تفسير سورة الذاريات

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الذّاريات
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله كلمة عزيزة من ذكرها عزّ لسانه، ومن عرفها اهتزّ بصحبتها جنانه «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة للألباب غلّابة، كلمة لأرواح المحبّين سلّابة.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦)
وَالذَّارِياتِ: أي الرياح الحاملات «وِقْراً» أي السحاب «فَالْجارِياتِ» أي السفن.
«فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً» أي الملائكة.. أقسم بربّ هذه الأشياء وبقدرته عليها. وجواب القسم:
«إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ..» والإشارة في هذه الأشياء أن من جملة الرياح. الرياح الصيحية «١» تحمل أنين المشتاقين إلى ساحات العزّة فيأتى نسيم القربة إلى مشامّ أسرار أهل المحبة..
فعندئذ يجدون راحة من غلبات اللوعة، وفي معناه أنشدوا:
وإنى لأستهدى الرياح نسيمكم إذا أقبلت من أرضكم بهبوب
وأسألها حمل السلام إليكمو فإن هي يوما بلّغت.. فأجيبى
ومن السحاب ما يمطر بعتاب الغيبة، ويؤذن بهواجم النّوى والفرقة. فإذا عنّ لهم من ذلك شىء أبصروا ذلك بنور بصائرهم، فيأخذون في الابتهال، والتضرّع في السؤال استعاذة منها.. كما قالوا:
(١) إشارة إلى صيحاتهم عند اشتداد الوجد.
أقول- وقد رأيت لها سحابا من الهجران مقبلة إلينا
وقد سحّت عزاليها «١» ببين حوالينا الصدود ولا علينا
وكما قد يحمل الملّاح بعض الفقراء بلا أجرة طمعا في سلامة السفينة- فهؤلاء «٢» يرجون أن يحملوا في فلك العناية «٣» فى بحار «٤» القدرة عند تلاطم الأمواج حول السفينة.
ومن الملائكة من يتنزّل لتفقد أهل الوصلة، أو لتعزية أهل المصيبة، أو لأنواع من الأمور تتصل بأهل هذه القصة، فهؤلاء القوم يسألونهم عن أحوالهم: هل عندهم خير عن فراقهم ووصالهم- كما قالوا:
بربّكما يا صاحبيّ قفا بيا أسائلكم عن حالهم واسألانيا
«إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ» : الحقّ- سبحانه- وعد المطيعين بالجنة، والتائبين بالرحمة، والأولياء بالقربة، والعارفين بالوصلة، ووعد أرباب المصائب بقوله:
«أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ «٥» » وهم يتصدون لاستبطاء حسن الميعاد- والله رءوف بالعباد.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٧ الى ٨]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨)
«ذاتِ الْحُبُكِ» أي ذات الطرائق الحسنة- وهذا قسم ثان، وجوابه: «إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» يعنى في أمر محمد ﷺ فأحدهم يقول: إنه ساحر، وآخر يقول:
مجنون، وثالث يقول: شاعر.. وغير ذلك.
(١) الأعزل من السحاب مالا مطر فيه (الوسيط ج ٢ ص ٦٠٥).
(٢) يقصد الصوفية.
(٣) هكذا في ص وهي في م (الكفاية).
(٤) هكذا في ص وهي في م (محال).
(٥) إشارة إلى الآيتين ١٥٦، ١٥٧ من سورة البقرة.
«الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» :«أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ». [.....]
والإشارة فيه إلى القسم بسماء التوحيد ذات الزينة بشمس العرفان، وقمر المحبة، ونجوم القرب.. إنكم في باب هذه الطريقة لفى قول مختلف فمن منكر يجحد الطريقة، ومن معترض يعترض على أهلها يتوهّم نقصانهم في القيام بحق الشريعة «١»، ومن متعسّف «٢» لا يخرج من ضيق حدود العبودية ولا يعرف خبرا عن تخصيص الحقّ أولياءه بالأحوال السنية، قال قائلهم:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا وفرّق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظنّ غيرتكم وصادق ليس يدرى. أنه صدقا
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٩]
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩)
أي يصرف عنه من صرف، وذلك أنهم كانوا يصدّون الناس عنه «٣» ويقولون:
إنه لمجنون.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٠ الى ١١]
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١)
لعن الكذّابون الذين هم في غمرة الضلالة وظلمة الجهالة ساهون لاهون.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٢ الى ١٤]
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
يسألون أيان يوم القيامة؟ يستعجلون بها، فلأجل تكذيبهم بها كانت نفوسهم لا تسكن
(١) نلاحظ هنا حرص الإمام القشيري على أن أرباب الحقيقة لا يتنكرون بحال من الأحوال لأى حق من حقوق الشريعة.
(٢) هكذا في ص وهي في م (متقشف) التي هي خطأ في النسخ.
(٣) واضح أن القشيري يرى الضمير فى (عنه) التي في الآية عائدا إلى الرسول (ص). ويعيده بعض المفسرين إلى القرآن أو إلى الدين أو إلى (ما توعدون). ومعنى عبارة القشيري أنه يصرف عنه من صرفه في سابق علمه.
إليها. ويوم هم على النار يحرقون ويعذّبون يقال لهم: قاسوا عقوبتكم، هذا الذي كنتم به تستعجلون.
والإشارة فيه إلى الذين يكذبون في أعمالهم لما يتداخلهم من الرياء، ويكذبون في أحوالهم لما يتداخلهم من الإعجاب، ويكذبون على الله فيما يدّعونه من الأحوال.. قتلوا ولعنوا.. وسيلقون غبّ تلبيسهم بما يحرمون من اشتمام رائحة الصدق.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٥ الى ١٦]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦)
فى عاجلهم في جنّات وصلهم وفي آجلهم في جنّات فضلهم فغدا درجات ونجاة، واليوم قربات ومناجاة، فما هو مؤجّل حظّ أنفسهم، وما هو معجّل حقّ ربّهم. هم آخذين اليوم ما آتاهم ربهم يأخذون نصيبهم منه بيد الشكر والحمد، وغدا يأخذون ما يعطيهم ربّهم في الجنة من فنون العطاء والرّفد.
ومن كان اليوم آخذه بلا واسطة من حيث الإيمان والإتقان، وملاحظة القسمة في العطاء والحرمان. كان غدا آخذه بلا واسطة في الجنان عند اللقاء والعيان. «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ» كانوا ولكنهم اليوم بانوا «١» ولكنهم بعد ما أعدناهم حصلوا واستبانوا.. فهم كما في الخبر: «أعبد الله كأنك تراه... » «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٧ الى ١٨]
كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨).
(١) العارف كائن بائن (هذا رأى يحيى بن معاذ: رسالة القشيري ص ١٥٧) والمعنى أنه وإن بدا بين الناس يشاركهم ويعاشرهم إلا أنه مشتغل عنهم بمعروفه لا يشغل عنه طرفة عين.
(٢) جاء في الحلية عن زيد بن أرقم: «أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه نراك، وأحسب نفسك فى الموتى، واتق دعوة المظلوم» كذلك رواه الطبراني والبيهقي عن معاذ بلفظ: «أعبد الله ولا تشرك به شيئا واعمل كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى».
المعنى إمّا: كانوا قليلا وكانوا لا ينامون إلا بالليل (كقوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» «١» أو: كان نومهم بالليل قليلا، أو:) «٢» كانوا لا ينامون بالليل قليلا «٣».
«وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» : أخبر عنهم أنهم- مع تهجدهم ودعائهم- ينزلون أنفسهم في الأسحار منزلة العاصين، فيستغفرون استصغارا لقدرهم، واستحقارا لفعلهم.
والليل.. للأحباب في أنس المناجاة، وللعصاة في طلب النجاة. والسّهر لهم في لياليهم دائما إمّا لفرط أسف أو لشدّة لهف، وإمّا لاشتياق أو لفراق- كما قالوا:
كم ليلة فيك لاصباح لها... أفنيتها قابضا على كبدى
قد غصّت العين بالدموع وقد... وضعت خدى على بنان يدى
وإمّا لكمال أنس وطيب روح- كما قالوا:
سقى الله عيشا قصيرا مضى... زمان الهوى في الصبا والمجون
لياليه تحكى انسداد لحاظ... لعينى عند ارتداد الجفون
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : آية ١٩]
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
السائل هو المتكفّف، والمحروم هو المتعفّف- ويقال هو الذي يحرم نفسه بترك السؤال..
هؤلاء هم الذين يعطون بشرط العلم «٤»، فأمّا أصحاب المروءة: فغير المستحق لمالهم أولى من المستحق «٥». وأما أهل الفترة فليس لهم مال حتى تتوجه عليهم مطالبة لأنهم أهل الإيثار- فى الوقت- لكلّ ما يفتح عليهم به.
(١) آية ١٣ سورة سبأ.
(٢) ما بين القوسين موجود في م وسقط في ص.
(٣) يقول النسفي: ولا يجوز أن تكون ما نافية على معنى أنهم لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها فلا تقول: زيدا ما ضربت (النسفي ح ٤ ص ١٨٤).
(٤) أي حسب شرائط الشريعة في الزكاة.
(٥) هكذا في م وهي مشطوبة بخط فوقها في ص... والعبارة قد تبدو غامضة، وقد يكون مراد القشيري- إن صحت عنه العبارة هكذا- أن اهل المروءة لا يتقيدون في عطائهم بما تفرضه الشريعة للمستحقين وحسب فإن المستحق يأخذ ما هو حق له، وإنما يعطون دائما ويمنحون دائما بغض النظر عن استحقاق أو عدمه.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢)
كما أنّ الأرض تحمل كلّ شىء فكذلك العارف يتحمّل كلّ أحد.
ومن استثقل أحدا أو تبرّم برؤية أحد فلغيبته عن الحقيقة، ولمطالعته الخلق بعين التفرقة- وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة.
ومن الآيات التي في الأرض أنها يلقى عليها كلّ قذارة وقمامة- ومع ذلك تنبت كلّ زهر ونور.. كذلك العارف يتشرب كلّ ما يسقى من الجفاء، ولا يترشح إلّا بكل خلق علىّ وشيمة زكيّة «١».
ومن الآيات التي في الأرض (أنّ ما كان منها سبخا يترك ولا يعمّر لأنه لا يحتمل العمارة- كذلك الذي لا إيمان له بهذه الطريقة يهمل، فمقابلته بهذه الصفة) «٢» كإلقاء البذر في الأرض السبخة.
«وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» : أي وفي أنفسكم أيضا آيات، فمنها وقاحتها في همتها «٣»، ووقاحتها في صفتها، ومنها دعاواها العريضة فيما ترى منها وبها، ومنها أحوالها المريضة حين تزعم أنّ ذرّة أو (... ) «٤» بها أو منها.
«وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» : أي قسمة أرزاقكم في السماء، فالملائكة الموكّلون بالأرزاق ينزلون من السماء.
ويقال: السماء هاهنا المطر، فبالمطر ينبت الحبّ والمرعى.
(١) يقول الجنيد: «الصوفى كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح»، وقال أيضا:
«إنه كالأرض يطؤها البر والفاجر» (الرسالة ص ١٣٩).
(٢) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص.
(٣) هكذا في م وهي في ض (صمتها) ويبدو أن الهاء اشتبهت على الناسخ.
(٤) مشتبهة في النسختين. [.....]
ويقال: على رب السماء أرزاقكم لأنه ضمنها.
ويقال: قوله: «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ» وهاهنا وقف ثم تبتدئ: «وَما تُوعَدُونَ».
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٢٣]
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)
أي: إنّ البعث والنشر لحقّ.
ويقال: إنّ نصرى لمحمد ولدينى، وللذى أتاكم به من الأحكام- لحقّ مثل ما أنّكم تنطقون.
كما يقال: هذا حقّ مثل ما أنك هاهنا.
ويقال: معناه: «أنّ الله رازقكم» - هذا القول حقّ مثلما أنكم إذا سئلتم:
من ربّكم؟ ومن خالقكم؟ قلتم: الله.. فكما أنكم تقولون: إن الله خالق- وهذا حقّ..
كذلك القول بأنّ الله رازق- هو أيضا حقّ.
ويقال: كما أنّ نطقك لا يتكلم به غيرك فرزقك لا يأكله غيرك.
ويقال: الفائدة والإشارة في هذه الآية أنه حال برزقك على السماء، ولا سبيل لك إلى العروج إلى السماء لتشتغل بما كلفك ولا تتعنّى في طلب مالا تصل إليه.
ويقال: فى السماء رزقكم، وإلى السماء يرفع عملكم.. فإن أردت أن ينزل عليك رزقك فأصعد إلى السماء عملك- ولهذا قالوا: الصلاة قرع باب الرزق، وقال تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٢٤]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤)
(١) آية ١٣٢ سورة طه.
م (٣٠) لطائف الإشارات- ج ٣
قيل في التفاسير: لم يكن قد أتاه خبرهم قبل نزول هذه الاية.
وقيل: كان عددهم اثنى عشر ملكا. وقيل: جبريل وكان معه سبعة. وقيل:
كانوا ثلاثة.
وقوله: «الْمُكْرَمِينَ» قيل لقيامه- عليه السلام- بخدمتهم. وقيل: أكرم الضيف بطلاقة وجهه، والاستبشار بوفودهم.
وقيل: لم يتكلّف إبراهيم لهم، وما اعتذر إليهم- وهذا هو إكرام الضيف- حتى لا تكون من المضيف عليه منّة فيحتاج الضيف إلى تحملها.
ويقال: سمّاهم مكرمين لأن غير المدعوّ عند الكرام كريم.
ويقال: ضيف الكرام لا يكون إلا كريما.
ويقال: المكرمين عند الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٢٥]
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥)
أي سلّمنا عليك (سلاما) فقال إبراهيم: لكم منى (سلام).
وقولهم: «سَلاماً» أي لك منّا سلام، لأنّ السلام: الأمان.
«قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» : أي أنتم قوم منكرون لأنه لم يكن يعرف مثلهم في الأضياف.
ويقال: غرباء.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨)
أي عدل إليهم من حيث لا يعلمون «١»، وكذلك يكون الروغان «٢».
(١) أي من حيث لا يعلم الأضياف.
(٢) وكذلك يكون روغان الكرام: خفية حتى لا يسبب لأضيافه الحرج.
«فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» فشواه، وقرّبه منهم وقال: «أَلا تَأْكُلُونَ؟» وحين امتنعوا عن الأكل:
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ توهّم أنهم لصوص فقالوا له: «لا تَخَفْ».
«وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» : أي بشّروه بالولد، وببقاء هذا الولد إلى أن يصير عليما والعليم مبالغة من العلم، وإنما يصير عليما بعد كبره.
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٢٩]
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩)
«فِي صَرَّةٍ» أي في صيحة شديدة، «فَصَكَّتْ وَجْهَها» أي فضربت وجهها بيدها كفعل النساء «وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» : أي أنا عجوز عقيم. وقيل: إنها يومها كانت ابنة ثمان وتسعين سنة، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة.
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٣٠]
قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠)
أي قلنا لك كما قال ربّك لنا، وأن نخبرك أنّ الله هو المحكم لأفعاله، «الْعَلِيمُ» الذي لا يخفى عليه شىء «١»
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٣١]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١)
سألهم: ما شأنكم؟ وما أمركم؟ وبماذا أرسلتم؟
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣٢ الى ٣٦]
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦)
(١) روى أن جبريل قال لها حين استبعدت: انظري إلى سقف بيتك، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة.
هم قوم لوط، ولم نجد فيها غير لوط ومن آمن به.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٣٧]
وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧)
تركنا فيها علامة يعتبر بها الخائفون- دون القاسية قلوبهم «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣٨ الى ٤٧]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧)
أي بحجة ظاهرة باهرة «٢».
.... إلى قوله: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ: أي جعلنا بينها وبين الأرض سعة، و «إِنَّا لَقادِرُونَ» : على أن نزيد في تلك «٣» السعة.
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٨]
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨)
أي جعلناها مهادا لكم. ثم أثنى على نفسه قائلا: «فَنِعْمَ الْماهِدُونَ».
دلّ بهذا كلّه على كمال قدرته، وعلى تمام فضله ورحمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٩]
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩)
أي صنفين في الحيوان كالذّكر والأنثى، وفي غير الحيوان كالحركة والسكون، والسواد والبياض، وأصناف المتضادات.
(١) قيل هي ماء أسود منتن.
(٢) هكذا في م وهي في ص (قاهرة) وكلاهما مقبول في السياق.
(٣) هكذا في م وهي في ص (سلك) والسياق لا يقبل هذه.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٠]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)
أي فارجعوا إلى الله- والإنسان بإحدى حالتين إمّا حالة رغبة في شىء، أو حالة رهبة من شىء، أو حال رجاء، أو حال خوف، أو حال جلب نفع أو رفع ضرّ.. وفي الحالتين ينبغى أن يكون فراره إلى الله فإنّ النافع والضارّ هو الله.
ويقال: من صحّ فراره إلى الله صحّ قراره مع الله.
ويقال: يجب على العبد أن يفرّ من الجهل إلى العلم، ومن الهوى إلى التّقى، ومن الشّكّ إلى اليقين، ومن الشيطان إلى الله.
ويقال: يجب على العبد أن يفرّ من فعله- الذي هو بلاؤه إلى فعله الذي هو كفايته، ومن وصفه الذي هو سخطه إلى وصفه الذي هو رحمته، ومن نفسه- حيث قال: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» إلى نفسه حيث قال: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» «١» :
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣)
أخوّفكم أليم عقوبته إن أشركتم به- فإنّه لا يغفر أن يشرك به.
ثم بيّن أنه على ذلك جرت عادتهم في تكذيب الرّسل، كأنهم قد توصوا فيما بينهم بذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٤]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤)
فأعرض عنهم فليست تلحقك- بسوء صنيعهم- ملامة «٢» قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٥]
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)
ذكّر العاصين عقوبتى ليرجعوا عن مخالفة أمرى، وذكّر المطيعين جزيل ثوابى ليزدادوا
(١) هنا استخدم القشيري ثقافته الكلامية فيما يتصل بصفات (الفعل) وصفات (الذات) (أنظر تقديمنا لكتاب التحبير في التذكير).
(٢) هكذا في م وهي في ص (ملايه) وهي خطأ من الناسخ.
طاعة وعبادة، وذكّر العارفين ما صرفت عنهم من بلائي، وذكّر الأغنياء ما أتحت «١» لهم من إحسانى وعطائى، وذكّر الفقراء ما أوجبت لهم من صرف الدنيا عنهم وأعددت لهم من لقائى.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)
الذين اصطفيتهم في آزالى، وخصصتهم- اليوم- بحسن إقبالى، ووعدتهم جزيل أفضالى- ما خلقتهم إلّا ليعبدون.
والذين سخطت عليهم في آزالى، وربطتهم- اليوم- بالخذلان فيما كلّفتهم من أعمالى، وخلقت النار لهم- بحكم إلهيتى ووجوب حكمى في سلطانى- ما خلقتهم إلا لعذابى وأنكالى، وما أعددت لهم من سلاسلى وأغلالى.
ما أريد منهم أن يطعموا أو يرزقوا أحدا من عبادى فإنّ الرزّاق أنا.
وما أريد أن يطعمون فإننى أنا الله «ذُو الْقُوَّةِ» : المتين القوى.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٩]
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩)
لهم نصيب من العذاب مثل نصيب من سلف من أصحابهم من الكفار فلم استعجال العذاب- والعذاب لن يفوتهم؟.
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٦٠]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
وهو يوم القيامة.
(١) هكذا في م وهي في ص (الحث) وهي غير ملائمة للسياق.
Icon