تفسير سورة الحج

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الحج من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
اختلفت العلماء في كون هذه السورة مكية أو مدنية. فقد قيل : إنها مكية إلا ثلاث آيات. وقيل : بل مدنية باستثناء أربع آيات. والصحيح أن السورة مختلطة منها مكي ومنها مدني ؛ لاقتضاء الآيات ذلك.
وكيفما يكن ذلك فإن سورة الحج عظيمة في معانيها وأخبارها وما تضمنته من الأدلة والأحكام والعظات. ومن جملة ذلك : التركيز على الإيمان بيوم القيامة والتنديد بالمعاندين الجاحدين الذين يركبون الهوى والضلال ويتبعون الغاوين والشياطين والمضلين.
وفي السورة تعظيم للحج وشعائره، وذكر لمنافعه الدنيوية والأخروية. ثم الإذن من الله للمسلمين بقتال الكافرين بعد اصطبارهم الشديد على أذاهم وعدوانهم. إلى غير ذلك مما تضمنته هذه السورة من أهوال القيامة، وما يجده الظالمون والمجرمون يومئذ من النكال الشديد. ويأتي في طليعة ذلك كله ما ابتدأت به السورة من الإخبار عن الحدث الداهم الجلل وهو قيام الساعة وما فيها من عصيب البلايا وشديد القواصم.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( ١ ) يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ( ٢ ) ﴾.
يدعو الله عباده أن يخافوه ويحذروا عقابه وانتقامه فيأتمروا بأوامره وينتهوا زواجره. وعلّل ذلك بأن ( زلزلة الساعة شيء عظيم ) والزلزلة هي شدة حركة الشيء. وقال الزمخشري في الكشاف : هي شدة التحريك والإزعاج. والزلازل بمعنى الشدائد١.
واختلف المفسرون في وقت هذه الزلزلة ؛ فقد قيل : إنها كائنة يوم القيامة. وقيل : عند طلوع الشمس من مغربها ؛ فهي شرط من أشراط الساعة، وهي بذلك كائنة قبل يوم القيامة.
وأيا كانت وقت هذه الزلزلة فإن المقصود هولها وفظاعتها التي تضطرب منها الدنيا وتميد بها الأرض بمن عليها من أناس ؛ لتأتي على البشرية حينئذ غاشية من الرعب والحيرة والذهول مما لا يعلم شدته ومداه إلا الله. ومثل هذه المعاني المجلجلة الجسام تكشف عنها كلمات الكتاب الحكيم في هذا الصدد ليجد القارئ المتدبر في ذلك صورة مثيرة ومرعبة عن حقيقة الساعة ودواهيها العظام. وذلك ؛ لأن ( زلزلة الساعة شيء عظيم ) أي أمر هائل وجلل ومَخُوف.
١ - مختار الصحاح ص ٢٧٤..
قوله :( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ) ( يوم )، ظرف منصوب. بما بعده ( تذهل ) أي تذهل في ذلك اليوم، و ( تذهل ) من الذهول وهو النسيان والغفلة١، أو هو الذهاب عن الأمر في دهشة. والمعنى : أن كل والدة ذات رضيع تنسى وتترك ولدها التي ألقمته ثديها. وقيل : ما، مصدرية ؛ أي تذهل عن الإرضاع لفظاعة الزلزلة وشدة اندكاك الأرض من هولها. وكذلك تضع المرأة الحامل جنينها ليندلق ساقطا على الأرض من فداحة الخطب المريع وجلل الزلزلة التي تغشى القلوب والعقول والأبدان.
قوله :( وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) أي ترى الناس يا محمد من عظيم ما نزل بهم من الكرب سكارى. وذلك من فرط ما غشيهم من الذعر والفزع. وهم ليسوا سكارى من شرب الخمر ( ولكن عذاب الله شديد ) وهذا تعليل لما سبق ذكره من ظواهر رهيبة تقع بين يدي الساعة، ومنها ذهول النساء المرضعات عن أولادهن الرضع فيغفلن عنهم لانشداه عقولهن وقلوبهن. وكذلك الحوامل يضعن ما في بطونهن من فرط الخوف وشدة الصدمة، والناس ؛ إذ ذاك مذعورون واجمون حائرون سكارى. وهم في الحقيقة ليسوا سكارى من الشراب بل من فظاعة ما يجدونه من الشدائد وهول ما ينزل بالبشرية من القوارع والبلايا. ٢
١ - مختار الصحاح ص ٢٢٤..
٢ - تفسير البيضاوي ص ٤٣٩ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ٣-٥..
قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ( ٣ ) كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ( ٤ ) ﴾.
نزلت في النضر بن الحارث ؛ إذ كان يزعم في اجتراء ظالم وجحود أن الله غير قادر على إحياء الموتى بعد أن أتى عليهم البلى وصاروا ترابا. قوله :( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ) أي يقول مقالته النكراء هذه، من غير علم ولا حجة، إلا الجهل والسفه والتعنت ( ويتبع كل شيطان مريد ) أي يتبع في قوله هذا كل شيطان عات متمرد. والمراد إبليس وجنوده من الجن والإنس. لاجرم أن الشياطين من الجن والبشر يؤزون الناس إلى الكفر والعصيان والتمرد على منهج الله.
قوله :( كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ) ( أنه من تولاه )، في محل رفع نائب فاعل. والمعنى : كتب على الشيطان أن من اتخذه من الناس نصيرا لنفسه ومعينا من دون الله ؛ فإنه- أي الشيطان- يغويه. لأن من شأن الشيطان إغواء الناس ( ويهديه إلى عذاب السعير ) أي يحمله ويؤزه للفسق عن أمر الله ولفعل المعاصي التي تفضي به إلى السعير، حيث النار المستعرة اللاهبة.
قوله تعالى :( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ( ٥ ) ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير ( ٦ ) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن لله يبعث من في القبور ( ٧ ) }.
هذا برهان من الله لعباده يحتج به على المكابرين المعاندين الذين ينكرون بعث الأموات من قبورهم. وهو برهان ظاهر ومعقول يخاطب به الله الناس على اختلاف مراتبهم في العلم والمعرفة. لا جرم أنه برهان يتميز بالسمو والشمول في الاحتجاج المقنع فيدركه العالمون وغير العالمين. وهو قوله :( إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ) يخاطب الله بذلك المنكرين للبعث والمعاد، الجاحدين ليوم القيامة بقوله لهم : إن كنتم في شك من المعاد وبعث الناس من قبورهم، فها نحن قد خلقناكم من قبل ولم تكونوا شيئا ؛ إذ أنشأناكم من تراب. والمراد أبو البشر آدم، خلقه الله من طين لازب.
قوله :( ثم من نطفة ) وهي الماء، قل أو كثر. ويراد به ههنا المني١ أي جعل الله سلالة آدم من ماء وهو المني يقذف في الأرحام ليستحيل ويصير علقة وهو قوله :( ثم من علقة ) وهي المني ينتقل بعد طوره فيصير دما غليظا متجمدا، ثم ينتقل طورا آخر فيصير لحما وهو المضغة. وقد سميت بذلك ؛ لأنها مقدار ما يمضغ٢.
قوله :( مخلقة وغير مخلقة ) المخلقة، يعني المصورة خلقا تاما فظهر فيها الرأس واليدان والرجلان. وغير المخلقة، بأن تلقيه الأم مضغة غير مصورة فلم يخلق فيها شيء ولا روح فيها.
على أن المولود إذا استهل صارخا ثم مات ؛ فإنه يصلى عليه، وهو إجماع أهل العلم. وإن لم يستهل صارخا ؛ فإنه لا يصلى عليه بل يكتفي بلفه في خرقة ثم دفنه. وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم.
قوله :( لنبين لكم ) أي نبين لكم قدرتنا على ما نشاء من تصريف خلقكم طورا بعد طور ( ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ) الواو للاستئناف. والتقدير : ونحن نقر. وليس معطوفا على قوله ( لنبين ) ٣.
أي نقر الولد في رحم أمه إلى أجل مسمى وهو وقت الوضع، أو أن يسقط قبل ذلك. فمن كتب الله له البقاء والحياة إلى أجله أقرّه في بطن أمه إلى وقته المقدور له فلا تسقطه. فإذا بلغ وقت خروجه من بطنها خرج بإذن الله وتقديره.
قوله :( ثم نخرجكم طفلا ) ( طفلا ) اسم جنس ؛ أي أطفالا، وهو منصوب على التمييز. ويسمى المولود طفلا من بدء انفصاله إلى البلوغ. ويطلق الطفل على المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع. فيقال : طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال وطفلات٤.
قوله :( ثم لتبلغوا أشدكم ) الأشد، معناه كمال القوة والعقل والتمييز، وهو مرحلة الشباب من عمر الإنسان حيث اكتمال القوى وحسن المنظر. وخلاله هذه المرحلة من الشباب، منهم من ينتهي أجله ؛ إذ يتوفاه الله. ومنهم من يمتد به العمر إلى أرذله. وهذه هي سن الشيخوخة والهرم وضعف القوى وتناقض القدرات البدنية والعقلية، وانخرام العزيمة والإرادة وطغيان الضعف والخرف وذلك هو قوله :( ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ) ( أرذل العمر )، أدونه وأخسُّه ؛ إذ يعود في همته وفهمه وقدرته العقلية إلى هيئته الأولى من سن الطفولة وذلك بما يغشاه من هوان العقل ( لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ) فينسى ما كان قد علمه وينكر ما كان قد عرفه. لا جرم أن ذلك برهان ظاهرة على قدرة الله وعظمته في الخلق والإنشاء من العدم ؛ إذ أبدع الإنسان وخلقه أطوارا بدءا بالتراب والنطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم الطفولة فالأشد فالشيخوخة والهرم الذي يؤول إلى الموت والتراب.
إن الله الذي صنع هذا لقادر على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم يوم الحساب.
قوله :( وترى الارض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) وهذا برهان ثان على حقيقة البعث وإحياء الموتى. والأرض الهامدة : التي لا نبات فيها ولا حياة ولا مطر. والهمود، معناه الموت. والهامد، معناه اليابس من النبات٥.
قوله :( فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) ( اهتزت )، أي تحركت بالنبات ؛ من الاهتزاز، هز الشيء فاهتز ؛ أي حرّكه فتحرك٦ ؛ فإن الأرض بنزول المطر فيها يخرج منها النبات فتهتز بانفصال بعضها عن بعض ( وربت ) أي انتفخت. أو ارتفعت وازدادت ؛ ربا الشيء ربو ؛ أي زاد. ومنه الربوة.
قوله :( وأنبتت من كل زوج بهيج ) أي من كل صنف حسن المنظر والشكل والرائحة بما تبتهج به النفس وتستروح. وذلك من أصناف الزروع والثمار على اختلاف ألوانها وطعومها وأشكالها وروائحها.
١ -- المعجم الوسيط جـ٢ ص ٩٣١..
٢ - البيان لابن الانباري جـ٢ ص ١٦٩..
٣ - المصباح المنير جـ٢ ص ٧٦..
٤ - المصباح المنير جـ٢ ص ٢٠..
٥ - القاموس المحيط جـ١ ص ٣٦١..
٦ - مختار الصحاح ص ٦٩٥..
قوله :( ذلك بأن الله هو الحق وانه يحي الموتى ) ( ذلك )، إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان أطوارا ومراحل مختلفة ومتكاملة، وإلى إحياء الأرض بعد موتها. وهو مبتدأ. وخبره ( بأن الله هو الحق ) أي بسبب أنه الثابت في نفسه وهو الموجود المطلق، وأن كل ذي وجود موجود عن وجوب وجوده ( وأنه يحي الموتى ) فهو قادر على إحيائها كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها ما أنبته من مختلف الأصناف والأجناس قوله :( وأنه على كل شيء قدير ) الله يفعل ذلك كله بسبب أنه مقتدر لا يعز عليه صنع ما يشاء وهو فعال لما يريد.
قوله :﴿ وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ﴾ معطوف على قوله :( بأن الله هو الحق ). والمعنى : وليعلموا أن الساعة قائمة لا شك فيها، وان الله يبعث الموتى من قبورهم ليلاقوا الحساب والجزاء١.
١ - تفسير البيضاوي ص ٤٤٠ والكشاف جـ٣ ص ٦..
قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ( ٨ ) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ( ٩ ) ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ( ١٠ ) ﴾ نزلت كذلك في النضر بن الحارث. وقد كرر مقالته للمبالغة في الذم ؛ فقد كان النضر شريرا مؤذيا حديد الكلام، سليط اللسان بما يفتعله من الحديث المصنوع المفترى ليضل الناس عن دين الله. وهو قوله سبحانه :( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ) أي يجادل بالباطل، عن جهل وسفاهة ؛ إذ لا سند له في قوله من علم، ولا هداية من الله، ولا كتاب مستبين الحجة ؛ أي لا يُشفعه في قول عقل سليم ولا دليل من وحي ؛ بل مجرد الرأي والهوى.
قوله :( ثاني عطفه ) ( ثاني )، منصوب على الحال١ ؛ أي لاوي عطفه وعطف الشيء، جانبه٢، أو لاوي رقبته. وهو كناية عن الإعراض الاستكبار ( ليضل عن سبيل الله ) اللام، لام العاقبة. أي يجادل بالباطل فيضل الناس عن دينه ويغويهم، وقيل : لام التعليل. فإضلال الناس عن دينهم علة للجدال من غير علم ولا هداية ولا وحي.
قوله :( له في لدنيا خزي ) أي هوان وذلة بما يُسام من قبيح السيرة ومن سوء الذكر على ألسنة المسلمين دوام الدهر. ولسوف يُسام يوم القيامة شديد العاب بما يجده من فظاعة التحريق وهو قوله سبحانه :( ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ).
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٠..
٢ - المصباح المنير جـ٢ ص ٦٦..
قوله :( ذلك بما قدمت يداك ) أي ما أحاط بك من العذاب سببه ما قدمته أو اقترفته من الكفر والعصيان. و ( ذلك ) تقريع وتوبيخ لكل أفاك مفتر ظلوم.
قوله :( وأن الله ليس بظلام للعبيد ) هذه حقيقة ساطعة بلجة لا يماري فيها إلا فاجر خصيم. وهي أن الله لا يظلم أحدا مثقال ذرة ؛ بل الله يجازي الناس بما قدموه من خير وشر١.
١ - تفسير القرطبي جـ١٢ ص ١٦ وتفسير البيضاوي ص ٤٤٠..
قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ( ١١ ) يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد ( ١٢ ) يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير ( ١٣ ) ﴾ في سبب نزول هذه الآيات أخرج البخاري عن ابن عباس قال : كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال : هذا دين صالح. وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء. وعن ابن عباس كلك قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي ( ص ) فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن قالوا : إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به. وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا : ما في ديننا هذا خير، فأنزل الله على نبيه ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) الآية١ وحرف كل شيء، طرفه وشفيره وحده٢ أي يعبد الله على شك واضطراب. أو على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه فلا ثبات له فيه، كالذي يكون على طرف الجيش فإن أحس بظفر ثبت واستقر، وإلا تولى نافرا وأدبر.
قوله :( فإن أصابه خير اطمأن به ) ذلك تبيين لعبادة الله على حرف. فشأن الذي يعبد الله على حرف، أنه إن أصابته نعمة ورخاء وبسطة في العيش، رضي واطمأن بدينه وقرّ عليه ( وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ) أي إن أصابه بلاء من فساد الصحة، وذهاب المال أو الولد أو غير ذلك من وجوه المصائب ؛ فإنه ينتكس مرتدا ليعود في الكفر فيحبط عمله ويبوء بالخسران الأكبر وهو خُسران الدنيا بتعس الحظ وسوء الذكر وقبيح السيرة، وخسران الآخرة حيث العقاب الأليم.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٠٩، وأسباب النزول للنيسابوري ص ٢٠٧..
٢ - مختار الصحح ص ١٣١..
قوله :( يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ) أي هذا الذي يعبد الله على حرف، والذي أصابته فتنة فارتد عن دين الله، يعبد من دون الله أصناما لا تضره ولا تنفعه بدلا من عبادة الله وحده خالق الأصنام ورب الأرباب جميعا ( ذلك هو الضلال البعيد ) ذلك هو الاعوجاج في القصد والمذهب، والزيغ عن منهج الله زيغا موغلا في العمه والتيه.
قوله :( يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه ) من، في موضع نصب مفعول ( يدعوا ) واللام في غير موضعها. وتقديره : يدعو من لضره أقرب من نفعه. ( ضره )، مبتدأ و ( أقرب من نفعه ) من نفعه خبر. وقيل : مفعول ( يدعوا ) محذوف، واللام في موضعها. وتقديره : يدعو إليها لمن ضره أقرب من نفعه. مَنْ، مبتدأ. وخبره ( أقرب من نفعه ) ١ والمعنى : أن هذا الخاسر المنقلب على وجهه يعبد آلهة مصنوعة، ضرها أقرب من نفعها وذلك في الدنيا والآخرة، فعادتها في الدنيا تفضي إلى التخبط والضلال والفساد في القصد والمسعى وإلى اضطراب السلوك والعيش التاعس المنكود. ثم تؤول في الآخرة إلى الخسران والسقوط في جهنم.
قوله :( لبئس المولى ولبئس العشير ) أي لبئس هذا الصنم الذي عُبد من دون الله، وليا وناصرا ( ولبئس العشير ) أي الصاحب والمعاشر. والمراد ذم المشركين الواهمين الذين يبتغون العون والنصرة من مبعوديهم من الطواغيت ومن رؤساء الضلال والكفر٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٠..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢١٠ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ١٦..
قوله تعالى :﴿ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد ( ١٤ ) ﴾ بعد أن ذكر حال المشركين- الذين توغلوا في حب الأصنام وعبادتها، والذين أسرفوا في حب الطواغيت والأنداد على اختلاف أجناسها ومسمياتها- ذكر حال المؤمنين الذين كتب الله لهم النجاة والسعادة في الآخرة جزاء إيمانهم وعملهم الصالحات، أولئك لهم الدرجات السامقات العاليات.
قوله :( إن الله يفعل ما يريد ) إذ ؛ يجازي المؤمنين حسن الثواب، والمشركين والمنافقين أشد العقاب.
قوله تعالى :( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ( ١٥ ) وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد ( ١٦ ) ) الضمير في ( ينصره ) عائد على محمد ( ص ). والسبب، معناه الحبل أو ما يتوصل به إلى الشيء. والمعنى : من كان يظن أن الله لن ينصر رسوله محمدا ( ص ) فليبتغ حيلة تدفع عنه النصر. وهي أن يمد إلى السماء حبلا فيتشبث به، ثم ليقطع حبله فيرى هل تذهبن حيلته هذه ما يعتور قلبه من التغيظ من نصر الله رسوله ( ص )، والمراد : أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بفعل ما يقطع النصر عن النبي فإنه لا يبلغ إلى قطع النصر عنه ؛ لأن الله ناصره لا محالة. ولا يخفى ما في ذلك من بالغ التهكم اللاذع بالمجرمين الحاقدين الذين تتغيظ قلوبهم حسدا وحقدا بنصر الله لرسول الأمين. وبعبارة أخرى : من كان يظن أن الله غير ناصر رسوله محمدا ( ص ) وكتابه ودينه ؛ فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك يغيظه ؛ فإن الله ناصره لا محالة. وقال ابن عباس في تأويل الآية : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا ( ص ) في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب ؛ أي بحبل إلى سماء بيته ( ثم ليقطع ) أي ثم ليختنق به.
وقال صاحب الكشاف : والمعنى أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة. فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ويغيظه أن يظفر بمطلوبه ؛ فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بان يفعل ما يفعل من بلغ من الغيظ كل مبلغ حتى مد حبلا إلى سماء بيته فاختنق، فلينظر وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه. وسمي فعله كيدا ؛ لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره. أو على سبيل الاستهزاء ؛ لأنه لم يكد محسوده إنما كاد به نفسه. والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه.
قوله :﴿ وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد ﴾ الكاف صفة لمصدر محذوف، تقديره الإنزال ؛ أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله ( آيات بينات ).
أي واضحات مفصلات. وكذلك ؛ لأن الله يهدي بهذا القرآن الذين يعلم الله أنهم يؤمنون١
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢١٠ والكشاف جـ٣ ص ٨..
قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ( ١٨ ) ﴾ خبر ( إن ) الأولى، محذوف. وقيل : الخبر قوله :( إن الله يفصل بينهم ) ١ والمعنى :( إن الذين آمنوا )، وهم المؤمنون بالله ورسوله محمد ( ص ) وما أنزل عليه من كتاب وهو القرآن. ( والذين هادوا )، أي اليهود وهم المنتسبون لملة موسى عليه السلام. و ( الصائبين ). هم قوم يعبدون الملائكة وقيل : يعبدون النجوم. و ( النصارى )، وهم المنتسبون لملة عيسى عليه السلام. و ( والمجوس )، وهم الذين يعبدون الشمس والقمر والنار ( والذين أشركوا )، يراد بهم عبدة الأوثان. قوله :( إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ) أي يقضي الله بين هؤلاء جميعا يوم القيامة، فيجازي الكافرين الأخسرين بضلالهم وفسقهم عن منهج الله الحق. ويجازي المؤمنين المصدقين المذعنين لله بالطاعة والامتثال، ما أعده لهم من عظيم الجزاء وحسن الثواب.
قوله :( إن الله على كل شيء شهيد ) الله شهيد على أفعال عباده من خير أو شر. وهو سبحانه لا يعزب عن علمه شيء مما يفعله العباد سواء فيهم المؤمنون والجاحدون.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ث ١٧١.
قوله تعالى :﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ( ١٨ ) ﴾ المراد بالرؤية، ما كان بالقلب ؛ أي ألم تر يا محمد بقلبك وعقلك فتعلم أن الله يسجد له من في السموات من الملائكة، ومن في الأرض من الجن. وكذا الشمس والقمر والنجوم، كل ذلك يسجد لله وسجوده امتثاله الكامل لله. وهيئة ذلك إنما يعلم حقيقتها الله. وأما الجبال والشجر والدواب، فسجود ذلك ظلاله حين تطلع عليه الشمس وحين تزول. فتحول الظل للشيء هو سجوده.
قوله :( وكثير من الناس ) ( كثير )، مرفوع بالعطف على ( من ) في قوله :( يسجد له من في السماوات ). وقيل : مرفوع على الابتداء. وما بعده خبره. وقيل : خبره محذوف وتقديره : وكثير من الناس ثبت له الثواب١.
والمعنى : ويسجد كثير من بني آدم لله وهم المؤمنون الطائعون العابدون.
قوله :( وكثير حق عليه العذاب ) معطوف على كثير الأول ؛ أي كثير من بني آدم امتنع وأبى واستكبر فحق عليه العذاب.
قوله :( ومن يهن الله فما له من مكرم ) أي من كتب الله له الشقاوة والمهانة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه وضلاله ؛ فليس له من مكرم يكرمه بالسعادة ( إن الله يفعل ما يشاء ) أي يفعل في خلقه ما يقدره من الإهانة والإكرام وهو سبحانه لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. ٢
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧١..
٢ - تفسير الطبري جـ١٧ ص ٩٨ وتفسير البيضاوي ص ٤٤٢..
قوله تعالى :﴿ هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم ( ١٩ ) يصهر به ما في بطونهم والجلود ( ٢٠ ) ولهم مقامع من حديد ( ٢١ ) كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ( ٢٢ ) ﴾.
ذكر في سبب نزول هذه الآية أنه اختصم المسلمون وأهل الكتاب. فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم ؛ فنحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها. ونبينا خاتم الأنبياء ؛ فنحن أولى بالله منكم، فأفلج الله الإسلام على من ناوأه١. وأفلجه، بمعنى أظهره٢.
الله جل وعلا يتوعد الطغاة والعصاة والفاسقين عن أمره وشرعه بعقابه الفظيع الوجيع. ويشار إلى هذه الفظاعة في التنكيل بهذه الكلمات الربانية المثيرة ذات الدلالة الظاهرة على اشتداد العذاب الموعود. العذاب الواصب البئيس الذي أعده الله للمجرمين المستكبرين وهو قوله سبحانه :( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) أي أحاطت بأجسادهم النار كالثياب تغشى الأبدان ( يصب من فوق رؤوسهم الحميم ) أي يصب على رؤوسهم الماء هو في غاية الغليان والحرارة.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢١٢ وأسباب النزول للنيسابوري ص ٢٠٧..
٢ - مختار الصحاح ص ٥١٠..
فيذيب جلودهم وما في بطونهم من الأحشاء والأمعاء وهو قوله :﴿ يصهر به ما في بطونهم والجلود ﴾ ( ما )، في محل رفع نائب فاعل.
قوله :﴿ ولهم مقامع من حديد ﴾ المقامع، جمع مقمع وهو من حديد، كالمحجن يضرب به على رأسه الفيل١ والمراد بالمقامع ههنا : سياط من نار. وقيل : مطارق يضرب بها المجرمون على رؤوسهم وأبدانهم ضربا تتزلزل منه الجبال وتضطرب. وقد أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد أن رسول الله ( ص ) قال : " لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض ".
١ - مختار الصحاح ص ٥٥١..
قوله :( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ) ( من غم )، في موضع نصب، بدل من الهاء في قوله :( منها ) والتقدير : كلما أرادوا أن يخرجوا من غم أعيدوا فيها١. والمعنى : أن المجرمين يحاولون أن يخرجوا من النار حين تضطرب بهم النار وتفور، فيرفعهم اللهب إلى أعلى، فتضربهم الملائكة الشداد بمقامع الحديد ضربا غليظا وجيعا لا رحمة فيه فيهوون في النار، ليجدوا من ويلها وفظاعة حريقها ما لا تتخيله الأذهان في هذه الدنيا.
قوله :( وذوقوا عذاب الحريق ) أي تقول لهم الملائكة : ذوقوا النار البالغة في الإحراق. والحريق الاسم من الاحتراق. والمراد : إدراك الألم بذوق النار وهو مسها٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٢..
٢ - تفسير القرطبي جـ١٢ ص ٢٨ وتفسير البيضاوي ص ٤٤٢..
قوله تعالى :( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير ( ٢٣ ) وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ( ٢٤ ) ) بعد أن ذكر حال المعذبين في النار وما يجدونه فيها من شدة اللهب وفظاعة التحريق والنكال والأغلال، شرع يذكر حال السعداء من أهل الجنة ؛ إذ ينعمون فيها بالخير الدائم والقرار الآمن الكريم. وذلك في الجنة وما فيها من أنهار جارية مناسبة تنساح في أكنافها وخلالها. وهم كذلك ( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ) لؤلؤا، منصوب بفعل مقدر. أي يُعطون لؤلؤاً.
قال المفسرون : لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة ( ولباسهم فيها حرير ) أي أكسيتهم في الجنة مما يلبسونه من فُرشهم ولباسهم وستورهم، من حرير ؛ فقد أباح الله لأهل الجنة التحلي بالذهب والاكتساء بالحرير، وقد كان ذلك في الدنيا حراما على الرجال دون النساء. لكن المؤمنين أعطوا من أصناف النعيم والزينة في الجنة ما يحقق لهم كامل السعادة الأبدية والرخاء المستديم.
قوله :( وهدوا إلى الطيب من القول ) هدى الله المؤمنين في الدنيا إلى الكلام الطيب وهو قولهم : لا إله إلا الله. وقيل : القرآن. وكذلك هداهم ( إلى صراط الحميد ) أي طريقه المحمود وهو دين الإسلام ؛ ففيه صلاحهم ونجاتهم وسعادتهم. وقيل : ألهمهم قول الطيب من القول في الجنة وهو قولهم :( الحمد لله الذي هدانا لهذا ) ( الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ). ونحو هذا من شكر الله والتسبيح بحمده.
وكذلك هداهم الله يوم القيامة إلى صراطه المحمود وهو الجنة. وهذا الذي يدل عليه سياق الآية.
قوله تعالى :﴿ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ( ٢٥ ) ﴾ روي أنها نزلت حين خرج النبي ( ص ) في غزوة الحديبية عام ست، فصدّه المشركون عن دخول البيت ومنعوه فقاضاهم على العام المستقبل، وقضى عمرته في مكانه ونحر هديه وحلق رأسه ورجع إلى المدينة١.
وفي المراد بالمسجد الحرام قولان. أحدهما : أنه المسجد نفسه دون الحرم كله وهو ظاهر القرآن ؛ لأنه لم يذكر غيره. وثانيهما : أنه الحرم كله ؛ لأن المشركين صدوا رسول الله ( ص ) وأصحابه عنه عام الحديبية فنزل خارجا عنه في الحل وقد عيّرهم الله بذلك في قوله :( وصدوكم عن المسجد الحرام ).
قوله :( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) واو ( ويصدون ) للعطف. والتقدير : إن الكافرين والصادين. وقيل : الواو واو الحال ؛ أي إن الذين كفروا صادين عن سبيل الله. وخبر ( إن ) مقدر. وتقديره : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله معذبون٢ و ( العاكف )، معناه المقيم المواظب٣ ( والباد ) يعني أهل البادية ومن يقدم عليهم ؛ أي يستوي في تعظيم حرمة المسجد الحرام وفي قضاء النسك فيه، الحاضر، أو لذي يأتيه من البلاد الأخرى. فليس أحدهما بأحق فيه من الآخر.
وفي المراد بالتسوية قولان : أحدهما : التسوية في دور المسجد الحرام وفي منازله ؛ إذ ليس المقيم فيها بأولى من الطارئ عليها.
ثانيهما : أنهما سواء في حق الحرمة والنسك. والظاهر عموم التسوية في ذلك كله وهو قول ابن عباس وعمر بن الخطاب وآخرين. وهو مذهب مالك ؛ فقد روي أن عمر كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة حتى يدخلها الذي يقدم عليها فينزل حيث شاء. وقد روي عنه أيضا أنه نهى أن تغلق مكة زمن الحاج، وأن الناس كانوا ينزلون منها حيث وجدوا فارغا، حتى كانوا يضربون الفساطيط في جوف الدور.
وجملة ذلك : أن القادم له النزول حيث وجد فراغا، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى.
وهذا الخلاف أصله أن دور مكة في ملك لأربابها أم هي للناس جميعا. وهذا الأصل مبني على أن مكة هل فتحت عنوة أو صلحا ؛ فقد قيل : إنها فتحت عنوة فتكون بذلك مغنومة. لكن النبي ( ص ) لم يقسمها ؛ بل منّ على أهلها في أنفسهم فسموا الطلقاء. ومنّ عليهم في أموالهم وتركهم في منازلهم على أحوال من غير تغيير عليهم. وبذلك أقرّها لأهلها ولمن جاء بعدهم ؛ فهي بذلك لا تباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وهذا قول الإمامين مالك وأبي حنيفة وقال به الأوزاعي. واحتجوا لذلك بما رواه عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله ( ص ) وأبو بكر وعمر وما تُدعى رباع٤ مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها. وروي عن عمر بن الخطاب أنه كان ينهى عن تبويب دور مكة ؛ لأن ينزل الحاج في عرصاتها. فكان أول من بوّب داره سهيل بن عمرو فأرسل إليه عمر ابن الخطاب في ذلك فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري. قال : فلك ذلك إذا.
وذهب الإمام أحمد إلى الوسط من ذلك فقال : تملك الدور بمكة وتورث ولا تؤجر ؛ جمعا بين الأدلة.
قوله :( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) الإلحاد في اللغة، بمعنى الطعن والميل عن طريق القصد. والحد، جار وظلم. وألحد في الحرم، أي استحل حرمته وانتهكها٥. والباء حرف جر زائد. وتقديره : ومن يرد إلحاحا بظلم. والباء هذه للسببية. والمعنى : ومن يرد فيه إلحادا بسبب الظلم. والظلم، هو وضع الشيء في غير موضعه ؛ أي من يبتغ أن يفعل في الحرم من المعاصي والآثام عامدا، قاصدا أنه ظلم، كالشرك والقتل العمد وظلم الناس والإساءة الفاحشة إليهم، إلى غير ذلك من وجوه المعاصي والخطايا ( نذقه من عذاب أليم ) جواب الشرط ؛ أي من فعل ما ذكر من وجوه الإلحاد في المسجد الحرام ؛ فقد وجب له العذاب الأليم.
على أن الجنايات تعظم على قدر عظم الزمان، كالأشهر الحرم، وعلى قدر عظم المكان، كالبلد الحرام، فتكون المعصية معصيتين : إحداهما، بنفس الفعل المحظور. والثانية بإسقاط فضيلة الشهر الحرام أو البلد الحرام٦.
١ - أحاكم القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٦٢..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٣..
٣ - المصباح المنير جـ٢ ص ٧٥..
٤ - رباع، جمع ومفرده ربع بسكون الباء ومعناه الدار. انظر مختار الصحاح ص ٢٩..
٥ - المصباح المنير جـ٢ ص ٢١٢ والمعجم الوسيط جـ٢ ص ٨١٧..
٦ - أحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٦٣-١٢٦٥ وتفسير القرطبي جـ١٢ ص ٣٢-٣٥ وتفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٢١٤..
قوله تعالى :﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ( ٢٦ ) وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ( ٢٧ ) ﴾ ثمة تقريع وتوبيخ للمشركين الذين عبدوا آلهة من دون الله. وذلك في البقعة المباركة التي أسست من أول يوم على عبادة الله وحده، وتوحيده دون غيره من الأنداد والشركاء. لكن المشركين اتبعوا الضلال والغي، ومضوا في ظلام الشرك والوثنية يعبدون مع الله آلهة أخرى بعد أن أسس إبراهيم البيت العتيق ليكون مثابة لتوحيد الله سبحانه. وهذا هو قوله :( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) أي واذكر حين عيّنا أو وطأنا لإبراهيم مكان البيت الحرام وذلك بعد انطماسه القديم. والمراد بالبيت الكعبة.
قوله :( أن لا تشرك بي شيئا ) ( أن )، مخففة من الثقيلة، والتقدير : أنه لا تشرك بي شيئا. وقيل : مفسرة بمعنى أي. والتقدير : أي لا تشرك بي شيئا. وقيل :( أن )، زائدة١ والمخاطب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إذ أمره ربه ببناء الكعبة لعبادة الله وحده دون شريك غيره.
قوله :( وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ) أي طهر الكعبة من الشرك والأوثان والأنجاس والأقذار لمن يطوف بها ويصلي فيها.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٤..
قوله :( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر ) ( وأذن )، بالتشديد يعني ناد.. وقد ذكر أن إبراهيم لما فرغ من بناء البيت قيل له :( وأذن في الناس بالحج ) أي ناد في الناس داعيا لهم إلى الحج لهذا البيت ( يأتوك رجالا وعلى كل ضامر ) ( رجالا )، حال من واوا ( يأتوك ). ( وعلى كل ضامر )، في موضع نصب على الحال وتقديره : يأتوك رجالا وركبانا١. ورجالا، جمع راجل ؛ أي مشاة. و ( ضامر ) بمعنى ضوامر. والضامر معناه البعير المهزول الذي أتعبه السفر.
قوله :( يأتين من كل فج عميق ) ( يأتين )، صفة لضامر ؛ لأنه في معنى الجمع. فهو يعني ضوامر ؛ أي كل ضوامر يأتين. وقرأ بعضهم ( يأتون ) على أنه صفة لقوله :( رجالا ) والفج العميق ؛ أي الطريق الواسع البعيد. والجمع فجاج٢.
١ - نفس المصدر السابق..
٢ - تفسير الرازي جـ٢٣ ص ٢٩ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٣٨-٤٠..
قوله تعالى :﴿ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ( ٢٨ ) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ( ٢٩ ) ﴾ أي ناد في الناس بالحج يأتوك مشاة وركبانا ليحضروا ( منافع لهم ) ووجوه المنافع التي يحضرونها كثيرة : منها أداء المناسك كعرفات والمشعر الحرام حيث الذكر والتسبيح والتهليل والدعاء في تضرع وتذلل إلى الله عسى أن يستجيب ويكفّر الخطايا والذنوب، وغير ذلك من وجوه المنفعة كالتجارات والزيارات وقضاء المصالح والحوائج المختلفة مما فيه إرضاء لله، وتحصيل منافع الدنيا والآخرة.
قوله :( ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ) ويراد بالذكر هنا، التسمية عند الذبح أو النحر لكل من الهدي أو الأضحية. وهو أن يقول الذابح أو الناحر : باسم الله والله أكبر. أو قوله :( إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) الآية. وفي ذلك تنبيه على أن الغرض فيما يتقرب به إلى الله هو ذكر اسمه تعالى وما يقتضيه ذلك من مخالفة المشركين في مثل هذه المسألة ؛ إذ كانوا يذبحون أو ينحرون الأنعام للنصب والأوثان.
أما الأيام المعلومات : فالمراد بها العشر من ذي الحجة. وهو قول أكثر أهل العلم. وقال به ابن عباس واختاره الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة. وفي فضل هذه الأيام العشر روى الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( ص ) : " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد "
وقيل : المراد بالأيام المعلومات : ثلاثة أيام. وهي يوم النحر، ويومان بعده. وهو مذهب مالك. وقيل : يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده، وهي رواية عن ابن عباس.
قوله :( على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) أي يذكرون اسم الله وحده على ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم.
قوله :( فكلوا منها ) أي كلوا مما ذكرتم اسم الله عليه من بهيمة الأنعام. والأمر هنا يفيد الندب وليس الوجوب. وهو قول الجمهور. وبذلك يستحب للمرء أن يأكل من هديه أو ضحيته، وأن يتصدق بمعظمها ويجوز التصدق بالكل. وقيل : يجب الأكل منها استنادا إلى ظاهر الآية ( فكلوا ) والصواب القول بالندب.
وذهب كثير من أهل العلم وفيهم الحنفية إلى أن المضحي يستحب له التصدق بالثلث، وأن يطعم الثلث، ويأكل هو وأهله الثلث. أما عند الشافعية فيأكل النصف. ويتصدق بالنصف الآخر، لقوله :( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) فذكر شخصين. وفي قول لهم ثان : يأكل هو وأهله ثلثا. ويتصدق بثلث، ويطعم ثلثا.
على أن المسافر مخاطب بالأضحية كالمقيم لعموم الخطاب وخالف الإمام أبو حنيفة في ذلك. واستثنى الإمام مالك من المسافرين الحاج بمنى ؛ إذ لم ير عليه أضحية. وروي هذا عن أبي بكر وعمر وجماعة من السلف رضي الله عنهم ؛ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي. فإذا أراد أن يضحي جعله هديا.
أما حكم الادخار، ففيه عدة أقوال. أولها : عدم الادخار بعد ثلاثة أيام. وهو مروي عن علي وابن عمر ؛ وذلك لأخبار النهي عن الادخار.
ثانيها : أن النهي عن الادخار منسوخ. وبذلك يذخر إلى أي وقت أحب. وقال به أبو سعيد الخذري.
ثالثها : جواز الأكل من الأضاحي مطلقا.
رابعها : إن كانت بالناس حاجة إلى لحوم الأضاحي فلا يدخر ؛ لأن النهي إنما كانت لعلة وهي قوله ( ص ) : " إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت " والدافة، قوم قدموا المدينة عند الأضحى فنهاهن عن ادخار لحوم الأضاحي ليتصدقوا بها فينتفع بها هؤلاء.
قوله :( وأطعموا البائس الفقير ) ( البائس ) من البؤس وهو الشدة، والحاجة١، والبائس من أصابه بؤس أي شدة. أو هو الذي أصابه ضرّ الحاجة والجوع. و ( الفقير )، هو الذي لا شيء له. وقيل : المتعفف.
١ - مختار الصحاح ص ٣٩..
قوله :( ثم ليقضوا تفثهم ) التفث في المناسك، ما كان في نحو قص الأظفار والشارب وحلق الرأس والعانة ورمي الجمار وأشباه ذلك١ وقيل في معنى التفث عدة أقوال : منها : أن التفث حلق الشعر ولبس الثياب وما أتبع ذلك مما يُحل به المحرم. وهو قول مالك.
ومنها : أنه مناسك الحجر. رواه ابن عمر وابن عباس.
ومنها : حلق الرأس. وهو قول قتادة.
ومنها : رمي الجمار. وهو قول مجاهد.
ومنها : إزالة قشف الإحرام من تقليم أظفار، وأخذ شعر، وغسل، واستعمال طيب. وقال به الحسن البصري.
قال صاحب الكشاف : قضاء التفث : قص الشارب والأظفار ونتف الإبط، والاستحداد، والتفث الوسخ. فالمراد قضاء إزالة التفث.
قوله :( وليوفوا نذورهم ) النذر، كل ما لزم الإنسان أو التزمه. والمراد به هنا : ما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج. وقيل : كل نذر إلى أجل. وقال صاحب الكشاف : مواجب حجهم أو ما عسى ينذرونه من أعمال البر في حجهم. والمقصود : أنهم أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا وفاء لنذر في معصية الله " وقوله ( ص ) : " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه ".
قوله :( وليطوفوا بالبيت العتيق ) المراد به عند جمهور العلماء طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة. وهو ركن الحج من غير خلاف. وبه يتم الحج وهو نهاية أركانه. وهكذا صنع رسول الله ( ص ) ؛ فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة فرماها بسبع حصيات. ثم نحر هديه وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت.
وقيل : المراد به طواف الصدر وهو طواف الوداع. والصواب الأول. وهو طواف الإفاضة ؛ لأن الأمر في الآية على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب.
أما طواف الوداع وكذا القدوم فليس بواجب.
وأما العتيق، فمعناه القديم. سمي بذلك ؛ لأنه أول بيت وضع للناس.
وقيل : لأن الله أعتقه من تسلّط الجبابرة. فكم من جبار سار إليه ليصيب به منه شرا أو خرابا فمنعه الله أو قصمه قصما. وقد روى الترمذي عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله ( ص ) : " إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر عليه جبار " ٢
١ - مختار الصحاح ص ٧٨..
٢ -أحكام القرآن للجصاص جـ٥ ص ٧٢-٧٤ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٦٨-١٦٧٢ والكشاف جـ٣ ص ١١..
قوله تعالى :﴿ ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ( ٣٠ ) حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾.
اسم الإشارة ( ذلك ). في موضع رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ؛ أي الأمر ذلك. وقيل : في محل جر، صفة للبيت العتيق١ والأظهر الأول، وهو الأمر والشأن ذلك قال الزمخشري : كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم أراد الخوض في معنى آخر، قال : هذا وقد كان كذا.
وقال ابن جرير الطبري : إن هذا الذي أمر الله به من قضاء التفث والوفاء بالنذور والطواف بالبيت هو الفرض الواجب عليكم.
و ( حرمات الله )، امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. والحرمات، جمع حرمة وهي ما لا يحل هتكه. ويحتمل ان يكون ذلك عاما في جميع التكاليف، ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج. وعن زيد بن أسلم قال : الحرمات خمس : الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمُحرم حتى يحل. والمراد : أن يجتنب المحرم ما أمر الله باجتنابه في حال إحرامه، تعظيما منه لحدود الله أن يواقعها. وذلك خير له عند ربه فيما أعده له من حسن الجزاء يوم لقائه.
قوله :( وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) أحل الله لكم الأكل من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، واستثنى ما يتلى عليكم في كتابه الحكيم من المحرمات وهي الواردة في سورة المائدة كالميتة والدم ولحم الخنزير ؛ أي أن الله أحل لكم سائر الأنعام إلا ما استثناه في كتابه الكريم.
قوله :( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) ( الرجس )، بمعنى القذر أو النجس٢.
( من )، لتبيين الجنس٣ أي فاجتنبوا القذر الذي هو الأوثان كما تُجتنب الأنجاس. وهذه غاية المبالغة في النهي عن تعظيم الأوثان والتنفير من عبادتها.
قوله :( واجتنبوا قول الزور ) قرن الشرك بقول الزور تنبيها على عظيم جرم هذه المعصية. وفي التنديد بهذه الجريمة الكبرى أخرج في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله ( ص ) قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " قلنا : بلى يا رسول الله. قال " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين " وكان متكئا فجلس فقال : " ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور ". فما زال يكرره حتى قلنا ليته سكت.
أما الزور، فمعناه الكذب وشهادة الباطل. والازورار، معناه العدل والانحراف عن الحق والاستقامة٤.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٤..
٢ - مختار الصحاح ص ٢٣٤..
٣ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٤..
٤ - المعجم الوسيط جـ١ ص ٤٠٦ ومختار الصحاح ص ٢٧٨..
قوله :( حنفاء لله غير مشركين به ) ( حنفاء )، منصوب على الحال، من الضمير في اجتنبوا. وكذلك، ( غير )، منصوب على الحال١ و ( حنفاء )، جمع حنيف وهو المسلم المائل إلى الدين المستقيم٢ فالمراد بالحنفاء، المسلمون المائلون إلى الحق، المستقيمون على الحنيفية السمحة وهي ملة التوحيد.
قوله :( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) هذا مثل فيه من روعة المفردات وعجيب التناسق بين الكلمات المنسجمة ما يرسم للخيال صورة مثيرة تكشف عن فداحة الخسران لهذا التاعس الخاسر. مثل، يضربه الله لحال الشرك في ضلال مسعاه وفساد قصده ؛ إذ يتيه ضالا متخبطا وهو يعبد من دون الله آلهة مصطنعة موهومة، فمثله كمن انحط ساقطا من أعالي الدرجات إلى الأسافل، فتظفر به الطير ثم تقطعه تقطيعا أو تعصف به الريح فتهوي به في المهاوي الموغلة في البعد.
وذلك هو شأن الذي يتخبط ساقطا من معالي الإيمان والهداية إلى حضيض الضلال والغواية٣.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٥..
٢ - القاموس المحيط جـ٤ ص ١٣٤ والمصباح المنير جـ١ ص ١٦٧..
٣ -الكشاف جـ٣ ص ١٢ وفتح القدير جـ٣ ص ٤٥١..
قوله تعالى :﴿ ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ( ٣٢ ) لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ( ٣٣ ) ﴾.
اسم الإشارة ( ذلك ) في موضع رفع مبتدأ ؛ أي ذلك أمر الله. وقيل : في موضع رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. والشعائر، في الأصل بمعنى العلامات أو المعالم التي تعرف بها الأشياء، وواحدتها شعيرة، وهي العلامة التي تشعر بما جعلت له. وإشعار البدن هو أن تعلّم بما يشعر أنها هدي.
والمراد بالشعائر هنا على أقوال : منها : أنها مناسك الحج كعرفة والمزدلفة والصفا والمروة ورمي الجمار.
ومنها : أنها أوامر الله وهي اتباع طاعته واجتناب معصيته.
ومنها : أنها البدن، أو الهدايا التي يسوقها الحاج للحرم ؛ لأنها من معالم الحج. وتعظيمها، معناه استحسانها واستسمانها ؛ إذ يختارها صاحبها عظام الأجرام حسانا سمانا غالية الأثمان ؛ ليكثر الانتفاع بها. وقيل : المراد بشعائر الله هذه الوجوه كلها. وعلى الخصوص، الهدايا أو البدن.
قوله :( فإنها من تقوى القلوب ) الضمير عائد على الشعائر ؛ أي أن تعظيم هذه الشعائر من التقوى الذي تفيض به القلوب. ذلك أن القلوب مستقر التقوى وهو الخوف والخشية من الله. وفي الحديث الصحيح : " التقوى ههنا " وأشار إلى صدره.
قوله :( لكم فيها منافع ) أي في الشعائر على عموم المراد بها، وعلى الخصوص، البدن، فإن فيها للناس منافع كالتجارة والركوب والدر والنسل والأكل وغير ذلك.
قوله :( إلى اجل مسمى ) وهو أن تسمى هديا بعد أن كنتم تملكونها. أي تنتفعون من ركوبها ودرها ونسلها وصوفها ولحمها ما لم تبعثوها هديا. فإن بعثتموها هديا ذهب ذلك كله، وذلك الأجل المسمى. وقيل : الأجل المسمى معناه نحرها. فينتفع بها ما لم تنحر، ونحرها أجلها.
قوله :( ثم محلها إلى البيت العتيق ) المراد بالبيت العتيق الحرم كله. وقيل : الكعبة. والضمير في ( محلها ) يعود إلى ( شعائر الله ). وتأويل الآية يختلف باختلاف تأويل الشعائر. فالقائلون إن المراد بالشعائر هنا البدن، قالوا : محلها أن تبلغ البيت العتيق وهو الحرم.
والقائلون : المراد بالشعائر مناسك الحج من عرفة ومزدلفة وطواف وسعي ورمي قالوا : محلكم من مناسك حجكم، على الكعبة، فتطوفون بها يوم النحر طواف الإفاضة بعد قضاء ما عليكم من واجبات.
وقيل : محل منافع أيام الحج البيت العتيق بانقضاء تلك الأيام١.
١ - أحاكم القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٧٤ وأحكام الجصاص جـ٥ ص ٧٩، ٨٠..
قوله تعالى :﴿ ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين ( ٣٤ ) الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( ٣٥ ) ﴾ المراد بالأمة هنا، القوم المجتمعون على دين سماوي واحد ؛ فقد جعل الله لكل أمة ذات دين ورسالة سماوية ( منسكا ) والمنسك، بالفتح الذبح وإراقة الدم. وسميت الذبيحة نسيكة، وجمعها نسك ونسائك. وقيل : المنسك الموضع الذي تذبح فيه النسك١، وقيل : النسك معناه العيد.
والقول الأول أظهر وهو الذبح وإراقة الدم ؛ لدلالة السياق عليه وهو قوله سبحانه :( ليذكروا اسم الله على ما رزقكم من بهيمة الأنعام ) أي يذكروا اسم الله دون غيره من الأسماء على ما رزقهم من الذبح. سواء في ذلك الهدي أو الأضحية. وبذلك إنما ينبغي في الذبيحة أن تكون خالصة لله سبحانه.
قوله :( فإلهكم إله واحد ) أي معبودكم واحد لا شريك له. ودينكم أصله التوحيد الخالص لله، المبرأ من كل وجوه الشرك والوثنية وإن تنوعت شرائعكم ونسخ بعضها بعضا لكنكم جميعا تدعون إلى عبادة الله الواحد ( فله أسلموا ) أي استسلموا لأمره وجلاله، وانقادوا لشرعه خاضعين مذعنين مخلصين ( وبشر المخبتين ) أي الخاشعين الطائعين المتواضعين. ومن الخبت والإخبات. وهو الخشوع والتواضع٢ أي بشرهم بأحسن الجزاء أو أجزل الثواب.
١ - مختار الصحاح ص ٦٥٧..
٢ - لسان العرب جـ٢ ص ٢٧.
.

قوله :( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) الموصول في محل نصب صفة للمخبتين. فهم الذين إذا ذكروا ربهم خشعت قلوبهم ورقّت مشاعرهم فخافوا عقاب الله وتذكروا عذابه والوقوف بين يديه يوم القيامة. وأعدوا لذلك عدته من الخشوع والخضوع والخوف والطاعة لرب العالمين.
قوله :( والصابرين على ما أصابهم ) من المصائب والفتن وضروب الشدة في سبيل الله وما نالهم من المساءات والمكاره بسبب ثباتهم على الحق واعتصامهم بدين الله القويم.
قوله :( والمقيمي الصلاة ) حذفت النون للتخفيف. و ( الصلاة ) مضاف إليه ؛ أي الذين يؤدون فريضة الصلاة دون تفريط. فهي الفريضة الكبرى والأهم.
قوله :( ومما رزقناهم ينفقون ) هذا وصف آخر للمؤمنين المخبتين. وهو أنهم يبذلون مما آتاهم الله من رزق لعباد الله من الفقراء والمحاويج والمكروبين وأولي القربى١.
١ - الكشاف جـ٣ ص ١٤ وتفسير الطبري جـ١٧ ص ١١٦..
قوله تعالى :﴿ والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ( ٣٦ ) ﴾.
( البدن )، منصوب بفعل مقدر. وتقديره : وجعلنا البدن جعلناها لكم فيها خير١.
( والبدن )، جمع بدنة، وهي الواحدة من الإبل. سميت بذلك من البدانة وهي السّمن. بدن الرجل بضم الدال، إذا سمن. وهي في اللغة بمعنى الناقة أو البقرة تنحر بمكة. وسميت بذلك ؛ لأنهم كانوا يسمنونها٢ وهي اسم يختص بالبعير عند الشافعية. وتطلق على غير الإبل من البقر عند الحنفية والمالكية. ووجه قولهم هذا : أن البقرة لما صارت في حكم البدنة قامت مقامها. وقد جعلها النبي ( ص ) عن سبعة والبقرة عن سبعة فصار البقر في حكم البدن.
قوله :( جعلناها لكم من شعائر الله ) أي من أعلام دينه التي شرعها لكم في مناسك حجكم إذا قلدتموها وأشعرتموها ليعلم الرائي أنها من الهدي.
قوله :( لكم فيها خير ) أي خير الدنيا والآخرة. فخير الدنيا بالانتقام بها من ركوب وأكل ونحو ذلك. وخير الآخرة، من حسن الأجل وجزيل الثواب.
قوله :( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) ( صواف )، جمع منصوب على الحال، من الضمير في، ( عليها ). وهو لا ينصرف ؛ لأنه جمع بعد ألفه حرفان ؛ أي مصطفه٣.
والمعنى : انحروها ذاكرين اسم الله عليها. وهو قوله : باسم الله والله أكبر.
و ( صواف )، أي صفت قوائمها فتكون بذلك قياما على ثلاث قوائم، ويدها اليسرى معقولة. وعلى هذا فإن البعير إذا أرادوا نحره فإنه تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم. وفي هذا أخرج أبو داود بسنده عن جابر أن رسول الله ( ص ) وأصحابه " كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها " وروى أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر بن عبد الله قال : صليت مع رسول الله ( ص ) عيد الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه فقال : " بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي ".
قوله :( فإذا وجبت جنوبها ) أي سقطت على الأرض ميتة عقب نحرها٤.
قوله :( فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) الأمر للندب والاستحباب فيندب لصاحب الذبيحة أن يأكل منها. أما ( القانع ) فهو المتعفف، و ( المعتر ) معناه السائل. وقيل :( القانع ) الذي يقنع بما يؤتاه، و ( المعتر ) معناه الذي يعترض فيسأل. وقيل :( القانع ) الذي يسأل، ( والمعتر ) الذي يتعرض ولا يسأل.
ويُستدل بهذه الآية على أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء، أو ثلاثة أثلاث، فثلث لصاحبها وعياله. وثلث يهديه لأصحابه. وثلث يتصدق به على الفقراء وهو قول الحنفية. وذلك لقوله تعالى :( فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ( ص ) قال للناس : " إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ؛ فكلوا وادخروا ما بدا لكم " وفي رواية : " فكلوا وادخروا وتصدقوا " وفي رواية : " فكلوا وأطعموا وتصدقوا ".
وعند الشافعية، أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف. وذلك لقوله تعالى :( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ).
قوله :( كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ) أي مثل ذلك التسخير ذلل الله لكم هذه الأنعام لتكون منقادة لكم إلى حيث تريدون وما تبتغون من منفعة لكي تشكروا الله على ما خوّلكم من نعمة فتطيعوه وتعبدوه٥.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٦..
٢ - مختار الصحاح ص ٤٤..
٣ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٦..
٤ - مختار الصحاح ص ٧٠٩..
٥ - أحكام القرآن للجصاص جـ٥ ص ٧٩-٨٢ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٧٦ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٢٣ وتفسير ايبلضاوي ص ٤٤٥..
قوله تعالى :﴿ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ( ٣٧ ) ﴾.
شرع الله لعباده ذبح هذه الأنعام لينتفعوا بها منافع كثيرة فيذكروه ويشكروه على هدايته لهم وما خوّلهم إياه من خير ونعمة. والله جل وعلا لا يناله شيء من هذه الأضاحي أو الهدايا، لا من دمائها ولا من لحومها ؛ فهو سبحانه غني عن كل شيء، وغني عن العالمين.
وقد كان المشركون في جاهليتهم إذا ذبحوا شيئا من النعم لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم فنضحوا عليها من دمائها فنزل قوله :( لن ينال الله لحومها ولا دماءها ولكن يناله التقوى منكم ) أي يصله منكم تقوى قلوبكم وهو خشيتكم لله وإخلاصكم وطاعتكم له سبحانه فيجازيكم على ذلك خير الجزاء.
قوله :( كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ) أي سخر لكم هذه البدن لتعظموا ربكم وتخلصوا له الطاعة والعبادة مثلما هداكم لدينه وشرعه ( وبشر المحسنين ) أي بشر المؤمنين المذعنين للهب الخضوع والطاعة، بحسن الجزاء.
على أن الأضحية واجبة على من ملك نصابا. وهو قول الحنفية والمالكية وزاد الإمام أبو حنيفة اشتراط الإقامة من أجل الوجوب. ودليل الوجوب ما أخرجه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا : " من وجد سعة فلم يضح فلا يقربنّ مصلانا " وهي مستحبة عند الشافعية والحنبلية وليست واجبة. وذلك للخبر : " ليس في المال حق سوى الزكاة " والراجح القول بعدم الوجوب. ويعزز ذلك أن النبي ( ص ) ضحّى عن أمته فأسقط وجوب ذلك عنهم. وقيل : الأضحية سنة على الكفاية إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة أو بيت سقط وجوبها عن الباقين.
أما سن الأضحية : فقد ذهب جمهور العلماء إلى عدم الإجزاء إلا بالمسنّة. وبذلك إنما يجزي الثني من الإبل والبقر والمعز، أو الجذع١ من الضأن. أما الثني من الإبل : فهو الذي له خمس سنوات ودخل في السادسة. أما البقر فما له سنتان ودخل في الثالثة. وأما المعز فما له سنتان. وأما الجذع من الضأن فما له سنة. وقيل : ما له عشرة أشهر. وقيل : ثمانية أشهر. وقيل : ستة أشهر، وهو أقل ما قيل في سنه٢.
١ - الجذع بفتحتين، قبل الثني. والأنثى جذعة. والجذع من الإبل ما استكمل أربعة أعوام ودخل في الخامسة ومن الخيل والبقر ما استكمل سنتين ودخل في الثالثة. ومن الضأن: ما بلغ ثمانية أشهر أو تسعة. انظر المعجم الوسيط جـ١ ص ١١٣ والمصباح المنير جـ١ ص ١٠٢..
٢ - أحكام القرآن للجصاص جـ٥ ص ٨٠-٨٢ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص١٢٨٢ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٢٤..
قوله تعالى :﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ( ٣٨ ) ﴾ ذلك إخبار من الله بأنه يدفع عن عباده المؤمنين المتوكلين كيد الأشرار، وغوائل الظالمين الفجار. الله جل وعلا يحفظ المؤمنين المخلصين المعتدى عليهم، ويكلؤهم بعنايته ويكتب لهم التوفيق والصون والكلاءة ويصدّ عنهم شر المتربصين والمتمالئين والخائنين من الكافرين. وذلك كقوله سبحانه :( أليس الله بكاف عبده ) وقد علل الله ذلك بأن أعداء المؤمنين خونة، مغالون في الخيانة والكفر. وهو قوله :( إن الله لا يحب كل خوان كفور ) لا يحب من اتصف بالخيانة والكفران وجحد النعمة وخان الله ورسوله بالصد عن الحق وإنزال الأذى والمكاره بالمسلمين.
وقيل : نزلت بسبب المؤمنين في مكة ؛ إذ آذاهم المشركون أشد الإيذاء، فأراد بعضهم أن يقتل من أمكنه من الكفار غيلة واحتيالا، فنزلت الآية للنهي عن الخيانة والغدر، والوعد بالمدافعة عن المؤمنين الصابرين المتوكلين١.
وروي أن أصحاب النبي ( ص ) استأذنوه في قتل بعض الكفار غيلة فنزلت ( إن الله لا يحب كل خوان كفور ) فلما هاجر إلى المدينة أطلق قتلاهم. وهذا إن كان صحيحا فقد نسخه الحديث الصحيح أن النبي ( ص ) قال : " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله ؟ " فقام محمد بن مسلمة فقال : يا رسول الله، أتحب أن أقتله ؟ قل " نعم " فقتله مع أصحابه غيلة. وكذلك بعث النبي ( ص ) رهطا إلى أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق فقتلوه غيلة٢.
١ - الكشاف جـ٣ ص ١٥ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ٣٩ وتفسير القرطبي جـ١٢ ص ٦٧..
٢ - أحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٨٧..
قوله تعالى :﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ( ٣٩ ) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ( ٤٠ ) ﴾ قال ابن عباس : هذه أول آية نزلت في القتال. وهو ما رواه الترمذي والنسائي. فقد روي عنه قوله : لما أخرج النبي من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ليهلكن. فأنزل الله ( أذن للذين يقاتلون ) الآية. فقال أبو بكر : لقد علمت أنه سيكون قتال. وذلك لما بغى المشركون على المسلمين وأخرجوا النبي من بين أظهرهم وهموا بقتله وشردوا أصحابه فذهب منهم طائفة إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة.
فلما اجتمعوا بالمدينة وصارت لهم شوكة ومنعة ودار إسلام ومعقل يأوون إليه، شرع الله الجهاد لقتال الظالمين الذين يعتدون على المسلمين ويصدون عن دين الله صدودا. وذلك قوله :( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) فقد أباح الله لهم أن يقاتلوا عدوهم بعد أن أمرهم بالاصطبار، واحتمال الأذى والمكاره. وذلك ( بأنهم ظلموا ) الباء للسببية ؛ أي بسبب أنهم ظلموا. وهم المؤمنون، إذ كانوا يأتون رسول الله ( ص ) وهم بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم : " اصبروا فإني لم أومر بالقتال " حتى هاجر فنزلت الآية هذه بالقتال.
قوله :( وإن الله على نصرهم لقدير ) الله مقتدر على أن يجعل النصر للمؤمنين من غير قتال ؛ لأن الأقدار والآجال والمصائر كلها بيد الله سبحانه، فهو القادر أن يجعل النصر لما شاء من عباه ؛ لكنه كتب على عباده المؤمنين أن يجتهدوا في طاعته وأن يبذلوا من الأعمال والطاعات في هذه الدنيا لينالوا رضوان الله. وما الدنيا هذه إلا دار امتحان واختبار للعباد، ثم تفضي بعد ذلك إلى الحساب والجزاء.
قوله :( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ) ( الذين ) في موضع جر صفة ( للذين يقاتلون ) ١. لقد ظلموا بإخراجهم من ديارهم ووطنهم مكة ظلما وعدوانا. وإنما كان سبب إخراجهم أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له. فهم مؤمنون موحدون لا يعنون بطاعة أو خضوع إلا لله رب العالمين. وهو قوله :( إلا أن يقولوا ربنا الله ) الجملة في موضع نصب ؛ لأنه استثناء منقطع٢ أي : لكن لقولهم : ربنا الله. وكان هذا عند المشركين السفهاء أعظم ذنب. لا جرم أن ذلك ديدن المجرمين من الكفرة والمتربصين في كل زمان ومكان. فهم يكيدون للإسلام والمسلمين أبلغ الكيد بسبب عقيدتهم المستقيمة واستمساكهم بمنهج الحق، وهو منهج الإسلام. والمشركون يغيظهم بالغ الغيظ أن يروا المسلمين مستمسكين بدينهم أو أنهم يتبعون شريعة الإسلام دون غيرها من الشرائع. ذلك هو ديدن المجرمين الكافرين ودأبهم في كراهيتهم للحق وعداوتهم للإسلام. ون أجل ذلك فإنه لا مندوحة عن تشريع الجهاد لردع المجرمين وصدهم ودفع أذاهم عن المسلمين وإبطال مخططاتهم في العدوان على المسلمين.
إن هؤلاء الأشرار والأشقياء من الكفرة المناكيد لا تجدي معهم الحجة ولا يؤثر فيهم المنطق والبرهان. إنما تدفعهم الصرامة وشدة البأس والقوة من أجل أن تخمد شرورهم ونيرانهم ومفاسدهم.
قوله :( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) كان من تقدير الله وحكمته البالغة أن يدفع بقوم عن قوم. ويصدّ شر أناس عن آخرين وذلك بمختلف الأسباب في القوة والبأس. ولولا أن الله سبحانه وتعالى شرع الجهاد للنبيين والمؤمنين ليقاتلوا المشركين والظالمين في كل زمان لطغى المشركون طغيانا فاستولوا على المسلمين ولكان قد عمّ في الأرض الفساد والشر، ولكان الظالمون قد تسلطوا على المؤمنين من أهل الملل المختلفة في أزمنتهم فاستحوذوا عليهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى كنائس ولا لرهبانهم صوامع ولا لليهود صلوات ولا للمسلمين مساجد.
أو لتسلّط المشركون من أمة محمد ( ص ) على المسلمين وعلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين هم في ذمة المسلمين، فهدموا بطغيانهم وعدوانهم بيوت العبادة للفريقين وهم المسلمون وأهل الكتاب. ذلك أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى إنما يؤتمن عليهم المسلمون عندما تكون لهؤلاء دولة تحكم بشريعة الإسلام وتسوس البشرية على منهج الله. وحينئذ يناط بدولة الإسلام أن تصون بيوت العبادة لأهل الكتاب سواء في ذلك الصوامع والكنائس والبيع والصلوات وهي كنائس اليهود. وأيما اعتداء عليها فإنما هو اعتداء على المسلمين أنفسهم.
وقد قدّم في الذكر أماكن عبادة اليهود والنصارى على مساجد المسلمين ؛ لأنها أقدم بناء. أو لأهمية التذكير بالأمانة التي يناط بالمسلمين صونها وكلاءتها وهي شؤون أهل الذمة بما في ذلك بيوت عبادتهم من صوامع وكنائس وغير ذلك من مسميات أهل الكتاب. فذلك كله من جملة الأمانات التي يتوجب على المسلمين صونها دون تقصير أو تفريط.
أما الصوامع ؛ فهي جمع صومعة. وهي مختصة برهبان النصارى. وكذا البيع، جمع بيعة وهي كنيسة النصارى. وأما الصلوات، فهي كنائس لليهود. وأما المساجد، فإنها للمسلمين يذكرون فيها اسم الله ويذعنون له فيها بالخضوع والعبادة وهو قوله :( يذكر فيها اسم الله كثيرا ) الضمير عائد إلى المساجد ؛ لأنها أقرب المذكورات ؛ ولأن مساجد المسلمين أكثر عمارا وأكثر روادا وفيها تؤدى العبادة على وجهها الصحيح وقصدها المستقيم.
قوله :( ولينصرن الله من ينصره ) ذلك وعد رباني كريم من الله لمن ينصر دينه الإسلام فيدرأ عنه الشرور والعوادي، ويبذل غاية مجهوده لتقويته وإعلاء شأنه وإشاعته في الدنيا بكل ما أوتي من قدرة وإمكان، بأن يجعل الله له التوفيق والسداد والنصر ويكتب له الغلبة والاستعلاء على الكافرين المعتدين.
وإذا فرّط المسلمون في دينهم ونكصوا دون الإعداد لنصرته والذب عنه، فانفتلوا عنه مدبرين مبعثرين أشتاتا لا تربطهم عقيدته ولا يجمعهم منهجه العظيم، فما ينتظرون بعد ذلك إلا الهزيمة والتقهقر، والانحطاط وتسلط الكافرين الظالمين عليهم.
( إن الله لقوي عزيز ) الله قوي مقتدر في علاه. جليل منيع لا يرام جانبه، فلا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب٣.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٦..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٧..
٣ - الكشاف جـ٣ ص ١٦ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ٤١..
قوله تعالى :﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ( ٤١ ) ﴾ ( الذين )، صفة للذين أخرجوا من ديارهم بغير حق. وقيل : في موضع نصب على البدل من قوله :( من ينصره ) ١ وهذا إخبار من الله تعالى، بأنه إن مكّن لعباده المؤمنين في الأرض فجعل لهم الغلبة والسلطان، لم يفرطوا في دينهم وما عليهم من واجبات مفروضة. بل إنهم ظلوا على طريق الله ومنهجه المستقيم فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر. وهكذا يكون المؤمنون الصادقون الأوفياء، المؤمنون المخلصون الأتقياء، الذين لا تفتنهم الحياة الدنيا بزهرتها وزينتها ولا يغرهم بالله الغرور. فهم إن خوّلهم الله العزة والسلطنة والتمكين ؛ فإنهم لا يذهلون عن دينهم ولا ينفتلون عن شريعة ربهم ليتيهوا في مباهج الدنيا وحطامها الزائل. بل إنهم لا يبرحون الإذعان لله وحده، والانقياد لأحكامه وأوامره، ودوام الانزجار عن مناهيه وزواجره ( ولله عاقبة الأمور ) إلى الله تؤول المصائر كلها فيجزي المؤمنين ثواب ما صنعوا٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٧..
٢ - أحكام الجصاص جـ٥ ص ٨٣ والكشاف جـ٣ ص ١٦ وفي ظلال القرآن لسيد قطب جـ١٧ ص ٩٧- ١٠٠..
قوله تعالى :﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ( ٤٢ ) وقوم إبراهيم وقوم لوط ( ٤٣ ) وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ( ٤٥ ) أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( ٤٦ ) ﴾.
هذه تسلية من الله لرسوله ( ص ) مما كان يجده من المشركين من الإعراض وسوء الفعال. فالله بين له معزيا أن من سبقه من النبيين قد أوذوا في الله أو كذبتهم أممهم أشد تكذيب وأساءوا لهم شر إساءة من تعذيب وصد وقهر واستهزاء. وهؤلاء هم قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم ولوط
وأصحاب مدين، وقوم موسى ؛ لقد كان هؤلاء غُلاة في التكذيب والمعاندة والإعراض عن دين الله، عتاة غلاظا في تعذيب المؤمنين وإذلالهم. لكن الله المنتقم الجبار لا يغفل عما يفعله الظالمون المجرمون من فظائع الكفر والجحود والتنكيل بالمؤمنين ؛ بل إن الله يملي لهم حتى إذا جاء الأجل أخذهم أخذ عزيز مقتدر. وفي الخبر : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " وهو قوله سبحانه :( فأمليت للكافرين ثم أخذتهم ) أي أنظرتهم وأخرت عنهم العقاب ( ثم أخذتهم ) بالإهلاك والتدمير ( فكيف كان نكير ) استفهام تقريري ؛ أي كيف كان إنكاري عليهم بتغيير الحياة هلاكا، والعمارة خرابا، والنعمة نقمة ومحنة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:قوله تعالى :﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ( ٤٢ ) وقوم إبراهيم وقوم لوط ( ٤٣ ) وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ( ٤٥ ) أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( ٤٦ ) ﴾.
هذه تسلية من الله لرسوله ( ص ) مما كان يجده من المشركين من الإعراض وسوء الفعال. فالله بين له معزيا أن من سبقه من النبيين قد أوذوا في الله أو كذبتهم أممهم أشد تكذيب وأساءوا لهم شر إساءة من تعذيب وصد وقهر واستهزاء. وهؤلاء هم قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم ولوط
وأصحاب مدين، وقوم موسى ؛ لقد كان هؤلاء غُلاة في التكذيب والمعاندة والإعراض عن دين الله، عتاة غلاظا في تعذيب المؤمنين وإذلالهم. لكن الله المنتقم الجبار لا يغفل عما يفعله الظالمون المجرمون من فظائع الكفر والجحود والتنكيل بالمؤمنين ؛ بل إن الله يملي لهم حتى إذا جاء الأجل أخذهم أخذ عزيز مقتدر. وفي الخبر :" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " وهو قوله سبحانه :( فأمليت للكافرين ثم أخذتهم ) أي أنظرتهم وأخرت عنهم العقاب ( ثم أخذتهم ) بالإهلاك والتدمير ( فكيف كان نكير ) استفهام تقريري ؛ أي كيف كان إنكاري عليهم بتغيير الحياة هلاكا، والعمارة خرابا، والنعمة نقمة ومحنة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:قوله تعالى :﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ( ٤٢ ) وقوم إبراهيم وقوم لوط ( ٤٣ ) وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ( ٤٥ ) أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( ٤٦ ) ﴾.
هذه تسلية من الله لرسوله ( ص ) مما كان يجده من المشركين من الإعراض وسوء الفعال. فالله بين له معزيا أن من سبقه من النبيين قد أوذوا في الله أو كذبتهم أممهم أشد تكذيب وأساءوا لهم شر إساءة من تعذيب وصد وقهر واستهزاء. وهؤلاء هم قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم ولوط
وأصحاب مدين، وقوم موسى ؛ لقد كان هؤلاء غُلاة في التكذيب والمعاندة والإعراض عن دين الله، عتاة غلاظا في تعذيب المؤمنين وإذلالهم. لكن الله المنتقم الجبار لا يغفل عما يفعله الظالمون المجرمون من فظائع الكفر والجحود والتنكيل بالمؤمنين ؛ بل إن الله يملي لهم حتى إذا جاء الأجل أخذهم أخذ عزيز مقتدر. وفي الخبر :" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " وهو قوله سبحانه :( فأمليت للكافرين ثم أخذتهم ) أي أنظرتهم وأخرت عنهم العقاب ( ثم أخذتهم ) بالإهلاك والتدمير ( فكيف كان نكير ) استفهام تقريري ؛ أي كيف كان إنكاري عليهم بتغيير الحياة هلاكا، والعمارة خرابا، والنعمة نقمة ومحنة.

قوله :( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة ) أي كم من قرية أهلكناها وهي متلبسة بالظلم وهو الكفر أو الشرك ( فهي خاوية على عروشها ) ( خاوية ) بمعنى ساقطة ؛ أي خرت سقوفها على الأرض وتهدمت حيطانها بالكلية، أو أنها أصبحت خالية من الأهل والسكان، إذا فسرت خاوية بالخالية.
قوله :( وبئر معطلة ) أي متروكة فلا يستقى منها لهلاك أهلها. أو خالية من أهلها لهلاكهم. ( وقصر مشيد ) محكم ومجصص بالشيد، فصار خاليا من الأهل والسكان. وقد جعل الله ذلك عبرة لمن يعتبر والمراد أن هذه الديار كانت عامرة بأهلها حيث الساكنون، والمباني، والعمارة، والحركة لكن أهلها بكفرهم وظلمهم وتكذيبهم المرسلين أخذهم الله فدمر عليهم تدمير، فلم يبق بعدهم غير آثارهم التي دلت عليهم.
قوله :﴿ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها ( ٤٦ ) ﴾ الخطاب عن المشركين من أهل مكة. والاستفهام للإنكار ؛ لأنهم كانوا يرحلون في تجاراتهم وأسفارهم فيمرون بهذه القرى الدارسة الهالكة فلم يتعظوا أو يعتبروا، فأنكر الله عليهم عدم اعتبارهم أو اتعاظهم، أو أن المراد حثهم على السفر ليروا مصارع الأمم الدارسة فيذّّكروا ويعتبروا.
قوله :( فتكون لهم قلوب يعقلون بها ) أي يعقلون بقلوبهم ما يجب أن يعقل من توحيد الله وقدرته وأنه خالق كل شيء. والآية تدل على محل العلم هو القلب. وبذلك فإن القلب آلة لهذا التعقل ( أو آذان يسمعون بها ) أي يسمعون بآذانهم ما يجب أن يُسمع من التذكير والعبرة مما يشاهدونه من آثار الأمم الخالية الدارسة.
قوله :( فإنها لا تعمى الأبصار ) أي لا تعمى أبصار العيون، فإنها قائمة تبصر وترى ( ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) أي أن القلوب عمي عن درك الحق والذكر. ومعلوم أن القلوب محلها الصدور. وفائدة ذكرها في الصدور، الزيادة في البيان. والمقصود : أن الخلل ليس في عيون هؤلاء المشركين المعرضين، فعيونهم ناظرة مبصرة ؛ بل إن الخلل في قلوبهم بما أصابهم من التواء وتبلّد ومرض، فباتت لا تتدبر أو تتعظ، ولا ترق أو تلين١.
١ - الكاف جـ٣ ص ١٧ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ٤٤- ٤٦ وتفسير البيضاوي ص ٤٤٦..
قوله تعالى :{ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ( ٤٧ ) وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير ( ٤٨ ) هؤلاء المكذبون الجاحدون، يستعجلون وقوع العذاب بهم. وإنما استعجلوه على سبيل التكذيب والاستهزاء ( ولن يخلف الله وعده ) الله، الحق. ووعده الصدق. ولن يخلف الله ما وعد الكافرين به من إنزال العقاب بهم والانتقام منهم في الدنيا والآخرة.
قوله :( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) المراد : يوم من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض ؛ فإنه كألف سنة من سني الناس في هذه الدنيا. وهو قول ابن عباس. وقيل : المراد يوم من أيام الآخرة ؛ فإنه مثل ألف سنة من سني الناس في حياتهم هذه. وقيل : إن يوما في الخوف والشدة وفظاعة العذاب في الآخرة كألف سنة فيها خوف وشدة من سني هذه الدنيا.
والمقصود : أن الله لا يعجل ؛ بل إنه يمهل ولا يغفل، ولكل أجل كتاب والبطيء عند العباد قريب عند الله.
قوله :( وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها ) أي وكم من أهل قرية كانوا ظالمين عتاة، أمهلهم الله حينا من الزمن ثم أخذهم بالهلاك.
قوله :( وإلي المصير ) أي مرجع الناس جميعا إلى الله وهو سبحانه يقضي بينهم يوم القيامة فيجازيهم بما صنعوا. ١
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٢٨ وتفسير البيضاوي ص ٤٤٦..
قوله تعالى :﴿ قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ( ٤٩ ) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم ( ٥٠ ) والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ( ٥١ ) ﴾ ( نذير )، من الإنذار وهو الإبلاغ ولا يكون إلا في التخويف. والنذير، المنذر١. والمعنى : أبلغ الناس يا محمد أنك منذر لهم تخوفهم عذاب الله وتحذرهم شديد انتقامه ( مبين ) أي أبين لكم ما أنذركم به. أو ما تحتاجونه من أمر دينكم.
١ - مختار الصحاح ص ٦٥٣..
قوله :﴿ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم ﴾ هذه بشرى للمؤمنين الذين أطاعوا ربهم وعملوا الصالحات بأن الله يغفر لهم ما سلف من سيئاتهم وأن جزاءهم الرزق الكريم وهي الجنة.
قوله :( والذين سعوا في آياتنا معاجزين ) الذين سعوا في إبطال آيات وردها وهم المشركون المعاندون الذين يحادون الله ورسوله ( معاجزين ) أي مشاقّين معاندين مثبطين الناس عن الإسلام ( أولئك أصحاب الجحيم ) أولئك هم أهل النار، يجدون فيها من الأهوال والتحريق ما هو جزاء لهم على ظلمهم وتكذيبهم وصدهم عن دين الله.
قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ( ٥٢ ) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ( ٥٣ ) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ( ٥٤ ) ﴾.
قوله :( من رسول ولا نبي ) الواو تفيد المغايرة في المعنى بين المعطوف والمعطوف عليه ؛ فيستبين لنا أن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، وهذا يدل على الفرق بين حقيقة الرسول والنبي. فقد قيل : الرسول : الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا ومخاطبته له شفاها. أما النبي : فهو الذي يأتيه الوحي إلهاما أو في المنام. وقيل : الرسول : من بعثه الله بشرع وأمره بتبليغه. أما النبي : فهو المأمور أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله ولم ينزل عليه كتاب. وهما كلاهما لابد لهما من المعجزة.
قوله :( إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) ( تمنى ) أي اشتهى ورغب فيما يهواه. وقال المفسرون :( تمنى ) بمعنى تلا. و ( أمنيته ) يعني تلاوته.
وذكر أكثر المفسرين سببا لنزول هذه الآية. لكنه في الحقيقة سبب مريب لا ينبغي قبوله أو الاطمئنان. وهذه قصة معروفة هنا بقصة الغرانيق١ وهي قصة غريبة تقتضي التكذيب وعدم التصديق البتة وذلك لما نحسب أنها من وضع الزنادقة والماكرين من خصوم هذا الدين.
وجماع القول في سبب نزول هذه الآية ما روي عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله ( ص ) بمكة سورة النجم فلما بلغ قوله :( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) قال : فألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى. قالوا : ما ذكر آلهتنا قبل اليوم فسجد وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) الآية.
وفي رواية أخرى أن النبي ( ص ) جلس في ناد من أندية قومه، كثير أهله. فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه يومئذ فأنزل الله ( والنجم إذا هوى ) فقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) ألقى عليه الشيطان كلمتين : تلك الغرانيق العلا. وإن شفاعتهن لترتجى. ثم مضى بقراءة السورة كلها ثم سجد في آخر السورة وسجد القوم جميعا معه. فلما أمسى أتاه جبريل فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين قال : ما جئتك بهاتين. أو قال له : تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله. فحزن رسول الله ( ص ) وخاف خوفا شديدا فأنزل الله هذه الآية٢. إلى غير ذلك من مثل هذه الروايات في قصة الغرانيق المصطنعة التي ابتدعها فريق من المارقين المغرضين أولي الهوى مبتغين بذلك إشاعة الشبهة والارتياب في نبوة رسول الله ( ص ) وفي صدق كلامه الذي لا يصدر عن هوى وإنما هو وحي يوحى. إن قصة الغرانيق لا نظنها غير ضرب من ضروب الإفك المفترى على عصمة رسول الله ( ص ). وذلك بما يشوب عامة الروايات في القصة من شوائب الضعف والاضطراب. وقد طعن فيها كثير من أئمة العلم. فقال الشوكاني : لم يصح شيء منها، ولا ثبت بوجه من الوجوه. ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه. قال الله ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) وقوله :( وما ينطق عن الهوى ) وقوله :( ولولا ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) فنفى المقاربة للكون فضلا عن الركون نفسه.
وقال البزار : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي ( ص ) بإسناد متصل.
وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقال الإمام ابن خزيمة : إن هذه القصة من وضع الزنادقة. وقال القاضي عياض : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا سهوا ولا غلطا.
وقال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح. وقال البغوي في تفسيره عن هذه القصة : كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه. ثم حكى أجوبة عن ذلك من ألطفها : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله ( ص ) وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمان ( ص ) ٣.
ويضاف إلى ذلك كله : أن ذكر الغرانيق في هذا الموضع المزعوم من سورة النجم لا يستقيم ولا يتفق ؛ فإذ ذكرها هنا يخالف مقتضى الآيات عن اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. فهذه أسماء لأصنام جيء بها في السورة بقصد الذم والتنديد بسفاهة المشركين الذين يعبدون هذه الأصنام الصماء والتي قال الله عنها موبخا مبكتا ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ).
قوله :( إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) أي إذا تلا وقرأ كتاب الله أوقع الشيطان في مسامع المشركين مثل قصة الغرانيق من دون أن يتكلم بذلك رسول الله ( ص ) ولا جرى على لسانه البتة. وبذلك فإن هذه الآية جيء بها على سبيل التسلية لرسول الله ( ص ). أي لا يحزنك يا محمد، فقد أصاب من قبلك من النبيين والمرسلين مثل هذا من الشيطان ليفتن به الناس عن دينهم وليُشيع في نفوسهم الشك.
قوله :( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) النسخ معناه الإزالة والإبطال٤.
أي أن الله يبطل ما يوقعه الشيطان في مسامع الناس ( ثم يحكم الله آياته ) أي يثبتها ويرسخها في قلوب العباد ( والله عليم حكيم ) الله يعلم ما يجري في العالمين وما يدور في بواطن العباد من إنس وجن وملك. وهو كذلك حكيم في تقديره وتدبيره وتصرفه في الكائنات.
١ - الغرانيق، جمع ومفرده غرنوق، وهو في الأصل طير مائي أسود. والمراد به هنا الأصنام. انظر القاموس المحيط جـ٣ ص ٢٨١..
٢ - أحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٨٧ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٢٩ وفتح القدير جـ٣ ص ٤٦١. وأسباب النزول للنيسابوري ص ٢٠٨..
٣ - فتح القدير جـ٣ ص ٤٦٢ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٣٠..
٤ - مختار الصحاح ص ٦٥٧ والمعجم الوسيط جـ٢ ص ٩١٧..
قوله :( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ) وذلك تعليل لما يُلقيه الشيطان. وهو أن ذلك الإلقاء من الشيطان فتنة يفتتن بها الذين في قلوبهم شك وزيغ ونفاق. وكذلك القاسية قلوبهم. وهم المشركون المعاندون. فإن قلوبهم صلدة كزّة لا تلين للصواب، وطبائعهم بور لا تستمرئ الهداية والحق. إنما تستمرئ الضلال والاعوجاج والباطل.
قوله :( وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ) أي أن المشركين المعاندين سادرون في الضلال والغي وهم بعيدون كل البعد عن صراط الله المستقيم ومنهجه الحكيم.
قوله :( وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به ) أي ليعلم أهل العلم من المؤمنين بالله ورسوله وكتابه أن ما أوحي إليك من ربك لهو الحق، لا ريب فيه، فيبادروا الإيمان به، والتصديق بما فيه دون إبطاء.
قوله :( فتخبت له قلوبهم ) أي تخضع وتخضع له قلوبهم، وتلين لعجيب نظمه وعظيم معناه.
قوله :( وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ) أي يثبت الله بفضله وتوفيقه المؤمنين فيرشدهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وما يفضي بهم إلى النجاة والفوز بالجنة والرضوان١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٣٠ وتفسير القرطبي جـ١٢ ص ٨٦، ٨٧..
قوله تعالى :﴿ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ﴾ ذلك إخبار من الله عن حقيقة المشركين المعاندين ؛ فإنهم ما يزالون في شك من كلام الله وهو القرآن فهم على حالهم من الضلال والغي والإغراق في الغواية والعمه والغفلة حتى تفجأهم الساعة بقيامها المباغت الرعيب ( أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ) أي عذاب يوم القيامة.
وقد سمي عقيما ؛ لأنه لا يوم بعده١ والمراد : أن هذا اليوم عصيب لا رأفة فيه بالمجرمين، ولا رحمة لهم من الله ولا تنفعهم يومئذ شفاعة.
١ -مختار الصحاح ص ٤٤٨..
قوله تعالى :( الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم ( ٥٦ ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين ( ٥٧ ) ) يوم القيامة يفصل الله بين العباد فيقضي بينهم بالحق ليساق الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلى جنات النعيم ؛ ففيها يطيب عيشهم وفيها يُحبرون.
وأما المجرمون المكذبون الذين ارتابت قلوبهم وزاغوا عن منهج الله فإنهم يوم القيامة جزاؤهم النار، وبئس العذاب المهين١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٣١ وتفسير القرطبي جـ١٢ ص ٨٨..
قوله تعالى :﴿ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ( ٥٨ ) ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم ( ٥٩ ) ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ( ٦٠ ) ﴾ سبب نزول هذه الآية أنها لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة ابن عبد الأسد، قال بعض الناس : من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه. فنزلت هذه الآية مسوية بينهم وأن الله يرزقهم جميعا رزقا حسنا١.
وتفيد الآية أن من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله ابتغاء مرضاته، فترك الأوطان والأهل والخلان، وفارق الصحب والبلاد والأحباب، حبا في الله ونصرة دينه، مبتغيا بذلك إعلاء شأن الإسلام ثم أماته الله بعد ذلك ؛ فقد حصل من الله على حسن الثناء وعظيم الجزاء، سواء مات قتلا أو حتف أنفه. وإنما يعوّل هنا على النية. فمن خرج مهاجرا مفارقا أهله ووطنه لا يبتغي بذلك غير إعزاز كلمة الله ورفع راية القرآن ومبشرا بدعوة الإسلام ثم أدركه الموت عقب ذلك فلا جرم أن يكون شهيدا. وذلك كقوله :( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) وقيل : للمقتول في سبيل الله مزية لما أصابه من مصيبة القتل.
١ - تفسير القرطبي جـ١٢ ص ٨٨..
قوله :( ليدخلنهم مدخلا يرضونه ) ( مدخلا ) بضم الميم، اسم مكان، منصوب على أنه مفعول ثان. أو مصدر ميمي مؤكد للفعل. والمراد بالمدخل هنا الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين المهاجرين في سبيله.
قوله :( وإن الله لعليم حليم ) ( عليم ) بما تخفيه الصدور من نوايا ( حليم ) يعفو عن سيئات المسيئين.
قوله :( ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله ) الإشارة ( ذلك )، في موضع رفع على أنه مبتدأ، وخبره الأمر. وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر. أي الأمر ذلك. أو الأمر ما قصصناه عليك. ( ومن ) في موضع رفع على الابتداء، وخبره ( لينصرنه ) ولا تكون من، هنا شرطية١.
وقد نزلت هذه الآية في سرية من الصحابة لقوا جمعا من المشركين في الشهر الحرام فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا قتالهم وذلك بغيهم عليهم. فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين، وحصل في نفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء، فنزلت الآية ( ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه ) أي بدئ بالقتال وهو كاره له فهو مبغي عليه ( لينصرنه الله ) أي لينصرن الله الفئة المؤمنة الصابرة على الحق ( إن الله لعفو غفور ) قد عفا الله عن المؤمنين ما فعلوه من قتال المشركين في الشهر الحرام مبدوئين بالقتال من المشركين بغيا منهم عليهم٢.
١ - البيان لابن الانباري جـ٢ ص ١٧٨..
٢ - تفسير الطبري جـ ١٧ ص ١٣٧ وفتح القدير جـ٣ ص ٤٦٥..
قوله تعالى :﴿ ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ( ٦١ ) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ( ٦٢ ) ﴾ اسم الإشارة، الأول عائد إلى ما قصّه الله من نصر المظلوم. والمعنى : أن الله الذي ينصر جنده المؤمنين المتقين الصابرين لقادر على ذلك ؛ فهو الخالق المتصرف في الخلق بما يشاء. وهو سبحانه الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. ومعنى إيلاجه هنا إدخاله من هذا في هذا. ومن هذا في هذا. وبذلك يطول الليل ويقصر النهار. ثم يقصر الليل ويطول النهار. سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تحويلا. ( وأن الله سميع بصير ) الله يسمع ما يقوله العباد وما يهمسون به همسا. وهو مطلع على ما تفعله جوارحهم إذ لا يفوته من ذلك شيء.
قوله :( ذلك بأن الله هو الحق ) الإشارة عائدة إلى ما ذكر من مطلق التصرف وكمال القدرة والعلم ؛ فإنه سبحانه الحق ؛ أي الثابت في نفسه. الواجب الوجود لذاته. وذلك يقتضي أن يكون سبحانه مبدئا لكل موجود، ولا يصلح لمثل هذه الصفات غيره ؛ فهو وحده حقيق بالعبادة والطاعة ( وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ) ما يعبد المشركون من دون الله إلا أصناما صما وعميانا. فما من معبود سوى الله من الأوثان والأنداد والشركاء إلا محض باطل. وما عبادة هذه الأوهام المصطنعة إلا محض سفه وجهالة وضلال ؛ بل الله هو المعبود الحق ؛ فهو الخالق القادر المتعالي على الخلائق كافة ( الكبير ) ذو الكبرياء بكمال ذاته وتفرده بالإلهية.
قوله تعالى :( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ( ٦٣ ) له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ( ٦٤ ) ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم ( ٦٥ ) وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور ( ٦٦ ) }.
قوله :( ألم تر ) استفهام تقرير، والفاء للعطف على قوله :( أنزل ) أي أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا. وذلك دليل على كمال قدرة الله وعظيم سلطانه ؛ إذ ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد أن كانت فقرا يبسا لا نبات فيها ولا حياة، فتصبح عقب ذلك ذات حياة ونماء وبهجة. ويدل على ذلك اخضرارها بالزرع والنبات والثمر. لا جرم أن القادر على ذلك لهو قادر على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم.
قوله :( إن الله لطيف خبير ) الله عليم بما يستكن في أرجاء الكون من أخبار، وما في العالمين من أشياء، وهو سبحانه خبير بحاجات العباد وما يصلح عليه حالهم في الدنيا والآخرة.
قوله :( له ما في السماوات وما في الأرض ) كل شيء في الوجود مملوك لله ؛ فهو سبحانه مالك الأحياء والأشياء في الدنيا والآخرة.
قوله :( وإن الله لهو الغني الحميد ) ذلك تأكيد على أن الله مستغن عن العالمين ؛ بل إن الخلق كلهم محتاجون إلى رزقه وفضله ورحمته. وهو سبحانه المحمود في كل الأحوال. حقيق بالثناء والعبادة والانقياد لأمره.
قوله :( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض ) وهذه نعمة أخرى خوّل الله عباده إياها. إذ ذلّل لهم في الأرض من زروع وثمار ومعادن ومياه وغير ذلك من أصناف النعم الظاهرة والباطنة.
قوله :( والفلك تجري في البحر بأمره ) ( الفلك ) منصوب بالعطف على ( ما ) وقيل : مرفوع على الابتداء. وما بعده خبر. وهذه كذلك نعمة مخوّلة أخرى للعباد. وهي الفلك ؛ أي السفن التي تجري فوق سطح الماء جريانا سهلا ميسرا. وذلك بما بثه الله في طبيعة الماء من خصيصة مميزة تطفو بموجبها الأشياء الثقيلة على سطح الماء دون أن تغرق.
قوله :( ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ) الله بقدرته العظيمة وسلطانه المطلق أمسك السماء، بأن جعلها على هيئتها من الثبات والصلابة ورصانة الحبك وتماسك البنيان ( أن تقع على الأرض ) أي كراهية أن تقع. أو كيلا تقع على الأرض، فإنه لولا رعاية الله وكلاءته ورحمته لتداعي الكون كله، وانهار الوجود برمته، وباتت الحياة والأشياء جميعها ركاما من الحطام والفوضى لا يعلم فظاعتهما إلا الله.
قوله :( إلا بإذنه ) أي بإرادته وتخليته. أو مشيئته يوم القيامة ؛ إذ يتزلزل الكون ويتداعى نظام الوجود كله.
قوله :( إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) الله جل وعلا عظيم الرأفة والرحمة بعباده مع ظلمهم وشدة عصيانهم. ودليل ذلك ما خولهم إياه من نعم الدنيا، وما سخره لهم من أشياء في الأرض وفي السماء.
قوله :( وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ) الله الذي جعلكم أحياء في أحسن ما تكون عليه الصورة والهيئة بعد أن لم تكونوا شيئا يذكر ؛ إذ كنتم نطفا من الماء المستقذر المهين، حتى إذا انقضت آجالكم في الدنيا أماتكم ( ثم يحييكم ) وذلك يوم القيامة حيث الحساب والجزاء.
قوله :( إن الإنسان لكفور ) أي شديد الجحود لنعم الله الكثيرة، أو أنه جحود للآيات الظاهرة الدالة على عظمة الله ووحدانيته. على أن المراد بصيغة العموم هنا المبالغة في حقيقة الجحود من الإنسان ؛ فإن الغالب في الإنسان جُحود النعم التي امتن الله بها عليه. أو جحود الدلائل والبراهين والشواهد التي تقتضي الإذعان لله بالطاعة والامتثال١.
١ -تفسير الرازي جـ ٢٣ ص ٦٤ وفتح القدير جـ ٣ ص ٤٤٦..
قوله تعالى :﴿ لكل أمة جعلنا منسكاهم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم ( ٦٧ ) وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ( ٦٨ ) الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ( ٦٩ ) ﴾ المنسك يراد به الشريعة. وقيل : المكان الذي تؤدى فيه الطاعات والعبادات، والمعنى الأول أظهر. والمعنى : أن الله قد وضع لكل أمة من الأمم شرعا يلائم حياتهم وتصلح عليهم أحوالهم ( هم ناسكوه ) أي عاملون به. وذلك كجعل التوراة منسكا لأمة موسى. وجعل الإنجيل منسكا لأمة عيسى حتى بعثه رسول الله محمد ( ص ). وجعل القرآن منسكا لهذه الأمة ليكون للعالمين منهاجا دوام الدهر حتى تقوم الساعة ؛ فإن شريعة القرآن يترسخ فيها من المزايا والحقائق والخصائص ما يجعلها صالحة للبشرية في كل زمان ومكان.
قوله :( فلا ينازعنك في الأمر ) أي ليس لهم أن يخالفوك فيما شرع الله لك من دين ومنهاج ؛ فقد استقر الآمر الآن على شرعك وهو الإسلام، وعلى أنه ناسخ لما عداه من شرع إلا ما يحتمل النسخ مما تلاقت عليه الأديان واتفقت عليه كلمة النبيين جميعا.
قوله :( وادع إلى ربك ) أي ادع الناس إلى دين الله. دين الحق والهداية والتوحيد.
قوله :( إنك لعلى هدى مستقيم ) أي على طريق مستقيم لا عوج فيه.
قوله :﴿ وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ﴾ أي إن خاصمك المشركون بعد ظهور الحق ولزوم الحجة فقل لهم : إن الله يعلم تكذيبكم وجحودكم، ويعلم ما تريدون بهذه المنازعة وهذا الخصام. وذلك على سبيل التهديد لهم والوعيد.
قوله :﴿ الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ﴾ الله يقضي بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر هذا الدين. وحينئذ يعلمون المحق من المبطل.
قوله تعالى :﴿ ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على لله يسير ( ٧٠ ) ﴾ إنك تعلم يا محمد وتوقن أن الله عنده علم كل شيء، وأنه يعلم أخبار السماوات والأرض وما فيهن، وأن كل هذه الأخبار والأسرار والعلوم مسطور ( في كتاب ) وهو اللوح المحفوظ قوله :( إن ذلك على الله يسير ) أي العلم بهذه الأخبار والعلوم هين ويسير على الله١.
١ - تفسير البيضاوي ص ٤٤٩ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٣٤..
قوله تعالى :﴿ ويعبدون من دون لله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير ( ٧١ ) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ( ٧٢ ) ﴾ ذلك تنديد من الله بالمشركين السفهاء الذين يعبدون مع الله آلهة أخرى مصطنعة لا تسمع ولا تعقل ولا تبصر، وهي أصنام موهومة لم ينزل الله بها من دليل ولا برهان.
قوله :( وما للظالمين من نصير ) ذلك وعيد من الله لهؤلاء المشركين السفهاء بأنهم إذا ما نزل بهم عقابه ليس لهم حينئذ من احد ينصرهم أو يشفع لهم أو يدرأ عنهم العذاب.
قوله :( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر ) إذا سمع المشركون السفهاء آيات القرآن تتلى عليهم ( بينات ) منصوب على الحال ؛ أي ظاهرات الدلائل، واضحات الحجج على أن الله حق وأنه سبحانه حقيق وحده بكامل العبادة والإفراد بالإلهية، وأن ما جاءهم به الإسلام لهو الصواب والرشاد ( تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر ) تغشى وجوه المشركين السفهاء علائم المنكر وهو الغضب والعبوس والإنكار لفرط نكيرهم وضيقهم بهذا الحق. وهذه صفة المجرمين الحاقدين من أعداء الإسلام في كل زمان أولئك الذين يكيدون للإسلام ويبالغون في كراهيته والنفور منه، لفساد قلوبهم وسوء فطرتهم التي أتى عليها التشويه والتلويث والمرض. أولئك لفرط كراهيتهم للإسلام، إذ سمعوا آياته تتلى عليهم تقطعت قلوبهم غيظا وحنقا، فاستبان ذلك على وجوههم التي غشيها التجهم، والتعبس والكلوح.
قوله :( يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا ) ( يسطون )، من السطو. وهو القهر بالبطش١ ؛ أي يهمون بالبطش والتنكيل بالذين تلوا عليهم آيات الله، تعظيما لإنكار ما خوطبوا به.
قوله :( قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار ) أمر الله نبيه أن يقابلهم بالوعيد من القول الذي فيه ترعيب لهم وتنكيل بنفوسهم التي طغى عليها الجحود واللؤم ومحض البوار، وهو قوله لهم : أفأنبئكم أيها المشركون بما هو أعظم كراهية لكم من هؤلاء الذين تغتاظون من قراءتهم القرآن عليكم ( النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ) ( النار )، مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير : هي النار. أو مبتدأ، والجملة الفعلية ( وعدها الله ) خبر المبتدأ٢ ؛ أي أن النار شر مما كرهوه وتغيظوا من سماعه ؛ فقد وعدها الله هؤلاء المكذبين العتاة ؛ فهي مردهم ومأواهم وبئس ما يصيرون إليه٣.
١ - مختار الصحاح ص ٢٩٨..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٩..
٣ - تفسير الطبري جـ١٧ ص ١٤٠ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ٦٨..
قوله تعالى :( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ( ٧٣ ) ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ( ٧٤ ) ) المراد بالمثل الشبيه. والمقصود به هنا الأصنام التي كانت مصفوفة من حول الكعبة والتي عبدها المشركون من دون الله. وهذا خطاب من الله للناس منبها على حقارة الأصنام، ومنددا بسفاهة أحلام الجاهلين وسخفها ؛ أي جعل لي المشركون السفهاء شبيها في عبادتي ؛ أي أصناما عبدوها من دوني. قوله :( فاستمعوا له ) أي جعل المشركون لي شبيها في عبادتي فاستمعوا حال هذا الشبيه وتدبروه لتعلموا مبلغ الحماقة المسفة التي انحدرت إلى حضيضها عقول الجاهلين السفهاء. وذلك قوله :( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ) الذباب، اسم واحد للذكر والأنثى، وجمعه في الكثرة ذُبان. وفي القلة : أذبة. والواحدة ذبابة١. والمعنى : أن الأصنام التي عبدتموها من دون الله ليست سوى أحجار صُم لا تعي ولا تدرك. ولا تملك أن تخلق ذبابا وهو أبسط أنواع الحشرات وأشدها هوانا وضعفا ؛ بل إن الذباب من الحشرات التي تستقذرها النفوس وتتقزز منها الطبائع البشرية لحقارتها وقذرها. هذه الحشرة البسيطة المستقذرة لا تملك الأصنام البلهاء الصم- وإن اجتمعت جميعا- أن تخلق شيئا منها.
قوله :( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ) الاستنقاذ، معناه التخليص. وقد ذكر أن المشركين كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران. وقيل : بالطعام فيقع عليه الذباب ليأكل منه. والمعنى : إذ وقع الذباب على هذه الأصنام فأخذ مما عليها شيئا، لا تستطيع الأصنام أن تستخلص شيئا مما أخذه الذباب منها. والمراد إخبار الناس أن هذه الأصنام عاجزة عن خلق ذباب وهو المستقذر المهين ؛ بل إنها عاجزة عن استنقاذ شيء مما يسلبه الذباب منها.
قوله :( ضعف الطالب والمطلوب ) ( الطالب ) معناه الأصنام المتخذة آلهة. ( والمطلوب )، الذباب ؛ أي عجز الطالب وهي الأصنام المعبودة من دون الله أن تستنقذ ما سلبه الذباب منها. وذلك غاية في التنديد بالمشركين الضالين الذين يذعنون بالخشوع والتقديس لهذه الأصنام البلهاء الصم التي لا تصنع حشرة مهينة قذرة كالذباب. وأعجز عن استرداد ما يسلبه الذباب منها.
١ - المصباح المنير جـ١ ص ٢٢٠..
قوله :( ما قدروا الله حق قدره ) ذلك نعي على المشركين الضالين عدم تعظيمهم ربهم الذي خلقهم وخلق أصنامهم. فما عظموه حق التعظيم، وما أجلوه ما هو حقيق به من كامل الإجلال ؛ بل اتخذوا من دونه آلهة مكذوبة مفتراة، فعبدوها سفها وجهالة.
قوله :( إن الله لقوي عزيز ) الله بقوته المطلقة قادر على خلق ما يشاء. وهو كذلك عزيز ؛ أي منيع قاهر لا يغلبه غالب١.
١ - تفسير الطبري جـ١٧ ص ١٤١، ١٤٢ والكشاف جـ٣ ص ٢٣..
قوله تعالى :﴿ الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير ( ٧٥ ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور ( ٧٦ ) ﴾ قيل : إن هذه الآية نزلت لما قال المشركون ( أأنزل عليه الذكر من بيننا ) فقال الله لهم : إنه يختار من الملائكة رسلا كجبريل وميكائيل اللذين كانا يرسلهما ربهما إلى النبيين في الأرض وإلى من يشاء من عباه. وكذلك اختار من الناس رسلا لهداية الناس ويأتي في طليعتهم وأشرفهم محمد ( ص )، المبعوث هداية ورحمة للعالمين.
قوله :( إن الله سميع بصير ) الله سميع لما يقوله المشركون في رسول الله ( ص ) ؛ بل سميع لكل ما ينطق به البشر من أقوال. وهو كذلك بصير بمن يصطفيهم رسلا للناس.
قوله :( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) أي يعلم ما بين أيديهم من أمر الآخرة، وما خلفهم من أمر الدنيا١.
١ - تفسير الرازي جـ٢٣ ص ٧١ وتفسير الطبري ١٧ ص ١٤٢..
قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ( ٧٧ ) وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ( ٧٨ ) } فضلت هذه السورة بسجدتين وهذه هي السجدة الثانية من سورة الحج. وهي مشروعة في مذهب الشافعي خلافا لأبي حنيفة ومالك.
والمراد بقوله :( اركعوا واسجدوا ) إقامة الصلاة المفروضة. وقد خص الركوع والسجود ؛ لعظيم قدرهما وشرفهما في الصلاة ؛ بل إنهما ركنان أساسيان في الصلاة فلا تصح من دونهما أو أحدهما.
قوله :( واعبدوا ربكم ) أي أذعنوا له بالخضوع والطاعة فأتمروا بما أمر وانتهوا عما زجر.
قوله :( وافعلوا الخير ) ندب إلى فعل المندوبات من أفعال الخير وهي كثيرة ومنتشرة في كل جوانب السلوك والتصرف.
قوله :( وجاهدوا في الله حق جهاده ) أي جاهدوا المشركين والمنافقين طلبا لمرضاة الله. وذلك لدفع أذاهم وكف شرورهم عن المسلمين. وقيل : المراد بالجهاد هنا عموم الامتثال لأوامر الله جميعها، والانتهاء عن كل نواهيه ؛ يعني جاهدوا أنفسكم بتوطينها على فعل الطاعات ومجانبة المعاصي والخطيئات. قوله :( هو اجتباكم ) الله اختاركم لأشرف رسالة. وهي رسالة الإسلام. وما تضمنه من كامل الشريعة المباركة التي يصلح عليها الناس في حياتهم ومعادهم. قوله :( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) الحرج معناه الضيق١. وهذه الآية شاهد عظيم على صلوح الشريعة الإسلامية للإنسان في كل مكان وزمان. لا جرم أن هذه الشريعة بنيت على التيسير والتسهيل والرحمة ؛ فهي بذلك مغايرة للتشديد والتضييق والإعنات. وهذه واحدة من كبريات المزايا التي تتجلى في شريعة هذا الدين العظيم. وهي مزايا أساسية وثابتة تكشف عن طبيعة هذا الدين المميز المرغوب. طبيعته الكريمة الميسورة التي تنسجم تماما مع فطرة البشر.
على أن هذه الآية العظيمة تدخل في كثير من أحكام الشريعة الإسلامية بما يحقق فيها اليسر والتوسعة ويزيل منها التشديد أو الحرج الذي لا يطاق. ومن الأمثلة على هذه الحقيقة، الصلاة. وهي عماد الدين ؛ بل هي الركيزة الثانية الكبرى في هذا الدين كله بعد شهادة أن لا إله إلا الله ؛ فإنها قد شرع فيها التيسير والترخيص مما يجعلها سهلة تطاق، فهي تجب في الحضر أربعا وفي السفر تقصر إلى ركعتين اثنتين، فضلا عن جمع الصلاة بوجهيه في التقديم والتأخير. وتصلى رجالا وركبانا في حالات الأعذار ويسقط فيها وجوب القيام للمريض فيؤديها جالسا، فإن لم يستطع ؛ فعلى الجنب، فإن لم يستطع ؛ فمستلقيا. فإن لم يستطع فيومئ إيماء. وكذلك فريضة الصيام شرع فيها الترخيص في الإفطار عند الحاجة. إلى غير ذلك من الأحكام الكثيرة المنتشرة في كل مناحي الشريعة ؛ فقد شرع فيها التخفيف والتوسعة والرخص ؛ دفعا للمشقة والحرج وإذهابا للعنت عن الناس وجلبا للتسهيل عليهم.
ومن جملة ذلك : تشريع الكفارات ؛ فقد شرعها الله لمحو كثير من الزلات والمخالفات. وكذلك الاستغفار والتوبة ؛ فهما بابان عظيمان لتكفير الذنوب والصفح عن الخطايا والعيوب التي يتعثر بها الإنسان أو يقع فيها استجابة لضعفه. لكنه إذ يبادر الاستغفار والندامة تائبا ؛ فإن الله تواب رحيم. وذلك يبين يُسر هذا الدين وسهولة الأخذ به. وفي الحديث : " بعثت بالحنيفية السمحة ".
قوله :( ملة أبيكم إبراهيم ) ( ملة )، منصوب بفعل مقدر. وتقديره : اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم٢.
قوله :( هو سماكم المسلمين ) الذين سماهم المسلمين هو الله عز وجل ؛ فقد سماهم بذلك من قبل في الكتب المتقدمة ( وفي هذا ) يعني القرآن.
قوله :( ليكون الرسول شهيدا عليكم ) أي يشهد عليكم يوم القيامة أنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم ( وتكونوا شهداء على الناس ) أي لتشهدوا على الناس يوم القيامة أنهم قد بلغوا من رسلهم دعوة ربهم. فلا جرم أن هذه نعمة عظمى قد امتن الله بها على هذه الأمة ؛ إذ جعلها خير الأمم لتشهد يوم القيامة على سائر الأمم بحقيقة التبليغ. وهي نعمة من الله جديرة أن تقابل ببالغ الشكران لله. وذلك بصدق التوجه إلى جنابه وحسن الإخبات له، مطيعين عابدين خاشعين. وهو قوله :( فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله ) أي ثقوا به كامل الثقة في كل أموركم، واعتضدوا به تمام الاعتضاد، وتوكلوا عليه بالغ التوكل، واطلبوا منه وحده العون والنصر والتأييد ( هو مولاكم ) أي ناصركم ومؤيدكم ومظهركم على عدوكم ( فنعم المولى ونعم النصير ) نعم الولي ونعم الناصر٣.
١ - مختار الصحاح ص ١٢٩..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٩..
٣ - تفسير الطبري جـ١٧ ص ١٤٤ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٣٦ وتفسير البيضاوي ص ٤٥١..
Icon