تفسير سورة فصّلت

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب مختصر تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

بسم الله الرحمن الرحيم.
- ١ - حم
- ٢ - تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- ٣ - كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
- ٤ - بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ
- ٥ - وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنُ منزل مِّنَ الرحمن الرحيم، كقوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ أَيْ بُيِّنَتْ مَعَانِيهِ وَأُحْكِمَتْ أَحْكَامُهُ، ﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ أَيْ فِي حَالِ كونه قرآناً عَرَبِيًّا بَيِّنًا وَاضِحًا، فَمَعَانِيهِ مُفَصَّلَةٌ، وَأَلْفَاظُهُ وَاضِحَةٌ، كقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خبير﴾ أَيْ هُوَ مُعْجِزٌ مِنْ حَيْثُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ، وقوله تعالى: ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي إنما يعرف هذا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ ﴿بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ أَيْ تَارَةً يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَارَةً يُنْذِرُ الْكَافِرِينَ، ﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ أَيْ أَكْثَرُ قُرَيْشٍ فَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا مَعَ بَيَانِهِ وَوُضُوحِهِ، ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾ أَيْ فِي غُلْفٍ مُغَطَّاةٍ، ﴿مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ﴾ أَيْ صَمَمٌ عَمَّا جِئْتَنَا بِهِ ﴿وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ فَلَا يَصِلُ إِلَيْنَا شَيْءٌ مِمَّا تَقُولُ، ﴿فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ أَيِ اعْمَلْ أَنْتَ عَلَى طريقتك ونحن على طريقتنا لا نتابعك، روى البغوي في تفسيره عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ يَوْمًا فَقَالُوا: انْظُرُوا أَعْلَمَكُمْ بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ، فَلْيَأْتِ هَذَا الرَّجُلَ الذي فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَشَتَّتَ أَمْرَنَا وَعَابَ دِينَنَا، فَلْيُكَلِّمْهُ وَلْنَنْظُرْ مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا غَيْرَ (عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ)، فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ: فَأَتَاهُ عُتْبَةُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إن كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْكَ فَقَدْ عَبَدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أنك خير منهم فتكلم حتى يسمع قَوْلَكَ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سِخَلَةً قَطُّ أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْكَ، فَرَّقْتَ جَمَاعَتَنَا وَشَتَّتَّ أَمْرَنَا، وَعِبْتَ دِينَنَا، وَفَضَحْتَنَا فِي الْعَرَبِ، حَتَّى لَقَدْ طَارَ فِيهِمْ أَنَّ فِي قُرَيْشٍ سَاحِرًا، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إِلَّا مِثْلَ صَيْحَةِ الْحُبْلَى أَنْ يَقُومَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ، حَتَّى نَتَفَانَى، أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْحَاجَةُ، جَمَعْنَا لَكَ حتى
254
تكون أغنى قريش رجلاً واحداً وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْبَاءَةُ فَاخْتَرْ أَيَّ نِسَاءِ قُرَيْشٍ شِئْتَ فَلْنُزَوِّجْكَ عَشْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَرَغْتَ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - حَتَّى بَلَغَ - فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ، وَنَاشَدَهُ بِالرَّحِمِ، وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى قُرَيْشٍ، وَاحْتَبَسَ عَنْهُمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَا إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك له إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إِلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا عُتْبَةُ مَا حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كانت بك حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيكَ عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمد أَبَدًا، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا سِحْرٍ، وَقَرَأَ السُّورَةَ إِلَى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ فَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ وَنَاشَدْتُهُ بِالرَّحِمِ أَنْ يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ، فَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ العذاب.
وروى محمد بن إسحاق في كتاب السيرة عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنْ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَكَانَ سَيِّدًا، قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَلَا أَقُومُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا، لَعَلَّهُ أن يَقْبَلُ بَعْضَهَا فَنُعْطِيَهُ أَيَّهَا شَاءَ وَيَكُفَّ عَنَّا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ، فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقُمْ إِلَيْهِ فَكَلِّمْهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ منا حيث علمت من السلطة فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وكفَّرت بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلَّكَ تقبل منها بَعْضَهَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ»، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالَنَا حَتَّى تَكُونَ أكثرنا مالاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يأتيك رِئياً تراه لا تسطيع
رده عن نفسك، طلبنا لك الأطباء وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبَرِّئَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ عَلَى الرجُل حَتَّى يُدَاوَى مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ مِنْهُ قَالَ: «أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاسْتَمِعْ مِنِّي»، قَالَ: أَفْعَلُ، قَالَ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾، ثُمَّ مَضَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وهو يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يستمع منه، حتى انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا فَسَجَدَ، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ»، فَقَامَ عُتْبَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: نحلف بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ إِلَيْهِمْ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: وَرَائِي أني سَمِعْتُ قَوْلًا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا لِي، خَلُّوا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ، فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ وكنتم
255
أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. وَهَذَا السِّيَاقُ أَشْبَهُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
256
- ٦ - قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ
- ٧ - الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
- ٨ - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُشْرِكِينَ ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إله وَاحِدٌ﴾ لا ما تَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَرْبَابِ الْمُتَفَرِّقِينَ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ﴾ أَيْ أَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ عَلَى مِنْوَالِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، ﴿وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ أَيْ لِسَالِفِ الذُّنُوبِ، ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ﴾ أَيْ دَمَارٌ لَهُمْ وَهَلَاكٌ عَلَيْهِمْ ﴿الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لا إله إلا الله، كقوله تبارك وتعالى: ﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أن تزكى﴾ والمراد بالزكاة هنا طَهَارَةُ النَّفْسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ طَهَارَةُ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ، وَزَكَاةُ الْمَالِ إِنَّمَا سُمِّيَتْ زَكَاةً، لِأَنَّهَا تُطَهِّرُهُ مِنَ الْحَرَامِ، وتكون سبباً لزيادته وبركته وكثرة نفعه، واستعماله فِي الطَّاعَاتِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزكاة﴾: أي لا يؤدون الزَّكَاةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَمْنَعُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَاخْتَارَهُ ابن جرير، ثم قال جلَّ جلاله بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: غير مقطوع ولا مجبوب، كقوله تعالى: ﴿ماكثين فيها أبداً﴾، وكقوله عزَّ وجلَّ: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ وَقَالَ السُّدي: غَيْرَ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رَدَّ عليه بعض الأئمة، فإن المنة لله تعالى عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ﴾، وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم﴾، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ».
- ٩ - قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ
- ١٠ - وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ
- ١١ - ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ
- ١٢ - فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ العليم
هذا إنكار من الله تعالى عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ الخالق لكل شيء، المقتدر على كل شيء ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً﴾ أَيْ نُظَرَاءَ وَأَمْثَالًا تَعْبُدُونَهَا مَعَهُ، ﴿ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيِ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ، وَهَذَا الْمَكَانُ فيه تفصيل لقوله تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
256
والأرض في ستة أيام} ففصل ههنا مَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْضِ مِمَّا اخْتَصَّ بِالسَّمَاءِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا لِأَنَّهَا كَالْأَسَاسِ، وَالْأَصْلُ أن يبدأ بالأساس، ثم بعد بالسقف، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات﴾ الآية، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بناها﴾ إلى قوله: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا ومرعاها﴾، ففي هذه الآية إِنَّ دحو الأرض كان بعد خلق السماء، فالدحو مُفَسَّرٌ بِقَوْلِهِ: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾ وَكَانَ هَذَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، فَأَمَّا خَلْقُ الْأَرْضِ فَقَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ بِالنَّصِّ، وَبِهَذَا أَجَابَ ابْنُ عباس فيما ذكره البخاري
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ لابن عباس رضي الله عنهما: إني لأجد فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عليَّ، قَالَ: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾، ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بعض يتساءلون﴾، ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حديثاً﴾، ﴿والله رَبِّنَا مَا كنا مشركين﴾ فقد كتموا في هذه الآية، وقال تَعَالَى: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا - إلى قوله - والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ، ثُمَّ قال تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ - إِلَى قَوْلِهِ - طَآئِعِينَ﴾ فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خلق الأرض قبل خلق السماء، قال: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رحيماً﴾، ﴿عزيزاً حكيماً﴾، ﴿سميعاً بصيراً﴾ فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ اليوم ولا يتساءلون﴾ في النفخة الأولى، كما قال تعالى: ﴿فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾، وفي النَّفْخَةِ الأُخرى ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾. وأما قوله: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾، فإن الله تعالى يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول الْمُشْرِكُونَ: تَعَالَوْا نَقُولُ: لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ، فَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُعْرَفُ أن الله تعالى لا يكتم الله حديثاً، وعنده ﴿يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ﴾ الآية، وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ وَدَحْيُهَا أَنْ أَخْرَجَ منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال وَالْجَمَادَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فذلك قوله تعالى: ﴿دَحَاهَا﴾، وقوله: ﴿خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ﴾ فخلق الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أيام وخلق السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ، ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيمًا﴾ سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْ لَمْ يزل كذلك، فإن الله تعالى لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ فَلَا يَخْتَلِفَنَّ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا من عند الله عزَّ وجلَّ.
وقوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْأَرْضَ، فِي يَوْمَيْنِ﴾ يَعْنِي يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ، ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا﴾ أَيْ جَعَلَهَا مُبَارَكَةً قَابِلَةً لِلْخَيْرِ والبدر وَالْغِرَاسِ، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا، وَهُوَ مَا يَحْتَاجُ أَهْلُهَا إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُزْرَعُ وَتُغْرَسُ يَعْنِي يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ، فَهُمَا مَعَ اليومين السابقين أربعة ولهذا قال: ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ﴾ أَيْ لِمَنْ أراد السؤال، عن ذلك ليعلمه. وقال عكرمة ومجاهد في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا﴾ جَعَلَ فِي كُلِّ أَرْضٍ مَا لَا يَصْلُحُ فِي غَيْرِهَا، وَمِنْهُ الْعَصَبُ باليمن، والسابوري بِسَابُورَ، وَالطَّيَالِسَةُ بِالرَّيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ﴾ أَيْ لِمَنْ أَرَادَ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ زبد: ﴿وقدر فيها أقواتها﴾ أي على وفق مراده، مَنْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى رِزْقٍ أَوْ حَاجَةٍ، فإن الله تعالى قَدَّرَ لَهُ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَهَذَا القول يشبه قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ وَهُوَ بُخَارُ الْمَاءِ الْمُتَصَاعِدُ مِنْهُ حِينَ خُلِقَتِ الْأَرْضُ، {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً
257
أَوْ كَرْهاً} أي استجيبا لأمري طائعتين أو مكرهتين، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ قال الله تبارك وتعالى للسماوات أَطْلِعِي شَمْسِي وَقَمَرِي وَنُجُومِي، وَقَالَ لِلْأَرْضِ: شَقِّقِي أنهارك وأخرجي ثمارك، ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ واختاره ابن جرير، وَقِيلَ تَنْزِيلًا لَهُنَّ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ بِكَلَامِهِمَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ أَبَيَا عَلَيْهِ أَمْرَهُ لعذبهما عذاباً يجدان ألمه ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِي يَوْمَيْنِ﴾ أي ففرغ في تسويتهن سبع سماوات ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾ أَيْ آخَرَيْنِ وَهُمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ وَيَوْمُ الْجُمْعَةِ، ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ أَيْ وَرَتَّبَ مُقَرِّرًا فِي كُلِّ سَمَاءٍ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ، ﴿وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ﴾ وهي الْكَوَاكِبُ الْمُنِيرَةُ الْمُشْرِقَةُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، ﴿وَحِفْظاً﴾ أَيْ حَرَسًا مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ تَسْتَمِعَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ أَيِ الْعَزِيزُ الَّذِي قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ فَغَلَبَهُ وقهره، ﴿العليم﴾ بجميع حركات المخلوقات وسكناتهم. روي أَنَّ الْيَهُودَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَتْهُ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "خلق الله تعالى الْأَرْضَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَمَا فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الشَّجَرَ وَالْمَاءَ وَالْمَدَائِنَ وَالْعُمْرَانَ وَالْخَرَابَ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ﴾ لمن سأله، قَالَ: وَخَلَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْمَلَائِكَةَ إِلَى ثَلَاثِ ساعات بقيت منه وَفِي الثَّانِيَةِ أَلْقَى الْآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ"، ثُمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ: ثك مَاذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ»، قَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ لَوْ أَتْمَمْتَ، قَالُوا: ثُمَّ اسْتَرَاحَ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم غضباً شديداً فنزل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَاصْبِرْ على مَا يقولون﴾ (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس، قال ابن كثير: وهذا الحديث فيه غرابة).
258
- ١٣ - فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ
- ١٤ - إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
- ١٥ - فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ
- ١٦ - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ
- ١٧ - وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
- ١٨ - وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَمَّا جِئْتُكُمْ به من عند الله تعالى، فَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ حُلُولَ نِقْمَةِ اللَّهِ بِكُمْ، كَمَا حلَّت بالأُمم الْمَاضِينَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْمُرْسَلِينَ {صَاعِقَةً
258
مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} أَيْ وَمَنْ شَاكَلَهُمَا مِمَّنْ فَعَلَ كَفِعْلِهِمَا، ﴿إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾، كقوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفه﴾ أي مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِأَعْدَائِهِ مِنَ النِّقَمِ، وَمَا أَلْبَسَ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ النِّعَمِ، وَمَعَ هَذَا مَا آمَنُوا وَلَا صَدَّقُوا بَلْ كَذَّبُوا وَجَحَدُوا وَقَالُواْ: ﴿لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً﴾ أَيْ لَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ رُسُلًا لَكَانُوا مَلَائِكَةً مِنْ عِنْدِهِ ﴿فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ أَيْ أَيُّهَا الْبَشَرُ ﴿كَافِرُونَ﴾ أَيْ لَا نَتَّبِعُكُمْ وَأَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرض﴾ أَيْ بَغَوْا وَعَتَوْا وَعَصَوْا ﴿وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾؟ أي منوا بشدة تركبيهم وقواهم واعتقدوا أنهم يمتنعون بها مِنْ بَأْسِ اللَّهِ، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ أَيْ أفما يتفكرون فيمن يبارزون بالعدواة، فَإِنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ وَرَكَّبَ فِيهَا قواها الحاملة لها، وأن بطشه شديد فَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً﴾ قَالَ بعضهم: وهي شديدة الْهُبُوبِ، وَقِيلَ الْبَارِدَةُ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي لَهَا صَوْتٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا مُتَّصِفَةٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا كانت ريحاً شديدة قوية، وكانت باردة شديدة البرد جداً، وكانت ذات صوت مزعج، وقوله تعالى: ﴿فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾ أي متتابعات كقوله: ﴿فِي يَوْمِ نحس مستمر﴾ أَيِ ابتُدِئوا بِهَذَا الْعَذَابِ فِي يَوْمِ نَحْسٍ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمَرَّ بِهِمْ هَذَا النَّحْسُ ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أيام حسوماً﴾ حَتَّى أَبَادَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَاتَّصَلَ بِهِمْ خِزْيُ الدنيا بعذاب الآخرة، ولهذا قال: ﴿لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى﴾ أَشَدُّ خِزْيًا لَهُمْ، ﴿وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ﴾ أَيْ فِي الأُخرى كَمَا لَمْ يُنْصَرُوا فِي الدُّنْيَا، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ قال ابن عباس: بيّنّا لهم (وهو قول سعيد بن جبير وقتادة والسدي وابن زيد)، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: دَعَوْنَاهُمْ ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ أَيْ بَصَّرْنَاهُمْ وَبَيَّنَّا لَهُمْ ووضَّحنا لَهُمُ الْحَقَّ على لسان نبيّهم صالح عليه الصلاة والسلام، فخالفوه وكذبوه وعقروا ناقة الله تعالى الَّتِي جَعَلَهَا آيَةً وَعَلَامَةً عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِمْ، ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ﴾ أَيْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَرَجْفَةً، وَذُلًّا وَهَوَانًا، وَعَذَابًا وَنَكَالًا ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أَيْ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْجُحُودِ، ﴿وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ﴾ أَيْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ لَمْ يَمَسَّهُمْ سُوءٌ، وَلَا نَالَهُمْ مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ، بَلْ نَجَّاهُمُ الله تعالى مع نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام بِإِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.
259
- ١٩ - وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يوزعون
- ٢٠ - حتى إذا ما جاؤوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
- ٢١ - وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
- ٢٢ - وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ
- ٢٣ - وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ
- ٢٤ - فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ أَيِ اذْكُرْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ يَحْشُرُونَ
259
إِلَى النَّارِ ﴿يُوزَعُونَ﴾ أَيْ تَجْمَعُ الزَّبَانِيَةُ أَوَّلَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾ أَيْ عِطَاشًا وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿حتى إذا ما جاؤوها﴾ أَيْ وَقَفُوا عَلَيْهَا ﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ بِأَعْمَالِهِمْ مِمَّا قَدَّمُوهُ وَأَخَّرُوهُ لَا يُكْتَمُ مِنْهُ حَرْفٌ، ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا﴾ أَيْ لَامُوا أَعْضَاءَهُمْ وَجُلُودَهُمْ حِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَجَابَتْهُمُ الْأَعْضَاءُ ﴿قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، أَيْ فَهُوَ لا يخالف ولا يمانع وإليه ترجعون، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يوم وتبسم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا تَسْأَلُونِي عَنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتُ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: أي ربي أليس وعدتني أن لا تظلمني، قال: بلى، فيقول: فإنني لَا أَقْبَلُ عليَّ شَاهِدًا إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَوَ لَيْسَ كَفَى بي شهيداً والملائكة الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ - قَالَ - فَيُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ مِرَارًا - فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَتَتَكَلَّمُ أَرْكَانُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لكُنَّ وَسُحْقًا، عَنْكُنَّ كُنْتُ أجادل" (أخرجه الحافظ البزار، ورواه مسلم والنسائي بنحوه)، وقال أبو موسى: "يدعى الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ لِلْحِسَابِ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ عَمَلَهُ، فَيَجْحَدُ، وَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ وَعَزَّتِكَ لَقَدْ كَتَبَ عليَّ هَذَا الْمَلَكُ مَا لَمْ أَعْمَلْ، فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ: أَمَا عَمِلْتَ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا فِي مَكَانِ كَذَا؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، أَيْ رَبِّ مَا عَمِلْتُهُ، قَالَ: فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خُتِمَ عَلَى فِيهِ، قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فَإِنِّي لَأَحْسَبُ أَوَّلَ مَا يَنْطِقُ مِنْهُ فخذه اليمنى" (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري)، وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِفَ الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ فجحد وخاصم، فيقول: هَؤُلَاءِ جِيرَانُكَ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيَقُولُ: أَهْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيَقُولُ: احْلِفُوا، فَيَحْلِفُونَ، ثُمَّ يُصْمِتُهُمُ الله تعالى، وتشهد عليهم ألسنتهم ويدخلهم النار" (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْهُ حِينٌ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يَعْتَذِرُونَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ، حتى يُؤْذَنُ لَهُمْ، فَيَخْتَصِمُونَ، فَيَجْحَدُ الْجَاحِدُ بِشِرْكِهِ بِاللَّهِ تعالى، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ فَيَبْعَثُ اللَّهُ تعالى عَلَيْهِمْ حِينَ يَجْحَدُونَ شُهَدَاءَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، جُلُودَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُمُ الْأَفْوَاهَ، فَتُخَاصِمُ الْجَوَارِحَ، فَتَقُولُ: ﴿أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فَتُقِرُّ الْأَلْسِنَةُ بَعْدَ الجحود (رواه ابن أبي حاتم).
وقوله تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ﴾ أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الْأَعْضَاءُ وَالْجُلُودُ حِينَ يَلُومُونَهَا عَلَى الشَّهَادَةِ عليهم: مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ مِنَّا الَّذِي كُنْتُمْ تَفْعَلُونَهُ، بَلْ كُنْتُمْ تُجَاهِرُونَ اللَّهَ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَلَا تُبَالُونَ مِنْهُ فِي زَعْمِكُمْ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَعْلَمُ جميع أفعالكم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ﴾ أَيْ هَذَا الظَّنُّ الْفَاسِدُ وَهُوَ اعْتِقَادُكُمْ أن الله تعالى لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ، هُوَ الَّذِي أَتْلَفَكُمْ وَأَرْدَاكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴿فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أَيْ فِي مَوَاقِفِ
260
القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم، روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قُرَشِيٌّ وَخَتَنَاهُ ثَقَفِيَّانِ - أَوْ ثَقَفِيٌّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيَّانِ - كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَمْ أَسْمَعْهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ كَلَامَنَا هَذَا؟ فَقَالَ الْآخَرُ: إِنَّا إِذَا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا سَمِعَهُ وَإِذَا لَمْ نَرْفَعْهُ لَمْ يَسْمَعْهُ، فَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا سَمِعَهُ كُلَّهُ، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - مِّنَ الخاسرين﴾ (أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود بنحوه). وروى الإمام أحمد، عن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ، فَإِنَّ قَوْمًا قَدْ أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فأصبحتم من الخاسرين﴾ " (أخرجه الإمام أحمد في المسند)، وقوله تعالى: ﴿فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ أَيْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ صبروا أَمْ لَمْ يَصْبِرُوا، هُمْ فِي النَّارِ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا، وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، وَإِنْ طَلَبُوا أَنْ يَسْتَعْتِبُوا وَيُبْدُوا أَعْذَارًا فَمَا لَهُمْ أَعْذَارٌ، وَلَا تُقَالُ لَهُمْ عَثَرَاتٌ، قَالَ ابن جرير: ومعنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَسْتَعْتِبُواْ﴾ أَيْ يَسْأَلُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا فَلَا جَوَابَ لَهُمْ، قَالَ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: ﴿قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تكلمون﴾.
261
- ٢٥ - وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
- ٢٦ - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
- ٢٧ - فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ
- ٢٨ - ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ
- ٢٩ - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَضَلَّ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَكَوْنِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ بِمَا قَيَّضَ لَهُمْ مِنَ الْقُرَنَاءِ مِنْ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، ﴿فَزَيَّنُواْ لَهُم مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أَيْ حَسَّنُوا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَلَمْ يَرَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا مُحْسِنِينَ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾، وقوله: ﴿وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ أَيْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ كَمَا حق على أمم خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ، مِمَّنْ فَعَلَ كَفِعْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ﴾ أَيِ اسْتَوَوْا هُمْ وَإِيَّاهُمْ فِي الْخَسَارِ وَالدَّمَارِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ﴾ أي تواصوا فيما بينهم أن لا يطيعوا القرآن وَلَا يَنْقَادُوا لِأَوَامِرِهِ، ﴿وَالْغَوْا فِيهِ﴾ أَيْ إِذَا تُلِيَ لَا تَسْمَعُوا لَهُ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ ﴿وَالْغَوْا فِيهِ﴾ يَعْنِي بِالْمُكَاءِ وَالصَّفِيرِ وَالتَّخْلِيطِ فِي الْمَنْطِقِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا قرأ القرآن وكانت قُرَيْشٌ تَفْعَلُهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَالْغَوْا فِيهِ﴾ عِيبُوهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: اجْحَدُوا بِهِ وأنكروه وعادوه،
261
﴿لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ هَذَا حَالُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بخلاف ذلك، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً﴾ أَيْ فِي مقابلة ما اعتقدوه فِي الْقُرْآنِ وَعِنْدَ سَمَاعِهِ، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي بشر أعمالهم وسيء أَفْعَالِهِمْ، ﴿ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الذين كَفَرُواْ ربنا أرنا اللذين أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين﴾. عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿اللذين أَضَلاَّنَا﴾ قَالَ: إِبْلِيسُ وَابْنُ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ آخاه، فإبليس الدَّاعِي إِلَى كُلِّ شَرٍّ مِنْ شِرْكٍ فَمَا دُونَهُ، وَابْنُ آدَمَ الْأَوَّلُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سن القتل» (أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي)، وقولهم: ﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا﴾ أَيْ أَسْفَلَ مِنَّا فِي الْعَذَابِ لِيَكُونَا أَشَدَّ عَذَابًا مِنَّا، وَلِهَذَا قَالُوا ﴿لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾ أَيْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من النار، كما تقدم في الأعراف في سؤال الأتباع من الله تعالى أَنْ يُعَذِّبَ قَادَتَهُمْ أَضْعَافَ عَذَابِهِمْ ﴿قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلًّا مِنْهُمْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِحَسَبِ عَمَلِهِ وإفساده، كما قال تعالى: ﴿اللذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾.
262
- ٣٠ - إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
- ٣١ - نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ
- ٣٢ - نُزُلاً مِّنْ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ أَيْ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ، وَعَمِلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ، قَالَ الْحَافِظُ أبو يعلى الموصلي، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ قَدْ قَالَهَا نَاسٌ ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، فَمَنْ قَالَهَا حَتَّى يَمُوتَ فقد استقام عليها" (أخرجه ابن جرير عن سعيد ابن عمران)، وعن سعيد بن عمران قال: " قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُشْرِكُوا بالله شيئاً" (أخرجه النسائي والبزار وابن جرير). وقال عكرمة: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيُّ آية في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص؟ قال، قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ عليَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الزهري: تلا عمر رضي الله عنه هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَقَامُوا وَاللَّهِ لِلَّهِ بِطَاعَتِهِ وَلَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿ثُمَّ استقاموا﴾ على أداء فرائضه، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا فَارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَةَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ أَخْلَصُوا له الدين والعمل، وعن سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قال صلى الله عليه وسلم: «قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطرف لسان نفسه، ثم قال: «هذا» (أخرجه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صحيح)، وفي
262
رواية: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قال صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم» (أخرجه مسلم والنسائي).
وقوله تعالى: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة﴾ قال مجاهد والسدي: يعني عند الموت قائلين: ﴿أَلاَّ تَخَافُواْ﴾ أَيْ مِمَّا تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ ﴿وَلاَ تَحْزَنُواْ﴾ عَلَى مَا خَلَّفْتُمُوهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا مِنْ وَلَدٍ وَأَهْلٍ وَمَالٍ أَوْ دَيْنٍ، فَإِنَّا نَخْلُفُكُمْ فِيهِ، ﴿وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ فَيُبَشِّرُونَهُمْ بذهاب الشر وحصول الخير، وهذا كما جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال: "أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِرُوحِ الْمُؤْمِنِ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرنيه، اخْرُجِي إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ"، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ (حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عباس والسدي)، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يُبَشِّرُونَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وفي قبره وحين يبعث، وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا وَهُوَ حَسَنٌ جداً، وقوله تبارك وتعالى: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ أَيْ تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ: نَحْنُ كُنَّا أَوْلِيَاءَكُمْ، أَيْ قُرَنَاءَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، نُسَدِّدُكُمْ وَنُوَفِّقُكُمْ وَنَحْفَظُكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ نَكُونُ مَعَكُمْ فِي الْآخِرَةِ نُؤْنِسُ مِنْكُمُ الْوَحْشَةَ فِي الْقُبُورِ، وَعِنْدَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ، وَنُؤَمِّنُكُمْ يَوْمَ البعث والنشور، ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسَكُمْ﴾ أَيْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ جَمِيعِ مَا تَخْتَارُونَ مِمَّا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ وَتَقَرُّ بِهِ الْعُيُونُ ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ أَيْ مَهْمَا طَلَبْتُمْ وَجَدْتُمْ وَحَضَرَ بَيْنَ أيديكم كَمَا اخْتَرْتُمْ ﴿نُزُلاً مِّنْ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أَيْ ضيافة وعطاء ﴿مِّنْ غَفُورٍ﴾ لذنوبكم ﴿رَّحِيمٍ﴾ بكم حيث غفر وستر، ورحم ولطف، وفي الحديث: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، قال صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك كراهية المرت، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ الله تعالى بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ تعالى، فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، قَالَ: وَإِنَّ الْفَاجِرَ، أَوِ الْكَافِرَ، إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ أَوْ مَا يَلْقَى مِنَ الشَّرِّ، فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ فَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ" (أخرجه الإمام أحمد عن أنَس رضي الله عنه).
263
- ٣٣ - وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
- ٣٤ - وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
- ٣٥ - وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
- ٣٦ - وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم
يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ﴾ أَيْ دَعَا عِبَادَ اللَّهِ إِلَيْهِ ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أَيْ وَهُوَ فِي نفسه مهتد فنفعه لنفسه ولغيره، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يأتونه، بل يأتمر
263
بالخير ويترك الشر، وَهَذِهِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ دَعَا إِلَى خير، وهو في نفسه مهتد، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْمُؤَذِّنُونَ الصُّلَحَاءُ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يوم القيامة»، وقال عمر رضي الله عنه: لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّنًا لَكَمُلَ أَمْرِي، وَمَا بَالَيْتُ أن لا أَنْتَصِبَ لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَلَا لِصِيَامِ النَّهَارِ، سَمِعْتُ رسول الله ﷺ يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» ثَلَاثًا، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَرَكْتَنَا وَنَحْنُ نَجْتَلِدُ عَلَى الْأَذَانِ بالسيوف، قال صلى الله عليه وسلم: «كلا يا عمر، إنه سيأتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتْرُكُونَ الْأَذَانَ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ، وتلك لحوم حرمها الله عزَّ وجلَّ على النار لحوم المؤذنين» (أخرجه ابن أبي حاتم). وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ قَالَتْ: فَهُوَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَقَدْ دَعَا إِلَى اللَّهِ، وَهَكَذَا قَالَ ابن عمر رضي الله عنهما وعكرمة: إنها نزلت في المؤذنين، والصَّحيح أن الآية عامة في المؤذنين وغيرهم، فَأَمَّا حَالُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَذَانُ مَشْرُوعًا بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَالْأَذَانُ إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ﴾ أَيْ فَرْقٌ عظيم بين هذه وبين هذه، ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أَيْ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَادْفَعْهُ عَنْكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا عَاقَبْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فيه.
وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ وَهُوَ الصَّدِيقُ أَيْ إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى
من أساء إليك قادته الْحَسَنَةُ إِلَيْهِ إِلَى مُصَافَاتِكَ وَمَحَبَّتِكَ وَالْحُنُوِّ عَلَيْكَ حتى يصير ﴿كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ أَيْ قَرِيبٌ إِلَيْكَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَيْكَ والإحسان إليك، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ﴾ أَيْ وَمَا يَقْبَلُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَّا مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ، ﴿وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ أَيْ ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا والآخرة، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وقوله تعالى: ﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ أَيْ إِنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ رُبَّمَا يَنْخَدِعُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَأَمَّا شَيْطَانُ الْجِنِّ فَإِنَّهُ لَا حِيلَةَ فِيهِ إِذَا وَسْوَسَ، إِلَّا الِاسْتِعَاذَةَ بِخَالِقِهِ الَّذِي سلطه عليك، فإذا استعذت بالله والْتَجَأْت إِلَيْهِ كَفَّهُ عَنْكَ ورَدّ كَيْدَهُ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ ونفثه» (رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن).
264
- ٣٧ - وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
- ٣٨ - فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ
- ٣٩ - وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا على قدرته العظيمة، وأنه لَا نَظِيرَ لَهُ وَأَنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ
264
وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أَيْ أَنَّهُ خَلَقَ اللَّيْلَ بظلامه، والنهار بضيائه، وهما متعاقبان لا يفتران، والشمس ونورها وإشراقها والقمر وضياءه وتقديره مَنَازِلِهِ فِي فَلَكِهِ، وَاخْتِلَافَ سَيْرِهِ فِي سَمَائِهِ، لِيُعْرَفَ بِاخْتِلَافِ سَيْرِهِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ مَقَادِيرُ اللَّيْلِ والنهار، والشهور والأعوام، ويتبين بذلك حلول أوقات الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَحْسَنَ الْأَجْرَامِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ عَبْدَانِ مِنْ عبيده، تحت قهره وتسخيره فقال: ﴿لاتسجدوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أَيْ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ فَمَا تَنْفَعُكُمْ عِبَادَتُكُمْ لَهُ مَعَ عِبَادَتِكُمْ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، ولهذا قال تعالى: ﴿فَإِنِ استكبروا﴾ أي عن إفراده الْعِبَادَةِ لَهُ وَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يُشْرِكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، ﴿فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ﴾ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ ﴿يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ﴾ كَقَوْلِهِ عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين﴾. وروى الحافظ أبو يعلى، عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا اللَّيْلَ وَلَا النَّهَارَ وَلَا الشَّمْسَ وَلَا الْقَمَرَ وَلَا الرِّيَاحَ فَإِنَّهَا تُرْسَلُ رَحْمَةً لِقَوْمٍ وَعَذَابًا لِقَوْمٍ» وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ أَيْ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْمَوْتَى ﴿أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً﴾ أَيْ هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا بَلْ هِيَ مَيْتَةٌ، ﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ أَيْ أخرجت من جميع أَلْوَانِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
265
- ٤٠ - إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
- ٤١ - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ
- ٤٢ - لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
- ٤٣ - مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ
قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِلْحَادُ وَضْعُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ، وقال قتادة: هو الكفر والعناد، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ﴾ فِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَنْ يُلْحِدُ فِي آيَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَسَيَجْزِيهِ عَلَى ذَلِكَ بِالْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ، وَلِهَذَا قال تَعَالَى: ﴿أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؟ أَيْ أَيَسْتَوِي هَذَا وَهَذَا؟ لَا يَسْتَوِيَانِ، ثُمَّ قَالَ عزَّ وجلَّ تَهْدِيدًا لِلْكَفَرَةِ: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾، قَالَ مجاهد ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ وَعِيدٌ أَيْ مِنْ خَيْرٍ أو شر إنه عالم بِكُمْ وَبَصِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، ثم قال جل جلاله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ قَالَ الضحاك هو الْقُرْآنُ، ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ أَيْ مَنِيعُ الْجَنَابِ لَا يُرَامُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدٌ بِمِثْلِهِ، ﴿لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ أَيْ لَيْسَ لِلْبُطْلَانِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، لِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ أَيْ حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، حَمِيدٌ بِمَعْنَى مَحْمُودٍ أَيْ فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ﴾، قال قتادة والسدي: مَّا يُقَالُ لَكَ مِنَ التَّكْذِيبِ إِلَّا كَمَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ من قبلك فكما كذبت كُذِّبُوا، وَكَمَا صَبَرُوا عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ لَهُمْ فَاصْبِرْ أَنْتَ عَلَى أَذَى قَوْمِكَ لَكَ، وَهَذَا اختيار ابن جرير، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾ أَيْ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ، ﴿وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ أَيْ لِمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ
265
وطغيانه، وعناده وشقاقه ومخالفته. قال سعيد بن المسيب: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُهُ مَا هَنَّأَ أَحَدًا الْعَيْشَ، وَلَوْلَا وَعِيدُهُ وَعِقَابُهُ لَاتَّكَلَ كُلُّ أَحَدٍ» (أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب مرفوعاً).
266
- ٤٤ - وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ
- ٤٥ - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
لَمَّا ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته وَمَعَ هَذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ بِهِ كُفْرُ عِنَادٍ وَتَعَنُّتٍ، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿ولو أنزلناه عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم، مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ الآيات، وَكَذَلِكَ لَوْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ لَقَالُوا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ ﴿لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ أَيْ لَقَالُوا هلاَّ أُنْزِلَ مفصلاً بلغة العرب ولأنكروا ذلك، فقالوا ﴿أأعجمي وَعَرَبِيٌّ﴾ أَيْ كَيْفَ يَنْزِلُ كَلَامٌ أَعْجَمِيٌّ عَلَى مخاطب عربي لا يفهمه؟ (رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وعكرمة وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ) وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ ﴿لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أعجمي وَعَرَبِيٌّ﴾ أي هل أُنْزِلَ بَعْضُهَا بِالْأَعْجَمِيِّ وَبَعْضُهَا بِالْعَرَبِيِّ؟ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَكَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ في قوله أعجمي، وهو في التعنت والعناد أبلغ، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ﴾ أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ: هَذَا الْقُرْآنُ لِمَنْ آمَنَ به هدى لقلبه، وشفاء، شفاء لِّمَا فِي الصدور من الشكوك والريب، ثم قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ أَيْ لَا يَفْهَمُونَ مَا فِيهِ، ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ أَيْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ البيان كما قال سُبْحَانَهُ وتعالى ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خساراً﴾، ﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يعني بعيد مِنْ قُلُوبِهِمْ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ كَأَنَّ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ يُنَادِيهِمْ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ لَا يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُ، قُلْتُ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُنَادَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَشْنَعِ أَسْمَائِهِمْ، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ أَيْ كذب وأوذي، ﴿ولولا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ بِتَأْخِيرِ الْحِسَابِ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ، بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلًا، ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ أَيْ وَمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ مِنْهُمْ لِمَا قَالُوا، بَلْ كانوا شاكين فيما قالوه غَيْرَ مُحَقِّقِينَ لِشَيْءٍ كَانُوا فِيهِ، هَكَذَا وَجَّهَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
- ٤٦ - مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ
- ٤٧ - إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ
- ٤٨ - وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ من محيص
266
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ﴾ أَيْ إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، ﴿وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾ أَيْ إِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ أَيْ لَا يعاقب أحداً إلا بذنبه، وَلَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وإرسال الرسول إليه، ثم قال جلَّ وعلا: ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ أَيْ لَا يَعْلَمُ ذلك أحد سواه، كما قال سيد البشر لجبريل عليه السلام حين سأله عن الساعة، فقال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»، وكما قال عزَّ وجلَّ: ﴿إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ﴾، وقال جلَّ جلاله: ﴿لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إلا هو﴾، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ أَيِ الْجَمِيعُ بِعِلْمِهِ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، كقوله: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾، وقوله جلَّ وعلا: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ينادي الله المشركين على رؤوس الْخَلَائِقِ، أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ مَعِي؟ ﴿قَالُوا آذَنَّاكَ﴾ أَيْ أَعْلَمْنَاكَ، ﴿مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ﴾ أي ليس أحد منا يشهد اليوم أَنَّ مَعَكَ شَرِيكًا، ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ﴾ أَيْ ذَهَبُوا فَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ، ﴿وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ﴾ أي وأيقن المشركون يَوْمَ القيامة ﴿مَا لَهُمْ مِن مَّحِيصٍ﴾ أَيْ لَا مَحِيدَ لهم من عَذَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا﴾.
267
- ٤٩ - لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشر فيؤوس قَنُوطٌ
- ٥٠ - وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
- ٥١ - وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ
يَقُولُ تَعَالَى: لَا يمل الإنسان من دعاء رَبَّهُ بِالْخَيْرِ وَهُوَ الْمَالُ وَصِحَّةُ الْجِسْمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ ﴿وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ﴾ وَهُوَ الْبَلَاءُ أَوِ الفقر ﴿فيؤوس قَنُوطٌ﴾ أَيْ يَقَعُ فِي ذِهْنِهِ أَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ بَعْدَ هَذَا خَيْرٌ، ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ أَيْ إِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ وَرِزْقٌ بَعْدَ مَا كَانَ فِي شِدَّةٍ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي إِنِّي كُنْتُ أَسْتَحِقُّهُ عِنْدَ رَبِّي ﴿وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً﴾ أَيْ يَكْفُرُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، أي لأجل أنه خوّل نعمة يبطر ويفخر وَيَكْفُرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، ﴿وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى﴾ أَيْ وَلَئِنْ كَانَ ثَمَّ مَعَادٌ فَلَيُحْسِنَنَّ إليَّ رَبِّي كَمَا أَحْسَنَ إليَّ فِي هَذِهِ الدَّارِ، يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ مَعَ إساءته العمل وعدم اليقين، قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ يتهدد تعالى من كان هذاعمله واعتقاده بالعقاب والنكال، ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ أَيْ أَعْرَضَ عَنِ الطَّاعَةِ وَاسْتَكْبَرَ عَنِ الِانْقِيَادِ لأوامر الله عزَّ وجلَّ، كقوله جلَّ جلاله: ﴿فتولى بركنه﴾، ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ﴾ أَيِ الشِّدَّةُ ﴿فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ﴾ أَيْ يُطِيلُ الْمَسْأَلَةَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَالْكَلَامُ الْعَرِيضُ مَا طَالَ لَفْظُهُ وَقَلَّ مَعْنَاهُ، والوجيز عكسه وهو ما قال وَدَلَّ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾ الآية.
- ٥٢ - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
- ٥٣ - سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
- ٥٤ - أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ ﴿أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ﴾ هَذَا الْقُرْآنُ ﴿مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ﴾ أَيْ كَيْفَ تَرَوْنَ حَالَكُمْ عِنْدَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ؟ ولهذا قال عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾؟ أَيْ فِي كُفْرٍ وَعِنَادٍ وَمُشَاقَّةٍ لِلْحَقِّ وَمَسْلَكٍ بعيد من الهدى، ثم قال جلَّ جلاله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ﴾ أَيْ سنظهر لهم دلالالتنا وَحُجَجَنَا عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا مُنَزَّلًا مِنْ عند اللَّهُ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بِدَلَائِلَ خَارِجِيَّةٍ ﴿فِي الْآفَاقِ﴾ مِنَ الْفُتُوحَاتِ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَقَالِيمِ وَسَائِرِ الْأَدْيَانِ. قَالَ مُجَاهِدٌ والحسن والسدي: ﴿وفي أَنفُسِهِمْ﴾ قَالُوا: وَقْعَةُ بَدْرٍ وَفَتْحُ مَكَّةَ وَنَحْوُ ذلك، من الوقائع التي نصر الله فيها محمداً ﷺ وَصَحْبَهُ، وَخَذَلَ فِيهَا الْبَاطِلَ وَحِزْبَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد ما الإنسان مركب منه، مِنَ الْمَوَادِّ وَالْأَخْلَاطِ وَالْهَيْئَاتِ الْعَجِيبَةِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ، الدَّالِّ عَلَى حِكْمَةِ الصانع تبارك وتعالى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾؟ أَيْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً عَلَى أَفْعَالِ عباده وأقوالهم، وهو يشهد أن محمداً ﷺ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ﴾ أَيْ فِي شَكٍّ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلِهَذَا لا يتفركون فيه ولا يعملون له وهو كائن لا محالة وواقع لا ريب فيه، ثم قال تعالى مقرراً إِنَّهُ على كُلِّ شيء قدير ﴿أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ﴾ أَيِ الْمَخْلُوقَاتُ كلها تحت قهره وفي قبضته، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا كُلِّهَا بِحُكْمِهِ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
268
- ٤٢ - سورة الشورى
269
Icon