ﰡ
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً ﴾ ؛ قال بعضُهم : أرادَ به بالملائكةَ كلَّهم، فإنَّهم كلُّهم رسُلُ اللهِ بعضُهم إلى بعضٍ وبعضُهم إلى الإنسِ، وقالَ بعضُهم : أرادَ بذلك جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ وملَكُ الموتِ والحفَظَةَ، يرسلُهم إلى النبيِّين وإلى ما شاءَ من الأُمور.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلِي أَجْنِحَةٍ ﴾ ؛ صفةُ الملائكةِ أي ذوي أجنحةٍ، ﴿ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾، منهم مَن له جَناحَان، ومنهم مَن له ثلاثةٌ، ومنهم من له أربعةٌ، اختارَهم الله تعالى لرِسالَتهِ من حيث عَلِمَ أنَّهم لا يُبدِّلون.
وقولهُ تعالى :﴿ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ ﴾ ؛ أي يزيدُ في أجنحةِ الملائكة ما يشاءُ، فمِنهُم من له مائةُ ألفِ جَناحٍ، ومنهم من له أكثرُ، وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ؛ قال :" رَأى النَّبيُّ ﷺ جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ".
وعن ابنِ شِهَابٍ قال :" سَأَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يَتَرَاءَى لَهُ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : إنَّكَ لَنْ تُطِيقَ ذلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ :" إنِّي أُحِبُّ أنْ تَفْعَلَ " فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى الْمُصَلَّى فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ، فَغَشِيَ عَلَى النَّبيِّ ﷺ حِينَ رَآهُ، ثُمَّ أفَاقَ وَجِبْرِيلُ مُسْنِدُهُ إلَيْهِ وَاضِعٌ إحْدَى يَدَيْهِ عَلَى صَدْرهِ وَالأُخْرَى بَيْنَ كَتِفَيْهِ. فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ :" سُبْحَانَ اللهِ مَا كُنْتُ أرَى شَيْئاً مِنَ الْخَلْقِ هَكَذا " فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام : كَيْفَ لَوْ رَأيْتَ إسْرَافِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! لَهُ اثْنَا عَشَرَ جَنَاحاً، جَنَاحٌ بالْمَشْرِقِ وَجَنَاحٌ بالْمَغْرِب وَالْعَرْضُ عَلَى كَاهِلِهِ ".
وعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ :(إنَّ للهِ تَعَالَى مَلَكاً يَسَعُ الْبحَارَ كُلُّهَا فِي نَقْرَةِ إبْهَامِهِ). وَقِيْلَ : معنى قولهِ ﴿ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ ﴾ يعني حُسنَ الصَّوتِ، كذلك قال الزهريُّ، وقال قتادةُ :(هِيَ الْمَلاَحَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ وَالشَّعْرِ الْحَسَنِ وَالْوَجْهِ الْحَسَنِ وَالْخَطِّ الْحَسَنِ).
وقولهُ تعالى ﴿ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾ في موضعِ خفضٍ ؛ لأنه لا يتصرَّفُ. وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ أي قادرٌ على ما يزيدُ على الزيادةِ والنُّقصانِ.
وَقِيْلَ : أرادَ بالرحمةِ ها هنا المطرَ والرزقَ والعافية وجميعَ النِّعَمِ، ما يفتحِ اللهُ من ذلك فلا مانعَ له، ولا يستطيعُ أحدٌ من الخلقِ حبسَهُ ولا إمساكَهُ، وقولهُ تعالى :﴿ وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ﴾ ؛ أي وما يُمسِكِ اللهُ من ذلك فلا يقدِرُ أحدٌ على إرسالهِ، ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ ؛ أي العزيزُ فيما أمسكَ، الحكيمُ فيما أرسلَ.
قولهُ :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ ؛ أي لا تَغْتَمَّ، ولا تُهلِكْ نفسَكَ عليهم حَسَرَاتٍ على تركِهم الإسلامَ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ ؛ في كُفرِهم فيجازيهم بما هو أولى بهم، قرأ أبو جعفر (فَلاَ تُذْهِبْ) بضم التاء وكسر الهاء، نصب السِّين.
وهذا احتجاجٌ على مُنكرِي البعثِ، فإن موتَهم كموتِ الأرض، وذهابَ أثَرِهم كذهاب أثرِ الأشجار والزُّروعِ، والقادرُ على إخراجِ الأشجار والزروعِ من الأرضِ قادرٌ على إخراجِ الموتَى من الأرضِ.
ومعنى الآية :﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً ﴾ أي تُزعِجهُ من حيث هو ﴿ فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾ أي مكانٍ ليس فيه نباتٌ ﴿ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ أي أنبَتنا فيها الزرعَ والكلأَ بعدَ أن لم يكن، ﴿ كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾ أي الإحياءُ والبعث.
وعن أبي رُزَينِ العقيليِّ قالَ :" قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يُحييِ اللهُ الْمَوْتَى ؟ " أوَمَا مَرَرْتَ بوَادِي قَوْمِكَ مُمَحَّلاً ثُمَّ مَرَرْتَ بهِ خَضِراً ؟ " قُلْتُ : بَلَى، قَالَ :" فَكَذلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى " وَقَالَ :" كَذلِكَ النُّشُورُ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ ؛ إلى اللهِ تصعدُ كلمةُ التوحيدِ وهو قولهُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، ومعنى ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ﴾ أي يعلمُ ذلك كما يقالُ : ارتفعَ الأمرُ إلى القاضِي والسُّلطان أي عَلِمَهُ. وَقِيْلَ : صعودُ الكَلِمِ الطيِّب أن يُرفَعَ ذلك مَكتُوباً أو مَقبُولاً إلى حيث لا مالِكُ إلاَّ اللهُ ؛ أي إلى سَمائهِ يصعدُ الكَلِمُ الطيِّبُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ ؛ قال الحسنُ :(مَعْنَاهُ : ذُو الْعَمَلِ الصَّالِحِ يُرْفَعُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ إلَى اللهِ تَعَالَى بعَرْضِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، فَإنْ وَافَقَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ قُبلَ، وَإنْ خَالَفَ رُدَّ، لأنَّ الْعَبْدَ إذا وَحَّدَ اللهَ وَأخْلَصَ فِي عَمَلِهِ ارْتَفَعَ الْعَمَلُ إلَى اللهِ تَعَالَى). قال :(لَيْسَ الإيْمَانُ بالتَّحَلِّي وَلاَ بالتَّمَنِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْب وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ، مَنْْ قَالَ حُسْناً وَعَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ رَدَّهُ اللهُ تَعَالَى، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً رَفَعَهُ الْعَمَلُ).
وقرأ أبو عبدِالرحمن (الْكَلاَمُ الطَّيِّبُ). وعن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله علي وسلم في قولهِ ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ ﴾ :" هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ، إذا قَالَهَا الْعَبْدُ عَرَجَ بهَا مَلَكٌّ إلَى السَّمَاءِ ".
وَقِيْلَ : الكلامُ الطيب : لا إلهَ إلاَّ اللهُ، والعملُ الصالِحُ : أداءُ فرائضهِ، ومَن لا يؤدِّي فرضَهُ رُدَّ كلامهُ. وجاءَ في الخبرِ :" طَلَبُ الْجَنَّةِ بلاَ عَمَلٍ ذنْبٌ مِنَ الذُّنُوب "، وقال النبيُّ ﷺ :" لاَ يَقْبَلُ اللهُ قَوْلاً بلاَ عَمَلٍ "، وعلى هذا المعنَى قولُ الشاعرِ : لاَ تَرْضَ مِنْ رَجُلٍ حَلاَوَةَ قَوْلِهِ حَتَّى يُصَدِّقَ مَا يَقُولُ فَعَالُفَإذا وَزَنْتَ فَعَالَهُ بمَقَالِهِ فَتَوَازَنَا فَإخَاءُ ذاكَ جَمَالُوقال ابنُ المقفَّع :(قَولٌ بلاَ عَمَلٍ كَثَرِيدٍ بلاَ دَسَمٍ، وَسَحَابٍ بلاَ مَطَرٍ، وَقَوْسٍ بلاَ وَتَرٍ). وَقِيْلَ : معناهُ : والعملُ الصالِحُ يرفعهُ اللهُ ؛ أي يَقبَلهُ.
قَوُلَهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ ؛ أي يَفعلُونَها على وجهِ المخادَعة كما كان الكفارُ يَمكُرون بالنبيِّ ﷺ في دار النَّدوةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : الذين يُشرِكون باللهِ وبعملِ السيِّئات لَهم عذابٌ شديد في الآخرةِ. وَقِيْلَ : أرادَ بقولهِ ﴿ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ ﴾ يعمَلون عمَلاً على وجهِ الرِّياءِ.
" كما رُوي أنَّ رجُلاً قالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ فِيمَ النَّجَاةُ غَداً ؟ فَقَالَ :" لاَ تُخَادِعِ اللهَ، فَإنَّهُ مَنْ يُخَادِعِ اللهَ يَخْدَعُهُ وَيَخْلَعُهُ مِنَ الإيْمَانِ ". فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ يُخَادَعُ اللهُ ؟ فَقَالَ :" أنْ تَعْمَلَ بمَا أمَرَكَ اللهُ، لاَ يُقْبَلُ مَعَ الرِّيَاءِ عَمَلٌ، فَإنَّ الْمُرَائِي يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ بأرْبَعَةِ أسْمَاءٍ : يَا كَافِرُ ؛ يَا فَاجِرُ ؛ يَا غَادِرُ ؛ يَا خَاسِرُ ؛ ضَلَّ عَمَلُكَ " قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ ؛ أي يفسَدُ ويهلَكُ ويكسَرُ ولا يكون شيئاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً ﴾ ؛ أي ومِن كلِّ البحرَين تأكلُون السمكَ لا يختلفُ طَعْمُ السَّمكِ لاختلاف ماءِ البحرَين، فكذلك قد يولَدُ للكافرِ ولدٌ مسلم مثلَ خالدِ بن الوليد وعكرمةَ بن أبي جهلٍ وغيرِهما.
وقولهُ تعالى :﴿ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ ؛ قِيْلَ : أرادَ به إخراجَ اللُّؤلُؤِ والمرجان من أحدِهما خاصَّة وهو الملحُ. والمعنى : تَستَخرِجُونَ من الملحِ دون العَذْب. قِيْلَ : إن اللؤلؤَ قطرُ المطرِ يقعُ في جوفِ الصَّدَفِ فيكون منه اللؤلؤُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ﴾ ؛ أي ترَى السفُنَ جواري في البحرِ، قال مقاتلُ :(هُوَ أنْ تَرَى سَفِينَتَيْنِ، أحَدُهُمَا مُقْبلَةً وَالأُخْرَى مُدْبرَةً، وَهَذِهِ تَسْتَقْبِلُ تِلْكَ، وَتِلْكَ تَسْتَدْبرُ هَذِهِ، تَجْرِيَانِ برِيحٍ وَاحِدَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ ؛ لتَطلبُوا من رزقهِ التجارةَ، فتحملُ النِّعَمُ فيها من بلدٍ إلى بلدٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ ؛ أي فَعَلَ ذلك لتعلَمُوا أنَّ هذه النعَمَ من اللهِ، ولكي تشكرونَهُ عليها.
وقولهُ تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ﴾ ؛ أي الذي يفعلُ هذه الأشياءَ هو اللهُ ربُّكم، و ؛ ﴿ لَهُ الْمُلْكُ ﴾ ؛ الدائمُ الذي لا يزولُ، ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ ؛ من الأصنامِ، ﴿ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ ؛ لا يقدِرون على أنْ ينفعُوكم بقدر قِطْمِيرٍ، وهو القشرةُ الدَّقيقة الملتزِقَةُ بنواةِ الثَّمرة كاللفَّافَةِ عليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ ؛ معناهُ : لا يُخبرُكَ بحقائقِ الأمُور وعواقبها إلاَّ اللهُ ؛ لأنه عالِمٌ بكلِّ الأشياءِ، لا يخفَى عليه منها شيءٌ، ولا تلحقهُ المضَارُّ والمنافعُ.
وسُئل الحسنُ بن الفضلِ عن الجمعِ بين هذه الآيةِ وبين قولهِ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾[العنكبوت : ١٣] فقالَ (قَوْلُهُ ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ يَعْنِي طَوْعاً، وَقَوْلُهُ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾[العنكبوت : ١٣] يَعْنِي كَرْهاً). قال ابنُ عبَّاس : في قولهِ ﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ﴾ قال :(يَقُولُ الأَبُ وَالأُمُّ : يَا بُنَيَّ احْمِلْ عَنِّي، فَيَقُولُ : حَسْبي مَا عَلَيَّ).
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ﴾ ؛ يقولُ : إنما ينتفعُ بإنذارِكَ ووَعْظِكَ الذين يُطيعون ربَّهم في السرِّ، ﴿ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾ ؛ المفروضةَ، ولأن مَن خَشِيَ اللهَ واجتنبَ المعاصي في السرِّ مِن خشيةِ الله تعالى، اجتنبَها لا محالةَ في العَلانيةِ.
ويقال : إنَّ الخشيةَ في السرِّ، والإقدامَ على الطاعةِ في السرِّ، واجتنابَ المعصيةِ في السرِّ، أعظمُ عندَ اللهِ ثواباً، كما قالَ النبيُّ ﷺ :" مَا تَقَرَّبَ امْرِئٌ بشَيْءٍ أفْضَلَ مِنْ سُجُودٍ خَفِيٍّ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ " وأما عطفُ الماضِي في قولهِ تعالى ﴿ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾ على المستقبَلِ في قولهِ ﴿ يَخْشَوْنَ ﴾، ففائدةُ ذلك أنَّ وجوبَ خشيةِ الله لا تختصُّ بزمانٍ دون زمانٍ ولا بمكان دون مكانٍ، ووجوبُ إقامةِ الصَّلاة يختصُّ ببعضِ الأوقاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ﴾ ؛ أي ومَن تطَهَّرَ من دَنَسِ الذُّنوب والشِّركِ ليكون عند ربه زكيّاً، فإن منفعةَ تطَهُّرهِ راجعةٌ إلى نفسهِ، ﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ ؛ أي إليه يرجعُ الخلق كلُّهم في الآخرةِ، ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾ ؛ يعني الْمُشرِكُ والمؤمنُ، ﴿ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ ﴾ ؛ أي ولا الشِّركُ ولا الضَّلالُ كالنور والهدى والإيمان.
وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ أي يسمعُ كلامَهُ مَن يشاءُ ؛ أي يتَّعِظُ ويهتدِي، قال عطاءُ :(يَعْنِي أوْلِيَاءَهُ الَّذِينَ خَلَقَهُمْ لِجَنَّتِهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴾ ؛ أي كمَا لا تقدرُ تسمِعُ مَن في القبور، فكذلكَ لا تقدرُ أن تُسمِعَ الكفارَ، شبَّهَهم بالموتَى لأنَّهم لا ينتفَعُون كالموتَى.
وقرأ أبو رُزَين العقيليِّ (مَا أنْتَ بمُسْمِعِ مَنْ فِي الْقُبُور) بلا تنوينٍ بالإضافة، وقولهُ تعالى :﴿ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ﴾ ؛ أي ما أنتَ إلاَّ رسولٌ تُنذِرُهم النارَ وتخوِّفُهم، وليس عليك غيرُ ذلك.
وقوله تعالى ﴿ وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ يجوز أن يكون الغرَابيبُ هي الجبالُ السُّود، كأنَّه قالَ : ومن الجبالِ غرابيبُ، والغَرَابيبُ الذي لَونهُ كَلَونِ الغُرَاب، ولذلك حَسُنَ أن يقال سُودٌ، وقال الفرَّاء :(هَذا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، تَقْدِيرُهُ : وَسُودٌ غَرَابيبُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَاهُ : إنَّما يَخَافُونَ مِنْ خَلْقِي مَنْ عَلِمَ جَبَرُوتِي وَعِزَّتِي وَسُلْطَانِي)، وقال مقاتلُ :(أشَدُّ الناسِ للهِ خِشْيَةً أعْلَمُهُمْ بهِ)، وقال مسروقُ :(كَفَى بخِشْيَةِ اللهِ عِلْماً، وَكَفَى بالاغْتِرَار باللهِ جَهْلاً). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ ؛ أي عزيزٌ قاهر وغالبٌ في مُلكهِ، ﴿ غَفُورٌ ﴾ ؛ لذنوب المؤمنين.
ثم قسَّمَهم ورتَّبَهم فقالَ تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾ ؛ وهو الذي ماتَ على كِبْرِه ولم يَتُبْ عنها، ﴿ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ ؛ وهو الذي لَمْ يُصِبْ كبيرةً، ﴿ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ﴾ ؛ يعني المقرَّبين الذين سبَقُوا إلى أعمالٍ، وقال الحسنُ :(الظَّالِمُ : الَّذِي تَرَجَّحَ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ : الَّذِي اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتُهُ، وَالسَّابقُ : مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ).
وعن عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قالَ :" سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" سَابقُنا سَابقٌ " أي إلى الجنَّة أو إلى رحمةِ الله تعالى بالخيراتِ ؛ أي بالأعمال الصالحة، ﴿ بِإِذُنِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي بإرادةِ الله، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ ؛ معناهُ : إيراثُهم الكتابَ هو الفضلُ الكبير، وسُمي إعطاءُ الكتاب إيْرَاثاً لأنَّهم أُعْطُوهُ بغيرِ مسألةٍ ولا اكتساب.
وعن رسولِ اللهِ ﷺ أنَّهُمْ قَالُواْ :" السَّابقُونَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْمُقْتَصِدُونَ يُحَاسَبُونَ حِسَاباً يَسِيراً ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَالظَّالِمُونَ يُحَاسَبُو مَا شَاءَ اللهُ أنْ يُحَاسَبُواْ، ثُمَّ يَرْحَمُهُمُ اللهُ تَعَالَى فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْحَمْدُ للهِ الَّّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ... " إلى آخرِ الآيتَين.
وعن الحسنِ أنه قالَ :(السَّابقُ الَّذِي تَرَكَ الدُّنْيَا، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي أخَذ الْحَلاَلَ، وَالظَّالِمُ الَّذِي لاَ يُبَالِي مِنْ أيْنَ أخَذ). ويقالُ : الظالِمُ صاحبُ الكبائرِ، والمقتصدُ صاحبُ الصَّغائرِ، والسَّابقُ الذي اتقى سيئاته.
فإنْ قيلَ ما الحكمةُ في تقديمِ الظالِم وتأخيرِ السابق ؟ قِيْلَ : الواوُ لا توجِبُ الترتيبَ كما قالَ تعالى﴿ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾[التغابن : ٢]. وَقِيْلَ : قدَّمَ الظالِمَ لئَلاَّ ييأسَ من رحمتهِ، وأخَّرَ السابقَ لئَلا يُعجَبَ بنفسهِ. وَقِيْلَ : قدَّمَ الظالِمَ فإذا لَم يكن له شيءٌ يتَّكِلُ عليه إلاَّ رحمةُ الله تعالى، وثَنَّى بالمقتصدِ لِحُسنِ ظنِّهِ بربه. وَقِيْلَ : لأنه بين الخوفِ والرَّجاءِ، وأخَّرَ السابقَ لأنه اتَّكَلَ على حسَناتهِ. وَقِيْلَ : لئلا يأمَنَ أحدٌ مَكْرَهُ، وكلُّهم في الجنَّة بُحرَمِة كلمةِ الإخلاصِ.
وعن عُقبة بن صَهبان قال :(سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ﴾ فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَأمَّا السَّابقُ فَمَنْ مَضَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ شَهِدَ لَهُ النَّبيُّ ﷺ بالْجَنَّةِ، وَأمَّا الْمُقْتَصِدُ فَمَنْ تَبعَ أثَرَهُ مِنْ أصْحَابهِ حَتَّى لَحِقَ بهِ، وَأمَّا الظَّالِمُ فَمِثْلِي وَمِثْلَكَ). وقال سهلُ بن عبدِالله :(السَّابقُ الْعَالِمُ، وَالْمُقْتَصِدُ الْمُتَعَلِّمُ، وَالظَّالِمُ الْجَاهِلُ).
وَقِيْلَ : السابقُ الذي اشتغلَ بمَعادهِ، والمقتصدُ بمعَادهِ ومعاشهِ، والظالِمُ الذي اشتغلَ بمعاشهِ عن معادهِ. وَقِيْلَ : الظالِمُ طالِبُ الدُّنيا، والمقتصدُ طالبُُ العُقبَى، والسابقُ طالب المولَى. وَقِيْلَ : الظالِمُ الْمُرائِي في جميعِ أفعالهِ، والمقتصدُ المرائِي في بعضِ أفعالهِ دون بعضٍ، والسابقُ المخلِصُ في أفعالهِ كلِّها.
وعن ابنِ عُمر رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" لَيْسَ عَلَى أهْلِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورهِمْ، وَلاَ فِي مَحْشَرِهِمْ، كَأَنِّي بأَهْلِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورهِمْ وَهُمْ يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُؤُوسِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ : الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ ؛ أي متجاوزٌ عن الذنوب، يقبَلُ اليسيرَ من العملِ، ويعطِي الجزيلَ من الثواب. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ ﴾ ؛ أي دارَ المقامِ وهي الجنةُ، ﴿ مِن فَضْلِهِ ﴾، بتفَضُّلهِ لا بالأعمالِ. وسُمي دارَ المقامةِ لأن مَن دخلَها يخلدُ لا يموت، ويقيمُ فيها لا يحوَّلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ﴾ ؛ أي لا يَمسُّنا فيها تعبٌ ؛ ﴿ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ ؛ أي مشَقَّةٌ وتعبٌ وإعياء وقبورٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾ ؛ أي هكذا يُجزَى في الآخرةِ كلُّ كفورٍ بنِعَمِ الله تعالى. قرأ العامَّة (نَجْزِي) بالنون ونصب اللام، وقرأ أبو عمرٍو وحده بضم الياءِ وفتح الزاي على ما لَم يسمَّ فاعلهُ ورفعَ اللامَ.
قَالَ :(هُوَ الْعُمْرُ الَّذِي أعْذرَ اللهُ إلَى ابْنِ آدَمَ، قَالَ النَّبيُّ ﷺ :" مَنْ عَمَّرَهُ اللهُ تَعَالَى سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أعْذرَ اللهُ إلَيْهِ فِي الْعُمُرِ " ). وعن أبي هُريرةَ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" أعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِين، وَأقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذلِكَ " قَالَ النَّبيُّ ﷺ :" مَنْزِلُ مَنَايَا أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾ ؛ قال جمهورُ المفسِّرين : يريدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. ورُوي عن عكرمةَ وسُفيان بن عُيينة :(الْمُرَادُ مِنَ النَّذِيرِ الشَّيْبُ) وَمَعْنَاهُ : أوَلَمْ نُعَمِّركُم حتى شِبتُم؟. وعن رسولِ الله ﷺ أنه قَالَ :" مَنْ أنَافَ سِنُّهُ عَلَى أرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ تَغْلِبْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَلْيَتَجَهَّزْ إلَى النَّار ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ ؛ أي فذُوقوا العذابَ فما للمُشرِكين من مانعٍ يَمنعُهم من العذاب.
وقولهُ تعالى :﴿ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ ﴾ ؛ أي القصدَ أي الإضرارَ بالنبيِّ ﷺ وأصحابهِ من حيث لا يشعُرون. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ ؛ أي لا يحيقُ ضرَرُ المكرِ السيِّ إلاَّ بفاعلهِ، فقُتِلُوا يومَ بدرٍ، والمكرُ السيِّء هو العملُ القبيح، وقولهُ تعالى ﴿ وَلاَ يَحِيقُ ﴾ أي ولا يحِلُّ ولا ينْزِلُ إلاَّ بأهلهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ ﴾ ؛ أي ما ينظرُ أهل مكَّة إلا أن ينْزِلَ بهم العذابُ مثلَ ما نزلَ بمَن قبلَهم من الأُمَم السَّالفة المكذِّبة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ ؛ أي لا يقدرُ أحدٌ أن يُحوِّلَ العذابَ عنهم إلى غيرِهم.