تفسير سورة الرعد

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
مدنية وقيل مكية إلا قوله :﴿ ويقول الذين كفروا ﴾ الآية وآياتها ثلاث وأربعون

﴿المر﴾ اسمٌ للسورة ومحلُّه إمَّا الرفعُ عَلَى أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هذه السورة مسماة بهذا الاسمِ وهو أظهرُ من الرَّفع على الابتداء إذ لم يسبِق العلَم بالتسمية كما مرَّ مِراراً وقولُه تعالى ﴿تِلْكَ﴾ على الوجه الأول مبتدأٌ مستقلٌ وعلى الوجه الثاني مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأول أشير به إليه إيذاناً بفخامته وإما النصبُ بتقدير فعلٍ يناسب المقامَ نحوُ اقرأ أو اذكر فتلك مبتدأٌ كما إذا جعل آلمر مسروداً على نمطِ التعديدِ أو بمعنى أنا الله أعلمُ وأرى على ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما والخبر على التقادير قوله تعالى ﴿آياتِ الكتاب﴾ أي الكتابِ العجيب الكامل الغنيِّ عن الوصف به المعروفِ بذلك من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به فهو عبارةٌ عن جميع القرآن أو عن الجميعِ المنزلِ حينئذ حسبما مرَّ في مطلعِ سورة يونس إذ هو المتبادرُ من مطلق الكتابِ المستغني عن النعت وبه يظهر ما أريد من وصف الآياتِ بوصف ما أضيفت إليه من نعوت الكمالِ بخلاف ما إذا جُعل عبارةً عن السورة فإنها ليست بتلك المثابة من الشهرة في الاتصاف بذلك المغنية عن التصريح بالوصف على أنَّها عبارةٌ عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدةٍ منها وفيه مالا يخفى من التعسف الذي مرَّ تفصيلُه في سورة يونس ﴿والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ﴾ أي الكتابَ المذكور بكماله لا هذه السورةُ وحدها ﴿الحق﴾ الثابتُ المطابق للواقع في كل ما نطق به الحقيقُ بأن يُخصَّ به الحقّيةُ لعراقته فيها وليس فيه ما يدل على أن ما عداه ليس بحق أصلاً على أن حقّيتَه مستتبِعةٌ لحقية سائرِ الكتبِ السماوية لكونه مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ومهيمِناً عليه وفي التعبير عنه بالموصول وإسنادِ الإنزال إليه بصيغة المبنيِّ للمفعول والتعرّضِ لوصف الربوبية مضافاً إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ من الدلالة على فخامة المنزَّل التابعةِ لجلالة شأنِ المنزَّل وتشريفِ المنزَّل إليه والإيماءِ إلى وجه بناء الخبر مالا يخفى ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ بذلك الحقِّ المبين لإخلالهم بالنظر والتأملِ فيه فعدمُ إيمانهم متعلقٌ بعنوان حقّيتِه لأنه المرجِعُ للتصديق والتكذيب لا بعنوان كونِه منزلاً كما قيل ولأنه واردٌ على طريقة الوصفِ دون الإخبار
﴿الله الذي رفع السماوات﴾
2
الرعد ٣ أي خلقهن مرتفعاتٍ على طريقة قولِهم سبحان من كبّر الفيل وصغّر البعوض لا أنه رفعها بعد أن لم تكن كذلك والجملةُ مبتدأ وخبرٌ كقوله وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ أي بغير دعائمَ جمع عِماد كإهاب وأَهَب وهو ما يُعمَد به أي يُسند يُقال عمَدتُ الحائطَ أي أدعمته وقرىء عُمُد على جمع عَمود بمعنى عماد كرُسُل ورسول إيراد صيغةِ الجمع لجمع السموات لا لأن المنفيَّ عن كل واحدة منها عَمدٌ لا عماد ﴿تَرَوْنَهَا﴾ استئنافٌ استُشهد به على ما ذكرَ من رفع السموات بغير عمد وقيل صفة لعَمَدٍ جيء بها إيهاماً لأن لها عمداً غيرَ مرئيةٍ هي قدرة الله تعالى ﴿ثُمَّ استوى﴾ أي استولى ﴿عَلَى العرش﴾ بالحفظ والتدبير أو استوى أمرُه وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ لله عز وجل بلا كيف وأياما كان فليس المرادُ به القصدَ إلى إيجاد العرش وخلقِه فلا حاجة إلى جعل كلمة ثُم للتَّراخي في الرُّتبةِ ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ ذللهما وجعلهما طائعَين لما أريد منهما من الحركات وغيرها ﴿كُلٌّ﴾ من الشمس والقمر ﴿يَجْرِى﴾ حسبما أريد منها ﴿لاِجَلٍ مُّسَمًّى﴾ لمدة معينةٍ فيها تتم دورتُه كالسنة للشمس والشهر للقمر فان كل منهما يجري كلَّ يوم على مدار معينٍ من المدارات اليوميةِ أو لمدة ينتهي فيها حركاتُهما ويخرج جميعُ ما أريد منهما من القوةِ إلى الفعلِ أو لغاية يتم عندها ذلك والجملةُ بيانٌ لحكم تسخيرهما ﴿يُدَبّرُ﴾ بما صنع من الرَّفْع والاستواء والتسخير أي يقضي ويقدرُ حسبما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحة ﴿الأمر﴾ الخلق كلَّه وأمرَ ملكوتِه وربو بيته ﴿يفصل الآيات﴾ الدلالةِ عَلى كمالِ قدرتِه وبالغِ حكمتِه أي يأتي بها مفصلةً وهي ما ذُكرَ من الأفعالِ العجيبةِ وما يتلوها من الأوضاع الفلكيةِ الحادثةِ شيئاً فشيئاً المستتبعةِ للآثار الغريبة في السُّفليات على موجب التدبيرِ والتقديرِ فالجملتان إما حالان من ضمير استوى وقوله وَسَخَّرَ الشمس والقمر من تتمة الاستواءِ وإما مفسّرتان له أو الأولى حالٌ منه والثانية من الضمير فيها أو كلاهما من ضمائر الأفعالِ المذكورة وقوله كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى من تتمة التسخيرِ أو خبران عن قوله الله خبراً بعد خبر والموصولُ صفةٌ للمبتدأ جيء به للدلالة على تحقيق الخبرِ وتعظيمِ شأنِه كما في قول الفرزدق... إن الذي سمك السماءَ بنى لنا...
بيتاً دعائمُه أعزُّ وأطول...
﴿لَعَلَّكُمْ﴾ عند معاينتِكم لها وعثورِكم على تفاصيلها ﴿بِلِقَاء رَبّكُمْ﴾ بملاقاته للجزاء ﴿تُوقِنُونَ﴾ فإن من تدبّرها حقَّ التدبر أيقن أن من قدَر على إبداع هذه الصنائعِ البديعةِ على كل شىء قديرٌ وأن لهذه التدبيراتِ المتينة عواقبَ وغاياتٍ لا بد من وصولها وقد بُيّنتْ على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام أن ذلك ابتلاء المكلفين ثم جزاؤهم حسب أعمالِهم فإذن لا بد من الإيقان بالجزاء ولمّا قرر الشواهدَ العلوية أردفها بذكر الدلائلِ السفلية فقال
3
(وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض) أي بسطها طولاً وعَرضاً قال الأصم المد هو البسطُ إلى ما لا يدرك منتهاه ففيه دَلالةٌ على بعد مداها وسَعةِ أقطارها ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ﴾ أي جبالاً ثوابتَ في أحيازها من الرُّسوّ وهو ثباتُ الأجسام الثقيلة ولم يُذكر الموصوفُ لإغناء غلبة الوصفِ بها
3
عن ذلك وانحصارُ مجيءِ فواعل جمعاً لفاعل في فوارس وهو الك ونواكسَ إنما هو في صفات العقلاءِ وأما في غيرهم فلا يراعى ذلك أصلاً كما في قوله تعالى أَيَّامًا معدودات وقوله الحج أَشْهُرٌ معلومات إلى غير ذلك فلا حاجة إلى أن يُجعل مفردُها صفةً لجمع القلة أعني أجبُلاً ويعتبر في جمع الكثرة أعني جبالاً انتظامُها لطائفة من جموع القلة وتنزيلُ كلَ منها منزلة مفردِها كما قيل على أنه لا مجال لذلك فإن جمعيةَ كلَ من صبغتي الجمعَين إنما هي باعتبار الأفرادِ التي تحتها لا باعتبار انتظام جمعِ القلةِ للأفراد وجمعِ الكثرة لجموع القلة فكل منها جمعُ جبلٍ لا أن جبالاً جمعُ أجبل كما أن طوائفَ جمعُ طائفة ولا إلى أن يُلتجأَ إلى جعل الوصفِ المذكور بالغلبة في عداد الأسماءِ التي تُجمع على فواعل كما ظن على أنه لا وجه له لما أن الغلبةَ إنما هي في الجمع دون المفردِ والتعبيرُ عن الجبال بهذا العنوانِ لبيان تفرّعِ قرارِ الأرض على ثباتها ﴿وأنهارا﴾ مجاريَ واسعةً والمرادُ ما يجري فيها من المياه وفي نظمها مع الجبال في معمولية فعلٍ واحد إشارةٌ إلى أن الجبالَ منشأٌ للأنهار وبيانٌ لفائدة أخرى للجبال غيرِ كونها حافظةً للأرض عن الاضطراب المُخِلّ بثبات الأقدام وتقلّب الحيوان متفرّعةً على تمكنه وتقلّبه وهي تعيُّشُه بالماء والكلأ ﴿وَمِن كُلّ الثمرات﴾ متعلقٌ بجعل في قوله تعالى ﴿جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين﴾ أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كلٌّ منهما زوجُ الآخر وأكدبه الزوجين لئلا يُفهم أن المرادَ بذلك الشفْعان إذ يطلق الزوجُ على المجموع ولكن اثنينية ذلك اثنينيةً اعتبارية أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضر بين صنفين إما في اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحُلو والحامض أو في القدر كالصغير والكبير أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك ويجوز أن يتعلق بجعَلَ الأولِ ويكونَ الثاني استئنافاً لبيان كيفيةِ ذلك الجعْل ﴿يُغْشِى الليل النهار﴾ استعارةٌ تبعيةٌ تمثيليةٌ مبنيَّةٌ على تشبيه إزالةِ نورِ الجو بالظلمة بتغطية الأشياءِ الظاهرةِ بالأغطية أي يستر النهارَ بالليل والتركيب وإن احتمل العكسَ أيضاً بالحمل على تقديم المفعولِ الثاني على الأول فإن ضوء النهار أيضاً ساترٌ لظلمة الليلِ إلا أن الأنسبَ بالليل أن يكون هو الغاشي وعدُّ هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقُه بالآيات العلوية ظاهراً باعتبار أن ظهورَه في الأرض فإن الليل إنما هو ظلُّها وفيما فرق موقعِ ظلها لا ليلَ أصلاً ولأن الليل والنهار لهما تعلقٌ بالثمرات من حيث العقدُ والإنضاج على أنهما أيضاً زوجان متقابلان مثلُها وقرىء يُغشّي من التغشية ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ أي فيما ذكر من مد الأرضِ وإيتادِها بالرواسي وإجراءِ الأنهار وخلق الثمرات وإغشاءِ الليل النهارَ وفي الإشارة بذلك تنبيهٌ على عِظَمِ شأنِ المُشار إليه في بابه (لاَيَاتٍ) باهرةً وهي آثارُ تلك الأفاعيل البديعة جلت حكمت صانعِها ففي على معناها فإن تلك الآثارَ مستقرةٌ في تلك الأفاعيل منوطةٌ بها ويجوز أنْ يُشار بذلكَ إلى تلك الآثار المدلولِ عليها بتلك الأفاعيل ففي تجريدية ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فإن التفكر فيها يؤدّي إلى الحكم بأن تكوين كلَ من ذلك على هذا النمط الرائِق والأسلوب اللائق لا بد له من مكوّن قادرٍ حكيم يفعل ما يشاء ويخار ما يريدُ لا معقِّبَ لحكمه وهو الحميد المجيد
4
الرعد
5
٤ - ﴿وَفِى الأرض قِطَعٌ﴾ جملةٌ مستأنفة مشتملةٌ على طائفة أخرى من الآيات أي بقاعٌ كثيرةٌ مختلفة في الأوصاف فمن طيِّبة إلى سَبْخة وكريمة إلى زهيدة وصُلبة إلى رِخْوة إلى غير ذلك ﴿متجاورات﴾ أي متلاصقاتٌ وفي بعض المصاحف قطعاً متجاوراتٍ أي جعل في الأرض قطعاً ﴿وجنات مّنْ أعناب﴾ أي بساتينُ كثيرة منها ﴿وَزَرْعٌ﴾ من كل نوع من أنواع الحبوبِ وإفرادُه لمراعاة أصله ولعل تقديمَ ذكرِ الجنات عليه مع كونه عمودَ المعاشِ لظهور حالها في اختلافها ومبايَنتِها لسائرها ورسوخ ذلك فيها وتأخيرُ قوله تعالى ﴿وَنَخِيلٌ﴾ لئلا يقعَ بينها وبين صفتها وهي قوله تعالى ﴿صنوان وَغَيْرُ صنوان﴾ فاصلة والصنوان جمع صِنْو كقِنوان وقِنْو وهي النخلةُ التي لها رأسان وأصلُها واحدٌ وقرىء بضم الصاد على لغة بني تميم وقيس وقرىء جناتٍ بالنصب عطفاً على زوجين وبالجر على كل الثمرات فلعل عدمَ نظمِ قولِه تعالَى وَفِى الأرضِ قِطَعٌ متجاورات في هذا السلكِ مع أن اختصاصَ كل من تلك القِطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض جعْل الخالقِ الحكيم جلت قدرتُه حين مد الأرضَ ودحاها للإيماء إلى كون تلك الأحوال صفاتٍ راسخةً لتلك القطع وقرىء وزرعٍ ونخيلٍ بالجر عطفاً على أعناب أو جناتٍ ﴿يسقى﴾ أي ما ذكر من القِطع والجنات والزرع والنخيل وقرىء بالتأنيث مراعاةً للّفظ والأول أوفقُ بمقام بيان اتحادِ الكل في حالة السقْي ﴿بِمَاء واحد﴾ اختلاف في طبعه سواءٌ كان السقيُ بماء الأمطار أو بماء الأنهار ﴿وَنُفَضّلُ﴾ مع تآخذ أسبابِ التشابه بمحض قدرتِنا واختيارنا ﴿بَعْضَهَا على بَعْضٍ﴾ آخَرَ منها ﴿فِى الأكل﴾ فيما يحصُل منها من الثمر والطعْمِ وقرىء بالياء على بناء الفاعل رداً على يدبّر ويفصّلُ ويغشي وعلى بناء المفعول وفيه مالا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدمَ احتمال استنادِ الفعل إلى فاعل آخرَ مغنٍ عن بناء الفعل للفاعل ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ الذي فُصّل من أحوال القِطع والجنات ﴿لاَيَاتٍ﴾ كثيرةً عظيمةً ظاهرة ﴿لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ يعلمون على قضية عقولِهم فإن من عقَل هذه الأحوالَ العجيبةَ لا يتعلثم في الجزم بأن مَن قدَر على إبداع هذه البدائعِ وخلقَ تلك الثمارَ المختلفة في الأشكال والألوان والطعومِ والروائحِ في تلك القِطع المتباينةِ المتجاورةِ وجعَلَها حدائقَ ذاتَ بهجةٍ قادرٌ على إعادة ما أبداه بل هي أهونُ في القياس وهذه الأحوالُ وإن كانت هي الآياتِ أنفسَها لا أنها فيها إلا أنه قد جُرّدت عنها أمثالُها مبالغةً في كونها آيةً ففي تجريديةٌ مثلُها في قولِه تعالَى لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ أو المشارُ إليه الأحوالُ الكلية والآياتُ أفرادُها الحادثةُ شيئاً فشيئاً في الأزمنة وآحادُها الواقعةُ في الأقطار والأمكنةِ المشاهدة لأهلها ففي على معناها وحيث كانت دلالةُ هذه الأحوالِ على مدلولاتها أظهرَ مما سبق علق كونُها آياتٍ بمحض التعقّل ولذلك لم يتعرض لغير تفضيل بعضِها على بعض في الأكُل الظاهرِ لكل عاقلٍ مع تحقق ذلك في الخواصّ والكيفيات مما يتوقف العثورُ عليه على نوع تأملٍ وتفكر كأنه لا حاجة في ذلكَ إلى التفكر أيضاً وفيه تعريضٌ بأن المشركين غيرُ عاقلين
5
الرعد
6
٥ - ٦ ﴿وَإِن تَعْجَبْ﴾ يا محمد من شيء ﴿فَعَجَبٌ﴾ لا أعجبُ منه حقيقٌ بأن يُقصَرَ عليه التعجب ﴿قَوْلُهُمْ﴾ بعد مشاهدةِ ما عدد لك من الآيات الشاهدةِ بأنه تعالَى على كُلِّ شيءٍ قدير ﴿أئذا كُنَّا تُرَابًا﴾ على طريقة الاستفهامِ الإنكاريِّ المفيدِ لكمال الاستبعادِ والاستنكارِ وهو في محلِ الرفعِ على البدلية من قولهم على أنه بمعنى المقول أو في محلِّ النصبِ على المفعولية منه على أنَّه مصدرٌ فالعجبُ على الأول كلامُهم وعلى الثاني تكلّمُهم بذلك والعاملُ فِي إذَا ما دل عليه قوله ﴿أئنا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وهو نُبعث أو نعاد وتقديمُ الظَّرفِ لتقويةِ الإنكارِ بالبعث بتوجيهه إليه في حالةٍ منافيةٍ له وتكريرُ الهمزة في قولهم أئنا لتأكيد الإنكارِ وليس مدارُ إنكارِهم كونَهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونِهم بعريضة ذلك واستعدادِهم له وفيه من الدلالة على عتوّهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى وقيل إن تعجب من قولهم في إنكار البعثِ فعجبٌ قولُهم والمآلُ وإن تعجبْ فقد تعجّبت في موضع التعجّبِ وقيل وإن تعجب من إنكارِهم البعثَ فعجبٌ قولُهم الدالُّ عليه فتأمل وقد جُوّز كونُ الخطاب لكلِّ من يصلُح له أي إن تعجبْ يا من ينظُر في هذه الآياتِ من قدرة مَنْ هذه أفعالُه فازددْ تعجباً ممن ينكر مع هذه الدلائلِ قدرتِه تعالى على البعث وهو أهونُ من هذه والأنسبُ بقوله ويستعجلونك بالسيئة هُو الأولُ وقولُه تعالى فَعَجَبٌ خبرٌ قُدّم على المبتدأ للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم ذاك أمراً عجيباً ويجوز أن يكون مبتدأً لكونه موصوفاً بالوصف المقدر كما أشير إليه فالمعنى وإن تعجب فالعجب الذي لا عجب وراءه قولُهم هذا فاعجب منه وعلى الأول وإن تعجب فقولُهم هذا عجبٌ لا عجبَ فوقه ﴿أولئك﴾ مبتدأٌ والموصولُ خبرُه أي أولئك المنكرون لقدرته تعالى على البعث ريثما عاينوا ما فُصّل من الآيات الباهرةِ المُلْجئة لهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون ﴿الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ﴾ وتمادَوْا في ذلك فإن إنكارهم لقدرته عز وجل كفرٌ به وأيُّ كفر ﴿وَأُوْلئِكَ﴾ مبتدأ خبرُه قوله ﴿الأغلال فِى أعناقهم﴾ أي مقيّدون بقيود الضلال لا يرجى خلاصُهم أو مغلولون يوم القيامة ﴿وَأُوْلئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر من الصفات ﴿أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون﴾ لا ينفكوّن عنها وتوسيطُ ضمير الفصلِ ليس لتخصيص الخلودِ بمنكري البعثِ خاصة بل بالجميع المدلولِ عليه بقوله تعالى ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ﴾
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة﴾ بالعقوبة التي أُنذِروها وذلك حين سألوا رسول الله ﷺ أن يأتيَهم بالعذاب استهزاءً منهم بإنذاره ﴿قَبْلَ الحسنة﴾ أي العافيةِ والإحسانِ إليهم بالإمهال ﴿وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات﴾ أي عقوباتُ أمثالِهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها ولا يحترزون حلولَ مثلها
6
الرعد ٧ ٨ بهم والجملة الحاليةُ لبيان ركاكةِ رأيِهم في الاستعجال بطريق الاستهزاءِ أي يستعجلونك بها مستهزئين بإنذارك منكِرين لوقوع ما أنذرتَهم إياه والحالُ أنه قد مضت العقوباتُ النازلةُ على أمثالهم من المكذبين والمستهزئين والمُثْلة بوزن السُّمْرة العقوبةُ سميت بها لما بينها وبين المعاقَب عليه من المماثلة ومنه المثال القصاص وقرىء المُثُلات بضمتين بإتباع الفاء العين والمَثْلات بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال السَّمْرة والمُثْلات بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المُثُلات جمع مُثْلة كرُكبة ورُكْبات ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾ عظيمةٍ ﴿لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾ أنفسهم بالذنوب والمعاصي ومحلُّه النصبُ عَلى الحاليّةِ أي ظالمين والعاملُ فيه المغفرة والمعنى إن ربك لغفورٌ للناس لا يعجّل لهم العقوبةَ وإن كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب﴾ يعاقب من يشاء منهم حين يشاء فتأخيرُ ما استعجلوه ليس للإهمال وعنه عليه الصلاة والسلام لولا عفوُ الله وتجاوزُه ما هنأ لأحد العيشُ ولولا وعيده وعقابه لا تكل كُلُّ أحد
7
﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ﴾ وهم المستعجلون أيضاً وإنما عدَل عن الإضمار إلى الموصول ذماً لهم ونعياً عليهم كفرَهم بآياتِ الله تعالى التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال حيث لم يرفعُوا لها رأساً ولم يعُدّوها من جنس الآيات وَقَالُواْ ﴿لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آية مّن رَّبّهِ﴾ مثلَ آياتِ موسى وعيسى عليهما الصلاة السلام عناداً ومكابرةً وإلا ففي أدنى آيةٍ أُنزلت عليه الصلاة والسلام غُنيةٌ وعِبرةٌ لأولي الألباب ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ﴾ مرسَلٌ للإنذار من سوء عاقبةِ ما يأتون ويذرون كدأب مَنْ قبلك من الرسل وليس عليك إلا الإتيانُ بما يُعلم به نُبوَّتُك وقد حصل ذلكَ بما لا مزيدَ عليهِ ولا حاجةَ إلى إلزامهم وإلقامِهم الحجرَ بالإتيان بما اقترحوا من الآيات ﴿وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ معينٌ لا بالذات بل بعنوان الهدايةِ يعني لكل قوم نبيٌّ مخصوصٌ له هدايةٌ مخصوصةٌ يقتضي اختصاصُ كلَ منهم بما يختص به حكم لا يعلمُها إلا الله أو لكل قوم هادٍ عظيمُ الشأنِ قادرٌ على ذلك هو الله سبحانه وما عليك إلا إنذارُهم فلا يُهِمَنك عنادُهم وإنكارُهم للآيات المنزّلةِ عليك وازدراؤهم بها ثم عقّبه بما يدل على كمال علمِه وقدرتِه وشمولِ قضائِه وقدَره المبنيَّين على الحِكَم والمصالحِ تنبها على أن تخصيصَ كلِّ قوم بنبي وكل نبي بجنس معين من الآيات إنما هو للحِكَم الداعية إلى ذلك إظهاراً لكمال قدرتِه على هدايتهم لكن لا يهدي إلا من تعلّق بهدايته مشيئتُه التابعةُ لِحكَم استأثر بعلمها فقال
﴿الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى﴾ أي تحمِله فما موصولةٌ أُريد بها ما في بطنها من حين العُلوقِ إلى زمن الولادةِ لا بعد تكاملِ الخلقِ فقط والعلمُ متعدَ إلى واحد أو أيَّ شيءٍ تحملُ وعلى أي حال هو من الأحوال المتواردةِ عليه طوراً فطوراً فهي استفهاميةٌ معلقةٌ للعلم أو حملَها فهي مصدرية ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ﴾ أي تنقُصه وتزداده في الجُثة كالخَديج والتام وفي المدة كالمولود في أقلِّ مدة الحملِ والمولود في أكثرها وفيما بينهما قيل إن الضحاك ولد في سنتين وهرم بن حيان في أربع ومن ذلك سُمِّي هرِماً وفي العدد كالواحد فما فوقه يروى أن شريكاً كان رابعَ أربعةٍ أو يعلم نقصها وإزديادها
7
الرعد ٩ ١١ لما فيها فالفعلان متعدّيان كما في قوله تعالى ﴿وَغِيضَ الماء﴾ وقوله تعالى ﴿وازدادوا تسعا﴾ وقوله تزداد كيل بعير أولا زمان قد أسند إلى الأرحام مجازاً وهما لما فيها ﴿وَكُلَّ شىْء﴾ من الأشياءِ ﴿عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ بقدر لا يمكن تجاوزُه عنه كقوله إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ فإن كل حادثٍ من الأعيان والأعراضِ له في كل مرتبةٍ من مراتب التكوينِ ومباديها وقتٌ معينٌ وحالٌ مخصوص لا يكاد يجاوزه والمرادُ بالعندية الحضورُ العلميُّ بل العلمُ الحضوريُّ فإن تحقق الأشياءِ في أنفسها في أي مرتبة كانت من مراتبُ الوجود والاستعداد لذلك علمٌ له بالنسبة إلى الله عزَّ وجلَّ
8
﴿عالم الغيب﴾ أي الغائبِ عن الحس ﴿والشهادة﴾ أي الحاضرِ له عبر عنهما بهما مبالغةً وقيل أريد بالغيب المعدومُ وبالشهادة الموجودُ وهو خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أو خبرٌ بعد خبر وقرىء بالنصب على المدح وهذا كالدليلِ على ما قبلَهُ من قوله تعالى الله يَعْلَمُ الخ ﴿الكبير﴾ العظيمُ الشأنِ الذي كلُّ شيء دونه ﴿المتعال﴾ المستعلي على كل شيء بقدرته أو المنزَّهُ عن نعوت المخلوقات وبعد ما بيَّن سبحانَه أنه عالم بجميع أحوالِ الإنسان في مراتبِ فطرتِه ومحيطٌ بعالَمي الغيب والشهادة بين أنه تعالى عالمٌ بجميع ما يأتون وما يذرون من الأفعال والأقوال وأنه لا فرق بالنسبة إليه بين السرِّ والعلن فقال
﴿سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول﴾ في نفسه ﴿وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾ أظهره لغيره ﴿وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ﴾ مبالغٌ في الاختفاء كأنه مختفٍ ﴿بالليل﴾ وطالبٌ للزيادة ﴿وَسَارِبٌ﴾ بارزٌ يراه كلُّ أحد ﴿بالنهار﴾ من سرَب سروباً أي برَز وهو عطفٌ على مَنْ هو مستخفٍ أو على مستخف ومن عبارةٌ عن الاثنين كما في قوله تعالى ﴿فإن عاهدتَني لا تخونُني نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبانِ﴾ كأنه قيل سواءٌ منكم اثنان مستخفٍ بالليل وساربٌ بالنهار والاستواءُ وإن أسند إلى من أسرّ ومن جهَر وإلى المستخفي والساربِ لكنه في الحقيقة مسنَدٌ إلى ما أسّره وما جهرَ به أو والى الفاعل من حيث هو فاعلٌ كما في الأخيرين وتقديمُ الإسرارِ والاستخفاءِ لإظهار كمالِ علمِه تعالى فكأنه في التعلق بالخفيات أقدمُ منه بالظواهر وإلا فنِسبتُه إلى الكل سواءٌ لما عرَفته آنفاً
﴿لَهُ﴾ أي لكلَ ممن أسرّ أو جهر والمستخفي أو السارب ﴿معقبات﴾ ملائكةٌ تعتقِبُ في حفظه جمعُ معقّبة من عقّبه مبالغةُ عقَبه إذا جاء على عقِبه كأن بعضَهم يعقُب بعضاً أو لأنهم يعقُبون أقوالَه وأفعاله فيكتُبونه أو اعتقب فأُدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة أو المرادُ بالمعقّبات الجماعاتُ وقرىء معاقيبُ جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من إحدى القافين ﴿من بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه﴾ من جميع جوانبِه أو من الأعمال ما قدَّم وأخَّر ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾ من بأسه حين أذنب بالاستمهال والاستغفارِ له أو يحفظونه من المضارّ أو
8
الرعد ١٢ ١٣ يراقبون أحوال من أجل أمر الله تعالى وقد قرىء به وقيل من بمعنى الباء وقيل من أمر الله صفةٌ ثانيةٌ لمعقّبات وقيل المعقّبات الحرّاسُ والجلاوِزةُ حولَ السلطان يحفَظونه في توهّمه من قضاء الله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ﴾ من النعمة والعافية ﴿حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ من الأعمالِ الصالحةِ أو ملَكاتها التي هي فطرة الله التي فطرَ النَّاسَ عليها إلى أضدادها ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا﴾ لسوء اختيارِهم واستحقاقِهم لذلك ﴿فَلاَ مَرَدَّ لَهُ﴾ فلا ردَّ له والعاملُ في إذَا ما دل عليه الجوابُ ﴿وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ يلي أمرَهم ويدفع عنهم السوءَ الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم وفيه دلالة على أن تخلّف مرادِه تعالى مُحالٌ وإيذانٌ بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراحِ الآية قد غيَّروا ما بأنفسهم من الفطرة واستحقوا لذلك حلولَ غضبِ الله تعالى وعذابِه
9
﴿هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرقَ خَوْفًا﴾ من الصاعقة ﴿وَطَمَعًا﴾ في المطر فوجهُ تقديم الخوفِ على الطمع ظاهر لما أن المَخوفَ عليه النفسُ أو الرزق العتيدُ والمطموعُ فيه الرزقُ المترقَّبُ وقيل الخوف أيضاً من المطر لكنْ الخائفُ منه غيرُ الطامع فيه كالخزّاف والحراث ويأباه الترتيب إلا أن يتكلف ما أشيرَ إليهِ من أن المَخوفَ عتيدٌ والمطموعَ فيه مترقَّبٌ وانتصابُهما إما على المصدرية أي فتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً أو على الحالية من البرق أو المخاطبين بإضمار ذوي أو بجعل المصدرِ بمعنى المفعول أو الفاعل مبالغةً أو على العِلّية بتقدير المضاف أي إرادةَ خوفٍ وطمعٍ أو بتأويل الإخافة والإطماعِ ليتّحد فاعلُ العِلة والفعل المعلّل وأما جعلُ المعلل هي الرؤية التي تتضمنها الإرادةُ على طريقة قولِ النَّابغةِ
وحلّت بيوتي في يَفاعٍ ممنَّع
تَخال به راعي الحَمولةِ طائرا حِذاراً على أن لا يُنال معاوني
ولا نِسوتي حتى يمُتْن حرائرا
أي أحللت بيوتي حِذاراً فلا سبيل إليه لأن ما وقع في معرض العلة الغائبة لا سيما الخوفُ لا يصلح علة لرؤيتهم ﴿وينشئ السحاب﴾ الغمامَ المنسحبَ في الجو ﴿الثقال﴾ بالماء وهي جمعُ ثقيلةٍ وُصف بها السحابُ لكونها اسمَ جنسٍ في معنى الجمع والواحدةُ سحابة يقال سحابةٌ ثقيلة وسحاب ثِقال كما يقال امرأة كريمة ونسوة كرام
﴿وَيُسَبّحُ الرعد﴾ أي سامعوه من العباد الراجين للمطر ملتبسين ﴿بِحَمْدِهِ﴾ أي يضِجّون بسبحان الله والحمد لله وإسنادُه إلى الرعد لحمله لهم على ذلك أو يسبح الرعدُ نفسه على أن تسبيحه عبارةٌ عن دلالته على وحدانيته تعالى وفضلِه المستوجبِ لحمده وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه كان يقول سُبحانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بحمدِهِ وإذا اشتد يقول اللهم لا تقتُلْنا بغضبك ولا تُهلِكنا بعذابك وعافِنا قبل ذلك وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه سبحان من سبَّحْتَ له وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود سألت النبيَّ صلَّى الله عليهِ وسلم عن الرعد فقال ملَكٌ من الملائكة موكلٌ بالسحاب معه مخا ريق من نار
9
يسوق بها السحابَ وعن الحسن خلقٌ من خلقِ الله تعالَى ليس بملك ﴿والملائكة﴾ أي يسبح الملائكة ﴿مِنْ خِيفَتِهِ﴾ من هيبته وإجلالِه جل جلاله وقيل الضمير للرعد ﴿وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء﴾ فيُهلكه بذلك ﴿وَهُمْ﴾ أي الكفرةُ المخاطبون في قولِه تعالى ﴿هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق﴾ وقد التُفت إلى الغَيبة إيذاناً بإسقاطهم عن درجة الخِطاب وإعراضاً عنهم وتعديداً لجناياتهم لدى كلِّ من يستحق الخطابَ كأنه قيل هو الذي يفعل أمثالَ هذه الأفاعيلِ العجيبةِ من إراءة البرقِ وإنشاء السحابِ الثقالِ وإرسالِ الصواعقِ الدالةِ على كمال علمه وقدرته ويعقِلُها مَنْ يعقِلها من المؤمنين أو الرعدُ نفسه أو الملكُ الموكلُ به والملائكةُ ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوفِ من هيبته تعالى وهم أي الكفرة الذين حُكيت هَناتُهم مع ذلهم وهوانهم وحقارةِ شأنهم ﴿يجادلون فِى الله﴾ أي في شأنه تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من إنكار البعثِ واستعجالِ العذاب استهزاءً واقتراحِ الآيات فالواو لعطف الجملةِ على ما قبلَها من قولِه تعالى ﴿هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق﴾ الخ أو على قوله ﴿الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ﴾ الخ وأما العطفُ على قوله تعالى ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ﴾ كما قيل فلا مجال له لأن قوله تعالى الله يَعْلَمُ الخ استئنافٌ لبيان بطلانِ قولهِم ذلك ونظائرِه من استعجال العذابِ وإنكار البعثِ قاطعٌ لعطف ما بعده على ما قبله وقيل للحال أي فيصيب بالصواعق من يشاء وهم في الجدال وقد أريد به ما أصاب أربدَ بنَ ربيعةَ أخا لبيد فإنه أقبل مع عامر بن الطفيل إلى رسول الله ﷺ يبغيانه الغوائلَ فدخلا المسجد وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جالسٌ في نفر من الأصحاب رضي الله عنهم فاستشرفوا الجمال عامر وكان من أجمل الناسِ وقد كان أوصى إلى أربد أنه إذا رأيتني أكلم محمدا ﷺ فدُرْ من خلفه واضرِبْه بالسيف فجعل يكلمه ﷺ فدار أربد من خلفه ﷺ فاخترط من سيفه شبراً فحبسه الله تعالى فلم يقدِر على سلّه وجعل عامرٌ يومىء إليه فرأى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم الحال فقال اللهم اكفيهما بما شئت فأرسل الله عزَّ وجلَّ على أربد صاعقةً في يوم صحْوٍ صائفٍ فأحرقتْه وولى عامرٌ هارباً فنزل في بيت امرأة سَلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحَه وتغيّر لونُه وركب فرسه فجعل يركُض في الصحراء ويقول ابرُزْ يا ملكَ الموت ويقول الشعر ويقول واللاتِ لئن أصْحر لي محمد وصاحبُه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي فأرسل الله تعالى ملكاً فلطَمه بجناحه فأرداه في التراب فخرجت على ركبته في الوقت غُدةٌ عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول غرة كغرة البعير وموتٌ في بيت سلولية ثم دعا بفرسه فركبه فأجراه حتى مات على ظهره وقيلَ أريدَ بهِ ما رُويَ عنِ الحسنِ أنه كان رجلٌ من طواغيت العرب فبعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم نفراً من أصحابه يدعونه إلى الله عزَّ وجلَّ فقال لهم أخبروني عما تدعونني إليه ما هو ومم هو من ذهب أم من فضة أم من نحاس أم من حديد أم من دُرّ فاستعظموا مقالتَه فرجعوا إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقالوا ما رأينا رجلاً أكفرَ قلباً ولا أعتى على الله منه فقال ﷺ ارجعوا اليه فرجعوا إليه فما زاد إلا مقالتَه الأولى وأخبثَ فرجعوا إليه ﷺ وأخبَروه بما صنع فقال ﷺ ارجعوا إليه فرجعوا فبينما هم عنده ينازعونه إذ ارتفعت سحابةٌ ورعَدت وبرِقت ورمَتْ بصاعقة فاحترق الكافرُ فجاءوا يسعَوْن ليخبروه ﷺ بالخبر فاستقبلهم الأصحاب فقالوا احترق صاحبُكم قالوا من أين علمتم قالوا أُوحيَ إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ﴿وَهُوَ شَدِيدُ المحال﴾ أي والحال أنه شديدا لمما حلة والمكابرة والمماكرةِ لأعدائه من مَحَله إذا كاده وعرّضه للهلاك ومنه تمحل اذا تكلف استعمال الحِيل وقيل هو محال من
10
الرعد ١٤ ١٥ المَحْل بمعنى القوة وقيل مُحوّل من الحول أو الحيلة أُعلَّ على غير قياس ويعضُده أنه قرىء بفتح الميم على أنه مَفعَل من حال يحول إذا احتال ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلاً في القوة والقدرة كقولهم فساعدُ الله أشدُّ وموساه أحدّ
11
﴿لَهُ دَعْوَةُ الحق﴾ أي الدعوةُ الثابتة الواقعة في محلها المجابةُ عند وقوعِها والإضافةُ للإيذان بملابستها للحق واختصاصِها به وكونِه بمعزل من شائبة البطلانِ والضَّياع والضلال كما يقال كلمةُ الحق وقبل له دعوةُ الله سبحانه أي الدعوةُ اللائقة بحضرته كما في قوله ﷺ فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله والتعرضُ لوصف الحقّية لتربية معنى الاستجابةِ والأولى هو الأولُ لقوله تعالى وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال وتعلقُ الجملتين بما قبلهما من حيث أن إهلاكَ أربد وعامرٍ مِحالٌ من الله تعالى وإجابةٌ لدعوة رسول الله ﷺ عليهما إن كانت الآية نزلت في شأنهما أو من حيث إنه وعيدٌ للكفرة على مجادلة رسول الله ﷺ بحلول مِحالِه بهم وتحذيرٌ لهم بإجابة دعوتِه عليهم ﴿والذين يَدْعُونَ﴾ أي الأصنامَ الذين يدعوهم المشركون فحُذف العائد ﴿مِن دُونِهِ﴾ من دون الله عزَّ وجلَّ ﴿لا يستجيبون لهم بشىء﴾ من طلباتهم ﴿إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ إِلَى الماء﴾ أي إلا استجابة كائنة كاستجابه الماء لمن بسَط كفيه إليه من بعيد فالاستجابةُ مصدرٌ من المبنيّ للفاعل على ما يقتضيه الفعلُ الظاهر عني لا يستجيبون ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ المبنيِّ للمفعول ويُضاف إلى الباسط بناءً على استلزام المصدرُ من المبني للفاعل للمصدر من المبني للمفعول وجوداً وعدماً فكأنه قيل لا يستجيبون لهم بشيء فلا يستجاب لهم إلا استجابة كائنة كاستجابه من بسط كفيه إلى الماء كما في قوله... وعضّةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تَدَع... مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ...
أيْ لَم تدعَ فلم يبقَ إلا مسحتٌ أو مجلِّف ﴿لِيَبْلُغَ﴾ أي الماءُ بنفسه من غير أن يؤخذ بشيء من إناء ونحوه ﴿فَاهُ وَمَا هُوَ﴾ أي الماء ﴿بِبَالِغِهِ﴾ ببالغ فيه أبداً لكونه جماداً لا يشعُر بعطشه ولا ببسط يدِه إليه فضلاً عن الاستطاعة لما أراده من البلوغ إلى فيه شبّه حالُ المشركين في عدم حصولهم في دعاء آلهتِهم على شيء أصلاً وركاكةِ رأيهم في ذلك بحال عطشانَ هائمٍ لا يدري ما يفعل قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصولَه إلى فيه من غير ملاحظةِ التشبيه في جميع مفرداتِ الأطراف فإن الماءَ في نفسه شيءٌ نافع بخلاف آلهتِهم والمرادُ نفيُ الاستجابةِ رأساً إلا أنه قد أُخرج الكلامُ مُخرج التهكم بهم فقيل لا يستجيبون لهم شيئاً من الاستجابة كائنة في هذه الصورةِ التي ليست فيها شائبةُ الاستجابة قطعاً فهو في الحقيقة من باب التعليقِ بالمحال وقرىء تدعون بالتاء وكباسطٍ بالتنوين ﴿وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال﴾ أي ذهاب وضَياعٍ وخَسار
﴿وَللَّهِ﴾ وحده ﴿يَسْجُدُ﴾ يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالا ولا اشتراكا فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد ﴿مَن فِى السماوات والارض﴾ من الملائكةِ والثَّقلين ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ أي الطائعين وكارهين أو انقياد طوعٍ وكُرهٍ أو حالَ طوعٍ وكره فإن خضوعَ الكل لعظمة الله عز
11
الرعد ١٦ وجل وانقيادَهم لإحداث ما أراده فيهم من أحكام التكوين والإعدام شاءوا أو أبَوا وعدمُ مداخلةِ حكمِ غيره بل غيرِ حكمِه تعالى في تلك الشئون مما لا يخفى على أحد ﴿وظلالهم﴾ أي وتنقاد له تعالى ظلالُ مَنْ له ظلٌ منهم أعني الإنسَ حيث تتصرف على مشيئته وتتأتّى لإرادته في الامتداد والتقلّص والفيء والزوال ﴿بالغدو والآصال﴾ ظرف السجود المقدّر أو حالٌ من الظلال وتخصيص الوقتين بالذكرمع أن انقيادها متحققٌ في جميع أوقات وجودِها لظهور ذلك فيهما والغدو جميع غَداة كفتيّ في جمع فتاة والآصالُ جمع أصيل وقيل جمع أُصُل وهو جمعُ أَصيلٍ وهو ما بين العصر والمغربِ وقيل الغدوّ مصدرٌ ويؤيده أنه قرىء والإيصالِ أي الدخول في الأصيل هذا وقد قيلَ إنَّ المرادَ حقيقةُ السجود فإن الكفرة حال الاضطرارِ وهو المعنيُّ بقوله تعالى وَكَرْهًا يخُصّون السجودَ به سبحانه قال تعالى فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ولا يبعُد أنْ يخلُق الله تعالى في الظلال أفهاماً وعقولاً بها تسجُد لله سبحانه كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثارُ التجلّي كما قاله ابن الأنباري ويجوز أن يراد بسجودها ما يشاهَد فيها من هيئة السجود تبعاً لأصحابها وأنت خبير بأن اختصاصَ سجودِ الكافر حالة الضرورةِ والشدة بالله سبحانه لا يُجدي فإن سجودَهم لأصنامهم حالة الرخاء تخل بالقصر المستفادِ من تقديم الجار والمجرور فالوجهُ حملُ السجودِ على الانقياد ولأن تحقيقَ انقيادِ الكل في الإبداع والإعدامِ له تعالى أدخلُ في التوبيخ على اتخاذ أولياءَ من دونه من تحقيق سجودِهم له تعالى وتخصيصُ انقيادِ العقلاءِ بالذكر مع كون غيرِهم أيضاً كذلك لأنهم العُمدة وانقيادهم دليل انقيادُ غيرهم على أنه بين ذلك بقوله عز وجل
12
﴿قل من رب السماوات والأرض﴾ فإنه لتحقيق أن خالقَهما ومتولّيَ أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو الله سبحانه وقوله تعالى ﴿قُلِ الله﴾ أمرٌ بالجواب من قبله ﷺ إشعاراً بأنه متعيِّن للجوابية فهو والخصمُ في تقريره سواءٌ أو أمرٌ بحكاية اعترافِهم إيذاناً بأنه أمرٌ لا بد لهم من ذلك كأنه قيل احْكِ اعترافَهم فبكِّتْهم بما يلزمهم من الحجة وألقِمْهم الحجَر أو أمرٌ بتلقينهم ذلك إن تلعثموا في الجواب حذراً من الإلزام فإنهم لا يتمالكون إذ ذاك ولا يقدرون على إنكاره ﴿قُلْ﴾ إلزاماً لهم وتبكيتاً ﴿أفاتخذتم﴾ لأنفسكم والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ كَما في قولك أضربتَ أباك لا لإنكار الوقوعِ كما في قولك أضربتَ أبي والفاء للعطف على مقدر بعد الهمزةِ أي أعلمتم أن ربهما هو الله الذي ينقاد لأمره مَنْ فيهما كافةً فاتخذتم عَقيبَه ﴿مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء﴾ عاجزين ﴿لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا﴾ يستجلبونه ﴿وَلاَ ضَرّا﴾ يدفعونه عن أنفسهم فضلاً عن القدرة على جلب النفعِ لغيره ودفع الضررِ عنه لا على الإنكارُ متوجِّهاً إلى المعطوفَين معاً كما في قولِهِ تعالى ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ إذا قُدّر المعطوفُ عليه ألا تسمعون بل إلى ترتب الثاني على الأول مع
12
وجوب أن يترتبَ عليه نقيضُه كما إذا قُدِّر أتسمعون والمعنى أبعد أن علِمتم أن ربَّهما هو الله جل جلاله اتخذتم من دونه أولياءَ عجَزَةً والحال أن قضيةَ العلم بذلك إنما هو الاقتصارُ على تولّيه فعكستم الأمر كما في قوله تعالى كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى ووصف الأولياء ههنا بعدم المالكية للنفع والضر في ترشيح الإنكارِ وتأكيدهِ كنقييد الاتخاذِ هناك بالجملة الحالية أعني قولَه تعالى ﴿وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ فإن كلاًّ منهما مما ينفي الاتخاذَ المذكور ويؤكد إنكاره ﴿قُلْ﴾ تصويرا لآرائهم الركيكة بصورة المحسوس ﴿هَلْ يَسْتَوِى الأعمى﴾ الذي هو المشركُ الجاهل بالعبادة ومستحقِها ﴿والبصير﴾ الذي هو الموحِّد العالم بذلك أو الأولُ عبارةٌ عن المعبود الغافل والثاني إشارةٌ إلى المعبود العالمِ بكل شيء ﴿أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات﴾ التي هي عبارةٌ عن الكفر والضلال ﴿والنور﴾ الذي هو عبارةٌ عن التوحيد والإيمان وقرىء بالياء ولمّا دل النظمُ الكريمُ على أنْ الكفر فيما فعلوا من اتخاذ الأصنامِ أولياءَ من دون الله سبحانه في الضلال المحضِ والخطأ البحت بحيث لا يخفى بطلانُه على أحد وأنهم في ذلك كالأعمى الذي لا يُهتدَى إلى شيء أصلاً وليس لهم في ذلكَ شبهةٌ تصلح أن تكون منشأً لغلطهم وخطئهم فضلاً عن الحجة أُكّد ذلك فقيل ﴿أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ﴾ أي بل أجعلوا له ﴿شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ﴾ سبحانه والهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ لا لإنكار الواقع مع وقوعه وقوله خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ هو الذي يتوجه إليه الإنكار وأما نفسُ الجعل فهو واقعٌ لا يتعلق به الإنكارُ بهذا المعنى والمعنى أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاءَ خلقوا كخلقه ﴿فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ﴾ بسبب ذلك وقالوا هؤلاء خلقوا كخلقه تعالى فاستحقوا بذلك العبادةَ كما استحقها ليكونَ ذلك منشأً لخطئهم بل إنما جعلوا له شركاءَ ما هو بمعزل من ذلك بالمرة وفيه ما لا يَخفْى من التعريض بركاكة رأيِهم والتهكم بهم ﴿قُلْ﴾ تحقيقاً للحقِّ وإرشاداً لهُم إليه ﴿الله خالق كُلّ شَىْء﴾ كافةً لا خالقَ سواه فيشاركَه في استحقاق العبادة ﴿وَهُوَ الواحد﴾ المتوحّدُ بالألوهية المتفرّدُ بالربوبية ﴿القهار﴾ لكل ما سواه فكيف يُتوهّم أن يكونَ له شريكٌ وبعد مُثّل المشركُ والشركُ بالأعمى والظلماتِ والموحدُ والتوحيدُ بالبصير والنور مُثّل الحقُّ الذي هو القرآنُ العظيم في فيضانه من جناب القدسِ على قلوب خاليةٍ عنه متفاوتةِ الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظةً وحفظاً وعلى الألسنة مذاكرةً وتلاوةً وفي ثباته فيهما مع كونه مُمِدّاً لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمالِ المرضيّة بالماء النازلِ من السماء السائلِ في أودية يابسةٍ لم تجرِ عادتُها بذلك سيلاناً مقدراً بمقدار اقتضتْه الحكمةُ في إحياء الأرضِ وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافعُ الناس وفي كونه حليةً تتحلّى به النفوسُ وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعاً يُتمتّع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزّات التي يُتخذ منها أنواعُ الآلات والأدواتِ وتبقى منتَفعاً بها مدةً طويلةً ومُثّل الباطلُ الذي ابتُليَ به الكفرةُ لقصور نظرِهم بما يظهر فيهما من غير مداخلةٍ له فيهما وإخلالٍ بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعا فقيل
13
الرعد ١٧
14
﴿أَنزَلَ مِنَ السماء﴾ أي من جهتها ﴿مَاء﴾ أي كثيراً أو نوعاً منه وهو ماءُ المطر ﴿فَسَالَتْ﴾ بذلك ﴿أودية﴾ واقعة في مواقعه لا جميعُ الأودية إذ الأمطار لا نستوعب الأقطارَ وهو جمعُ وادٍ وهو مفرَجٌ بين جبال أو تلالٍ أو آكام على الشذوذ كنادٍ وأندية وناج وأنجية قالوا وجهُه أن فاعلا يجيء بمعنى فعيل كناصر ونصير وشاهد وشهيد وعالم وعليم وحيث جُمع فعيل على أفعلة كجريب وأجرِبة جُمع فاعلٌ أيضاً على أفعلة فإن أريد بها ما يسيل فيها مجازاً فإسنادُ السيلانِ إليها حقيقيٌّ وإن أريد معناها الحقيقيُّ فالإسنادُ مجازيٌّ كما في جرى النهرُ وإيثارُ التمثيل بها على الأنهار المستمرةِ الجريانِ لوضوح المماثلةِ بين شأنها وشأنِ ما مُثّل بها كما أشير إليه ﴿بِقَدَرِهَا﴾ أي سالت ملتبسةً بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضتْه حكمتُه في نفع الناس أو بمقدارها المتفاوتِ قلةً وكثرةً بحسب تفاوتِ محالّها صِغَراً وكِبَراً لا بكونها مالئةً لها منطبقةً عليها بل بمجرد قلّتها بِصغرها المستلزِمِ لقلة مواردِ الماء وكثرتها بكِبَرها المستدعي لكثرة الموارد فإن موردَ السيل الجاري في الوادي الصغير أقلُّ من مورد السيل الجاري في الوادي الكبير هذا إن أريد بالأودية ما يسيل فيها أما إن أريد بها معناها الحقيقيُّ فالمعنى سالت مياهُها بقدر تلك الأوديةِ على نحو ما عرفته آنفاً أو يراد بضميرها مياهُها بطريق الاستخدام ويراد بقدَرها ما ذُكر أولاً من المعنيين ﴿فاحتمل السيل﴾ الجاري في تلك الأودية أي حملَ معه ﴿زَبَدًا﴾ أي غُثاء ورَغوةً وإنما وُصف ذلك بقوله تعالى ﴿رَّابِيًا﴾ أي عالياً منتفخاً فوقه بياناً لما أريد بالاحتمال المحتمَلِ لكون الحميلِ غيرَ طافٍ كالأشجار الثقيلة وإنما لم يُدفع ذلك الاحتمالُ بأن يقال فاحتمل السيلُ فوقه للإيذان بأن تلك الفوقيةَ مقتضى شأنِ الزبدِ لا من جهة المحتمَل تحقيقا للماثلة بينه وبين ما مُثّل به من الباطل الذي شأنُه الظهورُ في بادِيَ الرأي من غير مداخلةٍ في الحق ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار﴾ أي يفعلون الإيقادَ عليه كائناً في النار والضميرُ للناس أُضمر مع عدم سبق الذكرِ لظهوره وقرىء بالخطاب ﴿ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع﴾ أي لطلب اتخاذِ حليةٍ وهي ما يُتزيّن ويُتجمّل به كالحِليِّ المتخَذَة من الذهب والفضة أو اتخاذِ متاعٍ وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخَذةِ من الرصاص والحديد وغيرِ ذلك من الفِلزّات ﴿زَبَدٌ﴾ خبث ﴿مّثْلِهِ﴾ مثلُ ما ذكر من زبد الماء في كونه رابياً فوقه فقوله زبدٌ مبتدأٌ خبرُه الظرفُ المقدَّمُ وَمِنِ ابتدائيةٌ دالةٌ عَلى مجرد كونِه مبتدأ وناشئاً منه لا تبعيضيةٌ معرِبة عن كونه بعضاً منه كما قيل لإخلال ذلك بالتمثيل وفي التعبير عن ذلك بالموصول والتعرضِ لما في حيز الصلةِ من إيقاد النار عليه جرْيٌ على سنن الكِبرياء بإظهار التهاونِ به كما في قوله تعالى فأوقدلي يا هامان عَلَى الطين وإشارةٌ إلى كيفية حصولِ الزبدِ منه بذوبانه وفي زيادة في النار إشعارٌ بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصولِ الزبد كما أشير إليه وعدمُ التعرض لاخراجه من
14
الرعد ١٨ الأرض لعدم دخلِ ذلك العنوانِ في التمثيل كما أن لعنوان إنزالِ الماءِ من السَّماءِ دخلاً فيه حسبما فُصِّل فيما سلف بل له إخلالٌ بذلك ﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلك الضربِ البديعِ المشتملِ على نُكت رائقةٍ ﴿يَضْرِبُ الله الحق والباطل﴾ أي مثَلَ الحق ومثل الباطل والحذفُ للإنباء عن كمال التماثل بين الممثَّل والممثَّل به كأن المثَلَ المضروبَ عينُ الحقِّ والباطلِ وبعد تحقيق التمثيلِ مع الإيماء في تضاعيف ذلك إلى وجوه المماثلة على أبدع وجوهٍ وآنقِها حسبما أشير إليه في مواقعها بيِّن عاقبةُ كل من الممثّلين على وجه التمثيل مع التصريح ببعض ما به المماثلة من الذهاب والبقاءِ تتمةً للغرض من التمثيل من الحث على اتباع الحقِّ الثابتِ والردْعِ عن الباطل الزائد فقيل ﴿فَأَمَّا الزبد﴾ من كلَ منهما ﴿فَيَذْهَبُ جُفَاء﴾ أي مرمياً به وقرىء جُفالاً والمعنى واحد ﴿وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس﴾ منهما كالماء الصافي والفلز الخاص ﴿فَيَمْكُثُ فِى الأرض﴾ أما الماء فيثبت بعضُه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرضِ إلى العيون والقنا والآبار وأما الفلزُّ فيصاغ من بعضه أنواعُ الحِليِّ ويتخذ من بعضه أصنافُ الآلات والأدوات فيُنتفع بكل من ذلك أنواعَ الانتفاعات مدة طويلة فالمراد ابا لمكث في الأرض ما هو أعمُّ من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلّبين فيها وتغييرُ ترتيبِ اللفِّ الواقعِ في الفذْلكة الموافقِ للترتيب الواقع في التمثيلِ لمراعاة الملاءمةِ بين حالتي الذهاب والبقاءِ وبين ذكرَيهما فإن المعتبَر إنما هو بقاءُ الباقي بعد ذهاب الذاهبِ لا قبله ﴿كذلك يَضْرِبُ الله﴾ أي مثلَ ذلكَ الضربِ العجيبِ يضرب ﴿الأمثال﴾ في كل باب إظهاراً لكمال اللطفِ والعنايةِ في الإرشاد والهداية وفيه تفخيمٌ لشأن هذا التمثيلِ وتأكيدٌ لقوله كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل إما باعتبار ابتناءِ هذا على التمثيلِ الأول أو بجعل ذلك إشارةً إليهما جميعاً وبعد ما بُيِّن شأنُ كل من الحق والباطلِ حالاً ومآلاً أُكملَ بيانٍ شَرَع في بيان حالِ أهلِ كل منهما مآلاً تكميلاً للدعوة ترغيباً وترهيباً فقيل
15
﴿لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ﴾ إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوةِ التي من جملتها ضربُ الأمثال فإنه ألطفُ ذريعةٍ إلى تفهيم القلوب الغبيةِ وأقوى وسيلةٍ إلى تسخير النفوسِ الأبية كيف لا وهو تصويرٌ للمعقول بصورة المحسوس وإبراز لا وابد المعاني في هيئة المأنوس فأيُّ دعوةٍ أولى منه بالاستجابة والقَبول ﴿الحسنى﴾ أي المثوبةَ الحُسنى وهي الجنة ﴿والذين لم يستجيبوا له﴾ وعاندوا الحقَّ الجليَّ ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض﴾ من أصناف الأموال ﴿جَمِيعاً﴾ بحيث لم يشِذَّ منه شاذٌّ في أقطارها أو مجموعاً غيرَ متفرقٍ بحسب الأزمان ﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ﴾ أي بما في الأرض ومثلَه معه جميعاً ليتخلّصوا عما بهم وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيطُ به البيانُ فالموصولُ مبتدأٌ والشرطيةُ كما هي خبرُه لكنْ لاَ على أنَّها وضعت موضع السوءى فوقعت في مقابلة الحُسنى الواقعةِ في القرينة الأولى لمراعاة حسنِ المقابلة فصار كأنه قيل والذين لم يستجيبوا له السوءى كما يوهم فإن الشرطيةَ وإن دلت على كما سوءِ حالِهم لكنها بمعزل من القيام مقامَ لفظ السوءى مصحوباً باللام الداخلةِ على الموصول أو ضميره
15
الرعد ١٩ ٢٠ وعليه يدور حصولُ المرام وإنما الواقعُ في تلك المقابلة سوءُ الحساب في قوله تعالى ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب﴾ وحيث كان اسمُ الإشارة الواقعُ مبتدأً في هذه الجملة عبارةً عن الموصول الواقعِ مبتدأً في الجملة السابقة كان خبرُها أعني الجملةَ الظرفية خبراً عن الموصول في الحقيقة ومبيِّناً لإبهام مضمونِ الشرطيةِ الواقعةِ خبراً عنه أولاً ولذلك تُرك العطفُ فصار كأنه قيل والذين لم يستجيبوا له لهم سوءُ الحساب وذلك في قوَّةِ أنْ يقالَ وللذين لم يستجيبوا له سوءُ الحساب مع زيادة تأكيدٍ فتم حسنُ المقابلة على أبلغِ وجهٍ وآكدِه ثم بيِّن مؤدى ذلك فقيل ﴿وَمَأْوَاهُمُ﴾ أي مرجعهم ﴿جَهَنَّمَ﴾ وفيه نوعُ تأكيد لتفسير الحسنى بالجنة ﴿وَبِئْسَ المهاد﴾ أي المستقرُّ والمخصوصُ بالذم محذوفٌ وقيل اللامُ في قولِه تعالَى لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ متعلقةٌ بقوله يَضْرِبُ الله الامثال أي الأمثالَ السالفةَ وقوله الحسنى صفةٌ للمصدر أي استجابوا الاستجابةَ الحسنى وقوله والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ معطوفٌ على الموصول الأولِ وقوله لو أن لهم إلخ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيان ما أُعدّ لغير المستجيبين من العذاب والمعنى كذلك يضرب الله الأمثالَ للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أي هما مثلاً الفريقين وأنت خبير بأن عنوانَ الاستجابة وعدمَها لا مناسبةَ بينه وبين ما يدور عليه أمرُ التمثيل وأن الاستعمالَ المستفيضَ دخولُ اللامِ على من يُقصد تذكيره بالمثَل نعم قد يُستعمل في هذا المعنى أيضاً كَما في قولِه سبحانه ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ آمنوا إمرأة فرعون ونظائرِه على أن بعضَ الأمثالِ المضروبة لا سيما المثلُ الأخيرُ الموصول بالكلام ليس مثلَ الفريقين بل مثلٌ للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروباً لهم أيضاً بأن يُجعل في حكم أن يقال كذلك يضرب الله الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغيرِ المستجيبين فتأمل
16
﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ﴾ من القرآن الذي مُثّل بالماء المنزل من السماء والإبريز الخالصِ في المنفعة والجدوى ﴿الحق﴾ الذي لا حق وراءه أو الحقُّ الذي أشير إليه بالأمثال المضروبة فيستجيبَ له ﴿كَمَنْ هُوَ أعمى﴾ عمَى القلبِ لا يشاهده وهو نارٌ على علَمٍ ولا يقدر قدرَه وهو في أقصى مراتب العلوِّ والعِظَم فيبقى حائراً في ظلمات الجهل وغيا هب الضلال أو لا يتذكر بما ضرب من الأمثال أي كمن لا يعلم ذلك إلا أنه أريد زيادةُ تقبيحِ حالِه فعبر عنه بالأعمى وإيرادُ الفاء بعد الهمزةِ لتوجيه الإنكارِ إلى ترتّبِ توهّم المماثلةِ على ظهور حال كلَ منهما بما ضرب من الأمثال وبين المصيرِ والمآل كأنَّه قيل أبعد ما بُين حالُ كل من الفريقين ومآلُهما يُتوهّم المماثلةُ بينهما ثم استؤنف فقبل ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ﴾ بما ذكر من المذكّرات فيقف على ما بينهما من التفاوت والتنائي ﴿أُوْلُواْ الألباب﴾ أي العقولِ الخالصةِ المبرّأة من مشايعة الإلْفِ ومعارضةِ الوهم
﴿الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله﴾ بما عقَدوا على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته تعالى حين قالوا بلى أو ما عهِد الله عليهم في كتبه ﴿وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق﴾ ما وثّقوه على أنفسهم وقبِلوه من الإيمان بالله وغيرِه من المواثيق بينهم وبين الله وبين
16
الرعد ٢١ ٢٣ العبادِ وَهُوَ تعميمٌ بعدَ تخصيصٍ وفيه تأكيدٌ للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل
17
﴿والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ من الرحِم وموالاةِ المؤمنين والإيمانِ بجميع الأنبياء المجمعين على الحق من غير تفريقٍ بين أحد منهم ويندرج فيه مراعاةُ جميعِ حقوق الناس بل حقوق كل ما يتعلق بهم من الهرّ والدَّجاج ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ خشيةَ جلالٍ وهيبة ورهبة فلا يعصونه فيما أمر به ﴿وَيَخَافُونَ سوء الحِسَابِ﴾ فيحاسبون أنفسَهم قبل أن يحاسَبوا وفيه دَلالةٌ على كمالِ فظاعتِه حسبما ذُكر فيما قبلُ
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُواْ﴾ على كل ما تكرهه النفسُ من الأفعال والتروك ﴿ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ﴾ طلباً لرضاه خاصة من غير أن ينظر إلى جانب الخلقِ رياءً وسُمعةً ولا إلى جانب النفس زينةً وعُجْباً وحيث كان الصبرُ على الوجه المذكور مَلاكُ الأمرِ في كُلُّ ما ذُكِرَ من الصلات السابقة واللاحقةِ أُورد على صيغة الماضي اعتناءً بشأنه ودِلالةً على وجوب تحققِه فإن ذلك مما لا بد منه إما في نفس الصلات كما فيما عدا الأولى والرابعةِ والخامسةِ أو في إظهار أحكامِها كما في الصلات الثلاثِ المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لا مشقةَ على النفس في الاعتراف بالربوبية والخشيةِ والخوف لكن إظهارَ أحكامِها والجريَ على موجبها غيرُ خالٍ عن الاحتياج إليه ﴿وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ﴾ المفروضة ﴿وَأَنْفَقُواْ من ما رَزَقْنَاهُمْ﴾ أي بعضَه الذي يجب عليهم إنفاقُه ﴿سِرّا﴾ لمن لم يُعرفْ بالمال أو لمن لا يتهم بترك الزكاةِ أو عند إنفاقِه وإعطائه مَنْ تمنعه المروءةُ من أخذه ظاهراً ﴿وَعَلاَنِيَةً﴾ لمن لم يكن كما ذكر أو الأول في التطوع والثاني في الفرض ﴿ويدرؤون بالحسنة﴾ أي يُجازون الإساءةَ بالإحسان أو يُتْبعون الحسنةَ السيئة فنمحوها عن أبي عباس رضي الله عنهما يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيء غيرِهم وعن الحسن إذا حُرموا أعطَوا وإذا ظُلموا عفَوا وإذا قُطعوا وصلوا وعن ابن كيسان إذا أذنبوا تابوا وقيل إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره وتقديم المجرور على المنصوب لإظهار كما العنايةِ بالحسنة ﴿أولئك﴾ المنعوتون بالنعوت الجليلةِ والملكات الجميلةِ وهو مبتدأٌ خبُره الجملةُ الظرفية أعني قوله تعالى ﴿لَهُمْ عقبى الدار﴾ أي عاقبةُ الدنيا وما ينبغي أن يكون مآلُ أمرِ أهلها وهي الجنة وقيل الجارُ والمجرورَ خبرٌ لأولئك وعقبى الدار فاعل الاستقرار وأياما كان فليس فيه قصرٌ حتى يرِد أنَّ بعضَ مَا في الصلةِ ليس من العزائم التي يُخلّ إخلالُها بالموصول إلى حسن العاقبة والجملةُ خبر للموصولات المتعاطفة أو استئناف لبيان ما استوجبه بتلك الصفات أن جعلت الموصولات المتعاطفةِ صفاتٌ لأولي الألباب على طريقة المدحِ من غير أن يُقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخلٌ في التذكر
﴿جنات عَدْنٍ﴾ بدلٌ من عُقبى الدار أو مبتدأٌ
17
الرعد ٢٤ ٢٥ خبرُه ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ والعدْنُ الإقامةُ ثم صار علماً لجنة من الجنات أي جناتٌ يقيمون فيها وقيل هو بُطنانُ الجنة ﴿وَمَنْ صَلَحَ من آبائهم﴾ جمعُ أبَوَيْ كل واحد منهم فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم ﴿وأزواجهم﴾ وذرياتهم وهو عطفٌ على المرفوع في يدخلون وإنما ساغ ذلك للفصل بالضمير الآخر أو مفعولٌ معه والمعنى إنه يُلحق بهم مَنْ صلح من أهلهم وإن لم يبلُغْ مبلغَ فضلِهم تبعاً لهم تعظيماً لشأنهم وهو دليلٌ على أن الدرجةَ تعلو بالشفاعة وأن الموصوفَ بتلك الصفات يُقرن بعضُهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنةِ زيادةً في أُنسهم وفي التقييد بالصلاح قطعٌ للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب ﴿والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ﴾ من أبوابِ المنازل أو من أبواب الفتوحِ والتحف قائلين
18
﴿سلام عَلَيْكُم﴾ بشارةٌ لهم بدوام السلامة ﴿بِمَا صَبَرْتُمْ﴾ متعلق بعليكم أو بمحذوف أي هذه الكرامةُ العظمى بما صبرتم أي بسبب صبركم أو بدلُ ما احتملتم من مشاقّ الصبرِ ومتاعبِه والمعنى لئن تعِبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعةَ وتخصيصُ الصبر بما ذكر من بين الصلاتِ السابقةِ لما قدّمناه من أن له دخلاً في كل منها ومزيةً زائدةً من حيث إنه مَلاكُ الأمرِ في كل منها وأن شيئاً منها لا يعتد به إلا بأن يكون لابتغاء وجهِ الربّ تعالى وتقدس ﴿فَنِعْمَ عقبى الدار﴾ أي فنعم عقبي الدارِ الجنةُ وقرىء بفتح النون والأصل نَعَم فسُكّن العين بنقل حركتها إلى النون تارة وبدونه أخرى وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه كان يأتي قبورَ الشهداء على رأس كلّ حولٍ فيقول سلامٌ عليكم بما صبرتُم فنَعِمَ عُقبى الدَّارِ وكذا عن الخلفاء الأربعةِ رضوانُ الله عليهم أجمعين
﴿والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله﴾ أريد بهم مَنْ يقابل الأولين ويعاندهم في الاتصاف بنقائض صفاتِهم ﴿مِن بَعْدِ ميثاقه﴾ من بعد ما أوثقوه من الاعتراف والقَبول ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ من الأيمان بجميع الأنبياءِ المجمعين على الحق حيث يؤمنون ببعضهم ويكفرون ببعضهم ومن حقوق الأرحام وموالاةِ المؤمنين وغير ذلك مما لا يراعون حقوقَه من الأمور المعدودةِ فيما سلف وإنما لم يتعرّض لنفي الخشيةِ والخوفِ عنهم صريحاً لِدلالة النقضِ والقطع على ذلك وأما عدمُ التعرض لنفي الصبرِ المذكور فلأنه إنما اعتبر تحققُه في ضمن الحسناتِ المعدودةِ ليقَعْنَ معتدًّا بهن فلا وجه لنفيه عمّن بينه وبين الحسناتِ بعدُ المشرِقين كما لا وجه لنفي الصلاةِ والزكاة ممن لا يحوم حول أصلِ الإيمان بالله تعالى فضلاً عن فروع الشرائعِ وإن أريد بالإنفاق التطوعُ فنفيُه مندرجٌ تحت قطعِ ما أمر الله تعالى بوصله وأما درءُ السيئة بالحسنة فانتفاؤه عنهم ظاهرٌ مما سبق ولحِق فإن من يجازى إحسانه عز وجل بنقض العهد ومخالفةِ الأمر ويباشر الفساد بدأ حسبما يَحكيه قوله تعالى عز وعلا ﴿وَيُفْسِدُونَ فِى الأرض﴾ أي بالظلم وتهيج الفتنِ كيف يتصور منه مجازاةُ الإساءة بالإحسان على أن يُشعر بأن له دخلاً في الإفضاء إلى
18
الرعد ٢٦ ٢٧ العقوبة التي ينبىء عنها قولُه تعالى ﴿أولئك﴾ الخ أي أولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح ﴿لَهُمْ﴾ بسبب ذلك ﴿اللعنة﴾ أي الإبعادُ من رحمة الله تعالى ﴿وَلَهُمْ﴾ مع ذلك ﴿سُوء الدار﴾ أي سوءُ عاقبة الدنيا أو عذابُ جهنم فإنها دارُهم لأن ترتيبَ الحكمِ على الموصول مُشعرٌ بعلّية الصلةِ له ولا يخفى أنه لا دخلَ له في ذلك على أكثر التفاسير فإن مجازاةَ السيئةِ بمثلها مأذونٌ فيها ودفع الكلام السيء بالحسن وكذا الإعطاءُ عند المنع والعفو عند الظلم والوصلُ عند القطع ليس مما يورِثُ ترْكُه تِبعةً وأما ما اعتبر اندراجُه تحت الصلةِ الثانيةِ من الإخلال ببعض الحقوقِ المندوبة فلا ضير في ذلك لأن اعتبارُه من حيث إنه من مستتبعات الإخلال بالعزائم بالكفر ببعض الأنبياءِ وعقوقِ الوالدين وتركِ سائر الحقوق الواجبةِ وتكريرُ لهم للتأكيد والإيذانِ باختلافهما واستقلالِ كل منهما في الثبوت
19
﴿الله يَبْسُطُ الرزق﴾ أي يوسّعه ﴿لِمَن يَشَاء﴾ مِنْ عِبَادِهِ ﴿وَيَقْدِرُ﴾ أي يضيّقه على من يشاء حسبما تقتضيه الحكمة من غير أن يكون لأحد مدخلٌ في ذلك ولا شعورٌ بحكمته فربما يبسُطه للكافر إملاءً واستدراجاً وربما يضّيقه على المؤمن زيادةً لأجره فلا يُغترَّ ببسط الكافر كما لا يَقنط بقدره المؤمنُ ﴿وَفَرِحُواْ﴾ أي أهلُ مكة فرَحَ أشَرٍ وبطر لا فرحَ سرورٍ بفضل الله تعالى ﴿بالحياة الدنيا﴾ وما بُسط لهم فيها من نعيمها ﴿وَمَا الحياة الدنيا﴾ وما يتبعها من النعيم ﴿فِى الاخرة﴾ أي في جنب نعيمِ الآخرة ﴿إِلاَّ متاع﴾ إلا شيءٌ نزْرٌ يُتمتع به كعُجالة الراكب وزادِ الراعي والمعنى أنهم رضُوا بحظ الدنيا معرِضين عن نعيم الآخرةِ والحالُ أن ما أشِروا به في جنب ما أعرضوا عنه شيءٌ قليل النفع سريعُ النفاد
﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ﴾ أي أهلُ مكة وإيثارُ هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتِهم عقيبَ ذكرِ فرحِهم بالحياة الدنيا لذمهم والتسجيلِ عليهم بالكفر فيما حُكيَ عنهم من قولهم ﴿لولا أنزل عليه آية مّن رَّبّهِ﴾ فإن ذلك في أقصى مراتبِ المكابرةِ والعِناد كأن ما أنزل عليه السَّلام من الآياتِ العظامِ الباهرةِ ليس بآية حتى اقترحوا مالا تقتضيه الحِكمةُ من الآيات المحسوسةِ التي لا يبقى لأحد بعد ذلك طاقةٌ بعدم القَبول ولذلك أُمر في الجواب بقوله تعالى ﴿قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يشاء﴾ إضلالة مشيئتَه تابعةٌ للحكمة الداعيةِ إليها أي يخلُق فيه الضلال لصرفه اختيارَه إلى تحصيله ويدعُه منهمكاً فيه لعلمه بأنه لا ينجَع فيه اللطفُ ولا ينفعه الإرشاد كمن كان على صفتكم في المكابرة والعِناد وشدةِ الشكيمةِ والغلوِّ في الفساد فلا سبيل له إلى الاهتداء ولو جاءتْه كلُّ آية ﴿وَيَهْدِى إِلَيْهِ﴾ أي إلى جنابه العليِّ الكبير هدايةً موصِلةً إليه لا دَلالةً مطلقة على ما يوصِل إليه فإن ذلك غيرُ مختصٍ بالمهتدين وفيه من تشريفهم مالا يوصف ﴿مَنْ أَنَابَ﴾ أقبل
19
الرعد ٢٨ ٣٠ إلى الحق وتأملَ في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحةِ وحقيقةُ الإنابة لدخول في نوبة الخير وإيثارُ إيرادِها في الصلة على إيراد المشيئةِ كما في الصلة الأولى للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعارِ بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة وفيه حث للكفرة على الإقلاع عماهم عليهِ من العُتوِّ والعِنادِ وإيثارُ صيغةِ الماضي للإيماء إلى استدعاء الهدايةِ لسابقة الإنابة كما أن إيثارَ صيغةِ المضارعِ في الصلةِ الأولى للدلالة على استمرار المشيئةِ حسب استمرار مكابرتهم
20
﴿الذين آمنوا﴾ بدل ممن أناب فإن أريد بالهداية الهدايةُ المستمرةُ فالأمر ظاهر لظهور كونِ الإيمانِ مؤدياً إليها وإن أريد إحداثُها فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرُهم إلى الإيمان كما في قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ أي الصائرين إلى التقوى وإلا فالإيمانُ لا يؤدّي إلى الهداية نفسها أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هم الذين آمنوا أو منصوبٌ على المدحِ ﴿وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ﴾ أي تستقر وتسكُن ﴿بِذِكْرِ الله﴾ بكلامه المعجزِ الذي لا ريب فيه كقوله تعالى وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أنزلناه وقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون ويعلمون أن لا أعظمُ منه فيقترحوها والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لإفادة دوامِ الاطمئنان وتجدّده حسبَ تجدّدِ الآيات وتعددها ﴿أَلاَ بِذِكْرِ الله﴾ وحده ﴿تَطْمَئِنُّ القلوب﴾ دون غيرِه من الأمور التي تميل إليها النفوس من الدنياويات وهذا ظاهر وأما سائرُ المعجزات فالقصرُ من حيث إنها ليست في إفادة الطُّمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدْها بمثابة القرآنِ المجيدِ فإنه معجزةٌ باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كلُّ أحد وتطمئن به القلوبُ كافة وفيه إشعارٌ بأن الكفرةَ ليست لهم قلوب وأفئدتُهم هواءٌ حيث لم يطمئنوا بذكر الله تعالى ولم يعدّوه آيةً وهو أظهرُ الآياتِ وأبهرُها وقيل تطمئن قلوبُهم بذكر رحمتِه ومغفرتِه بعد القلق والاضطرابِ من خشيته كقوله تعالى ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله أو بذكر دلائلِه الدالةِ على وحدانيته أو بذكره جل وعلا نسا به وتبتلاً إليه فالمرادُ بالهداية دوامُها واستمرارُها
﴿الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ بدلٌ من القلوب على حذف المضافِ بدلَ الكلِّ حسبما رُمز إليه أي قلوبُ الذين آمنوا وفيه إيماءٌ إلى أن الإنسان إنما هو القلبُ أو مبتدأٌ خبرُه الجملة الدعائيةُ على التأويل أعني قوله ﴿طوبى لَهُمْ﴾ أوْ خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ أو نُصب على المدحِ فطوبى لهم حالٌ عاملُها الفعلان وطوبى مصدرٌ من طاب كبُشرى وزُلفى والواوُ منقلبةٌ من الياء كموقن وموسر وقرأ مكوزة الأعرابي طيبى لتسلم الياء والمعنى أصابوا خيراً ومحلُّها النصبُ كسلاماً لك أو الرفعُ على الابتداء وإنْ كانتْ نكرةً لكونِها في معنى الدعاء كسلامٌ عليك يدل على ذلك القراءة في قوله تعالى ﴿وحسن مآب﴾ بالنصب والرفع واللامُ في لهم للبيان مثلها في سقيا لك
﴿كذلك﴾
20
الرعد ٣١ مثلَ ذلك الإرسالِ العظيمِ الشأن المصحوبِ بهذه المعجزة الباهرة ﴿أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ﴾ أي مضت ﴿مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ﴾ كثيرة قد أُرسل إليهم رسل ﴿لّتَتْلُوَ﴾ لتقرأ ﴿عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ مِنَ الكتاب العظيمِ الشأنِ وتهديَهم إلى الحق رحمةً لهم وتقديمُ المجرور على المنصوب من قبيل الإبهام ثم البيان كما في قوله تعالى وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ وفيه مالا يخفى من ترقب النفس إلى ما سيرِدُ وحسنِ قبولها له عند ورودِه عليها ﴿وَهُمْ﴾ أي والحال أنهم ﴿يَكْفُرُونَ بالرحمن﴾ بالبليغ الرحمةِ الذي وسعت كلَّ شيء رحمتُه وأحاطت به نعمتُه والعدول إلى المُظهر المتعرِّض لوصف الرحمةِ من حيث أن الإرسالَ ناشىءٌ منها كما قال تعالى وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين فلم يقدِروا قدرَه ولم يشكروا نِعمَه لا سيما ما أنعم به عليهم بإرسال مثلِك إليهم وإنزال القرآنَ الذي هو مدارُ المنافع الدينية والدنياوية عليهم وقيل نزلت في مشركي مكةَ حين أُمروا بالسجود فقالوا وما الرحمن ﴿قُلْ هُوَ﴾ أي الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته ﴿رَبّى﴾ الربُّ في الأصل بمعنى التربية وهي تبليغُ الشيءِ إلى كماله شيئاً فشيئاً ثم وُصف به مبالغةً كالصوم والعدْل وقيل هو نعت أي خالقي ومبلّغي إلى مراتب الكمالِ وإيرادُه قبل قوله ﴿لاَّ إله إِلاَّ هو﴾ أي لا مستحقَّ للعبادة سواه تنبيهٌ على أن استحقاق العبادة منوطٌ بالربوبية وقيل إن أبا جهل سمع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقول يا ألله يا رحمن فرجع إلى المشركين فقال إن محمداً يدعو إلهين فنزلت ونزل قوله تعالى قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن الآية ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ في جميع أموري لا سيما في النصرة عليكم لا على أحد سواه ﴿وَإِلَيْهِ﴾ خاصة ﴿مَتَابِ﴾ أي توبتي كقوله تعالى واستغفر لِذَنبِكَ أُمر عليه السلام بذلك إبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى وأنها صفةُ الأنبياء وبعثاً للكفرة على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجهٍ وألطفه فإنه عليه السلام حيث أُمر بها وهو منزَّه عن شائبةِ اقترافِ ما يوجبها من الذنب وإن قل فتوبتهم وهو عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي مما لا بد منه أصلاً وقد فُسّر المتابُ بمطلق الرجوعِ فقيل مرجعي ومرجعُكم وزِيد فيحكُم بيني وبينكم وقد قيل فيثيبُني على مصابرتكم فتأمل
21
﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا﴾ أي قرآناً ما وهو اسمُ أن والخبر قوله تعالى ﴿سُيّرَتْ بِهِ الجبال﴾ وجوابُ لو محذوفٌ لانسياق الكلام إليه بحيث يتلقّفه السامعُ من التالي والمقصودُ إما بيانُ عِظم شأنِ القرآنِ العظيم وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدرَه العليَّ ولم يعدّوه من قبيل الآيات فاقترحوا غيره مما أوتي مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ وإما بيانُ غلوهم في المكابرة والعِنادِ وتماديهم في الضلال والفساد فالمعنى على الأول لو أن قرانا سيرت به الجبالُ أي بإنزاله أو بتلاوته عليها وزُعزعت عن مقارّها كما فُعل ذلك بالطور لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿أو قطعت به الارض﴾ أي شُقّقت وجُعلت أنهاراً وعيوناً كما فُعل بالحجر حين ضربه عليه السلام بعصاه أو جعلت قطعاً متصدّعة ﴿أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى﴾ أي بعد أن
21
أحييَ بقراءته عليها كما أحييتْ لعيسى عليه السلام لكان ذلك هذا القرآنَ لكونه الغايةَ القصوى في الانطواء على عجائبِ آثارِ قُدرةِ الله تعالى وهيبته عزَّ وجلَّ كقوله تعالَى لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله لا في الإعجاز إذ لا مدخلَ له في هذه الآثار ولا في التذكير والإنذار والتخويفِ لاختصاصها بالعقلاء مع أنه لا علاقةَ لها بتكليم الموتى واعتبارُ فيض العقول إليها مُخلٌّ بالمبالغة المقصودة وتقديمُ المجرور في المواضع الثلاثة على المرفوع لما مر غيرَ مرة من قصد الإبهامِ ثم التفسيرِ لزيادة التقريرِ لأن بتقديم ما حقُّه التأخيرُ تبقى النفسُ مستشرفةً ومترقّبةً إلى المؤخر أنه ماذا فيتمكن عند ورودِه عليها فضلُ تمكن وكلمةُ أو في الموضعين لمنع الخلوّ لا لمنع الجمع واقتراحُهم وإن كان متعلقاً بمجرد ظهورِ مثل هذه الأفاعيلِ العجيبة على يده عليه السلام لا بظهورها بواسطة القرآنِ لكن ذلك حيث كان مبنياً على عدم اشتمالِه في زعمهم على الخوارق نيط ظهورُها به مبالغةً في بيان اشتمالِه عليها وأنه حقيقٌ بأن يكون مصدراً لكل خارقٍ وإبانةً لركاكة رأيهم في شأنه الرفيعِ كأنه قيل لو أن ظهورَ أمثالِ ما اقترحوه من مقتَضيات الحِكمة لكان مظهرُها هذا القرآنَ الذي لم يعدّوه آية وفيه من تفخيم شأنه العزيزِ ووصفهم بركاكة العقل مالا يخفى (بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا) أي له الأمرُ الذي عليه يدورُ فلَكُ الأكوان وجوداً وعدماً يفعل ما يشاء وبحكم ما يريد لما يدعو إليه من الحِكَم البالغةِ وهو إضراب عما تضمنه الشرطيةُ من معنى النفي لا بحسب منطوقِه بل باعتبار موجِبه ومؤدّاه أي لو أن قرآناً فُعل به ما ذكر لكان ذلك هذا القرآنَ ولكن لم يُفعل بل فُعل ما عليه الشأنُ الآن لأن الأمرَ كلَّه له وحده فالإضرابُ ليس بمتوجِّهٍ إلى كون الأمرِ لله سبحانه بل إلى ما يؤدِّي إليه ذلك من كون الشأنِ على ما كان لما تقتضيه الحِكمة من بناء التكليف على الاختبار ﴿أَفَلمْ يَيأس الَّذِينَ آمنواْ﴾ أي أفلم يعلموا على لغة هوازنَ أو قومٍ من النَّخْع أو على استعمال اليأس في معنى العِلم لتضمّنه له ويؤيده قراءة عليَ وابنِ عباس وجماعةٍ من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أفلم يتبين بطريق التفسير والفاءُ للعطف على مقدر أي أغفَلوا عن كون الأمر جميعا لله تعالى فلم يعلموا ﴿أَن لَّوْ يَشَاء الله﴾ على حذف ضميرِ الشأنِ وتخفيفِ أن ﴿لَهَدَى الناس جَمِيعًا﴾ بإظهار أمثالِ تلك الآثارِ العظيمةِ فالإنكارُ متوجهٌ إلى المعطوفين جميعاً أو أعلموا كون الأمر جميعا لله فلم يعلموا ما يوجبه ذلك العلمُ مما ذكر فهو متوجِّهٌ إلى ترتب المعطوفِ على المعطوف عليه أي تخلف العلم الثاني عن العلم الأول وعلى التقديرين فالإنكارُ إنكارُ الوقوعِ كما في قوله تعالى أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حسنا إنكار الواقعِ كما في قولك ألم تخفِ الله حتى عصيتَه ثم إن مناطَ الإنكارِ ليس عدمَ علمهم بمضمون الشرطية فقط بل مع عدم علمِهم بعدم تحققِ مقدَّمها كأنَّه قيل ألم يعلمُوا أن الله تعالى لو شاء هدايتَهم لهداهم وأنه لم يشأْها وذلك لأنهم كانوا يودون أن يظهر ما اقترحوا من الآيات ليجتمعوا على الإيمان وعلى الثاني لو أن قرآناً فُعل به ما فُصِّل من التعاجيب لما آمنوا به كقوله تعالى ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى الآية فالإضرابُ حينئذٍ متوجّهٌ إلى ما سلف من اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شُرح أي فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعاً إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه داعيةُ الحكمةِ من غير أن يكون لأحد عليه تحكّم أو اقتراحٌ واليأسُ بمعنى القنوط أي ألم يعلم الذين آمنوا حالَهم هذه فلم يقنَطوا من إيمانهم حتى أحبّوا ظهورَ مقترحاتِهم فالإنكارُ متوجه
22
الرعد ٣٢ إلى المعطوفين أو وأعلموا ذلك فلم يقنَطوا من إيمانهم فهو متوجهٌ إلى وقوع المعطوفِ بعد المعطوفِ عليه أي إلى تخلف القنوط عن العلم المذكور والإنكارُ على التقديرين إنكارُ الواقعِ كما في قوله تعالى ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ ونظائرِه لا إنكارُ الوقوع فإن عدم قنوطِهم منه مما لا مردَّ لهُ وقوله تعالى أَن لَّوْ يَشَاء الله الخ متعلق بمحدوف أي أفلم ييأسوا من إيمانهم علماً منهم أو عالمين بأنه لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وأنه لم يشأ ذلك أو بآمنوا أي أفلم يقنط الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا على معنى أفلم ييأس من إيمانهم المؤمنون بمضمون الشرطية وبعدم تحققِ مقدّمها المنفهم من مكابرتهم حسبما تحكيه كلمةُ لو فالوصفُ المذكورُ من دواعي إنكارِ يأسِهم وقيل إن أبا جهل وأضرابه قالوا لرسول الله ﷺ إن كنت نبياً سيّر بقرآنك الجبالَ عن مكة حتى تتسعَ لنا ونتخذ فيها لبساتين والقطائع وقد سُخِّرت لداود عليه السلام فلست بأهونَ على الله منه إنْ كنتَ نبياً كما زعمت أو سخّر لنا به الريحَ كما سُخّرت لسليمان عليه السلام لنتّجر عليها إلى الشام فقد شق علينا قطعُ الشُقةِ البعيدة أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا فنزلت فمعنى تقطيعِ الأرض حينئذ قطعُها بالسير ولا حاجة حينئذ إلى الاعتذار في إسناد الأفاعيلِ المذكورة إلى القرآن كما احتيج إليه في الوجهين الأولين وعن القراء أنه متعلقٌ بمَا قبلَه منْ قولِه وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن وما بينهما اعتراضٌ وهو بالحقيقة دالٌّ على الجواب والتقدير ولو أن قرانا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن والتذكير في كلم به الموتى لتغليب المذكر من الموتى على غيره ﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ﴾ مِنْ أَهْلِ مكةَ ﴿تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ﴾ أي بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه وعدمُ بيانه إما للقصد إلى تهوليه أو استهجانه وهو تصريحٌ بما أَشعَرَ به بناء الحكم على الموصول من علّية الصلةِ له مع ما في صيغة الصنعِ من الإيذان برسوخهم في ذلك ﴿قَارِعَةٌ﴾ داهيةٌ تقرعهم وتقلقهم وهو ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائبِ من القتل والأسر والنهب والسلبِ وتقديم المجرورِ على الفاعلِ لما مرَّ مرارا من إرادة التفسير إثرَ الإبهام لزيادة التقرير والإحكامِ مع ما فيه من بيانِ أن مدارَ الإصابة من جهتهم آثرَ ذي أثير ﴿أَوْ تَحُلُّ﴾ تلك القارعةُ ﴿قَرِيبًا﴾ أي مكاناً قريباً ﴿مّن دَارِهِمْ﴾ فيفزَعون منها أو يتطاير إليهم شَرارُها شبِّهت القارعةُ بالعدو المتوجّه إليهم فأُسند إليها الإصابةُ تارة والحلولُ أخرى ففيه استعارةٌ بالكناية وتخييلٌ وترشيحٌ ﴿حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله﴾ أي موتُهم أو القيامةُ فإن كلاًّ منهما وعد محتوم ولا مرد له وفيه دِلالةٌ على أن ما يصيبهم عند ذلك من العذاب في غاية الشدةِ وأن ما ذكر سابقةُ نفحةٍ يسيرة بالنسبة إليه ثم حُقق ذلك بقولِهِ تعالَى ﴿أَنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد﴾ أي الوعدَ كالميلاد والميثاق بمعنى الولادةِ والتوثِقةِ لاستحالة ذلك على الله سبحانه وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله تعالى عنهُما أرادَ بالقارعة السرايا التي كان رسول الله ﷺ يبعثها وكانوا بين إغارةٍ واختطاف وتخويفٍ بالهجوم عليهم في ديارهم فالإصابة والحلولُ حينئذ من أحوالهم ويجوز على هذا أنْ يكونَ قولُه تعالى أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ خطاباً للرسول ﷺ مراداً به حلولُه الحديبيةَ والمرادُ بوعد الله ما وعد به من فتح مكة
23
﴿ولقد استهزئ برسل﴾ كثيرة حلت ﴿مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أي تركتهم ملاوةً من الزمان في أمن
23
الرعد ٣٣ ودعة كما يملي للبهيمة في المرعى وهذا تسليةٌ لرسول الله ﷺ عما لقيَ من المشركين من التكذيب والاقتراحِ على طريقة الاستهزاءِ به ووعيدٌ لهم والمعنى أن ذلك ليس مختصاً بك بل هو أمرٌ مطردٌ قد فُعل ذلك برسل كثيرة كائنةٍ من قبلك فأمهلت الذين فعلوه بهم والعدولُ في الصلة إلى وصف الكفر ليس لأن المملى لهم غيرُ المستهزئين بل لإرادة الجمعِ بين الوصفين أي فأمليت للذين كفروا مع استهزائهم فقط ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ أي عقابي إياهم وفيه من الدلالة على تناهي كيفيته في الشدة والفظاعة ما يخفى
24
﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ﴾ أي رقيبٌ مهيمنٌ ﴿على كُلّ نَفْسٍ﴾ كائنة من كانت ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ منْ خَيرٍ أو شر لا يخفى عليه شيءٌ من ذلك بل يجازي كلاًّ بعمله وهو الله تعالى والخبرُ محذوفٌ أي كمن ليس كذلك إنكاراً لذلك وإدخالُ الفاء لتوجيه الإنكارِ إلى توهم المماثلة غبَّ ما عُلم مما فعل تعالى بالمستهزئين من الإملاء المديدِ والأخذ الشديد ومن كون الأمرِ كله لله تعالى وكونِ هداية الناس جميعاً منوطةً بمشيئته تعالى ومن تواتر القوارعِ على الكفرة إلى أن يأتيَ وعدُ الله كأنَّه قيل الأمرُ كذلك فمن هذا شأنُه كما ليس في عداد الأشياء حتى تُشركوه به فالإنكار متوجهٌ إلى ترتب المعطوفِ أعني توهّمَ المماثلة على المعطوف عليه المقدر أعني كونَ الأمر كما ذُكر كما في قولك أتعلم الحقَّ فلا تعملُ به لا إلى المعطوفَين جميعاً كما إذا قلت ألا تعلمه فلا تعملُ به وقوله تعالى ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء﴾ جملةٌ مستقلة جيءَ بها للدِّلالةِ على الخبر أو حيالة أي أفمن هذه صفاتُه كما ليس كذلك وقد جعلوا له شركاءَ لا شريكاً واحداً أو معطوفةٌ على الخبر إن قدّر ما يصلح لذلك أي أفمن هذا شأنُه لم يوحّدوه وجعلوا له شركاءَ ووضع المظهر للتنصيص على وحدانيته ذاتاً واسماً وللتنبيه على اختصاصه باستحقاق العبادةِ مع ما فيه من البيان بعد الإبهام بإيراده موصولاً للدلالة على التفخيم وقوله تعالى ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ تبكيتٌ لهم إثرَ تبكيتٍ أي سمُّوهم من هم وماذا أسماؤهم أو صِفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشِرْكة ﴿أَمْ تُنَبّئُونَهُ﴾ أي بل أَتُنَبّئُونَ الله ﴿بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأرض﴾ أي بشركاءَ مستحقين للعبادة لا يعلمهم الله تعالى ولا يعزُب عنه مثقالُ ذَرَّةٍ في السموات والأرض وقرىء بالتخفيف ﴿أَم بظاهر مّنَ القول﴾ أي بل أتسمونهم بشركاء بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى وحقيقةٌ كتسمية الزنجيّ كافوراً كقوله تعالى ذلك قَوْلُهُم بأفواههم وهاتيك الأساليبُ البديعة التي ورد عليها الآيةُ الكريمةُ مناديةٌ على أنها خارجةٌ عن قدرة البشر من كلام خلاقِ القُوى والقدَر فتبارك الله رب العالمين ﴿بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ وضْعُ الموصولِ موضِعَ المضمرِ ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالكفر ﴿مَكْرِهِمْ﴾ تمويهُهم الأباطيلَ أو كيدهم للإسلام بشركهم ﴿وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي سبيلِ الحق من صدّه صداً وقُرِىءَ بكسرِ الصَّادِ على نقل حركة الدالِ إليها وقرىء بفتحها أي صدوا الناس أو
24
الرعد ٣٥ ٣٦ من صد صدوداً ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله﴾ أي يخلق فيه الضلالَ بسوء اختيارِه أو يخذلْه ﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ وفقه للهدى
25
﴿لهم عذاب﴾ شاق ﴿في الحياة الدنيا﴾ بالقتل والأسر وسائرِ ما يصيبهم من المصائب فإنها إنما تصيبهم عقوبةً على كفرهم (وَلَعَذَابُ الاخرة أَشَقُّ) من ذلك بالشدة والمدة (وَمَا لَهُم مِنَ الله) مِن عذابه المذكور (مِن وَاقٍ) من حافظ يعصِمهم من ذلك فمِن الأولى صلةٌ للوقاية والثانية مزيدةٌ للتأكيد
(مَّثَلُ الجنة) أي صفتُها العجيبة الشأنِ التي في الغرابة كالمثل (التى وُعِدَ المتقون) عن الكفر والمعاصي وهو مبتدأ خبرُه محذوفٌ عند سيبويهِ أي فيما قصصنا عليك مثلُ الجنة وقوله تعالى (تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار) تفسير لذلك المثَل على أنه حالٌ من الضمير المحذوف من الصلة العائدِ إلى الجنة أي وعدها وهو الخبرُ عند غيره كقولك شأنَ زيد يأتيه الناسُ ويعظمونه أو على حذف موصوفٍ أي مثلُ الجنة جنةٌ تجري الخ (أُكُلُهَا) ثمرُها (دَائِمٌ) لا ينقطع (وِظِلُّهَا) أيضاً كذلك لا تنسخه الشمسُ كما تنسخ ظلالَ الدنيا (تِلْكَ) الجنة المنعوتةُ بما ذكر (عقبى الذين اتقوا) الكفرَ والمعاصيَ أي مآلهم ومنتهى أمرِهم (وَّعُقْبَى الكافرين النار) لا غيرُ وفيه مالا يخفى من إطماع المتقين وإقناط الكافرين
(والذين آتيناهم الكتاب) هم المسلمون من أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وكعبٍ وأضرابِهما ومَنْ آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً أربعون بنجرانَ وثمانيةٌ باليمن واثنانَ وثلاثون بالحبشة (يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) إذ هو الكتابُ الموعودُ في التوراة والإنجيل (وَمِنَ الاحزاب) أي من أحزابهم وهم كفرتُهم الذين تحزّبوا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف والسيد العاقب أسقُفيْ نجرانَ وأتباعِهما (مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ) وهو الشرائعُ الحادثة إنشاءً أو نسخاً لا ما يوافق ما حرفوه وإلا لنُعيَ عليهم من أول الأمر أن مدارَ ذلك إنما هو جناياتُ أيديهم وأما ما يوافق كتبهم فلم ينكروه وإن لم يفرحوا به وقيل يجوز أن يراد بالموصول الأول عامتُهم فإنهم أيضاً يفرحون به لكونه مصداقاً لكتبهم في الجملة فحينئذ يكون قوله تعالى وَمِنَ الأحزاب الخ تتمةً بمنزلة أن يقال ومنهم من ينكر بعضه (قُلْ) إلزاماً لهم ورداً لإنكارهم (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أي شَيْئاً من الأشياءِ أو لا أفعل الإشراكَ به والمراد قصرُ الأمر بالعبادة على الله تعالى لا قصرُ الأمرِ مطلقاً على عبادته تعالى خاصة أي قل إنما أمرتُ فيما أُنزل إلي بعبادة الله وتوحيده وظاهرٌ أن لا سبيلَ
25
الرعد ٣٧ ٣٨ لكم إلى إنكاره لإطباق جميعِ الأنبياءِ والكتبِ على ذلك كقوله تعالى قُلْ يا أَهْلِ الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً فما لكم تشركون به عزير أو المسيح وقرىء ولا أشركُ به بالرفع على الاستئناف أي وأنا لا أشرك به (إِلَيْهِ) إلى الله تعالى خاصة على النهج المذكورِ من التوحيد أو إلى ما أُمرت بهِ من التوحيد (أَدْعُو) الناسَ لا إلى غيره أولا إلى شيء آخرَ مما لم يُطبق عليه الكتبُ الإلهية والأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فما وجهُ إنكارِكم (وَإِلَيْهِ) إلى الله تعالى وحده (مآب) مرجعي للجزاء وحيث كانت هذه الحجةُ الباهرة لازمةً لهم لا يجدون عنها محيصا أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ بأن يخاطبَهم بذلك إلزاماً وتبكيتاً لهم ثم شرُع في رد إنكارِهم لفروع الشرائع الواردةِ ابتداءً أو بدلاً من الشرائع المنسوخةِ ببيان الحكمةِ في ذلك فقيل
26
(وكذلك أنزلناه) أي ما أنزل إليك وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ أنزلناه أو أنزل إليك ومحلُه النصبُ على المصدرية أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديعِ المنتظم لأصول مجمَعٍ عليها وفروعٍ متشعبة إلى موافِقة ومخالِفة حسبما تقتضيه قضيةُ الحكمةِ والمصلحة أنزلناه (حُكْمًا) حاكماً يحكم في القضايا والواقعات بالحق أو يُحكم به كذلك والتعرضُ لذلك العنوان مع أن بعضَه ليس بحكم لتربية وجوبِ مراعاتِه وتحتم المحافظةِ عليه (عَرَبِيّاً) مترجماً بلسان العربِ والتعرضُ لذلك للإشارةِ إلى أنَّ ذلكَ إحدى موادِّ المخالفة للكتب السابقةِ مع أن ذلك مقتضى الحكمةِ إذ بذلك يسهُل فهمه وإدراكُ إعجازه والاقتصارُ على اشتمال الإنزالِ على أصول الديانات المجمعِ عليها حسبما يفيده قولَه تعالى قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله الخ يأباه التعرّض لاتباع أهوائهم وحديث المحور والإثبات وأنْ لكل أجلٍ كتابٌ فإن المجمعَ عليه لا يتصور فيه الاستتباعُ والإتباع (ولئن تبعت أَهْوَاءهُم) التي يدعونك إليها من تقرير الأمور المخالفةِ لما أُنزلَ إليك من الحق كالصلاة إلى بيت المقدس بعد التحويل (بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم) العظيمِ الشأن الفائضِ من ذلك الحُكم العربيِّ أو العلم بمضمونه (مالك مِنَ الله) من جنابه العزيز والالتفاتُ منَ التكلمِ إلى الغَيبة وإيرادُ الإسم الجليلِ لتربية المهابة قال الأزهري لا يكون إلها حتى يكون معبوداً وحتى يكون خالقاً ورازقاً ومدبراً (مِن وَلِىّ) يلي أمرَك وينصرك على من يبغيك الغوائلَ (وَلاَ وَاقٍ) يقيك من مصارع السوءِ وحيث لم يستلزم نفيُ الناصرِ على العدو نفيَ الواقي من نكايته أُدخل على المعطوف حرفُ النفي للتأكيد كقولك مالي دينارٌ ولا درهم أو مالك مِن بَأْسِ الله من ناصر وواقٍ لاتباعك أهواءَهم وأمثالُ هاتيك القوارعِ إنما هي لقطع أطماعِ الكفرة وتهييجِ المؤمنين على الثبات في الدين واللامُ في لئن موطِّئةٌ ومالك سادٌّ مسدَّ جوابي الشرط والقسم
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً) كثيرةً كائنة (مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لهم أزواجا وذريته)
26
الرعد ٣٩ ٤١ نساء وأولاداً كما جعلناها لك وهو رد لما كانوا يعيبونه ﷺ بالزواج والولاد كما كانوا يقولون ما لهذا الرسولِ يأكل الطعام الخ (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ) منهم أي ما صح وما استقام ولم يكن في وسعه (أن يأتي آية) مما اقتُرح عليه وحكمٍ مما التُمس منه (إِلاَّ بإذن الله) ومشيئته المنية على الحِكم والمصالحِ التي عليَها يدورُ أمرُ الكائنات لا سيما مثلُ هذه الأمورِ العظام والالتفاتُ لما قدمناه ولتحقيق مضمون الجملةِ بالإيماء إلى العلة (لِكُلّ أَجَلٍ) أي لكل مدةٍ ووقت من المُدد والأوقات (كِتَابٌ) حكمٌ معين يُكتب على العباد حسبما تقتضيه الحكمةُ فإن الشرائعَ كلها الإصلاح أحوالِهم في المبدأ والمعاد ومن قضية ذلك أنه يختلف حسب اختلافِ أحوالِهم المتغيرة حسب تغيرا الأوقات كاختلاف العِلاج حسب اختلافِ أحوالِ المرضى بحسب الأوقات
27
(يَمْحُو الله مَا يَشَاء) أي ينسخ ما يشاء نسخَه من الأحكام لما تقتضيه الحكمةُ بحسب الوقت (وَيُثَبّتْ) بدلَه ما فيه المصلحةُ أو يبقيه على حاله غيرَ منسوخ أو يثبتُ ما شاء إثباتَه مطلقاً أعمَّ منهما ومن الإنشاء ابتداءً أو يمحو من ديوان الحفَظةِ الذين ديدنُهم كَتْبُ كلِّ قولٍ وعمل مالا يتعلق به الجزاءُ ويثبت الباقيَ أو يمحو سيئاتِ التائبِ ويثبت مكانها الحسنةَ أو يمحو قَرْناً ويثبت آخرين أو يمحو الفاسداتِ من العالم الجُسماني ويثبت الكائنات أو يمحو الرزق ويزيد فيه أو يمحو الأجل أو السعادة والشقاوة وبه قال ابنُ مسعودٍ وابنُ عمر رضى الله عنهم والقائلون به يتضرعون إلى الله تعالَى إِنَّ يجعلهم سعداءَ وهذا رواه جابر عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم والأنسبُ تعميمُ كل من المحو والإثبات ليشمل الكل ويدخلُ في ذلك موادُّ الإنكار دخولا أولياء وقرىء بالتشديد (وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب) أي أصلُه وهو اللوحُ المحفوظُ إذْ مَا من شيءٍ من الذاهب والثابت إلا وهو مكتوبٌ فيه كما هو
(وإما نرينك) أصله إن نُرِكَ ومَا مزيدةٌ لتأكيدِ معنى الشرط ومن ثمة أُلحقت النون بالفعل (بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ) أي وعدناهم من إنزال العذابِ عليهم والعدول إلى صيغة المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ أو نعدهم وعدا متجددا حسبما تقتضيه الحكمة من إنذار غب إنذار وفي إيراد البعض رمزا إلى إرادة بعض الموعودِ (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبلَ ذلكَ (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ) أي تبليغُ أحكام الرسالةِ بتمامها لا تحقيقُ مضمون ما بلّغته من الوعيد الذي هو من جملتها (وَعَلَيْنَا) لا عليك (الحساب) محاسبةُ أعمالهم السيئةِ والمؤاخذةُ بها أي كيفما دارت الحال أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيويِّ أو لم تركه فعلينا ذلك وما عليك إلا تبليغُ الرسالة فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتمّ ما وعدناك من الظفر ولا يُضجِرْك تأخرُه فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفيةِ ثم طيَّب نفسَه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشيره فقال
(أولم يروا) استفهام إنكاري والواو للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقام أي أأنكروا نزول
27
الرعد ٤٢ ما وعدناهم أو أشكّوا أو ألم ينظرُوا في ذلك ولم يرَوا (أَنَّا نَأْتِى الأرض) أي أرضَ الكفر (نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) بأن نفتحها على المسلمين شيئاً فشيئاً ونُلحقَها بدار الإسلام ونُذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاءِ أليس هذا من ذلك ومثلُه قوله عز سلطانه أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغالبون وقوله ننقُصها حالٌ من فاعل نأتي أو من مفعوله وقرىء نُنَقصها بالتشديد وفي لفظ الإتيان المؤذِن بالاستواء المحتوم والاستيلاءِ العظيم من الفخامة ما لا يخفى كما في قوله عز وجل وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً (والله يَحْكُمُ) ما يشاءُ كما يشاءُ وقد حكم للإسلام بالعزة والإقبال وعلى الكفر بالذلة والإدبار حسبما يشاهَد من المخايل والآثار وفي الالتفات منَ التكلمِ إلى الغَيبة وبناءِ الحُكم على الاسم الجليل من الدِلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها وقوله تعالى (لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ) اعتراضٌ في اعتراض لبيان علوّ شأن حكمِه جل جلاله وقيل نصبٌ على الحالية كأنه قيل والله يحكمُ نافذاً حكمُه كما تقول جاء زيد لا عمامةٌ على رأسه أي حاسراً والمعقّب من يكُرّ على الشيء فيبطله وحقيقتُه مِن يعقبه ويقفّيه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقّب لأنه يقفى غريمه بالاقتضاء والطلب (وَهُوَ سَرِيعُ الحساب) فعما قليلٍ يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بأفانينِ العذاب غِبّ ما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاءِ حسبما يُرى وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما سريعُ الانتقام
28
(وَقَدْ مَكَرَ) الكفار (الذين) خلوا (من قبلهم) من قبلِ كفارِ مكةَ بأنبيائهم والمؤمنين كما مكر هؤلاءِ وهذا تسليةٌ لرسول الله ﷺ بأنه لا عبرةَ بمكرهم ولا تأثير بل لا وجود له في الحقيقة ولم يصرّح بذلك اكتفاءً بدلالة القصرِ المستفادِ من تعليله أعني قوله تعالى (فَلِلَّهِ المكر) أي جنسُ المكر (جَمِيعاً) لا وجودَ لمكرهم أصلاً إذ هو عبارةٌ عن إيصال المكروهِ إلى الغير من حيث لا يشعُر به وحيث كان جميع ما يأتون وما يذرون بعلم الله تعالى وقدرتِه وإنما لهم مجردُ الكسب من غير فعلٍ ولا تأثير حسبما يبينه قوله عز وجل (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ومن قضيته عصمةُ أوليائِه وعقابُ الماكرين بهم توفيةً لكل نفس جزاءَ ما تكسبه ظهر اليس لمكرهم بالنسبة إلى مَن مكروا بهم عينٌ ولا أثرٌ وأن المكرَ كله لله تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصي التي من جملتها مكرُهم من حيثُ لا يحتسبون أو لله المكرُ الذي باشروه جميعاً لا لهم على معنى أن ذلك ليس مكراً منهم بالأنبياء بل هو بعينه مكرٌ من الله تعالى بهم وهم لا يشعرون حيث لا يحيق المكر السيء إلا بأهله (وَسَيَعْلَمُ الكفار) حين يقضي بمقتضى علمه فيوفِّي كلَّ نفس جزاءَ ما تكسبه (لِمَنْ عُقْبَى الدار) أي العاقبةُ الحميدةُ من الفريقين وإن جهِلوا ذلك يومئذ وقيل السينُ لتأكيد وقوعِ ذلك وعلمِهم به حينئذ وقرىء سيعلم الكافرُ على إرادة الجنسِ والكافرون والكفرُ أي أهله والذين كفروا وسيُعلم على صيغة المجهول من الإعلام أي سيخبر
28
الرعد
29
٤٣ - (وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً) قيل قاله رؤساءُ اليهود وصيغةُ الاستقبال لاستحضار صورةِ كلمتهم الشنعاءِ تعجيباً منها أو للدِلالة على تجدد ذلك واستمرارِه منهم (قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فإنه قد أظهر على رسالتي من الحجج القاطعةِ والبينات الساطعةِ ما فيه مندوحةٌ عن شهادة شاهد آخرَ (وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب) أي علمُ القرآنِ وما عليه من النظم المعجز أو مَن هو مِن علماء أهلِ الكتابِ الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته عليه الصلاة والسلام في كتبهم والآية مدنيةٌ بالاتفاق أو مَنْ عنده علم اللوحِ المحفوظ وهو الله سبحانه أي كفى به شاهداً بيننا بالذي يستحق العبادةَ فإنه قد شحَن كتابه بالدعوة إلى عبادته وأيدني بأنواع التأييدِ وبالذي يختص بعلم ما في اللوح من الأشياء الكائنةِ الثابتةِ التي من جملتها رسالتي وقرىء من عنده بالكسر وعلم الكتاب على الأول مرتفع بالظرف المعتمد الموصول أو مبتدأٌ خبرُه الظرفُ وهو متعين على الثاني ومِن عنده عُلِمَ الكتابُ بالكسر وبناء المفعول ورفع الكتابِ عن رسولِ الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة الرعد أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ بوزن كل سحابٍ مضى وكلِّ سحابٍ يكون إلى يوم القيامة وبُعث يوم القيامة من المُوفين بعهد الله عزَّ وجلَّ والله أعلم بالصواب
29
سورةِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ آيتي ثمانية وعشرون وتسعة وعشرون فمدنيتان وآيتها إثنان وخمسون)

بسم الله الرحمن الرحيم

30
Icon