاعل؛ أي: ما وقعت إِلَّا صيحة واحدة، وقرأ الباقون: بالنصب على أن (كان) ناقصة (٢)؛ أي: ما كانت هي؛ أي: الأخذة، إِلَّا صيحةً واحدة.
* * *
﴿يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾ والحسرة: أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيرًا، ونصب (حَسْرَةً) منادى، ومعنى النِّداء: احضري، فهذا
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٦٣٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٠٤).
فقال: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ تمثيل لفعل قريش.
* * *
﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ أهل مكّة رؤيةَ البصر ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ وهم أهل كلّ عصر، سُموا بذلك؛ لاقترانهم بالوجود، و (كَمْ) هنا خبرية ﴿أَنَّهُمْ﴾ أي: الماضين ﴿إِلَيْهِمْ﴾ إلى المكبين ﴿لَا يَرْجِعُونَ﴾ أي: من مات لا يعود إلى الدنيا، أفلا يعتبرون؟!
* * *
﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر بخلاف عنه: (لمَّا) بالتشديد، جعلوا (إِنْ) بمعنى الجحد، و (لَمَّا) بمعنى إِلَّا، تقديره: وما كلٌّ إِلَّا جميع، وقرأ الباقون: بالتخفيف (١)، جعلوا (إِنْ) للتحقيق، و (ما) صلة، مجازه: وكلٌّ لَجميع لدينا، المعنى: كلّ الخلائق يجتمعون لدينا في الموقف للحساب.
* * *
[٣٣] ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ﴾ مبتدأ، وخبره ﴿الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾ اليابسة. قرأ نافع، وأبو جعفر: (الْمَيِّتَةُ) بتشديد الياء، والباقون: بتخفيفها ﴿أَحْيَيْنَاهَا﴾ بالماء.
﴿وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا﴾ جنسَ الحب؛ كالحنطة والشعير وما أشبههما.
﴿فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾ وخص الحب بالذكر؛ لأنّه أكثر المطلوب.
* * *
﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ﴾ بساتين ﴿مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا﴾ أي: في الأرض ﴿مِنَ الْعُيُونِ﴾ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر: (الْعِيُونِ) بكسر العين، والباقون: بضمها (١).
* * *
﴿لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ثمّ علل تفجير العيون فقال: ﴿لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (ثُمُرِهِ) بضم الثاء والميم؛ أي: الأموال الكثيرة
﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (عَمِلَتْ) بغير هاء ضمير، حذفت من صلة الاسم، وهي مرادة، وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك، وقرأ الباقون: بالهاء، ووصلها ابن كثير على أصله، وهي في مصاحفهم كذلك (٣)؛ أي: يأكلون من الّذي عملته أيديهم من الزّرع والغرس، والهاء عائدة إلى (ما) الّتي هي بمعنى الّذي.
﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ نِعَمَ الله عليهم؟
* * *
﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ﴾ الأصناف ﴿كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ من الحبوب والثمار ﴿وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ من الذكور والإناث ﴿وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ من دوابِّ البرّ البحر.
* * *
(٢) في "ت": "الثمر".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٤٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٠٧).
[٣٧] ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ﴾ تدلُّ على قدرتنا ﴿اللَّيْلُ نَسْلَخُ﴾ نُزيل ضوءه، ونخرج ﴿مِنْهُ النَّهَارَ﴾ فنجيء بالظلمة؛ لأنّ الأصل هي الظلمة، والنهار داخل عليها، فإذا غربت الشّمس، سلخ النهار من اللّيل.
﴿فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾ داخلون في الظلام.
* * *
﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾ أي: موضع تستقر فيه، وهو مغربها لا تجاوزه، ومستقرها تحت العرش، ورد به الحديث عن النّبيّ - ﷺ - (١). قرأ أبو جعفر بخلاف عنه: (لِمُسْتَقِرٍّ) بكسر القاف، وقرأ الجمهور: بالفتح (٢).
﴿ذَلِكَ﴾ السيرُ ﴿تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ المحيطِ علمُه بكل معلوم.
* * *
﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿وَالْقَمَرَ﴾ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وروح عن
(٢) انظر: "المحتسب" لابن جني (٢/ ٢١٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٠٨).
* * *
﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا﴾ أي: لا يصح لها ولا يستقيم.
﴿أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾ أن تجتمع معه فتطمسَ نوره؛ لأنّ فلكها غيرُ فلكه، ولأنّها تقطع فلكها كلّ سنة مرّة، والقمر كلّ شهر مرّة.
﴿وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ وإن كان سير القمر أسرعَ من سيرها، فهما يتعاقبان بحساب معلوم، لا يجيء أحدهما قبل وقته، ولا يجتمعان حتّى يبطل الله سبحانه هذا التأليف، ويطلع الشّمس من مغربها، ويجمع بين
﴿وَكُلٌّ﴾ تنوين عوض من المضاف إليه؛ أي: كلّ واحد من النيرين والنجوم.
﴿فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ لأنّ كلّ واحد يجري في فلكه.
* * *
﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ أي: ذرية قوم نوح، والمراد بالذرية: الآباء والأجداد، واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (ذُرِّيَّاتِهِمْ) بالألف على الجمع مع كسر التاء؛ لكثرة من حمل معه في السفينة، وقرأ الباقون: (ذُرِّيَّتَهُمْ) بغير ألف على التّوحيد مع فتح التاء إرادة الجنس (١).
﴿الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ المملوء، والمراد: سفينة نوح -عليه السّلام-، وهؤلاء من نسل من حُمل معه، وكانوا في أصلابهم.
* * *
﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ﴾ للذرية ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ أي: في الفلك ﴿مَا يَرْكَبُونَ﴾ من الإبل، وهي سفن البرّ.
[٤٣] ﴿وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ مع إيجاد السفن.
﴿فَلَا صَرِيخَ﴾ لا مُغيثَ ﴿لَهُمْ﴾ إذا وقعوا في الغرق.
﴿وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ﴾ يخلصون من الغرق.
* * *
﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا﴾ نصب على الاستثناء؛ كأنّه قال: إِلَّا أن نرحمهم، وقيل: نصب على المفعول من أجله؛ كأنّه قال: إِلَّا لأجل رحمتنا إياهم.
﴿وَمَتَاعًا﴾ عطف على (رحمةً) وقوله: ﴿إِلَى حِينٍ﴾ يريد: إلى آجالهم المضروبة لهم.
* * *
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ﴾ من أمر الآخرة، فاعملوا لها.
﴿وَمَا خَلْفَكُمْ﴾ من الدنيا، فلا تغتروا بها ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ لتكونوا راجين رحمة الله، وجواب (إذا) محذوف، تقديره: إذا قيل لهم، أعرضوا، يدلُّ عليه (مُعْرِضِينَ) بعدُ.
* * *
﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ والآيات: العلامات والدلائل.
* * *
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ أي: لكفار مكّة:
﴿أَنْفِقُوا﴾ على المساكين.
﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ من الأموال.
﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ﴾ أنرزُق ﴿مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ ثم لم يرزقه مع قدرته عليه، فنحن نوافق مشيئة الله، فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا ممّا يتمسك به البخلاء، ويقولون: لا نعطي من حرمه الله، وذلك أنّهم كانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأشياء بمشيئة الله، فأخرجوا هذا الجواب مخرجَ الاستهزاء بالمؤمنين، لا اعتقادًا، يوضح ذلك قولهم للمؤمنين: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ قولكم لنا: أنفقوا من مالكم.
* * *
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ يوم البعث ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ خطاب للنبي - ﷺ - وأصحابه ﴿صَادِقِينَ﴾ فيما تقولون.
* * *
[٤٩] قال الله تعالى: ﴿مَا يَنْظُرُونَ﴾ ما ينتظرون.
﴿إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ يعني: النفخة الأولى. اتفق القراء على نصب (صيْحَةً وَاحِدَةً)؛ إذ هو مفعول (يَنْظُرُونَ).
﴿تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ قرأ حمزة: (يَخْصِمُونَ) بإسكان الخاء وتخفيف الصاد، كيضربون؛ أي: يخصم بعضُهم بعضًا، وقرأ حفص عن عاصم، والكسائي، ويعقوب، وخلف، وابن ذكوان عن ابن عامر: بكسر الخاء وتشديد الصاد (١)، أصله يختصمون، أدغمت التاء في الصاد، فاجتمع ساكنان، فكسرت الخاء لهما، وقرأ أبو بكر عن عاصم بخلاف عنه: بكسر الياء إتباعًا للخاء، وقرأ أبو جعفر: بسكون الخاء وتشديد الصاد، فيجمع بين ساكنين، وقرأ ابن كثير، وورش عن نافع، وهشام عن ابن عامر بخلاف عنه: بفتح الخاء وكسر الصاد مشددة، أصله: يختصمون أيضًا، نقلت حركة التاء إلى الخاء، ثمّ أدغمت التاء في الصاد؛ لقربها منه، وقرأ أبو عمرو، وقالون عن نافع: باختلاس فتحة الخاء وتشديد الصاد، أصله: يختصمون، حذفت فتحة التاء، فاجتمع ساكنان، فحركت الخاء حركة مختلسة؛ لتدل على أن أصل الخاء السكون، ثمّ أدغمت التاء في الصاد، المعنى: يُصاح بهم في النفخة الأولى وهم مشغولون يتبايعون ويتجادلون، فتأخذهم الصيحة وهم غادون.
[٥٠] ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ وصية ﴿وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ ينقلبون؛ أي: عجلوا عن الوصيَّة وعن الرجوع إلى أهليهم (١).
* * *
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ هو قرن، وهي النفخة الأخيرة، وبينهما أربعون سنة، وتقدم ذكر النفخات الثلاث في سورة النمل.
﴿فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ القبور ﴿إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ يسرعون، وبين النفختين لا يعذبون.
* * *
﴿قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)﴾.
[٥٢] فإذا رأوا ما ثمّ ﴿قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا﴾ تحسرًا على رقدتهم (٢) بين الرقدتين:
﴿يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا﴾ أيقظنا (٣) ﴿مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ منامنا الّذي كنا فيه؟ حفص عن عاصم: يسكت يسيرًا على (مَرْقَدِنَا) (٤).
(٢) في "ت": "قدرتهم".
(٣) "أيقظنا" زيادة من "ت".
(٤) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢١٣).
﴿وَصَدَقَ﴾ أي: والذي صدق فيه.
﴿الْمُرْسَلُونَ﴾ وهو الإنذار، أقروا حين لا ينفع الإقرار.
* * *
﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿إِنْ كَانَتْ﴾ النفخةُ الأخيرة ﴿إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ قرأ أبو جعفر: (صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ) بالرفع فيهما، والباقون: بالنصب، وتقدم توجيه القراءات في الحرف المتقدم، وهو ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾.
﴿فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ للحساب.
* * *
﴿فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ حكاية لما يقال لهم حينئذ.
* * *
﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ﴾ عن النّار وأهلها. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: بإسكان الغين، والباقون: بضمها (١)، وهما لغتان، مثل: السُّحْت، والسُّحُت.
* * *
﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (ظُلَلٍ) بضم الظاء من غير ألف، جمع ظلة، وقرأ الباقون: بكسر الظاء وألف، جمع ظِلّ (٢).
﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ جمع أريكة، وهي السرير في الحجلة، وهي ستر كالبيت، ولا تكون أريكة إِلَّا إذا اجتمعا، المعنى: لا تصيبهم الشّمس، وهم في الجنَّة على السرر المرخاة عليها الستور.
﴿مُتَّكِئُونَ﴾ قرأ أبو جعفر: (مُتَّكُونَ) بضم الكاف وسكون الواو بغير همز، والباقون: بكسر الكاف والهمز (٣).
* * *
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٦٤٤)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥٤ - ٣٥٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢١٤).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٤٥)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢١٥).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٦٦)، و "معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢١٥).
[٥٧] ﴿لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ﴾ يشتهون.
* * *
﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿سَلَامٌ﴾ أي: ولهم سلام ﴿قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ أي: يقوله الله قولًا، وهو مبالغة في تعظيمهم أن السّلام وقع منه بغير واسطة.
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ - ﷺ -: "بَيْنَا أهلُ الجَنَّة في نعيمهم، إذ سَطَع لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ - عز وجل- قد أَشْرَف عليهم من فوقهم، فقال: السَّلامُ عليكم يا أهلَ الجنَّة، فذلك قوله: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا ينقلبون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجبَ عنهم، فيبقى نورُه وبركتُه عليهم في ديارهم" (١).
* * *
﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿وَامْتَازُوا﴾ فيه حذف، تقديره: ونقول للكفرة: امتازوا؛ أي: اعتزلوا من أهل الجنَّة ﴿الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ لأنّ العالم في الموقف مختلطون، وهذه معادلة لقوله لأصحاب الجنَّة: ﴿سَلَامٌ﴾.
[٦٠] ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ أي: ألم أُوصِكم على لسان رسلي.
﴿يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ إبليس؛ أي: لا تطيعوه في معصية الله.
﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ظاهرُ العداوة.
﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ وَحِّدوني ﴿هَذَا﴾ أي: العهد المعهود إليكم.
﴿صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ طريق بليغ في الاستقامة.
﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا﴾ خَلْقًا ﴿كَثِيرًا﴾: قرأ أبو عمرو، وابن عامر: (جُبْلًا) بضم الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام، جمع جبيل، وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، ورويس عن يعقوب: بضم الجيم والباء جميعًا، وتخفيف اللام، وروى روح عن يعقوب كذلك، إلا أنه بتشديد اللام، وقرأ الباقون، وهم نافع، وأبو جعفر، وعاصم: بكسر الجيم والباء وتشديد اللام (١)، جمع جبلة، وكلها لغات معناها واحد.
...
﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣)﴾.
[٦٣] فثَمَّ يقال لهم: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ بها.
...
﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ﴾ ذوقوا حرها ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ في الدنيا.
...
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ﴾ نُخرسهم ﴿وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ﴾ بعملها.
﴿وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ بما صدر منهم، والمراد: جميع الجوارح؛ لأن كل عضو يعترف بما صدر منه، وفائدة نطق الأعضاء؛ ليعلم أن ما كان عونًا على المعاصي صار شاهدًا، فلا ينبغي لأحد أن يصحب أحدًا إلا لله تعالى؛ لئلا يُفتضح ثَمَّ بسبب صحبته.
[٦٦] ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ محونا آثار عيونهم؛ يعني: قريشًا.
﴿فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ﴾ فتبادروا إلى الطريق ﴿فَأَنَّى﴾ أي: فكيف ﴿يُبْصِرُونَ﴾ الطريق إلى مقاصدهم؟ أي: لا يبصرون، وكيف إنكار هنا، فيفيد النفي، المعنى: لو شئنا، لختمنا عليهم بالكفر، فلم يهتد منهم أحد أبدًا.
﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ﴾ قردة وخنازير.
﴿عَلَى مَكَانَتِهِمْ﴾ أي: مسخًا يثبتهم على مكانهم بحيث يجمدون فيه. قرأ أبو بكر عن عاصم: (مَكَانَاتِهِمْ) بألف بعد النون على الجمع، وقرأ الباقون: بغير ألف على التوحيد (١).
﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا﴾ إلى الدنيا ﴿وَلَا يَرْجِعُونَ﴾ إليها.
[٦٨] ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ﴾ نطيل عمره ﴿نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ قرأ عاصم، وحمزة: (نُنَكِّسْهُ) بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددًا، وقرأ الباقون: بفتح النون الأولى وإسكان الثانية، وضم الكاف مخففًا (١)، لغتان بمعنى: جعل أعلى الشيء أسفله، المعنى: من يُطل عمره، يرده بعد كمال خلقه وخلقه وعلمه إلى مثل حال صغره.
﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ أن القادر على ذلك قادرٌ على البعث، فيؤمنون؟! قرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب، وابن ذكوان عن ابن عامر: (تَعْقِلُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (٢).
...
﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩)﴾.
[٦٩] ولما قال كفار مكة: إن محمدًا شاعر، وما يقوله شعر، أنزل الله تكذيبًا لهم: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ أي: ما يتسهل له عمله، ولا إنشاده موزونًا؛ لنفي الطعن فيه، فأما نحو: "أنا النبيُّ لا كَذِبْ أنا ابنُ عبدِ المطَّلِبْ" (٣)، فليس بشعر عند أرباب هذا الشأن، ثم بين الذي علَّمه.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٢١).
(٣) رواه البخاري (٢٧٠٩)، كتاب: الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره في الحرب، ومسلم (١٧٧٦)، كتاب: الجهاد والسير، باب: في غزوة حنين، =
﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾ موعظة ﴿وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ الأحكام، المعنى: إنما منعناه من عمل الشعر وتعليمه؛ لئلا يتهم.
...
﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿لِيُنْذِرَ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (لِتُنْذِرَ) بالخطاب للنبي - ﷺ -، وقرأ الباقون: بالغيب إخبارًا عن القرآن (١) ﴿مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ عاقلًا.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٥)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٦٤٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٢١).
...
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ تولَّينا خلقه بإبداعنا من غير إعانة أحد ﴿أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ متصرفون، لم تُخلق وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها.
...
﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿وَذَلَّلْنَاهَا﴾ سخرناها ﴿لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ﴾ أي: ما يركبون.
﴿وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ اللحم والوَدَك.
...
﴿وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ كأصوافها وأوبارها وأشعارها.
﴿وَمَشَارِبُ﴾ من اللبن، جمع مَشْرَب، وهو الشرب. قرأ هشام، وابن ذكوان بخلاف عنهما: (وَمَشَارِبُ) بإمالة فتحة الشين (١).
﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ المنعمَ عليهم؟!
[٧٤] ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً﴾ يعبدونها.
﴿لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ﴾ أي: لعلهم يمنعون من العذاب بشفاعة آلهتهم.
...
﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ الآلهةُ ﴿نَصْرَهُمْ﴾ أي: نصر عابديهم.
﴿وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾ أي: الكفارُ جندٌ للأصنام، يحضرونها في الدنيا، ويغضبون لها، وهي لا تنفعهم.
...
﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ يعني: كفار مكة في تكذيبك. قرأ نافع: ﴿يُحْزِنْكَ﴾ بضم الياء وكسر الزاي، والباقون: بفتح الياء وضم الزاي (١).
﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ من الكفر وتكذيبِك، فنجازيهم عليه.
...
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)﴾.
[٧٧] ونزل في أُبي بن خلف لما أنكر البعث، وأتى النبيَّ - ﷺ - بعظم
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ أي: منيٍّ.
﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ﴾ شديد الخصومة ﴿مُبِينٌ﴾ بَيِّنُها بعدما كان ماء مهينًا، المعنى: ألم يستدل بخلقه على إمكان البعث؟!
...
﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا﴾ بفتِّه العظام.
﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ من المني، فهو أغرب من إحياء العظم.
﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ بالية، ولم يؤنث (رَمِيم)؛ لأنه معدول من فاعله، وكل ما كان معدولًا عن وجهه ووزنه، كان مصروفًا عن إعرابه؛ كقوله: ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم: ٢٨] أسقط الهاء لأنها مصروفة عن باغية.
وفي الآية حجة في إثبات الحياة في العظم، ونجاسته بالموت، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا تحل الحياة بالعظم، فلا ينجس بالموت، له أن المعنى أنها ترد كما كانت رطبة في بدن حساس.
واختلفوا في الآدمي هل ينجس بالموت؟ فقال أبو حنيفة: ينجس، إلا أن المسلم يطهر بالغسل، وتكره الصلاة عليه في المسجد، وعن مالك خلاف، والذي اختاره ابن رشد: الطهارة، وهو الأظهر عند صاحب "المختصر" (١)، وأما الصلاة في المسجد، فالمشهور من مذهبه كراهتها
...
﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ يعلم تفاصيل المخلوقات قبل خلقها وبعده.
...
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا﴾ هما شجرتان يقال لإحداهما: المرخ، وللأخرى: العفار، يقطع منهما قضيبان وهما خضراوان، فيسحق المرخ وهو ذكر، على العفار وهو أنثى، فتنقدح النار بإذن الله تعالى.
﴿فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ تقدحون، وهذا دليل على القدرة على البعث؛ لأنه تعالى جمع بين الماء والنار والخشب، فلا الماء يطفئ النار، ولا النار تحرق الخشب.
[٨١] ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال:
﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ مع عظمها على غير مثال سابق ﴿بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ أي: مثل الأناسي في الصغر؛ أي: لا يعجزه شيء. قرأ رويس عن يعقوب: (يَقْدِرُ) بياء مفتوحة وإسكان القاف من غير ألف، وضم الراء على أنه فعل مستقبل مثل يَصْرِف، وقرأ الباقون: بالباء وفتح القاف وألف بعدها وخفض الراء منونة على وزن فاعل (١).
﴿بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ﴾ الكثير الخلق ﴿الْعَلِيمُ﴾ بجميع ما خلق.
...
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾.
[٨٢] ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ قرأ ابن عامر، والكسائي: (فَيَكُونَ) بالنصب عطفًا على (يَقُولَ)، وقرأ الباقون: بالرفع (٢)؛ أي: فهو يكونُ، وهذا إشارة إلى سرعة تكوُّن الشيء، وأنه تعالى لا يلحقه نَصَب في إيجاد المعدوم وإعدام الموجود.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٤٤)، و "التيسير" للداني (ص: ١٣٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٢٣).
[٨٣] ثم نزه تعالى نفسه تنزيهًا عامًّا مطلقًا فقال: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ﴾ قرأ رويس عن يعقوب: (بِيَدِهِ) باختلاس كسرة الهاء، والباقون: بإشباعها (١) ﴿مَلَكُوتُ﴾ أي: مُلْكُ ﴿كُلِّ شَيْءٍ﴾ وزيدت الواو والتاء للمبالغة، ومعناه: ضبطُ كل شيء، والقدرةُ عليه.
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ قرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (٢)، وهو وعد ووعيد للمقرين والمنكرين.
قال - ﷺ -: "اقرؤوا على موتاكم يس" (٣)، والله أعلم.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٢٤).
(٣) رواه أبو داود (٣١٢١)، كتاب: الجنائز، باب: القراءة عند الميت، والنسائي في "السنن الكبرى" (١٠٩١٣)، وابن ماجه (١٤٨٨)، باب: ما جاء فيما يقال عند المريض إذا، والإمام أحمد في "المسند" (٥/ ٢٧)، وابن حبان في "صحيحه" (٣٠٠٢). من حديث معقل بن يسار. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (٢/ ١٠٤): أعلَّه ابن القطان بالاضطراب وبالوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه، ونقل أبو بكر بن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث. وقال أحمد في "مسنده": كانت المشيخة يقولون: "إذا قُرئت" يعني "يس" عند الميت خُفِّف عنه بها. اهـ.