تفسير سورة عبس

مراح لبيد
تفسير سورة سورة عبس من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة عبس
وتسمى سورة الأعمى، وسورة السفرة. مكية، إحدى وأربعون آية، مائة وثلاث وثلاثون كلمة، خمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا
عَبَسَ أي كلح النبي وجهه. وقرئ بالتشديد للمبالغة، وَتَوَلَّى (١) أي أعرض بوجهه لأجل أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) اسمه عبد الله ابن أم مكتوم، وهو عبد الله بن شريح بن مالك الفهري، وأم مكتوم كانت أم أبيه، واسمها عاتكة بنت عامر المخزومي، وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد، أسلم قديما بمكة، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده صناديد قريش: عتبة، وشيبة- ابنا ربيعة- وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال له: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطعه لكلامه، وعبس، وأعرض عنه، فنزلت هذه الآية،
فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرمه ويقول إذ رآه: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له: «هل لك من حاجة؟»
«١» وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أي أيّ شيء يجعلك يا أشرف الخلق داريا بحال هذا الأعمى حتى تعرض عنه، لعله يتطهر بما يقتبس منك من الإثم، أو يتعظ، فتنفعه موعظتك، إن لم يبلغ درجة التطهر التام.
وقرأ عاصم بنصب «فتنفعه» على جواب «لعل»، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) عن الإيمان والقرآن بماله من المال فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) أي تقبل عليه بوجهك وتميل إلى كلامه.
وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الضاد وقرأ أبو جعفر بضم التاء، أي فأنت يدعوك داع إلى التصدي له من الحرص على إسلامه وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) و «ما» إما نافية، والجملة حال من ضمير «تصدى»، أي والحال أنه ليس عليك بأس في عدم تطهره من الشرك بالإسلام، وإما استفهامية للإنكار أي وأيّ شيء عليك في كونه لا يتطهر من دنس الكفر، وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨)
(١) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب: ذكر البعث.
أي حال كونه يسرع في طلب الخير وَهُوَ يَخْشى (٩) من الله، أي وهو مسلم فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) أي تتشاغل بصناديد قريش. وقرأ طلحة بن مصرف «تتلهى». وقرأ أبو جعفر «تلهى»، أي يلهيك شأن الصناديد
كَلَّا أي لا تفعل مثل ذلك، أي وذلك محمول على ترك الأولى إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) أي إن القرآن موعظة فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) أي فمن رغب في القرآن اتعظ به، ومن لم يرده فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره فِي صُحُفٍ أي ذلك القرآن مثبت في صحف منتسخة من اللوح المحفوظ مُكَرَّمَةٍ (١٣) عند الله تعالى، مَرْفُوعَةٍ في السماء السابعة، مُطَهَّرَةٍ (١٤) أي منزهة عن مساس أيدي الشياطين، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) أي ملائكة يكشفون الوحي بين الله ورسله، أو يكتبون الكتب ناقلين من اللوح المحفوظ كِرامٍ أي عند الله تعالى بَرَرَةٍ (١٦) أي صادقين لله في أعمالهم. وقال القرطبي: إن المراد بما في قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: ٧٩] هؤلاء السفرة الكرام البررة، وقوله: بِأَيْدِي متعلق ب «مطهرة».
قال القفال: لما لم يمس الصحف إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهر إليها لطهارة من يمسها. قُتِلَ الْإِنْسانُ أي لعن الكافر ما أَكْفَرَهُ (١٧) أي أيّ شيء أكفره، وهو تعجب من إفراطه في الكفران، والتعجب بالنسبة للمخلوقين، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرناه بعد هذا، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) وهذا استفهام تقرير في التحقير، أي فليتفكر الإنسان في نفسه من أيّ شيء خلقه الله، ثم بيّن الله له فقال: مِنْ نُطْفَةٍ أي ماء حقير، خَلَقَهُ فمن كان أصله مثل هذا الشيء الحقير، فالتكبر لا يكون لائقا به فَقَدَّرَهُ (١٩) أي فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء، أو فقدره أطوارا نطفة، ثم علقة إلى أن تم خلقه، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) أي ثم سهل الله خروجه من بطن أمه وكان رأس المولود في بطن أمه، من فوق ورجلاه من تحت، فإذا جاء وقت الخروج انقلب، فخروجه حيا من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب، أو ثم بين طريق الخير والشر التي تتعلق بالدنيا، والتي تتعلق بالدين،
ثُمَّ أَماتَهُ بعد ذلك، فَأَقْبَرَهُ (٢١) أي جعله الله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) أي بعثه من القبر كَلَّا، أي لا تتكبر، ولا تصر على إنكار التوحيد، وعلى إنكار البعث، أو حقا يا محمد لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣)، أي لم يعمل الإنسان الكافر بما أمره الله به من التأمل في دلائل الله والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته، فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ
(٢٤) الذي جعله الله سببا لحياته كيف دبر الله أمره، أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ أي الغيث على الأرض، صَبًّا (٢٥).
قرأ عاصم وحمزة والكسائي «أنا» بفتح الهمزة على أنه بدل اشتمال من طعامه، لأن الماء سبب لحدوث الطعام، فهو مشتمل عليه. والباقون بالكسر على الاستئناف. وقرئ «إني» بالإمالة، أي كيف صببنا الماء صبا عجيبا! ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بالنبات شَقًّا (٢٦) بديعا لائقا به فَأَنْبَتْنا فِيها أي الأرض حَبًّا (٢٧)، وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما،
وَعِنَباً وهو غذاء من وجه وفاكهة من وجه، وَقَضْباً (٢٨). قيل: هو كل ما يقطع من البقول.
وقال الحسن: هو العلف للدواب. وقال ابن عباس: هو الرطب فإنه يقطع من النخل، وَزَيْتُوناً وفيه إصلاح المزاج، وَنَخْلًا (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) أي بساتين ملتفة الأشجار، أو طوال الأشجار،
وَفاكِهَةً وهي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار، وَأَبًّا (٣١) وهو ما تأكله الدواب من الكلأ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) أي فعل الله ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم، فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) أي صيحة النفخة الثانية التي تصم الآذان لشدتها، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) و «يوم» إما منصوب بأعني تفسيرا ل «الصّاخة»، أو بدل منها مبني على الفتح بالإضافة إلى الفعل على رأي الكوفيين، أي يعرض عن أخيه وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) وفائدة هذا الترتيب كأنه قيل يوم يعرض المرء عن أخيه، بل عن أبويه اللذين هما أقرب من الأخ، بل عن الزوجة والولد اللذين تعلق القلب بهما أشد من تعلقه بالأبوين، وجواب «إذا» محذوف تقديره: اشتغل كل امرئ بحال نفسه، ويدل عليه قوله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تكون هذه الداهية شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)، أي شغل يكفيه في الاهتمام به، أو عمل يصرفه عن قرابته كما قاله ابن قتيبة.
وقرئ «يعنيه» بالياء المفتوحة والعين المهملة، أي يهمه، أي يوقعه في الهم، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) أي مضيئة من صلاة الليل- كما قاله ابن عباس- أو من آثار الوضوء- كما قاله الضحاك- أو بسبب الخلاص من علائق الدنيا والاتصال بالرحمة ومنازل الرضوان- كما قاله الرازي- ضاحِكَةٌ أي معجبة بكرامة الله أو مسرورة بالفراغ من الحساب، مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) أي فرحة بما تشاهد من النعيم الدائم والثواب الجسيم، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) أي كدورة
تَرْهَقُها أي تدركها عن قرب، قَتَرَةٌ (٤١) أي سواد كالدخان أُولئِكَ أي أصحاب هذه الوجوه هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢) أي الجامعون بين الكفر بالله والكذب على الله.
Icon