تفسير سورة الكهف

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

وينطوي في الأحاديث تنويه نبوي بفضل هذه السورة لا بدّ من أن يكون له حكمة قد يكون منها ما احتوته من أمثال ومواعظ. وبالإضافة إلى هذا ففي الأحاديث قرينة على أن هذه السورة أو السور القرآنية كانت تامة الترتيب معروفة الأسماء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)
. (١) قيّما: قيل إنها بمعنى مستقيم لا اختلاف فيه. وقيل إنها بمعنى قوّاما على شؤون الدين وضابطا لها، وقيل إنها بمعنى قوّاما مراقبا على الكتب السماوية الأخرى. والأول أرجح بقرينة جملة وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً التي هي بمثابة تفسير لها. وفي الآية تقديم وتأخير لحفظ الوزن وتقديرها: الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده قيما ولم يجعل له عوجا على ما ذكره جمهور المفسرين.
(٢) باخع نفسك: مهلك نفسك. وكلمة أَسَفاً راجعة إلى هذه الجملة وقد تأخرت عنها لحفظ الوزن أيضا. وهي بمعنى حزنا أو غضبا أو غمّا، أي فلعلك مهلك نفسك من الحزن والغمّ عن عدم إيمانهم بكلام الله.
(٣) صعيدا جرزا: الصعيد (الأرض) أو التراب والجرز الأملس اليابس الذي لا حياة أو لا نبات فيه، أو لا ينزل عليه مطر من البلاء.
51
بدأت السورة بحمد الله، وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وقد مرّ منه بعض الأمثلة.
واحتوت الآيات الخمس الأولى: تقريرا بكون الله تعالى الذي له الحمد وحده قد نزل القرآن على عبده أي النبي محمد مستقيما لا عوج فيه لينذر الناس جميعا ببأسه وقوته. ويبشّر المؤمنين الصالحين بالأجر الحسن الذي يتمتعون به تمتعا دائما خالدا، وينذر الذين يعزون إليه اتخاذ الولد دون ما علم ولا بينة عندهم ولا عند آبائهم، وإنها لكذبة كبرى تصدر عنهم بمنتهى الوقاحة والفظاعة.
والتفتت الآيات الثلاث التالية إلى النبي ﷺ تنبهه إلى ما يحمل نفسه من هم وحزن يكادان يهلكانها بسبب انصراف الناس عن الاستجابة لدعوته والإيمان بكلام الله دونما ضرورة ولا موجب. وتبين له أن الله إنما يزين الأرض بما عليها من وسائل الحياة والاستمتاع لاختبار أعمال الناس فيها، وإنه لسوف يجعلها قاحلة يابسة لا زينة فيها ولا حياة ولا وسائل ولا نبات ولا شجر.
والقسمان متصلان ببعضهما من حيث كون الأول في بيان مهمة النبي ﷺ والثاني في تطمينه وتسليته. والمتبادر أن التنديد بالذين ينسبون إلى الله الولد موجه إلى مشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله مما احتوت الإشارة إليه والحملة عليهم بسببه آيات قرآنية كثيرة مرّ كثير منها.
وفحوى الآية [٤] ثم الآية [٥] هو الذي جعلنا نرجح أن التنديد والإنذار موجهان لمشركي العرب دون النصارى، وهؤلاء هم موضوع إنذار وتنديد آخرين في السورة وهذا مما يقوي ذلك.
والآيتان الأخيرتان بخاصة تدعيم لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم، فليس هو إلّا نذير، والدنيا للناس هي دار اختبار ولسوف تزول ويرجع الناس إلى الله بعدها.
ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بتقرير كون النبي ﷺ غير مسؤول عن كفر الكفار وليس مكلفا بإجبارهم وأنهم راجعون إليه. وأن هذه السورة ابتدأت بتدعيم
52
هذه المعاني، مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب النزول.
وينطوي في جملة لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧) تقرير كون الله عز وجل قد أودع في الناس قابلية الاختيار والكسب وبيّن لهم طريق الخير والعمل الحسن وعكسها، وحملهم مسؤولية اختيارهم وأعمالهم. وهو ما قررته آيات كثيرة أخرى منها ما جاء بعبارة مماثلة لهذه العبارة، ومنها ما جاء بعبارة مغايرة، وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة بحيث يصح القول إن هذا من الأصول القرآنية المحكمة. وقد علقنا على عبارة مماثلة لها وردت في سورة هود فليرجع إليه القارئ ثانية ليستوعب مدى الآية.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩ الى ٢٦]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣)
إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)
53
(١) الكهف: المغارة.
(٢) الرقيم: قيل إنه اسم لجبل أو لواد وقيل إنه بمعنى المكتوب من الرقم وإنه لوح وجد في مقبرة أصحاب الكهف مكتوب فيه أسماؤهم وقصتهم وهو الأوجه.
(٣) أوى: دخل ولجأ.
(٤) فتية: شباب.
(٥) ضربنا على آذانهم: جعلناهم يفقدون الوعي فلا يسمعون.
(٦) أحصى: أكثر إحصاء وحسابا وعلما.
(٧) ربطنا على قلوبهم: ثبتناهم وصبّرناهم.
(٨) شططا: بعدا عن الحق.
(٩) إذ اعتزلتموهم: ضمير الجمع الغائب راجع إلى الفتية. والجملة من
54
حكاية ما دار بينهم من حديث في صدد انحراف قومهم نحو الشرك.
(١٠) مرفقا: بمعنى فرج أو نجاة.
(١١) تزاور: تميل.
(١٢) تقرضهم: تعدل عنهم.
(١٣) في فجوة منه: في ساحة من ساحاته أو متسع منه.
(١٤) وتحسبهم أيقاظا وهم رقود: تظنهم وهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال أنهم أيقاظ مع أنهم نائمون.
(١٥) بالوصيد: بالباب.
(١٦) بعثناهم: أيقظناهم.
(١٧) ورقكم: عملتكم الفضية.
(١٨) أزكى طعاما: أطيب طعاما.
(١٩) وليتلطف: ليتحفظ وليحذر من إشعار الناس بهم.
(٢٠) إن يظهروا عليكم: إن يكشفوا أمركم.
(٢١) أعثرنا عليهم: جعلنا قومهم يعثرون عليهم.
(٢٢) الذين غلبوا على أمرهم: كناية عن أصحاب السلطة والحكم.
(٢٣) فلا تمار فيهم: فلا تجادل في أمرهم أو فلا ترتب في أمرهم.
(٢٤) أبصر به وأسمع: ما أشدّ بصره وما أشدّ سمعه أو شديد السمع والبصر.
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده: أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما
55
تطلع وحينما تغرب حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرّأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظنّ أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيّب، ووصّوه بالتحفظ والحذر لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا، حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفّاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو:
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة سادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي ﷺ بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلّا قليل من الناس وبألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، وبألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي ﷺ بأن يقول إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السموات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
56
تعليقات على آيات قصة أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين «١» عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس وأنهم ثمانية أشخاص وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس «٢» وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك وأزهق أرواح كثير منهم وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظنّ بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلّا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم- يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مرّ عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة،
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.
(٢) انظر الطبري.
57
وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأنّ وقصّ عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفّاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرّا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين أولاهما معنى الرقيم وثانيهما مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيلة دون فلسطين حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي ﷺ من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي ﷺ عن طريق النصارى
58
الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤- ٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا».
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [٨٥] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي ﷺ في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي ﷺ في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي ﷺ والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي ﷺ يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي ﷺ وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بدّ من أن يكون النبي ﷺ ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
(١) انظر الجزء الثاني من المجلد الثالث من تاريخ المطران الدبس والجزء الثاني من المجلد الرابع أيضا.
59
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، ومما ينطوي فيه حكمة الإيحاء بما أوحى به من صورها.
فهناك تماثل بين الفتية المؤمنين وقومهم المشركين وبين النبي ﷺ والمؤمنين معه الذين كان عدد كبير منهم من شبان قريش الذين كان آباؤهم مشركين مناوئين للدعوة المحمدية وكانوا يتعرضون لأذى آبائهم واضطهادهم بقصد ردهم إلى الشرك بعد الإيمان، والبعث والنشور والجزاء الأخروي من أهم ما كان يثير الجدل بين النبي ﷺ والمشركين. والقصة قد احتوت خبرا فيه آية من آيات الله تتصل ببعض مشاهد البعث بعد الموت في واقعة شوهدت من قبل جمهور عظيم من الناس وتنوقلت أخبارها العجيبة.
وفي كل هذا مواضع للعبرة والتطمين والأسوة والإنذار والتدعيم كما هو واضح، ويلفت النظر بخاصة إلى الآية [٢١] حيث احتوت إشارة إلى أن العثور على الفتية بعد أن استيقظوا وماتوا كان وسيلة لجعل الناس يتيقنون بأن وعد الله حقّ وأن الساعة آتية لا ريب فيها مما هو متصل بما نقرره.
كذلك يلفت النظر إلى أن الآيات الأولى من السورة حملت على الذين يقولون إن لله ولدا وإن هذه القصة النصرانية التي جاءت على أثرها تقرر أن الفتية كانوا يؤمنون بالله وحده وأن هذا الإيمان هو الذي جعلهم موضع عناية الله ورحمته. فقد يلهم هذا وجود صلة بين آيات القصة ومطلع السورة ويلهم أنها قد توخّي فيها التدعيم للدعوة النبوية. وبخاصة التوحيد الذي لا شائبة فيه ولا تأويل، ومن الجدير بالذكر أن الخلاف كان مستشريا بين فرق النصارى منذ القرن الميلادي الأول حول المسيح حيث كان بعضهم لا يسوّي بين المسيح والله ولا يعتقد ببنوته الطبيعية له كما كان يعتقدها بعضهم، وبعضهم يعتبره بشرا مرسلا من الله ولد بمعجزة وبعضهم يعتبره رمزا لله وحسب على ما شرحناه وأوردنا شواهده ومصادره
60
في سياق سورة مريم «١». وإلى هذا ففي الآيتين [٢٣ و ٢٤] تلقينات مهمة إيمانية وسلوكية للمسلمين وقد أفردنا لهما بفقرة خاصة تأتي فيما بعد.
ولقد تخلل الآيات جريا على الأسلوب القرآني مقاطع متصلة كذلك بالهدف التدعيمي الذي نوهنا به آنفا سواء فيما كان من الثناء على الفتية أم في شمول رحمة الله لهم أم في التنديد بالذين اتخذوا من دون الله آلهة كذبا وافتراء.
والآية الأولى التي جاءت كمقدمة قد تضمنت معنى التنبيه على القصة وما فيها من مشهد قدرة الله وكون ذلك من آيات الله التي تبدو للناس عجيبة. فكأنما أريد أن يقال إن وقوع ما يبدو عجيبا لكفار العرب من شأنه أن يقنعهم بإمكان وقوع ما ينذرون به مما هو مماثل له في صدد قدرة الله تعالى، وفي هذا ما فيه من معنى التدعيم أيضا.
والآيات الأخيرة من السلسلة يمكن أن يلمح فيها أن الإيحاء بآيات القصة قد استهدفت هذا التدعيم في الدرجة الأولى. فالناس يتناقشون في عدد الفتية فيؤمر النبي ﷺ بألا يهتم لهذا النقاش كثيرا وألا يماري فيهم إلا مراء ظاهرا، ويتناقشون في عدد السنين فيؤمر النبي ﷺ بأن يكل ذلك إلى علم الله الذي يعلم غيب السموات والأرض والمتصف بأكمل صفات السمع والبصر والذي ليس لأحد من دونه ولي حقيقي وليس له في ملكه وحكمه شريك ويؤمر كذلك بعدم التعمق في الأمر وعدم استفتاء الغير فيه.
ولقد نقل الطبري وغيره عن قتادة أحد علماء التابعين أن تعبير وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) وهو ما ورد في الآية [٢٥] هو حكاية لقول أهل الكتاب، فأمر النبي ﷺ بالرّد عليهم بأن الله تعالى هو الأعلم بما لبثوا، ونرى هذا وجيها ومتسقا مع أسلوب العبارة القرآنية حيث تكون الآية [٢٥] تتمة للكلام السابق للآية [٢٣] وتكون الآيتان [٢٣ و ٢٤] اللتان ليستا من سياق القصة قد جاءتا لتنبيه النبي ﷺ إلى ما يجب عليه مما سيكون موضوع تعليق آخر
(١) انظر المجلدين المذكورين آنفا من تاريخ المطران الدبس.
61
يأتي بعد هذه النبذة. ويكون ذلك القول والحالة هذه متوافقا مع مدى القصد المراد من إيراد القصة الذي نوهنا به آنفا.
تعليق على الآية وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً والآية التي بعدها
والآيتان هاتان ليستا من سياق القصة كما قلنا آنفا، وقد احتوتا استطرادا استدراكيا فيه تنبيه للنبي ﷺ بما يجب عليه حينما يقول أنه سيفعل شيئا وحينما ينسى ما يجب عليه. وقد أوردنا في سياق تفسير الآية [٨٥] من سورة الإسراء رواية طويلة عن قتادة ذكرت أن الآيتين نزلتا بسبب وعد النبي ﷺ بالإجابة على الأسئلة عن الروح وفتية الكهف وذي القرنين التي سأله عنها المشركون بإيعاز من اليهود غدا دون أن يقول (إن شاء الله) وأن الوحي توقف عن النبي ﷺ ردحا من الوقت حتى صار المشركون يسخرون منه، وحزن من ذلك حزنا عظيما، ولقد علقنا على الرواية ونبهنا على ما فيها من مآخذ بالنسبة للسؤال عن الروح الوارد في سورة الإسراء والذي أوردت الرواية في سياقه. غير أن ورود الآيتين خلال آيات قصة أصحاب الكهف والرقيم وقبل أن ينتهي الكلام عنها- لأن في الآيات التي بعدها تتمة للتعليق عليها- يلهم أن لهما علاقة ما بها وأن في ما ورد في الرواية المذكورة شيئا ما من حقيقة هذه الصلة.
والذي يتبادر لنا أن الآيتين قد نزلتا في صدد هذه القصة وحدها. وأن من المحتمل أن يكون النبي ﷺ قد استمهل السائلين ونسي تعليق الأمر على مشيئة الله تعالى، فأوحى إليه بهما من قبل الاستطراد والاستدراك في سياق الآيات الموحى بها في القصة.
ولقد انطوى في الاستدراك شيء من العتاب الرباني للنبي ﷺ على ما كان منه خلاف الأولى الذي هو في علم الله مما تكررت صور منه ومرّ بعض أمثلته.
وفي تسجيله وتسجيل ما أوجب الله على النبي ﷺ في سياقه من واجب تعليق تنفيذ
62
ما يعد بفعله على مشيئة الله وذكر الله إذا نسي أمرا واللجوء إليه بطلب الهداية إلى ما هو الأرشد والأسد صورة من صور العصمة النبوية في تبليغ كل ما يوحي به قرآنا مهما كان خاصا. مما تكررت صوره ومرّ منه بعض الأمثلة أيضا. وواجب التأسي بالنبي ﷺ الذي أمر به المسلمون يجعل الآيتين موجهتين إليهم أيضا في كل ظرف بحيث يكون من واجب كل مسلم أيضا أن يذكر دائما أنه لا يملك من أمر المستقبل شيئا فعليه أن لا يربط نفسه بملزمات قد يعجز عنها أو قد يخلّ بها أو قد يكون فيها خطر وضرر غابا عنه، وأن تعليق عزائمه بمشيئة الله تعالى عدا أنه واجب ديني عليه، مستتبع لإيمانه بالله عالم الغيب والشهادة الذي بيده كل شيء وإليه مرجع كل شيء فإنه يخليه من مسؤولية أي عمل مكروه أو خطر أو ضار يلزم نفسه به ويبرر له الرجوع عنه. وفي الاستمداد بالله وذكره- في حالة تقصيره ونسيانه وطلب الهداية منه إلى ما يكون الأرشد والأسد من العزمات- علاج روحي يمدّه بالقوة والرغبة بالهدى والرشاد والسداد.
ولقد روى أصحاب السنن عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: «من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى، وفي رواية للنسائي وأبي داود من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك غير حنث» «١». حيث ينطوي في الحديث تعليم نبوي للمسلمين متصل بالتعليم القرآني من ناحية ما كما هو المتبادر.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٧]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧)
. (١) ملتحدا: ملجأ أو موئلا والإلحاد والالتحاد هو الميل للشيء.
في الآية:
١- أمر للنبي ﷺ بتلاوة ما يوحى إليه من ربّه على الناس.
(١) التاج ج ٣ ص ٧١.
٢- وتوكيد بأن كل ما فيه حق وصدق لا يأتيه تبديل ولا تناقض.
٣- وتقرير بأن النبي لن يجد من دونه من هو جدير باللجوء إليه قدير على حمايته.
وقد ابتدأت الآية بحرف العطف مما يمكن أن يكون قرينة على أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة وداعمة لما فيها من مواضع العظة والعبرة كما يمكن أن يكون قرينة على أن الآيات السابقة إنما أوردت لتدعم الرسالة النبوية.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٨]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)
. (١) لا تعد عيناك عنهم: لا تنصرف عنهم ولا تهملهم.
(٢) تريد زينة الحياة الدنيا: تفضل عليهم أصحاب المال والجاه.
(٣) فرطا: باطلا أو ضلالا وخسرانا وسرفا.
في الآية أمر للنبي ﷺ بوجوب التضامن التام مع الذين آمنوا برسالته ودأبوا على الاتجاه إلى الله وعبادته في جميع أوقاتهم لا يبتغون إلّا رضاه. وجعل كل اهتمامه لهم وعدم تحويل نظره واهتمامه إلى غيرهم رغبة في زينة الحياة الدنيا ومظاهرها الخلاقة المتمثلة في أصحاب المال والجاه، وعدم إطاعة من غفل عن ذكر الله تعالى واتبع هواه وكان ضالا خاسرا أو الإصغاء إليه.
تعليق على الآية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ... إلخ وما فيها من تلقين رائع
ولقد روى المفسرون روايات عديدة متفقة في مداها كسبب لنزول الآية.
64
منها أن بعض القوم قالوا للنبي إنا نستحي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا فجانبهم يا محمد وجالس أشراف قومك. ومنها أن عيينة الفزاري قال للنبي ﷺ وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوصة يشقها ثم ينسجها:
«أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس ولا يمنعنا من اتباعك إلّا هؤلاء فنحّهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا» فأنزل الله الآية. ومنها أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الأنعام: [٥٢] وكان عند رسول الله ﷺ حينما قالوا له ذلك ابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان آخران.
ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية مدنية وهذه الرواية تتوافق مع الرواية التي ذكر فيها كلام عيينة الفزاري الذي كان من أهل العهد المدني.
والرواية الأولى يرويها الطبري عن مشركي مكة، والرواية الثالثة يرويها ابن كثير عن مشركي مكة كذلك ويعزوها إلى مسلم كحديث صحيح. وإيراد آية مدنية في سياق مكي متصل بكفار مكة لا حكمة ظاهرة له. والآية إلى ذلك معطوفة على ما قبلها متساوقة معه في النظم حيث يسوّغ كل هذا الشك في رواية مدنية الآية ورواية عيينة الفزاري وترجيح مكية الآية وكونها في صدد موقف الزعماء المشركين من فقراء المسلمين وموقف النبي ﷺ من ذلك.
ولقد ورد آيات فيها شيء مما ورد في هذه الآية في سورة الأنعام التي مرّ تفسيرها وهي الآيات [٥١- ٥٤] وروي في صددها بعض ما روي هنا على ما ذكرناه في سياق تفسيرها حيث ينطوي في هذا أيضا تأييد لمكية الصورة. ولقد علقنا على ما انطوى في آيات سورة الأنعام من صور وتلقين وهو وارد بطبيعة الحال بالنسبة لهذه الآية فلا محل لإعادته. ويظهر من تكرر الإشارة إلى هذا الموقف أنه كان يتكرر فكانت حكمة التنزيل تقتضي تكرار التعليم تثبيتا للنبي ﷺ الذي كان شديد الحرص على جلب الزعماء إليه، والذي كان حرصه يجعله يفكر على ما تلهمه الآيات، ورواية ابن كثير التي يرويها عن مسلم بحديث صحيح في
65
مسايرة الزعماء في بعض ما يقترحونه. ثم تنويها بالمؤمنين وتقريرا لرفعة شأنهم عند الله ولكون فضيلة الإيمان والعمل الصالح هي أعظم الفضائل وأن الذين يتحلون بها هم عند الله أفضل وأولى بالرعاية، ويجب أن يكونوا كذلك عند النبي ﷺ وفي المجتمع الإسلامي. ولقد اجتهد النبي ﷺ في موقفه اجتهادا يمتّ إلى هذا الأمر خلافا للأولى قبل أن ينزل وحي به فعوتب على ذلك على ما شرحناه في سورة عبس حيث يبدو في كل هذا تلقين جليل مستمر المدى ومبدأ من مبادئ القرآن المحكمة يلمح فيهما في الوقت نفسه عدم إقرار الفروق الاجتماعية كظاهرة واجبة الرعاية في المجتمع الإسلامي. وإذا لحظنا أنه كان لهذه الظاهرة اعتبار عظيم في حياة الأمم وتقاليدها على اختلافها في عصر النبي ﷺ بدت روعة الهدف القرآني والمبدأ المحكم والتلقين الجليل اللذين ينطويان فيه، وبدا في هذا دليل لمن يعوزه الدليل على أن القرآن وحي من الله ينزل بما فيه الحقّ والحكمة ليصحح موقفا من المحتمل أن النبي ﷺ كان يجنح إليه خلافا للأولى بدافع حرصه المذكور آنفا. وتبدو هذه الروعة أيضا في حكمة تكرار التنزيل القرآني حيث كانت هذه هي المرة الثالثة التي يوحى فيها بآيات تقرر وتؤكد ذلك الهدى والمبدأ المحكم والتلقين الجليل اللذين ينطويان فيه.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
. (١) سرادقها: السرادق كل ما له جهات أربع محيطة، والقصد هنا هو وصف شدة النار واشتغالها من كل ناحية.
66
(٢) وأن يستغيثوا: وأن يطلبوا الغيث والماء.
(٣) المهل: مرّ تفسيره في سورة الدخان.
(٤) مرتفقا: منزلا أو منتفعا.
(٥) يحلّون: من الحلية.
(٦) سندس وإستبرق: نوعان من نسيج الحرير واللفظان معرّبان.
(٧) الأرائك: جمع أريكة وهي السرير.
الآيات معطوفة على سابقاتها، واستمرار لها وتعقيب عليها كما هو المتبادر وعبارتها واضحة، وكأنما جاءت لتؤكد على النبي ﷺ بحصر رعايته واهتمامه للذين آمنوا به مهما كان مركزهم الاجتماعي وحالتهم المادية ولتكون جوابا على الزعماء الذين روي موقفهم من النبي ﷺ وفقراء المؤمنين في سياق الآيات السابقة لتقول لهم إن ما طلبوه لن يكون، ولتهتف بهم بعد ذلك بأن ما جاء به النبي ﷺ هو الحق من الله ربّه وربّهم فمن شاء فليؤمن فينفع نفسه ومن شاء فليكفر فلا يضرّ إلّا نفسه، لأن الله قد أعدّ لكل من الفريقين ما يتناسب مع اختياره من شديد العذاب وهائله ومن عظيم النعيم ووسائله. وليس الأمر أمر مساومة ومسايرة ولا يتحملهما. ومثل هذا الجواب والهتاف قد تكرر في مواقف مماثلة حكتها آيات عديدة مرّ بعضها، حيث كانت المواقف تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل تكرار الجواب والهتاف.
وقد تضمنت الآيات تثبيتا للنبي ﷺ وتطمينا وبشرى للمؤمنين وإنذارا رهيبا للكفار. وأكدت المبدأ المحكم الذي احتوته آيات كثيرة بأن الناس يؤمنون ويكفرون وفق اختيارهم فيستحقون ما يستحقون من ثواب وعقاب حقا وعدلا.
ولقد روى الترمذي عن أبي سعيد أن النبي ﷺ قال: «لسرادق النار أربعة جدر كثف كلّ جدار مثل مسيرة أربعين سنة» «١». والترهيب والإنذار من الحكمة الملموحة في الحديث كما هو المتبادر.
(١) التاج ج ٥ ص ٣٨٧.
67

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٤٤]

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
. (١) حففناهما: لففناهما وطوقناهما من جميع الجوانب.
(٢) ولم تظلم منه شيئا: لم ينقص شيء من ثمره حيث كان وافرا من الجميع.
(٣) وكان له ثمر: الثمر هنا بمعنى كثرة المال الذي أثمر على صاحبه.
(٤) أعز نفرا: أقوى جماعة أو أنصارا أو أولادا.
(٥) تبيد: تهلك وتزول.
(٦) حسبانا: بلاء أو صاعقة.
(٧) صعيدا زلقا: أرضا يابسة تنزلق عنها القدم كناية عن شدة اليبوسة والجفاف.
(٨) غورا: غائرا في أعماق الأرض.
(٩) أحيط بثمره: كناية عن طروء البلاء على الجنات وثمرها.
68
(١٠) الولاية: قرئت واوها بالفتح من الموالاة، وتكون بمعنى في ذلك الوقت يكون النصر لله، وبالكسر ويكون بمعنى الحكم والسلطان لله.
(١١) خير عقبا: خير عاقبة.
عبارة الآيات واضحة وقد تضمنت أمرا للنبي ﷺ بأن يضرب للكفار مثلا برجلين أحدهما كافر وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من عند الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي «١» أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه
(١) انظر الروايات والأقوال في تفسير الطبري والطبرسي والزمخشري والخازن.
69
قصة أخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي ﷺ ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب. لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيما ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير وَاضْرِبْ لَهُمْ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
. (١) اختلط به نبات الأرض: ارتوى به وكان سبب تكاثفه ونموه.
(٢) فأصبح: ثم أصبح.
70
(٣) هشيما: جافا مكسرا ملقى على الأرض تحركه الرياح.
في الآية الأولى: أمر للنبي ﷺ بأن يضرب مثلا آخر عن الحياة الدنيا فهي كالزرع الذي ينميه مطر السماء ثم لا يلبث أن يجف بعد قليل ويتكسر وتدفعه الرياح وتذروه، وبأن ينذرهم بأن الله مقتدر على كل شيء.
وفي الآية الثانية: تقرير بأن المال والبنين هما زينة الحياة الدنيا التي مثلت في المثل والتي لن تلبث أن تزول، وأن الأعمال الصالحة هي وحدها الباقية التي تحوز رضاء الله وتكون مناط الأمل وحسن الثواب عنده.
وقد جاءت الآية الثانية تعقيبية على الأولى وكنتيجة لها، والآيتان متصلتان بما سبقهما كذلك وموجهتان للكفار ومستهدفتان نفس هدف المثل الأول وتلقينهما مستمر المدى مثله.
تعليق على آية وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ إلخ...
وننبه على أنه ليس في هذه الآيات ولا في التي قبلها قصد تنفير المؤمنين من الحياة وزينتها وطيباتها ولا قصد ازدراء شأنها إطلاقا. فقد جاءت في صدد التنديد بزهو الكفار وتبجحهم وازدرائهم بفقراء المؤمنين وتقرير أفضلية الإيمان والعمل الصالح والحثّ عليهما. وإذا كانت قد تضمنت التذكير بأن الحياة الدنيا والمال والثروة والقوة أعراض زائلة وقصيرة الأمد فإن هذا بسبيل ذلك التنديد والحثّ والتقرير. وهو إلى هذا تقرير لواقع الأمر حقا بالنسبة للحياة الدنيا وعمر الإنسان فيها. والضابط المحكم في هذا الأمر آية سورة الأعراف: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) وإذا كان من استدراك فهو ما تلهمه الآية التي قبل هذه الآية بخاصة والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة التي نبهنا عليها في مناسبات عديدة سابقة بعامة وهو الإيمان بالله والعمل الصالح والاعتدال وعدم الإسراف وعدم الاستغراق.
71
والجملة الثانية من الآية الثانية قد ورد ما يماثلها في سورة مريم وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)
. (١) بارزة: مكشوفة.
(٢) فلم نغادر منهم أحدا: لم نترك أحدا لم نحشره أو نهمله.
(٣) مشفقين: خائفين.
(٤) ولا يظلم ربك أحدا: أحصى أعمالهم تماما بدون زيادة ولا نقص وعاملهم في ذلك بمنتهى العدل والحق.
في الآيات: وصف ليوم القيامة وفزع الكفار فيه لما تحقق به وعد الله الذي كانوا يشكون فيه. وعبارتها واضحة، والوصف مخيف مفزع حقا، وقد استهدف به كما هو المتبادر فيما استهدف إنذار السامعين وبخاصة الكافرين المجرمين وإثارة الرعب والفزع فيهم وحملهم على الارعواء.
والمتبادر أنها جاءت تعقيبية على ما قبلها حيث قررت الآيات السابقة أن العمل الصالح هو الباقي النافع وأن المال والبنين ليسوا إلّا زينة لمدة قصيرة، ثم تزول فجاءت هذه الآيات منذرة بالقيامة وهو لها وكيف يجاء بهم مجردين مما كانوا يتفاخرون به وكيف يعرضون على النار ويواجهون بكتب أعمالهم التي أحصت كل شيء عليهم.
72
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق جملةما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
حديثا عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: «إنّكم محشورون حفاة عراة غرلا ثم قرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وأول من يكنى يوم القيامة إبراهيم وإنّ ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي فيقول إنهم لما يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم» «١».
وحديثا آخر عن عائشة قالت: «قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة؟
قال: عراة حفاة. قالت: قلت والنساء؟ قال: والنساء. قالت: قلت يا رسول الله أنستحي؟ قال: يا عائشة الأمر أشدّ من ذلك أن يهمّهم أن ينظر بعضهم إلى بعض»
«٢».
والإيمان بما صحّ عن رسول الله ﷺ من المشاهد الأخروية واجب مع الإيمان. فإنه لا بدّ من أن لذلك من حكمة. والترهيب والإنذار من الحكمة الملموحة في الحديثين مما فيه تساوق مع الهدف لذلك من حكمة. وقد يكون الإنذار والترهيب المنطويان في الحديثين من هذه الحكمة وفي ذلك تساوق مع الهدف القرآني أيضا. وقد يصح أن يقال إلى هذا استلهاما من روح الآيات ومقامها وسياقها أنه قد يكون انطوى فيها قصد تقرير كون الناس يحشرون مجردين من كل ما كانوا يعتزون به في الدنيا من مال وبنين وأنصار ليتحملوا بأنفسهم مسؤولية أعمالهم الإجرامية. بل ولعل هذا هو المقصود الجوهري من العبارة القرآنية في مقامها وسياقها وليس بين هذا وبين الحديثين تعارض كما هو واضح.
وكتب أعمال الناس ذكرت مرارا في السور السابقة وشرحنا موضوعها وعلقنا عليه في سياق سورة (ق) بخاصة بما يغني عن التكرار، والعبارة هنا بسبيل تصوير
(١) آيات سورة المائدة [١١٧- ١١٨] روى هذا الحديث الشيخان والترمذي أيضا انظر التاج ج ٥ ص ٣٣١.
(٢) وهذا الحديث أيضا رواه الشيخان والترمذي انظر المصدر نفسه.
73
ما سوف يكون من قرع الكفار حينما يجدون كل ما عملوه محصى عليهم لا فرق بين صغيرة وكبيرة.
ولقد روى البغوي بطرقه عن سهل بن سعد في سياق جملة: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها حديثا عن النبي ﷺ جاء فيه: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وجاء هذا بعود وجاء هذا بعود فأنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب لموبقات».
والحديث لم يرد بنصه في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد أورد ابن كثير حديثا في معناه في نفس السياق عن سهل بن سعد من إخراج الطبراني وصحته محتملة. وفيه إن صحّ وصحته محتملة تحذير من التهاون من الذنوب الصغيرة.
ولقد احتوت آية سورة النجم [٣٢] ما يفيد أن الله تعالى يغفر الهفوات الصغيرة إذا اجتنب المسلم كبائر الإثم والفواحش، ولسنا نرى في الحديث نقضا فإن المتبادر أن المقصود منه هو الاستمرار على الصغائر وليس الهفوات الصغيرة غير المقصودة وغير المستمر عليها.
والإشارة إلى تسيير الجبال يقصد به على ما تلهمه روح الآيات تصوير هول الآخرة ومشاهدها بالإضافة إلى ما في الخبر القرآني من حقيقة غيبية يجب الإيمان بها. ولقد تنوع ذكر مصير الجبال في الآخرة مما يمكن أن يكون قرينة على هذا القصد. والجبال تشغل من أذهان السامعين حيزا بسبب ضخامتها وعلوها مما يفسر حكمة التنزيل في تكرار ذكر مصائرها في الآخرة وهوانها على الله وقدرته.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٥٠]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠)
. (١) فسق: عصى وتمرد.
74
في الآية إشارة خاطفة إلى قصة إبليس وعصيانه لأمر الله بالسجود لآدم، وسؤال استنكاري وتنديدي موجه للكفار لاتخاذهم إياه وذريته أولياء من دون الله وهم أعداؤهم الألداء.
وانتهت الآية بفقرة تنديدية قارعة، فلبئس ما فعل الظالمون باستبدالهم ولاية إبليس وذريته بولاية الله تعالى.
والآية متصلة بالسياق اتصالا وثيقا من حيث كون سابقاتها خوفت الكفار وأنذرتهم فجاءت هذه لتقرعهم وتنبههم إلى أنهم في كفرهم إنما يتولون ويطيعون عدوهم إبليس.
والإشارة هي أقصر إشارة إلى قصة إبليس في القرآن، والمتبادر أن الآية هي في صدد ما احتواه الشق الثاني من التقريع أكثر منها في صدد القصة، والحجة فيها قوية ملزمة والتقريع لاذع محكم.
والمتبادر أن تعبير (اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دون الله) قد قصد به إطاعتهم فيما يزينون من انحرافات وآثام على اعتبار أن ما يرتكس الناس فيه من ذلك إنما هو من وساوس إبليس وتزييناته. وهو ما فتئت الآيات تكرره وتقرره وهذا المفهوم لم يكن مجهولا في بيئة النبي ﷺ على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة (ص).
تعليق على وصف إبليس أنه من الجنّ وما أورده المفسرون في صدده
ويلحظ أن الآية هنا تقرر بصراحة أن إبليس من الجن في حين أن آيات قصة إبليس وآدم الأخرى احتوت فقط حكاية قول إبليس إنه خلق من نار وإنه أفضل من آدم الذي خلق من طين وتراب.
ولقد أورد المفسرون «١» في سياق الآية روايات وأقوالا متنوعة ليس شيء
(١) انظر تفسير الآية في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
75
منها واردا في كتب الصحاح. منها أن الجنّ جيل من الملائكة ومنها أن كلمة الجنّ يصح إطلاقها لغة على الملائكة لأنها من الاجتنان وهو الاستتار والخفاء. والذين قالوا هذا تفادوا به مما وهموا أنه تناقض في مفهوم القرآن لأن مقتضى جميع القصة في السور الأخرى أن يكون إبليس من الملائكة لأنه استثني منهم حيث جاءت الجملة: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [٥٠] ولا نرى طائلا ولا ضرورة إلى ذلك. فالآية صريحة بأن إبليس شيء والملائكة شيء آخر. والذين قالوا إن الجنّ جيل من الملائكة وإن كلمة الجنّ يصح أن تطلق على الملائكة وإن إبليس من الملائكة قد غفلوا فيما يتبادر لنا عن تقريرات القرآن الصريحة الأخرى بأن الجان قد خلقوا من نار. وعن حكاية قول إبليس أنه خلق من نار مما فيه حسم في قصد تقرير كون إبليس من الجنّ الناري. وكذلك غفلوا عن جمع الجنّ والملائكة في سياق واحد وهو آيات سورة سبأ هذه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)، مما فيه حسم بأن كلا منهم غير الآخر.
ولقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: «خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم ممّا وصف لكم» والنبي ﷺ وحده هو المعتمد فيما فيه توضيح لما أجمله القرآن أو أطلقه أو سكت عنه وهذا الحديث من الأحاديث الصحيحة وقد انطوى على حسم آخر «١».
ولقد قال الزمخشري إن الفاء في كلمة فَفَسَقَ سببية لتقرير كون إبليس إنما فسق لأنه من الجن وليس من الملائكة.
ولقد أورد المفسرون «٢» في سياق هذه الآية بيانات كثيرة عن إبليس وذريته وتزاوجه وتناسله وأسماء أبنائه وحفدته وطرائق تصرفاتهم وتقسيمات وظائفهم إلخ دون ما سند، وليس فيها ما هو وارد عن النبي ﷺ الذي هو وحده المعتمد في مثل
(١) انظر التاج ج ٥ ص ٢٦٣.
(٢) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.
76
هذه البيانات. وليس في إيرادها طائل ولا ضرورة، وأكثرها أدخل في نطاق الخيال والخرافة، والواجب في هذا الأمر هو الوقوف عند ما وقف عنده القرآن دون تزيد ولا تخمين، لأنه من الحقائق الإيمانية المغيبة، مع ملاحظة الهدف القرآني الذي نبهنا عليه في المناسبات السابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة (ص).
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
. (١) ما أشهدتهم: ما أحضرتهم. ومعناها هنا ما استشرتهم أو ما استعنت بهم.
(٢) موبقا: مهلكا أو برزخا حاجزا.
(٣) فظنوا: هنا بمعنى تيقنوا.
(٤) مصرفا: مخرجا أو معدلا إلى غيرها.
في الآيات:
١- تقرير تنديدي بأن الله لم يستشر ولم يستعن بإبليس وذريته الذين يتخذهم الكافرون أولياء من دونه لا في خلق السموات والأرض ولا في خلق أنفسهم كما أنه لا يصح في العقل أن يتخذ الله المضلين الذين يزينون للناس الضلال والشرك أعضادا حتى يكون حينئذ مبرر للكافرين باتخاذهم أولياء وشركاء.
٢- وحكاية لما سوف يخاطب الله المشركين به يوم القيامة حيث يتحداهم بدعوة شركائهم لنصرهم فيدعونهم فلم يلب دعوتهم أحد حيث يكون الله قد جعل بينهم برزخا حاجزا.
٣- وإشارة إلى ما يكون من أمرهم حينئذ حيث يعرضون على النار فيتيقنون بأنهم واردوها وليس مناص ولا مصرف لهم عنها.
وواضح أن الآيات استمرار للسياق في صدد تقريع الكفار وتسفيههم، وقد أرجعنا ضمير الجمع الغائب في أَشْهَدْتُهُمْ إلى إبليس وذريته وأوّلنا الآية الأولى بما أوّلناها به استلهاما من روح الآيات والسياق وهو ما فعله المفسرون أيضا «١».
ومع أن الطبري أوّل كلمة مَوْبِقاً بمعنى هلاكا ومهلكا، وأن هذا المعنى ورد في آية في سورة الشورى بمعنى الإهلاك أيضا وهي: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا [٣٤] فقد أورد الطبري في سياقها أقوالا معزوة إلى مجاهد وعبد الله بن عمرو وأنس بن مالك وقتادة أن الموبق هو واد في نار يوم القيامة، أو واد عميق يفرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، أو واد في جهنم من قيح ودم.
والتوقف في هذه الأقوال هو الأولى ما دامت لم تثبت عن النبي ﷺ الذي هو المصدر الوحيد الوثيق لمثل هذه المشاهد الغيبية الأخروية.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٤ الى ٥٩]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
. (١) قبلا: عيانا أمامهم.
(٢) موئلا: ملجأ.
(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم. [.....]
78
في الآية الأولى تقرير تنديدي بطبيعة الإنسان الجدلية والمرائية. فإن الله قد ضمن القرآن أنواع الأمثال وقلّب فيه وجوه الكلام لتذكير الناس وإنذارهم، ولكن طبيعة الجدل الغالبة في البشر تتحكم فيهم فتحول دون ارعوائهم وتذكرهم.
وهذه الآية يمكن أن تكون تعقيبية على الآيات السابقة، كما يمكن أن تكون مقدمة للآيات التي بعدها، ونحن نرجح هذا لأن الآيات التي جاءت بعدها ذكرت مجادلة الكفار بالباطل لدحض الحق تعنتا ومكابرة ولذلك جعلناها معها.
أما بقية الآيات فقد احتوت:
١- تنديدا بالكفار: فقد جاءهم الهدى فكان الأحرى بهم أن يهتدوا ويؤمنوا ويتوبوا إلى الله ويستغفروه عما فرط منهم. ولكنهم امتنعوا كأنهم ينتظرون ليؤمنوا أن يأتيهم عذاب الله عيانا أو تأتيهم سنة الله في الأمم السابقة من البلاء الصاعق.
وفي موقفهم هذا ما فيه من الحمق والتفريط.
٢- وإشارة تقريعية إلى موقف الكفار: فإنهم بدلا من أن يهتدوا وينتفعوا بالهدى يلجأون إلى الجدل الباطل ليبطلوا به الحق ويغطوا عليه، ويتخذوا آيات الله ونذره هزؤا وسخرية.
٣- وتساؤلا تنديديا عما إذا كان يوجد من هو أشد ظلما وحمقا وانحرافا ممن يذكر بآيات الله ويدعى إلى الحق فيعرض ويتصامم ولا يبالي سوء العاقبة وما يقترفه من آثام.
٤- وتعليلا لهذا الموقف: فإن الذين يقفون مثل هذا الموقف يكونون قد قست قلوبهم فلا تفقه دعوة الحق، وصمّت آذانهم فلا تسمع كلمة الحق. فإذا دعوا إلى الهدى فلا يهتدون البتة بطبيعة الحال.
٥- وتقريرا لحكمة الله في إمهالهم: فالله متصف بالغفران والرحمة من جهة فيتجاوز عن مثل هذا الطيش والتصامم رجاء أن يثوب أصحابها في النهاية إلى الحق ويرعووا عن موقفهم الباطل. واقتضت حكمته من جهة أخرى إمهالهم إلى
79
موعد معين في علمه لن يجد الذين يصرون على ذلك الموقف من عذاب الله فيه موئلا ومهربا. ولولا صفات الله تلك وحكمته هذه لعجّل لهم العذاب.
٦- وتدليلا على ذلك بما كان من شأن الأمم السابقة: فقد ظلمت وانحرفت فأهلكها الله في الموعد الذي عينه لها.
وواضح أن الآيات استمرار للسياق أيضا، وقد وجهت إلى العقول والقلوب معا بأسلوب قوي نافذ. وتعبير إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً هو تعبير أسلوبي سبق أمثاله في سورة (يس) وغيرها بقصد بيان شدة تعامي الكفار وتصاممهم عن الحق، وأوّلناه بما أوّلناه لأن ذلك مما تلهمه الآيات سواء في تنديدها وتقريعها أم في إنذارها. كما أنه هو المتسق مع التقريرات القرآنية العامة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة عدا أنه فيما هو المتبادر تسجيل لواقع أمرهم حين نزول الآية بدليل أن قلوب معظمهم تفتحت فيما بعد فاهتدوا وآمنوا. وهذا يقال أيضا بالنسبة للآية: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا (٥٥).
والمتبادر أن جملة وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا هي بسبيل التنديد بخلق المجادلة والمماراة الذي يكون في كثير من الناس وبخاصة الذي لا يكون من أجل الحق وإنما من أجل الباطل. وهو ما ذكر في آية أخرى من الآيات نفسها. وينطوي في ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح ذلك كما هو المتبادر.
ولقد أثرت عن النبي ﷺ أحاديث متساوقة مع هذا التلقين أوردنا بعضها في سياق تفسير الآية [٥٨] من سورة الزخرف لأنها متناسبة معها. وهذه بعض أحاديث أخرى مطلقة المدى تتناسب مع الجملة التي نحن في صددها، من ذلك حديث رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي ﷺ قال: «أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم» «١». وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي ﷺ قال: «من ترك الكذب
(١) التاج ج ٣ ص ٦٣.
80
وهو باطل بني له في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محقّ بني له في وسطها ومن حسّن خلقه بني له في أعلاها» «١». وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «كفى بك إثما ألّا تزال مخاصما» «٢».
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٠ الى ٨٢]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢).
(١) التاج ج ٥ ص ٣٧.
(٢) المصدر نفسه.
81
(١) أو أبلغ حقبا: قيل إن الحقب سبعون أو ثمانون سنة، والمتبادر من العبارة أنها بسبيل بيان أنه سيظل يسير في طريقه حتى يبلغ ما أراد مهما طال عليه الزمن.
(٢) الحوت: يطلق على السمكة الكبيرة.
(٣) ذلك ما كنا نبغي: هذه علامة المحلّ الذي كنا نقصده.
(٤) فارتدا على آثارهما قصصا: فرجعا يسيران على آثار أقدامهما حتى يبلغا المحل بدون ضلال.
(٥) وآتيناه من لدنا علما: اختصصناه بعلم منا.
(٦) حتى أحدث لك منه ذكرا: حتى أكون أنا الذي أخبرك بسببه بدون سؤال منك.
(٧) إمرا: شيئا عظيما.
(٨) ولا ترهقني من أمري عسرا: لا تحملني العسر أو لا تشتد عليّ باللوم.
(٩) نفسا زكية: نفسا بريئة لم ترتكب ذنبا.
(١٠) نكرا: منكرا.
(١١) قد بلغت من لدني عذرا: قد صرت عندي معذورا على عدم مصاحبتك لي بعد ما جرى.
(١٢) لاتخذت عليه أجرا: لتقاضيت عليه أجرة.
(١٣) أن يرهقهما طغيانا وكفرا: أن يحملهما تبعة طغيانه وكفره أو يشقيهما بذلك.
82
(١٤) خيرا منه زكاة: أكثر طهارة وبراءة واستقامة.
(١٥) أقرب رحما: أكثر منه رعاية لصلة الرحم أو أكثر منه رحمة أو برّا بوالديه.
(١٦) تأويل: بينا اشتقاق ومعاني هذه الكلمة المتعددة في سورة الأعراف والمتبادر من الآية أنه هنا بمعنى سببه الحقيقي أو الحافز الحقيقي عليه.
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة.
والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه «١» :«أن سعيد بن جبير قال لابن عباس: إن نوفا البكّاليّ يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال: كذب عدوّ الله «٢» حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبيّ ﷺ يقول: إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أيّ الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه: إنّ لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى: يا ربّ
(١) انظر التاج ج ٤ ص ١٤٨- ١٥١.
(٢) يظهر من العبارة أن هذا الرجل غير مسلم. وفي كتب التفسير أنه ابن زوجة كعب الأحبار اليهودي الأصل (انظر تفسير الطبري والبغوي للآيات). ويروي المفسرون أن نوفا قال: إن موسى المذكور في القصة هو موسى بن يشا، وقد يكون قال القولين في مجلسين فساق ابن عباس الحديث لتكذيبه.
83
فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثمّ انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي فأصاب الحوت من مائها فتحرّك وانسلّ من المكتل فدخل البحر فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال: ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلّا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى: ذلك ما كنّا نبغ فارتدّا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلّم عليه موسى فقال الخضر: وأنّي بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلّمني ممّا علّمت رشدا. قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى:
ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرّت سفينة فكلّموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا، قال: ألم أقل إنّك لن تستطيع معي صبرا، قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال: وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلّا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا
84
البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال: ألم أقل لك إنّك لن تستطيع معي صبرا. قال: وهذه أشدّ من الأولى. قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه الخضر بيده، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى كان صبر حتى يقصّ الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير «١» : وكان ابن عباس يقرأ وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وكان يقرأ: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ [٨٠] وقد روى الترمذي «٢» في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي ﷺ قال: «الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا» وروى هذا «٣» أبو داود وزاد عليه: «لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا» وروى الترمذي في نفس السياق «٤» عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «إنّما سمّي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزّت تحته خضراء». والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر «٥» جاء في إحداهما عن ابن عباس: أن موسى سأل ربّه
(١) انظر التاج أيضا ج ٤ ص ١٥١.
(٢) انظر التاج أيضا ج ٤ ص ١٥١.
(٣) انظر المصدر نفسه.
(٤) انظر المصدر نفسه.
(٥) انظر تفسير الطبري والبغوي.
85
فيما سأل أيّ عباده أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو تردّه عن ردى، قال: ربّ فهل في الأرض أحد؟ قال: نعم، قال: فمن هو؟ قال: الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك وأراد أن يعرّفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفار إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها «١» التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي ﷺ والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمدا ﷺ بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزأوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند
(١) انظر تفسير الطبري.
86
موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآئلة إلى الصواب في العاقبة. وينبىء عن صحة ذلك قوله وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك.
واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [٢٣- ٢٤] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي ﷺ بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلّا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح
87
معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحرين هو مكان اجتماع بحر فارس وبحر الروم أحدهما قبل المشرق والآخر قبل المغرب. أو أنه طنجة أو أنه بالمغرب. ومن ذلك أنه كان في المكان الذي أوى موسى وفتاه إليه عين ماء الحياة فمس جسد الحوت الماء فدبت إليه الحياة مع أنه كان قد أكل بعضه فتحرك ثم تسرب إلى البحر وكان يتجمد محل تسربه فلما عاد موسى وفتاه إلى مكانهما الأول وجدا مسارب الحوت متجمدة في البحر فسارا عليه حتى بلغا جزيرة في البحر فلقيا الخضر فيها. ومن ذلك أن الملك الذي كان يأخذ السفن هو هدد بن بدد من ذرية العيص بن اسحق. أو الجلندي الأزدي! ومن ذلك أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي أنطاكية أو أيلة أو قرية على ساحل البحر اسمها الناصرة التي سميت النصارى بها!. ومن ذلك أن الكنز الذي كان تحت الجدار هو صحف علم أو لوح من ذهب مكتوب على أحد جانبيه (بسم الله الرّحمن الرّحيم. عجبت لمن يؤمن كيف يحزن.
وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح. وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله). وعلى جانبه الآخر (أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي. خلقت الخير والشر. فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه). ويقول البغوي الذي نقلنا عنه النص وهذا قول أكثر المفسرين، وروي مع ذلك أن الكنز كان مالا مكنوزا. ومن ذلك أن الخضر هو لقب للرجل وأن اسمه بليا بن ملكان وقيل إنه من نسل بني إسرائيل وقيل إنه من أبناء الملوك وقد تزهد. وقيل إنه نبي وقيل إنه ولي قد خصّه الله بعلمه اللدني أي الغيبي.
وروي في صدده مع ذلك أنه كان وزيرا لذي القرنين فأراد هذا أن يكتشف عين الحياة فدخل الظلمة وكان الخضر على مقدمته فاهتدى إلى العين وشرب واغتسل منها فصار حيا خالدا. ومما قاله الخازن إن أكثر العلماء والمتفق عليه عند مشايخ الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة على أنه حي. والحكايات في رؤيته والاجتماع به وبوجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر.
88
ومع هذا فالخازن قال أيضا إن هناك من قال إنه ميت. وهذا ما قاله غيره حيث قالوا: إن حياته وموته مختلف فيهما. ومما رووه أن الله أبدل والدي الغلام الذي قتله الخضر بغلام أو بجارية أنجبت سبعين نبيا وأن الغلام كان قاطع طريق مفسدا تأذى منه أبواه. ومما روي أنه قيل لابن عباس لم نسمع لفتى موسى بذكر في حديث موسى والخضر وكان معهما؟ فقال: شرب الفتى من الماء فخلد فأخذه العالم معه فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر فإنها لتموج به إلى يوم القيامة!.
ومما رووه: «أنّ موسى لمّا أراد أن يفارق الخضر قال له: أوصني؟ قال: لا تطلب العلم لتحدّث به واطلبه لتعمل به».
والمرويات المذكورة غير وثيقة الأسناد، وفيها ما يتناقض مع نصّ الحديث الصحيح، وفيها ما يتناقض مع الحقائق العلمية والتاريخية المعروفة، وفيها ما يتناقض مع العقل والنقل. ومسألة حياة الخضر بخاصة مخالفة لنص القرآن الذي يقول: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ سورة الأنبياء: [٣٤] وقد نبّه البغوي إلى هذا في معرض تأييد عدم صحة حياته. وقد روى القاسمي عن البخاري وابن حبان وابن تيمية وغيرهم نفيهم الجازم لحياة الخضر وقول بعضهم إنه لا يقول بذلك إلا المغفلون.
وفي تفسير القاسمي استطرادات إلى تعليل ورود جملة: أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها [٧٧] دون الاكتفاء بجملة «فاستطعماهم» وورود جملتي ما لَمْ تَسْتَطِعْ [٧٨] وما لَمْ تَسْطِعْ
[٨٢] والفرق بينهما. وجواز نسبة الإرادة إلى الجدار في اللغة العربية ومدى ما في جملة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [٧٩] وفَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً [٨١] وفَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما [٨٢] في سياق تعليل الخضر لما فعله وجواز ما فعله من أمور في نظر الشرع وبخاصة قتله للغلام النفس الزكية...
ونقول بالنسبة لما رؤي أنه إشكالات لغوية إنه لا يصح أن يفرض أي إشكال لغوي في القرآن بعد أن قرر إنه بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ سورة الشعراء: [١٩٥] وإنه
89
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ سورة الزمر: [٢٨] ولا بد من أن يكون كل ما ورد فيه عربيا مبينا سائغا بالأسلوب العربي الفصيح. ونقول بالنسبة للنقاط الأخرى إنها لا طائل من التعلق بها والحوار في صددها فهي من قصة شاءت حكمة التنزيل أن ترد في القرآن بالصيغة التي وردت بها وينبغي أن تبقى في نطاقها وأن يوقف منها عند ما وقف عنده القرآن والحديث النبوي الصحيح مع استلهام ما فيها من موعظة وعبر والله تعالى أعلم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ١٠١]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢)
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧)
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١)
. (١) وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا: كلمة السبب الأولى بمعنى الوسيلة الموصلة إلى المقصد أو العلم. والثانية بمعنى الطريق أو السير نحو القصد.
90
(٢) في عين حمئة: عين ماء حار أو أرض طينية مستنقعة سوداء. وجملة تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ينبغي أن تحمل من حيث المدى اللغوي على المجاز بحيث تفسر بمعنى (كأنها تغرب في عين حمئة) أو مثل قولنا (غرقت الشمس في البحر) ونحن نعلم أنها لم تغرق في البحر وإنما صارت في نظرنا وراءه.
(٣) لم نجعل لهم من دونها سترا: إما أنها بمعنى أنهم ليسوا على شيء من الحضارة ووسائلها أو بمعنى أنه ليس في أرضهم جبال ولا شجر ولا بناء يقيهم الشمس حين طلوعها.
(٤) أحطنا بما لديه خبرا: علمنا بكل ما قام به، أو كان كل ما قام به في علمنا وإحاطتنا.
(٥) خرجا: ضريبة.
(٦) زبر الحديد: قطع الحديد.
(٧) بين الصدفين: بين الطرفين المتقابلين وقيل بين الجبلين.
(٨) قال انفخوا: كناية عن طلب إحماء الحديد في النار.
(٩) قطرا: النحاس الذائب أو القطران أو الزفت الذائب وهذا هو الأرجح.
(١٠) وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض: يموج بمعنى يتحرك باضطراب.
ومعنى الجملة تركناهم يضطربون فيما بينهم بالحركات والاختلاط.
تعليقات على قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحي به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلّا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
91
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي ﷺ وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلّها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [٨٥] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي ﷺ في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه: «كنت يوما أخدم رسول الله ﷺ فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا: نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال: ما لي وما لهم ما لي علم إلّا ما علّمني الله ثم قال: اسكب لي ماء فتوضأ ثمّ صلّى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال: أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال: إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم. قالوا: بلى أخبرنا. قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الاسكندرية فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال: ما ترى؟
فقال: أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي، ثم علا
92
به فقال ما ترى؟ قال: أرى الأرض، قال: فهذا اليمّ محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلّم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السدّ وهو جبلان ليّنان يزلق عنهما كل شيء ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سمّاهم».. والحديث غير وارد في كتب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير وقال إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورود السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير «١» بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزوّ إلى بعض أصحاب رسول الله ﷺ مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن
(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والقاسمي وغيرهم، ومنهم من يتطابق مع من سبقه كأنما ينقل عنه وفي بعض ما يورده بعضهم زيادة ونقص وتغاير أيضا.
93
مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريج ومحمد بن إسحق الذي يعزو كلامه إلى «بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض. وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي ﷺ وعصره وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الإسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي أو أنه الإسكندر المشهور الذي بنى الاسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الإسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة:
قد كان ذو القرنين جدي مسلما ملكا علا في الأرض غير مفند
بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب ملك من كريم مرشد
فرأى مآب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأطة حرمد
وأن عمره بلغ ألفا وثلاثين سنة وكان وزيره الخضر صاحب موسى وقد دخل معه في الظلمة حينما أراد أن يكتشف عين الحياة فاهتدى الخضر إليها دونه فشرب واغتسل منها فكتبت له الحياة إلى آخر الزمان!. ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم،
94
أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس! ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار أو معرّبتان وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله (١٢٠) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء (١٢٠) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى.
ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلّا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلّا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الإسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له: إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الإسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي
95
القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الإسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال: يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم فقال له: إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يروعنك شيء وأسخّر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى والكافرين بالشدة والعذاب.
ومما رووه في سياق الآية [٨٦] أنه كان لمدينة القوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس اثنا عشر ألف باب وكان اسمها مريحا ويسكنها قوم من نسل ثمود ولولا ضجيجهم لسمع وجيب الشمس حين تغرب من شدة قربهم من مغربها. وأن ابن عباس اختلف مع معاوية على قراءة عَيْنٍ حَمِئَةٍ [٨١] حيث كان الأول يقرأها (عين حمئة) بمعنى طينة سوداء والثاني يقرأها (عين حامية) بمعنى عين ماء حار وأنهما اتفقا على تحكيم كعب الأحبار فأرسلا إليه يسألانه كيف يجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال لهم: إنها تغرب في طينة سوداء، فوافق بذلك ابن عباس! ورووا في سياق الآية [٨٨] أنه لم يكن بين القوم الذين وجدهم عند مطلع الشمس وبين الشمس ستر من جبل ولا شجر ولا يستقر على أرضهم بناء فإذا طلعت الشمس نزلوا إلى الماء أو اندسوا في سراديب في الأرض حتى تزول فيخرجون إلى معايشهم وأنهم من نسل مؤمني قوم هود وأن اسم مدينتهم مرقيسا وهم مجاورون يأجوج ومأجوج.
96
وواضح أن معظم الأقوال جزاف لا تتسم بأية سمة علمية وتاريخية عدا ما يشبه اسم وتاريخ الإسكندر المكدوني المعروف باستثناء خرافة عمره ووزارة الخضر له وعين الحياة التي شرب منها هذا الخضر. ومع بقاء ثغرة هامة لم يحاول راوي اسم الإسكندر سدّها وهي ما هو معروف من وثنية الإسكندر المكدوني ومقتضى الآيات بكون ذي القرنين مؤمنا موحدا موقنا بالآخرة يوحي الله إليه ويكلمه كأنه من الأنبياء. ومما رواه الطبري وتابعه غيره أن الجبلين اللذين أنشأ ذو القرنين السد بينهما هما بين أرمينية وأذربيجان وروى ابن كثير إلى هذا أن الخليفة العباسي الواثق أرسل سرية للبحث عن السد فغابت سنتين وعادت بعد أن لاقت الأهوال ورأت العجائب في البلاد التي طوفت فيها واحدة بعد أخرى وقالت إنها رأت بناء من الحديد والنحاس وله باب عظيم وعليه أقفال عظيمة، وإن عنده حرسا من الملوك المتاخمين له وإنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال.
ولم يذكر المفسر في روايته مكان السد الذي بلغت إليه.
وفي تفسير القاسمي وهو من التفاسير الحديثة في سياق تفسير الآيات عزوا إلى «بعض المحققين» أنه كان يوجد وراء جبل من جبال القوقاز- القفقاس- المعروف عند العرب بجبل قاف في إقليم طاغستان قبيلتان إحداهما اسمها آقوق وثانيتهما ماقوق عرّبهما العرب بيأجوج وماجوج. وهما معروفتان عند كثير من الأمم وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب. وتناسل منهما كثير من أمم الشمال والشرق في روسية وآسية. وأن السد كان بين مدينتي دربند وخوزار في إقليم الطاغستان حيث يوجد مضيق بين المدينتين يسمى الآن بباب الحديد وبالسد وفيه أثر سد حديدي قديم بين جبلين. وذكر نقلا عن صفوة الأخبار أن السور الذي وصلت إليه سرية الواثق العباسي هو سور الصين الذي يبلغ طوله نحو ١٢٥٠ ميلا وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدما ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدما وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدما، وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إلى أربعين قدما. وهذا السور لم يبنه إسكندر وإنما الذي بناه الإسكندر هو سد دربند. وكلام هذا المفسر يفيد أن ذا القرنين هو الإسكندر المكدوني
97
المشهور. وقد حاول المفسر أن يوفق بين ما هو معروف من عقيدة الإسكندر المكدوني الوثنية وبين مقتضى الآيات القرآنية وقال إنه لا يقتضي من عقيدة اليونان الوثنية أن يكون هو وثنيا وأن أساتذته أرسطاطاليس وفيثاغوروس إلهيون. ولا تبلغ محاولته حد الإقناع، وظاهر من كلامه أنه بنى السد لمنع زحف قبائل ماقوق وآقوق...
وهناك عالمان هنديان مسلمان مشهوران عصريان وهما شبلي النعماني وأبو الكلام آزاد بحثا في موضوع ما جاء في الفصل القرآني بحثا يتسم بسمة العلم والتروي ويستند إلى مصادر عديدة ووثائق أثرية هامة. وقد أدى البحث عند الأول إلى ترجيح كون ذي القرنين هو دارا الكبير ملك الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد، وأن اليأجوج والمأجوج من قبائل الاسكيت التترية التي كانت تقيم في الشرق من جبال القوقاز، وأن السد الذي بناه هو السد المعروف بسد دربند القريب من مدينة دربند الواقعة غربي بحر الخزر. وأدى البحث عند الثاني إلى ترجيح كون ذي القرنين هو الملك كورش ملك الفرس في القرن السادس قبل الميلاد والذي حكم قبل دارا الكبير والذي قوّض مملكة بابل الكلدانية وأذن لليهود المسبيين في مملكة بابل بالعودة إلى فلسطين وتجديد أورشليم (بيت المقدس) ومعبدها سنة (٥٣٨ ق. م). وأن السدّ هو غير سدّ دربند، وإنما هو بين طرفي جبل من جبال القوقاز بين مدينتي ويلادي كيوكز وتفليس، ويعرف باسم مضيق كورش فيما يعرف به من أسماء. وأنه لا يزال موجودا وهو خليط بالحديد والنحاس. وأن يأجوج ومأجوج هم قبائل منغولية كانت تعيث فسادا في البلاد فأنشأ كورش السدّ لمنعهم.
وحاول كل من العالمين إثبات أن كلا من رجليهما أنه ذو القرنين بما كان من كثرة فتوحاته وسعة سلطانه وإثبات أن الزرادشتية التي كان يدين بها كل من الملكين تقول بوحدة الله وتأمر بالخير وتدين بالآخرة.
وقد استند الاثنان فيما استندا إليه إلى سفر نبوءة دانيال من أسفار العهد القديم المتداولة إلى اليوم. وكان دانيال من جملة من سباهم نبوخذ نصر إلى بابل على ما ذكر في هذا السفر. ولقد جاء في الإصحاح الثامن منه أنه رأى في منامه
98
كبشا ذا قرنين ينطح غربا وشمالا وجنوبا فلم يقف حيوان قدامه وإذا بتيس من المعز جاء من المغرب له قرن واحد فهجم على الكبش ذي القرنين وضربه وكسر قرنيه وصرعه على الأرض وداسه، فالتمس دانيال من جبريل أن يفسر له الرؤيا فطمأنه بأنها بشرى بخلاص إسرائيل من السبي وأن الكبش ذا القرنين هو ملوك ماداي وفارس وأن تيس المعز هو ملك ياوان.
ولقد ذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس «١» في تاريخه الذي ألّفه في القرن الأول للميلاد المسيحي ووصل إلى عهدنا أن أحبار اليهود تقدموا إلى الإسكندر المكدوني حينما جاء إلى أورشليم بعد أن انتصر على ملك فارس دارا الثالث وقوض مملكته وأوردوا على مسامعه رؤيا دانيال وقالوا له إنه هو المقصود من تيس المعز الذي ضرب بقرنه ذا القرنين ملك فارس وكسر قرنيه. فالنعماني فسر ذا القرنين بدارا الكبير بسبب تعاظم ملك فارس في زمنه وأبو الكلام فسره بكورش بسبب كونه هو الذي قوض ملك بابل ونجّي بنو إسرائيل من السبي في زمنه. مع أن الإسكندر الذي فسره اليهود بالتيس ذي القرن الواحد إنما ضرب وغلب دارا الثالث الذي كان في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد.
ومهما يكن من أمر فإن من واجبنا أن ننوه بجهد العالمين وإن كان من الحق أن نقول إن استنتاجاتهما لا تصل في رأينا إلى مبلغ الإقناع، وإن كنا نرى أن أبا الكلام كان أقرب إلى التوفيق لأنه استند إلى سفرين آخرين من أسفار العهد القديم ذكر فيهما كورش. وهذان السفران هما سفر نبوءة أشعيا وسفر عزرا. ولقد جاء في الإصحاح الرابع والأربعين من الأول بلسان الربّ هذه العبارة: «أنا القائل لكورش أنت راعيّ وأنت متمم لكل ما أشاء». وجاء في الإصحاح الخامس والأربعين هذه العبارة: «هكذا قال الرب لمسيحه كورش الذي أخذت بيمينه لأخضع الأمم بين يديه وأحل أحقاء الملوك وأفتح أمامه المصاريع إني أسير قدامك فأقوم المعوج وأحطم مصاريع النحاس وأكسر مغاليق الحديد وأعطيك كنوز الظلمة ودفائن
(١) انظر تاريخ يوسيفوس اليهودي الترجمة العربية طبعة صادر ص ٢٤.
99
المخابئ، لتعلم أني أنا الرب الذي دعاك باسمك إله إسرائيل. إني لأجل عبدي يعقوب وإسرائيل مختاري دعوتك باسمك وكنيتك وأنت لا تعرفني». ولقد جاء في الإصحاح الأول من السفر الثاني- عزرا- هذه العبارة: «في السنة الأولى لكورش ملك فارس لكي يتم ما تكلم به الرب بضم أرميا نبه الرب روح كورش ملك فارس فأطلق نداء في مملكته كلها وكتابات أيضا قائلا هكذا قال كورش ملك فارس جميع ممالك الأرض قد أعطانيها الرب إله السموات وأوصاني بأن أبني له بيتا في أورشليم التي بيهوذا. فمن كان منكم من شعبه أجمع فالله يكون معه. فليصعد إلى أورشليم التي بيهوذا. فمن كان منكم من شعبه أجمع فالله يكون معه. فليصعد إلى أورشليم التي بيهوذا ويبني بيت الرب إله إسرائيل وهو الإله الذي في أورشليم.
وكل من بقي في أحد المواضع حيث هو متغرب فليمدده أهل موضعه بالفضة والذهب والمال والبهائم فضلا عما يتطوعون به لبيت الله الذي في أورشليم»
.
حيث يفيد هذا أن كورش حسب عبارة السفرين كان مؤمنا بإله السموات يتلقى الأمر أو الوحي أو الإلهام منه ويعمل على بناء مسجد له من جديد في أورشليم.
وأن الله اعتبره وكيلا له ليتمم كل ما شاءه وأنه أخذ بيده وأخضع له الأمم وفتح أمامه المصاريع وفتح له دفائن المخابئ وأعطاه كنوز الظلمة وسار قدامه. ولقد جاء في الإصحاحات التالية للإصحاح الثامن من سفر نبوءة دانيال أخبار رؤى أخرى رآها دانيال وبشارات تلقاها من جبريل وميكائيل بخلاص قومه وانتصار كورش على بابل وتعاظم ملك ماواي وفارس فكان هذا مما عزز به أبو الكلام رأيه بكون ذي القرنين هو كورش ملك فارس بالإضافة إلى ما اطلع عليه من مدونات فارسية قديمة عن أعمال كورش وبنائه السد لمنع أذى القبائل المغولية المنعوتة بيأجوج ومأجوج على النحو الذي ذكرناه آنفا.
وأسفار العهد القديم ليست فوق الشبهة في أسلوب تأليفها ووقته وهدفه على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأعراف. ومن جملتها الأسفار الثلاثة ولكنا نعتقد أنها كانت متداولة في أيدي اليهود قبل الميلاد المسيحي بقرون عديدة وأن اليهود كانوا يتداولون ما فيها من أخبار عن كورش وإيمانه بالله وتأييد الله له وما أتاحه له من توفيقات عظيمة خارقة من جملة ذلك ما أشير إليه في القرآن إشارة
100
خاطفة وكونه ذا القرنين في رؤيا دانيال وكون التيس هو الإسكندر المكدوني وأنهم كانوا يفسرون غلبة هذا لملك فارس وتقويضه مملكته في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد بغلبة ذي القرنين على ما كان من غلبته على واحد من خلفاء ذي القرنين.
وأنهم ظلوا يتداولون الأسفار والأخبار إلى زمن النبي ﷺ وكانوا مصدرها بالنسبة لعصر النبي ﷺ وبيئته. وكان ذلك حافزا للسؤال عن ذي القرنين الذي كانت تذكر أخباره العظيمة فأوحى للنبي ﷺ بما شاءت حكمة التنزيل أن يوحى إليه به عن ذلك بأسلوب يتساوق هدفه مع هدف القصص القرآنية من الموعظة والعبرة.
ومع احتمال أن تكون استنتاجات أبي الكلام معقولة فإن هذا يكون واردا بالنسبة لما كان يدور ويتداول من أخبار وآثار وليس على اعتبار أنه الحقيقة التاريخية المقصودة بالآيات القرآنية. لأنه من قبيل التوفيق والتطبيق ولا يمكن أن يعتبر أنه هذه الحقيقة لأن هذا لا يصح إلا إذا كان هناك يقينا من تاريخ أو نصا صريحا في القرآن أو ثابتا عن النبي ﷺ وليس هناك شيء من ذلك. والحديث الوحيد المعزو إلى النبي ﷺ والذي رواه الطبري وأوردناه قبل تفسير ذي القرنين بالشاب اليوناني الذي بنى الاسكندرية. وقد أوردنا المآخذ على هذا الحديث التي تسوغ عدم الأخذ به.
أما مواضع العظة والعبرة في القصة فمنها: أولا: المحاورة التي حكيت بين الله تعالى وذي القرنين وتضمنت تقرير كون ذي القرنين مؤمنا داعيا إلى الإيمان ويعامل المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالحسنى ويعذب الظالمين المنحرفين.
وثانيا: الآية التي تحكي توكيد ذي القرنين بمجيء وعد الله وكونه حقا لا ريب فيه والتي تعني البعث والنشور. وثالثا: ما تضمنته القصة من تقرير كون هذا الملك العظيم الذي بلغ سلطانه وفتوحاته وخطورة شأنه هذا المبلغ الذي كاد يكون سيد مشارق الأرض ومغاربها مؤمنا بالله موقنا باليوم الآخر وداعيا إلى الله ومثيبا للمؤمنين الصالحين بالحسنى ومعاقبا للكافرين الجاحدين حيث يتطابق في صفاته وخطته مع الدعوة التي يدعو إليها النبي ﷺ وتتضمنها آيات القرآن. ورابعا: الآيات [٩٨- ١٠١] التي جاءت معقبة على الآيات القصة التي تبدو وكأنها جزء متمم لها،
101
جاءت لتربط بينها وبين توكيد مجيء القيامة وتنذر الكفار الذين يتصاممون عن آيات الله وذكره ولا يبصرون النور الهادي الذي جاءهم به رسوله بنار جهنم.
ولقد قال المفسر القاسمي في عقب الآيات إنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار. وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب في سياق الوقائع. وهو الحق الذي ما فتئنا ننوه به ثم أخذ يورد على ما ورد على باله من فوائد السياق. فمن ذلك:
١- القيام بالأسباب والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل وكون الفوز والظفر إنما هما على قدر بذل الجهد.
٢- تنشيط الهمم فلا ينبغي أن تكون أهوال الأسفار عذرا في الخمول والرضاء بالدون إذا ما تيسرت الأسباب.
٣- واجب الملك أن يبذل جهده في تحقيق شكوى الشاكين وراحة رعاياه وأمنهم ودفع ما يهددهم من أخطار.
٤- واجبه بالتعفف عن أموالهم إذا ما أغناه الله.
٥- التحدث بنعمة الله.
٦- مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال تنشيطا لهمتهم وترويحا لقلوبهم.
٧- تعريف الغير ثمرة العمل المهم ليعرفوا قدره فيظهروا شكره.
هذا، وإذا كان ليس هناك أحاديث صحيحة عن شخصية ذي القرنين فهناك أحاديث نبوية عديدة منها الوارد في كتب الأحاديث الصحيحة عن يأجوج ومأجوج بحيث يكون محل للكلام عنهم في هذا النطاق. من ذلك حديث رواه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة في سياق تفسير الآيات وفي معرض ذكر السد الذي أنشأه ذو القرنين لمنع أذى يأجوج ومأجوج جاء فيه: «إنّ النبي ﷺ قال: إنّهم يحفرونه كلّ يوم حتّى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله
102
كأشدّ ما كان حتّى إذا أراد الله أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا إن شاء الله، فيرجعون فيجدونه كهيئته حين تركوه فيخرقونه فيخرجون على الناس فيستقون المياه ويفرّ الناس منهم فيرمون بسهامهم في السماء فترجع مخضّبة بالدماء فيقولون قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسرا وعلوّا فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلكون. فوالذي نفسي بيده إنّ دوابّ الأرض تسمن وتبطر وتشكر شكرا من لحومهم» «١». ومنها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري قال: «اطّلع النبي ﷺ علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة. قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدّخان والدجّال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» «٢».
ومنها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن النواس بن سمعان في معرض ذكر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وقتله الدجال جاء فيه: «إن الله يوحي إلى عيسى بعد أن يقتل الدجّال بأنه أخرج عبادا لا يدان لأحد بقتالهم فحرّز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبيّ الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مئة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلّا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث
(١) التاج ج ٤ ص ١٥٢، وفسر الشارح النغف بنوع من الدود يظهر في أنف الإبل والغنم فيهلكها. [.....]
(٢) التاج ج ٥ ص ٣٠٤.
103
شاء الله ثمّ يرسل الله مطرا لا يكنّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتّى يتركها كالزّلقة» «١».
وهناك أحاديث أخرى لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن صحتها محتملة لأنها من باب ما ورد في هذه الكتب منها حديث رواه الطبري عن أبي سعيد الخدري: «أن النبي ﷺ قال: لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل». وحديث أورده ابن كثير ورواه الإمام أحمد عن زينب بنت جحش قالت:
«استيقظ النبيّ ﷺ من نومه وهو محمرّ وجهه وهو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلّق. قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث» «٢». وحديث أورده ابن كثير نقلا عن الطبراني ومرويا عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: «إنّ يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا وإن من ورائهم ثلاث أمم تاويل وتأييس ومنسك» «٣». وهناك أحاديث أخرى أوردها ابن كثير في سياق تفسير سورة الأنبياء ولما ترد في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا، منها حديث رواه الإمام أحمد عن ابن حرملة عن خالته قالت: «خطب رسول الله ﷺ وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب فقال: إنكم تقولون لا عدوّ لكم وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوّا حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه صغار العيون صهب السعاف من كلّ حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة» وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج».
ولقد ذكر يأجوج ومأجوج في القرآن مرة أخرى في آيات سورة الأنبياء هذه:
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ
(١) التاج ج ٥ ص ٣٢١- ٣٢٤ ومعنى لا يدان لا يقدر عليه. وفرسى جمع فريس كقتلى وقتيل بمعنى موتى.
(٢) قال ابن كثير إن هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث وهب.
(٣) قال ابن كثير إن هذا الحديث ضعيف منكر.
104
الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) حيث تفيد صراحة استمرار وجودهم في الدنيا وحبسهم عن الناس إلى الوقت المعين في علم الله حتى يفتح لهم وينطلقون من حبسهم وينسلون من كل حدب.
ولقد ذكر يأجوج ومأجوج في بعض الأسفار المتداولة اليوم من أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد كذلك. بعبارة في بعضها شيء ما من التوافق والتساوق مع ما جاء في القرآن وبعض الأحاديث النبوية أيضا. من ذلك ما جاء في الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر نبوءة حزقيال، وحزقيال هذا من سبي بني إسرائيل إلى بابل ومن أنبيائهم في السبي، ونبوءته تدور على حالة بني إسرائيل وفلسطين وما لا قوه من أهوال وما سيكون أمرهم إليه (وكلمة الرب إليّ قائلا يا ابن البشر اجعل وجهك نحو جوج أرض ماجوج رئيس روش وماشك وتوبل وتنبأ عليه. وقل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا إليك يأجوج رئيس روش وماشك وتوبل فأديرك وأجعل حلقة في فكك أنت وجميع جيوشك خيلا وفرسانا ومعهم فارس وكوش وفوط وجومر وآل توجرن وأقاصي الشمال وجميع جيوشهم وشعوب كثيرون. في آخر السنين تأتي إلى الأرض المنجاة من السيف المجموعة من شعوب كثيرين إلى جبال إسرائيل التي كانت مستوحشة كل حين فتصعد وتأتي كعاصفة وتكون كغمام يغطي الأرض. إنك يأجوج في آخر الأيام تكون فأتي بك على أرضي لكي تعرفني الأمم بأني سأجلبك عليهم. في ذلك اليوم يوم يأتي جوج على أرض إسرائيل يقول السيد الرب يطلع حنقي في وجهي وفي غيرتي ونار غضبي تكلمت. ليكونن في ذلك اليوم ارتعاش عظيم على أرض إسرائيل. فيرتعش من وجهي سمك البحر وطير السماء ووحش الصحراء وجميع الدبابات الدابة على الأرض وجميع البشر على وجه الأرض. وتندك الجبال وتسقط المعاقل وكل سور يسقط إلى الأرض. لكني أدعو السيف عليه في جميع جبالي فيكون سيف كل رجل على أخيه. وأدنيه بالوباء والدم والمطر الطاغي وحجارة البرد وأمطر النار والكبريت عليه وعلى جيوشه وعلى الشعوب الكثيرين الذين معه فأتعظم وأتقدس
105
وأتعرف على عيون أمم كثيرين فيعلمون أني أنا الرب). وجاء في الإصحاح التاسع والثلاثين من السفر نفسه: (وأنت يا ابن البشر تنبأ على جوج وقل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا إليك يأجوج رئيس روش وماشك وتوبل فأديرك وأقتادك وأصعدك من أقاصي الشمال وآتي بك إلى جبال إسرائيل وأضرب قوسك من يدك اليسرى وأسقط سهمك من يدك اليمنى على جبال إسرائيل تسقط أنت وجميع جيوشك والشعوب الذين معك وللجوارح والعصافير وكل ذي جناح ولوحش الصحراء قد جعلتك مأكلا. على وجه الصحراء تسقط لأني تكلمت بقول السيد الرب، وأرسل نارا على ماجوج والساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أني أنا الرب ويخرج سكان مدن إسرائيل بالسلاح ويسلبون الذين سلبوهم، في ذلك اليوم أجعل لجوج موضعا ذا اسم قبرا بإسرائيل وادي العابرين في شرق البحر فيسد الوادي على العابرين فيدفنون هناك جوجا وجميع جمهوره ويسمون الموضع وادي جمهور جوج).
ومن ذلك ما جاء في الإصحاح الثاني من سفر الرسالة الأولى للقديس يوحنا وهو من ملحقات العهد الجديد في صدد المسيح الدجال: (أيها الأولاد هذه هي الساعة الأخيرة ولما أنكم سمعتم أن المسيح الدجال يأتي يوجد الآن مسحاء دجالون كثيرون. فمن هذا نعلم أن هذه هي الساعة الأخيرة). ومن ذلك ما جاء في الإصحاح العشرين من سفر رؤيا هذا القديس وهو كذلك من ملحقات العهد الجديد في صدد يأجوج وماجوج والنبي الكذاب (وإذا تمت الألف سنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في زوايا الأرض الأربع جوج وماجوج ليحشدهم للقتال في عدد كرمل البحر. فطلعوا على سعة الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة. فهبطت نار من عند الله من السماء وأكلتهم وطرح إبليس الذي أضلهم في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب، هناك يعذبون نهارا وليلا إلى دهر الدهور).
وعلى كل حال فإن من واجب المسلم أن يؤمن بوجود قبيلين اسماهما المعرّبان يأجوج ومأجوج وبأنهما خلق عجيب من خلق الله من بني آدم وبأنهما يخرجان في آخر الزمان من كل حدب لأن ذلك مما ورد في القرآن بصراحة
106
وقطعية، ومما ورد عنه تفصيل في أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا ولو لم تدرك أمرهم العقول العادية، مع الوقوف عند ما وقف عنده القرآن، والثابت من الأحاديث النبوية ومع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون لذكرهم بالأسلوب الذي ذكروا به حكمة. ومع ملاحظة أن ذكرهما ورد في أسفار العهد القديم والعهد الجديد التي كانت متداولة بين اليهود والنصارى في زمن النبي ﷺ بما فيه تشابه من بعض النواحي لما ورد عنهم في الأحاديث النبوية، وأن صفات وأخبار هذين القبيلين لم تكن نتيجة لذلك مجهولة في بيئة النبي ﷺ وعصره، ومع ملاحظة أن ذكرهم جاء في سورة الأنبياء كنذير من نذر الله بقرب القيامة وأهوالها.
وجاء في سورة الكهف مع قصة من أهدافها العظة والتدعيم والله تعالى أعلم.
ولم يدع مفسرو غلاة الشيعة هذه القصة دون لمس حيث قالوا في مدى آية:
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) إنها تعني أنه يرد إلى أمير المؤمنين فيعذبه عذابا نكرا حتى يقول يا ليتني كنت ترابا أي من شيعة أبي تراب «١» !. ومؤدى القول أن عليا رضي الله عنه هو الربّ الذي يرجع إليه الناس ليعذبهم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٨]
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)
. (١) ضلّ سعيهم: حبط عملهم وضاع وذهب هباء.
(١) التفسير والمفسرون ج ٢ ص ٧٠.
107
(٢) الفردوس: قيل إنها معرّبة من الرومية وأنها تعني البستان الذي يجتمع فيه التمر والزهر. أو الذي يجمع محاسن كل بستان، أو أواسط الجنات وأفضلها مكانا، وعلى كل حال فالكلمة كانت معرّبة ومندمجة في اللغة الفصحى ومفهومة الدلالة قبل نزول القرآن.
(٣) حولا: تحولا.
عبارة الآيات واضحة، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها.
وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني.
وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر. فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يظل ثابتا مستمرا عليها لأنه يرجو بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي. وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى.
ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [١٠٣] وما بعدها. فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وقوة التدعيم للدعوة النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة.
ولقد روى الطبري عن ابن جريج أن المقصود بكلمة عِبادِي في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه السلام. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين. وعن مقاتل أنهم الأصنام. والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة
108
كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا.
ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية:
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (١٠٣) أحدهما أنهم أهل الصوامع وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين لأنه رضي بالتحكيم وقالوا لا حكم إلّا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين.
وروى عن مصعب بن سعد قال: «سألت أبي عن هذه الآية: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أهم الحرورية؟ قال: لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى. أما اليهود فكذّبوا محمّدا وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا ليس فيها طعام ولا شراب. ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسمّيهم الفاسقين» «١». وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان.
وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال إن الآية عامة الشمول وهو حقّ. ومن العجيب أن تقال وفي الآية [١٠٥] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة.
ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال: «أخبرنا رسول الله ﷺ أنّ الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها». وحديث عن معاذ بن جبل قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض، أعلى درجة منها الفردوس». وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من
(١) انظر التاج ج ٤ ص ١٥٢- ١٥٣.
109
فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما». وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرّحمن تبارك وتعالى ومنه تفجر أنهار الجنة». وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال: «في الجنة مئة درجة ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجّر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس» «١».
والفردوس في أصلها معرّبة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون. والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله ﷺ منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن. مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية.
ولقد روى الطبري في سياق جملة فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة ثم قرأ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً». وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال: «يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً». وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال: «كنّا عند رسول الله ﷺ فأقبل رجل من قريش يخطر في حلّة له، فلما قام قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بريدة هذا ممّن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا». والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان
(١) التاج ج ٥ ص ٣٦٦.
110
بصيغة مقاربة في فصل التفسير عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» ».
والإيمان بالمشهد الأخروي الذي يثبت خبره عن رسول الله ﷺ واجب مع الإيمان بأن لذكر ذلك حكمة. وقصد بيان كون الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمن بالله واليوم الآخر هي النافعة لصاحبها يوم القيامة دون سواها وبخاصة دون المظاهر الخادعة، وقصد الحث على ذلك من الحكمة الملموحة في الأحاديث وهو الملموح في الآيات أيضا.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
. (١) مدادا: حبرا.
في الآيات أمر للنبي ﷺ بأن يقرر للناس أن آيات الله ومشاهد عظمته أوسع وأكثر من أن تحصى حتى لو أريد كتابتها وكان البحر مملوءا بالحبر لنفد الحبر قبل أن تنفد ولنفد بحر من الحبر مثله أيضا قبل أن تنفد. وبأن يقرر لهم أيضا أنه بشر مثلهم، وكل ما في أمره أنه يوحى إليه بأن إلههم واحد لا شريك له وأن على الذين يرجون لقاء الله وما عنده من الحسنى أن يؤمنوا به ويعملوا صالح الأعمال ولا يشركوا به أحدا.
ولقد روى البغوي في سياق الآية الأولى حديثا عن ابن عباس جاء فيه:
«قالت اليهود يا محمّد تزعم أنا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك وَمَنْ يُؤْتَ
(١) التاج ج ٤ ص ١٥٣.
111
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً سورة البقرة: [٢٦٩] ثم تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا سورة الإسراء: [٨٥] فأنزل الله: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً الآية.
روى هذا الحديث الترمذي أيضا «١». ومقتضاه أن تكون الآية مدنية وأن تكون نزلت لحدتها، ولقد روى الطبري عن طاووس عن مجاهد رواية بصيغتين جاء فيها أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يرى موطني ومكاني أو أحبّ أن أعمل وأتصدق وأحب أن يراه الناس فأنزل الله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ... الآية [١١٠] وروى أيضا عن عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان يتلو هذه الآية ويقول: إنها آخر آية نزلت من القرآن. وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ومقتضاها أن تكون هذه الآية أيضا مدنية وأن تكون نزلت لحدتها كذلك. ولم نطلع على رواية تذكر مدنية آية من الآيتين. وهما متساوقتان في الخطاب والوزن ومتساوقتان في الوقت نفسه مع ما قبلهما في الوزن. والسياق جميعه في صدد الكفار، ولذلك نتوقف في الروايات ونرجح أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة وجاءتا في الوقت نفسه خاتمة قوية للسورة واحتوتا تسلية للنبي ﷺ وتسرية عنه تجاه مواقف الكفار الذين حكت الآيات السابقة اتخاذهم آيات الله ورسله هزوا وأنذرتهم من حيث انطواؤهما على تقرير كون مهمته هي إنذار الناس وترك الأمر لهم بعد ذلك. فمن أراد النجاة آمن وعمل صالحا ومن أبى فله الهلاك. وفي الفقرة الأخيرة من الآية الثانية تدعيم للتلقين الذي احتوته الآيات السابقة. وقد يلحظ أن شيئا من الفرق أو المبالغة بين الأولى وبين آية سورة لقمان [٢٧] التي جاء فيها: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ غير أنه لا محل لقول ذلك لأن القصد هنا وهناك هو تعظيم مقدار علم الله وكلماته وتقرير كونهما أعظم من أن يحدهما وصف أو ينفدا بالتسجيل والكتابة، بالعبارة التي اقتضتها حكمة التنزيل في كل من الموضعين.
(١) التاج ج ٤ ص ١٥٣.
112
ولقد روى الطبري في سياق الآية الثانية عن شهر بن حوشب قال: «جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فسأله فقال: أنبئني عمّا أسألك عنه أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحبّ أن يحمد ويصوم ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد؟ فقال عبادة: ليس له شيء إن الله عز وجل يقول: أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كلّه لا حاجة لي فيه». وروى ابن كثير هذا الحديث عن طريق الإمام أحمد بزيادة مهمة فيها صورة رائعة كتناجي أصحاب رسول الله ﷺ بعده وهذا نصه: «قال شهر بن حوشب قال ابن غنم: لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله وشمال أبي الدرداء بيمينه فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى، فقال عبادة: إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من المسلمين من ثبج المسلمين يعني من وسط قراء القرآن على لسان محمد ﷺ فأعاده وأبدأه وأحلّ حلاله وحرّم حرامه ونزل عند منازله لا يحور فيكم إلّا كما يحور رأس الحمار الميت. قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس وعوف بن مالك فجلسا إلينا فقال شدّاد: إن أخوف ما أخاف عليكم أيّها الناس لما سمعت رسول الله ﷺ يقول من الشهوة الخفية والشرك. فقال عبادة وأبو الدرداء:
اللهمّ غفرا ألم يكن رسول الله قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب؟ أما الشهوة الخفية فقد عرفناها هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟ فقال شداد: أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو يتصدق أترون أنه قد أشرك؟ قالوا: نعم والله إن من صلّى لرجل أو صام أو تصدّق له لقد أشرك. فقال شداد: فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من صلّى يرائي فقد أشرك. ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك»
. قال عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد الله إلى ما ابتغى به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عند ذلك: فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنّ الله يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي. من أشرك شيئا فإنّ عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا غني عنه». ولقد أورد ابن كثير نصّا آخر لحديث شداد جاء فيه: «إنه بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: شيء
113
سمعته من رسول الله فأبكاني. سمعته يقول: أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية، قلت: يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه». وأورد ابن كثير إلى هذا وفي سياق الآية أحاديث أخرى من هذا الباب منها حديث أخرجه البزار عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله يوم القيامة أنا خير شريك من أشرك بي أحدا فهو له كلّه». وحديث أخرجه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جرى الناس بأعمالهم:
اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء»
.
وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري قال:
«سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشّرك» والحديث الأخير فقط ورد في كتب الأحاديث الصحيحة الشهيرة وقد رواه مسلم والترمذي «١». وقياسا على ذلك تكون صحة الأحاديث الأخرى محتملة.
وفي الأحاديث توضيح لمدى الآية الثانية التي وردت الأحاديث في صددها وتحذر من أي نوع من أنواع الشرك سواء كان في العقيدة واتخاذ شركاء لله مع الله أم في الأعمال وبيان بأن المقبول عند الله والنافع للمسلم هو ما كان خالصا لله تعالى وحده من ذلك وحثّ عليه. وهذا متسق مع مدى الآية ومدى التلقينات القرآنية عامة ثم مع مدى الطابع المميز للعقيدة الإسلامية بوحدانية الله تعالى دون أي شائبة ولا تأويل ولا اختصاص ولا تعقيد وبالاقتصار على الخضوع له والتعلّق به ونبذ كل ما سواه من قوى أخرى.
(١) التاج ج ٤ ص ١٥٤.
114
Icon