تفسير سورة فصّلت

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

قبلها: أن الله سبحانه لما أنكر عليهم عبادة الأنداد والأوثان، وطلب إليهم أن لا يعبدوا إلا الله الذي خلق السموات والأرض، وزين السماء الدنيا بالمصاييح، وأوجد في الأرض جبالًا رواسي، ثم أعرضوا عن كل ذلك، ولم يبق حينئذ طريق لعلاجهم.. أمر رسوله أن ينذرهم بحلول شديد النقم بهم، إن هم أصروا على عنادهم كما نزل بعاد وثمود من قبلهم.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين كيف عاقب أولئك الجاحدين في الدنيا، وأذاقهم عذاب الهون بما كانوا يكسبون.. أردف ذلك بذكر عقابهم في الآخرة، ليكون ذلك أتم للزجر، وأكثر في الاعتبار لمن اعتبر.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد وغيرهم عن ابن مسعود قال: كنت مستترًا بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة أنفار: قرشي وثقفيان، أو ثقفي وقرشيان، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال: أترون أن الله سمع كلامنا هذا، فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا.. سمعه، وإذا لم نرفعه.. لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئًا.. سمع كله، قال: فذكرت ذلك لرسول الله - ﷺ -، فأنزل الله - عز وجل -: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿حم (١)﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي (١): هذه السورة مسماة بـ ﴿حم (١)﴾ فيكون إطلاق الكتاب عليها في قوله: ﴿كِتَابٌ﴾ إلخ. باعتبار أنها من الكتاب وجزء من أجزائه، وقيل: ﴿حم (١)﴾ اسم للقران، فيكون إطلاق الكتاب عليه حقيقة، وإنما (٢) افتتح السورة بـ ﴿حم (١)﴾ لأن معنى حم بضم الحاء وتشديد الميم على ما قال سهل - رحمه الله تعالى - قضي ما هو كائن.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
ولما كانت هذه السورة مصدرةً بذكر الكتاب الذي قدرت فيه الأحكام، وبينت.. ناسب أن تفتح بـ ﴿حم (١)﴾ رعايةً لبراعة الاستهلال، وإنما سميت هذه السور السبع بـ ﴿حم (١)﴾؛ لاشتراكها في الاشتمال على ذكر الكتاب، والرد على المجادلين في آيات الله تعالى، والحث على الإيمان بها، والعمل بمقتضاها ونحو ذلك.
وقال بعضهم: معنى الحاء. والميم؛ أي: هذا الخطاب والتنزيل من الحبيب الأعظم إلى المحبوب المعظم، وقيل: هو قسم أقسم به تعالى؛ أي: بحياتي ومجدي هذا تنزيل، أو بحياتك ومشاهدتك يا حبيبي ويا محبوبي، أو بالحجر الأسود والمقام، فإنهما ياقوتتان من يواقيت الجنة، وسران عظيمان من أسرار الله تعالى، فناسب أن يقسم بهما، أو هذه الحروف ﴿تَنْزِيلٌ﴾ إلخ. نزل بها جبريل عليه السلام من عند الله تعالى وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين.
٢ - وقوله: ﴿تَنْزِيلٌ﴾: خبر بعد خبر؛ أي: هذه السورة مسماة بحم، منزلة من عنده تعالى؛ لأن التعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور، كقولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير؛ أي: مضروبه، ومعنى كونها منزلة: أنه تعالى كتبها في اللوح المحفوظ، وأمر جبريل أن يحفظ تلك الكلمات، ثم ينزل بها على رسوله - ﷺ -، ويؤديها إليه، فهلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل.. سمي ذلك تنزيلًا، وإلا فالكلام النفسي القائم بذات الله تعالى لا يتصور فيه النزول والحركة من الأعلى إلى الأسفل، وقوله: ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ متعلق بـ ﴿تَنْزِيلٌ﴾ مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم؛ للإيذان بأن القرآن مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية، وذلك لأن المنزل ممن صفته الرحمة الغالبة، لا بد وأن يكون مدارًا للمصالح كلها،
٣ - وقوله: ﴿كِتَابٌ﴾: خبر آخر مشتق من الكتب، وهو الجمع، فسمي كتابًا لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين، وقوله: ﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ صفة ﴿كِتَابٌ﴾؛ أي: كتاب بينت آياته بالأمر والنهي، والحلال والحرام، والوعد والوعيد، والقصص والتوحيد، وقرىء: ﴿فَصَلت﴾ (١) بفتح الفاء والصاد مخففةً؛
(١) البحر المحيط.
300
أي: فرقت بين الحلال والحرام، أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قولهم: فصلت العير؛ أي: انفصلت، وفصل من البلد؛ أي: انفصل منه، حالة كونه ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾؛ أي: مجموعًا من لسان العرب ولغتهم، حال من ﴿كتاب﴾ لتخصصه بالصفة، ويقال لها: الحال الموطئة، وهو اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة، وهذا أولى من نصبه على المدح؛ أي: أريد بهذا الكتاب المفصل آياته قرآنًا عربيًا أو على المصدرية؛ أي: يقرؤه قرآنًا، وبوجود كلمةٍ عجمية فيه معرّبة لا يخرج عن كونه عربيًا؛ لأن العبرة للأكثر، وذلك كالقسطاس، فإنه رومي معرب بمعنى الميزان والسجيل، فإنه فارسي معرب سنك وكل، والصلوات فإنه عبراني معرب صلوتا، بمعنى المصلي، والرقيم فإنه رومي بمعنى الكلب، والطور فإنه الجبل بالسرياني ﴿لِقَوْمٍ﴾ عرب ﴿يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: كائنًا لقوم يعلمون معانيه، لكونه على لسانهم، فهو صفة أخرى لـ ﴿قُرْآنًا﴾ وفي "التأويلات النجمية": ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ العربية والعربية بحروفها مخلوقة، والقرآن منزه عنها، وكأنه رد على من زعم أن في القرآن ما ليس من كلام العرب. اهـ. أو متعلق بـ ﴿فُصِّلَتْ﴾ والأول أولى. وقال الضحاك؛ أي: يعلمون أن القرآن منزل من عند الله تعالى، وقال مجاهد؛ أي: يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
وحاصل معنى الآية (١): أي هذا القرآن منزل من الله الرحمن الرحيم على نبيه محمد - ﷺ -، وخص هذين الوصفين ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ بالذكر؛ لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى المحتاجين إلى الدواء، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان رحمةً لهم، ولطفًا بهم، كما قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾.
هو ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ وبينت وميزت لفظًا بفواصل ومقاطع ومبادىء للسور وخواتم لها، وميزت معنًى بكونها وعدًا ووعيدًا ومواعظ ونصائح وتهذيب أخلاق ورياضة نفس وقصص الأولين وتواريخ الماضي، حال كونه ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾؛ أي: أنزلناه بلغة العرب ليسهل عليهم فهمه، كما قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾، وفي هذا امتنان من الله عليهم ليسهل عليهم قراءته
(١) المراغي.
301
وفهمه ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ معانيه لكونه جاء بلغتهم، فهم أهل اللسان فيفهمونه بلا واسطة وغيرهم لا يفهمه إلا بواسطتهم،
٤ - حالة كونه ﴿بَشِيرًا﴾؛ أي: مبشرًا، وليائه بالجنة والنعيم المقيم، إن داموا على العمل بما فيه من أوامر ونواه ﴿وَنَذِيرًا﴾؛ أي: منذرًا مخوفًا لأعدائه بالعذاب الأليم، إن هم أصروا على التكذيب به، والجدل فيه بالباطل، وترك أوامره وفعل نواهيه، فهما صفتان أخريان لـ ﴿قُرْآنًا﴾ أو حالان من ﴿كِتَابٌ﴾ وقرأ (١) زيد بن علي: ﴿بشير ونذير﴾ برفعهما على أنهما صفتان لـ ﴿كِتَابٌ﴾ أو على أنهما خبران لمبتدأ محذوف.
ثم بين حال المشركين حين أنزل إليهم فقال: ﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ﴾ عن تدبره مع كونه على لغتهم، والضمير (٢) لأهل مكة أو العرب أو المشركين، دل عليه ما سيجيء من قوله: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: فأعرض المشركون عما اشتمل عليه من النذارة ﴿فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ ـه سماع تفكر وتأمل وقبول، حتى يفهموا جلالة قدره وجزالة معانيه فيؤمنوا به، وفي "التأويلات النجمية": فأعرض أكثرهم عن أداء حقه، فهم لا يسمعون بسمع القبول والانقياد، وفيه إشارة إلى أن الأقل هم أهل السماع، وإنما سمعوا بأن أزال الله تعالى بلطفه ثقل الآذان، فامتلأت الأذهان بمعاني القرآن.
والمعنى (٣): أي فاستكبر أكثر المشركين عن الإصغاء إليه، ولم يقبلوه ولم يطيعوا ما فيه من أوامر ونواه، إعراضًا عن الحق،
٥ - ثم صرحوا بنفرتهم منه وتباعدهم عنه، وذكروا لذلك ثلاثة أسباب، تعللًا واحتقارًا لدعوته:
١ - ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: المشركون لرسول الله - ﷺ - عند دعوته إياهم إلى الإيمان، وللعمل بما في القرآن ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾؛ أي: في أغطية متكاثفة مثل الكنانة التي فيها السهام ﴿مِمَّا تَدْعُونَا﴾ يا محمد ﴿إِلَيْهِ﴾؛ أي: في أغطية تمنعنا من فهم ما تدعونا وتورده علينا، وحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وحذف متعلق حرف الجر أيضًا، والأكنّة: جمع كنان كأسلحة جمع سلاح وهو الغطاء، قال مجاهد: الكنان للقلب: كالجنة للنبل، شبهوا (٤) قلوبهم بالشيء المحوي المحاط
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
302
بالغطاء، المحيط له بحيث لا يصيبه شيء من حيث تباعدها عن إدراك الحق واعتقاده.
فإن قلت: لِمَ عبَّر هنا بكلمة في حيث قال: ﴿فِي أَكِنَّةٍ﴾، وعبر بكلمة على في سورة الكهف حيث قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ فما الفرق بين المقامين؟
قلت: عبر هنا بكلمة ﴿فِي﴾ لأن القصد هنا المبالغة في عدم القبول، والأكنة إذا احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف، لا يمكن أن يصل إليها شيء؛ وليست تلك المبالغة في ﴿عَلَى﴾، والسياق في الكهف للعظمة، فيناسبه أداة الاستعلاء. اهـ سعدي المفتي.
أي: إن قلوبنا في أغطية متكاثفة مما تدعونا إليه من الإيمان بالله وحده، وترك ما ألفينا عليه آباءنا، فهي لا تفقه ما تقول من التوحيد، ولا يصل إليها قولك يا محمد.
٢ - ﴿وَفِي آذَانِهِمْ﴾ وأسماعنا ﴿وَقْرًا﴾؛ أي: صمم يمنعها من استماع قولك، وفي "القاموس": الوقر: ثقل في الأذن أو ذهاب السمع كله، شبهوا أسماعهم بآذان بها صمم من حيث إنها تمج الحق ولا تميل إلى استماعه.
وفي "التأويلات النجمية": ﴿وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾: ما ينفعنا كلامك، قالوه حقًا، وإن قالوا على سبيل الاستهزاء والاستهانة، لأن قلوبهم في أكنة حب الدنيا وزينتها مقفولة بقفل الشهوات والأوصاف البشرية، ولو قالوا ذلك على بصيرة.. لكان ذلك منهم توحيدًا، فتعرضوا للمقت لما فقدوا من صدق القلب.
وقرأ طلحة بن مصرف (١): ﴿وقر﴾ بكسر الواو وسكون القاف، وقرىء: ﴿وقر﴾ بفتحتين، وقرأ الجمهور: ﴿وَقْرٌ﴾ بفتح الواو وسكون القاف.
٣ - ﴿وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ عظيم، وستر غليظ يمنعنا عن إجابتك، وعن التواصل والتوافق معك، روي أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوابًا وقال: يا محمد، بيننا وبينك حجاب استهزاءً منه، و ﴿مِنْ﴾: للدلالة (٢) على أن الحجاب
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
303
مبتدأ من الجانبين، بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة المعبر عنها بالبين ولم يبق ثمة فراغ أصلًا، فيكون حجابًا قويًا عريضًا مانعًا من التواصل بخلاف ما لو قيل: بيننا وبينك، فإنه يدل على مجرد حصول الحجاب في المسافة المتوسطة بينهم وبينه من غير دلالة على ابتدائه من الطرفين، فيكون حجابًا في الجملة، لا كما ذكروا:
هذا فائدة زيادة من في قوله: ﴿مِنْ بَيْنِنَا﴾ شبهوا حال أنفسهم مع رسول الله - ﷺ - بحال شيئين بينهما حجاب عظيم، يمنع من أن يصل أحدهما إلى الآخر ويراه ويوافقه، وإنما (١) اقتصروا على ذكر هذه الأعضاء الثلاثة؛ لأن القلب محل المعرفة، والسمع والبصر أقوى ما يتوسل إلى تحصيل المعارف، فإذا كانت هذه الثلاثة محجوبة.. كان ذلك أقوى ما يكون من الحجاب.
وقصارى ما يقولون (٢): أن قلوبهم نابية عن إدراك ما جئت به من الحق وتقبله واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، وأسماعهم لا يدخل إليها شيء منه، كأن بها صممًا، ولتباعد الدّينين وتباين الطريقين، كأن بينهم وبين رسول الله - ﷺ - حجاب كثيف وحاجز منيع، ثم بارزوه بالخلاف، وشن الغارات الجدلية، بما لم يبق بعده مجال للوفاق، فقالوا: ﴿فَاعْمَلْ﴾ على دينك ﴿إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ على ديننا، وقال الكلبي (٣): اعمل في هلاكنا، فإنا عاملون في هلاكك، وقال مقاتل: اعمل لإلهك الذي أرسلك، فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها، وقيل: اعمل لآخرتك، فإنا عاملون لدنيانا، وقيل: فأعمل في إبطال أمرنا جهد طالتك، ونحن نعمل جاهدين في فض الناس من حولك، وتشتيت شمل من آمن بك، حتى تبطل دعوتك.
٦ - ثم أمره سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد، لهؤلاء المشركين، جوابًا لهم عما يقولون: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾؛ أي: إنما أنا كواحد منكم لولا الوحي، ولم أكن من جنس مغاير لكم حتى تكون قلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه، وفي آذانكم وقر، ومن بيني وبينكم حجاب، إلا أني يوحي إلى ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾؛ أي: ما إلهكم الذي يستحق العبادة منكم إلا إله واحد لا غيره،
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
304
وهذا تلقين للجواب عما ذكره المشركون.
وقرأ الجمهور: ﴿قُلْ﴾ على صيغة الأمر، وقرأ ابن وثاب والأعمش: ﴿قال﴾ بصيغة الماضي، وقرأ الجمهور: ﴿يُوحَى﴾: بفتح الحاء مبنيًا للمفعول، وقرأ النخعي والأعمش: ﴿يوحي﴾ بكسرها مبنيًا للفاعل؛ أي: يوحي الله إلى.
والمعنى: أي إني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قسرًا، فإني بشر مثلكم، ولا امتياز لي عنكم إلا أني أوحي إلى التوحيد والأمر به، فعلي البلاغ وحده، فإن قبلتم رشدتم، وإن أبيتم هلكتم.
وقبل المعنى (١): أني لست من جنس مغاير لكم، من ملك وجن حتى يكون بيني وبينكم حجاب وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان، كما ينبىء عنه قولكم: ﴿فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ بل إنما أنا بشر وآدمي مثلكم، مأمور بما أمرتم به، حيث أخبرنا الله جميعًا بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم، فإن الخطاب في إلهكم محكي منتظم للكل، لا أنه خطاب منه - ﷺ - للكفرة، كما في قوله: ﴿مِثْلُكُمْ﴾، وقد أوحي إلى دونكم، فصرت بالوحي نبيًا، ووجب عليكم اتباعي ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ﴾؛ أي: وجهوا استقامتكم وامتثالكم وطاعتكم إليه تعالى لا إلى غيره؛ أي: توجهوا إليه تعالى قلبًا وقالبًا، بالتوحيد وإخلاص العبادة، غير ذاهبين يمينًا وشمالًا (٢)، ولا ملتفتين إلى ما يسول لكم الشيطان، من اتخاذ الأولياء والشفعاء؛ أي: توجهوا بالكلية إلى سبيلة لا إلى غيره، وهذا من جملة المقول (٣)، و ﴿الفاء﴾: لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من إيحاء الوحدانية، فإن ذلك موجب لاستقامتهم إليه تعالى بالتوحيد، والإخلاص في الأعمال، وعدي فعل الاستقامة بإلى لتضمنه معنى توجهوا، والاستقامة: الاستمرار على جهة واحدة، وطريقة مستقيمة.
﴿وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ تعالى مما كنتم عليه من الشرك وسوء العقيدة والعمل، وقال الحسن في معنى الآية: إن الله سبحانه علم رسوله - ﷺ - كيف يتواضع بقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾، ولهذا كان يعود المريض، ويشيع الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة والنضير على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه
(١) روح البيان.
(٢) النسفي.
(٣) روح البيان.
305
إكاف من ليف.
وفي الآية: إشارة إلى أن البشر كلهم متساوون في البشرية، مسدود دونهم باب المعرفة؛ أي: معرفة الله بالوحدانية بالآلات البشرية من العقل وغيره، وإنما فتح هذا الباب على قلوب الأنبياء بالوحي، وعلى قلوب المؤمنين بالتبليغ والإلهام.
وحاصل المعنى (١): أي قل أيها الرسول لقومك: ما أنا إلا بشر مثلكم في الجنس والصورة والهيئة، ولست بملك ولا جني، لا يمكنكم التلقي مني، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول، بل أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه الدلائل الكونية، وأيده النقل عن الأنبياء جميعًا من آدم، فمن بعده، فأخلصوا له العبادة، وسلوه العفو عن ذنوبكم التي سلفت منكم بالتوبة من شرككم، يتب عليكم ويغفر لكم.
ثم هدد المشركين وتوعدهم فقال: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ بالله تعالى غيره في العبادة والطاعة؛ أي: وهلاك وخسار كائن لمن أشرك بربه في ذاته وصفاته وأفعاله،
٧ - ثم وصفهم بقوله: ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾؛ أي: يمنعونها ولا يخرجونها إلى المستحقين، ولم يواس البائس الفقير بشيء من ماله يدفع به عوزه، ويزيل خصاصته، وقال الحسن وقتادة: لا يقرون بوجوبها، وقال الضحاك ومقاتل: لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة، وقيل المعنى لا يشهدون أن لا إله إلا الله، لأنها زكاة الأنفس وتطهيرها، وقال الفراء: كان المشركون ينفقون النفقات، ويسقون الحجيج ويطعمونهم، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد - ﷺ -، فنزلت فيهم هذه الآية، وقوله: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾: معطوف على ﴿لَا يُؤْتُونَ﴾ داخل (٢) معه في حيز الصلة، واختلافهما بالفعلية والاسمية؛ لما أن عدم إيتائها متجدد، والكفر أمر مستمر؛ أي: منكرون للآخرة بما فيها من الحساب والجزاء، جاحدون لها، والمجيء بضمير الفصل، لقصد الحصر، وكان يقال (٣): الزكاة قنطرة الإِسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها.. هلك، وإنما جعل منع الزكاة مقرونًا بالكفر بالآخرة؛ لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله.. فذاك أقوى دليل على استقامته وثباته، وصدق نيته، وصفاء طويته، وما خدع
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا بها لانت شكيمتهم وزالت عصبيتهم، وما ارتدت بنو حنيفة بعد رسول الله - ﷺ - إلا بمنعهم للزكاة، فعرضوا أنفسهم للحرب والطعن والضرب، إبقاءً على أموالهم، ولو ذهبت مهجهم وأرواحهم.
وقصارى ذلك: دمار وهلاك لمن أشرك بربه، ولم يطهر نفسه من دنس الرذائل، التي من أهمها البخل بالمال، ودفع غائلة الجوع عن المسكين والفقير، وإنكار البعث والجزاء، ونحو الآية: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)﴾ وقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥)﴾.
٨ - وبعد أن ذكر وعيد المشركين، أردفه وعد المؤمنين، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله سبحانه، وصدقوا بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ بامتثال الأوامر، واجتنبوا السيئات بترك النواهي ﴿لَهُمْ﴾ عند ربهم في الآخرة ﴿أَجْرٌ﴾ وثواب ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾؛ أي: غير مقطوع أبدًا، ولا ممنوع عنهم، مِنْ مَنَنْتُ الحَبْلَ: إذا قَطعْتُه، وقيل: غير منقوص، من مَنَنْت حقه: إذا نَقَصْته، وقال مجاهد: غير محسوب عليهم، وقيل: غير ممنون عليهم على طريق الحذف والإيصال؛ أي: لا يمن به عليهم فيتكدر بالمنة؛ أي: بالامتنان عليهم؛ أي: عد النعمة عليهم، لأنه إنما يمن بالتفضل، فأما الأجر فحق أداؤه، والمنة في الأصل: النعمة الثقيلة التي لا يطلب معطيها أجرًا ممن أعطاها إليه، ثم استعملت بمعنى الامتنان؛ أي: عد النعمة على من أعطاها إليه، وقال السدي: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة.. كتب لهم من الأجر مثل ما كانوا يعملون في الصحة، ونحو الآية قوله: ﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (٣)﴾، وقوله: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾.
وفي الآية (١): إشارة إلى أن من آمن، ولم يعمل صالحًا.. لم يؤجر إلا ممنونًا؛ أي: ناقصًا، وهو أجر الإيمان، ونقصانه من ترك العمل الصالح، فيدخل النار ويخرج منها بأجر الإيمان ويدخل الجنة، ولكنه لا يصل إلى الدرجات العالية المنوطة بالأعمال البدنية، مثل: الصلاة والصوم والحج ونحوها.
٩ - ثم أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - أن يوبخهم ويقرعهم، فقال: ﴿أَئِنَّكُمْ﴾ أيها
(١) روح البيان.
307
المشركون ﴿لَتَكْفُرُونَ﴾؛ أي: لتنكرون ﴿بـ﴾ توحيد الإله العظيم الشأن ذي القدرة الباهرة والحكمة البالغة ﴿الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ﴾ وأوجدها وأبدعها ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾ قيل: اليومان، يوم الأحد والاثنين؛ أي: قدر وحكم في الأزل بأنها ستوجد في مقدار يومين من أيام الآخرة، ويقال: من أيام الدنيا، كما في "تفسير" أبي الليث، وفي "عين المعاني" تعليمًا للتأني، وإن أمكن الإيجاد في الحال بلا إمهال، ووجه حمل اليومين على المعنيين المذكورين: أن اليوم الحقيقي إنما يتحقق بعد وجود الأرض، وتسوية السموات، وإبداع نيراتها وترتيب حركاتها؛ يعني: أن اليوم عبارة: عن زمان كون الشمس فوق الأرض، ولا يتصور ذلك قبل خلق الأرض والسماء والكواكب، فكيف يتصور الأرض في يومين؟ ويجوز أن يراد خلق الأرض في يومين؛ أي: في نوبتين، على معنى أن ما يوجد في كل نوبة يوجد بأسرع ما يكون، فيكون اليومان مجازًا عن دفعتين، على طريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم، وقال سعدي المفتي: الظاهر أن اليوم على هذا التفسير بمعنى مطلق الوقت. انتهى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَئِنَّكُمْ﴾: بهمزتين الثانية بين بين، وقرأ ابن كثير: بهمزة بعدها ياء خفيفة؛ أي: قل أيها الرسول لمشركي قومك، توبيخًا وتقريعًا لهم: كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض التي تقلكم في نوبتين، فتقولوا: إنه لا يقدر على حشر الموتى من قبورهم، وتنسبوا إليه الأولاد، وتقولوا: إنه لم يبعث أنبياء أي: كيف تقولون هذا مع أنه خلق الأرض في يومين؟.
وقوله: ﴿وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا﴾؛ أي: أشباها وأمثالًا من الملائكة والجن والأصنام التي تعبدونها من دونه، معطوف على ﴿تَكْفُرُونَ﴾ داخل في حكم الإنكار والتوبيخ، وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع، لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد بمعنى تصفون له شركاء وأشباهًا وأمثالًا من الآلهة، والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد، فضلًا عن الأنداد.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله - ﷺ - بأن ينكر عليهم أمرين (٢):
الأول: كفرهم بالله بإلحادهم في ذاته وصفاته، كالتجسم واتخاذ الصاحبة
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
308
والولد، والقول بأنه لا يقدر على إحياء الموتى، وأنه لا يبعث البشر رسلًا.
والثاني: إثبات الشركاء والأنداد له تعالى، فالكفر المذكور أولًا مغاير لإثبات الأنداد له؛ ضرورة عطف أحدهما على الآخر.
﴿ذَلِكَ﴾ العظيم الشأن، الذي فعل ما ذكر من خلق الأرض في يومين، وهو مبتدأ، خبره: قوله: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة، فكيف يتصور أن يكون أخس مخلوقاته ندًا له تعالى؟ وعبارة المراغي هنا: ﴿ذَلِكَ﴾ الذي (١) خلق الأرض في نوبتين - نوبةً جعلها جامدةً بعد أن كانت كرةً غازيةً، ومرةً جعلها ستًا وعشرين طبقةً في ستة أطوار، كما بين ذلك علماء طبقات الأرض الجيولوجيا - هو ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ لا ربها وحدها، فهو مربي المخلوقات جميعًا، فإن رباها في نوبتين.. فقد ربى غيرها في نوبات، يعلم سبحانه عددها، فكيف يكون شيء منها ندًا له، وضريبًا؟
١٠ - ثم بين أحكام ذلك الخلق وحسن تدبيره، فقال: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا﴾؛ أي: في الأرض ﴿رَوَاسِيَ﴾؛ أي: جبالًا ثوابت ﴿مِنْ فَوْقِهَا﴾؛ أي: من فوق الأرض، وهو معطوف على ﴿خَلَقَ﴾: داخل في حكم الصلة؛ أي: كيف تكفرون بالذي خلق الأرض في يومين، وجعل فيها رواسي من فوقها، والجعل (٢): إبداعي، والمراد: تقدير الجعل، لا الجعل بالفعل، والمراد بالرواسي: الجبال الثابتة المستقرة، و ﴿مِنْ فَوْقِهَا﴾ متعلق بجعل أو بمضمر، هو صفة لـ ﴿رَوَاسِيَ﴾؛ أي: كائنةً (٣) من فوقها، مرتفعة عليها، لتكون منافعها ظاهرةً للطلاب، وليظهر للناظر ما فيها من وجوه الاستدلال، وإلا فالجبال التي أثبتت فوق الأرض لا تمنعها عن الميدان، ولو كانت تحتها كأساطين الغرف، أو مركوزة فيها كالمسامير. لمنعتها عنه.
والمعنى (٤): أي كائنةً من فوق الأرض، ليرى الإنسان بعينه، وليتفكر بقلبه أن الجبال أثقال على أثقال، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله تعالى، ولو جعل في الأرض رواسي من تحتها.. لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، وقيل: جملة
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) المراح.
309
﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾: مستأنفة غير معطوفة على ﴿خَلَقَ﴾ لوقوع الفصل بينهما بالأجنبي، والأول أولى لأن الجملة الفاصلة هي مقررة لمضمون ما قبلها، فكانت بمنزلة التأكيد، ومعنى ﴿مِنْ فَوْقِهَا﴾: أنها مرتفعة عليها، لأنها من أجزاء الأرض، وإنما خالفتها باعتبار الارتفاع، فكانت من هذه الحيثية كالمغايرة لها.
وعبارة المراغي: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا﴾؛ أي (١): وجعل في الأرض جبالًا ثوابت مرتفعةً عليها، أسسها في الأرض وهي الطبقة الصوانية، وهذه الطبقة هي التي برزت منها الجبال، فالجبال أساسها بعيدة الغور، ضاربة في جميع الطبقات، واصلة إلى أول طبقة وهي الطبقة الصوانية، التي لولاها لم تكن الأرض أرضًا، ولم نستقر عليها، فأرضنا كرة من النار، غطيت بطبقة صوانية فوقها طبقات، ألطف منها تكون فيها الحيوان والنبات على مدى الزمان، والجبال نتوءات نتأت من تلك الطبقة، وارتفعت فوقها عشرات آلاف الكيلومترات، وصارت مخازن المياه والمعادن، وهداية للطرق، وحافظة للهواء والسحاب. انتهى.
﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾؛ أي: في الأرض؛ أي: أنزل البركة والخير فيها، بشق الأنهار وخلق الأشجار والثمار، وأصناف الحيوانات، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات؛ أي: وجعلها مباركةً كثيرة الخيرات، بما خلق فيها من المنافع، فجعل جبالها مبدأ لجريان الأنهار، ومخازن للمعادن، كالذهب والفضة والحديد والنحاس ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا﴾؛ أي: وأوجد في الأرض ﴿أَقْوَاتَهَا﴾؛ أي: أقوات أهلها وأرزاقهم، من الأنواع المختلفة المناسبة لها على مقدار معين، تقتضيه الحكمة البالغة؛ أي: قدر لأهلها من الأقوات ما يناسب حال كل إقليم، من مطاعم وملابس ونبات، ليكون بعض الناس محتاجًا إلى بعض، فتروج المتاجر بينهم، وتنتقل المحصولات والمنتوجات من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى قطر، وفي هذا عمار للأرض، وانتظام أمور العالم.
وأضاف (٢) الأقوات إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها برزت. قاله السدي.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
310
وقُرِىء (١): ﴿وقسم فيها أقواتا﴾؛ أي (٢): قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم. وقيل: قدر في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة، وقيل: قدر البر لأهل قطر من الأرض، والتمر لأهل قطر آخر، والذرة لأهل قطر، والسمك لأهل قطر، وكذلك سائر الأقوات، وقيل: إن الزراعة أكثر الحرف بركةً، لأن الله تعالى وضع الأقوات في الأرض، قال تعالى: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾ ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾؛ أي: مع اليومين الأولين من أيام الآخرة (٣)، أو من أيام الدنيا، فخلق الأرض في يومين، وقدر الأقوات في يومين، وهما يوم الثلاثاء والأربعاء، فصارت أربعة أيام، رد الآخر على الأول في الذكر؛ أي: أن خلق الأرض وجعل الرواسي فيها في يومين، وإكثار خيراتها وتقدير أقواتها في يومين، فيكون ذلك في أربعة أيام. كما يقول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يومًا؛ أي: في تتمة خمسة عشر يومًا.
وقصارى ذلك: أن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وخلق الجبال الرواسي فيها، وتقدير الأقوات في أربعة أيام، حالة كون تلك الأيام الأربعة ﴿سَوَاءً﴾؛ أي: مستويةً كاملة تامة بلا زيادة ولا نقصان.
وقرأ الجمهور: ﴿سَوَاءً﴾ بالنصب على الحال من ﴿أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ لتخصصه بالإضافة، أو من الأرض، أو من الضمائر الراجعة إليها، أو على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف هو صفة لـ ﴿الأَيَّامٍ﴾؛ أي: استوت تلك الأيام وتمت سواءً؛ أي: استواءً وتمامًا، وقرأ أبو جعفر؛ برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي سواء؛ أي: تلك الأربعة مستوية تامة، وقرأ زيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد: بخفضه، على أنه صفة لـ ﴿أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾؛ أي: في أربعة أيام مستوية تامة كاملة.
وقوله: ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾: متعلق بمحذوف، تقديره: هذا الحصر في الأربعة للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، القائلين: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ فالسؤال استفتائي، و ﴿اللام﴾: للبيان أو متعلق بقدر. قال في "بحر العلوم" وهذا هو الظاهر؛ أي: قدر فيها أقواتها لأجل السائلين؛ أي: لأجل الطالبين لها،
(١) المراح.
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
311
المحتاجين إليها من المقتاتين، فإن أهل الأرض كلها طالبون للقوت، محتاجون إليه، فالسؤال استعطافي، واللام للأجل.
قال الفراء (١): في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وقدر فيها أقواتها سواءً كاملةً للمحتاجين في أربعة أيام، واختار هذا ابن جرير.
١١ - ولما انتهى من الكلام في الأرض.. أخذ يذكر السماء، فالترتيب في الذكر فحسب؛ أي: لما ذكر سبحانه خلق الأرض وما فيها.. ذكر كيفية خلقه للسموات، فقال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: وجه قصده وإرادته ﴿إِلَى﴾ خلق ﴿السَّمَاءِ﴾ وتكوينها، قال الرازي: هو من قولهم: استوى إلى مكان كذا: إذا توجه إليه توجهًا لا يلتفت معه إلى عمل آخر، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونظيره قولهم: استقام إليه، ومنه قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ﴾.
والمعنى: ثم دعاه سبحانه داعي الحكمة البالغة، والقدرة الباهرة، والإرادة التامة إلى خلق السموات وسمكها بعد خلق الأرض وما فيها ﴿وَهِيَ دُخَانٌ﴾؛ أي: والحال أن السماء أمر ظلماني مثل الدخان المرتفع من النار، الذي لا تماسك فيه؛ أي: مثل السحاب الغير المتماسك. و ﴿الواو﴾ (٢): للحال، والضمير للسماء، لأنها من المؤنثات السماعية، والدخان أجزاء أرضية لطيفة؛ أي: غير متماسكة، ترتفع في الهواء مع الحرارة. وفي "المفردات": الدخان: العثان المسْتَصْحِب لِلَهب، والبخار: أجزاء مائية رطبة ترتفع في الهواء مع الشعاعات الراجفة من سطوح المياه.
والمعنى: والحال أن السماء دخان؛ أي: أمر ظلماني يشبه الدخان، وهو المرتفع من النار وهو من قبيل التشبيه البليغ ولما كانت أول حدوثها مظلمة صحت تسميتها بالدخان تشبيهًا لها به، من حيث إنها أجزاء متفرقة غير متواصلة، عديمة النور كالدخان، فإنه ليس له صورة تحفظ تركيبه. كما في "حواشي ابن الشيخ". وقال بعضهم: ﴿وَهِيَ دُخَانٌ﴾؛ أي: دخان مرتفع من الماء؛ يعني: السماء، بخار الماء كهيئة الدخان.
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
312
وكان عرش الرحمن قبل خلق السموات والأرض على الماء، كما قال الله تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾، فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق السموات والأرض.. أمر الريح فضربت الماء فاضطرب الحاء اضطرابًا شديدًا فأزبد وارتفع، فخرج منه دخان، فأما الزبد: فبقي على وجه الماء، فخلق فيه اليبوسة، وأحدث منه الأرض، وأما الدخان: فارتفع وعلا، فخلق منه السموات.
فإن قلت: هذه (١) الآية مشعرة بأن خلق الأرض كان قبل السماء، وقوله: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠)﴾ مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السماء، فكيف الجمع بينهما؟
قلت: الجواب المشهور: أنه تعالى خلق الأرض أولًا، ثم خلق السماء بعدها، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ومدّها، وفيه جواب آخر، وهو أن يقال: إن خلق السماء مقدم على خلق الأرض، فعلى هذا يكون معنى الآية خلق الأرض في يومين، وليس الخلق عبارةً عن الإيجاد والتكوين فقط، بل هو عبارة عن التقدير أيضًا، فيكون المعنى: قضى أن يحدث الأرض في يومين بعد إحداث السماء، فعلى هذا يزول الإشكال. والله أعلم بالحقيقة.
ولعل تقديم (٢) بيان ما يتعلق بالأرض وأهلها، لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين، وترتب مبادي معايشهم قبل خلقهم، مما يحملهم على الإيمان، ويزجرهم عن الكفر والطغيان.
﴿فَقَالَ لَهَا﴾؛ أي: للسماء ﴿وَلِلْأَرْضِ﴾ التي قدر وجودها، ووجود ما فيها: ﴿ائْتِيَا﴾؛ أي: كُونا واحدُثَا على وجه معين، وفي وقت مقدر لكل منكما، وهو عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقًا فعليًا، بطريق التمثيل، بعد تقدير أمرهما، من غير أن يكون هناك آمر ومأمور، كما في قوله: ﴿كُن﴾ بأن شبه تأثير قدرته فيهما، وتأثرهما عنها بأمر آمر نافذ الحكم يتوجه نحو المأمور المطيع، فيتمثل أمره، فعبر عن الحالة المشبهة بما يعبر به عن الحالة المشبهة بها.
ومعنى ﴿ائْتِيَا﴾ (٣): افعلا ما آمركما به، وجيئا به، كما يقال: ائت ما هو
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
313
الأحسن؛ أي: افعله. قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله سبحانه قال: أما أنت يا سماء.. فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأما أنت يا أرض.. فشقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك.
وقرأ الجمهور: ﴿ائْتِيَا﴾ أمرًا من الإتيان، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد: ﴿آتيا﴾ ﴿قالتا آتينا﴾ بالمد فيهما، وهو إما من المؤاتاة وهي الموافقة؛ أي: لتوافق كل منكما الأخرى، أو من الإيتاء وهو الإعطاء، فوزنه على الأول فاعلا كقاتلا، وعلى الثاني أفعلا كأكرما، وجمع الأمر لهما في الإخبار عنه لا يدل على جمعه في الزمان، بل يكون القول لهما متعاقبًا.
وقوله: ﴿طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾: مصدران (١) واقعان في موقع الحال، والطوع الانقياد والاختيار والإرادة، ويضاده الكره؛ أي: كونا أو افعلا ما أمرتكما به حالة كونكما طائعتين منقادتين مختارتين أو كارهتين؛ أي: افعلا سواء شئتما ذلك أو أبيتما، وهو تمثيل لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما، واستحالة امتناعهما من ذلك، لا إثبات الطوع والكره لهما، لأنهما من أوصاف العقلاء ذوي الإرادة والاختيار، والأرض والسماء من قبيل الجمادات العديمة الإرادة والاختيار.
وقرأ الأعمش: ﴿كرها﴾ بضم الكاف وهو بمعنى الفتح.
﴿قَالَتَا﴾؛ أي: السماء والأرض ﴿أَتَيْنَا﴾ وفعلنا أمرك حالة كوننا ﴿طَائِعِينَ﴾؛ أي: منقادين وطائعين أمرك، وهو تمثيل لكمال تأثرهما بالذات عن القدرة الربانية، وحصولهما كما أمرتا به، وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريًا على مقتضى الحكمة البالغة، فإن الطوع منبىء عن ذلك، والكره موهم لخلافه.
فإن قلت: لِمَ قال (٢): ﴿طَائِعِينَ﴾ على وزن جمع العقلاء المذكور، لا طائعتين حملًا على اللفظ أو طائعات حملًا على المعنى، لأنها سماوات وأرضون؟
قلت: جمعهما جمع العقلاء لخطابهما بما يخاطب به العقلاء، ونظيره: ﴿سَاجِدِينَ﴾ في قوله تعالى حكايةً عن يوسف عليه السلام: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾؛ أي: لما وصفتا بأوصاف العقلاء..
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
314
عوملتا معاملة العقلاء، وجمعتا لتعدد مدلولهما.
والمعنى (١): أي فقال لتلك العوالم السماوية، وللأرض التي دارت حولها: ائتيا كيف شئتما، طائعتين أو كارهتين، فأجابتا فقالتا: أتينا طائعين. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - قال الله تعالى للسموات: أطلعي شمسك وقمرك وكواكبك، وأجري رياحك وسحابك، وقال للأرض: شقي أنهارك، وأخرجي شجرك وثمارك، طائعتين أو كارهتين، قالتا: ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾.
وفي هذا دلالة على الحركة المستمرة المعبّر عن سببها بالجاذبية، فهي حركة تجري جري طاعة، لا جري قسر، فإنا نشاهد أنا نرمي الحجر إلى أعلى قسرًا، فيأبى إلا أن ينزل إلى الأرض بطريق الجاذبية إلى جسم أكبر منه وهي الأرض، وهكذا الأرض مجذوبة إلى الشمس التي هي أصلها بحركة دورية دائمة، طوعًا لا قسرًا، لأن القسرية كرمي الحجر إلى أعلى سريعة الزوال، أما حركة الطاعة.. فهي دائمة ما دام المطيع متخلقًا بخلقه الذي هو فيه.
١٢ - وقوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ تفسير (٢) وتفصيل لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر، وجوابه لا أنه فعل مرتب على تكوينها، والضمير لـ ﴿السَّمَاءِ﴾ على المعنى، فإنه في معنى الجمع لتعدد مدلوله، فـ ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ حال، أو هو؛ أي: الضمير مبهم يفسره ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ كضمير ربه رجلًا فـ ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾: تمييز.
والمعنى: خلقهن وأحكمهن وفرغ منهن، حال كونهن سبع سموات، أو خلقهن من جهة كونهن سبع سموات، خلقًا إبداعيًا؛ أي: على طريق الاختراع لا على مثال، وأتقن أمرهن بأن لا يكون فيهن خلل ونقصان، حسبما تقتضيه الحكمة، أو مفعول ثان لـ ﴿قَضَاهُنَّ﴾ لتضمنه معنى التصيِير؛ أي: صيرهن سبع سموات ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾؛ أي: في وقت مقدر بيومين، وهما يوم الخميس ويوم الجمعة، خلق السموات يوم الخميس، وما فيها من الشمس والقمر والنجوم في يوم الجمعة، وقد بين مقدار زمان خلق الأرض وخلق ما فيها عند بيان تقديرهما، فكان خلق الكل في ستة أيام حسبما نص عليه في مواضع من التنزيل.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
315
والمعنى (١): فأتم خلقهن خلقًا إبداعيًا، وأتقن أمرهن في يومين سوى الأربعة الأيام التي خلق فيها الأرض، فوقع خلق السموات والأرض في ستة أيام، كما قال: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ على ما اقتضته الحكمة وحسن النظام.
وفي "فتح الرحمن": إن قلت (٢): الكلام هنا يدل على أن السموات والأرض وما بينهما خلقت في ثمانية أيام، وهو مخالف لما ذكره في سورة الفرقان وغيرها، أنها خلقت في ستة أيام.
قلت: يومًا خلق الأرض من جملة الأربعة بعدهما، والمعنى في تتمة أربعة أيام، وهي مع يومي خلق السموات ستة أيام، يوم الأحد والاثنين لخلق الأرض، ويوم الثلاثاء والأربعاء للجعل المذكور في الآية وما بعده، ويوم الخميس والجمعة لخلق السموات.
فإن قلت: السموات وما فيها أعظم من الأرض وما فيها بأضعاف، فما الحكمة في أنه تعالى خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام، والسموات وما فيها في يومين؟
قلت: لأن السموات وما فيها من عالم الغيب والملكوت والأمر، والأرض وما فيها من عالم الشهادة والملك والخلق، والأول أسرع من الثاني، أو أنه تعالى فعل ذلك في الثاني مع قدرته على فعله ذلك دفعةً واحدة؛ ليعرفنا أن الخلق على سبيل التدريج لنتأنى في أفعالنا، فخلق ذلك في أربعة أيام لمصالح وحكم اقتضت ذلك، ولهذا خلق العالم الأكبر في ستة أيام، والعالم الأصغر وهو الإنسان في ستة أشهر، وهي أقل مدة الحمل.
﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾: عطف على ﴿فَقَضَاهُنَّ﴾؛ أي: وخلق في كل سماء منهن أمرها؛ أي: مخلوقها وسكانها، والإيحاء: عبارة: عن التكوين، والخلق مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت؛ أي: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها وما فيها من الملائكة والبحار والبرد والثلوج وغيرها، مما لا يعلمه إلا الله سبحانه. قاله قتادة والسدي؛ قال الراغب: يقال للإبداع: أمر، وقد
(١) المراغي.
(٢) فتح الرحمن.
316
حمل على ذلك في هذه الآية. اهـ.
أو المعنى (١): ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ﴾؛ أي: ألقى إلى أهل كل سماء أوامره وكلفهم بما يليق بهم من التكاليف، فمنهم قيام لا يقعدون إلى قيام الساعة، ومنهم سجود لا يرفعون رؤوسهم أبدًا إلى غير ذلك، والإيحاء حينئذ على معناه، ومطلق عن القيد المذكور، والآمر هو الله تعالى، والمأمور أهل كل سماء، وأضيف الأمر إلى نفس السماء؛ للملابسة، لأنه إذا كان مختصًا بالسماء.. فهو أيضًا بواسطة أهلها.
﴿وَزَيَّنَّا﴾ التفات إلى نون العظمة، لإبراز مزيد العناية بالأمر ﴿السَّمَاءَ الدُّنْيَا﴾؛ أي: القريبة إلى أهل الأرض ﴿بِمَصَابِيحَ﴾؛ أي: بكواكب تضيء في الليل كالمصابيح، فإنها ترى كلها متلألئة على السماء الدنيا، كأنها فيها، فالمراد بالمصابيح: جميع الكواكب النيرة التي خلقت في السموات من الثوابت والسيارات، وليس كلها في السماء الدنيا، وهي التي تدنو وتقرب من أهل الأرض، فإن كل واحد من السيارات السبع في فلك مستقل، والثوابت مركوزة في الفلك الثامن، المعبر عنه بالكرسي، إلا أن كونها مركوزة فيما فوق السماء الدنيا، لا ينافي كونها زينة لها؛ لأنَّا نرى جميع الكواكب كالسرج الموقدة فيها، وقيل: إن في كل سماء كواكب تضيء، وقيل: بل الكواكب مختصة بالسماء الدنيا، وقوله: ﴿وَحِفْظًا﴾: مصدر مؤكد لفعل محذوف معطوف على ﴿زَيَّنَّا﴾؛ أي (٢): وحفظنا السماء الدنيا من الآفات ومن المسترقة ﴿حِفْظًا﴾، وهي الشياطين الذين يصعدون السماء لاستراق السمع، فيرمون بشهب صادرة من نار الكواكب، منفصلة عنها، ولا يرجمون بالكواكب أنفسها، لأنها قارة في الفلك على حالها، وما ذلك إلا كقبس يؤخذ من النار، والنار باقية بحالها، لا ينتقص منها شيء، والشهاب: شعلة نار ساقطة.
وقيل المعنى (٣): أي وحفظنا تلك المصابيح حفظًا من الاضطراب في سيرها، ومن اصطدام بعضها ببعض، وجعلناها تسير على نهج واحد، ما دام هذا النظام باقيًا حتى يأتي اليوم الموعود، فهناك تختل نظمها، كما قال سبحانه: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢)﴾.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
317
﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من خلق الأرض في يومين وما بعده إلى هنا ﴿تَقْدِيرُ﴾ وتدبير الإله القدير ﴿الْعَزِيزِ﴾ الذي قد عز كل شيء فغلبه وقهره ﴿الْعَلِيمِ﴾ بحركات مخلوقاته وسكناتها، سرها ونجواها، ظاهرها وباطنها.
١٣ - وقوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا﴾: متصل بقوله: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ...﴾ إلخ؛ أي: فإن أعرض كفار قريش عن الإيمان بعد هذا البيان، وهو بيان خلق الأجرام العلوية والسفلية وما بينهما.. ﴿فَقُلْ﴾ لهم يا محمد: ﴿أَنْذَرْتُكُمْ﴾؛ أي: أنذركم وأخوفكم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر به؛ أي: أنذركم وأخوفكم ﴿صَاعِقَةً﴾؛ أي: عذابًا هائلًا شديد الوقع، كأنه صاعقة؛ يعني أن الصاعقة في الأصل قطعة من النار، تنزل من المساء فتحرق ما أصابته، استعيرت هنا للعذاب الشديد، تشبيهًا له بها في الشدة والهول؛ أي: أنذركم عذابًا شديدًا ﴿مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾؛ أي: مثل عذاب شديد نزل بعاد قوم هود وبثمود قوم صالح.
أي (١): لم يبق في حقكم علاج إلا إنزال العذاب الذي نزل على من قبلكم من المعاندين المتمردين، المعرضين عن الله تعالى وطلبه وطلب رضاه، فهم سلف لكم في التكذيب والجحود والعناد، وقد سلكتم طريقهم، فتكونون كأمثالهم في الهلاك، قال مقاتل: كان عاد وثمود ابني عم، وموسى وقارون ابني عم، وإلياس واليسع ابني عم، وعيسى ويحيى ابني خالة.
وإنما خص (٢) هاتين القبيلتين؛ لأن قريشًا كانوا يمرون على بلادهم في أسفارهم إلى الشام، فيرون آثارهم في الحجر.
وقرأ الجمهور: ﴿صَاعِقَةِ﴾ في الموضعين بالألف، وقرأ ابن الزبير والنخعي والسلمي وابن محيصن: ﴿صعقة﴾ بغير ألف في الموضعين، والصعقة: المرة من الصعق، أو الصعق، يقال: صعقته الصاعقة صعقًا؛ أي: أهلكته إهلاكًا فصعق صعقًا، والصاعقة: المهلكة من كل شيء،
١٤ - والظرف في قوله: ﴿إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ﴾: متعلق بمحذوف حال من صاعقة عاد وثمود؛ أي: حال كون تلك الصاعقة نازلةً بهم وقت مجيء الرسل إليهم؛ أي: إلى عاد وثمود ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي (٣): من
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
318
قبلهم، يعني الرسل الذي أرسلوا إلى آبائهم، فالضمير عائد إلى عاد وثمود ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾؛ أي: ومن بعد الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم، وهم الرسل الذين أرسلوا إليهم، وهما هود وصالح، والضمير عائد إلى الرسل.
قوله: ﴿إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ﴾ الظاهر (١): أنه من إطلاق الجمع على المثنى، فإن الجائي إلى عاد هود، وإلى ثمود صالح ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿جَاءَتْهُمُ﴾؛ أي: جاءتهم من جميع جوانبهم، واجتهدوا بهم من كل جهة من جهات الإرشاد وطرق النصيحة، تارةً بالرفق، وتارةً بالعنف، وتارةً بالتشويق، وأخرى بالترهيب، فليس المراد الجهات الحسية والأماكن المحيطة بهم، أو من جهة الزمان الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار من الوقائع، ومن جهة الزمان المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة، ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله تعالى: ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ فيراد بالرسل ما يعم المتقدمين منهم والمتأخرين، أو ما يعم رسل الرسل أيضًا، وإلا فالجائي رسولان كما سبق، وليس في الاثنين كثرة؛ أي: إذ جاءتهم الرسل وخاطبوهم بـ ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا﴾ أيها القوم ﴿إِلَّا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: يأمرونهم بعبادة الله وحده، فـ ﴿أنْ﴾: مصدرية ناصبة للفعل وصلت بالنهي، كما توصل بالأمر في مثل قوله تعالى: ﴿أَنْ طَهِّرَا﴾، ويجوز (٢) أن تكون تفسيرية، أو مخففةً من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن محذوف.
ثم ذكر سبحانه ما أجابوا به على الرسل، فقال: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قوم عاد وثمود استخفافًا برسلهم: ﴿لَوْ شَاءَ رَبُّنَا﴾؛ أي: إرسال الرسل، فإنه ليس هنا في أن تقدر المفعول مضمون جواب الشرط كثير معنى.. ﴿لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً﴾؛ أي: لأرسل الملائكة بدلكم، ولم يتخالجنا شك في أمرهم فآمنا بهم، لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنزال.. قيل: لأنزل ﴿فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ على زعمكم، فهو ليس إقرارًا منهم بالإرسال ﴿كَافِرُونَ﴾؛ أي: كافرون بما تزعمونه من أن الله أرسلكم إلينا، لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، فكيف اختصكم برسالته دوننا؟.
ومعنى الآية (٣): أي قل أيها الرسول لمشركي قومك، المكذبين لما جئتهم به من الحق: إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله تعالى.. فإني أنذركم بحلول
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
319
نقمته بكم، كما حلت بالأمم الماضية التي كذبت رسلها، كعاد وثمود ومن على شاكلتهما، ممن فعل فعلهما حين جاءتهم الرسل في القرى المجاورة لبلادكم، وأمروا أهلها بعبادة الله وحده، فكذبوهم واستكبروا عن إجابة دعوتهم، واعتذروا بشتى المعاذير، كما ذكر الله ذلك سبحانه بقوله: ﴿قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا﴾ إلخ؛ أي: قالوا: إنا لا نصدق برسالتكم، فما أرسل الله بشرًا، ولو أرسل رسلًا.. لأنزل ملائكة، وإذًا فلا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا، وقد تقدم في غير ما موضع دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاؤوا بها، وقوله: ﴿بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾: ليس إقرارًا منكم بكونهم رسلًا بل ذكروه استهزاءً بهم، كما قال فرعون: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾.
أخرج البيهقي في "الدلائل" وابن عساكر عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلًا عالمًا بالسحر والكهانة والشعر فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر، وعلمت من ذلك علمًا، وما يخفى علي إن كان كذلك، فأتاه فقال: يا محمد، أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله، فلم يجبه - ﷺ -، قال: لم تشتم آلهتنا وتضللنا، إن كنت تريد الرياسة؟ عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تكن بك الباءة - الميل إلى قربان النساء -.. زوجناك عشر نسوة تختارهن أي بنات شئت من قريش، وإن كان المال مرادك.. جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله ساكت، فلما فرغ.. قال - ﷺ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣)﴾ حتى بلغ ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣)﴾ فأمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم، فرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم.. قالوا: لا نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا: يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب وأقسم لا يكلم محمدًا أبدًا، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء ما هو بشعر ولا بسحر ولا كهانة، ولما بلغ: ﴿صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾.. أمسكت بفيه وناشدته الرحم، ولقد علمت أن محمدًا إذا قال شيئًا.. لا يكذب؛ فخفت أن ينزل بكم العذاب.
وأخرج أبو نعيم والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عمر قال: لما قرأ النبي - ﷺ -
320
على عتبة بن ربيعة: ﴿حم (١)﴾ أتى أصحابه فقال: يا قوم، أطيعوني في هذا اليوم، واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلامًا ما سمعت أذني قط كلامًا مثله، وما دريت ما أرد عليه.
وقد ذكرنا هذا القصص قبل برواية أخرى، وهذه الرواية أتم من سابقتها، فأعدناها تكميلًا للفائدة، وفي هذا الباب روايات كثيرة تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة، وتلاوته - ﷺ - أول هذه السورة عليه.
١٥ - ولما بين سبحانه كفر قوم عاد وثمود إجمالًا، وبين معاذيرهما.. أردف ذلك بذكر ما لكل منهما من الجناية، وما حل به من العذاب، فقال: ﴿فَأَمَّا عَادٌ﴾ ولما (١) كان التفصيل مسببًا عن الإجمال السابق.. أدخل عليه ﴿الفاء﴾ السببية، هكذا ذكره صاحب "روح البيان" والأولى جعلها فصيحية كما سيأتي في مبحث الإعراب، والتقدير: إذا عرفت أن كلًّا من القبيلتين كفروا برسلهم، فأخذتهم الصاعقة، وأردت بيان ما لكل منهما من الجريمة والعقوبة.. فأقول لك: أما عاد قوم هود ﴿فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: تكبروا عن الإيمان بالله وتصديق رسله، وتعظموا فيها على أهلها ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾؛ أي: بغير استحقاق ذلك الذي وقع منهم من التكبر والتعظم، بل ركنوا إلى قوة نفوسهم.
ثم ذكر سبحانه بعض ما صدر منهم من الأقوال الدالة على الاستكبار، فقال: ﴿وَقَالُوا﴾ اغترارًا بتلك القوة الموقوفة على عظم الأجسام: ﴿مَنْ﴾ للاستفهام الإنكاري؛ أي: لا أحد ﴿أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾؛ أي: قدرةً وكان طول كل واحد منهم ثمانية عشر ذراعًا، وبلغ من قوتهم أن الرجل منهم كان يقتلع الصخرة من الجبل، ويجعلها حيث شاء، وكانوا يظنون أنهم يقدرون على دفع العذاب بفضل قوتهم، فخانتهم قواهم لما استمكن منهم بلواهم، وقد رد الله سبحانه عليهم بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ و ﴿الهمزة﴾: فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا عن قدرة الله القاهرة، ولم يعلموا علمًا جليًا شبيهًا بالمشاهدة والعيان ﴿أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ﴾ وخلق الأشياء كلها خصوصًا الأجرام العظيمة كالسموات والجبال ونحوها؟، وإنما (٢) أورد
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
321
في حيز الصلة خلقهم دون خلق السموات والأرض؛ لادعائهم الشدة في القوة ﴿هُوَ﴾ سبحانه ﴿أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾؛ أي: قدرة، لأن قدرة الخالق لابد وأن تكون أشد من قدرة المخلوق، إذ قدرة المخلوق مستفادة من قدرة الخالق، والقوة: عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف.
ولما كانت (١) صيغة التفضيل تستلزم اشتراك المفضل والمفضل عليه في الوصف الذي هو مبدأ اشتقاق أفعل، ولا اشتراك بينه تعالى وبين الإنسان في هذه القوة لكونه منزهًا عنها.. أريد بها القدرة مجازًا لكونها مسببة عن القوة بمعنى صلابة البنية ﴿وَكَانُوا بِآيَاتِنَا﴾ المنزلة على الرسل ﴿يَجْحَدُونَ﴾ والجحود: الإنكار مع العلم؛ أي: ينكرونها وهم يعرفون حقيقتها، كما يجحد المودع الوديعة وينكرها، وهو عطف على ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾ وما بينهما اعتراض للرد على كلمتهم الشنعاء.
والمعنى: أنهم جمعوا بين الاستكبار وطلب العلوّ في الأرض، وهو فسق وخروج عن الطاعة بترك الإحسان إلى الخلق، وبين الجحود بالآيات وهو كفر وترك لتعظيم الحق، فكانوا فسقةً كفرةً، وهذان الوصفان لما كانا أصلي جميع الصفات الذميمة.. لا جرم سلّط الله عليهم العذاب، كما قال: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ﴾ إلخ.
ومعنى الآية (٢): أي فأما عاد فبغوا وعصوا ربّهم، ولم يقبلوا كلام الرسول الذي جاء لهم، وقالوا: من أشد منا قوة حتى يستطيع قهرنا وإذلالنا؟ وقد كانوا قومًا طوال القامة، شديدي الأسر، فاغترّوا بأجسامهم حين تهدّدهم رسولهم بالعذاب، فردّ الله عليهم موبّخًا لهم بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ إلخ؛ أي: أما يفكّرون فيمن يبارزون بالعداوة، إنه العظيم الذي خلق الأشياء كلها، وركّب فيها قواها الحاملة لها، وأنّ بطشه لشديد، وأنه لقادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء، فيقول: كن فيكون، وكانوا يعرفون أنّ آياتنا التي أنزلناها على رسلنا حقّ لا مرية فيها، ولكنهم جحدوها وعصوا رسله، وقد يكون المعنى: إنهم جحدوا الأدلّة التكوينية التي نصبناها لهم، وجعلناها حجة عليهم، أو بجميع ذلك.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
322
١٦ - ثمّ ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه فقال: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على عاد ﴿رِيحًا صَرْصَرًا﴾ لتقلعهم من أصولهم؛ أي: ريحًا باردة تهلك وتحرق بشدّة بردها، كإِحراق النار بحرّها من الصرّ وهو البرد الذي يصرّ أي: يجمع ويقبض؛ أي: ريحًا عاصفةً تصرصر؛ أي: تصوّت في هبوبها، قيل: إنها الدبور مقابل القبول؛ أي: الصبا التي تهبّ من مطلع الشمس، فيكون الدبور ما تهبّ من مغربها ﴿فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾ جمع (١) نحسة من نحس على وزن علم؛ أي: في أيام منحوسات مشؤومات ليس فيها شيء من الخير، فنحوستها أن الله تعالى أدام تلك الرياح فيها على وتيرة وحالة واحدة بلا فتور، وأهلك القوم بها، لا كما يزعم المنجّمون من أنّ بعض الأيام قد يكون في حدّ ذاته نحسًا، وبعضها سعدًا، استدلالًا بهذه الآية، لأنّ أجزاء الزمان متساوية في حدّ ذاتها، ولا تمايز بينها إلا بحسب تمايز ما وقع فيها من الطاعات والمعاصي، فيوم الجمعة مثلًا سعد بالنسبة إلى المطيع، نحس بالنسبة إلى العاصي، وإن كان سعدًا في حدّ نفسه، قال رجل عند الأصمعيّ: فسد الزمان، فقال الأصمعي:
إِنَّ الْجَدِيْدَيَنِ فِيْ طُوْلِ اخْتِلَافِهِمَا لَا يَفْسَدَانِ وَلَكِنْ يَفْسُدُ الْنَّاسُ
وقيل:
نَذُمُّ زَمَانَنَا وَالْعَيْبُ فِيْنَا وَلَوْ نَطَقَ الزَّمَانُ إِذًا هَجَانَا
يعني: كانت (٢) الريح من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر، وهو آخر الشهر، ويقال لها: أيام الحسوم، وسيأتي تفصيلها في سورة الحاقة إن شاء الله تعالى، وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء، وقال الضحّاك: أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، ودامت الرياح عليهم من غير مطر، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: إذا أراد الله بقوم خيرًا.. أرسل عليهم المطر، وحبس عنهم كثرة الرياح، وإذا أراد بقوم شرًّا. حبس عنهم المطر، وسلّط عليهم كثرة الرياح، وقيل: معنى ﴿نَحِسَاتٍ﴾: باردات، وقيل: متتابعات، وقيل: شداد، وقيل: ذوات غبار.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
323
وقرأ الحرميان (١) - نافع وابن كثير - وأبو عمرو والنخعي وعيسى والأعرج: ﴿نحسات﴾ بسكون الحاء، جمع نحس بسكون الحاء، فاحتمل أن يكون مصدرًا وصف به، وتارةً يضاف إليه، واحتمل أن يكون مخفّفًا من فعل، وقرأ قتادة وأبو رجاء والجحدري وشيبة وأبو جعفر والأعمش وباقي السبعة: بكسر الحاء وهو القياس، واختار أبو حاتم القراءة الأولى لقوله: ﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾، واختار أبو عبيد القراءة الثانية.
والمعنى (٢): فأرسلنا عليهم ريحًا باردة تهلك بشدة بردها، وإذا هبّت.. سمع لها صوت قويّ لتكون عقوبة لهم من جنس ما اغترُّوا به أيام مشؤومات نكدات متتابعات، كما قال في آية أخرى: ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾.
ثم بين الغاية التي من أجلها نزل العذاب فقال: ﴿لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ﴾؛ أي: لكي نذيقهم بسبب ذلك الاستكبار عذاب الذل والهوان ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وقرىء: ﴿لتذيقهم﴾ بالتاء، وقال الزمخشري: أسنادًا للإذاقة إلى الريح، أو للأيام النحسات، وإضافة (٣) العذاب إلى الخزي: من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة على طريق التوصيف بالمصدر للمبالغة؛ أي: العذاب الخزي؛ أي: الذليل المهان على أنّ الذليل المهان في الحقيقة أهل العذاب لا العذاب نفسه ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لعذاب الآخرة ﴿أَخْزَى﴾؛ أي: أذل وأزيد خزيًا، وأشد إهانةً من عذاب الدنيا، وهو في الحقيقة أيضًا وصف للمعذّب، وقد وصف به العذاب على الإسناد المجازي لحصول الخزي بسببه ﴿وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾ بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه، لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ أي: لا يمنعون من العذاب النازل بهم، ولا يدفعه عنهم دافع، لأنهم لم ينصروا الله ودينه، وأما المؤمنون فإنهم وإن كانوا ضعفاء.. فقد نصرهم الله تعالى، لأنهم نصروا الله ودينه، فعجبًا من القوة في جانب الضعف، وعجبًا من الضعف في جانب القوة، وفي الحديث: "إنكم تنصرون بضعفائكم"؛ أي: الضعفاء الداعين لكم بالنصرة، وقال خالد بن برمك: اتقوا مجانيق الضعفاء؛ أي: دعواتهم.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
324
يقول الفقير (١): إنما عذّبت بريح صرصر، لأنهم اغتروا بطول قاماتهم، وعظم أجسادهم، وزيادة قوّتهم، فظنّوا أنّ الجسم إذا كان في القوة والثقل بهذه المرتبة.. فهو يثبت في مكانه. ويستمسك، ولا يزيله عن مقرّه شيء من البلاء، فسلّط الله عليهم الريح، فصارت أجسامهم كريشة في الهواء.
وكان - ﷺ - يجثو على ركبتيه عند هبوب الرياح، ويقول: "اللهم اجعلها رحمةً ولا تجعلها عذابًا، اللهم اجعلها لنا رياحًا"؛ أي: رحمةً "ولا تجعلها ريحًا"؛ أي: عذابًا، وأراد به أن أكثر ما ورد في القرآن من الريح بلفظ المفرد فهو عذاب، نحو: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا﴾ ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ وإن جاء في الرحمة أيضًا نحو: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ وكل ما جاء بلفظ الجمع على الرياح فهو رحمة لا غير، ويقول - ﷺ -؛ أي: عند هبوب الرياح، وعند سماع الصوت والرعد والصواعق أيضًا: "اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك".
١٧ - وبعد أن ذكر قصص عاد، أتبعه بقصص ثمود فقال: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ﴾؛ أي: قبيلة ثمود، فهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، ومن نوّنه وصرفه جعله اسم رجل، وهو الجدّ الأعلى للقبيلة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ﴾ بالرفع ومنع الصرف، وقرأ الأعمش وابن وثاب بالرفع والصرف، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وعاصم في رواية: بالنصب والصرف، وقرأ الحسن وابن هرمز وعاصم في رواية: بالنصب والمنع، فأما الرفع فعلى الابتداء، والجملة بعده: الخبر، وأما النصب. فعلى الاشتغال، وأما الصرف فعلى تفسير الاسم بالأب أو الحيّ، وأما المنع فعلى تأويله بالقبيلة، كما مرّ آنفًا.
﴿فَهَدَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: فدللناهم على الحق بنصب الآيات التكوينية، وبيّنا لهم طريق النجاة بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الآيات الشريفة، ورحمنا عليهم بالكلية، فإنها توجب على كل عاقل أن يؤمن بالله ويصدّق رسله، قال الفرّاء: معنى الآية: دللناهم على مذهب الخير والنجاة بإرسال الرسل. والمراد بالهداية، الدلالة على ما
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
325
يوصل إلى المطلوب، سواء ترتّب عليها الاهتداء أم لا، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وليس المراد الدلالة المقيدة بكونها موصلة إلى البغية، كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾.
﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾؛ أي: اختاروا الضلالة من عمى البصيرة، وافتقادَها على الهداية، والكفر على الإيمان، والمعصيةَ على الطاعة.
وقيل (١): إن ثمود في الابتداء آمنوا وصدّقوا، ثمّ ارتدُّوا وكذّبوا، فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستئصال، فتكون الهداية حينئذ بمعنى الدلالة المقيدة، قال ابن عطاء: ألبسوا لباس الهداية ظاهرًا وهم عواري، فيتحقق عليهم لباس الحقيقة، فاستحبُّوا العمى على الهدى، فردُّوا إلى الذي سبق لهم في الأزل.
والمعنى (٢): أي وأما ثمود فبيّنا لهم الحقّ على لسان نبيهم صالح، ودللناهم على سبيل النجاة، بنصب الأدلة التكوينية، وإنزال الآيات التشريعيّة، فكذبوا واستحبوا العمى على الهدى، والكفر على الإيمان.
ثمّ ذكر جزاءَهم على ما اختاروه لأنفسهم، فقال: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ﴾؛ أي: أهلكتهم ﴿صَاعِقَةُ الْعَذَابِ﴾؛ أي: نار من العذاب ﴿الْهُونِ﴾؛ أي: نار نازلة من السماء هي من العذاب المهين؛ أي: نزلت صاعقة من السماء، فأهلكتهم وأحرقتهم، فيكون من إضافة النوع إلى الجنس بتقدير من؛ أي: من جنس العذاب المهين الذي بلغ في إفادة الهوان للمعذّب إلى حيث كان عين الهون وصِف به العذاب للمبالغة، كأنه عين الهوان. والهون: مصدر بمعنى الهوان والذلة، كما سيأتي.
وقرأ ابن مقسم: ﴿عذاب الهوان﴾ بفتح الهاء وألفٍ بعد الواو. و ﴿الباء﴾ في قوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ للسببية؛ أي: بسبب الذي كانوا يكسبونه من اختيار الضلالة والكفر والمعصية، أو بسبب كسبهم.
يقول الفقير: أما حكمة الابتلاء بالصيحة.. فلعدم استماعهم الحق من لسان صالح عليه السلام، مع أن الاستحباب المذكور صفة الباطن، وبالصيحة تنشقُّ المرارة، فيفسد الداخل والخارج، وأما بالنار فلإحراقهم باطن ولد الناقة بعقر أمّه،
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
326
فابتلوا بالإحراق الظاهر، ألا ترى أنَّ يعقوب عليه السلام ذبح جديًا بين يدي أمه، فابتلي بفراق يوسف واحتراقه على ما قاله البعض؛ أي: فأرسلنا عليهم صيحةً ورجفةً وذلًا وهوانًا بما كانوا يكسبون من الآثام بكفرهم بالله، وتكذيبهم رسله
١٨ - ﴿وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسله من تلك الصاعقة، وكانوا مئةً وعشرة أنفس ﴿وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ الشرك، أو عقر الناقة.
أي: ونجينا صالحًا ومن آمن معه من المؤمنين من ذلك العذاب، فلم يمسسهم سوء، ولا نزل بهم مكروه بإيمانهم وتقواهم وصالح أعمالهم،
١٩ - والظرف في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ﴾: متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك المعاندين لك، حال الكفار يوم يحشر ويجمع أعداء الله المذكورون، من عاد وثمود وهو يوم القيامة، لا الأعداء من الأولين والآخرين لما سيأتي من قوله تعالى: ﴿فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ والتعبير بالأعداء للذم والإيذان بعلة ما يحيق بهم من فنون العذاب، بمعنى أنهم يجمعون ﴿إِلَى النَّارِ﴾؛ أي: إلى موقف الحساب؛ إذ هناك تتحقق الشهادة الآتية لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار، والتعبير عنه بالنار إما للإيذان بأنها عاقبة حشرهم وأنهم على شرف دخولها، وإما لأنّ حسابهم يكون على شفيرها، وفي الآية إشارة إلى أنّ من لم يمتثل أوامر الله، ولم يجتنب عن نواهيه، ولم يتابع رسوله.. فهو عدو الله، وإن كان مؤمنًا بالله، مقرًّا بوحدانيته، وأنّ وليّ الله من كان يؤمن بالله ورسله، ويمتثل أوامر الله بمتابعة الرسول، ويحشر الأولياء إلى الله وجنته، كما يحشر الأعداء إلى نار البعد وجحيمه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يُحْشَرُ﴾ مبنيًا للمفعول، و ﴿أَعْدَاءُ﴾ رفعًا على النيابة، وقرأ زيد بن علي ونافع والأعرج وأهل المدينة: ﴿نحشر﴾ بالنون وضمّ الشين ﴿أعداء﴾ نصبًا على المفعولية، وقرىء (٢): ﴿يحشر﴾ بالبناء للفاعل، ونصب ﴿أَعْدَاء﴾ وقرىء: بكسر الشين مع البناء للفاعل في الحالين ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾؛ أي: يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا، وهو كناية عن كثرة أهل النار، وفيه إشارة إلى أنّ في الوزع عقوبة لهم.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
٢٠ - وقوله: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا﴾ غاية (١) لـ ﴿يُحْشَرُ﴾ ولـ ﴿يُوزَعُونَ﴾ و ﴿ما﴾: مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور؛ يعني: أنّ وقت مجيئهم النار لابدّ أن يكون وقت الشهادة عليهم؛ أي: حتى إذا حضروا النار جميعًا، وسئلوا عما أجرموا فأنكروا.. ﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ﴾؛ أي: آذانهم بما سمعت من المعاصي، لأنهم كانوا استعملوها في الدنيا في معاصي الله بغير اختيارها، فشهدت عليهم بما سمعت من شرّ، وأفرد السمع لكونه مصدرًا في الأصل، ﴿و﴾ شهدت عليهم ﴿أَبْصَارُهُمْ﴾ بما نظرت إلى حرام ﴿و﴾ شهدت عليهم ﴿جُلُودُهُمْ﴾؛ أي: ظواهر أبدانهم وبشراتها بما لامست محظورًا، والجلد: قشر البدن، وقيل: المراد بالجلود الجوارح والأعضاء، وقال السدّي وعبيد الله بن أبي جعفر والفرّاء: أراد بالجلود الفروج، والأول أولى ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا، ويقال: تخبر كل جارحة بما صدر من أفاعيل صاحبها، لا أنّ كلًّا منها تخبر بجناياتها المعهودة فقط، فالموصول عبارة عن جميع أعمالهم السيئة، وفنون كفرهم ومعاصيهم، وتلك الشهادة بأن ينطقها الله تعالى كما أنطق اللسان، إذ ليس نطقها بأغرب من نطق اللسان عقلًا، وكما أنطق الشجرة والشاة المشوية المسمومة، بأن يخلق فيها كلامًا، كما عند أهل السنة.
ووجه تخصيص الثلاثة من الحواس الخمس بالشهادة (٢)، وهي السمع والبصر والجلد التي هي آلة اللمس دون غيرها، وهو الذوق والشمّ؛ لأنّ الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه؛ لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسةً لجرم الطعام، وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك مماسةً لجرم المشموم، فكانا داخلين في جنس اللمس، وإذا عرفت وجه تخصيص الثلاثة بالذكر عرفت منه وجه تخصيص الجلود بالسؤال؛ لأنها قد اشتملت على ثلاث حواس، فكأن تأتي المعصية من جهتها أكثر، وأما على قول من فسّر الجلود بالفروج، فوجه تخصيصها بالسؤال: ظاهر، لأن ما يشهد به الفرج من الزنا أعظم قبحًا، وأجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بواسطتهما.
ومعنى الآية (٣): أي واذكر يا محمد لقريش المعاندين لك، حال الكفار يوم القيامة، لعلهم يرتدعون ويزدجرون حين يساقون إلى النار، فيحبس أولهم على
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
آخرهم، ليتلاحقوا ويجتمعوا، حتى إذا وقفوا على النار.. شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجوارحهم بما كانوا يعملون في الدنيا من المعاصي، بعلامات متمايزة، تدلّ على الأخلاق المختلفة، لكل خلق منها علامة خاصة، نحن لا نعرف الآن كنهها، وربما كانت سوائل روحيةً، كل سائل يدل على خلق من الأخلاق، كما يكون في أنواع النبات والشجر روائح مختلفة، فالعلم والحلم والنشاط وحب الناس لها سوائل جميلة، والجهل والطيش والكسل وبغض الناس لها سوائل رديئة، وتلك السوائل تلازمهم، فتكون مشقيةً لهم، ومضايقةً أو مفرحةً لهم ومنعمةً، وهكذا الأجسام بعد الموت لا تشبه نفس نفسًا أخرى في أوصافها، فهذه هي الشهادة التي تشهد بها أسماعهم وأبصارهم وجلودهم، هكذا قيل في تفسير الشهادة، والراجح أنها بإنطاق الله إياها.
٢١ - ثم ذكر سبحانه أنهم لاموا جوارحهم على أداء الشهادة التي تلزمهم الحجة، فحكى عنهم قولهم لها ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: الكفرة ﴿لِجُلُودِهِمْ﴾ توبيخًا لها: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾؛ أي: وقالوا على جهة اللوم والمؤاخذة لجلودهم حين شهدوا عليهم: لم شهدتم علينا، وقد كانوا في الدنيا مساعدين لهم على المعاصي، فكيف يشهدون عليهم الآن. وقرأ زيد بن علي ﴿لم شهدتنّ﴾ بضمير المؤنثات.
وصيغة (١) جمع العقلاء في خطاب الجلود، وكذا في قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ﴾ إلخ، لوقوعها في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء، ولعلّ تخصيص الجلود لأنها بمرأى منهم، بخلاف غيرها، أو لأنّ الشهادة منها أعجب وأبعد، إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر.
﴿قَالُوا﴾؛ أي: الجلود ﴿أَنْطَقَنَا اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ ناطق، وأقدرنا على بيان الواقع، فشهدنا عليكم بما عملتم بواسطتنا من القبائح وما كتمناها، وفي الآية إشارة إلى أن الأرواح والأجسام متساوية في قدرة الله تعالى، إن شاء.. جعل الأرواح بوصف الأجسام صُمًّا بُكْمًا عميًّا فهم لا يعقلون، وإن شاء. جعل الأجسام بوصف الأرواح تنطق وتسمع وتبصر وتعقل.
(١) روح البيان.
أي (١): قالت الجلود: إن الله جعل فينا من الدلالات الفعلية ما يقوم مقام النطق؛ بل ما هو أفصح منها، فشهدنا عليكم بما فعلتم من القبائح، وفي "صحيح مسلم": عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - ﷺ -، فضحك فقال: "هل تدرون ممّ أضحك؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "من مخاطبة العبد ربه، يقول: ألم تجِرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أُجير على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: يقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله، قال: ثمّ يخلَّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول بعدًا لكن، وسحقًا. فعنكن كنت أناضل".
﴿وَهُوَ خَلَقَكُمْ﴾؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى خلقكم وأوجدكم أيها الكفرة ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ من العدم المحض ﴿وَإِلَيْهِ﴾ تعالى ﴿تُرْجَعُونَ﴾؛ أي: تردون فإن من قدر على خلقكم وإنشائكم أولًا، وعلى إعادتكم ورجعكم؛ أي: ردّكم إلى جزائه ثانيًا، لا يتعجّب من إنطاقه لجوارحكم، فهو لا يخالف ولا يمانع، وقد جعل فيكم دلائل واضحةً كخطوط اليد والإبهام والأصوات وألوان الوجوه وأشكالها، ولكن قليلًا من الناس من يفطن إلى ذلك، فمن قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداءً.. قدر على إعادتكم ورجعكم إليه، ومن ثمّ قال: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾؛ أي: وإليه مصيركم بعد مماتكم، فيجازي كل نفس بما كسبت، لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب، قيل: هذا من تمام كلام الجلود، وقيل: مستأنف من كلام الله تعالى
٢٢ - ﴿وَمَا كُنْتُمْ﴾ أيها الكفرة ﴿تَسْتَتِرُونَ﴾ في الدنيا بنحو الحيطان عند الإقدام على الأفعال القبيحة مَخافة ﴿أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾ في الآخرة، وقوله (٢): ﴿أَنْ يَشْهَدَ﴾ في موضع الجر على تقدير المضاف؛ أي: مخافة أن يشهد، أو في موضع النصب بإسقاط الخافض؛ أي: من أن يشهد لأنّ استتر لا يتعدّى بنفسه، و ﴿لا﴾: في الموضعين زائدة لتأكيد النفي.
وهذه حكاية لما سيقال للأعداء يومئذ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع، تقريرًا لجواب الجلود.
والمعنى: وما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش، مخافة أن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
330
تشهد عليكم جوارحكم بذلك، لأنها كانت أجسامًا صامتة غير ناطقة، ولم يكن في حسابكم ما استقبلكم، كما كنتم تستترون من الناس بالحيطان والحجب وظلمة الليل، مخافة الافتضاح عندهم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء رأسًا، فضلًا عن شهادة الأعضاء، وفيه تنبيه على أنّ المؤمن ينبغي أن يتحقق أن لا يمرّ عليه حال إلا وعليه رقيب، وأن الله معه أينما كان. وفي الحديث: "أفضل إيمان المرء: أن يعلم أن الله معه حيث كان".
وقيل: هذا من كلام الجلود، وبختهم على ما كانوا يفعلون في الدنيا، فقالت لهم: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾ إلخ؛ أي (١): وما كنتم تستخفون حين تفعلون قبيح الأعمال، وترتكبون عظيم الفواحش بالحيطان والحجب، حذرًا من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم تجاهرون بالكفر والمعاصي، وتجحدون البعث والجزاء، قال عبد الأعلي بن عبد الله الشاميّ فأحسن:
الْعُمْرُ يَنْقُصُ وَالذُّنُوْبُ تَزِيْدُ وَتُقَالُ عَثْرَاتُ الْفَتَى فَيَزِيْدُ
هَلْ يَسْتَطِيْعُ جُحُوْدَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُوْدُ
وَالْمَرْءُ يُسْأَلُ عَنْ سِنِيْهِ فَيَشْتَهِيْ تَقْلِيْلَهَا وَعَنِ الْمَمَاتِ يَحِيْدُ
ولما كان (٢) الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية.. كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية، وقيل: معنى الاستتار: الاتقاء؛ أي: ما كنتم تتقون في الدنيا، أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة، فتتركوا المعاصي خوفًا من هذه الشهادة ﴿وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ﴾ عند استتاركم من الناس مع عدم استتاركم من أعضائكم ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من المعاصي فاجترأتم على فعلها، قيل: كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكن يعلم ما تظهر دون ما نسرُّ.
والخلاصة: أنكم كنتم في الدنيا تستترون عن الناس خوف الفضيحة والعار حين ارتكاب الذنوب، وما ظننتم أنَّ أعضاءَكم وجسمكم الأثيريّ الذي هو على صورة الجسم الظاهريّ قد سطّرت فيه جميع أعمالكم، كأنه لوح محفوظ، فلذلك ما
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
331
كنتم تستترون عنها بترك الذنوب، وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغي للمؤمن أن تمرّ عليه حال إلا وهو يفكر في أنّ الله رقيب عليه، كما قال أبو نوّاس:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيْبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفَلُ سَاعَةً وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيْبُ
فائدة: وفي "فتح الرحمن" قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ﴾ الآية، قاله (١) هنا بزيادة ﴿مَا﴾ بعد ﴿جاء﴾، وقال بحذفها في قوله في النمل: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوا﴾، وفي الزمر: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا﴾ مرتين، وفي الزخرف: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا﴾ لأنّ الكلام هنا في أعداء الله أبسط وآكد منه في البقية، فناسب ذكر ﴿مَا﴾ للتأكيد هنا دون البقية.
٢٣ - ﴿وَذَلِكُمْ﴾ الظن أيها الأعداء، وهو مبتدأ (٢) خبره قوله: ﴿ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ﴾ وهو أنَّ الله لا يعلم كثيرًا مما يعملون، وإلا فالله تعالى عالم بجميع الكليات والجزئيات، وهو خالق الأعمال وسائر الأعراض، والجواهر والمطلع على البواطن والسرائر، كما هو مطلع على الظواهر، والتغاير بين العنوانين أمر جليّ، لظهور أنَّ ظنَّ عدم علم الله غير الظن بالرب، فيصح أن يكون خبرًا له ﴿أَرْدَاكُمْ﴾ خبر آخر له؛ أي: أهلككم وطرحكم في النار ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾؛ أي: صرتم بسبب ذلك الظن السوء الذي أهلككم ﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾؛ أي: من الكاملين في الخسران حيث ظننتم بالله ظنّ السوء، وسوء الظن بالله من أكبر الكبائر كحب الدنيا، وقيل (٣): إنّ ﴿أَرْدَاكُمْ﴾: في محل نصب على الحال المقدرة، وقيل: إن ﴿ظَنُّكُمُ﴾: بدل من ﴿ذَلِكُمْ﴾ و ﴿الَّذِي ظَنَنْتُمْ﴾: خبره و ﴿أَرْدَاكُمْ﴾: خبر آخر أو حال، وقيل: إن ﴿ظَنُّكُمُ﴾: خبر أول، والموصول وصلته خبر ثان، و ﴿أَرْدَاكُمْ﴾: خبر ثالث، والمعنى: أنّ ظنكم بأنّ الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون، أهلككم وطرحكم في النار، فصرتم من الكاملين في الخسران.
وحاصل معنى الآية (٤): أي وهذا الظن الفاسد الذي قد كان منكم في الدنيا،
(١) فتح الرحمن.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
وهو أنّ الله لا يعلم كثيرًا من قبائح أعمالكم ومساويها، هو الذي أوقعكم في مواقع التلف والردى، فصرتم اليوم من الهالكين، إذ صرفتم ما منحتم من أسباب السعادة من القوّة العاقلة، والأعضاء الكاملة إلى الشقاء، فكفرتم نعم الخالق والرازق، وانهمكتم في الشهوات والمعاصي.
أخرج مسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد والطيالسي وعبد بن حميد وابن مردويه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله تعالى، فإن قومًا قد أرداهم سوءُ ظنهم بالله، فقال الله: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)﴾ ".
قال العلماء (١): الظنّ قسمان:
١ - حسن، وهو أن يظن بالله عَزَّ وَجَلَّ الرحمة والفضل والإحسان، قال - ﷺ - حكاية عن الله عَزَّ وَجَلَّ: "أنا عند ظنّ عبدي بِي".
٢ - قبيح، وهو أن يظن أن الله يعزب عن علمه بعض الأعمال، وقال قتادة: الظن نوعان: منجٍ ومردٍ.
فالمنجي: قوله: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠)﴾، وقوله: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾.
والمردي: هو قوله: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ﴾.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في هذه الآية: هؤلاء قوم كانوا يدمنون على المعاصي، ولا يتوبون منها، ولا يتكلمون على المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا مفاليس، ثمّ قرأ: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ﴾ الآية، وقال الحسن البصري: إن قومًا ألهتهم الأماني، حتى خرجوا من الدنيا ومالهم حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي وقد كذب، ولو أحسن الظن.. لأحسن العمل، وتلا قول الله تعالى: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ﴾ الآية.
٢٤ - ثمّ أخبر عن حالهم فقال: ﴿فَإِنْ يَصْبِرُوا﴾ في النار على العذاب، وأمسكوا عن الاستغاثة والجزع مما هم فيه، انتظارًا للفرج، زاعمين أنّ الصبر مفتاح الفرج
(١) المراغي.
333
﴿فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾؛ أي: محل ثواءٍ وإقامة أبّدت لهم بحيث لا خلاص لهم منها، فلا ينفعهم صبرهم.
وقيل المعنى (١): فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار.. فالنار مثوًى لهم. والالتفات (٢) فيه عن الخطاب إلى الغيبة؛ للإشعار بإبعادهم عن حيّز الخطاب، والإبقاء في غاية دركات النار ﴿وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا﴾؛ أي: يسألوا العتبى، وهو الرجوع إلى ما يُحبّونه جزءًا مما هم فيه.. ﴿فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾؛ أي: من المجابين إلى العتبى لأنهم لا يستحقون ذلك، فيكون صبرهم وجزعهم سواءً في أنّ شيئًا منهما لا يؤدّي إلى الخلاص، ونظيره قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾؛ أي: وإن يبدوا معاذير.. فلن تقبل منهم، ولا تقال لهم العثرات.
والمعنى (٣): وإن يطلبوا الرضى.. لم يقع الرضى عنهم، بل لابدّ لهم من النار.
وقرأ الجمهور: ﴿وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا﴾ بفتح التحتية وكسر الفوقية الثانية مبنيًا للفاعل، وقرؤُوا: ﴿مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ بفتح الفوقية اسم مفعول، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وموسى الأسواري وأبو العالية: ﴿وإن يُستعتبوا﴾ بضم التحتية مبنيًا للمفعول ﴿فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ اسم فاعل؛ أي: وإن طلب منهم أن يرضوا ربهم.. فما هم بفاعلين، ولا يكون ذلك منهم، لأنهم فارقوا الدنيا دار الأعمال، كما قال - ﷺ -: "ليس بعد الموت مستعتب" وقال أبو ذؤيب:
أَمِنَ الْمَنُوْنِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
وقيل المعنى: أنهم إن أقالهم الله، وردهم إلى الدنيا.. لم يعملوا بطاعته كما في قوله سبحانه: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾. وبعدما ختمت تفسير هذه الآية في اليوم السادس والعشرين من رمضان.. نمت وقت الضحوة قبيل الظهر، ورأيت النبي - ﷺ - في تلك النومة، كأني من مقدمة جيشه من فرسانهم، وأردت إدراك واحد من العدو شرد منا، وأجريت فرسي وراءَهُ، والنبي - ﷺ - يجري فرسه معي، وقربت
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
334
عمامتي إلى السقوط من رأسي لذلك الجري، فأصلحها لي النبي - ﷺ - على رأسي، فالحمد لله والشكر له على هذه البشارة العظيمة.
الإعراب
﴿حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤)﴾.
﴿حم (١)﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه السورة حم؛ أي: مُسمّاة بحم، أو مبتدأ خبره: محذوف؛ أي: سورة حم هذا محلها، أو مفعول به لفعل محذوف؛ أي: اقرأ حم، والجملة على كل التقادير: مستأنفة، ويجري فيه من أوجه الإعراب ما يجري في أسماء التراجم إن قلنا: إنها اسم للسورة، وإن قلنا: إنها رمز أو مما استؤثر الله سبحانه بعلمه.. فلا محل لها من الإعراب؛ لأنّ الإعراب فرع عن إدراك المعنى. ﴿تَنْزِيلٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا القرآن منزّل من الرحمن الرحيم، و ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ﴾: متعلق بـ ﴿تَنْزِيلٌ﴾ و ﴿الرَّحِيمِ﴾ صفة لـ ﴿الرَّحْمَنِ﴾، وأجاز الزجاج أن يكون ﴿تَنْزِيلٌ﴾: مبتدأ، وقوله: ﴿كِتَابٌ﴾ الآتي: خبره وسوّغ الابتداء بـ ﴿تَنْزِيلٌ﴾: تخصُّصه بالصفة، وعليه درج الجلال وشرّاحه، وما ذكرناه أولًا أولى. ﴿كِتَابٌ﴾: بدل من ﴿تَنْزِيلٌ﴾ أو خبر بعد خبر ﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾: فعل مغيّر ونائب فاعله، والجملة الفعلية: في محل الرفع صفة لـ ﴿كِتَابٌ﴾. ﴿قُرْآنًا﴾: حال مقصودة من ﴿كِتَابٌ﴾ لتخصصه بالصفة و ﴿عَرَبِيًّا﴾: صفة له أو حال منه أو حال أخرى من ﴿كِتَابٌ﴾ أو هو حال موطئة و ﴿عَرَبِيًّا﴾: هي الحال المقصودة، ذكره في "الفتوحات". ﴿لِقَوْمٍ﴾ متعلق بـ ﴿فُصِّلَتْ﴾ وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾ صفة ﴿لِقَوْمٍ﴾. ﴿بَشِيرًا﴾ إما صفة ثانية لـ ﴿قُرْآنًا﴾ أو حال ثانية من ﴿كِتَابٌ﴾. ﴿وَنَذِيرًا﴾: معطوف على ﴿بَشِيرًا﴾، ﴿فَأَعْرَضَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿فُصِّلَتْ﴾: على كونها صفة لـ ﴿كِتَابٌ﴾ والرابط: محذوف، تقديره: فأعرض عنه أكثرهم ﴿فُصِّلَتْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَسْمَعُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية: في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿أَعْرَضَ﴾.
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ
335
فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (٥)}.
﴿وَقَالُوا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية أو عاطفة. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَعْرَضَ﴾. ﴿قُلُوبُنَا﴾: مبتدأ، ﴿فِي أَكِنَّةٍ﴾: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿أَكِنَّةٍ﴾؛ أي: في أكنة تمنعنا مما تدعونا إليه، وقال أبو البقاء: هو محمول على المعنى، إذ معنى ﴿فِي أَكِنَّةٍ﴾: أنها مَحْجُوبة عن سماع ما تدعونا إليه ﴿تَدْعُونَا﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد ومفعول به، والجملة: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تَدْعُونَا﴾ وهو العائد على ﴿ما﴾ الموصولة ﴿وَفِي آذَانِنَا﴾: خبر مقدم. ﴿وَقْرٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿قُلُوبُنَا﴾، ﴿وَمِنْ بَيْنِنَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مِنْ بَيْنِنَا﴾ خبر مقدم ﴿وَبَيْنِكَ﴾: معطوف عليه ﴿حِجَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على جملة ﴿قُلُوبُنَا﴾. ﴿فَاعْمَلْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت، ما قلنا لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فنقول ﴿اعمل...﴾: إلخ. ﴿اعمل﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿إِنَّنَا﴾: ناصب واسمه. ﴿عَامِلُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿إِن﴾: في محل النصب مسوقة لتعليل الأمر قبلها؛ أي: فاستمرّ على دعوتك، فإننا مستمرون على ديننا، وهو الإشراك.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة، ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر؛ أو ﴿إِنَّمَا﴾: مكفوفة وكافة. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ. ﴿بَشَرٌ﴾: خبر ﴿مِثْلُكُمْ﴾: صفة لـ ﴿بَشَرٌ﴾ والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾، ﴿يُوحَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿إِلَيَّ﴾: متعلق بـ ﴿يُوحَى﴾، ﴿أَنَّمَا﴾ مكفوفة وكافة. ﴿إِلَهُكُمْ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَهٌ﴾: خبر. ﴿وَاحِدٌ﴾: صفة لـ ﴿إِلَهٌ﴾، والجملة الاسمية: صلة لـ ﴿أَن﴾ المكفوفة، و ﴿أَن﴾ المكفوفة مع صلتها: في تأويل مصدر مرفوع على كونه نائب فاعل لـ ﴿يُوحَى﴾ والتقدير: يوحى إليّ كون إلهكم إلهًا واحدًا، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ أو في محل الرفع خبر ثان لـ ﴿أَنَا﴾.
336
﴿فَاسْتَقِيمُوا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنه يوحى إلى التوحيد، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: ﴿اسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ﴾. ﴿اسْتَقِيمُوا﴾: فعل أمر وفاعل، ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة. مستأنفة. ﴿وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿اسْتَقِيمُوا﴾، ﴿وَوَيْلٌ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ويل﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة: قصد الدعاء ﴿لِلْمُشْرِكِينَ﴾: خبر، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾.
﴿الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ صفة ﴿لِلْمُشْرِكِينَ﴾، وجملة ﴿لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾: صلة ﴿الَّذِينَ﴾ ﴿وَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿بِالْآخِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿كَافِرُونَ﴾. ﴿هُمْ﴾ الثانية تأكيد للأولى، ﴿كَافِرُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا يُؤْتُونَ﴾ على كونها صلة الموصول. ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿أَجْرٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾: صفة ﴿أجر﴾، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة أو في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. ﴿أَئِنَّكُمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري المضمن للتوبيخ. ﴿إنكم﴾: ناصب واسمه. ﴿لَتَكْفُرُونَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿تكفرون﴾: فعل وفاعل. ﴿بِالَّذِي﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ ﴿خَلَقَ الْأَرْضَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول، ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾. ﴿وَتَجْعَلُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على
337
﴿تكفرون﴾. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿تَجْعَلُونَ﴾ على أنه مفعول ثان له. ﴿أَنْدَادًا﴾: مفعول أول له، ﴿ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠)﴾.
﴿وَجَعَلَ﴾: فعل وفاعل مستتر معطوف على ﴿خَلَقَ﴾ وما بينهما اعتراض. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جعل﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له. ﴿رَوَاسِيَ﴾: مفعول أول لـ ﴿جعل﴾ ولم ينون لأنه على زنة مفاعل، ولك أن تعلق الجار والمجرور بـ ﴿جعل﴾ على أنه بمعنى خلق، و ﴿رَوَاسِيَ﴾: مفعول به لـ ﴿جعل﴾ لأنه يتعدى إلى مفعول واحد. ﴿مِنْ فَوْقِهَا﴾ صفة لـ ﴿رَوَاسِيَ﴾ وما أجمل وقع هذا النعت؛ لئلا يتوهم أنها من تحتها، فتكون ممسكة لها ومانعة من الميدان. ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾: معطوف على ﴿جَعَلَ فِيهَا﴾. ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا﴾: معطوف على ﴿جعل﴾ أيضًا. ﴿أَقْوَاتَهَا﴾: مفعول به لـ ﴿قدر﴾. ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾: متعلق بـ ﴿قدر﴾ ﴿سَوَاءً﴾: بالنصب منصوب على المصدرية بفعل محذوف وجوبًا؛ أي: استوت الأيام الأربعة استواءً لا تزيد ولا تنقص، أو حال من ﴿أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ لتخصصه بالإضافة؛ أي: حال كونها مستوية كاملة تامةً بلا زيادة ولا نقصان، كما مر بسطه في مبحث التفسير، وقرىء: بالرفع، على أنه خبر لمبتدأ محذوف هي؛ أي: تلك الأيام الأربعة مستوية تامة، وبالجر على أنه صفة لـ ﴿أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾؛ أي: في أربعة أيام مستوية تامة كاملة. ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾: متعلق بـ ﴿قَدَّرَ﴾؛ أي: قدر فيها أقواتها للسائلين؛ أي: لأجل الطالبين للأقوات، المحتاجين إليها من المقتاتين بها، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا الحصر في الأربعة كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، وجواب لسؤالهم في كم مدة خلقت الأرض وما فيها، كما مر بسطه أيضًا فراجعه.
﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب للترتيب الذكري لا الزماني، ﴿اسْتَوَى﴾: فعل ماض وفاعل يعود على الله، والجملة: معطوفة على جملة ﴿خَلَقَ﴾، ﴿إِلَى السَّمَاءِ﴾:
338
متعلق بـ ﴿اسْتَوَى﴾. ﴿وَهِيَ دُخَانٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب حال من ﴿السَّمَاءِ﴾. ﴿فَقَالَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿قال﴾: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على ﴿اسْتَوَى﴾، ﴿لَهَا﴾: متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلِلْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿لَهَا﴾، ﴿ائْتِيَا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، والاْلف: فاعل، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾: مصدران في موضع الحال من فاعل ﴿ائْتِيَا﴾؛ أي: حالة كونكما طائعتين أو كارهتين، ﴿قَالَتَا﴾: فعل وفاعل. التاء علامة تأنيث الفاعل. والجملة مستأنفة ﴿أَتَيْنَا﴾ فعل وفاعل ﴿طَائِعِينَ﴾: حال من فاعل: ﴿أَتَيْنَا﴾، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَتَا﴾.
﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)﴾.
﴿فَقَضَاهُنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿قَضَاهُنَّ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول أول. ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾: مفعول ثان؛ لأن ﴿قضى﴾ هنا: بمعنى صير، ويجوز أن يكون ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾: حالًا من مفعول ﴿قَضَاهُنَّ﴾ إذا كان ﴿قضى﴾ بمعنى صنع؛ أي: صنعهن حالة كونهن معدودة بالسبع، ويجوز أن يكون بدلًا من الضمير، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة قوله: ﴿اسْتَوَى﴾، ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾: متعلق بـ ﴿قضى﴾. ﴿وَأَوْحَى﴾ فعل ماض والفاعل مستتر يعود على الله. ﴿فِي كُلِّ سَمَاءٍ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلقان بـ ﴿أوحى﴾. ﴿أَمْرَهَا﴾ مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَزَيَّنَّا﴾: فعل وفاعل ﴿السَّمَاءَ﴾: مفعول به. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة للسماء، ﴿بِمَصَابِيحَ﴾: متعلق بـ ﴿زَيَّنَّا﴾ وهو غير منصرف؛ لكونه على زنة مفاعيل، والجملة: معطوفة على جملة ﴿قَضَاهُنَّ﴾. ﴿وَحِفْظًا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿حِفْظًا﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: وحفظناها حفظًا من استراق الشياطين السمع بالشهب، والجملة المحذوفة: معطوفة على جملة ﴿زَيَّنَّا﴾. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، والإشارة إلى ما ذكر كله بتفاصيله، وأفرد الكاف لأنه ليس المراد تعين المخاطبين. ﴿تَقْدِيرُ﴾: خبر المبتدأ. ﴿الْعَزِيزِ﴾: مضاف إليه. ﴿الْعَلِيمِ﴾: صفة لـ ﴿الْعَزِيزِ﴾ والجملة الاسمية: مستأنفة.
﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣)﴾.
﴿فَإِنْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر،
339
تقديره: إذا قلت لهم ما ذكر من دلائل التوحيد، ولم يقبلوا التوحيد، وأردت بيان ما تقول لهم في حالة إعراضهم.. فأقول لك: إن أعرضوا ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿أَعْرَضُوا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فَقُلْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿أَنْذَرْتُكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿صَاعِقَةً﴾: مفعول ثان. ﴿مِثْلَ﴾: صفة لـ ﴿صَاعِقَةً﴾. ﴿صَاعِقَةً﴾: مضاف إليه، وهو مضاف ﴿عَادٍ﴾: مضاف إليه. ﴿وَثَمُودَ﴾: معطوف على ﴿عَادٍ﴾، ولم يصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، كما مر في مبحث التفسير، وجملة ﴿أَنْذَرْتُكُمْ﴾: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (١٤)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان. ﴿جَاءَتْهُمُ﴾: فعل ومفعول به، و ﴿التاء﴾: تاء التأنيث. ﴿الرُّسُلُ﴾: فاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾، والظرف: متعلق بمحذوف حال من ﴿صَاعِقَةِ عَادٍ﴾، والتقدير: حالة كونها نازلةً بهم وقت مجيء الرسل إياهم. ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جَاءَتْهُمُ﴾ ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ معطوف على ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾، وجعل بعضهم الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من ﴿الرُّسُلُ﴾؛ أي: حال كون الرسل كائنين من بين أيدي عاد وثمود ومن خلفهم. ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا﴾: يجوز في ﴿أن﴾ ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون مخففةً من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن. ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَعْبُدُوا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، و ﴿الواو﴾: فاعل. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ المخففة، وجملة ﴿أن﴾ المخففة في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، والتقدير: إذ جاءتهم الرسل بعدم عبادتهم إلا الله، والجار والمجرور: متعلق بمحذوف حال من ﴿الرُّسُلُ﴾؛ أي: حالة كونهم قائلين: بأن لا تعبدوا إلا الله.
340
والوجه الثاني: أن تكون مصدرية تنصب الفعل المضارع. و ﴿لا﴾: نافية؛ ﴿لأن﴾ ﴿لا﴾ النافية لا تمنع عمل العامل فيما بعدها.
والوجه الثالث: أن تكون مفسرةً؛ لأن مجيء الرسل يحتمل القول، وتكون الجملة: لا محل لها من الإعراب. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل. والجملة: مستأنفة. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿شَاءَ رَبُّنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة: فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَأَنْزَلَ﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية. ﴿أنْزَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الرب. ﴿مَلَائِكَةً﴾: مفعول به، والجملة: جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿فَإِنَّا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلنا لكم، وأردتم بيان حالنا.. فنقول لكم: إنا بما أرسلتم... إلخ، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كَافِرُونَ﴾. ﴿أُرْسِلْتُمْ﴾: فعل مغير ونائب فاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أُرْسِلْتُمْ﴾ والجملة: صلة الموصول. ﴿كَافِرُونَ﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة.
﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (١٥)﴾.
﴿فَأَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت قصة عاد وثمود إجمالًا، وأردت بيان قصتها تفصيلًا.. فأقول لك: ﴿أما عاد﴾ ﴿أما﴾: حرف شرط وتفصيل. ﴿عَادٌ﴾: مبتدأ، ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أما﴾، واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع ﴿أما﴾، ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾: فعل ماض وفاعل، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به. ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾: حال من فاعل ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾؛ أي: غير محقين في استكبارهم، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: جواب ﴿أما﴾ الشرطية؛ وجملة ﴿أما﴾ الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة؛ وجملة إذا المقدرة: مستأنفة، ﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿أَشَدُّ﴾: خبره، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مِنَّا﴾: متعلق بـ ﴿أَشَدُّ﴾. ﴿قُوَّةً﴾: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل.
341
﴿أَوَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف يقتضيه السياق، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا وضلوا ولم يروا، والجملة المحذوفة: جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَرَوْا﴾: فعل مضارع وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿الَّذِي﴾: صفة للجلالة. ﴿خَلَقَهُمْ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة: صلة ﴿الَّذِي﴾. ﴿هُوَ﴾ مبتدأ. ﴿أَشَدُّ﴾: خبره، ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَشَدُّ﴾، ﴿قُوَّةً﴾: منصوب على التمييز، وجملة المبتدأ: في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾ وجملة ﴿أَنَّ﴾: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿يَرَوْا﴾؛ لأنها علمية تتعدى إلى مفعولين. ﴿وَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِآيَاتِنَا﴾: متعلق بـ ﴿يَجْحَدُونَ﴾ وجملة ﴿يَجْحَدُونَ﴾ خبر ﴿كَانُوا﴾ وجملة ﴿كَانُوا﴾: معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾ وجملة ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ مع المعطوفة عليها المقدرة معترضة.
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)﴾.
﴿فَأَرْسَلْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كَانُوا﴾. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿رِيحًا﴾: مفعول به، ﴿صَرْصَرًا﴾: صفة لـ ﴿رِيحًا﴾. ﴿فِي أَيَّامٍ﴾: صفة ثانية لـ ﴿رِيحًا﴾ أو حال منها. ﴿نَحِسَاتٍ﴾: صفة لـ ﴿أَيَّامٍ﴾، ﴿لِنُذِيقَهُمْ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿نُذِيقَهُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول منصوب بأن مضمرة. ﴿عَذَابَ الْخِزْيِ﴾: مفعول ثان. ﴿فِي الْحَيَاةِ﴾ متعلق بـ نذيق. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾ وجملة ﴿نذيقهم﴾: صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ والجار والمجرور: متعلق بـ ﴿أرسلنا﴾؛ أي: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا﴾ لإِذاقتنا إياهم ﴿عَذَابَ الْخِزْيِ﴾. ﴿وَلَعَذَابُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿عَذَابُ الْآخِرَةِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه ﴿أَخْزَى﴾: خبره، والجملة: مستأنفة. ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُنْصَرُونَ﴾: خبره، والجملة: معطوفة على الجملة التي قبلها.
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا
342
كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (١٨)}.
﴿وَأَمَّا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿أما﴾: حرف شرط. ﴿ثَمُودُ﴾: مبتدأ. ﴿فَهَدَيْنَاهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أَمَّا﴾، ﴿هَدَيْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: جواب ﴿أَمَّا﴾: لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أما﴾: معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَمَّا عَادٌ﴾. ﴿فَاسْتَحَبُّوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿اسْتَحَبُّوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿هديناهم﴾: ﴿الْعَمَى﴾: مفعول به. ﴿عَلَى الْهُدَى﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَحَبُّوا﴾؛ لأنه متضمن معنى آثروا ﴿فَأَخَذَتْهُمْ﴾. ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أَخَذَتْهُمْ﴾: فعل ومفعول به. ﴿صَاعِقَةُ الْعَذَابِ﴾: فاعل. ﴿الْهُونِ﴾: صفة لـ ﴿الْعَذَابِ﴾ والجملة الفعلية: معطوفة على جملة ﴿اسْتَحَبُّوا﴾. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَخَذَتْهُمْ﴾ ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْسِبُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أخذتهم﴾، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿وَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَتَّقُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كَانُوا﴾: معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾.
﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة ويوم يحشر أعداء الله والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿إِلَى النَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿يُحْشَرُ﴾ والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة: ﴿يُوزَعُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة ﴿يُحْشَرُ﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان في محل النصب على الظرفية. ﴿مَا﴾ زائدة زيدت لتأكيد معنى الظرفية. ﴿جَاءُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب الآتي. ﴿شَهِدَ﴾: فعل ماض. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿سَمْعُهُمْ﴾: فاعل. ﴿وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ﴾: معطوفان على ﴿سَمْعُهُمْ﴾ والجملة الفعلية: جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿إِذَا﴾:
343
في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ والجار والمجرور: متعلق بـ ﴿يُوزَعُونَ﴾ والتقدير: فهم يوزعون إلى شهادة سمعهم وأبصارهم عليهم وقت مجيئهم النار، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿شَهِدَ﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كَانُوا﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة.
﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿شَهِدَ﴾، ﴿لِجُلُودِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿قَالُوا﴾ ﴿لِمَ﴾ (اللام): حرف جر، (مَ): اسم استفهام للاستفهام التوبيخي التعجبي، في محل الجر بـ ﴿اللام﴾ مبني بسكون على الألف المحذوفة؛ فرقًا بينها وبين ﴿ما﴾ الموصولة. الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿شَهِدْتُمْ﴾، و ﴿شَهِدْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق بـ ﴿شَهِدْتُمْ﴾ والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿أَنْطَقَنَا﴾: فعل ومفعول. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿الَّذِي﴾: صفة للجلالة. ﴿أَنْطَقَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر. ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾: مفعول به، والجملة: صلة الموصول. ﴿وَهُوَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿هُوَ﴾ مبتدأ ﴿خَلَقَكُمْ﴾: فعل ماض ومفعول به، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة ﴿أَنْطَقَ﴾، ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿خَلَقَكُمْ﴾. ﴿وَإِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾. ﴿تُرْجَعُونَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة: معطوفة على جملة ﴿خَلَقَكُمْ﴾.
﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة أو استئنافية. ﴿ما﴾: نافية، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَسْتَتِرُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾: معطوفة على جملة ﴿أَنْطَقَنَا﴾: إن كان من كلام الجلود، أو مستأنفة إن كان من كلام الله تعالى، ﴿أَنْ﴾: حرف مصدر. ﴿يَشْهَدَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به، ﴿سَمْعُكُمْ﴾: فاعل. ﴿وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾: معطوفان على ﴿سَمْعُكُمْ﴾،
344
و ﴿لا﴾: في الموضعين: زائدة لتأكيد نفي ما قبلها، وجملة ﴿يَشْهَدَ﴾ مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وما كنتم تستترون من شهادة سمعكم إلخ. ﴿وَلَكِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿ظَنَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَا﴾ نافية. ﴿يَعْلَمُ كَثِيرًا﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿مِمَّا﴾: صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾ وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُ﴾: خبر ﴿أَنَّ﴾ وجملة ﴿أَنَّ﴾: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿ظَنَنْتُمْ﴾؛ أي: ولكن ظننتم عدم علم الله سبحانه كثيرًا مما تعملون.
﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)﴾.
﴿وَذَلِكُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ذَلِكُمْ﴾: مبتدأ. ﴿ظَنُّكُمُ﴾: خبره، والجملة: معطوفة على جملة الاستدراك. ﴿الَّذِي﴾: صفة لـ ﴿ظَنُّكُمُ﴾ أو بدل منها. ﴿ظَنَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل، وهو بمعنى الاعتقاد يتعدى إلى مفعول واحد، وذلك المفعول محذوف، تقديره: ظننتموه، وهو العائد على الموصول. ﴿بِرَبِّكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿ظَنَنْتُمْ﴾ وجملة ﴿ظَنَنْتُمْ﴾: صلة الموصول. ﴿أَرْدَاكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الظن ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ثان لاسم الإشارة، أو حال من ﴿ظَنُّكُمُ﴾، ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أَصْبَحْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾: خبره، وجملة ﴿أصبح﴾: معطوفة على جملة ﴿أَرْدَاكُمْ﴾، ﴿فَإِنْ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿يَصْبِرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها. ﴿فَالنَّارُ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿النَّارُ﴾: مبتدأ. ﴿مَثْوًى﴾: خبر. ﴿لَهُمْ﴾: صفة لـ ﴿مَثْوًى﴾ والجملة الاسمية: في محل الجزم ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿يَسْتَعْتِبُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ ﴿ما﴾ النافية. ﴿ما﴾: حجازية: أو تميمية. ﴿هُمْ﴾: اسمها، أو مبتدأ. ﴿مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾: خبرها، أو خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها،
345
وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾؛ أي: ميزت آياته لفظًا باعتبار فواصل الآيات ومقاطعها ومبادىء السور، ومعنًى بكونها وعدًا ووعيدًا وقصصًا وأحكامًا، وخبرًا وإنشاءً كما في "الشهاب". ﴿فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾؛ أي: لا يقبلون ولا يطيعون، من قولهم: تشفّعت إلى فلان فلم يسمع قولي؛ أي: لم يقبله ولم يعمل به، فكأنه لم يسمعه. ﴿فِي أَكِنَّةٍ﴾ جمع كنان، كأغطية جمع غطاء، وهي خريطة السهام، والمراد: أنها في أغطية متكاثقة، والكنان في الأصل: الغطاء الذي يكنّ فيه الشيء؛ أي: يحفظ ويستر، وأصل أكنة: أكننة بوزن أفعلة، نقلت حركة النون الأولى إلى الكاف فسكّنت فأدغمت في النون الثانية، فصار أكنة بوزن أفلة. ﴿وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾ قال في "القاموس": الوقر: ثقل في الأذن، أو ذهاب السمع بالكلية، فهو بمعنى الصمم.
﴿فَاعْمَلْ﴾؛ أي: فاستمر على دينك الذي هو التوحيد. ﴿إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾؛ أي: مستمرون على ديننا الذي هو الإشراك. ﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾ أصله: يوحى بضم الياء، فيقال: تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فصار يوحى بالألف في آخره، ولكن كتبت بصورة الياء إشارةً إلى أن أصله ياء. ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ﴾؛ أي: أخلصوا له العبادة، وفيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: فاستقوموا، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت إثر كسرة فقلبت ياءً حرف مدّ، مأخوذ من الاستقامة، والاستقامة: الاستمرار على جهة واحدة ولزومها، بحيث لا يلتفت عنها إلى غيرها. ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: هلاك لهم جملة خبرية اللفظ، إنشائية المعنى، قصد بها الدعاء. ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾؛ أي: غير مقطوع من قولهم: مَنَنْتُ الحبل: إذا قطعته، ومنه قول ذي الإِصبع:
إِنِّيْ لَعَمْرُكَ مَا بابِيْ بِذِيْ غَلَقٍ عَلَى الصَّدِيْقِ وَلَا خَيْرِيْ بِمَمْنُوْنِ
﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾؛ أي: جبالًا ثوابت لا تتحرّك ولا تميل، جمع راسيةٍ، من رسا الشيء يرسو رسوًّا: نظير سما يسمو سموًا إذا ثبت، وأرساه: غيره إذا أثبته، ومنه المرساة وهو أنجر السفينة إذا وقفت على الأنجر، وفي ﴿رَوَاسِيَ﴾: إعلال بالقلب، أصله: رواسو من الرسو، قلبت الواو ياءً لتطرفها إثر كسرة. {وَقَدَّرَ فِيهَا
346
أَقْوَاتَهَا} جمع قوت، والقوت من الرزق: ما يمسك الرمق، ويقوم به بدن الإنسان، يقال: قاته يقوته: إذا أطعمه قوته، والمقيت المقتدر الذي يعطي كل أحد قوته، ومن بلاغات الزمخشري:
إِذَا حَصَّلْتُكَ يَا قُوْتُ هَانَ عَلَيَّ الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ
﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ جمع يوم، أصله: أيوام بوزن أفعال، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما ساكنةً فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ والاستواء: ضدّ الاعوجاج، من قولهم: استوى العود: إذا اعتدل واستقام، وحمل في هذا المقام على معنى القصد والتوجه، يقال: استوى إلى مكانه، كذا كالسهم المرسل إذا توجه إليه توجهًا مستويًا من غير أن يلوي على غيره، والمعنى: وجّه سبحانه قصده وإرادته إلى خلق السماء. ﴿وَهِيَ دُخَانٌ﴾؛ أي: كالدخان، وفي "المفردات": الدخان: العثان المستصحب للهب، والبخار: أجزاء مائية رطبة ترتفع في الهواء مع الشعاعات الراجعة من سطوح المياه، قال الراغب: قوله تعالى: ﴿وَهِيَ دُخَانٌ﴾؛ أي: هي مثل الدخان، إشارة إلى أنها لا تماسك بها. انتهى.
وعبارة "السمين": قوله: ﴿وَهِيَ دُخَانٌ﴾ الدخان: ما ارتفع من لهب النار، ويستعار لما يرى من بخار الأرض عند جدبها، وقياس جمعه في القلة: أدخنة، وفي الكثرة دخيان، مثل: غراب وأغربة وغربان، وقوله: ﴿وَهِيَ دُخَانٌ﴾ في باب التشبيه الصوريّ؛ لأنَّ صورتها صورة الدخان في رأي العين. اهـ، وقال بعضهم: وهي دخان؛ أي: دخان مرتفع من الماء، يعني السماء بخار الماء كهيئة الدخان. انتهى. ﴿قَالَتَا﴾ الأصل في تاء التأنيث المتصلة بالفعل الماضي: السكون، ولكنها هنا لما التقت بالألف ساكنةً.. حركت بالفتح لمناسبة الألف. وقوله: ﴿طَائِعِينَ﴾ فيه، إعلال بالإبدال، أصله: طاوعين، أبدلت الواو همزةً في الوصف، حملًا له في الإعلال على فعله. ﴿بِمَصَابِيحَ﴾ جمع مصباح، والياء فيه: مبدلة من الألف، حيث كسر ما قبلها في صيغة منتهى المجموع. ﴿رِيحًا صَرْصَرًا﴾ من الصر، وهو: البرد أو من الصرير، وفي "القاموس": الصرّة بالكسر، شدّة البرد، أو البرد. كالصر فيهما، وأشدّ الصياح وبالفتح: الشدّة من الكرب والحرب والحرّ، وصرّ يصر: من باب ضرب صرًّا وصريرًا: إذا صوّت وصاح شديدًا كصرصر، وفي "السمين": قوله:
347
﴿صَرْصَرًا﴾ والصرصر: الريح الشديدة، وقيل: هي الباردة من الصرّ وهو البرد، وقيل: هي الشديدة السموم، وقيل: هي المصوّتة، من صرّ الباب؛ أي: سمع صريره، والصرة: الصيحة، ومنه: ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ﴾ وهي الصيحة، قال الراغب: صرصر لفظه من الصرّ، وذلك يرجع إلى الشدة لما في البرودة من التعقد اهـ. ﴿نَحِسَاتٍ﴾ بكسر الحاء جمع نحسة بكسرها، فهو وصفٌ على فعل، وفعله فعل بكسر العين أيضًا، يقال: نحِسَ فهو نَحِسٌ، كفَرِحَ فهو فَرِحٌ، وأشِرَ فهو أَشِرٌ. ﴿عَذَابَ الْخِزْيِ﴾ من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: العذاب الخزي ولهذا قال: ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى﴾ فلو لم يكن من إضافة الموصوف إلى صفته لم يأت بلفظ ﴿أَخْزَى﴾ الذي يقتضي المشاركة. و ﴿أَخْزَى﴾ أصله: أخزي بوزن أفعل، قلبت ياؤه ألفًا؛ لتحركها بعد فتح.
﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ حقيقة الاستحباب: أن يتحرّى الإنسان في الشيء أن يحبّه، واقتضى تعديته بـ ﴿عَلَى﴾ تضمُّنه معنى الإيثار والاختيار، كما في "المفردات"؛ أي: اختاروا الضلالة على الهدى، وأصله: استحببوا بوزن استفعلوا، نقلت حركة الباء الأولى إلى الحاء فسكنت، فأدغمت في الباء الثانية. ﴿الْعَمَى﴾ أصله: العمي، بوزن فعل، فقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ﴾ الهون: مصدر بمعنى الهوان والذلة، يقال: هان هونًا وهوانًا: إذا ذلّ. ﴿أَعْدَاءُ اللَّهِ﴾ جمع عدوٍ، وأصله: أعداو، أبدلت الواو همزة لتطرفها بعد ألف أفعال الزائدة ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ من وزع الثلاثي لا من أوزع الرباعي، كما وهمه بعضهم، يقال: وزعته عن كذا كوضع كففته، وفي معاجم اللغة: وزع يزع من باب فتح، ووزع يزع من باب ضرب، وزع فلان بفلان: كفّه ومنعه، وزع الجيش حبس أولهم على آخرهم، فمعنى ﴿يُوزَعُونَ﴾: يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم. ﴿وَجُلُودُهُمْ﴾ جمع جلد، والجلد: قشر البدن. ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ﴾ أرداكم فيه إعلال بالقلب، أصله: أرديكم بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ وفي "القاموس": العتبى: الرضا، واستعتبه أعطاه العتبى، كأعتبه وطلب إليه العتبى، وفي "المفردات": أعتبته: أزلت عنه عتبة، نحو: أشكيته، ومنه ﴿فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ والاستعتاب: أن يطلب من الإنسان أن يذكر عتبه فيعتب، والعتب: الشدة والأمر الكريه، والغلظة التي يجدها
348
الإنسان في نفسه على غيره، فمعنى ﴿وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا﴾؛ أي: يطلبوا العتبى؛ أي: الرضا والرجوع لهم إلى ما يحبّون جزعًا مما هم فيه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين: ﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾، وبين ﴿طَوْعًا﴾ و ﴿كَرْهًا﴾، وبين ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ لأن التعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور، كقولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير؛ أي: مضروبه.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾ حيث شبّهوا قلوبهم بالشيء المحوي المحاط بالغطاء، المحيط له بحيث لا يصيبه شيء، من حيث تباعدها عن إدراك الحق واعتقاده.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾ حيث شبّهوا أسماعهم بآذان بها صمم، من حيث إنها تمجّ الحق ولا تميل إلى استماعه.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ حيث شبّهوا حال أنفسهم مع رسول الله - ﷺ - بحال شيئين بينهما حجاب عظيم، يمنع من أن يصل أحدهما إلى الآخر ويراه ويوافقه.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾.
ومنها: الترهيب والتنفير من الشرك في قوله: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ إثر ترغيبهم في التوحيد.
ومنها: التحذير والتخويف من منعِ الزكاة حيث جعله من أوصاف المشركين.
ومنها: اختلاف جملتي الصلة بالفعلية والاسمية في قوله: ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٧)﴾ لما أنّ عدم إيتائها متجدد والكفر أمر
349
مستمر، فالأولى تفيد التجدّد، والثانية تفيد الاستمرار.
ومنها: الاستفهام في قوله: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ﴾ للإنكار والتشنيع لكفرهم، وفيه أيضًا جمع المؤكدات الهمزة وإن واللام لتأكيد الإنكار، وتقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة.
ومنها: التشبيه البليغ الصوري في قوله: ﴿وَهِيَ دُخَانٌ﴾؛ أي: كدخان، ففيه تشبيه بليغ صُوري؛ لأنّ صورتها صورة الدخان في رأي العين، والمراد بالدخان البخار الذي تتشكّل منه الطبقات الهوائية، فتسميتها دخانًا تشبيهًا لها به من حيث إنها أجزاء متفرقة غير متواصلة، عديمة النور كالدخان، فإنه ليس له صورة تحفظ تركيبه.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا﴾ فقد شبه تأثير قدرته تعالى فيهما، وتأثرهما عنها بأمر آمر نافذ الحكم يتوجّه نحو المأمور المطيع فيمتثل أمره، فعبّر عن الحالة المشبّهة بما يعبر به عن الحالة المشبّه بها ذكره في "الروح".
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا﴾ حيث أسند القول للأرض والسماء مع كونهما غير عاقلين تنزيلًا لهما منزلة العقلاء، ويجوز أن يكون هذا من باب الاستعارة المكنية، فقد شبّههما بمخلوقين حيّين عاقلين، ثمّ حذف المشبه به وأثبت شيئًا من لوازمه لتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة الطائع، كما تقول: نطقت الحال بكذا بدل دلّت، فيجعل الحال كالإنسان الذي يتكلّم في الدلالة والبرهان، ثم يتخيل له النطق الذي هو من لوازم المشبّه به، وينسب إليه.
ومنها: تنزيل غير العقلاء، منزلة العقلاء الذكور في قوله: ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ حيث جمعه جمع المذكر السالم.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ التفت فيه من الغيبة في قوله: ﴿خَلَقَ﴾ و ﴿قَدَّرَ﴾ إلى التكلم، فقد أسند التزيين إلى ذاته سبحانه لإبراز مزيد العناية بالتزيين المذكور.
ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا﴾ فقد خاطبهم أولًا بقوله: ﴿أَئِنَّكُمْ﴾ فلما لم يأبهوا لخطابه، ولم يستوعبوا نصحه.. التفت من
350
الخطاب إلى الغيبة؛ لأنهم فعلوا الإعراض فليس له إلا أن يعرض عن خطابهم، ليصح التلاؤم ويناسب اللفظ المعنى، وهذا من أرفع أنواع البلاغة وأرقاها، وكم للالتفات من أسرار ذكروها في محلها.
ومنها: العدول عن صيغة المضارع المستقبل، إلى الماضي في قوله: ﴿فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ﴾ للدلالة على أن ما ينذرهم به أمر متحقّق لا مندوحة عنه، وعبارة "الروح": وصيغة الماضي فيه الدلالة على تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر به.
ومنها: الإسناد المجازيّ في قوله: ﴿عَذَابَ الْخِزْيِ﴾ فإنه أضاف العذاب إلى الخزي الذي هو الذلّ والاستكانة، وهو في الأصل صفة المعذّب، ولكنّه جنح إلى وصف العذاب به للمبالغة.
ومنها: المشاركة في قوله: ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى﴾ وجعل الخزي هذه المرّة خبرًا للمشاكلة، على حدّ قول الشاعر:
قَالُوْا: اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ... قُلْتُ: اطْبُخُوْا لِيْ جُبَّةً وَقَمِيْصَا
أي: خيطوا لي، فأطلق الخياطة بلفظ الطبخ، لمشاكلة ما قبله.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ فقد شبّه الكفر بالعمى؛ لأنّ الكافر ضال عن القصد، متعسف الطريق كالأعمى، وشبّه الإيمان بالهدى؛ لأن المؤمن مهتد إلى محجّة القصد وسواء السبيل، ثم حذف المشبّه في كليهما وأثبت المشبّه به الذي هو العمى والهدى.
ومنها: الطباق بين ﴿الْعَمَى﴾ و ﴿الْهُدَى﴾.
ومنها: صيغة جمع العقلاء في خطاب الجلود في قوله: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾ وكذا في قوله: ﴿قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ...﴾ إلخ. لوقوعهما في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء كما مرّ.
ومنها: تخصيص الجلود، لكون شهادتها أعجب من شهادة السمع والبصر، إذ ليس شأنها الإدراك.
ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: ﴿أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ إلى الغيبة في قوله: ﴿فَإِنْ يَصْبِرُوا...﴾ إلخ. للإشعار بإبعادهم عن حيّز الخطاب،
351
والإبقاء في غاية دركات النار.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾.
ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ مع أنّ هذه المحاورة بعد البعث والرجوع إلى الله، لما أنّ المراد بالرجوع ليس مجرد الردّ إلى الحياة بالبعث، بل ما يعمه ويعمّ ما يترتّب عليه من العذاب الخالد المترقّب عند المخاطبة، فغاب المتوقع على الواقع. اهـ "أبو السعود".
ومنها: عطف العامّ على الخاص في قوله: ﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ﴾ إذ المراد بالجلود: الجوارح. مطلقًا، فعطفها على ما قبلها من عطف العام على الخاصّ.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
فائدة: قال الشيخ النيسابوري: خلق الله السماء قبل خلق الأرض؛ ليعلم أنّ فعله خلاف أفعال الخلق؛ لأنه خلق أولًا السقف ثم الأساس، ورفعها على غير عمد؛ دلالةً على قدرته وكمال صنعه، وروي أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين، ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، وخلق السموات وما فيهن يوم الخميس ويوم الجمعة، وخلق آدم في آخر ساعةٍ منه، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، وسمي الجمعة لاجتماع المخلوقات لها وتكاملها، ولمَّا لم يخلق الله في يوم السبت شيئًا.. امتنع بنو إسرائيل من الشغل فيه، كما في "فتح الرحمن".
والظاهر: أنه ينبغي أن يكون المراد به أنه تعالى خلق العالم في مُدّة لو حصل فيها فلك وشمس وقمر.. لكانَ مبدأ تلك المدة أول يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، كما في "حواشي ابن الشيخ". وفي كلام بعضهم أولى الأسبوع الأحد لغةً، وأوله السبت عرفًا؛ أي: في عرف الفقهاء.
واستشكل: هل تسمية الأيام بهذه الأسماء، هي من الله تعالى أو من النبي - ﷺ - أو من العرب؟ وروي: "أن الله تعالى خلق يومًا فسمّاه الأحد، ثم خلق ثانيًا فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثًا فسماه الثلاثاء، بضم الثاء المثلثة وفتحها، ثم خلق رابعًا فسماه الأربعاء، بتثليث الباء الموحّدة، ثم خلق خامسًا فسماه الخميس"، وعلى هذا
352
فالتسمية من الله تعالى، إلا السبت فلم يذكره، وبهذا يندفع ما قال السهيلي: تسمية هذه الأيام طارئة، ولم يذكر الله منها في القرآن إلا يوم الجمعة والسبت، والعرب أخذوا معاني الأسماء من أهل الكتاب، فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعًا لهم، فلم يسمها رسول الله - ﷺ - بالأحد والاثنين إلى غير ذلك، إلا حاكيًا للغة قومه، لا مبتدِئًا بتسميتها. هذا كلام السهيليّ، وعلى هذا فالتسمية من العرب.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
353
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (٢٥) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)﴾.
354
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر (١) الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على الكفر والمعاصي.. أردف ذلك بذكر السبب الذي من أجله وقعوا في الكفر، ثم حكى عنهم جنايةً أخرى، وهي أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن.. أعملوا الحيلة في عدم اسماع الناس له، حتى لا يتدبرّوا معناه، فتشاغلوا حين قراءَته يرفع الأصوات، وإنشاء الأشعار حتى يهوّشوا على القارىء، ويغلبوا على قراءَته، ثم ذكر أنهم حين يقعون في العذاب الشديد، يطلبون أن يروا من كانوا السبب في وقوعهم في الضلال من الجنّ والإنس، ليدوسوهم تحت أقدامهم، انتقامًا منهم على أن صيروهم في هذه الهاوية.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما أسلف القول في وعيد الكفار بما لم يبق بعده في القوس منزع.. أعقبه بهذا الوعد الشريف للمؤمنين، كما هي سنة القرآن من اتباع أحدهما بالآخر، كما جاء في قوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾. قال عطاء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنّ قرناء السوء يدعون إلى المعاصي.. أردف ذلك بذكر حال أضدادهم، الذين يدعون الناس إلى توحيد الله تعالى وطاعته، ثم أعقب هذا بأن الحسنة والسيئة لا يستويان ثوابًا عند الله تعالى، ثمّ أمر رسوله بدفع سفاهات المشركين وجهالاتهم بطريق الحسنى، لما في ذلك من تألّف القلوب وارعواء النفوس عن غيّها وثوبها إلى رشدها، وأرشد إلى أن هذه فعلة لا يتقبّلها إلا الصابرون على احتمال المكاره، ومن لهم حظ عظيم من الثواب عند الله، ثمّ ختم ذلك بتلك النصيحة الذهبية، وهي أنه إذا صرف الشيطان المرء عن شيء مما شرعه الله تعالى.. فليتعوّذ من شرّه، ولا يطعه في أمره، والله سميع لما يقول،
(١) المراغي.
355
عليم بكل ما يفعل، وهو المجازي له على ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمَّا ذكر في الآيات السابقة. أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى.. (١) أردفه بذكر الدلائل على وجوده تعالى وقدرته وحكمته؛ تنبيهًا إلى أنَّ الدعوة إلى الله تقرير الدلائل على ذاته وصفاته، ثمّ ذكر منها الدلائل الفلكية، وهي الليل والنهار والشمس والقمر، ثمّ أتبعها بآيات أرضية تشاهد رأْي العين في كل حين؛ وهي حال الأرض حين خلوِّها من المطر والنبات، ثم حالها بعد نزول المطر، فهي تنتعش بعد أن كانت ميتةً، وتهتزّ بعد أن كانت ساكنةً، والذي أحياها هو الذي يحيي الموتى، إنه على كل شيء قدير.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه (٢) لما بيّن أنّ الدعوة إلى دين الله أسمى المقاصد، وأنها إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد وصحة البعث يوم القيامة.. أعقب هذا بتهديد من ينازع في تلك الدلائل بإلقاء الشبهات، ثم هدّدهم بضروب من التهديد، فهدّدهم بقوله: ﴿لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ وبقوله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وبقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ...﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما هدَّد الملحدين في آياته.. سلّى رسوله على ما يصيبه من أذى المشركين وطعنهم في كتابه، وحثّه على الصبر، وأن لا يضيق صدره بما حكاه عنهم من نحو قولهم: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾. وقولهم: ﴿فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ فما قاله أولئك الكفار في شأنه وشأن ما أنزل إليه من القرآن.. لا يعدو شأن ما قاله أمثالهم من الأمم السابقة، ثم أجاب عن شبهة قالوها، وهي: هلا نزل القرآن بلغة العجم، بأنه لو نزل كما يريدون.. لأنكروا أيضًا، وقالوا: ما لنا ولهذا، ثمَّ ذكر أنَّ القرآن هدايةٌ وشفاء للمؤمنين، والذين لا يؤمنون به في آذانهم صمم عن سماعه، ثم ذكر أنَّ الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم، فقومك ليسوا ببدع فيها بيت الأمم، ثم أبان أن المرء وما عمل، فمن أحسن فلنفسه، ومن
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
356
أساء.. فعليها، ولا يظلم ربك أحدًا.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن المنذر عن بشير بن تميم: أنها نزلت في أبي جهل وعمَّار بن ياسر.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: قالت قريش: لو أنزل هذا القرآن أعجميًا وعربيًا، فأنزل الله تعالى: ﴿لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ الآية، وأنزل الله بعد هذه الآية فيه بكل لسان، قال ابن جرير: والقراءة على هذا أعجميّ بلا استفهام.
التفسير وأوجه القراءة
٢٥ - ﴿وَقَيَّضْنَا﴾؛ أي: قدّرنا وهيّأنا وسبّبنا وقرنّا ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لكفار مكة وسلّطنا عليهم في الدنيا ﴿قُرَنَاءَ﴾ جمع قرين؛ أي: أخدانًا وأصحابًا من شياطين الإنس والجن، وأصدقاء يستولون عليهم استيلاء القيض على البيض، وهو القشر الأعلى، وهو حجة على القدرية، فإن هذا يدل على التخلية بينهم وبين التوفيق، لأجله صاروا قرناءهم، وهم لا يقولون بموجب الآية ﴿فَزَيَّنُوا﴾؛ أي زيّن القرناء وحسّن ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لكفار مكة، أو لجميع الكفرة ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ من أمور الدنيا وشهواتها، وحملوهم على الوقوع في معاصي الله بانهماكهم فيها ﴿وَ﴾ زيّنوا لهم ﴿مَا خَلْفَهُمْ﴾ من أمور الآخرة، فقالوا: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار، ولا مكروه عوض، وقال الزجاج: ما بين أيديهم ما عملوه، وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه، وروي عن الزجاج أيضًا أنه قال: ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، وما خلفهم من أمر الدنيا، وعلى القول الأول جعل أمر الدنيا بين أيديهم، كما يقال: قدَّمت المائدة بين أيديهم، والآخرة لما
(١) لباب النقول.
357
كانت تأتيهم بعد هذا جعلت خلفهم، كما يقال لمن يجيء بعد الشخص: أنه خلفه، وهذا هو الذي تقتضيه ملاحظة الترتيب الوجوديّ، وقيل: ما بين أيديهم: الآخرة؛ لأنها قدّامهم وهم متوجّهون إليها، وما خلفهم الدنيا لأنهم يتركونها خلفهم، وفي "عرائس البيان": زيَّنت النفس الشهوات، والشياطين التسويف والإمهال، وهذا ما بين أيديهم وما خلفهم.
وقال الجنيد: لا تألف النفس الحق أبدًا، وقال ابن عطاء: النفس قرين الشيطان وإلفه، ومتبعه فيما يشير إليه مفارق للحق مخالف له، لا يألف الحق ولا يتبعه، قال الله تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ من طول الأمل، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ من نسيان الذنوب. انتهى.
﴿وَحَقَّ﴾؛ أي: وجب وثبت ﴿عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: على كفار مكة ﴿الْقَوْلُ﴾؛ أي: قول العذاب وقضاؤه وكلمته؛ أي: تقرّر عليهم كلمة العذاب، وتحقق موجبها ومصداقها، وهي قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)﴾، وقوله: ﴿فِي أُمَمٍ﴾ حال من الضمير في ﴿عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: حالة كونهم كائنين في جملة أمم، وقيل: ﴿فِي﴾ بمعنى مع، وهذا كما ترى صريح في أنّ المراد بأعداء الله فيما سبق المعهودون من عاد وثمود، لا الكفار من الأولين والآخرين، كما قيل. وقوله: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ صفة لـ ﴿أُمَمٍ﴾؛ أي: مع أمم من الأمم الكافرة التي قد خلت ومضت ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ على الكفر والعصيان، كدأب هؤلاء الكفار، وقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ تعليل لاستحقاقهم العذاب، والضمير للأولين والآخرين، وأصل الخسارة: إفساد الاستعداد الفطري، كإفساد بعض الأسباب البيضة، فإنها إذا فسدت.. لم ينتفع بها.
وفي "كشف الأسرار": إذا أراد الله بعبد خيرًا.. قيّض له قرناء خير يعينونه على الطاعة ويدعونه إليها، وإذا أراد الله بعبد سوءًا.. قيض له أخدان سوء يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها، ومن ذلك الشيطان، فإنه مسلّط على الإنسان بالوسوسة، وشر من ذلك النفس الأمارة بالسوء، تدعو اليوم إلى ما فيه هلاكها وهلاك العبد، وتشهد غدًا عليه بما دعته إليه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الرابحين لا من الخاسرين، وأن يكون
358
عونًا لنا على النفس وإبليس وسائر الشياطين، ويجعلنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
ومعنى الآية (١): أي وسلَّطنا عليهم أخدانًا وأعوانًا من شياطين الجنّ والأنس، فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا، من الضلالة والكفر واتباع الشهوات، وما خلفهم من أمر الآخرة، فألقوا إليهم أن لا جنّة ولا نار، ولا بعث ولا حساب، إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، فسهل عليهم فعل ما يشتهون، وركوب كل ما يتلذذون به من الفواحش، ووجب عليهم من العذاب ما وجب على الذين كفروا من قبلهم، ممن فعلوا فعلهم، ثمّ علّل استحقاقهم للعذاب، فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾؛ أي: لأنَّهم استووا جميعًا في الخسار والدمار، واستحقوا اللعن والخزي في الحياة الدنيا والآخرة.
٢٦ - وبعد أن أخبر عن كفر قوم هود وصالح وغيرهم.. أخبر عن مشركي قريش، وأنهم كذبوا بالقرآن، فقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله من رؤساء المشركين كأبي جهل وأضرابه لأعقابهم وأشقيائهم، أو قال بعضهم لبعض: ﴿لَا تَسْمَعُوا﴾؛ أي: لا تستمعوا ﴿لِهَذَا الْقُرْآنِ﴾ ولا تنصتوا له، وقيل: معنى لا تسمعوا لا تطيعوا، يقال: سمعت لك؛ أي: أطعتك ﴿والْغَوْا﴾؛ أي: ائتوا باللغو والباطل من الكلام الذي لا طائل تحته ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في حال قراءة القارىء له، وعارضوه (٢) بالخرافات، وهي الهذيان والأحاديث التي لا أصل لها، مثل: قصة رستم وإسفنديار، وبإنشاء الأرجاز والأشعار، وبالتصدية والمكاء؛ أي: بالتصفيق والصفير، وارفعوا أصواتكم بها لتشوشوا على القارىء، فيختلط عليه ما يقرؤُه ﴿لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾؛ أي: تغلبونه على قراءته، فيترك القراءة، ولا يتمكن السامع أيضًا من سماعه، أرادوا بذلك التلبيس والتشويش والأذية، وأيضًا خافوا من أنه لو سمعه الناس.. لآمنوا به، وكان ذلك غالبًا شأن أبي جهل وأصحابه وقال أبو العالية وقَعُوا فيه وعَيّبوه، وقال الضحاك: أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول:
وقرأ الجمهور والفراء (٣): بفتح الغين مضارع لَغِي بكسرها، أو من لغَى بالفتح يلغَى بالفتح أيضًا، كما حكاه الأخفش.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
وقرأ عيسى بن عمر وقتادة وأبو حيوة وابن أبي إسحاق والزعفراني بخلاف عنهما، والجحدري وبكر بن حبيب السهمي كذا في "كتاب ابن عطية" وفي "كتاب اللوامح": وأما في "كتاب ابن خالويه" فعبد الله بن بكر السهمي؛ أي: قرؤُوا: بضم الغين، مضارع لغَى بفتحها وهما لغتان، وقال الأخفش: يقال لَغَى يَلْغَى بفتح الغين، وقياسه الضم، لكنه فتح لأجل حرف الحلق، فالقراءة الأولى من يَلْغَى، والثانية من يَلْغُو، وقال صاحب "اللوامح": ويجوز أن يكون الفتح من لغى الشيء يلغى به: إذا رمى به، فيكون ﴿فِيهِ﴾ بمعنى: به؛ أي: ارموا به وانبذوه، وأما معنى الضم؛ أي: أدخلوا فيه اللّغو، واللّغْوُ (١) من الكلام، ما لا يعتد به، وهو الذي لا عن روية وفكر، فيجري مجرى اللغاء، وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور.
والمعنى: أي وقال الذين كفروا بالله ورسوله: لا تنصتوا لسماع هذا القرآن وعارضوه باللغو والباطل، وبإنشاد الشعر والأراجيز، حتى تهوشوا على القارىء، لعلكم تغلبون على قراءَته وتميتون ذكره، وقد كان النبي - ﷺ - وهو بمكة، إذا قرأ القرآن.. يرفع صوته، فكان المشركون يطردون الناس عنه، ويقولون: الغوا فيه بالمكاء والصفير وإنشاد الشعر، قال ابن عباس: قال أبو جهل: إذا قرأ محمد.. فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول.
٢٧ - ثم أوعد الكفار بالعذاب الشديد، فقال: ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: فوعزتي وجلالي لنذيقن هؤلاء القائلين واللاغين، أو جميع الكفرة، وهم داخلون فيه دخولًا أوليًا ﴿عَذَابًا شَدِيدًا﴾ في الدنيا، لا يقادر قدره، كما دل عليه التنكير الوصف، وهذا تهديد شديد؛ لأن لفظ الذوق إنما يذكر في القدر القليل، يؤتى به لأجل التجربة، وإذا كان ذلك الذوق، وهو قدر قليل عذابًا شديدًا.. فقس عليه ما يعده ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ﴾ في الآخرة ﴿أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي (٢): جزاء سيئات أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ، فإذا كانت أعمالهم أسوأ.. كان جزاؤها كذلك، فالأسوأ قصد به الزيادة المطلقة، وإنما أضيف إلى ما عملوا؛ للبيان والتخصيص، أو المعنى (٣): ولنجزينهم سيئات أعمالهم التي بعضها أسوأ من بعض، بحسب تفاوت مراتبها في الإثم، وأفعل التفضيل ليس على بابه.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
وفي "فتح الرحمن": المراد به سيئة، إذ لا يختص جزاؤهم بأسوأ عملهم، فلا يجازيهم على محاسن أعمالهم، كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام، وقرى الأضياف؛ لأنها محبطة بالكفر. أو المعنى (١): ولنجزينهم أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم، وهو الكفر، وعلى غيره بحسب ما يليق به. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أبا جهل وأصحابه ﴿عَذَابًا شَدِيدًا﴾ في الدنيا يوم بدر ﴿أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ في الآخرة.
والمعنى: أي فلنذيقن الكافرين عذابًا لا يحاط بوصفه، ولنجازينهم بأسوأ أعمالهم؛ لأن أعمالهم الحسنة كصلة الأرحام وإكرام الضيف قد أحبطها الكفر، ولم يبق لهم إلا القبيح، ومن ثم لم يجازوا إلا على السيئات، وفي هذا تعريض بمن لا يخشع ولا يتدبر حين سماع القرآن، وتهديد ووعيد لمن يصدر منه حين سماع القرآن ما يهوش على القارىء، ويخلط عليه في القراءة.
٢٨ - ثم بين العذاب الشديد الذي يحيق بهم، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من الجزاء، وهو مبتدأ، خبره: قوله: ﴿جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ﴾؛ أي: جزاء معد لأعدائه ﴿النَّارُ﴾ عطف بيان لـ ﴿الجزاء﴾ أو بدل منه، أو ذلك (٢) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الأمر ذلك على أنه عبارة عن مضمون الجملة، لا عن الجزاء، وما بعده: جملة مستقلة مبينة لما قبلها؛ يعني: أن ﴿الجزاء﴾ مبتدأ و ﴿النَّارُ﴾: خبره، أو ﴿النَّارُ﴾: مبتدأ، خبره: قوله: ﴿لَهُمْ﴾، وجملة قوله: ﴿فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ﴾: حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور؛ أي: النار كائنة لهم حالة كونها موصوفة يكون دار الخلد والإقامة المؤبدة فيها؛ أي: هي بعينها دار إقامتهم، لا انتقال لهم منها، على أن ﴿فِي﴾ للتجريد لا للظرفية، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله؛ مبالغةٌ لكماله فيها، كما يقال: في البيضة عشرون منًا من حديد، وقيل: هي على معناها؛ أي: للظرفية، والمراد: أن لهم في النار المشتملة على الدور دارًا مخصوصةً هم فيها خالدون، ومعنى دار الخلد: دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾: منصوب (٣) بفعل مقدر؛ أي: يجزون جزاءً، و ﴿الباء﴾ الأولى: متعلقة بي ﴿جَزَاءً﴾ والثانية: بـ ﴿يَجْحَدُونَ﴾ وقدمت عليه؛ لمراعاة الفواصل؛ أي: بسبب
(١) النسفي.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة، أو يلغون فيها، وذكر الجحود؛ لكونه سببًا للغو، إقامةً للسبب مقام المسبب؛ أي: يجزون جزاءً بسبب جحدهم بآيات الله، قال مقاتل: يعني القرآن، يجحدون أنه من عند الله.
والمعنى: أنهم مخلّدون فيها أبدًا، لا انقطاع لعذابها ولا انتقال منها، فهي جزاء لهم على جحودهم لآياتنا، واستكبارهم عن سماعها.
٢٩ - ثم بين أنهم حين وقوعهم في العذاب الشديد يطلبون الانتقام ممن أضلوهم من شياطين الإنس والجن، فقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: قالوا وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب، وذكره بلفظ الماضي؛ تنبيهًا على تخقق وقوعه؛ أي: يقولون: يا ﴿رَبَّنَا﴾ ويا مالك أمرنا ﴿أَرِنَا﴾؛ أي: أبصرنا الشيطانين ﴿اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا﴾؛ أي: حملانا على الضلال بالتسويل والتزيين ﴿مِنَ﴾ نوعي ﴿الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ لأن الشيطان بين جني وإنسي، بدليل قوله تعالى: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ وقوله تعالى: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ ويقال: أحدهما قابيل بن آدم؛ لأنه أول من سن القتل بغير حق، والذي من الجن إبليس؛ لأنه أول من سن الكفر والشرك، فيكون معنى: ﴿أَضَلَّانَا﴾: سنا لنا الكفر والمعصية، كما في "عين المعاني" ويشهد لهذا القول الحديث المرفوع: "ما من مسلم يقتل ظلمًا.. إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمه؛ لأنه أول من سن القتل" أخرجه الترمذي وغيره، ويروى: أن قابيل شدت ساقاه بفخذيه، يدور مع الشمس حيث دارت، يكون في الشتاء في حظيرة ثلج، وفي الصيف في حظيرة نار. وقيل: المراد: أنهم طلبوا من الله سبحانه أن يريهم من أضلهم من فريق الجن والإنس، من الشياطين الذين كانوا يسولون لهم ويحملونهم على المعاصي، ومن الرؤساء الذين كانوا يزينون لهم الكفر والمعاصي.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَرِنَا﴾ بكسر الراء، بمعنى: أبصرنا، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر السوسي عن أبي عمرو والمفضل: ﴿أرنا﴾ بسكون الراء تخفيفًا، كفَخْذٍ في فَخِذَ بمعنى أعطِنا هُما، وقرأ الدوري: باختلاس كسرة الراء. وقال الخليل: إذا قلت: أرني ثوبك بكسر الراء.. فمعناه: أبصرنِيهِ، وبالسكون: أعطنيه، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، وشدد ابن كثير النون من ﴿اللذين﴾
(١) البحر المحيط وغيره.
﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا﴾؛ أي: ندسُّهما بأقدامنا لنتشفى وننتقم منهما، أو نجعلهما. تحت أقدامنا في النار ﴿لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾ فيها مكانًا، وأشد عذابًا منا، أو ليكونا من الأذلين المهانين.
وخلاصة المعنى: ويقول الكافرون يوم القيامة، وهم يتقلبون في العذاب: ربنا أرنا شياطين الإنس والجن الذين أوقعونا في الضلال، نَدُسُّهم تحت أقدامنا، انتقامًا منهم ومهانةً لهم، أو ليكونا مباشرين للنار، ويكونا وقايةً بيننا وبينها، فتخفَّف عنا حرارتها نوعَ خِفةٍ.
٣٠ - ثم لما ذكر سبحانه عقاب الكافرين وما أعده لهم.. ذكر حال المؤمنين وما أنعم عليهم به، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ وحده لا شريك له، اعترافًا بربوبيته، وإقرارًا بوحدانيته، فربُّنا الله من باب: صديقي زيد، يفيدُ الحصرَ ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾؛ أي: ثبتوا على الإقرار بقولهم: ﴿رَبُّنَا اللَّهُ﴾ ومقتضياته بأن لا تزل قدمهم عن طريق العبودية قلبًا وقالبًا ولا تتخطاه، وفيه يندرج كل العبادات والاعتقادات بصفة الدوام إلى وقت الوفاة، فـ ﴿ثُمَّ﴾ للتراخي في الزمان، أو في الرتبة، فإن الاستقامة لها الشأن كله؛ يعني: أن المنتهى وهي الاستقامة، لكونه مقصودًا أعلى حالًا من المبدأ، وهو الإقرار واستقامة الإنسان: لزومه للمنهج المستقيم.
وفي قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾: تعريض لليهود والنصارى؛ لأنهم لم يستقيموا على دينهم، حتى قالوا: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ و ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ ونحو ذلك، وكفر بنبوة محمد - ﷺ -. ومن الاستقامة: أن لا يرى المرء النفع والضر إلا من الله، ولا يرجو من أحد دون الله، ولا يخاف أحدًا غيره.
وفي "التأويلات النجمية": تشير الآية إلى يوم الميثاق، لما خوطبوا بقوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىَ﴾؛ أي: ربنا الله، وهم الذريات المستخرجة من ظهر آدم عليه السلام، أقروا بربوبيته ثم استقاموا على إقرارهم بالربوبية، ثابتين على أقدام العبودية لما أخرجوا إلى عالم الصورة، ولهذا ذكر بلفظ ﴿ثُمَّ﴾؛ لأنه للتراخي، فأقروا في عالم الأرواح، ثم استقاموا في عالم الأشباح، وهم المؤمنون، بخلاف المنافقين والكافرين، فإنهم أقروا ولم يستقيموا على ذلك.
363
وقال جماعة من الصحابة والتابعين: معنى الاستقامة: إخلاص العمل لله، وقال قتادة وابن زيد: ثم استقاموا على طاعة الله. وقال الحسن: استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته، وقال مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا. وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا. وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله. وقال الفضيل بن عياض: زهدوا في الفانية، ورغبوا في الباقية.
﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ من جهته تعالى، يمدونهم فيما يعرض لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام، كما أن الكفرة يمدّهم ما قيّض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح، وكذا تتنزل عند الموت بالبشرى، وفي القبر وعند البعث إذا قاموا من قبورهم، ﴿أنْ﴾ مفسرة، بمعنى؛ أي: أو مخففة من الثقيلة، والأصل: بأنه، و ﴿الهاء﴾: ضمير الشأن أو المصدرية، ولا على الوجهين الأولين: ناهية، وعلى الثالث: نافية؛ أي: يتنزلون متلبسين بهذه البشارة، وهي ﴿لا تخافوا﴾، ما تقدمون عليه من أمر الآخرة، فلا ترون مكروهًا فإن الخوف غم يلحق الإنسان لتوقع المكروه ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ على ما خلفتم من أهل وولد، فإن الله تعالى يخلفكم عليهم بخير، ويعطيكم في الجنة أكثر من ذلك وأحسن، ويجمع بينكم وبين أهليكم وأولادكم المسلمين في الجنة، فإن الحزن غم يلحق من فوات نافع أو حصول ضار. وفي قراءة عبد الله: ﴿لا تخافوا﴾ بإسقاط ﴿أنْ﴾؛ أي: تتنزل عليهم الملائكة قائلين: ﴿لا تخافوا ولا تحزنوا﴾. وفي "التأويلات النجمية": الخوف (١) إنما يكون في المستقبل من الوقت، وهو بحلول مكروه أو فوات محبوب، والملائكة يبشرونهم بأن كل مطلوب لهم سيكون، وكل محذور لهم لا يكون، والحزن من حزونة الوقت، والذي هو راض بجميع ما يجري مستسلم للأحكام الأزلية، فلا حزونة في عيشه، بل من يكون قائمًا بالله، وهائمًا في الله، دائمًا على الله، لا يدركه الخوف والحزن، والملائكة يبشرونهم أن لا تخافوا ولا تحزنوا على فوات العناية في السابقة. انتهى.
وقال مجاهد (٢): لا تخافوا الموت ولا تحزنوا على أولادكم، فإن الله
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
364
خليفتكم عليهم. وقال عطاء: لا تخافوا رد ثوابكم، فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم، فإنّي أغفرها لكم، والظاهر: عدم تخصيص تنزل الملائكة عليهم بوقت معين، وعدم تقييد نفي الخوف والحزن بحالة مخصوصة، كما يشعر به حذف المتعلق في الجميع ﴿وَأَبْشِرُوا﴾؛ أي: سروا وافرحوا ﴿بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ بها في الدنيا على ألسنة الرسل، فإنكم واصلون إليها، مستقرون بها، خالدون في نعيمها.
٣١ - وهذا من بشارتهم في أحد المواطن الثلاثة، وعن ثابت: بلغنا إذا انشقت الأرض يوم القيامة.. ينظر المؤمن إلى حافظيه قائمين على رأسه، يقولان له: لا تخف ولا تحزن، وأبشر بالجنة الموعودة، وأنك سترى اليوم أمورًا لم تر مثلها، فلا تهولنك، فإنما يراد بها غيرك ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وهذا من بشارتهم (١) في الدنيا؛ أي: نحن أعوانكم في أموركم، نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم، بدل ما كانت الشياطين تفعل بالكفرة، ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المستمرين على الطاعات، من أن ذلك بتوفيق الله وتأييده لهم بواسطة الملائكة، قال جعفر - رحمه الله تعالى -: من لاحظ في أعماله الثواب والأغراض.. كانت الملائكة أولياءه، ومن عملها على مشاهدته تعالى.. فهو وليه؛ لأَنه يقول: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ و ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ﴾ ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ نمدكم بالشفاعة، ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من التعادي والتخاصم. وقيل: هذا من قول الله تعالى؛ أي: نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة، ومن كان الله وليه.. فاز بكل مطلب، ونجا من كل مكروه. وقال مجاهد: تقول الملائكة لهم: نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة.. قالوا لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. وقال السدي: نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة.
والمعنى (٢): أي نحن أعوانكم في أمور دنياكم، نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم في دنياكم، وكذلك نكون معكم في الآخرة، نؤمنكم من الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ويوم البعث والنشور، ونجاوز بكم
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم.
﴿وَلَكُمْ﴾ أيها المؤمنون لا لغيركم من الأعداء ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الآخرة ﴿مَا تَشْتَهِي﴾ وتحب ﴿أَنْفُسُكُمْ﴾ من صنوف اللذات وفنون النعم ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾؛ أي: ما تتمنون وتطلبون، افتعال من الدعاء بمعنى الطلب، والفرق بين الجملتين: أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبونه، أعم من أن يكون مما تشتهيه أنفسهم أو لا، إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهًى للنفس، كالفضائل العلمية ونحوها، وعدم الاكتفاء بعطف ﴿مَا تَدَّعُونَ﴾ على ﴿مَا تَشْتَهِي﴾ للإشباع في البشارة، والإيذان باستقلال كل منهما،
٣٢ - وقوله: ﴿نُزُلًاُ﴾ حال من ﴿مَا تَدَّعُونَ﴾؛ أي: من الموصول، أو من ضميره المحذوف، تقديره: ما تدعونه مفيدة لكون ما يدعونه ويتمنونه بالنسبة إلى ما يعطون من عظائم الأمور، كالنزل، وهو: ما يهيأ للنزيل؛ أي: الضيف من الرزق، كأنه قيل: وثبت لكم فيها الذي تدعونه حال كونه كالنزل للضيف، وأما أصل كرامتكم فمما لا يخطر ببالكم، فضلًا عن الاشتهاء أو التمني.
وقرأ الجمهور: ﴿نُزُلًا﴾، بضمتين، وقرأ أبو حيوة بإسكان الزاي؛ أي: حالة كون ما تدعونه نزلًا؛ أي: رزقًا كائنًا ﴿مِنْ﴾ رب ﴿غَفُورٍ﴾ للذنوب العظام، مبدل للسيئات بالحسنات ﴿رَحِيمٍ﴾ بالمؤمنين من أهل الطاعات بزيادة الدرجات والقربات.
وفي "التأويلات النجمية": ﴿نُزُلًا﴾؛ أي: فضلًا وعطاءً وتقدمةً لما سيديم إلى الأبد من فنون الأعطاف وأصناف الألطاف، وذلك لأن عطاء الله تعالى يتجدد في كل آن، خصوصًا لأهل الاستقامة من أكامل الإنسان، ويظهر في كل وقت وموطن، ما لم يظهر قبله وفي غيره، ويكون ما في الماضي كالنزل لما يظهر في الحال، ومن هنا قالوا: ما ازداد القوم شربًا إلا ازدادوا عطشًا، وذلك لأنه لا نهاية للسير إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة. انتهى.
حكي: أن يحيى بن معاذ الرازي - رحمه الله - كتب إلى أبي يزيد البسطامي - رحمه الله -: سكرت من كثرة ما شربت من كأس حبه، فكتب إليه أبو يزيد:
شَرِبْتُ الْحُبَّ كَاسًا بَعْدَ كَأْسٍ فَمَا نَفِدَ الشَّرَابُ وَلَا رُويْتُ
٣٣ - ﴿وَمِن﴾ للاستفهام الإنكاري، وهو مبتدأ، خبره: ﴿أَحسَنُ﴾. و ﴿قَولَا﴾ تمييز
366
محول عن المبتدأ؛ أي: وقول من أحسن ﴿مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ﴾؛ أي: من قول من دعا غيره إلى توحيده وطاعته ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ فيما بينه وبين ربه ﴿وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ ابتهاجًا وسرورًا بأنه منهم، واتخاذًا للإسلام دينًا ونحلةً، إذ لا يقبل طاعةً بغير دين الإِسلام، من قولهم: هذا قول فلان؛ أي: مذهبه، لا أنه تكلم بذلك فحسب.
وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن نوح عن قتيبة الميال: ﴿إنى﴾ بنون واحدة مشددة، والجمهور: ﴿إنَّنِى﴾ بها وبنون الوقاية. وفيه رد على من يقول: أنا مسلم - إن شاء الله - فإنه تعالى قال مطلقًا غير مقيد بشرط إن شاء الله. وقال علماء العقائد: إن قاله للشك.. فهو كفر لا محالة، وإن كان للتأدب مع الله، وإحالةً للأمور إلى مشيئة الله تعالى أو للشك في العاقبة والمآل، لا في الآن والحال، أو للتبرك بذكر الله، أو للتبرُّؤ من تزكية نفسه، والإعجاب بحاله.. فجائز، لكن الأولى تركه لما أنه يوهم الشك.
والمعنى: لا أحد أحسن قولًا ممن جمع بين هذه الخصال الثلاث، وحكم الآية عام لكل من جمع ما فيها من الخصال الحميدة، التي هي الدعوة إلى الله والعمل الصالح، وهو تأدية ما فرضه الله عليه مع اجتناب ما حرمه عليه، والقول المذكور؛ أي: كونه من المسلمين دينًا لا من غيرهم، فلا شيء أحسن منه، ولا أوضح من طريقه، ولا أكثر ثوابًا من عمله، وإن نزلت في رسول الله - ﷺ -، أو في أصحابه - رضي الله عنهم - أو في المؤذنين، فإنهم يدعون الناس إلى الصلاة، فالأولى حمل الآية على العموم، كما يقتضيه اللفظ، ويدخل فيها من كان سببًا في نزولها دخولًا أوليًا.
فإن قلت: السورة بكاملها مكية بلا خلاف، والأذان إنما شرع بالمدينة.
قلت: يجعل هذا من باب ما تأخر حكمه عن نزوله، وكم في القرآن من هذا النوع، وإليه ذهب بعض الحفاظ كابن حجر وغيره.
فائدة: وأول من أذن في السماء جبرائيل (١)، ثمَّ ميكائيل عليهما السلام عند
(١) روح البيان.
367
البيت المعمور، وأول من أذن في الإِسلام بلال الحبشي - رضي الله عنه - وكان أول مشروعيته في أذان الصبح، قالت النوار أم زيد بن ثابت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن فوقه من أول ما أذن، إلى أن بني رسول الله - ﷺ - مسجده، فكان يؤذن بعده على ظهر المسجد، وقد رفع له شيء فوق ظهره، وأول من أقام عبد الله بن زيد الأنصاري صاحب رؤيا الأذان، وزاد بل الذي أذان الصبح بعد الحَيَّعَلات: الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرها النبي - ﷺ -؛ أي: اليقظة الحاصلة للصلاة، خير من الراحة الحاصلة بالنوم، ويقول المجيب عنده: صدقت وبالخير نطقت، وأول من زاد الأذان الأول في الجمعة عثمان - رضي الله عنه - زاده ليؤذن أهل السوق فيأتون إلى المسجد، وكان في زمانه - ﷺ - وزمان أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أذان واحد حين يجلس الإِمام على المنبر، وأول من رزق المؤذنين عثمان - رضي الله عنه - والجهر في الأذان واجب لإعلام الناس، ولذا سن أن يكون في موضع عال، ولو أذن لنفسه.. خافت، وأما التكبيرات في الصلاة.. فالمؤذن يرفع صوته لتبليغ التكبير لمن بَعُدَ عن الإِمام من المقتدين، فإن كان في صوت الإِمام كفاية.. فالتبليغ مكروه، كما في "إنسان العيون".
يقول الفقير: أما سر عدد المنارات في الحرم النبوي وهي اليوم خمس.. فإشارة إلى الأوقات الخمسة، فهو صورة الدعوات الخمس في الساعات الأربع والعشرين المشتمل عليها الليل والنهار، وأول من قدر الساعات الاثنتي عشرة نوح عليه السلام في السفينة، ليعرف بها مواقيت الصلوات.
٣٤ - وبعد أن ذكر (١) محاسن الأعمال التي بين العبد وربه، ذكر محاسن الأعمال التي بين العباد بعضهم مع بعض، ترغيبًا لرسول الله - ﷺ - في الصبر على أذى المشركين، ومقابلة إساءتهم بالإحسان، فقال: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ﴾ التي يرضي الله بها ويثيب عليها ﴿وَلَا السَّيِّئَةُ﴾ التي يكرهها الله ويعاقب عليها، ﴿لا﴾ الثانية: مزيدة لتأكيد النفي؛ أي: لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة في الجزاء وحسن العاقبة، وقد يكون المعنى: ولا تستوي دعوة الرسول إلى الدين الحق بالطرق المثلى، والصبر على سفاهة الكفار وإذايتهم وترك الانتقام منهم، وما أظهروه من
(١) المراغي.
368
الغلظة والفظاظة في قولهم: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾. وقولهم: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾.
والخلاصة (١): أن فعلك أيها الرسول حسنة، وأن فعلهم سيئة، فإنك إذا صبرت على أذيتهم وجهالتهم، وتركت الانتقام منهم ولم تلتفت إلى سفاهتهم.. فقد استوجبْتَ التعظيم في الدنيا، والثواب في الآخرة، وهم بالضد من ذلك، فلا يكن إقدامهم على تلك السيئة مانعًا لك من الاشتغال بهذه الحسنة.
وإذا فسرت (٢) ﴿الْحَسَنَةُ﴾ و ﴿السَّيِّئَةُ﴾ بالجنس، على أن يكون المعنى: لا تستوي الحسنات، إذ هي متفاوتة في أنفسها كشعب الإيمان التي أدناها إماطة الأذى، ولا السيئات لتفاوتها أيضًا، من حيث إنها كبائر وصغائر.. لم تكن زيادة ﴿لَا﴾ الثانية لتأكيد النفي على ما أشار إليه في "الكشاف".
ولا وجه لتخصيص ﴿الْحَسَنَةُ﴾ بنوع من أنواع الطاعات (٣)، وبتخصيص ﴿السَّيِّئَةُ﴾ بنوع من أنواع المعاصي، فإن اللفظ أوسع من ذلك. وقيل: الحسنة: التوحيد، والسيئة: الشرك. وقيل: الحسنة: المداراة، والسيئة: الغلظة. وقيل: الحسنة: العفو، والسيئة: الانتصار. وقيل: الحسنة: العلم، والسيئة: الفحش.
ثم ذكر بعض الحسنات، ووضحها بذكر بعض ضروبها، فقال: ﴿ادْفَعْ﴾ أيها الرسول السيئة حين اعترضتك من بعض أعاديك ﴿بـ﴾ الخصلة ﴿الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ما يمكن دفعها به من الحسنات، كالإحسان إلى من أساء، فإنه أحسن من العفو.
والمعنى: أي ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطرق، فقابل إساءتهم بالإحسان إليهم، والذنوب بالعفو، والغضب بالصبر والإغضاء عن الهفوات واحتمال المكاره، فإنك إن صبرت على سوء أخلاقهم مرةً بعد أخرى، ولم يقابل سفههم بالغضب، ولا أذاهم بمثله.. استحيوا من ذميم أخلاقهم، وتركوا قبيح أفعالهم.
وكان - ﷺ - يقول: "صِلْ من قطعك، واعفُ عمن ظلمك، وأحسنْ إلى من أساء
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
369
إليك"، وما أمر - ﷺ - غيره بشيء إلا بعد التخلق به وإخراجه (١) مخرج الجواب عن سؤال من قال: كيف أصنع مع أن الظاهر أن يقول: ﴿فادفع﴾ بـ ﴿الفاء﴾ السببية للمبالغة؟ ولذلك وضع ﴿أَحْسَنُ﴾ موضع الحسنة؛ لأنه أبلغ في الدفع بالحسنة، فإن من دفع بالحسنى.. هان عليه الدفع بما دونها.
ثم بين نتائج الدفع بالحسنى، فقال: ﴿فَإِذَا﴾ فعلت الدفع المأمور به.. صار ﴿الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ﴾ وشحناء؛ ﴿كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾؛ أي: صديق قريب. قال مقاتل: نزلت هذه في أبي سفيان بن حرب، وذلك أنه لان للمسلمين بعد الشدة؛ أي: شدة عداوته للنبي - ﷺ - بالمصاهرة التي جعلت بينه وبين النبي - ﷺ -، ثم أسلم فصار وليا بالإِسلام، حميمًا بالمصاهرة، والأولى حمل الآية على العموم؛ أي: فإذا فعلت ذلك.. صار الذي بينك وبينه عداوة في الدين، كأنه ولي في الدين حميم؛ أي: قريب في النسب؛ أي: صار العدو كالصديق، والبعيد عنك كالقريب منك.
والمعنى (٢): أي إنك إن فعلت ذلك.. انقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغض إلى المودة، قال عمر - رضي الله عنه - ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وقال ابن عباس: أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك.. عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم.
وروي: أن رجلًا شتم قنبرًا مولى علي بن أبي طالب، فناداه علي: يا قنبر، دع شاتمك والْهُ عنه، ترضِ الرحمن، وتسخط الشيطان، وقالوا: ما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه، ولله در القائل:
وَلَلْكَفُّ عن شَتْمِ اللَّئِيْمِ تَكَرُّمًا أَضَرُّ لَهُ مِنْ شَتْمِهِ حِيْنِ يُشْتُمُ
وقال آخر:
وَمَا شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَى سَفِيْهٍ إِذَا سَبَّ الْكَرِيْمَ مِنَ الْجَوَابِ
مُتَارَكَةُ السَّفِيْهِ بِلَا جَوَابٍ أَشَدُّ عَلَى السَّفِيْهِ مِنَ السُّبَابِ
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
370
وقال محمود الورّاق:
سَأُلْزِمُ نَفْسِيْ الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ لَدَيَّ الْجَرَائِمُ
فَمَا النَّاسُ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ ثَلاَثَة شَرِيْفٌ وَمَشْرُوْفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ
فَأمَا الَّذِيْ فَوْقِيْ فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ أتَبِّعُ فِيْهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لَازِمُ
وَأمَّا الَّذِيْ دُوْنِيْ فَإِنْ قَالَ صُنْتُ عَنْ إِجَابَتِهِ عِرْضِيْ وَإنْ لَامَ لاَئِمُ
وَأمَّا الَّذِيْ مِثْلِيَ فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا تَفَضَّلْتُ إِنَّ الْفَضْلَ بِالْحِلْمِ حَاكِمُ
وقال آخر:
إِنَّ الْعَدَاوَةً تَسْتَحِيْلُ مَوَدَّةً بِتَدَارُكِ الْهَفَوَاتِ بِالْحَسَنَاتِ
و ﴿إذا﴾ في (١) قوله: ﴿فَإِذَا الَّذِي﴾: للمفاجأة، ظرف مكان لمعنى التشبيه، وهذا مبني على القول باسميتها، وجاز تقدم هذا الظرف على عامله المعنوي، مع أنه لا يجوز تقديم معموله عليه؛ لأنه يغتفر في الظروف ما لا يغتفر في غيرها، والموصول: مبتدأ، وجملة التشبيه: خبره، والتقدير: فالذي بينك وبينه عداوة، مشبهه في المحبة بالصديق الحميم وقت فعلك ما ذكر.
والمعنى: فإذا فعلت مع عدوك ما ذكر.. فاجأك في الحضرة انقلابه وصيرورته مشابهًا في المحبة بالصديق الذي لم تسبق منه عداوة. اهـ شيخنا.
٣٥ - ثم نبه إلى عظيم فضل هذه الطريقة بقوله: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا﴾؛ أي: وما يلقى هذه الخصلة الحميدة والفعلة الجميلة، وهي دفع السيئة بالحسنة.
وقرأ طلحة بن مصرف وابن كثير (٢): ﴿وما يلاقاها﴾ من الملاقاة من باب فاعل المعتل، وقرأ الجمهور ﴿وما يلقى﴾ من التلقية من فعل المضعف كزكى، كأن هذه الخصلة الشريفة غائبة؛ أي: ما يصادفها وما يوافقها وما يعطاها ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على تحمل المكاره، وتجرع الشدائد، وكظم الغيظ، وترك الانتقام؛ أي: إلا الذين شأنهم الصبر، فإنه يحبس النفس عن الانتقام؛ أي: وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا الصابرون على تحمل المكاره، وتجرع الشدائد، وكظم الغيظ، وترك
(١) الفتوحات.
(٢) البحر المحيط.
الانتقام، فإن ذلك يشق على النفوس، ويصعب احتماله في مجرى العادة، إلا على من عصمه الله تعالى ووفقه.
وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه - في تفسير ذلك: الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت صادقًا.. غفر الله لي، وإن كنت كاذبًا.. غفر الله لك ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا﴾؛ أي: وما يوفّقها ﴿إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾؛ أي: إلا صاحب نصيب وافر، وحظ كامل من السعادة في الدنيا والاخرة، ومن الفضائل النفسانية (١)، والقوة الروحانية، فإن الاشتغال بالانتقام لا يكون إلا لضعف النفس وتأثرها من الواردات الخارجية، فإن النفس إذا كانت قوية الجوهر.. لم تتأثر من الواردات الخارجية، وإذا لم تتأثر منها.. لم يصعب عليها تحمّل المكاره، ولم تشتغل بالانتقام.
والحاصل: أنه يلزم تزكية النفس حتى يستوي عندها الحلو والمرّ، ويكون حضور المكروه كغيبته، ففي الآية مدح لهم بفعل الصبر، وقال قتادة: الحظ العظيم: الجنة؛ أي: وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة، وقال الجنيد: وما يوفق لهذا المقام، إلا ذو حظ عظيم من عناية الحق فيه، وقال ابن عطاء الله: إلا ذو معرفة بالله وأيامه، والحظ: النصيب المقدّر.
٣٦ - ثم ذكر طريقًا لمنع تهييج الشر، ودفع الغضب إذا بدت بوادره، فقال: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ﴾ أصله: إن ما، على أن ﴿إن﴾: شرطية، و ﴿ما﴾: مزيدة لتأكيد معنى الشرط، والنزغ: شبه النخس كما في "الإرشاد" شبه به وسوسة الشيطان لأنها تبعث على الشر، وجعل نازغًا على حدّ جدّ جدّه فـ ﴿مِنْ﴾ ابتدائية؛ أي: نزغ صادر من جهته، أو المراد: وإما ينزغنك نازغ وصفًا للشيطان بالمصدر، فكلمة ﴿من﴾: تجريدية جرّد من الشيطان شيطانًا آخر، وسمّاه نازغًا.
والمعنى: وإن يوسوس إليك الشيطان، ويصرفك عما وصيتك به من الدفع بالتي هي أحسن، ودعاك إلى خلافه.. ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ من شرّه، ولا تطعه ﴿إنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ باستعاذتك ﴿الْعَلِيمُ﴾ بنتتك، وفي جعل ترك الدفع بالأحسن من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير، قال الدميري في "حياة
(١) روح البيان.
الحيوان": أجمعت الأمة على عصمة النبي - ﷺ - من الشيطان، وإنما المراد: تحذير غيره من فتنة القرين، ووسوسته له وإغوائه، فأعلمنا أنه معنا لنحترز عنه حسب الإمكان انتهى.
وحاصل المعنى (١): أي وإن وسوس إليك الشيطان ليحملك على مجازاة المسيء.. فاستعذ بالله من كيده وشرّه، واعتصم من خطراته، إنه هو السميع لاستعاذتك منه، واستجارتك به من نزغاته، ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك، العلم بما ألقى في روعك من نزغاته، وحدّثتك به نفسك، وما قصدت من صلاح، ونويت من إحسان.
ومن شياطين الإنس من يفعل مثل هذا، فيصرف عن الدفع بالتي هي أحسن، فيقول لك: إن فلانًا عدوّك الذي فعل بك كيت وكيت، فانتهز الفرصة وخذ ثأرك منه، لتعظم في عينه وأعين الناس، ولا يظنن فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة، إلى نحو أولئك من العبارات المثيرة للغضب، التي ربما لا يخطر ببال شياطين الجن، نعوذ بالله من شر كل شيطان.
والخلاصة: إنّ صرفك الشيطان عما شرعت فيه من الدفع بالحسنى.. فاستعذ بالله من شره، وامض لشأنك ولا تطعه.
وروي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "إذا غضبت وكنت قائمًا.. فاقعد، وان كنت قاعدًا.. فقم، فاستعذ بالله من الشيطان" عصمنا الله وإياكم من كيده وشره، ورد مكره إليه، فلا نتوكَّل ولا نعتمد إلا عليه.
فإن قلت (٢): قال هنا: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ بزيادة ﴿هُوَ﴾ و ﴿أل﴾ وفي الأعراف قال: ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ بدونهما، فما الفرق بين الموضعين؟.
قلت: بينهما فرق فارق؛ لأنّ ﴿ما﴾ هنا: متصل بمؤكدين: بالتكرار وبالحصر، فناسب التأكيد بما ذكر، و ﴿ما﴾ في الأعراف خال عن ذلك، فجرى على القياس من كون المسند إليه معرفةً والمسند نكرةً.
٣٧ - ثمّ شرع سبحانه في بيان بعض آياته البديعة، الدالة على كمال قدرته وقوة
(١) المراغي.
(٢) فتح الرحمن.
373
تصرفه، للاستدلال بها على توحيده، فقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾؛ أي: ومن دلائل قدرته وحكمته الدالة على وحدانيته ﴿اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ﴾؛ أي: تعاقبهما واختلافهما بالزيادة والنقصان، قال الإمام المرزوقي: الليل بإزاء النهار، والليلة بإزاء اليوم. ﴿وَالشَّمْسُ﴾ المشتمل عليه النهار ﴿وَالْقَمَرُ﴾ المشتمل عليه الليل؛ أي: تذلُّلهما لما يراد منهما، وقدّم الليل على النهار لسابقيته في الوجود، والشمس على القمر لشرفها عليه بأصالة نورها؛ يعني: تعاقب الليل والنهار على الوجه الذي يتفرّع عليه منافع الخلق، ومصالحهم، وتذلُّل الشمس والقمر لما يراد منهما من أظهر العلامات الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته، وكمال علمه وحكمته.
والمعنى (١): أي ومن حجج الله تعالى على خلقه، ودلائله على وحدانيته وعظيم سلطانه الليل والنهار، ومعاقبة كل منهما صاحبه، والشمس ونورها، والقمر وضياؤه، وتقدير منازلهما في فلكيهما، واختلاف سيرهما في السماء، ليعرف بذلك مقادير الليل والنهار، والأسابيع والشهور والأعوام، وبذلك تضبط المعاملات وأوقات العبادات.
ولما كانت الشمس والقمر من أجلّ الأجرام المشاهدة في العالم العلويّ والسفليّ.. نبّه إلى أنهما مخلوقان مسخّران له تعالى، وهما تحت قهره وسلطانه، فلا تعظّموهما وعظّموا خالقهما، فقال: ﴿لَا تَسْجُدُوا﴾ أيها الناس ﴿لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ﴾ لأنهما من جملة مخلوقاته المسخرة لأوامره، يجريان لمنافعكم بإجراء الله إياهما طائعين له في جريهما، وهما لا يستطيعان لكم نفعًا ولا ضرًّا ﴿وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾ الضمير للأربعة (٢)، لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى، وإن كان المناسب تغليب المذكر، وهو ما عدا الشمس على المؤنث وهو الشمس، أو لأنها عبارة عن الآيات وتعليق الفعل بالكل مع كفاية بيان مخلوقية الشمس والقمر؛ للإيذان بكمال سقوطهما عن رتبة المسجودية، بنظمهما في سلك الأعراض التي لا قيام لها بذاتها، وهو السر في نظم الكل في آياته تعالى؛ أي: فله تعالى فاسجدوا، وإياه فاعبدوا دونهما، لأنهما لا فضيلة لهما في أنفسهما، فيستحقا بها العبادة من دون الله، ولو شاء الله.. لأعدمهما أو طمس نورهما، وفي هذا ردّ على الصابئين،
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
374
وغيرهم من الناس الذين عبدوا الكواكب والنجوم، وزعموا أنهم بعبادتهم إياها يقصدون الله، فنهوا عن تلك الواسطة، فهذا وجه تخصيص ذكر السجود بالنهي عنه. وقيل: وجه تخصيصه أنه أقصى مراتب العبادة ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ﴾ تعالى لا غيره ﴿تَعْبُدُونَ﴾؛ أي: إن كنتم تعبدون إياه.. لا تسجدوا لغيره، فإن السجود أقصى مراتب العبادة، فلا بدّ من تخصيصه به تعالى.
فإن قيل (١): لِمَ لَمْ يجز أن تكون الشمس قبلةً للناس عند سجودهم؟.
قلنا: لأنها جوهر مشرق عظيم الرفعة، لها منافع في صلاح أحوال الخلق، فلو أذن في جعلها قبلةً في الصلاة، بأن يتوجّه إليها، ويرجع ويسجد نحوها.. لربما غلب على بعض الأوهام أن ذلك الركوع والسجود للشمس لا لله، بخلاف الأحجار المعيّنة، فإنها ليس في جعلها قبلةً ما يوهم الإلهية.
٣٨ - ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا﴾؛ أي: تعظموا عن امتثال أمرك في ترك السجود لغير الله تعالى، وأبوا إلا اتخاذ الواسطة، فذلك لا يققل عدد من يخلص عبادته لله تعالى، وقوله: ﴿فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ علة للجزاء المحذوف؛ أي: فإن الملائكة المقربين عند الله ﴿يُسَبِّحُونَ لَهُ﴾؛ أي: ينزهونه عن الأنداد وسائر ما لا يليق به ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾؛ أي: دائمًا وفي جميع الأوقات، وظهر من هذا التقرير أن تخصيص الملائكة مع وجود غيرهم من العبّاد المخلصين؛ لكثرتهم، وأيضًا الشمس والقمر عندهم، فيردّون العبادة عنهما غيرةً بتخصيصها بالله تعالى ﴿وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾؛ أي: والحال أن الذين عند ربك لا يملُّون عن عبادته وتسبيحه، ولا يفترون عنهما، فإن التسبيح منهم كالتنفس منا.
ومعنى الآية (٢): فإن استكبر هؤلاء المشركون الذين يعبدون هذه الكواكب، وأبوا إلا أن يسجدوا لها وحدها دون الله.. فالله لا يعبأ بهم، فالملائكة الذين في حضرة قدسه، وهم خير منهم لا يستكبرون عن عبادته، بل يسبِّحون له ويصلّون ليلًا ونهارًا وهم لا يَفْتَرون عن ذلك ولا يملُّون.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.

فصل


وهذه السجدة (١) من عزائم سجود التلاوة، وفي موضع السجود فيها قولان للعلماء: وهما وجهان لأصحاب الشافعي:
أحدهما: أنه عند قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ وهو قول ابن مسعود والحسن، وحكاه الرافعي عن أبي حنيفة وأحمد؛ لأنَّ ذكر السجدة قُبيله.
والثاني: وهو الأصح عند أصحاب الشافعي، وكذلك نقله الرافعي أنه عند قوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيِّب وقتادة، وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة؛ لأنَّ عنده يتمّ الكلام.
٣٩ - ولما ذكر الدلائل الفلكية.. أتبعها بذكر الدلائل الأرضية، فقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ الدالة على قدرته تعالى ووحدانيته ﴿أَنَّكَ﴾ يا محمد أو أيها الناظر، فالخطاب هنا لكل من يصلح له أو لرسول الله - ﷺ - ﴿تَرَى الْأَرْضَ﴾ وتبصرها حال كونها ﴿خَاشِعَةً﴾؛ أي: يابسةً جدبةً فارغةً من النبات، مستعار من الخشوع بمعنى التذلل ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ﴾ والمطر ﴿اهْتَزَّتْ﴾؛ أي: تحركت بالنبات ﴿وَرَبَتْ﴾؛ أي: انتفخت وعلت قبل أن تنبت لأنّ النبت إذا دنا أن يظهر.. ارتفعت له الأرض وانتفخت، ثم تصدّعت عن النبات؛ أي: انشقّت.
وعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير (٢)، والتقدير: فإذا أنزلنا عليها الماء.. ربت واهتزّت؛ أي: انتفخت وتحركت بالنبات، وقيل: الاهتزاز والربو قد يكونان قبل خروج النبات، وقد يكوننان بعده. وقيل: اهتزّت: استبشرت بالمطر، وربت انتفخت بالنبات.
وقرأ أبو جعفر وخالد ﴿وربأت﴾ بالهمزة ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا﴾ بما ذكر بعد موتها. والاحياء في الحقيقة: إعطاء الحياة، وهي صفة تقتضي الحسّ والحركة، فالمراد بإحياء الأرض: تهييج القوى النامية فيها، وإحداث نضارتها بأنواع النباتات؛ أي: إن الإِله الذي أحيا الأرض بالنبات بعد يبسها وجدبها ﴿لَمُحْيِ الْمَوْتَى﴾ بالبعث والنشور ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء التي من جملتها الإحياء
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: قادر لا يعجزه شيء كائنًا ما كان، وقد وعد بذلك، فلا بد من أن يفي به، والحكمة في إحياء الموتى هي المجازاة والمكافأة.
ومعنى الآية (١): ومن الدلائل على قدرته تعالى على البعث وإحياء الموتى بعد بلائها، وإعادتها لهيئتها كما كانت من بعد فنائها: أنك ترى الأرض يابسةً غبراء لا نبات بها ولا زرع، فإذا نزل عليها الغيث من السماء.. تحركت بالنبات، وانتفخت وأخرجت ألوان الزرع والثمار، ما يشاهد من ارتفاع الأرض وانتفاخها، ثمَّ تصدّعها وتشقُّقها إذا حان ظهور النبات منها، وتراه يسمو في الجوّ ويغطّي قشرتها، ثم تتشعّب عروقه، وتغلظ سوقه، إن الذي أحيا هذه الأرض الدارسة، وأخرج منها النبات وجعلها تهتز بالزرع، قادر على أن يحيي أموات بني آدم بعد مماتهم، وهو القدير على كل شيء، لا يعجزه شيء كائنًا ما كان.
٤٠ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ﴾؛ أي: يميلون عن الاستقامة ﴿فِي آيَاتِنَا﴾ والعدل فيها بالطعن فيها، بأنها كذب أو سحر أو شعر، ويتحريفها بحملها على المحامل الباطلة.
وقرأ حمزة: ﴿يلحدون﴾ بفتح الياء والحاء من لحد الثلاثي، وهو بمعنى ألحد. ففي الآية قراءَتان سبعيتان. وهما: ضم الياء وكسر الحاء. من ألحد الرباعي، وهي قراءة الجمهور، وفتح الياء والحاء من لحد الثلاثي، وهي قراءة حمزة، وهما لغتان، لحد بمعنى: جار عن الحق، وألحد بمعنى: جادل ومارى ﴿لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ في وقت من الأوقات، بل نحن نعلمهم فنجازيهم بإلحادهم.
والمعنى: أي إن الذين يميلون عن الحق في حججنا تكذيبًا بها، وجحودًا لها، نحن بهم عالمون، لا يخفون علينا، ونحن لهم بالمرصاد إذا وردوا علينا، وسنجازيهم بما يستحقون، ولا يخفى ما في ذلك من شديد الوعيد، كان يقول الملك المعنيب: إن الذين ينازعونني في ملكي أعرفهم ولا شك فهو يريد تهديدهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، ثم بيّن كيفية الجزاء والتفاوت بين المؤمن والكافر، فقال ﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف
(١) المراغي.
377
يقتضيه السياق، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أمن يلحد في آياتنا خير أم من يؤمن بها خير؟ فمن يلقي بإلحاده في النار على وجهه وهم الكفرة بأنواعهم خير، ﴿أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا﴾ بإيمانه من النار ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وهو المؤمنون على طبقاتهم؛ يعني: أن الثاني في المعطوف والمعطوف عليه خير من الأولى. وقابل الإلقاء (١) في النار بالاتيان ﴿آمِنًا﴾ مبالغة في مدح حال المؤمنين بالتنصيص على أنهم آمنون يوم القيامة من جميع المخاوف، فلو قال: أم من يدخل الجنة.. لجاز من طريق الاحتمال أن يبدلهم الله من بعد خوفهم أمنًا. ولك أن تقول: في الآية احتباك، حذف من الأول مقابل الثاني، ومن الثاني مقابل الأول، والتقدير: أفمن يأتي خائفًا ويلقى في النار خير أم من يأتي آمنًا ويدخل الجنة؛ يعني: أن الثاني خير من الأول.
والغرض من هذا الاستفهام (٢): التنبيه على أن الملحدين في الآيات يلقون في النار، وأن المؤمنين بالآيات يأتون آمنين يوم القيامة، حين يجمع الله تعالى عباده للعرض عليه للحكم بينهم بالعدل. اهـ "خطيب". وترسم ﴿أَمْ﴾ مفصولةً مِنْ مَنْ اتباعًا لمصحف الإِمام، كما ذكره شيخ الإِسلام في "شرح الجزرية".
ومعنى الآية: أفمن يلقى في النار لإلحاده بالآيات وتكذيبه للرسل، خير أم من آمن بها وجاء يوم القيامة من الآمنين، حين يجمع الله العباد للمجازاة، لا شكّ أنهما لا يستويان.
وظاهر الآية: العموم، وتمثيل حال المؤمن والكافر. وقيل: المراد بـ ﴿مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ﴾: أبو جهل، وبـ ﴿مَنْ يَأْتِي آمِنًا﴾: النبي - ﷺ -، وقيل: حمزة، وقيل: عمر بن الخطاب، وقيل: أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وحملها على العموم أولى، اعتبارًا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وبعد أن أبان لهم عاقبة الملحدين بالآيات والمؤمنين بها.. هدَّدهم بقوله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ من الأعمال المؤدّية إلى ما ذكر من الإلقاء في النار، والاتيان آمنًا، وآثروا ما شئتم، فقد علمتم مصير المسيء والمحسن، ولا تضرّون إلا
(١) روح البيان.
(٢) الفتوحات.
378
أنفسكم، فمن أراد الجزاء.. فليعمل له، فإنه لامقيه، وفيه تهديد شديد؛ لظهور أن ليس المقصود الأمر بكل عمل شاؤوا. قال في "الأسئلة المقحمة": هو أمر وعيد، ومعناه: أن المهلة ما هي لعجز ولا لغفلةٍ، وإنما يعجل من يخاف الفوت، وهو أبلغ أسباب الوعيد ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازيكم بحسب أعمالكم؛ أي: إنه بأعمالكم ذو خبرة وعلم لا تخفى عليه خافية منها ولا من غيرها، وهو مجازيكم بحسب أعمالكم خيرًا أو شرًّا.
٤١ - ثمّ بيّن أولئك الملحدين بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ﴾؛ أي: بالقرآن، فيكون (١) من وضع الظاهر موضع ضمير الآيات؛ أي: إن الذين بادهوا القرآن بالكفر والإنكار عليه ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾؛ أي: حين جاءهم، وأول ما سمعوه من غير إجالة فكر وإعادة نظر، وكذّبوا به على البديهة قبل التدبّر ومعرفة التأويل، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بدل من قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ﴾ إلخ. بدل الكل بتكرير العامل، وخير ﴿إِنَّ﴾ هو الخبر السابق، وهو ﴿لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾؛ لأنّ إلحادهم في الآيات كفر بالقرآن، فلهذا اكتفي بخبر الأول عن الثاني، إلا أنه غير معهود إلا في الجار والمجرور لشدة الاتصال. قال الرضي: ولا تكرر في اللفظ في البدل من العوامل إلا حرف الجر؛ لكونه كبعض حروف المجرور، وقيل: مستأنف، وخبرها محذوف، مثل: ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ وذلك بعد قوله: ﴿حَمِيدٍ﴾. وقال الكسائي: سدّ مسدّه الخبر السابق، وقوله: ﴿وَإِنَّهُ﴾؛ أي: وإن الذكر إلخ. جملة حالية من ﴿الذكر﴾ مفيدة لغاية شناعة الكفر به؛ أي: إن الذين كفروا بالذكر، والحال أن الذكر ﴿لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾؛ أي: كثير المنافع، عدم النظير لا يخفون علينا، أو سوف نصليهم نارًا، فهو (٢) من العز الذي هو خلاف الذل، أو منيع لا تتأتى معارضته وإبطاله وتحريفه، فهو من العزة بمعنى الغلبة، فالقرآن وإن كان لا يخلو عن طعنٍ باطلٍ من الطاعنين، وتأويل فاسد من المبطلين، إلا أنه يؤتى بحفظةٍ، ويقدّر له في كل عصر منعة يحرسونه بإبطال شبه أهل الزيغ والأهواء، وردّ تأويلاتهم الفاسدة، فهو غالب بحفظ الله إياه، وكثرة منعته على كل من يتعرض له بالسوء.
٤٢ - وقوله: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ﴾؛ أي: التكذيب ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ﴾؛ أي: من الكتب
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
السابقة عليه، كالتوراة والإنجيل والزبور ﴿وَلَا﴾ وَلَا يأتي ﴿مِنْ خَلْفِهِ﴾؛ أي: من بعده كتاب يكذّبه وينسخه. قاله سعيد بن جبير والكلبي، صفة أخرى لـ ﴿كِتَابٌ﴾ أو المعنى: لا يتطرّق إليه الباطل، ولا يجد إليه سبيلًا من جة من الجهات الست، حتى يصل إليه ويتعلق به؛ أي: متى راموا إبطالًا له لم يصلوا إليه، ذكر أظهر الجهات وأكثرها في الاعتبار وهو جهة القدّام والخاف، وأريد الجهات بأسرها، فيكون قوله: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ...﴾ إلخ، استعارةً تمثلية، شُبّه الكتاب في عدم تطرّق الباطل إليه بوجه من الوجوه، بمن هو محمي بحماية غالب قاهر يمنع جاره من أن يتعرض له العدو من جهة من جهاته، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، بأن عبّر عن المشبّه بما عبّر به عن المشبّه به، فقال: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ...﴾ إلخ. أو المعنى: لا يأتيه الباطلُ فيما أخبر عما مضي، ولا فيما أخبر عن الأمور الآتية، أو الباطل هو الشيطان؛ أي: لا يستطيع أن يزيد فيه ولا ينقص منه. وقال الزجاج: معناه: إنه محفوظ من أن ينقص منه، فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه، فيأتيه الباطل من خلفه. وبه قال قتادة والسدّي.
قصارى ذلك: أَنَّ الباطل لا يتطرّق إليه، ولا يجد إليه سبيلًا من جهة من الجهات حتى يصل إليه، فكل ما فيه حق وصدق، وليس فيه ما لا يطابق الواقع، ﴿تَنْزِيلٌ﴾؛ أي: هو تنزيل، أو (١) صفة أخرى لـ ﴿كِتَابٌ﴾ مفيدة لفخامته الإضافية بعد إفادة فخامته الذاتيه، وكل ذلك لتأكيد بطلان الكفر بالقرآن ﴿مِنْ حَكِيمٍ﴾؛ أي: حكيم مانع عن تبديل معانيه بإحكام مبانيه ﴿حَمِيدٍ﴾؛ أي: حميد مستحق للتحميد بإلهام معانيه، أو يحمده كل خلق في كل مكان بلسان الحال والمقال بما وصل إليه من نعمه، أو المعنى: هو تنزيل من عند ذي الحكمة بتدبير شؤون عباده، المحمود على ما أسدى إليهم من النعم التي منها تنزيل هذا الكاتب، بل هو أجلّها.
٤٣ - ثم سلّى سبحانه رسوله - ﷺ - عن ما كان يتأثر له، من أذيّة الكفار، فقال: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ﴾؛ أي: ما يقال في شأنك وفي شأن ما أنزل إليك من القرآن من جهة كفّار قومك ﴿إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ من جهة قومهم؛ أي: إلا مثل ما قد قيل في حقهم وفي حق الكتاب السماوية المنزّلة عليهم، مما لا خير فيه، من الساحر
(١) روح البيان.
380
والكاهن والمجنون والأساطين ونحوها؛ أي (١): ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذبون ما جئتهم به من عند ربّك، إلا مثل ما قالته الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم، فاصبر على ما نالك منهم من أذًى كما صبر أولو العزم من الرسل. وقد يكون المعنى: ما يقال لك من التوحيد، وإخلاص العبادة له إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، فإن الشرائع كلها متفقة على ذلك التوحيد، وإن اختلفت في غيره تبعًا للزمان والمكان. وقيل (٢): هو استفهام؛ أي: أيُّ شيء يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك؟ ونحو الآية على المعنى الأول قوله: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢)﴾ وعلى المعنى الثاني قوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾.
ثمَّ ذكر علة أمره بالصبر فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾ لأنبيائه ومن آمن بهم ﴿وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ لأعدائهم الذين لم يؤمنوا بهم. وبما أنزل إليهم، والتزموا الأذيّة بهم، وقد نصر من قبلك من الرسل، وانتقم من أعدائهم، وسيفعل مثل ذلك بك وبأعدائك أيضًا، أو المعنى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾ لمن يستحق مغفرته من الموحّدين، الذين بايعوك وبايعوا من قبلك من الأنبياء ﴿وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ للكفار المكذّبين، المعادين لرسل الله تعالى. أو المعنى (٣): إن ربك لذو مغفرة للتائبين إليه من ذنوبهم، بالصفح عنهم، وذو عقاب مؤلم لمن أصرّ على كفره، ومات على ذلك قبل التوبة.
وفي الآية (٤): إشارة إلى حال العلماء والدعاة، فإنهم ورثة الأنبياء، فلهم أعداء وحسّاد يطلقون ألسنتهم في حقهم باللوم والطعن بالجنون والجهل ونحو ذلك، ولكنهم يصبرون على الجفاء والأذى، فيظفرون بمراداتهم كما صبر الأنبياء فظفروا وفي آية أخرى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾؛ أي: ظاهرًا بهلاك قومهم، أو بإجابة الدعوة وباطنا بالتخلق بالأخلاق الإلهية مثل الصبر، فإنه نصر أيُّ نصر، إذ به يحصل المرام، وبالصبر ينقلب الإنسان
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
381
من حال إلى حال أخرى أحسن من الأولى، كما ينقلب النحاس بالإكسير فضةً أو ذهبًا.
ودلّت الآية أيضًا (١): على أنه ليس من الحكمة أن يقطع لسان الخلق بعضهم عن بعض، ألا ترى أنه تعالى لم يقطع لسان الخلق عن ذاته الكريمة، حتى قالوا في حقه تعالى: إن له صاحبةً وولدًا ونحو ذلك، فكيف غيره تعالى من الأنبياء والمرسلين والعلماء والمقرّبين، فالنار لا ترتفع من الدنيا إلا يوم القيامة، وإنما يرتفع الاحتراق بها، كما وقع لإبراهيم عليه السلام وغيره من الخواض، فكل البلايا كالنار، فبطون العلماء والأولياء وقلوب الصديقين في سلامة من الاحتراق بها، فإنه لا يجري إلا ما قضاه الله تعالى، ومن آمن بقضاء الله.. سَلِمَ من الاعتراض والانقباض، وهكذا شأن الكبار، نسأل الله الغفَّار السلامة من عذاب النار.
٤٤ - ثمَّ أجاب عن شبهةٍ قالوها: وهي هلا نزل القرآن بلغة العجم، فقال: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: ولو جعلنا هذا الذكر والقرآن الذي تقرؤهُ على الناس ﴿قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا﴾؛ أي: قرآنا منتظمًا على لغة العجم مؤلفًا عليها. والأعجمي في الأصل يقال لذات من لا يفصح عن مراده بلغة لسانه، وان كان من العرب، ولكلامه الملتبس الذي لا يوضّح المعنى المقصود، أطلق ما هنا على كلام مؤلّف على لغة العجم بطريق الاستعارة، تشبيهًا له بكلام من لا يفصح، من حيث إنه لا يفهم معناه بالنسبة إلى العرب، وهذا جواب لقول قريش تعنّتًا: هلّا أنزل القران بلغة العجم.. ﴿لَقَالُوا﴾: جواب ﴿لو﴾ الشرطية؛ أي: لقال كفار قريش: ﴿لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾؛ أي: هلّا بيّنت آياته، وفصلت دلائله بلسان نفقهه من غير ترجمان عجمي، وهو من كان منسوبًا إلى أمة العجم فصيحًا كان أو غير فصيح، و ﴿لَوْلَا﴾ هنا: حرف تحضيض بمعنى: هلّا، وحرف التحضيض إذا دخل على الماضي.. كان معناه: اللوم والتوبيخ على ترك الفعل، فهو في الماضي بمعنى الإنكار.
والاستفهام في قوله: ﴿أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ للإنكار، وهو من جملة كلام المشركين، مقرر للإنكار المفهوم من التحضيض، والأعجمي: كلام لا يفهم معناه،
(١) روح البيان.
382
ولغة العجم كذلك بالنسبة إلى العرب. و ﴿الهمزة﴾ الأولى فيه: للاستفهام الإنكاري، والثانية: جزء كلمة، و ﴿الياء﴾: فيه ليست للنسبة، بل للمبالغة في الوصف كالأحمري.
والمعنى: ولو جعلناه قرآنًا أعجميًا.. لأنكروا وقالوا؛ لولا فصلت آياته بلسان نفهمه، إن كان من عند الله أهو؛ أي: القران أعجميٌّ وهو؛ أي: المرسل به أو المرسل إله عربي، فكيف يرسل الكلام العجمي مع الرسول العرب؟ أو كيف يرسل الكلام العجميّ إلى القوم العربي؟ لحصول التنافي بين الكلام وبين الآتي به، أو بين الكلام وبين المخاطب به، مع كون المرسل إليه أمةً جمةً.
وحاصل المعنى: أي (١) ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزل إليك بلغة العجم.. لقال قومك من قريش: هلا بينت أدلته وما فيه من حكم وأحكام بلغة العرب، حتى نفقهه ونعلم ما هو وما فيه وكانوا يقولون منكرين: أقرآن أعجمي ولسان المرسل إليهم عربي.
وخلاصة ذلك: لو نزل بلسان أعجمي.. لقالوا: هلّا بيّنت آياته باللسان الذي نفهمه، ولقالوا: أكلام أعجمي، والمرسل إليهم عرب خلص.
قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش وحفص (٢): بهمزتين محققتين، وقرأ الجمهور: ﴿أعجمي﴾ بهمزة الاستفهام بعدها مدة هي حمزة أعجمي، وقياسها في التخفيف: التسهيل بين بين، أي: وقالوا منكرين: أهو قرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي؟ وتأوله ابن جبير أن معنى قوله: أعجمي وعربي؛ أي: أهو قرانٌ أعجمي ونحن عرب؟ مالنا وللعجمة؟ وقرأ الحسن وأبو الأسود والجحدري وسلّام والضحاك وابن عباس وابن عامر: بخلاف عنهما، وأبو العالية ونصر بن عاصم وهشام: بهمزة واحدة هي أصل الكلمة وسكون العين بدون استفهام ولا إنشاء، والكلام حينئذ على الإخبار، والتفصيل في قوله: ﴿لَوْلَا فُصِّلَتْ﴾ بمعنى: التفريق والتمييز، لا بمعنى التبيين، كما في القراءة الأولى، والمعنى حينئذ: ولو جعلنا المنزّل كله أعجميًّا.. لقالوا: لولا فصلت آياته وميّزت، بأن جعل بعضها
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
383
أعجميًا لإفهام العجم، وبعضها عربيًا لإفهام العرب، فهو؛ أي: القرآن حينئذ أعجمي وعربي.
وقرأ عمرو بن ميمون: ﴿أعجمي﴾ بهمزة استفهام وفتح العين.
والمقصود من هذا الكلام (١): بيان أنّ آيات الله على أيّ وجه جاءتهم.. وجدوا فيها متعنتًا يتعلّلون به؛ لأنّ القوا غير طالبين للحق، وإنما يتبعون أهواءَهم. وفي "التأويلات النجمية": يشير سبحانه إلى إزالة العلة وإزاحتها لمن أراد أن يعرف صدق الدعوة وصحة الشريعة، فإنه لا نهاية للتعليل بمثل هذه التعلُّلات؛ لأنه تعالى لو جعل القرآن أعجميًا وعربيًا.. لقالوا: لولا جعله عبرانيًا وسريانيًا.
ثم أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - أن يجيبهم ببيان حال القرآن لدى المؤمنين والكافرين، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين، ردًّا على قولهم: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ...﴾ إلخ: ﴿هُوَ﴾؛ أي: هذا الذكر والقرآن ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى﴾ يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم ﴿وَشِفَاءٌ﴾ لما في الصدور من شكّ وشبهة، ولما في الأبدان من الأسقام والآلام؛ أي: قل (٢) لهم: إن هذا القرآن الذين صدقوا بما جاء به من عند ربهم هادٍ إلى الحق، شافٍ لما في الصدور من ريبة وشك، ومن ثم جاء بلسانهم معجزًا بيّنًا في نفسه، مبيّنا لغيره، ونحو الآية قوله: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ﴾ أو هو شفاء (٣) حيث استراحوا به من كدّ الفكرة، وتحير الخواطر، أو شفاء لضيق صدور المريدين؛ لما فيه من التنعم بقراءَتِهِ، والتلذذ بالتفكر فيه، أو شفاء لقلوب المحبين من لواعج الاشتياق، لما فيه من لطائف المواعيد، أو شفاء لقلوب العارفين، لما يتوالى عليها من أنوار التحقيق، وآثار خطاب الرب العزيز.
﴿وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ به ولا يصدقونك، مبتدأ، خبره: قوله: ﴿فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ أي: ثقل وصمم على أن التقدير هو؛ أي: القرآن في آذانهم وقر، على أن ﴿وَقْرٌ﴾ (٤): خبر للضمير المقدر و ﴿فِي آذَانِهِمْ﴾: متعلق بمحذوف وقع حالًا عن
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
384
﴿وَقْرٌ﴾ لبيان محل الوقر، وهو أوفق لقوله: ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: القرآن ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على الكفار المعاندين ﴿عَمًى﴾ وذلك لتصاممهم عن سماعه، وتعاميهم عما يريهم من الآيات، وهو بفتح الميم المنونة؛ أي: ذو عمى على معنى عميت قلوبهم عنه، وهو مصدر عمي يعمى كعلم كما سيأتي. وفي "المفردات": محتمل لعمى البصر والبصيرة جميعًا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿عَمًى﴾ بفتح الميم منونًا على أنه مصدر عمي، وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الزبير وابن عمر ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وابن هرمز: ﴿عم﴾ بكسر الميم وتنوينه على أنه اصم منقوص وصف به مجازًا، وقرأ عمرو بن دينار (٢): بكسر الميم وفتح الياء على أنه فعل ماض، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لقوله أولًا: ﴿هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ ولم يقل: هاد وشاف.
والمعنى: أي والذين لا يؤمنون بالله ورسوله، وبما جاءهم به من عنده في آذانهم ثقل عن استماع هذا القرآن، فلا يستمعون له، بل يعرضون عنه، وهو عليهم عمًى، فلا يبصرون حججه ومواعظه، ونحو الآية قوله في وصفه: ﴿وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾.
ثم مثل حالم باعتبار عدم فهمهم له بحال من ينادى من مكان بعيد لا يسمع من يناديه، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ البعداء الموصوفون بما ذكر من التصامم عن الحق الذي يستمعونه، والتعامي عن الآيات الظاهرة التي يشاهدونها ﴿يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ تمثيل لهم في عدم قبولهم واستماعهم للقرآن، بمن ينادى ويصاح به من مسافة بعيدة، لا يكاد يسمع من مثلها الأصوات.
قال الفراء: تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تنادى من مكان بعيد، ولثاقب الرأي إنك لتأخذ الأمور من مكان قريب، وقال مجاهد: من مكان بعيد من قلوبهم، وقال الضحاك: ينادون القيامة بأقبح أسمائهم من مكان بعيد؛ يعني: يقال: يا فاسق يا منافق يا كذا ويا كذا، فيكون ذلك أشد لتوبيخهم وخزيهم.
٤٥ - ثم بين أن هؤلاء المكذبين ليسوا بدعًا بين الأمم في تكذيبهم بالقرآن، فقد
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
385
اختلف من قبلهم في التوراة، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد آتينا موسى بن عمران الكتاب، وأنزلنا عليه التوراة ﴿فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك الكتاب، فمن مصدق له ومن مكذب، وغيّروه من بعده بخمس مئة عام، وهكذا حال قومك في شأن ما آتيناك من القرآن، فمن مؤمن به ومن كافر، وإن كانوا لا يقدرون على تحريفه، فإنا له لحافظون، فالاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم، غير مختص بقومك، ففيه تسلية له - ﷺ -.
والمعنى: أي والله لقد أرسلنا موسى وآتيناه التوراة فاختلفوا فيها، فمن مصدق بها ومن مكذب، وهكذا شأن قومك معك، فمن مصدق بكتابك ومن مكذب به، فلا تأس على ما فعلوا معك، واسلك سبيل أولي العزم من الرسل، صلوات الله عليهم أجمعين، فقد أوذوا وصبروا، وكان النصر حليفهم، والتوفيق أليفهم، وكتب الله لهم الفَلَجَ والظفر والفوز على أعدائهم المشركين، وأهلك الله القوم الظالمين.
ثم أخبر سبحانه أنه أخر عذابهم إلى حين، ولم يعاجلهم بالعقاب على ما اجترحوا من تكذيب الرسول، وجحدهم بكتابه، فقال: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾ وقضاء نفذ منه في حق أمتك المكذبة، وهي العدة بتأخير عذابهم، وتأخير الفصل بينهم وبين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله سبحانه: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ﴾ وقوله: ﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾. ﴿لَقُضِيَ﴾ في الدنيا، وحكم ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين المكذبين والمؤمنين باستئصال المكذبين، كما فعل بمكذبي الأمم السالفة.
يقول الفقير: وإنما (١) لم يفعل الاستئصال؛ لأن نبينا - ﷺ - كان نبي الرحمة، ولأن مكة كانت مهاجر الأنبياء والمرسلين، ومهبط الملائكة المقربين، بأنواع رحمة رب العالمين، فلو وقع فيها الاستئصال.. لكانت مثل ديار عاد وثمود، ووقعت النفرة منها لقلوب الناس، وقد دعا إبراهيم عليه السلام بقوله: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ فكان من حكمته أن لا يجعل الحرم المبارك الآمن مصارع السوء، وأن يقيه من نتائج سخطه. انتهى.
(١) روح البيان.
386
والمعنى (١): أي ولولا ما سبق من قضاء الله وحكمه فيهم بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة.. فعجل الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، بإهلاك المكذبين، كما فعل بمكذبي الأمم السالفة.
ثم بين ما يقتضي إهلاكهم فقال: ﴿وَإِنَّهُمْ﴾؛ أي: وإن كفار قومك ﴿لـ﴾ كائنون ﴿فِي شَكٍّ﴾ وريب ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من حقية هذا القرآن ﴿مُرِيبٍ﴾؛ أي: موجب ذلك الشك للإضطراب فيه موقع في الإنكار به، والشك: عبارة عن تساوي الطرفين في التردد فيهما من غير ترجيح، والوهم: ملاحظة الطرف المرجوح، وكلاهما تصور لا حكم معه؛ أي: لا تصديق معه أصلًا، وقيل: إن المراد بالكناية: اليهود؛ أي: وإنهم في شك من التوراة مريب، والأول أولى.
أي: وإن قومك يا محمد لفي شك من أمر القرآن موجب لقلقهم واضطرابهم، فما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم حين قالوا ما قالوا، بل كانوا شاكين غير محققين لشيء مما كانوا فيه من عنادك ومقاومة دعوتك.
٤٦ - ثم بين أن الجزاء من جنس العمل، وأنه لا يظلم ربك أحدًا، فقال: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا﴾؛ أي: عمل عملًا صالحًا؛ أي: عملًا موجبًا لصلاح صاحبه، بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾؛ أي: ضعطه أو فنفعه لنفسه لا لغيره ﴿وَمَنْ أَسَاءَ﴾؛ أي: ومن عمل عملًا فيه إساءة أدب الله ورسوله، بأن كذب كتب الله ورسله، وعمل بخلاف ما أمر به ونهى عنه ﴿فَعَلَيْهَا﴾؛ أي: فعلى نفسه ضرر إساءته وعقابها، لا على غيرها، قال تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾.
والمعنى: أي من عمل بطاعة الله في هذه الحياة الدنيا، فائتمر بأمر، انتهى عما نهى عنه.. فلنفسه جزاء عمله وثوابه؛ لأنه يجازى عليه الجزاء الذي هو له أهل، فينجو من النار ويدخل جنة النعيم، ومن عصى الله سبحانه.. فعلى نفسه جنى؛ لأنه أكسبها سخطه وأليم عذابه، وقد قالوا في أمثالهم: إنك لا تجنى من الشوك العنب.
﴿وَمَا رَبُّكَ﴾ أيها الرسول ﴿بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾؛ أي: بحامل عقوبة ذنب على غير
(١) المراغي.
387
مكتسبه، فلا يُعذِبُ أحدًا إلا بذنبه، ولا يقع منه الظلم لأحدٍ، كما في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ بل هو (١) العادل المتفضل، الذي يجازي كل أحد بكسبه، وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله، أو إثابة الغير بعمله، وتنزيل التعذيب بغير إساءة، أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه سبحانه؛ أي: هو تعالى منزه عن الظلم، يقال: من ظلم وعلم أنه يظلم.. فهو ظلام، وقال بعضهم: أصله: وما ربك بظالم، ثم نقل مع ثفيه إلى صيغة المبالغة، فكانت المبالغة راجعةً إلى النفي، على معنى أن الظلم منفي عنه نفيًا مؤكدًا مضاعفًا، ولو جعل النفي داخلًا على صيغة البالغة بتضعيف ظالم بدون نفيه، ثم أدخل عليه النفي.. لكان المعنى: أن تضعيف الظالم منفي عنه تعالى، ولا يلزم منه نفيه عن أصله، والله تعالى منزه عن الظلم مطلقًا. ويجوز أن يقال: صيغة المالغة باعتبار كثرة العبد، لا باعتبار كثرة الظلم، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
وفي الحديث القدسى: "إني حرمت الظلم على نفسي، وعلى عبادي فلا تظالموا" والظلم: هو التصرف في ملك الغير، أو مجاوز الحد، وهذا محال في حق الله تعالى؛ لأن العالم كله مثك له سبحانه وتعالى، وليس فوقه أحد يحد له حدًا فيتجاوز عنه.
فالمعنى: تقدست وتعاليت عن الظلم، وهو ممكن في حق العباد، ولكن الله منعهم عنه.
وفي الحديث: "من مشى خلف ظالم سبع خطوات.. فقد أجرم. قال الله تعالى: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾. وفي آخر: "من مشى مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم.. فقد خرج عن الإِسلام".
الإعراب
﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (٢٥)﴾.
(١) روح البيان.
388
﴿وَقَيَّضْنَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿قضينا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿قُرَنَاءَ﴾: مفعول به. ﴿فَزَيَّنُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿زينوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿قضينا﴾. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿زينو﴾، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿زينوا﴾. ﴿بَيْنَ﴾: ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾، ﴿أَيْدِيهِمْ﴾: مضاف إليه. ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾: معطوف على ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾. ﴿وَحَقَّ﴾: فعل ماض، معطوف على ﴿قضينا﴾. ﴿عَلَيْهِمُ﴾: متعلق بـ ﴿حق﴾. ﴿الْقَوْلُ﴾: فاعل. ﴿فِي أُمَمٍ﴾: متعلق بمحذوف حال من ضمير ﴿عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: حق عليهم القول كائنين في جملة أمم، أو مندرجين في جملة أمم، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿خَلَتْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: صفة لـ ﴿أُمَمٍ﴾. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿خَلَتْ﴾. ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾: متعلق بمحذوف صفة ثانية لـ ﴿أُمَمٍ﴾ أو حال منها لتخصصها بالصفة. ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانُوا خَاسِرِينَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل استحقاقهم العذاب.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، وجملة القول: مستأنفة مسوقة لتقرير حالهم ومكابرتهم عند قراءة القرآن. ﴿لَا﴾: ناهمة جازمة، ﴿تَسْمَعُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والجملة: في محل النصب مقول لـ ﴿قال﴾ ﴿لِهَذَا﴾: متعلق بـ ﴿تَسْمَعُوا﴾. ﴿الْقُرْآنِ﴾: بدل من اسم الإشارة. ﴿وَالْغَوْا﴾: فعل أمر وفاعل، معطوف على ﴿لَا تَسْمَعُوا﴾. ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿وَالْغَوْا﴾ ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تَغْلِبُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿لعل﴾: في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على أنها مسوقة لتعليل الأمر قبلها. والمراد بالغلبة: حمله على السكوت عن القراءة؛ لئلا يستهوي القلوب ويستميلها بقراءة ما لم تعهده من بيان. ﴿فَلَنُذِيقَنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حال الذين كفروا ومكابرتهم عند قراءة القرآن، وأردت بيان عاقبتهم.. فأقول لك: لنذيقن... إلخ. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿نذيقن﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد.
389
﴿الَّذِينَ﴾ مفعول به أول، والجملة: جواب القسم لا محل لها، وجملة القسم: مقول لجواب إذا المقدرة. وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول ﴿عَذَابًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿نذيقن﴾. ﴿شَدِيدًا﴾: صفة ﴿عَذَابًا﴾. ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿نجزين﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ونون توكيد ومفعول أول، والجملة: معطوفة على جملة ﴿نذيقن﴾. ﴿أَسْوَأَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿نجزينهم﴾. ﴿الَّذِي﴾: مضاف إليه. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كَانُوا﴾: صلة الموصول.
﴿ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٢٨)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿جَزَاءُ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة. ﴿أَعْدَاءِ اللَّهِ﴾: مضاف إليه. ﴿النَّارُ﴾: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: جزاؤهم النار، أو مبتدأ، خبره: ما بعده، وهذا الإعراب هو الأوضح في معنى الكلام، وأما جعله بدلًا أو عطف بيان لجزاء.. فمعترض بأن علامة البدل: صحة حلوله محل المبدل عنه، فيصير التقدير: ذلك المذكور من الإذاقة والجزاء النار، وهذا لا يصح. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿فِيهَا﴾: حال من دار الخلد. و ﴿دَارُ الْخُلْدِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: إما خبر عن النار بناءً على إعرابها مبتدأ، أو حال منها، أو مستأنفة مستقلة مقررة لما قبلها، وهذا أقعد بمكان البلاغة كما سيأتي. ﴿جَزَاءً﴾: مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر، وهو مصدر مؤكد لعامله، تقديره: يجزون جزاء، والجملة: مستأنفة، أو منصوب بالمصدر المذكور قبله، أو مصدر واقع موقع الحال من النار. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَزَاءً﴾ الثاني أو الأول. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِآيَاتِنَا﴾: متعلق بـ ﴿يَجْحَدُونَ﴾ لتضمنه معنى يكفرون، وذلك أولى من جعلها زائدة، وجملة ﴿يَجْحَدُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾: صلة لما الموصولة.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿أَرِنَا﴾ ﴿أر﴾: فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب مع الباري
390
سبحانه، مبني على حذف حرف العلة، وفاعله: ضمير مستتر يعود على الله. و ﴿نا﴾: مفعول أول، ﴿اللَّذَيْنِ﴾: مفعول ثان له، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جواب النداء؛ لأن الرؤية بصرية، وقد عديت إلى اثنين بالهمزة، وجملة ﴿أَضَلَّانَا﴾: صلة لـ ﴿الَّذِينَ﴾، ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿أَضَلَّانَا﴾. ﴿نَجْعَلْهُمَا﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر ومفعول أول مجزوم بالطلب السابق. ﴿تَحْتَ أَقْدَامِنَا﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نجعل﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له، والجملة الفعلية: لا محل لها من الإعراب؛ لأنها جملة جوابية. ﴿لِيَكُونَا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يكونا﴾: فعل مضارع ناقص واسمه، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي ﴿مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿يكونا﴾، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور: متعلق بـ ﴿نَجْعَلْهُمَا﴾؛ أي: نجعلهما تحت أقدامنا لإرادة كونهما من الأسفلين في النار.
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿رَبُّنَا اللَّهُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿اسْتَقَامُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قَالُوا﴾، ﴿تَتَنَزَّلُ﴾: فعل مضارع. ﴿عَلَيْهِمُ﴾: متعلق به. ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لبيان حال المؤمنين في الدنيا. ﴿أَلَّا﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿لا﴾: نافية، ﴿تَخَافُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، أو ﴿أن﴾: مخففة من الثقيلة، و ﴿لا﴾: ناهية. ﴿تَخَافُوا﴾: مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ المخففة، وعلى كلا التقديرين ﴿أن﴾ ومدخولها: منصوب بنزع الخافض؛ أي: بأن لا تخافوا، الجار والمجرور: متعلق بمحذوف حال من ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ تقديره: قائلين بـ ﴿أَلَّا تَخَافُوا﴾. ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾: معطوف على ﴿تَخَافُوا﴾. ﴿وَأَبْشِرُوا﴾: معطوف أيضًا على ﴿تَخَافُوا﴾. ﴿بِالْجَنَّةِ﴾: متعلق بـ ﴿أبشروا﴾. ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿الجنة﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص، واسمه، وجملة ﴿تُوعَدُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾: صلة
391
الموصول.
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)﴾.
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول للقول المحذوف الذي وقع حالًا من ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ لأنه من تتمة مقول الملائكة. ﴿فِي الْحَيَاةِ﴾: متعلق بـ ﴿أَوْلِيَاؤُكُمْ﴾؛ لأنه جمع ولي من الولاية بمعنى الحفظ؛ أي: نحن الحفظة لأعمالكم. ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾. ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾: معطوف على ما قبله. ﴿وَلَكُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لكم﴾: خبر مقدم. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور حال من ضمير المخاطبين، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ﴾ على كونها مقول القول، ﴿تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: تشتهيه أنفسكم. ﴿وَلَكُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿فِيهَا﴾: حال من ضمير المخاطبين. ﴿مَا﴾: المحم موصول في محل الرفع، مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على ما قبلها، وجملة ﴿تَدَّعُونَ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما تدعونه. ﴿نُزُلًا﴾: مصدر واقع في موضع الحال من الهاء المحذوفة في ﴿تَدَّعُونَ﴾ أو من ﴿مَا﴾ الموصولة؛ أي: ولكن فيها ما تدعونه حال كونه معدًا لكم. ﴿مِنْ غَفُورٍ﴾: صفة لـ ﴿نُزُلًا﴾. ﴿رَحِيمٍ﴾: صفة ﴿غَفُورٍ﴾ أو هو جمع نزل كصابر وصبر، فيكون حالًا من ﴿الواو﴾ في ﴿تَدَّعُونَ﴾، أو من ﴿الكاف﴾ في ﴿لكم﴾، فعلى هذا تتعلق ﴿مِنْ غَفُورٍ﴾ بـ ﴿تَدَّعُونَ﴾؛ أي: ما تطلبونه من ﴿غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾.
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)﴾.
﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَنْ﴾: اسم استفام في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَحْسَنُ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة. ﴿قَوْلًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل ﴿مِمَّنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَحْسَنُ﴾، ﴿دَعَا﴾: فعل ماض وفاعل مستتر. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿دَعَا﴾ والجملة الفعلية: صلة ﴿مَن﴾
392
الموصولة. ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿دَعَا﴾. ﴿وَقالَ﴾: معطوف على ما قبله أيضًا. ﴿إِنَّنِي﴾: ﴿إن﴾: حرف نصب، و ﴿النون﴾: للوقاية، و ﴿الياء﴾: اسمها. ﴿مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾: خبرها، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)﴾.
﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ﴾: فعل وفاعل. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: زائدة لتأكيد النفي. ﴿السَّيِّئَةُ﴾: معطوف على الحسنة، والجملة الفعلية: مستأنفة. ﴿ادْفَعْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿بِالَّتِي﴾: متعلق بـ ﴿ادْفَعْ﴾. ﴿هِيَ أَحْسَنُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: صلة الموصول. ﴿فَإذَا﴾ ﴿الفاء﴾: إما تعليلية وهي التي كان ما بعدها علة لما قبلها، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا دفعت بالتي هي أحسن، وأردت بيان ثمرته.. فأقول لك: إذا الذي... إلخ. ﴿إذا﴾: فجائية، في محل النصب على الظرفية المكانية متعلق بمعنى التشبيه الآتي، والظرف يتقدم على عامله؛ لأنهم يتوسعون في الظروف ما لا يتوسعون في غيرها، أو حرف لا تحتاج إلى متعلق تتعلق به. ﴿الَّذِي﴾: مبتدأ. ﴿بَيْنَكَ﴾: منصوب على الظرفية الاعتبارية. متعلق بمحذوف خبر مقدم. ﴿وَبَيْنَهُ﴾: معطوف على ﴿بَيْنَكَ﴾. ﴿عَدَاوَةٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: صلة الموصول. ﴿كَأَنَّهُ﴾ ﴿كأن﴾: حرف نصب وتشبيه، و ﴿الهاء﴾: اسمها. ﴿وَلِيٌّ﴾: خبرها، ﴿حَمِيمٌ﴾: صفة ﴿وَلِيٌّ﴾ وجملة ﴿كأن﴾: في محل الرفع خبر الموصول؛ أعني: ﴿الَّذِي﴾ والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، والتقدير؛ فأقول لك: الذي بينك وبينه عداوة مشبه بولي حميم في تلك الحضرة؛ أي: في المكان الذي حصل فيه دفع السيئة بالحسنة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة، ويجوز أن تكون الجملة التشبيهية في محل نصب على الحال، والموصول: مبتدأ أيضًا، و ﴿إذا﴾ التي للمفاجاة: خبره، والعامل في هذا الظرف من الاستقرار هو: العامل في هذه الحال، ومحط الفائدة في هذا الكلام هو الحال، والتقدير: ففي الحضرة المعادي مشبهًا لولي الحميم، وقدمه أبو البقاء على
393
ما قبلها.
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، أو اعتراضية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿يُلَقَّاهَا﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ومفعول ثان، والضمير لخصلة دفع السيئة بالحسنة. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿الَّذِينَ﴾: نائب فاعل لـ ﴿يلقى﴾ والجملة الفعلية: مستأنفة أو اعتراضية، وجملة ﴿صَبَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿يُلَقَّاهَا﴾: فعل مضارع ومفعول ثان. ﴿إلا﴾: أداة حصر. ﴿ذُو﴾: نائب فاعل لـ ﴿يلقى﴾. ﴿حَظٍّ﴾: مضاف إليه، ﴿عَظِيمٍ﴾: صفة ﴿حَظٍّ﴾ والجملة الفعلية: معطوفة على ما قبلها. ﴿وَإِمَّا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية أو عاطفة. ﴿إما﴾ ﴿إن﴾: حرف شرط أدغمت نونها في ﴿ما﴾ الزائدة. ﴿يَنْزَغَنَّكَ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿إِنَّ﴾ الشرطية؛ مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. و ﴿الكاف﴾: مفعول به. ﴿مِنَ الشَّيْطَانِ﴾: حال من ﴿نَزْغٌ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها و ﴿نَزْغٌ﴾: فاعل. ﴿فَاسْتَعِذْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا. ﴿استعذ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿استعذ﴾، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: معطوفة على جملة ﴿ادْفَعْ﴾، أو مستأنفة. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل أو مبتدأ. ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾؛ خبرَانِ لـ ﴿إن﴾ أو لـ ﴿هُوَ﴾ والجملة: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالاستعاذة.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧)﴾.
﴿وَمِنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿آيَاتِهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿اللَّيْلُ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾: معطوفات على ﴿اللَّيْلُ﴾ والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان جمل من آيات الله ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَسْجُدُوا﴾: فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿لِلشَّمْسِ﴾: متعلق به. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها ﴿لِلْقَمَرِ﴾: معطوف
394
على ﴿لِلشَّمْسِ﴾ والجملة: مستأنفة. ﴿وَاسْجُدُوا﴾: فعل أمر وفاعل معطوف على ﴿لَا تَسْجُدُوا﴾، ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿سجدوا﴾. ﴿الَّذِي﴾: صفة للجلالة. ﴿خَلَقَهُنَّ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول. ﴿إِن﴾: حرف شرط، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿إِيَّاهُ﴾: ضمير نصب منفصل في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿تَعْبُدُونَ﴾ وجملة ﴿تَعْبُدُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾ وجواب ﴿إِن﴾ الشرطية: محذوف دل عليه ما قبله، تقديره: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ فاسجدوا لله الذي خلقهن. وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية: مستأنفة..
﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨)﴾.
﴿فَإِنِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا أمرتهم بالسجود، وأردت بيان ما هو اللازم لك إذا أبوا من السجود.. فأقول لك: ﴿إنْ﴾: حرف شرط، ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾: فعل ماض وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وجوابها: محذوف، تقديره: ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا﴾ عن السجود.. فدعهم وشانهم، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿فالَذِينَ﴾ ﴿الفاء﴾: تعليلية للجواب المحذوف. ﴿الذين﴾: مبتدأ. ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾: ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول، والظرفية هنا ظرفية مكانة وتشريف، وهي عبارة عن الزلفى والكرامة. ﴿يُسَبِّحُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَهُ﴾، متعلق بـ ﴿يُسَبِّحُونَ﴾. ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾: ظرفان متعلقان بـ ﴿يُسَبِّحُونَ﴾ أيضًا، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مسوقة لتعليل الجواب المحذوف. ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿هم﴾ مبتدأ، وجملة: ﴿لَا يَسْأَمُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل ﴿يُسَبِّحُونَ﴾.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)﴾.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾: خبر مقدم. ﴿أَنَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿تَرَى﴾: فعل مضارع،
395
وفاعل مستتر يعود على محمد أو على أي مخاطب. ﴿الْأَرْضَ﴾: مفعول به؛ لأن رأى بصرية. ﴿خَاشِعَةً﴾: حال من ﴿الْأَرْضَ﴾ ولك أن تجعل الرؤية علمية، فيكون ﴿خَاشِعَةً﴾: مفعولًا ثانيًا لها وجملة ﴿تَرَى﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنّ﴾ وجملة ﴿أنّ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء والتقدير ومن آياته رؤيتك ﴿الْأَرْضَ خَاشِعَةً﴾؛ أي: خشوعها ويبوستها، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ﴾. ﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنَا﴾، ﴿الْمَاءَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب الآتي. ﴿اهْتَزَّتْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿الْأَرْضَ﴾. ﴿وَرَبَتْ﴾: معطوف عليه، والجملة الفعلية: جواب ﴿إذا﴾: لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة ﴿أَنَّكَ﴾، والتقدير: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ رؤيتك ﴿الْأَرْضَ خَاشِعَةً﴾ واهتزازها وربوها وقت إنزالنا الماء عليها، ﴿إِنَّ الَّذِي﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَحْيَاهَا﴾: صلة الموصول. ﴿لَمُحْيِ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿محي الموتى﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِن﴾ مستأنفة، ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾. و ﴿قَدِيرٌ﴾ خبر ﴿إنّ﴾ وجملة ﴿إنّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل جملة ﴿إِنَّ﴾ المذكورة قبلها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿يُلْحِدُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿فِي آيَاتِنَا﴾: متعلق به، والجملة: صلة الموصول. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَخْفَوْنَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لبيان حال الملحدين. ﴿عَلَيْنَا﴾: جار ومجرور متعلقان بـ ﴿يَخْفَوْنَ﴾. ﴿أَفَمَنْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري؛ أي: لتقرير وتعيين أحد المستويين، داخلة على محذوف معلوم من السياق، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أمن يلحد في آياتنا خير أم من يؤمن بها خير؟ فمن يلقى في النار خير أم من يدخل الجنة خير؟ والجملة المحذوفة: مستأنفة أو إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿من﴾: اسم موصول مبتدأ. ﴿يُلْقَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل مستتر. ﴿فِي النَّارِ﴾:
396
متعلق به، والجملة: صلة الموصول ﴿خَيْرٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿أَمْ﴾: حرف عطف. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول معطوفة على ﴿مَنْ﴾ الأولى، وجملة ﴿يَأْتِي﴾: صلته. ﴿آمِنًا﴾: حال من فاعل ﴿يَأْتِي﴾. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يَأْتِي﴾ أو بـ ﴿آمِنًا﴾، وكان مقتضى السياق أن يقال: أم من يدخل الجنة، ولكن عدل عنه إلى ما ذكر، ليصرح بأمنهم انتفاء الخوف عنهم أصلًا، وذلك أثلج لصدورهم وأقر لعيونهم. ﴿اعْمَلُوا﴾: فعل أمر وفاعل. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة: مستأنفة مسوقة للتهديد، وجملة ﴿شِئْتُمْ﴾: صلة الموصول، والعائد: محذوف؛ أي: ما شئتموه. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾ وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾. ﴿بَصِيرٌ﴾ خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿بِالذِّكْرِ﴾: متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿لَمَّا﴾: ظرف بمعنى حين مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾ ﴿جَاءَهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على الذكر، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿لَمَّا﴾ وخبر ﴿إِنَّ﴾: محذوف، تقديره: لا يخفون علينا، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة، وهذا الوجه أظهر الأوجه الجارية في خبر ﴿إِنَّ﴾، ويؤيده كون ﴿إنَّ﴾ الثانية بدلًا من ﴿إن﴾ الأولى، فيجري عليها ما يجري على الأولى، فيكون خبرها نفس خبرها، وقيل: إنه محذوف، تقديره: معذبون أو مهلكون، وقيل: إنه محذوف، تقديره: نجازيهم، وقيل: خبرها: قوله: ﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ﴾ وقيل: خبرها قوله: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ﴾ كما هو مبين في المطولات مع علته. ﴿وَإِنَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿إنه﴾: ناصب واسمه. ﴿لَكِتَابٌ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿كتاب﴾: خبره ﴿عَزِيزٌ﴾: صفة ﴿كتاب﴾ والجملة: في محل النصب حال من ﴿الذكر﴾ وجملة ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ﴾: صفة ثانية لـ ﴿كتاب﴾. ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَأْتِيهِ﴾. ﴿وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾: معطوف على ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ﴾. ﴿تَنْزِيلٌ﴾: خبر ثان لـ ﴿إِنَّهُ﴾، ﴿مِنْ حَكِيمٍ﴾: متعلق بـ ﴿تَنْزِيلٌ﴾ ﴿حَمِيدٍ﴾: صفة لـ ﴿حَكِيمٍ﴾.
﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (٤٣)﴾.
397
﴿مَا﴾: نافية. ﴿يُقَالُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿لَكَ﴾: متعلق بـ ﴿يُقَالُ﴾. ﴿إلَّا﴾: أداة حصر. ﴿مَا﴾: نائب فاعل لـ ﴿يُقَالُ﴾؛ أي: إلا مثل ما قيل للرسل. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على ﴿مَا﴾ والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، ﴿لِلرُّسُلِ﴾: متعلق بـ ﴿قِيلَ﴾، ﴿مِنْ قبْلِكَ﴾: حال من ﴿الرسل﴾. وجملة ﴿مَّا يُقَالُ﴾: مستأنفة مسوقة لتسليته - ﷺ - على ما يناله من أذى الكفار. ﴿إنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَذُو﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿ذو﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿مَغفِرَةٍ﴾: مضاف إليه. ﴿وَذُو عِقَابٍ﴾: معطوف على ﴿ذو مغفرة﴾. ﴿أَلِيمٍ﴾: صفة ﴿عِقَابٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالصبر الدال عليه السياق؛ أي: فاصبر على أذاهم، واعف عنهم ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾.
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٤٤)﴾.
﴿وَلوْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لو﴾: حرف شرط، ﴿جَعَلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿قُرْآنًا﴾: مفعول ثان. ﴿أَعْجَمِيًّا﴾: صفة ﴿قُرْآنًا﴾. ﴿لَقَالُوا﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾ الشرطية. ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل جواب ﴿لو﴾ الشرطية، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية: مستأنفة مسوقة للرد على تساؤلهم ﴿لولَا﴾: حرف تحضيض بمعنى هلا. ﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾: فعل مغير الصيغة ونائب فاعله، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ ﴿أَأَعْجَمِيٌّ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري. ﴿أعجمي﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو؛ أي: القرآن ﴿أعجمي﴾. ﴿وَعَرَبِيٌّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿عربي﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: وهو؛ أي: المرسل به ﴿عربي﴾ والجملة: معطوفة على جملة ﴿اعجمي﴾، والجملتان: في محل النصب مقولتان ﴿لَقَالُوا﴾. ﴿قُل﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور حال من ﴿هُدًى﴾؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليه، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿هُدًى﴾: خبر المبتدأ. ﴿وَشِفَاءٌ﴾: معطوف على ﴿هُدًى﴾، والجملة الاسمية: في محل النصب
398
مقول ﴿قالوا﴾ ﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ صلته والعائد محذوف تقديره لا يؤمنون به، ﴿فِي آذَانِهِمْ﴾: خبر مقدم. ﴿وَقْرٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ولا بد من تقدير رابط؛ أي: منه، والجملة الاسمية: خبر ﴿الَّذِينَ﴾، وجملة ﴿الَّذِينَ﴾: معطوفة على ما قبلها على كونها مقول ﴿قُل﴾، ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: حال من ﴿عَمًى﴾، و ﴿عَمًى﴾: خبر المبتدأ، والجملة: معطوفة على ما قبلها. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُنَادَوْنَ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة، أو في محل النصب مقول ﴿قُل﴾. ﴿مِنْ مَكَانٍ﴾: متعلق بـ ﴿يُنَادَوْنَ﴾: ﴿بَعِيدٍ﴾: صفة ﴿مَكَانٍ﴾.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ فعل وفاعل ومفعولان، والجملة: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة مسوقة لبيان أن الاختلاف في أمر الكتب المنزلة ليس بدعًا، بل هو قديم في الأمم السالفة. ﴿فَاخْتُلِفَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿ختلف﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿فيه﴾: جار ومجرور نائب فاعل لـ ﴿اختلف﴾، والجملة: معطوفة على جملة ﴿اختلف﴾. ﴿وَلوْلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لولا﴾: حرف امتناع لوجود ﴿كلِمَةٌ﴾: مبتدأ، خبره: محذوف وجوبًا لسد جواب ﴿لولا﴾: مسده، تقديره: موجودة. ﴿سَبَقَتْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿كلِمَةٌ﴾. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: متعلق بـ ﴿سَبَقَتْ﴾ والجملة الفعلية: صفة لـ ﴿كلِمَةٌ﴾. ﴿لَقُضَى﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لولا﴾. ﴿قضي﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: منصوب على الظرفية الاعتبارية، والظرف: متعلق بـ ﴿قضي﴾ على كونه نائب فاعل له، وقيل: نائب فاعله ضمير يعود على المصدر المفهوم من ﴿قضي﴾؛ أي: ﴿لَقُضِىَ﴾ القضاء ﴿بَيْنَهُمْ﴾ والجملة الفعلية: جواب ﴿لولا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لولا﴾: معطوفة على جملة ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى﴾. ﴿وَإِنَّهُم﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إنهم﴾: ناصب واسمه. ﴿لَفِى﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿في شك﴾: جار ومجرور خبر ﴿إنّ﴾. ﴿مّنْهُ﴾: متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿شَكٍّ﴾. ﴿مُرِيبٍ﴾: صفة ثانية لـ ﴿شَكٍّ﴾ أو ﴿مِنْهُ﴾: متعلق
399
بـ ﴿شَكٍّ﴾ ﴿مُرِيبٍ﴾ صفة لـ ﴿شَكٍّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ معطوفة على جملة ﴿لولا﴾.
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿عَمِلَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿صَالِحًا﴾: مفعول به، أو نعت لمصدر محذوف، ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا. ﴿لنفسه﴾: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فعمله لنفسه، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ ﴿مَّنْ﴾، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَّنْ﴾ الشرطية: مستأنفة. ﴿ومَنَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الجواب. ﴿أَسَاءَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿مَّن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَعَلَيْهَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب. ﴿عليها﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فإساءته ﴿عليها﴾ والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ ﴿مَّن﴾ الشرطية على كونا جوابًا لها، وجملة ﴿مَّنْ﴾ الشرطية: معطوفة على جملة ﴿مَّنْ﴾ الأولى. ﴿وَمَا رَبُّكَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: حجازية. ﴿رَبُّكَ﴾: اسمها، ﴿بِظَلَّامٍ﴾: ﴿الباء﴾: زائدة. ﴿ظلام﴾: خبرها منصوب. ﴿لِلْعَبِيدِ﴾: متعلق بـ ﴿ظلام﴾ وجملة ﴿مَا﴾ الحجازية: معطوفة على جملة ﴿مَّنْ﴾ الشرطية.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ﴾؛ أي: يسرنا وهيأنا، من التقييض بمعنى التيسير والتهيئة، يقال: قيضته له؛ أي: هيأته ويسرته، ومنه المقايضة بمعنى المعاوضة، يقال: ثوبان قيضان؛ أي: كل منهما مكافىء للآخر في الثمن. ﴿قُرَنَاءَ﴾: جمع قرين، بمعنى: نظير؛ أي: أخدانًا وأصحابًا وأصدقاء من غواة الجن والإنس، يستولون عليهم استيلاء القيض على البيض، والقيض: القشر الأعلى من البيض.
﴿وَالْغَوْا فِيهِ﴾: فعل أمر من لغي بالكسر يلغى بالفتح، وفيها معنيان:
أحدهما: أنه من لَغِيَ: إذا تكلم باللغو، وهو: ما لا فائدة فيه.
والثاني: أنه من لَغَى بكذا: إذا رمى به، فتكون في بمعنى الباء؛ أي: ارموا
400
به وانبذوه، وإما أن يكون من لَغى بالفتح يلغى بالفتح أيضًا، كسَعى يسعى، حكاه الأخفش، وكان قياسه الضم، كغزا يغزو، ولكنه فتح لأجل حرف الحلق، وقرىء: بضم الغين، من لغا يلغو كدعا يدعو، هذا ما قرره السمين.
وعبارة الزمخشري: ﴿وَالْغَوْا فِيهِ﴾ بفتح الغين وضمها، يقال: لَغى يلغي ولغا يلغو، واللغو: الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته. والمعنى هنا؛ أي: عارضوه باللغو والباطل حين يقرأ لتشوّشوا عليه، وأصله على قراءة الفتح: الغيوا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا فالتقى ساكنان ثم حذفت الألف فصار والغوا، وعلى قراءة الضم الغووا، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا فالتقى ساكنان فحذفت الألف، ثم حركت عين الكلمة بالضم؛ لتدل على الواو المحذوفة فصار: والغوا.
﴿رَبَّنَا أَرِنَا﴾ من رأى البصرية، و ﴿الهمزة﴾: للتعدية إلى مفعول ثان، فالضمير مفعول أول، والموصول مفعول ثان. كما مر. وأصله: أرئينا؛ أي: صيرنا رائين بأبصارنا، فحذفت الياء التي هي لام الكلمة لبناء الفعل على حذف حرف العلة، و ﴿الهمزة﴾: الثانية التي هي عين الكلمة لنقل حركتها إلى الراء قبلها، التي هي فاء الكلمة، فصار وزنه أفنا، فان الهمزة الموجودة ليست من الكلمة بل هي لتعدية الفعل. اهـ شيخنا.
﴿أَضَلَّانَا﴾ أصله: أضللانا، نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد فسكنت فأدغمت في اللام الثانية ﴿أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ والفرق بين الخوف والحزن: أن الخوف غم يلحق الإنسان لخوف مكروه في المستقبل، والحزن: غم يلحق الإنسان من فوات نافع أو حصول ضار. قوله: ﴿اسْتَقَامُوا﴾ أصل: استقوموا، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت ثم قلبت الواو ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ﴾ جمع ولي، أصله: أولياي، أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿مَا تَدَّعُونَ﴾ أصله: تدتعيون، تفتعلون، أبدلت تاء الافتعال دالًا وأدغمت فيها الدال فاء الكلمة، ثم استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت.. التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت العين لمناسبة الواو، فهو افتعال من الدعاء بمعنى الطلب. وفي المصباح: وادعيت الشيء تمنيته وادعيته طلبته. اهـ. ﴿وما يلقاها﴾ أصله: يلقيها بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها،
401
من التلقية نظير زكى تزكيةً.
﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ﴾ أصله: إن ما على أن ﴿إنْ﴾: شرطية، و ﴿ما﴾ مزيدة لتأكيد معنى الشرط والاستلزام، فلذا لحقت نون التوكيد بفعل الشرط، فإنها لا تلحق الشرط ما لم يؤكد، والنزغ والنسغ بمعنًى وهو شبه النخس، والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه يبعثه على ما لا ينبغي، والمراد: الوسوسة. وفي معاجم اللغة: نزغ ينزغ، من باب ضرب نزغًا، نزغ بين القوم: أفسد، ويقال: نزغ الشيطان بينهم؛ أي: أغرى بعضهم ببعض، ونزغه الشيطان إلى المعاصي؛ أي: حثه، ونزغ الشيطان: وساوسه وما يحمل الإنسان على المعاصي.
﴿وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ من السآمة، وهي الملالة؛ أي: لا يملون ولا يفترون. ﴿اهْتَزَّتْ﴾ من الاهتزاز؛ وهو التحرك؛ أي: تحرك بالنبات. ﴿وَرَبَتْ﴾ يقال: ربا ربوًا وربًا: زاد ونما، والفرس ربوًا: إذا انتفخ من عدْوٍ أو فَزع. وقال الراغب: ﴿وَرَبَت﴾؛ أي: زادت زيادة المتربي، ويقال: للموضع المرتفع: ربوة ورابية، وأصله: ربو، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم لما اتصلت تاء التأنيث بالفعل.. التقى ساكنان فحذفت الألف. ﴿يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ من الإلحاد، والإلحاد في الأصل: مطلق الميل والانحراف، ومنه اللحد؛ لأنه في جانب القبر، ثم خص في العرف بالانحراف عن الحق إلى الباطل؛ أي: يميلون عن الاستقامة، وهو بضم الياء: مضارع ألحد في دين الله؛ أي: جار وعدل، وقرىء: بفتح الياء مضارع لحد من باب قطع لغة فيه. وقال في "الكشاف": يقال: ألحد الحافر ولحد: إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق.
﴿لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ أصله: يخفيون، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. ﴿يُلْقَى فِي النَّارِ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: يلقى بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿الْقِيَامَةِ﴾ الياء فيه منقلبة عن واوه. ﴿شِئْتُمْ﴾ أصله: شيء بوزن فعل، بكسر العين، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم لما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك.. سكن آخره فالتقى ساكنان: الألف وآخر الفعل، فحذفت الألف فصار اللفظ شأت، فحذفت حركة فائه، ونقلت إليها حركة مجانسة لتلك العين المحذوفة؛ لتدل عليها، ولما كانت العين هنا ياءً.. نقلت إلى الفاء كسرة؛ لأنها هي التي تناسب الياء، وهكذا كل أجوف من هذا النوع.
402
﴿قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا﴾ قال أبو حيان: والياء فيه: للمبالغة في الوصف، وليس النسب فيه حقيقيًا كأحمري ودراري. قال الرازي في "لوامحه": فهي كياء كرسي وبختي، وفرق بينهما الشيخ، فقال: ليست كياء كرسي وبختي، فإن ياء كرسي وبختي بنيت الكلمة عليها بخلاف أعجمي، فإنهم يقولون: رجل أعجم وعجمي، والأعجمي: هو الذي لا يفصح ولا يفهم كلامة.
﴿يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ أصله: يناديون، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. ﴿مَكَانٍ﴾ أصله: مكون بوزن مفعل اسم مكان، نقلت حركة الواو إلى الكاف، ثم أبدلت الواو ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها حالًا. ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ مصدر: عمِيَ يعمَى كصدِي يصدى صدًى، هوِي يهوَى هوًى. ﴿وَمَنْ أَسَاءَ﴾ الأصل فيه: أسوأ، بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى السين، ثم أبدلت ألفًا لتحركها في الأصل، وانفتاح ما قبلها الآن.
﴿بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾؛ أي: بذي ظلم؛ فظلام: صيغة نسب، كتمار ويقال وخباز، لا صيغة مبالغة، وهذا التقرير أحسن من غيره.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا﴾ وقد تقدم إجراؤها كثيرًا.
ومنها: التجريد في قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ﴾ وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله، مبالغةً لكماله فيها، وله أقسام.
فمنه: ما يكون بدخول في المنتزع منه كما هنا: ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ﴾؛ أي: في جهنم، وهي دار الخلد، لكنه انتزع منها دارًا أخرى مبالغة.
ومنه: ما يكون بـ ﴿من﴾ التجريدية كقولهم: لي من فلان صديق حميم؛ أي: قد بلغ فلان حدًا من الصداقة، يصح معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها، وله أقسام كثيرة مذكورة في محلها.
403
ومنها: الحصر المستفاد من تعريف طرفي الجملة في قوله: ﴿قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾؛ أي: ما لنا رب إلا الله سبحانه، مثل: صديقي زيد.
ومنها: الإيجاز البليغ في قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾؛ لأن الاستقامة كلمة شملت جميع صفات التقوى.
ومنها: الطباق بين الحزن والبشارة في قوله: ﴿وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا﴾ وفي قوله: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ وفي قوله: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ﴾، وفي قوله: ﴿عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾؛ لأن الولاية بمعنى الصداقة.
ومنها: الجناس المماثل بين ﴿الْحَسَنَةُ﴾ و ﴿أَحْسَنُ﴾ في قوله: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)﴾ مبالغةً في التأكيد.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿ولا﴾ و ﴿قال﴾ في قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)﴾، وفي قوله: ﴿يَنْزَغَنَّكَ مِنَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)﴾؛ لأن النزل حقيقة فيما يعد للضيف من الطعام النفيس، ثم استعير لرزق الجنة.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ﴾ شبه وسوسة الشيطان بالنزغ الذي هو النخس والطعن؛ لأنها بعث على الشر وتحريك على ما لا ينبغي، وفيه أيضًا لتجريد المشتمل على من التجريدية في قوله: ﴿مِنَ الشَّيْطَانِ﴾؛ لأنه جرد من الشيطان شيطانًا آخر، وسماه نازغًا.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾؛ لأنه ذُكِرَتْ فيه أداة التشبيه فهو مرسل، وحذف منه وجه الشبه فهو مجمل.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً﴾ مستعار الخشوع بمعنى التذلل، شبه يبس الأرض وخلوها عن الخير والبركة بكون الشخص خاشعًا ذليلًا عاريًا لا يؤبه به لدناءة هيئته، فهي استعارة تبعية بمعنى يابسة جدبة.
404
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا﴾؛ لأن الإحياء في الحقيقة: إعطاء الحياة، وهي صفة تقتضى الحس والحركة، استعارة لإنبات الأرض، فالمراد بإحياء الأرض: تهييج القوى النامية فيها، وإحداث نضارتها بأنواع النبات.
ومنها: الاحتباك في قوله: ﴿أَفَمَنْ يلْقَى في النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وهو: أن يحذف من كل من المتقابلين نظير ما أثبته في الآخر، وأصل الكلام: ﴿أَفَمَنْ﴾ يأتي خائفًا و ﴿يلْقَى في النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي امِنًا﴾ ويدخل الجنة.
ومنها: الأمر التهديدي في قوله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾؛ لأن المقصود بالأمر هنا: التهديد والوعيد لا طلب الفعل.
ومنها: الطباق بين ﴿مغفرة وعقاب﴾، وبين ﴿أعجمي﴾ و ﴿عربي﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ حالهم في عدم قبول المواعظ وإعراضهم عن القرآن وما فيه، بحال من ينادى من مكان بعيد فلا يسمع ولا يفهم ما ينادى به، والجامع عدم الفهم في كل.
ومنها: وضع الظاهر موضع ضمير الآيات في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ وكان مقتضى السياق أن يقال: إن الذين كفروا بها؛ لتقدم المرجع في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يلْحِدُونَ في آيَاتِنَا﴾؛ لأن هذه الجملة بدل من تلك الجملة.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ شبه الكتاب في عدم تطرق الباطل إليه بوجه من الوجوه، بمن هو محمي بحماية غالب قاهر يمنع جاره من أن يتعرض له العدو من جهة من جهاته، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، بأن عبر عن المشبه بما عبر به عن المشبه به، فقال: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ...﴾ إلخ.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا﴾ فإنه أطلق الأعجمي هنا على كلام مؤلف على لغة العجم بطريق الاستعارة، تشبيهًا له بكلام من لا يفصح، من حيث إنه لا يفهم معناه بالنسبة إلى العرب.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ أي: هاد وشاف لهم، ففي إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل.
405
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾.
ومنها: الاعتراض التذييلي المقرر لمضمون ما قبله في قوله: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ فإنه مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله، أو إثابة الغير بعمله، وتنزيل التعذيب بغير إساءة، أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره من الله سبحانه.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) وقع الفراغ من تفسير هذه السورة الكريمة أوائل ليلة الجمعة، الليلة الثامنة عشرة من شهر الله رجب الفرد، من شهور سنة ١٨/ ٧/ ١٤١٤ ألفٍ وأربع مئة وأربع عشرة من الهجرة النبوية، عليه أفضل الصلوات وأزكى التحيات، وعلى جميع الآل والصحابات، ونتفرّغ بحول الله تعالى وتيسيره لتفسير سورة غافر، نسأل الله تعالى الإعانة على التمام والإكمال، كما أعان على الابتداء والافتتاح، والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا إلى يوم الدين، آمين آمين، ألف ألف آمين، يا رب العالمين.
وهذا آخر ما وفقني الله سبحانه من تفسير هذا الجزء من الكتاب الكريم، فالحمد لله على ما حبا، والشكر له على ما أسدى، والصلاة والسلام على نبي الرحمة والهدى، سيدنا محمد خير من وحّد ودعا، وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء، صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
اللهم وفقنا بالصالحات، وجنبنا عن الموبقات، واختم لنا بالشهادات، وألهمنا العمل لما يرضيك، والبعد عما يسخطك بفضلك وجودك وكرمك وإحسانك.
وكان الفراغ من هذا المجلد يوم الأربعاء، وقت الضحوة، اليوم الرابع من شهر شوال، من شهور سنة أربع عشرة وأربع مئة وألف ٤/ ١٠/ ١٤١٤ من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التحيات، في مكة المكرمة، جوار الحرم الشريف، حارة الرشد من المسفلة، أمام المسجد السندي.
وهذا آخر المجلد الخامس والعشرين، ويليه المجلد السادس والعشرون، وأوله قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾.
406
شعرٌ
إِذَا مَا رَأَيْتَ لَحِيْنَا كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا
يَا مَنْ يُقَبِّحُ سَطْرِيْ لِمْ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا
آخرُ
الْعَبْدُ ذُو ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُوْ قَدَرٍ وَالدَّهْرُ ذُوْ دُوَلٍ وَالعِلْمُ مَقْسُوْمُ
وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيْمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا وَفِيْ اخْتِيَارِ سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشُّوْمُ
آخرُ
أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُل يَوْمٍ فَلَمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي
أُعَلِّمُهُ الْقَوَافِيَ كُلَّ حِيْنٍ فَلَمَّا قَالَ قَافِيَةً هَجَانِيْ
آخرُ
407
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد السادس والعشرون»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[٢٦]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4
شعرٌ
لَقَدْ رَبَّيْتُ جَرْوًا طُوْلَ عُمْرِيْ فَلَمَّا صَارَ كَلْبًا عَضَّ رِجْلِيْ
أتَاكَ الرُّوْحُ يَلْفِظُ بِالْغَوَالِيْ وَيَرْمِي بِالزَّبَرْجَدِ وَالَّلآلِيْ
يقُوْلُ لِسَابِحِيْهِ وَخَائِضِيْهِ هَلُمُّوْا فَالنَّفَائِسُ فِيْ خِلاَلِيْ
آخرُ
كُنْ مِنَ الْخَلْقِ جَانِبًا وَارْضَ بِاللهِ صَاحِبَا
قَلِّبِ الخَلْقَ كَيْفَ شِئـ ـتَ تَجِدْهُ عَقَارِبَا
آخرُ
بِلاَدُ اللهِ وَاسِعَة فَضَاءً وَرِزْقُ اللهِ فِيْ الدُّنْيَا فَسِيْحُ
فَقُلْ لِلْقَاعِدِيْنَ عَلَى هَوَانٍ إِذَا ضَاقَتْ بِكُمْ أرْضٌ فَسِيْحُوْا
آخرُ
لَا تَرْضَ مِنْ رَجُلٍ حَلَاوَةَ قَوْلِهِ حَتَّى يُزَيِّنَ مَا يَقُوْلُ فِعَالُ
وَإِذَا وَزَنْتَ فِعَالَهُ بِمَقَالِهِ فَتَوَازَنَا فَإِخَاءُ ذَاكَ جَمَالُ
آخرُ
5

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حمدًا لك يا فارق الفرقان، ويا منزل القرآن، على ما أكرمتنا بنعمة الإيمان وخصصتنا بصنوف العرفان، والصلاة والسلام على من اصطفيته، من ولد عدنان، وأرسلته لهدايتنا بأفضل الأديان، سيدنا محمد - ﷺ -، وعلى آله وصحبه، من حازوا قصب الميدان، ومن تبعهم في الإِسلام والإيمان والإحسان، إلى يوم العرض، والوقوف بين يدي الرحمن.
أما بعد: فلما تجهزت تفسير الجزء الرابع والعشرين من القرآن الكريم، تجشمت لتفسير الجزء الخامس والعشرين منه، مستمدًا من الله سبحانه التوفيق والهداية، لأقوم الطريق، في تفسير كتابه الكريم، مستعيذًا به من الزيغ والزلل والخطأ فيه، وأقول: وقولي هذا:
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)﴾.
المناسبة
قوله: ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية
7
لما قبلها: أن الله سبحانه لما هدد (١) الكافرين، بأن جزاء كل عامل سيصل إليه يوم القيامة كاملًا غير منقوص، إن كان خيرًا فخير، وإن كان شرًا فشرّ.. أردف ذلك ببيان، أنّ هذا اليوم، لا سبيل للخلق إلى معرفته، فلا يعلمه إلا هو، وأنّ علم الحوادث المقبلة في أوقاتها المعينة، مما استأثر الله به، فلا يعلم أحد متى تخرج الثمرات من الأكمام، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع، ثم ذكر أنه سبحانه يوم القيامة، ينادي المشركين، تهكمًا وتقريعًا لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون فيجيبون الآن لا نشهد لأحد منهم بالشركة في الألوهية، وقد غابوا عنم، فلا يرجون منهم نفعًا ولا يفيدونهم خيرًا، وأيقنوا حينئذٍ أن لا مهرب لهم من العذاب.
وعبارة أبي حيان هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر (٢) ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا...﴾ الآية.. كان في ذلك دلالة على الجزاء يوم القيامة وكأن سائلًا قال: ومتى ذلك؟ فقيل: لا يعلمها إلا الله، ومن سئل عنها فليس عنده علم بتعيين وقتها، وإنما يرد ذلك إلى الله، ثم ذكر سعة علمه، وتعلقه بما لا يعلمه إلا هو تعالى.
قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما بيّن حال الكافرين في الآخرة، وذكر أنهم حينئذٍ يتبرؤون من الشركاء بعد أن كانوا معترفين بهم في الدنيا.. أردف ذلك ببيان، أنَّ الإنسان متبدل الأحوال، متغير الأطوار، إن أحس بخير وقدرة، انتفخت أوداجه، وصعّر خدّيه، ومشى الخيلاء، وإن أصابته محنة وبلاء، تطامن واستكان ويئس من الفرج، وهذا دليل على شدة حرصه على الجمع، وشدة جزعه من الفقد، إلى ما فيه من طيش يتولد عنه إعجابه واستكباره حين النعمة، وتطامنه حين زوالها، وذلك مما يومىء بشغله بالنعمة عن المنعم، في حالي وجودها وفقدها، أما في حال وجودها فواضح، وأما في حال فقدها، فلأن التضرع جزعًا إنما كان على
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
8
الفقد، الدال على الشغل عن المنعم بالنعمة.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أوعد (١) على الشرك وهدّد وحذر وأنذر، وذكر أن المشركين ينكرون الشرك يوم القيامة، ويتبرؤون من الشركاء، ويظهرون الذل والخضوع لاستيلاء الخوف عليهم، لما يرون من شديد الأهوال، وأردف ذكر طبيعة الإنسان، وأنه متبدل لا يثبت على حال واحد، فإن أحسّ القوة تكبر وتعظم، وإن شعر بالضعف أظهر المسكنة والمذلة.. أعقب ذلك بلفت أنظار الطاعنين في نبوة محمد - ﷺ -، إلى التأمل والتفكر، فيما بين أيديهم من "الدلائل" ليرعووا عما هم فيه من الغي والضلال، ويقروا بها لتظاهر الأدلة عليها، وعلى أن القرآن منزل من عند الله تعالى حقًا، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): ما روي أن المشركين، قالوا: يا محمد، إن كنت نبينا، فأخبرنا متى تقوم الساعة؟ فنزلت هذه الآية ردًا عليهم.
التفسير وأوجه القراءة
٤٧ - ﴿إِلَيْهِ﴾ سبحانه تعالى، لا إلى غيره ﴿يُرَدُّ﴾ ويرجع ﴿عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ إذا سئل عن القيامة، يقال: الله يعلم، إذ لا يعلمها إلا الله، فإذا جاءت، يقضي بين المحسن والمسيء بالجنة والنار، يعني: إذا سئل عنها (٣) أحد، وجب على المسؤول أن يرد علمها إليه تعالى، لا إلى غيره، فإنه لا يعلم متى قيامها سواه تعالى، وقد جاء في الحديث الصحيح: أنّ جبرائيل عليه السلام، سأل
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
9
رسول الله - ﷺ - عن الساعة، فقال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل". ونحو الآية: قوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤)﴾، وقوله: ﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾.
وبعد أن ذكر أنه استأثر بعلم الساعة، بيّن أنه اختص أيضًا بعلم الغيب، ومعرفة ما سيحدث في مستأنف الأزمنة، فقال: ﴿وَمَا﴾ نافية ﴿تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ﴾ ﴿مِنْ﴾: مزيدة (١) للتنصيص على الاستغراق، فإنه قبل دخولها، يحتمل نفي الجنس، ونفي الوحدة.
والمعنى: ما تخرج أيّ ثمرة من الثمرات ﴿مِنْ أَكْمَامِهَا﴾؛ أي: من أوعيتها، يعني: الكفُرَّى قبل أن ينشق، وقيل: قشرها الأعلى من الجوز واللوز والفستق وغيرها، جمع كم بالكسر، وهو وعاء الثمرة وغلافها؛ أي: ما يغطّي الثمرة، كما أنّ الكم بالضم، ما يغطي اليد من القميص.
قال أبو عبيدة (٢): أكمامها أوعيتها، وهي ما كانت فيه الثمرة، واحدها كم وكمة. قال الراغب: الكم ما يغطي اليد من القميص، وما يغطي الثمرة، وجمعه أكمام، وهذا يدل على أنّ الكم بضم الكاف؛ لأنه جعله مشتركًا بين كم القميص، وما يغطي الثمرة، ولا خلاف في كم القميص أنه بالضم، ويمكن أن يقال: إن في الكم الذي هو وعاء الثمر لغتين.
وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة والحسن، بخلاف عنه، ونافع وابن عامر في غير رواية، والمفضل وحفص وابن مقسم (٣): ﴿مِنْ ثَمَرَاتٍ﴾ بالجمع، وقرأ باقي السبعة، والحسن في رواية طلحة والأعمش: ﴿مِنْ ثَمَرَةٍ﴾ بالإفراد.
﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى﴾ حملًا في بطنها، أيًا كان إنسانًا أو غيره ﴿وَلَا تَضَعُ﴾ أي: ولا تلد ذلك العمل، بمكان على وجه الأرض ﴿إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾ سبحانه وتعالى (٤)، استثناء مفرغ من أعم الأحوال، ولم يذكر متعلق العلم للتعميم؛ أي: وما يحدث شيء من خروج ثمرة: ولا حمل حامل، ولا وضع واضع ملابسًا
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
10
بشيء من الأشياء إلا ملابسًا بعلمه المحيط، واقعًا حسب تعلقه به، يعلم وقت خروج الثمرة من أكمامها وعددها وسائر ما يتعلق بها، من أنها تبلغ أوان النضج، أو تفسد قبله ونحوه ووقت العمل، وعدد أيامه وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة. والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك، ووقت الوضع وما يتعلق به.
وفي "حواشي ابن الشيخ"، المعنى: أنّ إليه يضاف علم الساعة؛ أي: علم وقت القيامة، فإذا سئلت عنه، فرد العلم إليه تعالى فقل: الله أعلم، كما يردّ إليه علم جميع الحوادث الآتية من الثمار والنبات وغيرهما، والمعنى: أي: وما تبرز الثمرة من وعائها الذي هي مغلّفة به، وما تحمل أنثى حملها ولا تضع ولدها إلا بعلم من الله، فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ونحو الآية قوله: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩)﴾.
وفي هذا (١): دليل على أن المنجمين لا يمكنهم الجزم بشيء مما يقولون البتة، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف، قد يصيب وربما لا يصيب، وعلم الله هو المقطوع به، الذي لا يشركه فيه أحد.
ولما كان (٢) ما يخرج من أكمام الشجرة، وما تحمل الإناث وتضعه، هو إيجاد أشياء بعد العدم، ناسب أن يذكر مع علم الساعة، إذ في ذلك دليل على البعث، إذ هو إعادة بعد إعدام، وناسب ذكر أحوال المشركين في ذلك اليوم، وسؤالهم سؤال التوبيخ، فقال: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي﴾ وفي ذلك تهكم بهم وتقريع، والضمير في يناديهم عام في كل من عبد غير الله، فيندرج فيه عباد الأوثان؛ أي: واذكر يا محمد لقومك، يوم ينادي الله سبحانه وتعالى المشركين وذلك يوم القيامة، فيقول لهم: ﴿أَيْنَ شُرَكَائِي﴾ الذين كنتم تزعمون، أنهم شركائي في الدنيا، من الأصنام وغيرها، فادعوهم الآن فليشفعوا لكم، أو
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
11
يدفعوا عنكم العذاب، وهذا على طريقة التهكم بهم. قرأ الجمهور (١): ﴿شُرَكَائِي﴾ بسكون الياء، وقرأ ابن كثير: بفتحها. ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المشركون ﴿آذَنَّاكَ﴾؛ أي: أخبرناك وأعلمناك ﴿مَا مِنَّا﴾؛ أي: ليس منا ﴿مِنْ شَهِيدٍ﴾؛ أي: من أحد يشهد لهم اليوم بالشركة، إذ تبرأنا منهم، لما عاينا الحال، والشهيد من الشهادة، أو ما منا من أحد يشهدهم ويعاينهم، لأنهم ضلوا عنهم حينئذٍ، فهم لا يبصرونهم في ساعة التوبيخ، فالشهيد من الشهود.
والمعنى (٢): أي واذكر أيها الرسول لقومك، يوم ينادي سبحانه عباده المشركين، على رؤوس الأشهاد، تهكمًا بهم، واستهزاء بأمرهم: أين شركائي الذين عبدتموهم معي؟ فيجيبون ويقولون: أعلمناك أنه ليس أحد منا يشهد اليوم، أن معك شريكًا، ونفي الشهادة يراد به التبرؤ منهم؛ لأنّ الكفار يوم القيامة ينكرون عبادة غير الله، كما حكى الله عنهم، أنهم قالوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾.
والخلاصة: أن قوله: ﴿آذَنَّاكَ﴾ إخبار بإعلام سابق علمه الله من أحوالهم يوم القيامة، وأنهم لم يبقوا على الشرك، وعلى تلك الشهادة، كأنهم يقولون: أنت أعلم به، ثم يأخذون في الجواب.
٤٨ - ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾؛ أي: غاب عن المشركين ﴿مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: الآلهة التي كانوا يعبدونها من قبل يوم القيامة، فأخذ بها بطريق غير طريقهم، فلم تنفعهم، ولم تدفع عنهم شيئًا من عذاب الله الذي حل بهم، وظهر عدم نفعهم، فكان حضورهم كغيبتهم ﴿وَظَنُّوا﴾؛ أي: أيقنوا ﴿مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾؛ أي: من مهرب؛ أي: وأيقنوا حينئذٍ أنه لا ملجأ لهم من عذاب الله تعالى.
والمحيص (٣): المحيد والمعدل والمميل والمهرب، والظن معلق عنه بحرف النفي، والتعليق أن يوقع ما ينوب عن المفعولين جميعًا.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
٤٩ - ثم ذكر سبحانه بعض أحوال الإنسان فقال: ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ﴾؛ أي: لا يمل ولا يضجر ﴿مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾؛ أي: من دعائه الخير، وطلبه السعة في النعمة وأسباب المعيشة، فحذف الفاعل، وأضيف إلى المفعول، والمعنى: أن الإنسان في حال إقبال الخير إليه، لا ينتهي إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها، ولا يمل من طلبها أبدًا، وفيه إشارة إلى أن الإنسان مجبول على طلب الخير، بحيث لا يتطرق إليه السآمة فبهذه الخصلة بلغ من بلغ رتبة خير البرية، وبها بلغ من بلغ دركة شر البرية.
والخير هنا (١): المال والصحة والسلطان والرفعة، قال السدي: والإنسان هنا، يراد به الكافر، وقيل: الوليد بن المغيرة، وقيل: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأمية بن خلف، والأولى حمل الآية على العموم، باعتبار الغالب، فلا ينافيه خروج خلص العباد، وقرأ عبد الله بن مسعود ﴿لا يسأم الإنسان من دعاء المال﴾ وفي "البحر المحيط": وقرأ عبد الله ﴿من دعاء بالخير﴾ بباء داخلة على الخير.
والمعنى (٢): أي لا يمل الإنسان من دعائه ربه، ومسألته إياه، أن يؤتيه صحة وعافية، وسعة في الرزق، فهو مهما أوتي من المال، فهو لا يقنع، وقد جاء في الأثر: "منهومان لا يشبعان، طالب علم، وطالب مال"، وجاء أيضًا: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنّى لهما ثالثًا".
﴿وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ﴾؛ أي: وإن أصابه البلاء والشدة والفقر، والمرض الدي أنهك قواه، واضمحل به جسمه ﴿فَيَئُوسٌ﴾ من روح الله وفضله ﴿قَنُوطٌ﴾ من رحمته وإحسانه، وقيل: يؤوس من إجابة دعائه، قنوط بسوء الظن بربه، وقيل: يؤوس من زوال ما به عن لمكروه، قنوط بما يحصل له من ظن دوامه، وهما صيغتا مبالغة، يدلان على أنه شديد اليأس، عظيم القنوط، والفرق بين اليأس والقنوط، أن الياس من صفة القلب، وهو قطع الرجاء من رحمة الله تعالى، والقنوط من صفة البدن، بأن يظهر أثر اليأس في بدنه، فيتضاءل ويحزن وينكسر
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
ويتذلل، وبدأ بصفة القلب؛ لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الانكسار، وبهذا ظهر الفرق بينهما، وقال بعضهم: هما مترادفان وذكرهما معًا للتأكيد.
والحاصل: أن اليأس من صفة القلب، والقنوط إظهار آثاره على ظاهر البدن، اهـ "كرخي"، وهذا صفة الكافر لقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.
وفي "فتح الرحمن" (١): ولا ينافي ما هنا من قوله: ﴿وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ ما سيأتي من قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ لأن المعنى قنوط من الصنم، دعّاء لله، أو قنوط بالقلب دعاء باللسان، أو الأولى في قوم والثانية في آخرين؛ انتهى.
وخلاصة ذلك؛ أن الإنسان متبدل الأحوال، متغير الأطوار، إن أحسّ بخير بطر وتعظم، وإن شعر ببؤس ذل وخضع، فهو شديد الحرص على الجمع، شديد الجزع على الفقد.
٥٠ - ثم ذكر حال هذا اليؤوس القنوط ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن أذقنا الإنسان وأعطيناه ﴿رَحْمَةً مِنَّا﴾؛ أي: نعمة من عندنا ﴿مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ﴾ وأصابته، وذلك بتفريج تلك الضراء عنه، كالمرض والضيق، بالرحمة، كالصحة والسعة ﴿... لَيَقُولَنَّ﴾ ذلك الإنسان: ﴿هَذَا﴾ الخير ﴿لِي﴾؛ أي: مستحق لي، وصل إليّ؛ لأني استحقه، لما لي من الفضل وعمل البر، فاللام (٢): للاستحقاق، أو لي لا لغيري، فلا يزول عني أبدًا، فاللام للاختصاص، فيكون إخبارًا عن لازم الاستحقاق، لا عن نفسه، كما في الوجه الأول، ومعنى الدوام استفيد من لام الاختصاص؛ لأنّ ما يختص بأحدٍ، الظاهر أنه لا يزول عنه، فذلك المسكين لم ير فضل الله، وتوفيقه، فادّعى الاستحقاق في الصورة الأولى، واشتغل بالنعمة عن المنعم، وجهل أن الله تعالى أعطاه ليبلوه أيشكر أم يكفر،
(١) فتح الرحمن.
(٢) روح البيان.
14
فلو أراد لقطعها منه، وذلك في الصورة الثانية.
والمعنى (١): أي ولئن كشفنا ما أصابه من سقم في نفسه، أو شدة وجهد في معيشته فوهبنا له العافية بعد السقم، والغنى بعد الفقر، ليقولن هذا حقي قد وصل إلي؛ لأني استوجبه بما حصل لي من ضروب الفضائل، وأعمال البر والقرب من الله، لا تفضل منه عليّ، أو لا يعلم أن هذه الفضائل، لو وجدت فإنما هي بفضل الله وإحسانه، وهو لا يستحق على الله شيئًا.
والخلاصة: أي ولئن آتيناه خيرًا وعافية وغنى، من بعد شدة ومرض وفقر.. ليقولن هذا الخير شيء أستحقه على الله، لرضاه بعملي، فظن أن تلك النعمة التي صار فيها، وصلت إليه باستحقاقه لها، ولم يعلم أنّ الله يبتلي عباده بالخير والشر ليتبين له الشاكر من الجاحد، والصابر من الجزع، قال مجاهد: معناه هذا بعملي وأنا محقوق به ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ﴾ أي: القيامة ﴿قَائِمَةً﴾؛ أي: ستقوم؛ أي: ما أظنها تقوم كما يخبرنا به الأنبياء، فلا رجعة ولا حساب ولا عقاب على شيء من الآثام، التي يقترفها الإنسان في دنياه، ويجترمها مدى حياته الدنيوية. أوْلست على يقين من البعث.
وما نتج هذا إلا من شدة رغبته في الدنيا، وعظيم نفرته من الآخرة، فهو حين ينظر إلى أحوال الدنيا، يقول: إنها لي، وأنا جدير بها، لما لي من فضل به استحققتها، وحين ينظر إلى أحوال الآخرة يقول: وما أظن الساعة قائمة، وهذا خاص بالكافرين والمنافقين، فيكون المراد بالإنسان المذكور في صدر الآية: الجنس، باعتبار غالب أفراده؛ لأنّ اليأس من رحمة الله، والقنوط من خيره، والشك في البعث لا يكون إلا من الكافرين، أو المتزلزلين في الدين، المتظهّرين بالإِسلام، المبطنين للكفر.
﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ﴾ ورددت ﴿إِلَى رَبِّي﴾ وبعثت على تقدير صدق ما يخبرنا به الأنبياء، من قيام الساعة، وحصول البعث والنشور ﴿إِنَّ لِي عِنْدَهُ...﴾؛ أي:
(١) المراغي.
15
عند ربي في الآخرة ﴿لَلْحُسْنَى﴾؛ أي: للحالة الحسنة من الكرامة، فظنّ أنه استحقّ خير الدنيا بما فيه من الفضل، واستحق خير الآخرة بذلك الفضل، الذي اعتقده في نفسه، وأثبته لها، فقاس أمر الآخرة على أمر الدنيا بالوهم المحض، والأمنية الكاذبة، وهو اعتقاد باطل، وظن فاسد.
وبعد أن حكى عنهم هذه الأقوال، ذكر أنه سيظهر لهم، أنّ الأمر بعكس ما يظنون وبضد ما يعتقدون، فقال: ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: فعزتي وجلالي، لنخبرن هؤلاء الكافرين يوم يرجعون فيه إلينا، وهو يوم القيامة ﴿بِمَا عَمِلُوا﴾ في الدنيا من المعاصي، واجترحوا من الآثام، وما دسوا به أنفسهم من الخطايا، ثمّ لنجازينهم عليها، فيستبين لهم أنهم جديرون بالإهانة والاحتقار، لا بالكرامة والإحسان ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾، أي: من عذاب شديد، بسبب ذنوبهم، لا يعرف كنهه، ولا يمكنهم التفصي ولا الفكاك منه، لغلظته وإحاطته بجميع جهاتهم، وهو عذاب جهنم التي لا موت فيها، ولا يجدون عنها حولًا، واللام هذه والتي قبلها هي الموطئة للقسم. وفي "بحر العلوم" غليظ؛ أي؛ شديد أو عظيم، بدل ما اعتقدوه لأنفسهم من الإكرام والإعزاز من الله تعالى.
٥١ - وبعد أن حكى أقوال الذي أنعم عليه، بعد وقوعه في الجهد الجهيد، حكى أفعاله فقال: ﴿وَإِذَا﴾ نحن ﴿أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ﴾؛ أي: على هذا الجنس باعتبار غالب أفراده، فكشفنا عنه المرض، ووهبنا له الصحة والعافية، ورزقناه سعة العيش ﴿أَعْرَضَ﴾ عمّا دعوناه إليه: من طاعتنا، وعن الشكر على نعمتنا، كأنه لم يلق شدة قط، فنسي المنعم، وكفر بنعمته بترك شكره وطاعته ﴿وَنَأَى﴾؛ أي: تباعد بنفسه عن الشكر والطاعة، واستكبر عن الانقياد لأمرنا بكليته، لا ﴿بِجَانِبِهِ﴾ وعطفه فقط، ولم يمل إلى الشكر والطاعة تكبرًا وتعظمًا فالجانب مجاز عن النفس، كما في قوله تعالى: ﴿فِي جَنبِ اللهِ﴾، ويجوز (١) أن يراد به عطفه، فيكون على حقيقته، وهو عبارة عن الانحراف والازورار؛ لأنّ نأى الجانب عن الشكر،
(١) روح البيان.
16
يستلزم الانحراف عنه، كما قالوا: ثنى عطفه وتولى بركنه، فالباء للتعدية، والمعنى: حينئذٍ انحرف عن شكرنا. وقرأ يزيد بن القعقاع (١): ﴿وناء بجانبه﴾ بالألف قبل الهمزة.
﴿وَإِذَا مَسَّهُ﴾؛ أي: وإذا مس هذا الإنسان المعرض المتكبر ﴿الشَّرُّ﴾؛ أي: جنس الشر كالبلاء والمحنة، وإنما جيء بلفظ الماضي، ﴿وإذا﴾ لأنّ المراد: الشر المطلق، الذي حصوله مقطوع به ﴿فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾؛ أي: فهو ذو دعاء كثير؛ أي: وإذا مسه البلاء والجهد والفقر والمرض، فذو دعاء كثير، والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة مجازًا، يقال: أطال فلان الكلام وأعرض الدعاء إذا أكثر، فهو مستعار مما له عرض متسع، للإشعار بكثرته، فإن العريض يكون ذا أجزاء كثيرة وامتداد فمعنى الاتساع يؤخذ من تنكير عريض، فإنه يدل على التعظيم ومعنى: الامتداد يؤخذ من معنى الطول اللازم للعرض.
وإنما قال: ﴿عَرِيضٍ﴾ (٢) ولم يقل: طويل، مع أن كلًّا منهما كناية عن الكثرة؛ لأنّ قوله: عريض أبلغ من قوله: طويل إذ الطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه كذلك؛ أي: متسعًا فما ظنك بطوله، وقد استعير (٣) العرض هنا لكثرة الدعاء ودوامه، وهو من صفة الأجرام كما استعير الغلظ لشدة العذاب، ولا منافاة بين قوله: فيؤوس قنوط، وبين قوله: فذو دعاء عريض؛ لأنّ الأول في قوم، والثاني في آخرين، أو قنوط في البر وذو دعاء عريض في البحر، أو قنوط بالقلب، وذو ودعاء عريض باللسان، أو قنوط من الصنم، ذو دعاء عريض لله تعالى كما مر.
والمعنى: أنه إذا مسه الشر تضرع إلى الله، واستغاث به أن يكشف عنه ما نزل به واستكثر من ذلك فذكره في الشدة ونسيه في الرخاء، واستغاث به عند نزول النقمة، وتركه عند حصول النعمة، وهذا صنيع الكافرين، ومن كان غير
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) النسفي.
17
ثابت القدم من المسلمين.
٥٢ - ثم رجع سبحانه إلى مخاطبة الكفار ومحاجتهم، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد - ﷺ - ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني أيها المشركون؛ لأنّ الرؤية سبب للإخبار ﴿إِنْ كَانَ﴾ هذا القرآن ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ﴾؛ أي: كذّبتم به من غير نظر، واتباع دليل، ولم تقبلوه ولا عملتم بما فيه، مع تعاضد موجبات الإيمان به ﴿مَن﴾ استفهام ﴿مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ﴾ وخلاف ﴿بَعِيدٍ﴾ عنه؛ أي: لا أحد أضلّ منكم لفرط شقاوتكم وشدة عداوتكم والأصل: من أضل منكم فوضع ﴿مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ﴾ موضع الضمير لبيان حالهم في المشاقة، وأنها السبب في ضلالهم، فإن (١) من كفر بما نزل من عند الله، بأن قال: أساطير الأولين ونحوه، فقد كان مشاقًا لله؛ أي: معاديًا ومخالفًا له تعالى خلافًا بعيدًا عن الوفاق، ومعاداة بعيدة عن الموالاة ولا شك أن من كان كذا، فهو في غاية الضلال، وفي الآية إشارة إلى أن كل بلاءً وعناء ونعمة ورحمة ومضرة ومسرة، ينزل بالعبد، فهو من عند الله تعالى فإن استقبله بالتسليم والرضى صابرًا شاكرًا للمولى في الشدة، والرخاء والسراء والضراء، فهو من المهتدين المقربين، وإن استقبله بالكفر والجزع، فهو من الأشقياء المبعدين المضلّين، وفي الحديث القدسي: "إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه، أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل.. استحييت منه يوم القيامة، أن أنصب له ميزانًا وأنشر له ديوانًا".
قال بعض الكبار (٢): النعمة توجب الإعراض كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ...﴾ إلخ، ومس الضر يوجب الإقبال على الله، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ...﴾ إلخ، فالله تعالى رحيم على العبد بدفع النعمة والصحة عنه، لأنها مظنة الإعراض والبلاء للولاء كاللهب للذهب، فالبلاء كالنار، فكما أن النار لا تبقى من الحطب شيئًا إلا وأحرقته، فكذا البلاء لا يبقى من ضر الوجود شيئًا، فالطريق إلى الله على جادة المحنة أقرب من جادة المنحة إذ الأنبياء
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
والأولياء جاؤوا وذهبوا من طريق البلاء، وقد ثبت أن النار لا ترتفع من الدنيا أبدًا، فكيف يؤمل العاقل الراحة في الدنيا، فهي دار محنة، وقد ورد: "الدنيا سجن المؤمن" فالمؤمن لا يستريح في الدنيا، ولا يخلو من قلة أو علة أو ذلة، وله راحة عظمى في الآخرة، والكافر خاسر في الدنيا والآخرة، فعلى العبد أن يمشي على الصراط السوي، ويخاف من الزلق، ومن مكر الله تعالى.
وفي "فتح الرحمن": قال هنا (١): ﴿ثُمَّ كَفَرْتُمْ﴾ عاطفًا بثم، وفي الأحقاف قال: ﴿وكَفَرْتُمْ﴾ عاطفًا بالواو، فما الفرق بين الموضعين قلتُ: عطف هنا بـ ﴿ثُمّ﴾ لأن المعنى: ثم كان عاقبة أمركم بعد الإمهال، للنظر والتدبر الكفر، فناسب ذكر ﴿ثُمَّ﴾ الدالة على الترتيب، وما في الأحقاف لم ينظر فيه إلى ترتيب كفرهم على ما ذكر، بل عطف على ﴿كَفَرْتُمْ﴾ و ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ﴾ بالواو، فناسب ذكرها لدلالتها على مطلق الجمع.
والمعنى (٢): أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالقرآن، الذي جئتهم به من عند ربك: أخبروني أيها القوم: إن كان هذا الذي أنتم به تكذبون، من عند ربي، ثم كفرتم به.. أفلا تكونون مفارقين للحق، بعيدين من الصواب، وقد كانوا كلما سمعوا القرآن، أعرضوا عنه، وبالغوا في النفرة منه، حتى قالوا ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾، فلفت أنظارهم إلى أنه يجب عليهم النظر، والتأمل فيه، فإن دلّ دليل على صحته قبلوه، وإن أرشد إلى فساده تركوه، أما قبل ذلك، فالإصرار على الإعراض والإنكار، بعيدان عن الصواب وعما يحكم به العقل، فما أضلكم وأكثر عنادكم ومشاقتكم للحق واتباعكم للهوى.
وخلاصة ذلك: قل لهم: من أشد ذهابًا عن قصد السبيل، وأسلك لغير طريق الصواب، ممن هو في فراق لأمر الله، وخلاف له، وبعد عنه.
٥٣ - وبعد أن ذكر أدلة التوحيد، والنبوة، أجاب عن شبهات المشركين، وتمويهات الضالين، فقال: ﴿سَنُرِيهِمْ﴾؛ أي: سنري كفار قريش ﴿آيَاتِنَا﴾؛ أي:
(١) فتح الرحمن.
(٢) المراغي.
19
دلائلنا الدالة على قدرتنا. ووحدانيتنا المذكورة في القرآن، المبينة لهم فيما أوحى إلى محمد - ﷺ -، من الحكمة الدالة على صدق القرآن وحقيقته، وكونه من عند الله تعالى حالة كون تلك الآيات ﴿فِي الْآفَاقِ﴾؛ أي: في آفاق الأرض ونواحيها والمراد (١) بالآيات الآفاقية: ما أخبرهم النبي - ﷺ - من الحوادث الآتية، كغلبة الروم على فارس في بضع سنين، وآثار النوازل الماضية، الموافقة لما هو المضبوط، المقرّر عند أصحاب التواريخ، والحال، أنه - ﷺ - أميّ لم يقرأ، ولم يكتب، ولم يخالط أحدًا، وما يسر الله له، ولخلفائه من الفتوح، والظهور على آفاق الدنيا، والاستيلاء على بلاد المشارق، والمغارب، على وجه خارق للعادة، إذا لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم ﴿و﴾ حالة كونها ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: في أنفس أهل مكة، والمراد بالآيات التي في أنفسهم، هو ما ظهر بين أهل مكة من القحط والخوف، وما حل بهم يوم بدر ويوم الفتح من القتل والمقهورية، ولم ينقل إلينا أن مكة فتحت على يد أحد، قبل رسول الله - ﷺ -، وكذا قتل أهلها وأسرهم.
وقيل (٢): المراد بالآفاق: أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم وما يترتب عليها من الليل والنهار والأضواء والظلال والظلمات ومن النبات والأشجار والأنهار، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة، وبديع الحكمة في تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام، وحدوث الأعضاء العجيبة، والتراكيب الغريبة، كقوله تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١)﴾.
واعتذر بأن معنى السين - مع أن اراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك - أنه تعالى سيطلعهم على تلك الآيات زمانًا فزمانًا، ويزيدهم وقوفًا على حقائقها يومًا فيومًا، قالوا: الآفاق هو العالم الكبير، والأنفس هو العالم الصغير ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ﴾ ويتضح ﴿لَهُم﴾؛ أي: لأهل مكة بما أريناهم من تلك الآيات. المذكورة في القرآن، أو في الحكمة ﴿أَنَّهُ﴾؛ أي: أنّ القرآن أو الرسول محمدًا - ﷺ -،
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
20
فالقصر المستفاد من تعريف المسند حقيقي ادعائي، أو الله أو التوحيد فالقصر إضافي تحقيقي؛ أي: لا الشركاء ولا التشريك، والأول أولى، والضمائر في ﴿سَنُرِيهِمْ﴾ ﴿وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ ﴿وَلَهُمْ﴾ للمشارفين منهم على الاهتداء، أو للجميع، على أنه من وصف الكل بوصف البعض.
والمعنى (١): أي سنري هؤلاء المشركين، وقائعنا بالبلاد المحيطة بمكة، وبمكة بما أجريناه على يدي نبينا، وعلى يدي خلفائه وأصحابه من الفتوح الدالة على قوة الإِسلام وأهله، ووهن الباطل وحزبه، حتى يعلموا حقيقة ما أوحينا به إليك، وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وأن وعده صادق، وأنه مظهر دينك على الأديان كلها.
والخلاصة: سنيسر لهم من الفتوح، ما لم يتيسر لأحد ممن قبلهم، ونظهرهم على الجبابرة والأكاسرة، ونجري على أيديهم من الأمور الخارجة عن المعهود الخارقة للعادة، فيستبين لهم أنّ هذا القرآن هو الحق، ومن ثمّ نصر حامليه، وأظهرهم على أعدائهم في قليل من الزمان.
ثمّ وبّخهم على إنكارهم تحقّق هذه الإراءة وحصولها فقال: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ﴾ استئناف وارد (٢) لتوبيخهم على تردّدهم في شأن القرآن، وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات، وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى والهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف يقتضيه السياق، والباء مزيدة للتأكيد؛ أي: ألم يغن، ولم يكف ربك ﴿أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ بدل منه؛ أي: ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة، المبينة لحقّية القرآن، ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء، وقد أخبر بأنه من عنده، فعدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم، كما يصرحه قوله الآتي: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾ وقرىء (إن) بكسر الهمزة على إضمار القول، أو على الاستئناف.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
21
والمعنى (١): أي كفى بالله شهيدًا على أفعال عباده، وأقوالهم، وهو يشهد بأن محمدًا - ﷺ - صادق، فيما أخبر به عنه، كما قال: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ الآية، وقال أيضًا: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ﴾.
وقصارى ذلك: ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة، التي أوضحها سبحانه في هذه السورة، وفي كل سور القرآن، وفيها البيان الكافي لإثبات وحدانية الله، وتنزيهه عن كل نقص، وإثبات النبوة والبعث.
٥٤ - وبعد أن أقام الأدلة، وأوضح الحجج، حتى لم يبق بعدها مقال لمتعنت، ولا جاحد بيّن سبب عنادهم واستكبارهم، فقال: ﴿أَلَا﴾ كلمة استفتاح، تنبه السامع على ما يقال ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: كفار مكة ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾؛ أي: في شك عظيم وشبهة شديدة، وقرأ (٢) السلمي والحسن ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ بضم الميم، وهو لغة في مكسورة الميم ﴿مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾ بالبعث والجزاء، فإنهم استبعدوا إحياء الموتى بعدما تفرقت أجزاؤهم وتبددت أعضاؤهم، ومن ثمّ لا يلتفتون إلى النظر فيما ينفعهم، عند لقائه، كالتفكر في نبوة محمد - ﷺ -، وأن القرآن حق لا شك فيه، وفيه إشارة (٣) إلى أن الشك أحاط بجميع جوانبهم، إحاطة الظرف بالمظروف، لا خلاص لهم منه، وهم مستمرون دائمون فيه ﴿أَلَا إِنَّهُ﴾ سبحانه ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الموجودات؛ أي: بجميع الأشياء جملها وتفاصيلها، ظواهرها وبواطنها ﴿مُحِيطٌ﴾ أحاط علمه بجميع المعلومات، وأحاطت قدرته بجميع المقدورات، فلا تخفى عليه خافية منهم، وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن من أحاط علمه بكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء جازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
والمعنى: أي إنه تعالى عليم بجمل الأشياء وتفاصيلها، مقتدر عليها لا يفوته شيء منها، فهو يعلم ما تفرق من أجزاء الأجسام، ويقدر على إعادتها إلى
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
22
أمكنتها، ثم بعثها وحسابها، لتستوفي جزاءها على ما قدّمت من عمل،
الإعراب
﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾.
﴿إِلَيْهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿يُرَدُّ﴾، ﴿يُرَدُّ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ﴿عِلْمُ السَّاعَةِ﴾: نائب فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ نافية، ﴿تَخْرُجُ﴾: فعل مضارع، ﴿مِن﴾: حرف جر زائد. ﴿ثَمَرَاتٍ﴾ فاعل. ﴿مِنْ أَكْمَامِهَا﴾ متعلق بـ ﴿تَخْرُجُ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُرَدُّ﴾، وقيل: ﴿ما﴾: موصولة في محل جر، معطوف على الساعة؛ أي: علم الساعة، وعلم التي تخرج من ثمرات، ومن الأولى للاستغراق، ومن الثانية لابتداء الغاية. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿تَحْمِلُ﴾: فعل مضارع، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿أُنْثَى﴾: فاعل، ﴿وَلَا﴾: الواو عاطفة. ﴿لا﴾ نافية، وفاعله ضمير يعود على أنثى، والجملة معطوفة على ما قبلها ﴿تَضَعُ﴾ فعل مضارع والفاعل يعود على ﴿أُنْثَى﴾، ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، من أعم الأحوال، ﴿بِعِلْمِهِ﴾ جار ومجرور، متعلق بمحذوف، وقع حالًا من أعم الأحوال، والتقدير: وما يحدث شيء من خروج ثمرة، أو حمل حامل، أو وضع واضع ملابسًا بحال من الأحوال، إلا حالة كونه ملابسًا بعلمه المحيط.
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿يوم﴾: ظرف زمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد لقومك، قصة يوم يناديهم، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿يُنَادِيهِمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾. ﴿أَيْنَ﴾: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية المكانية، متعلق بمحذوف خبر مقدم، ﴿شُرَكَائِي﴾: مبتدأ
23
مؤخر، ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب، مفعول ثان لـ ﴿يُنَادِيهِمْ﴾، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿آذَنَّاكَ﴾: فعل ماض وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قَالوا﴾، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿مِنَّا﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿مِنْ﴾: حرف جر زائد، ﴿شَهِيدٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب، سادّة مسدّ المفعول الثاني والثالث لـ ﴿آذَنَّاكَ﴾ علق عنهما بما النافية؛ لأنه بمعنى أعلمناك، فيتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، ﴿وَضَلَّ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿ضل﴾: فعل ماض، ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَدْعُونَ﴾: خبره، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق بـ ﴿يَدْعُونَ﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، وجملة ﴿ضلَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَظَنُّوا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿ظنوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على قالوا. ﴿مَا﴾: نافية، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿مِن﴾: زائدة ﴿مَحِيصٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية سادة مسد مفعولي ظنّ؛ لأنه علق عنهما بما النافية.
﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾.
﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَسْأَمُ﴾، ﴿وَإِنْ﴾: الواو: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿مَسَّهُ الشَّرُّ﴾: فعل ومفعول به، وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فَيَئُوسٌ﴾: الفاء رابطة الجواب وجوبًا، ﴿يئوس﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره فهو يؤوس ﴿قَنُوطٌ﴾ خبر ثان، والجملة الاسمية في محل الجزم، بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿لَا يَسْأَمُ﴾. ﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، واللام موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم ﴿أَذَقْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها، ﴿رَحْمَةً﴾: مفعول ثان لـ ﴿أَذَقْنَاهُ﴾. ﴿مِنَّا﴾ صفة لـ ﴿رَحْمَةً﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَذَقْنَاهُ﴾،
24
﴿ضَرَّاءَ﴾ مضاف إليه مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف لألف التأنيث الممدودة ﴿مَسَّتْهُ﴾: فعل ماض ومفعول به. وفاعل مستتر يعود على ضرّاء، والجملة الفعلية في محل الجر، صفة لـ ﴿ضَرَّاءَ﴾، وجواب الشرط محذوف، لسد جواب القسم مسده، تقديره: وإن أذقناه رحمة منا، يقول هذا لي، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معترضة بين القسم وجوابه على القاعدة المشهورة، فيما إذا اجتمع شرط وقسم، يكون الجواب للسابق، وجواب الآخر محذوف ﴿لَيَقُولَنَّ﴾ اللام: رابطة لجواب القسم، مؤكدة للأولى ﴿يقولن﴾: فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم. مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الإنسان، والجملة الفعلية جواب القسم. لا محل لها من الإعراب. وجملة القسم مع جوابه، معطوفة على جملة قوله: وإن مسه الشر ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿لي﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، واللام فيه للاستحقاق؛ أي: استحقه بعملي، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول ﴿ليقولن﴾.
﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿أَظُنُّ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ﴿السَّاعَةَ﴾: مفعول أول لـ ﴿أَظُنُّ﴾، ﴿قَائِمَةً﴾: مفعول ثان له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: هذا لي، على كونها مفعولًا لـ ﴿يَقُولُ﴾، ﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، واللام: موطئة للقسم. ﴿إنْ﴾ حرف شرط جازم، ﴿رُجِعْتُ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿إِلَى رَبِّي﴾: متعلق بـ ﴿رُجِعْتُ﴾، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده، على القاعدة المذكورة في قوله:
مِحَنُ الزَّمَانِ كَثِيْرَةٌ لَا تَنْقَضِيْ وَسُرُوْرُهُ يَأْتِيْكَ كَالأَعْيَادِ
واحذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلَتَزَمْ
والتقدير: وإن رجعت إلى ربي فإن لي عنده للحسنى، وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه، لا محل لها من الإعراب. ﴿إنَّ﴾ حرف نصب. ﴿لي﴾: خبر مقدم لـ ﴿إنَّ﴾، ﴿عِنْدَهُ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال
25
من الحسنى ﴿لَلْحُسْنَى﴾: اللام: حرف ابتداء. ﴿الحسنى﴾ اسم ﴿إنَّ﴾ مؤخر. وجملة ﴿إنَّ﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه، معطوفة على جملة قوله: هذا لي، على كونها مقولًا ليقولن ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حال الكافر المذكور، وأردت بيان عاقبته.. فأقول لك، ﴿لننبئن﴾ واللام: موطئة للقسم، ﴿ننبئن﴾: فعل مضارع مبني على الفتح، في محل الرفع، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: نحن، ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب. مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿ننبئن﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له، وما موصولة أو مصدرية. ﴿عَمِلُوا﴾ فعل وفاعل، صلة لما الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بما عملوه، أو صلة لما المصدرية؛ أي: بعملهم. ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، واللام موطئة للقسم. ﴿نذيقن﴾: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، والهاء ضمير الغائبين في محل النصب مفعول أول، ﴿مِنْ عَذَابٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿نذيقن﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له ﴿غَلِيظٍ﴾ صفة لـ ﴿عَذَابٍ﴾، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (٥١)﴾.
﴿وَإذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿أَنْعَمْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَى الْإِنْسَانِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿أَعْرَضَ﴾ فعل وفاعل مستتر يعود على الإنسان، وجملة أعرض جواب ﴿إذا﴾، لا محل لها من الإعراب. وجملة إذا مستأنفة. ﴿وَنَأَى﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿نأى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر. معطوف على أعرض، ﴿بِجَانِبِهِ﴾
26
متعلق بـ ﴿نَأَى﴾، ﴿وَإذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿مَسَّهُ الشَّرُّ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، ﴿فَذُو دُعَاءٍ﴾ الفاء: رابطة لجواب إذا وجوبًا ﴿ذو﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهو ذو دعاء. ﴿ذو﴾ مضاف ﴿دُعَاءٍ﴾: مضاف إليه، ﴿عَرِيضٍ﴾: صفة ﴿دُعَاءٍ﴾، والجملة الاسمية جواب ﴿إذا﴾، لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ الأولى.
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة، ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ومفعول ﴿رأى﴾ الأول: محذوف، وتقديره: أرأيتم أنفسكم. والثاني: هو الجملة الاستفهامية. ﴿إنْ﴾ حرف شرط. ﴿كان﴾: فعل ماض ناقص، في محل الجزم بإن على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير مستتر فيها، تقديره: هو يعود على القرآن. ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كان﴾، ﴿ثُمّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿كَفَرْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم، معطوف على ﴿كان﴾. وجواب الشرط محذوف تقديره: فأنتم أضل من غيركم، أو ليس ثمة أضل منكم، وجملة الشرط جملة اعتراضية، لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين المفعولين الأول والثاني. ﴿بِهِ﴾ متعلقان به ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام، في محل الرفع مبتدأ، ﴿أَضَلُّ﴾: خبره. ﴿مِمَّنْ﴾ متعلق بـ ﴿أَضَلُّ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾، ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿فِي شِقَاقٍ﴾ خبر، ﴿بَعِيدٍ﴾ صفة ﴿شِقَاقٍ﴾، والجملة الاسمية صلة من الموصولة. ﴿سَنُرِيهِمْ﴾ السين حرف استقبال. ﴿نريهم﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول أول ﴿آيَاتِنَا﴾ مفعول ثان. والرؤية هنا بصرية، فلذلك عدّيت إلى اثنين
27
فقط، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿فِي الْآفَاقِ﴾ حال من آياتنا، ﴿وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾: معطوف على في الآفاق، ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية ﴿يَتَبَيَّنَ﴾: فعل مضارع منصوب، بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى، ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَتَبَيَّنَ﴾، ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ ناصب واسمه، وخبره، وجملة أنّ في تأويل مصدر، مرفوع على الفاعلية ليتبين، تقديره: حتى يتبين لهم كونه الحق من ربهم، وجملة يتبين صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى، تقديره: إلى تبين كونه الحق، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا﴾، ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف يقتضيه السياق، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم يغنهم ولم يكفهم، والجملة المحذوفة جملة استفهامية، لا محل لها من الإعراب، ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَكْفِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ﴿بِرَبِّكَ﴾ الباء زائدة، ﴿رَبِّكَ﴾: فاعل مجرور لفظًا مرفوع محلًا، والمفعول محذوف تقديره: أو لم يكفك ربك، أو لم يكفهم ربك، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿أَنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿شَهِيدٌ﴾، و ﴿شَهِيدٌ﴾: خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر، مرفوع على كونه بدلًا من ربك، والتقدير: أو لم يكف ربك شهادته على كل شيء، ﴿أَلَا﴾ حرف استفتاح ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾: خبره، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة، ﴿مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿مِرْيَةٍ﴾، أو صفة له، ﴿أَلَا﴾: حرف استفتاح، ﴿إنَّه﴾ ناصب واسمه ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ متعلق بـ ﴿مُحِيطٌ﴾، و ﴿مُحِيطٌ﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة أيضًا.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ﴾ وهو من المضاعف، أصله: يردد بوزن يفعل نقلت حركة الدال الأولى إلى الراء، فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية، فصار يرد بوزن يفل، ﴿مِنْ أَكْمَامِهَا﴾ قال في "القاموس": الكم بضم الكاف، مدخل اليد ومخرجها من الثوب، والجمع أكمام وكممة، وبكسرها وعاء الطلع وغطاء النور كالكمامة،
28
والكمة بالكسر فيهما، والجمع أكمّة وأكمام وكمام، ويؤخذ من "الأساس"، وغيرها من المعاجم الكبرى، الكم بضم الكاف مدخل اليد ومخرجها من الثوب، جمعه أكمام، وكممة بكسر الكاف، والكمة بضم الكاف، القلنسوة المدورة، وكل ظرف غطيت به شيئًا، وألبسته إياه فصار له، كالغلاف، والكم بكسر الكاف، الغلاف الذي يحيط بالزهر، أو الثمر، أو الطلع فيستره، ثم ينشق عنه جمعه أكمة، وأكمام وكمام وأكاميم، ومن ذلك أكمام الزرع؛ أي: غلفها التي يخرج منها، وأكمة الخيل مخاليها المعلقة على رؤوسها، الواحد منها كمام، والكمامة بكسر الكاف غطاء الزهر، ووعاء الطلع. والكمامة أيضًا بالكسر، والكمام ما يكم به فم الحيوان، لئلا يعضّ، أو يأكل إلى آخر هذه المادة المطولة.
﴿مِنْ مَحِيصٍ﴾؛ أي: مهرب، اسم مكان، من حاص كمبيع من باع، وأصله: محيص بكسر الياء، بوزن مفعل بكسر العين، نقلت حركة الياء إلى الحاء، فسكنت فصارت حرف مد، من حاص يحيى حيصًا ومحيصًا إذا هرب، وفي "المفردات": أصله من قولهم: وقع في حيص بيص؛ أي: في شدة، وحاص عن الحق، يحيص إذا حاد عنه إلى شدة ومكروه. وفي "القاموس": حاص عنه إذا عدل، وحاد، والمحيص المحيد والمعدل والمميل والمهرب.
﴿فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ وفي "المختار": اليأس القنوط، وقد يئس من الشيء من باب فهم، وفيه لغة أخرى، يئس ييئس بالكسر فيهما، وهي شاذة. ورجل يؤس وييئس، أيضًا، وبمعنى علم في لغة النخع، ومنه قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وآيسه من كذا، فاستيأس منه، بمعنى أيس اهـ. وفيه أيضًا أيس منه، لغة في يئس، وبابهما فهم، وآيسه منه غيره بالمد، مثل أيأسه، وكذا أيسه بتشديد الياء تأييسًا اهـ، وفيه أيضًا لقنوط اليأس، وبابه جلس ودخل وطرب وسلم، فهو قنط وقنوط وقانط، فأما قنط يقنط بالفتح فيهما، وقنط يقنط بالكسر، فإنما هو على الجمع بين اللغتين اهـ، والفرق بين اليأس والقنوط، أن اليأس انقطاع الرجاء القلبي من حصول الخير، والقنوط ظهور أثر ذلك على البدن، من المذلة والانكسار والحزن.
29
﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ﴾ أصله: أظنن بوزن أفعل، نقلت حركة النون الأولى إلى الظاء، فسكنت فأدغمت في النون الثانية، فصار أظن بوزن أفل ﴿وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ قرأه الجمهور ﴿نأى﴾، وفيه إعلال بالقلب أصله: نأي بوزن فعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، وقرأ ابن ذكوان وغيره عن ابن عامر ﴿وناء﴾ بتقديم الألف على الهمزة بوزن بآء إما لأنه من ناء ينوء، بمعنى نهض، وليس من النأي أو من نأى، ووقع في الكلمة قلب مكاني، حيث قدمت لام الفعل التي هي الياء، وجعلت مكان العين التي هي الهمزة، ثم أبدلت الياء المقدمة ألفًا، لتحركها بعد فتح، والله أعلم، وعلى أنه من ناء ينوء، فاصله: نوأ بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا، لتحركها بعد فتح، ومعناه: نهض، وفي "الفتوحات": ناء بتأخير الهمزة عن الألف بوزن قال، ونأى بتقديم الهمزة على الألف بوزن رمى، اهـ.
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ﴾ أصله: سنرئيهم، بوزن سنفعل نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم حذفت للتخفيف، ثم سكنت الياء لوقوعها بعد كسرة، لتكون حرف مد. والآفاق جمع أفق بضمتين، كأعناق وعنق أبدلت همزته ألفًا. وهي الناحية من نواحي الأرض، وكذا آفاق السماء نواحيها وأطرافها كذا قال أهل اللغة، ونقل الراغب: أنه يقال: أفق بفتحتين كجبل وأجبال، وأفق فلان؛ أي: ذهب في الآفاق، والآفاقي الذي بلغ نهاية الكرم تشبيهًا في ذلك بالذاهب في الآفاق، والنسبة إلى الأفق أفقي بفتحهما، قلت: ويحتمل أنه نسبة إلى المفتوح، واستغنوا بذلك عن النسبة إلى المضموم، وله نظائر اهـ "فتوحات".
﴿فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾ لقاء فيه إعلال بالقلب أصله: لقاي أبدلت الياء همزة، لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ من الإحاطة، والإحاطة إدراك الشيء بكماله، وفيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: محوط بوزن مفعل، نقلت حركة الواو إلى الحاء، فسكنت إثر كسرة، فقبلت ياء حرف مد.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
30
فمنها: الحصر المستفاد من تقديم المعمول على عامله، في قوله: ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ﴾؛ أي: لا إلى غيره.
ومنها: الطباق بين ﴿رَحْمَةً﴾ و ﴿ضَرَّاءَ﴾.
ومنها: وصف الجنس بوصف غالب أفراده، في قوله: ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ﴾ لأن اليأس من رحمة الله، لا يتأتى إلا من الكافر.
ومنها: المبالغات في قوله: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ وقد تضمن هذا الكلام مبالغات، حيث أكد بالقسم، وبإن، وبتقديم الظرفين، وبالعدول إلى صيغة التفضيل، إذ الحسنى تأنيث الأحسن، وإنما يقول ذلك، لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا، يستحقه، فيستحق مثله في الآخرة. اهـ "كرخي".
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾؛ لأن الجانب مجاز عن النفس، كالجنب في قوله تعالى: ﴿فِي جَنبِ اللهِ﴾ علاقته الكلية والجزئية.
ومنها: الاستعارة المكنية، التخيلية في قوله: ﴿فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ فقد شبه الدعاء بأمر يوصف بالامتداد، ثم أثبت له العرض، فاستعار العرض لكثرة الدعاء وديمومته، وهو من صفات الأجرام، ويستعار له الطول أيضًا، ولكن استعارة العرض أبلغ؛ لأنه إذا كان عرضه كذلك، فما ظنك بطوله، والطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه بهذه المثابة.. فناهيك بطوله.
ومنها: تنكير عريض للدلالة على العريض.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
31
مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
١ - وصف الكتاب الكريم.
٢ - إعراض المشركين عن تدبره.
٣ - جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين.
٤ - إقامة الأدلة على الوحدانية.
٥ - إنذار المشركين بأنه سيحل بهم ما حل بالأمم قبلهم.
٦ - شهادة الأعضاء عند الحشر على أربابها.
٧ - ما يفعله قرناء السوء من التضليل والصد عن سبيل الله.
٨ - ما كان يفعله المشركون حين سماع القرآن.
٩ - طلب المشركين إهانة من أضلوهم انتقامًا منهم.
١٠ - ما يلقاه المؤمنون من الكرامة يوم العرض والحساب.
١١ - إعادة الأدلة على الوحدانية.
١٢ - القرآن هداية ورحمة.
١٣ - إحاطة علم الله وعظيم قدرته.
١٤ - من طبع الإنسان التكبر عند الرخاء والتضرع وقت الشدة.
١٥ - آيات الله في الآفاق والأنفس الدالة على وحدانيته وقدرته.
١٦ - شك المشركين في البعث والنشور ثم الرد عليهم (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) وكان الفراغ من تفسير هذه السورة يوم السبت وقت الضحوة، في السابع من شهر شوال، من شهور سنة ألف وأربع مئة، وأربع عشرة، سنة ٧/ ١٠/ ١٤١٤ من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية.
32
سورة الشورى
سورة الشورى، وتسمّى سورة حم عسق، وسورة حم عسق مكية في قول (١) ابن عباس والجمهور، وحكي عن ابن عباس: إلا أربع آيات، نزلت بالمدينة، أولها: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾، وقيل: فيها من المدني: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ﴾، إلى قوله ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، وقوله ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾.
وآيها: ثلاث وخمسون آية، نزلت بعد فصّلت. وكلماتها: ثمان مئة وست وثمانون كلمة. وحروفها: ثلاثة آلاف، وخمس مئة، وثمانية وثمانون حرفًا، والله تعالى أعلم.
ومناسبتها لما قبلها (٢): اشتمال كل منهما على ذكر القرآن، ودفع مطاعن الكفار فيه، وتسلية النبي - ﷺ - على ذلك.
وقال أبو حيان (٣): مناسبة أول هذه السورة لأخر ما قبلها، أنه قال فيما قبلها: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...﴾ الآية، وكان في ذلك الحكم عليهم بالضلال، لما كفروا به، وقال هنا: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل الإيحاء السابق في القرآن، الذي كفر به هؤلاء ﴿يُوحِي إِلَيْكَ﴾؛ أي: إن وحيه تعالى إليك متصل غير منقطع، يتعهدك وقتًا بعد وقت.
ومن فضائلها: ما روي عن النبي - ﷺ -: "من قرأ حم عسق، كان ممن يصلي عليه الملائكة، ويستغفرون له ويسترحمون له".
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله، محمد بن حزم: سورة الشورى كلها محكم، غير ثماني آيات:
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
33
أولاهنّ: قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية (٥) نسخت بالآية التي في سورة المؤمن: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ (٧).
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ نسخت بآية السيف.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ (١٥)، نسخت بقوله تعالى في سورة التوبة: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ الآية (٢٠)، نسخت بقوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ﴾.
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ الآية (٢٣)، مختلف في نسخها، ناسخها قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ الآية (٤٧) سبأ.
الآية السادسة: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)﴾ (٣٩).
الآية السابعة: قوله تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)﴾ (٤١) الآيتان، نسختا بقوله عزّ وجل: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)﴾.
الآية الثامنة: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ الآية (٤٨) نسخت بآية السيف.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
34

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ

﴿حم (١) عسق (٢) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (١٨)﴾.
35
المناسبة
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ...﴾ الآيات، مناسبة أول هذه السورة لآخر السابقة: أنه قال في آخر السابقة: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ...﴾ الآية، ولما كان في ذلك، الحكم عليهم بالضلال لما كفروا به، قال هنا كذلك؛ أي: مثل الإيحاء السابق في القرآن، الذي كفر به هؤلاء يوحي إليك؛ أي: إن وحيه تعالى إليك، متصل غير منقطع، يتعهّدك وقتًا بعد وقت.
وبيّن سبحانه: أنّ ما جاء في هذه السورة، موافق لما في تضاعيف الكتب، المنزلة على سائر الرسل، من الدعوة إلى التوحيد، والإيمان باليوم الآخر، والتزهيد في جمع حطام الدنيا، والترغيب فيما عند الله، ثم ذكر أن ما في السموات والأرض فهو ملكه وتحت قبضته، وله التصرف فيه إيجادًا وإعدامًا، وتكوينًا وإبطالًا وأنّ السموات والأرض على عظمهما، تكاد تتشقّق فرقًا من هيبته، وجلاله سبحانه، وأن الملائكة ينزّهونه عما لا يليق به، من صفا النقص، ويطلبون المغفرة لعباده المؤمنين، ثم أردت هذا بتسلية رسول - ﷺ -، بأنه ليس بالرقيب على عبدة الأصنام والأوثان، فيستطيع أن يردّهم إلى سواء السبيل، بل ليس عليه إلا البلاغ، وعلينا حسابهم، فلا يبخع نفسه عليهم حسرات، إن الله عليم بما يصنعون.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما (١) بيّن فيما سلف، أنه هو الرقيب على عباده، المحصي لأعمالهم، وأنه - ﷺ - نذير فحسسب، وليس عليه إلا البلاغ.. ذكر هنا أنه أنزل كتابه بلغة العرب، ليفهمه قومه من أهل مكة، وما حولها كما قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ وينذرهم، بأن يوم القيامة آت لا شك فيه، وأن الناس إذ ذلك فريقان: فريق يدخل الجنة، بما قدّم من صالح
(١) المراغي.
36
الأعمال، وفريق يدخل النار بما دسّى به نفسه من سيِّء الأفعال، ثم ذكر أنّ حكمته اقتضت أن يكون الإيمان بالتكليف اختيارًا، ولم يشأ أن يكون قسرًا وجبرًا، ولو شاء أن يكون كذلك لفعل، فمن أخبت لله وأناب وعمل صالحًا أفلح، وفاز بالسعادة، ومن عاث في الأرض فسادًا، واتجهت همته إلى ارتكاب الثرور والآثام خسر، وباء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المهاد، ولا يجد له من دون الله وليًا ولا نصيرًا.
قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر أنهم اتخذوا من دون الله أولياء، وأن الله وكيل عليهم، ولست أيها الرسول بالحفيظ عليهم.. طلب إليه هنا، أن يدع الاهتمام بأمرهم، ويقطع الطمع في إيمانهم، مبينًا أنهم اتخذوا من دون الله أولياء، وهو سبحانه الولي حقًا، القادر على كل شيء فقد عدلوا إلى ما لا نسبة بينه وبينهم بحال.
قوله: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما عظم (١) وحيه إلى رسوله - ﷺ -، وأبان ما له من كبير الخطر، حين نسبه إليه تعالى، وأنه صادر من عزيز حكيم، لا يوحي إلا بما فيه مصلحة البشر، ومنفعتهم في دينهم ودنياهم.. ذكر هنا تفصيل هذا الوحي، وأرشد إلى أنه هو الدين الذي وصّى به أكابر الأنبياء، وأصحاب الشرائع العظيمة، والأتباع الكثيرة، وأردف ذلك أن المشركين يشقّ عليهم دعوتهم إلى التوحيد، وترك الأنداد والأوثان، وأنّ الله يهدي من يشاء من عباده لهدي دينه، وأنهم ما خالفوا الحق إلا بعد إبلاغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وأنه ما حملهم على ذلك إلا البغي والعدوان والحسد، وأنه لولا الكلمة السابقة من الله، بإنظار المشركين بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد.. لعجّل لهم العقوبة في الدنيا، وأن من اعتنقوا الأديان من بعد الأجيال الأولى، ليسوا على يقين من أمرهم، وإيمانهم،
(١) المراغي.
37
وإنما هم مقلّدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان، وهم في حيرة من أمرههم وشك مريب، وشقاق بعيد.
قوله تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه، لما (١) أمرهم بالوحدة في الدين وعدم التفرّق فيه، وذكر أنهم قد تفرّقوا فيه من بعد ما جاءهم العلم بغيًا وحسدًا وعنادًا واستكبارًا، أمر رسوله - ﷺ -، بالدعوة إلى الاتفاق على الملة الحنيفية والثبات عليها، والدعوة إليها، وأن لا يتبع أهواءهم الباطلة. ثم أمره بالإيمان بجميع الكتب السماوية وبالعدل بين الناس والمساواة بينهم وبين نفسه، فلا يأمرهم بما لا يعمله، أو يخالفهم فيما نهاهم عنه، ثم أردف ذلك ببيان أن إلههم جميعًا واحد، وأنّ كل امرىء مسؤول عن عمله، وأن الله يجمع الناس يوم القيامة، ويجازيهم بأعمالهم.
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة، على عشرة أوامر ونواه، كل منها مستقل بذاته ودالّ على حكم برأسه، ولا نظير لها في ذلك إلا آية الكرسي، فهي عشرة فصول أيضًا.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى، لما ذكر فيما سلف، أن لا محاجة بين المشركين والمؤمنين لوضوح الحجة، بيّن هنا أنّ الذين يخاصمون في دين الله، من بعد ما استجاب الناس له، ودخلوا فيه أفواجًا، حجتهم في الصرف عنه زائفة، لا ينبغي النظر إليها، وعليهم غضب من ربهم، لمكابرتهم للحقّ بعد ظهوره، ولهم عذاب شديد يوم القيامة.
رُوي: أن اليهود قالوا للمؤمنين: إنكم تقولون: إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، ونبوّة موسى وتوراته مسلّمة بيننا وبينكم، ونبوّة محمد - ﷺ - ليست كذلك، وإذًا لأخذ باليهودية أولى فدحض الله سبحانه وتعالى هذه الحجة، بأنّ الإيمان بموسى إنما وجب لظهور المعجزات على يديه. دالة
(١) المراغي.
38
Icon