تفسير سورة فصّلت

اللباب
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية١ وهي أربع وخمسون٢ آية، وسبعمائة وتسعة وتسعون كلمة، وثلاثة آلاف وثلثمائة وخمسون حرفا.
١ في قول الجميع القرطبي ١٥/٣٣٧..
٢ وقيل: ثلاث وخمسون المرجع السابق..

مكية وهي أربع وخمسون آية، وسبعمائة وتسعة وتسعون كلمة، وثلاثة آلاف وثلثمائة وخمسون حرفا بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿حم تنزيل من الرحن الرحيم﴾ يجو أن يكون «تنزيل» خبر «حم» على القول بانها اسم السورة،. ويجوز أن يكون تنزيل خبر ابتداء مضمر، أي هذا تنزيل.
وقال الأخفش: تنزيل رفعت بالابتداء و «كتاب» خبره.
قوله: «كتاب» قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً لِتَنْزِيلُ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً من تنزيل، وأن يكون فاعلاً بالمصدر، وهو تنزيل أي نزل الكتاب، قاله أبو البقاء. و ﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ صفة «لِكتَابٍ».
قوله: «قرآناً» في نصبة ستةُ أوجه:
أحدها: هو حال بنفسه. و «عَرَبِيًّا» صفته، أو حال مُوطِّئَة، والحال في الحقيقة «
96
عربياً» وهي حال غير متنقلة وصاحب الحال إما كتاب لوصفه بفصلت، وما «آياته»، أو منصوب على المصدر، أي يقرأه قرآناً أو على الاختصاص والمدح، أو مفعول ثانٍ «لفصلت»، أو منصوب بتقدير فعل، أي فصَّلْنَاهُ قُرْآناً.
قوله: «لِقَومٍ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعلق «بفصلت» أي فصلتُ لهؤلاءِ وبينتُ لهم؛ لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت مفصلة في نفسها لجميع الناس.
الثاني: أن يتعلق بتنزيل. وهذا إذا لم تجعل «مِنَ الرَّحْمنِ» صفة له؛ لأنك إن جعلت «من الرحمن» صفة له، فقد أعلمت المصدر الموصوف وإذا لم يكن «كتاب» خبراً عنه، ولا بدلاً منه؛ لئلا يلزم الإخبار عن الموصول أو المبدل منه قبل تمام صلته، ومن يتسع في الظرف وعديله لم يبال بشيءٍ.
وأما إذا جعلت «من الرحمن» متعلقاً به و «كتاب» فاعلاً به فلا يَضُرُّ ذلك؛ لأنه من تتماته وليس بأجنبي.

فصل


اعلم أنه تعالى حكم على هذه السورة بأشياء:
أولها: كونها تنزيلاً، والمراد المنزل، والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور، كقوله: هذا بناء الأمير أي مبنيّه، وهذا الدِّرهم ضربُ السُّلطان (أي مضروبه) ومعنى كونه منزلاً: أن الله كتبها في اللوح المحفوظ، وأمر جبريل، عليه (الصلاة) والسلام أن يحفظ الكلمات ثم ينزل بها على النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويُؤَدِّيها إليه، فلما حصل تفهيمُ هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل عليه (الصلاة) والسلام سمي بذلك تنزيلاً.
وثانيها: كون ذلك التنزيل من الرحن الرحيم، وذلك يدل على أن ذلك التنزيل نعمةٌ عظيمة من الله تعالى، لأن الفعل المقرون بالصفة لا بد وأن يكون مناسباً لتلك
97
الصفة، فكونه تعالى رحمن رحيماً صفتان دالتان على كما الرحمة، فالتنزيلُ المضاف إلى هاتين الصفتين لا بدَّ وأن يكون دالاً على أعظم وجوه الرحمة والنعمة والأمر كذلك؛ لأن الخَلْقَ في هذا العالم كالمرضى والمُحتاجين، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأحصاء من الأغذية، فكان أعظم النعم من الله تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليهم.
وثالثها: كونه كتاباً، وتقدم أن هذا الاسم مشتق من الكَتْبِ وهو الجمع، فسمي كتاباً لأنه جمع فيه عِلْمَ الأولين والآخرين.
ورابعها: قوله فصلت آياته، أي ميزت وجعلت تفاصيل في معانٍ مختلفةٍ فبعضها وصف ذات الله، وصفاتِ التنزيه والتقديس وشرح كمال عمله وقدرته ورحمته وعجائب أصول خلقه من السموات والكواكب وتعاقب الليل والنهار، وعجائب أحوال النبات والحيوان وبعضها في المواعظ والنصائح، وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس، وبعضها في قَصَص الأنبياء وتواريخ الماضين، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمختلفة مثل ما في القرآن.
وخامسها: قوله: قرآناً وقد سبق توجيه هذا الاسم.
وسادسها: قوله عربياً أي إنما نزل بلغة العرب، ويؤكده قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ [إبراهيم: ٥].
وسابعها: قوله «لقوم يعلمون» أي جعلناه قرآناً لأَجْلِ أنا أنزلناه على قوم عربٍ بلغتهم ليفهموا منه المراد.
وثامنها وتاسعها: قوله «بشيراً نذيرا» يجوز أن يكونا نعتين لقرآناً، وأن يكونا حالين؛ إما من كتاب وإما من آياته، وإما من الضمير المنوي في قرآناً. وقرأ زيد بن علي برفعهما على النعت لكتاب، أو على خبر ابتداء مضمر، أي هو بشير ونذير، ومعناه بشيراً للمطيعين بالثواب ونذيراً للمجرمين بالعقاب.
قال ابن الخطيب: والحق أن القرآن بشارة ونِذَارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملاً في هذه الصفة كما يقال: شعر شاعر وكلام قائل.
98
عاشرها: كونهم معرضين عنه لا يسمعونه ولا يتلفتون إليه، فهذه الصفات العشرة التي وصف الله تعالى القرآن بها.

فصل


احتج القائلون بخلق القرآن بهذه الآية من وجوه:
الأول: أنه وصف القرآن بكونه مُنَزَّلاً وتَنْزِيلاً، والمنزَّلُ والتنزيلُ مشعر بالتغيير من حال إلى حال فوجب أن يكونَ مخلوقاً.
الثاني: أن التنزيل مصدر، والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين.
الثالث: أن المراد بالكتابة إما الكتابة، وهي المصدر الذي هو المفعول المطلق وإما المكتوب الذي هو المفعول.
الرابع: أن قوله: «فصلت آياته» (بدل) على أن متصرفاً يتصرف فيه بالتفصيل وذلك لا يليق بالقديم.
الخامس: أنه إنما سمي قرآناً، لأنه قُرِنَ بعض أجزائه ببعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل.
السادس: وصفه بكونه «عربياً»، وإنما صحت هذه النسبة لأن هذه الألفاظ إنما دلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب، واصطلاحاتهم، وما حصل بِجَعْلِ جاعل وفِعْلِ فاعل فلا بد وأن يكون مُحْدَثاً ومَخْلُوقاً.
والجواب
: أ
، كل هذه الوجوه المذكورة عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي حادثة.

فصل


ذهب قومٌ إلى أن القرآن من سائر اللغات كالإستبرق والسِّجيل فإنهما فارسيان والمِشْكَاة فإنها حبشية، والقِسْطَاسِ، فإنه من لغة الروم، وهذا فاسد لقوله
99
تعالى: «قرآناً عَرَبياً»، وقوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ [إبراهيم: ٥].

فصل


قالت المعتزلة: الإيمان والكفارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ألفاظ شرعية لا لغوية بمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مُسمَّياتها اللُّغويَّة الأصلية إلى مسميات أخرى. وهذا باطل، وليس للشرع تصرفٌ في هذه الألفاظ إلا من وجهٍ واحد، وهو أنه خَصَّص هذه الأسماء بنوعٍ معيَّنٍ من أنواع مسمَّيَاتها، كما أن الإيمان عبارةٌ عن التصديق والصلاة عبارة عن الدعاء، فخصَّصه الشرع بنوع معين من الدّعاء، وكذا القول في البواقي.

فصل


تمسك القائلون بأن أفعال الله تعالى معلَّلةٌ بالمصالح والحكمة بهذه الآية فقالوا: إنها تدل على أنه إنما جعله قرآناً عربياً لأجل أن يعلموا المراد منه، فدل على أنَّ تعليل أفعالِ الله وأحكامه جائز.

فصل


قال قوم: القرآن كله معلوم لقوله تعالى: قرآناً عربياً لقوم يعلمون يعني إنما جعلناه عربياً ليصير معلوماً والقول بأنه غير معلوم يقدح فيه.
قوله: ﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ لا يصغُّون تكبراً. وهذه الآية تدل على أنه لا مُهْتَدِي إلا من هَدَاه الله، ولا مُضِلَّ إلا من أضله الله. ولما وصف الله تعالى القرآن بأنهم أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه بين أنهمه صرحوا بهذه النفرة، وذكروا ثلاثة أشياء:
أحدها: قوله: «فِي أَكِنَّةٍ»، قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: هلا قيل: على قلوبنا أكنة، كما قيل: وفي آذَانِنَا وقر ليكون الكلام على نمطٍ واحد؟ قلت: هو على نمط واحد؛ لأنه لا فرق في المعنى بين قولك: قلوبنا في أكنة، وعلى قلوبنا أكنة، والدليل عليه قوله تعالى: (إنَّا) جعلنا على قُلُوبِهِم، ولو قيل: جعلنا قلوبهم في أكنةٍ لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منه لا يرون الطباق (والملاحظة) إلا في المعاني.
قال أبو حيان: و «في» هنا أبلغ من على، لأنهم قصدوا الإفراط في عدم القبول
100
بحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف، فلا يمكن أن يصل إليها شيء كما تقول: المالُ في الكيسِ بخلاف قولك: المالُ على الكيس، فإنه لا يدل على الحَصر، وعدم الوصول دلالة الوعاء، وأما «وجعلنا» فهو من إخبار الله تعالى فلا يحتاج إلى مبالغة.
وتقدم تفسير الأكنة والوقر.
وقرأ طلحة بن مصرف وِقْر بكسر الواو وتقدَّم الفرق بينهما.
قوله: «مِمَّا تَدْعُونَا» من في «مِمَّا» وفي «ومِنْ بَيْننا» لابتداء الغاية والمعنى أن الحِجاب ابتداء منا وابتداء منك فالمسافة المتوسطة جهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها، فلو لم تأتٍ «مِنْ» لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين.
والمقصود المبالغة بالتبايُن المُفرِط، فلذلك جيء بِمِنْ قاله الزمخشري. وقال أبو البقاء: هو محصول على المعنى؛ لأن المعنى في أكنة محجوبةٍ عن سماع ما تدعُونا إليه. ولا يجوز أن يكون نعتاً لأَكنَّةٍ؛ لأن الأكنة الأغشية، وليس الأغشية مما تدعونا إليه.

فصل


وقالوا: يعنى المشركين قلوبنا في أكنة أغطية، والأكنة جمع كنان، كأغطية جمع غطاء، والكِنان هو الذي جعل فيه السهام، والمعنى لا نفقهُ ما تقول، وفي آذاننا وقر أي صممٌ فلا نسمعُ ما تقول، والمعنى: إنا في ترك القبول عنك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع ومن بيننا وبينك حجاب، خِلاف في الدين، فلا نوافقك على ما تقول فاعمل أنت على دينك إنّا عاملون على ديننا.
101
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى :﴿ حم تنزيل من الرحمن الرحيم ﴾ يجو أن يكون «تنزيل » خبر «حم » على القول بانها اسم السورة١. ويجوز أن يكون تنزيل خبر ابتداء مضمر، أي هذا تنزيل٢.
وقال الأخفش : تنزيل رفعت بالابتداء و «كتاب » خبره٣.
١ هذا قول الزمخشري في الكشاف ٣/٤٤١، والرازي في التفسير الكبير ٢٧/٩٣..
٢ الكشاف المرجع السابق، وهو رأي الفراء في معاني القرآن ٣/١١..
٣ قال في المعاني: "فالكتاب خبر المبتدأ أخبر به أن التنزيل كتاب" معاني القرآن له ٦٨٠..


جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
احتج القائلون بخلق القرآن بهذه الآية من وجوه :
الأول : أنه وصف القرآن بكونه مُنَزَّلاً وتَنْزِيلاً، والمنزَّلُ والتنزيلُ مشعر بالتغيير من حال إلى حال فوجب أن يكونَ مخلوقاً.
الثاني : أن التنزيل مصدر، والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين٦.
الثالث : أن المراد بالكتابة إما الكتابة، وهي المصدر الذي هو المفعول المطلق وإما المكتوب الذي هو المفعول.
الرابع : أن قوله :«فصلت آياته» ( بدل )٧ على أن متصرفاً يتصرف فيه بالتفصيل وذلك لا يليق بالقديم.
الخامس : أنه إنما سمي قرآناً، لأنه قُرِنَ بعض أجزائه ببعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل.
السادس : وصفه بكونه «عربياً»، وإنما صحت هذه النسبة لأن هذه الألفاظ إنما دلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب، واصطلاحاتهم، وما حصل بِجَعْلِ جاعل وفِعْلِ فاعل فلا بد وأن يكون مُحْدَثاً ومَخْلُوقاً٨.
والجواب : أن كل هذه الوجوه المذكورة عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي حادثة٩.

فصل


ذهب قومٌ إلى أن القرآن من سائر اللغات كالإستبرق١٠ والسِّجيل١١ فإنهما فارسيان والمِشْكَاة١٢ فإنها حبشية، والقِسْطَاسِ١٣، فإنه من لغة الروم، وهذا فاسد لقوله تعالى :«قرآناً عَرَبياً»، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ [ إبراهيم : ٥ ].

فصل


قالت المعتزلة : الإيمان والكفارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ألفاظ شرعية لا لغوية بمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مُسمَّياتها اللُّغويَّة الأصلية إلى مسميات أخرى١٤. وهذا باطل، وليس للشرع تصرفٌ في هذه الألفاظ إلا من وجهٍ واحد، وهو أنه خَصَّص هذه الأسماء بنوعٍ معيَّنٍ من أنواع مسمَّيَاتها، كما أن الإيمان عبارةٌ عن التصديق والصلاة عبارة عن الدعاء، فخصَّصه الشرع بنوع معين من الدّعاء، وكذا القول في البواقي.

فصل


تمسك القائلون بأن أفعال الله تعالى معلَّلةٌ بالمصالح والحكمة بهذه الآية فقالوا : إنها تدل على أنه إنما جعله قرآناً عربياً لأجل أن يعلموا المراد منه، فدل على أنَّ تعليل أفعالِ الله وأحكامه جائز١٥.

فصل


قال قوم : القرآن كله١٦ معلوم لقوله تعالى : قرآناً عربياً لقوم يعلمون يعني إنما جعلناه عربياً ليصير معلوماً والقول بأنه غير معلوم يقدح فيه.

قوله :«كتاب » قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً لِتَنْزِيلُ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً من تنزيل١، وأن يكون فاعلاً بالمصدر، وهو تنزيل أي نزل الكتاب، قاله أبو البقاء. و ﴿ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ﴾ صفة «لِكتَابٍ »٢.
قوله :«قرآناً » في نصبة ستةُ أوجه :
أحدها : هو حال بنفسه. و«عَرَبِيًّا » صفته، أو حال مُوطِّئَة٣، والحال في الحقيقة «عربياً » وهي حال غير متنقلة وصاحب الحال إما كتاب لوصفه بفصلت، وما «آياته »، أو منصوب على المصدر٤، أي يقرأه قرآناً أو على الاختصاص والمدح٥، أو مفعول ثانٍ «لفصلت »٦، أو منصوب بتقدير فعل، أي فصَّلْنَاهُ قُرْآناً٧.
قوله :«لِقَومٍ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلق «بفصلت » أي فصلتُ لهؤلاءِ وبينتُ لهم ؛ لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت مفصلة في نفسها لجميع الناس.
الثاني : أن يتعلق بمحذوف صفة «لقرآنا »، أي كائنا لهؤلاء خاصة، لما تقدم من المعنى.
الثالث : أن يتعلق بتنزيل. وهذا إذا لم تجعل «مِنَ الرَّحْمنِ » صفة له ؛ لأنك إن جعلت «من الرحمن » صفة له، فقد أعلمت المصدر الموصوف وإذا لم يكن «كتاب » خبراً عنه، ولا بدلاً منه ؛ لئلا يلزم الإخبار عن الموصول أو المبدل منه قبل تمام صلته، ومن يتسع في الظرف وعديله لم يبال بشيءٍ.
وأما إذا جعلت «من الرحمن » متعلقاً به و«كتاب » فاعلاً به فلا يَضُرُّ ذلك ؛ لأنه من تتماته وليس بأجنبي٨.

فصل


اعلم أنه تعالى حكم على هذه السورة بأشياء :
أولها : كونها تنزيلاً، والمراد المنزل، والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور، كقوله : هذا بناء الأمير أي مبنيّه، وهذا الدِّرهم ضربُ السُّلطان ( أي مضروبه )٩ ومعنى كونه منزلاً : أن الله تعالى كتبها في اللوح المحفوظ، وأمر جبريل، عليه ( الصلاة )١٠ والسلام أن يحفظ الكلمات ثم ينزل بها على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويُؤَدِّيها إليه، فلما حصل تفهيمُ هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل عليه ( الصلاة )١١ والسلام سمي بذلك تنزيلاً.
وثانيها : كون ذلك التنزيل من الرحمن الرحيم، وذلك يدل على أن ذلك التنزيل نعمةٌ عظيمة من الله تعالى، لأن الفعل المقرون بالصفة لا بد وأن يكون مناسباً لتلك الصفة، فكونه تعالى رحمن١٢ رحيماً صفتان دالتان على كما الرحمة، فالتنزيلُ المضاف إلى هاتين الصفتين لا بدَّ وأن يكون دالاً على أعظم وجوه الرحمة والنعمة والأمر كذلك ؛ لأن الخَلْقَ في هذا العالم كالمرضى والمُحتاجين، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان أعظم النعم من الله تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليهم.
وثالثها : كونه كتاباً، وتقدم أن هذا الاسم مشتق من الكَتْبِ وهو الجمع، فسمي كتاباً لأنه جمع فيه عِلْمَ الأولين والآخرين.
ورابعها : قوله فصلت آياته، أي ميزت وجعلت تفاصيل في معانٍ مختلفةٍ فبعضها وصف ذات الله، وصفاتِ التنزيه والتقديس وشرح كمال عمله وقدرته ورحمته وعجائب أصول خلقه من السموات والكواكب وتعاقب الليل والنهار، وعجائب أحوال النبات والحيوان وبعضها في المواعظ والنصائح، وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس، وبعضها في قَصَص الأنبياء وتواريخ الماضين، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة مثل ما في القرآن.
وخامسها : قوله : قرآناً وقد سبق توجيه هذا الاسم.
وسادسها : قوله عربياً أي إنما نزل بلغة العرب، ويؤكده قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ [ إبراهيم : ٥ ].
وسابعها : قوله «لقوم يعلمون » أي جعلناه قرآناً لأَجْلِ أنا أنزلناه على قوم عربٍ بلغتهم ليفهموا منه المراد١٣.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
احتج القائلون بخلق القرآن بهذه الآية من وجوه :
الأول : أنه وصف القرآن بكونه مُنَزَّلاً وتَنْزِيلاً، والمنزَّلُ والتنزيلُ مشعر بالتغيير من حال إلى حال فوجب أن يكونَ مخلوقاً.
الثاني : أن التنزيل مصدر، والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين٦.
الثالث : أن المراد بالكتابة إما الكتابة، وهي المصدر الذي هو المفعول المطلق وإما المكتوب الذي هو المفعول.
الرابع : أن قوله :«فصلت آياته» ( بدل )٧ على أن متصرفاً يتصرف فيه بالتفصيل وذلك لا يليق بالقديم.
الخامس : أنه إنما سمي قرآناً، لأنه قُرِنَ بعض أجزائه ببعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل.
السادس : وصفه بكونه «عربياً»، وإنما صحت هذه النسبة لأن هذه الألفاظ إنما دلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب، واصطلاحاتهم، وما حصل بِجَعْلِ جاعل وفِعْلِ فاعل فلا بد وأن يكون مُحْدَثاً ومَخْلُوقاً٨.
والجواب : أن كل هذه الوجوه المذكورة عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي حادثة٩.

فصل


ذهب قومٌ إلى أن القرآن من سائر اللغات كالإستبرق١٠ والسِّجيل١١ فإنهما فارسيان والمِشْكَاة١٢ فإنها حبشية، والقِسْطَاسِ١٣، فإنه من لغة الروم، وهذا فاسد لقوله تعالى :«قرآناً عَرَبياً»، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ [ إبراهيم : ٥ ].

فصل


قالت المعتزلة : الإيمان والكفارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ألفاظ شرعية لا لغوية بمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مُسمَّياتها اللُّغويَّة الأصلية إلى مسميات أخرى١٤. وهذا باطل، وليس للشرع تصرفٌ في هذه الألفاظ إلا من وجهٍ واحد، وهو أنه خَصَّص هذه الأسماء بنوعٍ معيَّنٍ من أنواع مسمَّيَاتها، كما أن الإيمان عبارةٌ عن التصديق والصلاة عبارة عن الدعاء، فخصَّصه الشرع بنوع معين من الدّعاء، وكذا القول في البواقي.

فصل


تمسك القائلون بأن أفعال الله تعالى معلَّلةٌ بالمصالح والحكمة بهذه الآية فقالوا : إنها تدل على أنه إنما جعله قرآناً عربياً لأجل أن يعلموا المراد منه، فدل على أنَّ تعليل أفعالِ الله وأحكامه جائز١٥.

فصل


قال قوم : القرآن كله١٦ معلوم لقوله تعالى : قرآناً عربياً لقوم يعلمون يعني إنما جعلناه عربياً ليصير معلوماً والقول بأنه غير معلوم يقدح فيه.


١ التبيان ١٠٢٣..
٢ ذكره الزجاج في معاني القرآن ٤/٣٧٩ وانظر الكشاف ٣/٤٤١ والقرطبي ١٥/٣٣٧..
٣ قاله العكبري في التبيان ٢٣/١١..
٤ ذكره أبو حيان في البحر ١٥/٣٣٧..
٥ قاله الأخفش في معانيه ٦٨٠..
٦ السابق..
٧ القرطبي ١٥/٣٣٧، والبحر المحيط ٧/٤٨٣، وانظر هذا الإعراب كله في الدر المصون ٤/٧١٦..
٨ المرجع الأخير السابق، وانظر هذا كله بالمعنى من الكشاف ٣/٤٤١ والبحر المحيط ٧/٤٨٣..
٩ سقطت من الأصل أ..
١٠ زيادة من أ..
١١ كذلك سقط من ب..
١٢ في النسختين والرازي رحمانا منونا..
١٣ هذه الأوجه ذكرها الرازي في تفسيره ٢٧/٩٤..
وثامنها وتاسعها : قوله «بشيراً نذيرا » يجوز أن يكونا نعتين١ لقرآناً، وأن يكونا حالين ؛ إما من كتاب وإما من آياته٢، وإما من الضمير المنوي في قرآناً٣. وقرأ زيد بن علي برفعهما٤ على النعت لكتاب، أو على خبر ابتداء مضمر، أي هو بشير ونذير، ومعناه بشيراً للمطيعين بالثواب ونذيراً للمجرمين بالعقاب.
قال ابن الخطيب : والحق أن القرآن بشارة ونِذَارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملاً في هذه الصفة كما يقال : شعر شاعر وكلام قائل٥.
عاشرها : كونهم معرضين عنه لا يسمعونه ولا يتلفتون إليه، فهذه الصفات العشرة التي وصف الله تعالى القرآن بها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
احتج القائلون بخلق القرآن بهذه الآية من وجوه :
الأول : أنه وصف القرآن بكونه مُنَزَّلاً وتَنْزِيلاً، والمنزَّلُ والتنزيلُ مشعر بالتغيير من حال إلى حال فوجب أن يكونَ مخلوقاً.
الثاني : أن التنزيل مصدر، والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين٦.
الثالث : أن المراد بالكتابة إما الكتابة، وهي المصدر الذي هو المفعول المطلق وإما المكتوب الذي هو المفعول.
الرابع : أن قوله :«فصلت آياته» ( بدل )٧ على أن متصرفاً يتصرف فيه بالتفصيل وذلك لا يليق بالقديم.
الخامس : أنه إنما سمي قرآناً، لأنه قُرِنَ بعض أجزائه ببعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل.
السادس : وصفه بكونه «عربياً»، وإنما صحت هذه النسبة لأن هذه الألفاظ إنما دلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب، واصطلاحاتهم، وما حصل بِجَعْلِ جاعل وفِعْلِ فاعل فلا بد وأن يكون مُحْدَثاً ومَخْلُوقاً٨.
والجواب : أن كل هذه الوجوه المذكورة عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي حادثة٩.

فصل


ذهب قومٌ إلى أن القرآن من سائر اللغات كالإستبرق١٠ والسِّجيل١١ فإنهما فارسيان والمِشْكَاة١٢ فإنها حبشية، والقِسْطَاسِ١٣، فإنه من لغة الروم، وهذا فاسد لقوله تعالى :«قرآناً عَرَبياً»، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ [ إبراهيم : ٥ ].

فصل


قالت المعتزلة : الإيمان والكفارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ألفاظ شرعية لا لغوية بمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مُسمَّياتها اللُّغويَّة الأصلية إلى مسميات أخرى١٤. وهذا باطل، وليس للشرع تصرفٌ في هذه الألفاظ إلا من وجهٍ واحد، وهو أنه خَصَّص هذه الأسماء بنوعٍ معيَّنٍ من أنواع مسمَّيَاتها، كما أن الإيمان عبارةٌ عن التصديق والصلاة عبارة عن الدعاء، فخصَّصه الشرع بنوع معين من الدّعاء، وكذا القول في البواقي.

فصل


تمسك القائلون بأن أفعال الله تعالى معلَّلةٌ بالمصالح والحكمة بهذه الآية فقالوا : إنها تدل على أنه إنما جعله قرآناً عربياً لأجل أن يعلموا المراد منه، فدل على أنَّ تعليل أفعالِ الله وأحكامه جائز١٥.

فصل


قال قوم : القرآن كله١٦ معلوم لقوله تعالى : قرآناً عربياً لقوم يعلمون يعني إنما جعلناه عربياً ليصير معلوماً والقول بأنه غير معلوم يقدح فيه.


قوله :﴿ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ لا يصغُّون تكبراً. وهذه الآية تدل على أنه لا مُهْتَدِي إلا من هَدَاه الله، ولا مُضِلَّ إلا من أضله الله.
١ ذكر هذا الأخفش في المعاني ٦٨٠ وأبو حيان في البحر ٧/٤٨٣..
٢ قال بذلك ابن الأنباري في البيان ٢/٣٣٦..
٣ السمين في الدر ٤/٧١٧..
٤ من الشواذ غير المتواتر لم ينسبها الزمخشري في الكشاف ٣/٤٤١ ونسبها أبو حيان في البحر ٧/٤٨٣ وانظر القرطبي ١٥/٣٣٨ وشواذ القرآن ٢١٣..
٥ الرازي ٢٧/٩٥..
ولما وصف الله تعالى القرآن بأنهم أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه بين أنهمه صرحوا بهذه النفرة، وذكروا ثلاثة أشياء :
أحدها : قوله :«فِي أَكِنَّةٍ »، قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : هلا قيل : على قلوبنا أكنة، كما قيل : وفي آذَانِنَا وقر ليكون الكلام على نمطٍ واحد ؟ قلت : هو على نمط واحد ؛ لأنه لا فرق في المعنى بين قولك : قلوبنا في أكنة، وعلى قلوبنا أكنة، والدليل عليه قوله تعالى :( إنَّا )١ جعلنا على قُلُوبِهِم، ولو قيل : جعلنا قلوبهم في أكنةٍ لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منه لا يرون٢ الطباق ( والملاحظة )٣ إلا في المعاني.
قال أبو حيان : و «في » هنا أبلغ من على، لأنهم قصدوا الإفراط في عدم القبول بحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف، فلا يمكن أن يصل إليها شيء كما تقول : المالُ في الكيسِ بخلاف قولك : المالُ على الكيس، فإنه لا يدل على الحَصر، وعدم الوصول دلالة الوعاء، وأما «وجعلنا » فهو من إخبار الله تعالى فلا يحتاج إلى مبالغة٤.
وتقدم تفسير الأكنة والوقر٥.
وقرأ طلحة بن مصرف وِقْر٦ بكسر الواو وتقدَّم الفرق بينهما.
قوله :«مِمَّا تَدْعُونَا » من في «مِمَّا » وفي «ومِنْ بَيْننا » لابتداء الغاية والمعنى أن الحِجاب ابتداء منا وابتداء منك فالمسافة المتوسطة جهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها، فلو لم تأتٍ «مِنْ » لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين.
والمقصود المبالغة بالتبايُن المُفرِط، فلذلك جيء بِمِنْ٧ قاله الزمخشري. وقال أبو البقاء : هو محصول على المعنى ؛ لأن المعنى في أكنة محجوبةٍ عن سماع ما تدعُونا إليه. ولا يجوز أن يكون نعتاً لأَكنَّةٍ ؛ لأن الأكنة الأغشية، وليس الأغشية مما تدعونا٨ إليه٩.

فصل


وقالوا : يعنى المشركين قلوبنا في أكنة أغطية، والأكنة جمع كنان، كأغطية جمع غطاء، والكِنان هو الذي جعل فيه السهام، والمعنى لا نفقهُ ما تقول، وفي آذاننا وقر أي صممٌ فلا نسمعُ ما تقول، والمعنى : إنا في ترك القبول عنك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع ومن بيننا وبينك حجاب، خِلاف في الدين، فلا نوافقك على ما تقول فاعمل أنت على دينك إنّا عاملون على ديننا١٠.
١ سقط من النسختين والصواب إثباتها كما في الكشاف في الآية ٥٧ من الكهف..
٢ في الكشاف لا يدعون بدل يرون..
٣ تصحيح من الكشاف ففي النسخ: والملاحة وانظر الكشاف ٣/٤٤٣..
٤ بتصرف من البحر المحيط ٧/٤٨٤ وباللفظ من الدر المصون ٤/٨١٧..
٥ يشير إلى قوله: ﴿وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا﴾ [الأنعام: ٢٥] وبين هناك أن الكنان هو الوعاء الجامع، والغطاء الساتر، والوقر هو الثقل في الأذن، والوقر بكسر الواو الحمل للحمار والبغل. بتصرف من اللباب ميكروفيلم..
٦ من القراءة الشاذة غير المتواترة ذكرها صاحب الكشاف ٣/٤٤٢، ومختصر ابن خالويه ١٣٣ والبحر المحيط ٧/٤٨٣..
٧ الكشاف ٣/٤٤٢، ٤٤٣..
٨ في ب تدعون تحريف..
٩ التبيان ١١٢٣..
١٠ البغوي في معالم التنزيل ٦/١٠٥..
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ﴾ قرأ ابنُ وثابٍ والأعمش: «قَالَ» فعلاً ماضياً خبراً عن الرسول. والرسم يحتملهُما. وقد تقدم مثل هذا في الأنبياء وآخر المؤمنين. وقرأ الأعمشُ والنَّخعيُّ يوحي بكسر الحاء؟؛ أي الله تعالى، والمعنى إنَّما أنا بشر مثلكم أي كواحد منكم لولا الوحيُ ما دعوتكم ﴿أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ﴾ قال الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَلَّمَهُ الله التواضع.
قوله: ﴿فاستقيموا إِلَيْهِ﴾ عُدِّي بإلى؛ لتضمنه معنى توجَّهُوا والمعنى وجِّهُوا استقامتكم إليه بالطاعنة ولا تَمِيلوا عن سبيله «واستغفروه» من ذنوبكم.
قوله: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة﴾ قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: الذي لا يقولون لا إله إلا الله، وهي زكاة الأنفس. والمعنى لا يُطَهِّرون أنفسهم من الشِّرك بالتوحيد، وهو مأخوذ من قوله: «وَنَفٍْ ومَا زَكَّاهَا». وقال الحسن وقتادة: لا يقرِّون بالزكاة ولا يرون إيتاءَها واجباً. وكان يقال: الزكاة قَنْطَرَةُ الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك. وقال الضحاك ومقاتل: لا يُنفِقُون في الطاعة ولا يتصدقون، وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم ﴿وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ﴾.

فصل


احتج من قال: إن الكفار مخاطبُون بفروع الإسلام بهذه الآية، فقالوا: إنه تعالى توعدهم بأمرين:
أحدهما: كونهم مشركين.
والثاني: لا يؤتون الزكاة، فوجب أن يكون لكل واحد من هذين تأثير عظيم في حق وصول الوعيد، وذلك يدل على أن لعدم ايتاء الزكاة من المشرك تأثير عظيم في زيادة الوعيد وهو المطلوب.
102

فصل


احتج بعضهم على أن مانع الزكاة كافر بهذه الآية فقال: إن الله تعالى لما ذكر هذه الصفة ذكر قبلها ما يوجب الكفر وهو قوله: «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» وذكر بعدها ما يوجب الكفر وهو قوله: ﴿وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ﴾ فلو لم يكن منع الزكاة كفراً لكان ذكره فيما بين الصفتين الموجبتين للكفر قبيحاً؛ لأن الكلام إنما يكون فصيحاً إذا كانت المناسبة مرعيةً بين أجزائه، ثم أكدوا ذلك بأن أبا بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حكم بكفر مانعي الزكاة. قال ابن الخطيب: والجواب أنه ثبت بالدليل أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وهما حاصلان عند عدم إيتاء الزكاة، فلم يلزم حُصُول الكفر بسبب عدم إيتاء الزكاة والله أعلم.
قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما غير مقطوع، من قولك: مننتُ الحبلَ أي قطعتُهُ، ومنه قولهم: «قَد مَنَّهُ السَّفرَ» أي قطعه وأنشدوا:
٤٣٥٢ - فَضْلَ الجَوَادِ على الخَيْلِ البِطَاءِ فَلاَ يُعْطِي بذلك مَمْنُوناً وَلاَ نَزِقَا
وقال مقاتل: غير منقوص، ومنه المنون لأنه ينقص منة الإنسان وقوته، وأنشدوا لذي الإصبع العُدواني:
٤٣٥٣ - إنِّي لَعَمْرُكَ مَا بَابِي بِذِي غَلَقٍ على الصَّدِيقِ ولا خَيرِي بِمَمْنُونِ
وقيل: غير ممنون به عليهم؛ لأن عطاء الله لا يُمَنُّ به إنما يَمُنُّ المخلوق. وقال مجاهد: غير محسوب وقال السُّدِّيّ: نزلت هذه الآية في المَرْضَى والزَّمنى والهَزْمَى إذا عجزوا عن الطاعة يكتبه لهم الأجرُ كأصح ما كانوا يعلمون فيه.
روي عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن العبد إذا
103
كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مَرِضَ، قيل للملك الموكل به: اكتُبْ له مثل علمه إذا كان طليقاً حتى أطلقه أو أكفته إليَّ».
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ﴾ الآية قرأ ابنُ كثير أينكم لتكفرون بهمزة وبعدها ياء محققة ساكنة بلا مد والباقون ممدوداً مشدد النون. وهو استفهام بمعنى الإنكار، أي كيف تكفرون بالله، وكيف يجوز جعل هذه الأنداد الخسيسة أنداداً لله مع أنه تعالى خلق الأرض في يومين، وهما يوم الأحد ويوم الاثنين، وتمم بقية مصالحها في يومين آخرين وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين، فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة كيف يعقل الكفر به، وإنكار قدرته على الحَشْر والنَّشر؟
فإن قيل: مَن استدل بشيء على إثبات شيء فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلماً عند الخصم حتى يصح الاستدلال به، وكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أمر لا يمكن إثباته بالعقل المحض إنا يمكن إثباته بالسمع ووحي الأنبياء والكفار كانوا منازعين في الوحي والنبوة، فلا يعقل تقرير المقدمة عليهم، وإذا امتنع تقريرها عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم.
فالجواب: إثبات كون السموات والأرض مخلوقةً بالعقل مُمكنٌ، وإذا أمكن ذلك أمن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم. وحنيئذ يقال: الكافر كيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القادرة وبين الصَّنم الذي هوة جمادٌ لا يضرُّ ولا ينفع في المعبودية والإلهية؟ بقي أن يقال: فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أثر. قال ابن الخطيب: بل له أثر في هذا الباب، وذلك أن التورية مشتملة على هذا المعنى، فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب فكفار مكة كانوا يتعقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم، والظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني فاعتقدوا كونها حقاً، وإذا كان الأمر كذلك حَسن أن يقال لهم: إن الإله الموصوفَ بالقدرة على خلق هذه الأشياء العظيمة في هذه المدة اللطيفة كيف يليق بالعقل جع الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكاً له في المعبودية والإليهة؟! فبهذا التقدير حسن الاستدلال.
قوله: «وَتَجْعَلُونَ لَهُ» عطف على «لَتَكْفُرُونَ» فهو داخل في حيز الاستفهام وقوله: ﴿ذَلِكَ رَبُّ العالمين﴾ أي ذلك الموجود الذي علمتَ من صفته وقدرته أن خلق الأرض
104
في يومين (هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم فكيف أثبتهم له أنداداً من الخشب والحجر؟ ثمإنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقاً للأرض في يومين) ثم أخبر أنه أتى بثلاثة أنواعٍ من الصُّنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك، فالأول قوله: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ وهذا مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الموصول، للفصل بينهما بأجنبي، وهو قوله: «وَتَجْعَلُونَ» فإنه معطوف على قوله: «لتكفرون» كما تقدم.
والمراد بالرواسي الجبال.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله: «من فوقها» ولم يقتصر على قوله ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ كما اقتصر على قوله ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ﴾ [المرسلات: ٢٧] وقوله ﴿وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ﴾ [الأنبياء: ٣١] وقوله: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ [الرعد: ٣].
فالجواب: أ، هـ تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التَّحتانيَّة هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، ولكنه تعالى قال: خُلِقَتْ هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أنَّ الأرض والجبال أثقالٌ وكلها مفتقرة إلى مُمْسِكٍ وحافظٍ وما ذاك الحافظ المدبِّر إلا الله سبحانه وتعالى.
النوع الثاني: قوله «وَبَارَكَ فِيهَا» أي في الأرض بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد شقَّ الأنهار، وخلق الجبال خلق الأشجار والنار، وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار، وخلق أصناف الحيوانات، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات.
النوع الثالث: قوله ﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا﴾ قيل: المعنى وقدر فيها أقوات أهلِها ومعايشهم ما يصلحهم وقال محمد بن كعب: قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان. وقال مجاهد: وقدر فيها أقواتها من المطر. وعلى هذا فالأقوات للأرض لا للسكان، والمعنى أن الله عزَّ وجلَّ قدر لكل أرض حظَّها من المطر. وقيل المراد من إضافة القُوت إلى الأرض كونها متولدة في تلك الأرض وحادثة فيها؛ لأن النحاة قالوا في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة، وإلى محله أخرى، فقوله «وقدر فيها أقواتها» أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة بمعنى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في ذلك البلد وبالعكس فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال.
105
قوله: ﴿في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ تقديره: في تَمَام أَرْبَعَةِ أيام باليَوْمَيْنِ المقتدمين. قال الزجاج: في تتمَّة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين. وقال الزمخشري: في أربعة أيام فلذلك المدة خلق الله الأرض وما فيها كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستويةً بلا زيادة ولا نُقصانٍ.
قال شهاب الدين: وهذا كقولك: بَنَيْتُ بيتي في يوم وأكملته في يومين أي بالأول. وقال أبو البقاء: أي في تمام أربعة أيام، ولولا هذا التقدير لكانت الأثام ثمانيةً يومان في الأول، وهو قوله: ﴿خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ﴾ ويومانِ في الآخر وهو قوله ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ وأربعةُ في الوَسَطِ وهو قوله ﴿في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾.
فإن قيل: إنه تعالى لما ذكر خلق الأرض في يومين، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعدَ عن الشُّبهة وعن الغلط فَلِمَ تَرَك التصريح وذكر الكلام المجمل؟
فالجواب: أن قوله «في أربعة أيام سواء» فيه فائدة زائدة على ما إذا قال: خلقت هذه الثلاثة في يومين؛ لأنه لو قال: خلقت هذه الأشياء في يومين لم يُفِدْ هذا الكلام كون اليومين مُستغرقين بتلك الأعمال؛ لأنه قد يقال: عملتُ هذا العمل في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل، أمَّا لما ذكر خلق الأرض، ونخلق هذه الأشياء ثم قال: في أربعة أيام سواء دلَّ على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقةً في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نُقصانٍ.
قوله: «سواء» العامة عل النصب، وفيه أوجه:
أحدها: أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر، أي استوت قاله مكي وأبو البقاء.
الثاني: أنه حال من «ها» في أقواتها، أو من «ها» في «فيها» العائدة على الأرض أو من الأرض قاله أبو البقاء وفيه نظر لأن المعنى إنما هو وصف الأيام بأنها سواء، لا وصف الأرض بذلك وعلى هذا جاء التفسير.
ويدل على ذلك قراءة سَواءٍ بالجر صفة للمضاف، أو المضاف إليه، وقال قتادةُ والسُّدي سواء معناها سواء لمن سِأل عن الأمر، واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة فيه فإنه يجده كما قال تعالى. إلا أن ابن زيد وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي
106
ذكره أبو البقاء فإنهم قالوا معناه مستوٍ مهيَّأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر، فعبر بالسائلين عن الظالبين. وقرأ زيدُ بنُ علي والحسنُ وابنُ أبي إسحاق وعيسى ويعقوبُ وعمرُو بن عُبيدٍ: سَواءٍ بالخفض على ما تقدم. وأبو جعفر بالرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أنه على خبر ابتداء مضمر، أي هي سواء، لا يزيدُ ولا يَنقُصُ، وقال مكِّي: هو مرفوع بالابتداء وخبره للسائلين؛ وفيه نظر، من حيث الابتداء بنكرة من غير مُسوَّغ. ثم قال: بمعنى مستويات لمن سأل فقال: في كَمْ خلقت؟ وقيل: للسائلين لجميع السائلين لأنهم يسألون الرزق وغيره من عند الله تعالى.
قوله «للسائلين» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلق بسَوَاء بمعنى مستويات للسائلين.
الثاني: أنه متعلق بقدَّر، أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين.
الثالث: أن يتعلق بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟.
قوله (تعالى) :﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ﴾ أي عمد إلى خلق السماء. وقال ابن الخطيب: من قولهم: استوى إلى مكان كذا إذا توجَّه إليه توجُّهاً لا يلتفتُ معه إلى عمل آخر وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج. ونظيره قولهم: استقام إليه وامتدَّ إليه، قال تعالى: ﴿استقيموا إِلَيْهِ﴾ [فصلت: ٦] والمعنى: ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السموات بعد خلق الأرض ما فيها من صارفٍ يصرفُهُ عن
107
ذلك. والدُّخان: هو ما ارتفع عن لهب النار. ويستعار لما يرى من بُخار الأرض عند جدبها وقياس جمعة في القلة أَدْخِنَةٌ وفي الكثرة دُخْيَان، نحو: غُرابٍ وأغربة وغِرْبَانٍ وشذوا في جمعه على: دَوَاخِن، قيل: هو جمع داخِنةٍ تقديراً على سبيل الإسناد المجازيّ، ومثله عثانٌ وعواثِن.
وقوله: و «هِيَ» دُخَان «من باب التشبيه الصُّوري؛ لأن صورتها صورة الدُّخانِ في رأي العين.

فصل


قال المفسريون: هذا الدخان بُخار الماء وذلك أن عرش الرحمن كان على الماء قبل خقل السموات والأرض، كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء﴾ [هود: ٧].
ثم إن الله تعالى أحدث في ذلك الماء اضطراباً فأزْبَدَ وارتفع، وخرج منه دُخانٌ فأما الزَّبدُ فبقي على وجه الماء فخلق منه اليبوسة وأحدثَ منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السَّموات.
فإن قيل: قوله تعالى ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان﴾ يُشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض، وقوله تعالى ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠] يشعر بأن تخليص الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض!
فالجواب: المشهور أن يقال: إنه تعالى خلق الأرض أولاً، ثم خَلَقَ بعنده السماء، ثم بعد أن خَلَقَ السماء دحى الأرض، وبهذه الطريق يزول التناقض. قال ابن الخطيب: وهذا الجواب عندي مُشكِلٌ من وجوه:
الأول: أنه تعالى خَلَقَ الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود، إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة ثم إنه تعالى قال بعد ذلك: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء﴾ فهذا
108
يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض، وبعد أن جعلها مدحُوَّةً وحينئذ يعود السؤال.
الثاني: أنه ورد أنَّ الدلائل الهندسية دلَّت على أن الأرض كرةٌ في أول حدوثها إن قلنا: إنها كرة، والآن بقيتْ كرة أيضاً فهي منذ خقلت كأنها مدحُوَّةٌ، وإن قلنا: إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال: إنها كانت مدحُوَّةً قبل ذلك، ثم أزيل عنها هذه الصفة وذلك باطل.
الثالث: أن الأرض جسمٌ في غاية العِظم والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحوَّا، فالقول بأنها كانت غير مدحوةٍ ثم صارت مدحوة قولٌ باطل.
والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت من موضع الصّخرة ببيت المقدس فهو كلام مشكل لأنه إذا كان المراد أنها على عظمها خلقت من ذلك الموضع ثم خلق بقيةُ أجزائها، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولاً فهذا يكون اعترافاً بأن تخليق الأرض وقع متأخراً عن تخليق السماء.
الرابع: أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين، وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام، فإذا حصل دَحْوُ الأرض بعد ذلك فقد حصل هذال الدحو في زمانٍ آخر بعد الأيام الستة فحينئذ يقع تخليق السموات والأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل.
الخامس: أنه لا نزاع في أن قوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ كناية عن إيجاد السموات والأرض، فلو تقدم إيجاد السمات لكان قوله تعالى: ﴿ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ يقتضي إيجاد الموجودات انه محال باطل. هذا تمام البحث عن هذا المبحث.
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال: خلق السماء قبل الأرض، وتأول قوله: ﴿ثمَّ استوى إلى السماء﴾ ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دُخان قبل أن يخلق الأرض، فأضمر فيه كما قال تعالى: ﴿قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧] معناه إن يكن سرق، وقال تعالى: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا﴾ [الأعراف: ٤] (والمعنى) فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي قال ابن الخطيب وهذا عندي ضعيف، لأن تقدير الكلام ثُمَّ كان قد استوى إلى السماء. هذا جمعين الضدين لأن كلمة «ثُمَّ» تقتضي التأخير، وكلمة «كان» تقتضي التقديم، والجمع بينهما يفيد التناقض، وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض والركاكة فيه. والمختار عندي إن يُقال: خلق السماء مقدم على خلق الأرض، وتأويل الآية أن
109
يقال: الخلق ليس عبارةً عن التكموين والإيجاد، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩] فلو كان الخلق عبارةً عن الإيجاد والتكوين لصار تقدير الآية أوجدضهُ من تراب، ثم قال له كن فيكون وهذا محال فثبت أن الخلق ليس عبارةً عن الإيجاد والتكوين، بل هو عبارة عن التقدير، والتقدير في حق الله هو كلمته بأن سيُوجدُهُ. وإذال ثبت هذا فنقول قوله: خلق الأرض في يومين معناه أنه قضى بحدوثِهِ في يومين، وقضاء الله أنه سيحدث كذا في مدة كذا لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال فَقَضَاءُ الله بحُدُوثِ الأرض في يومين قد تقدم على إحداثِ السَّماء وحينئذ يزول السؤال.
قوله: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾. وقرأ العامة «ائتيا» أمراً من الإتيان «قَالَتَا أَتَيْنَا» منه أيضاً. وقرأ ابن عباس وابن جبيرٍ ومجاهدٌ «آتِيا» قَالَتَا آتينا بالمد فيهما وفيه وجهان:
أحدهما: من المؤاتاة وهي المُوافقة، أي ليوافق كل منكما الأخرى لما يليق بها.
وإليه ذهب الرازي والزَّمخشريُّ، فوزن «آتِيَا» فاعلا، كقاتِلا، و «آتيْنَا» وزنه فاعلنا كقاتلنا.
والثاني: أنه من الإيتاء بمعنى الإعطاء، فوزن «آتِيَا» أفْعِلاَ كأكرما، ووزن «آتينا» أَفْعَلْنَا كأَكْرَمْنَا. فعلى الأول يكون قد حذف مفعولاً، وعلى الثاني قد حذف معفولين؛ إذ التقدير أعطيا الطاعة من أنفسكما مَنْ أمركما، قالتا أَعطيناهُ الطاعة. وقد منع أبو الفضل الرازي الوجه الثاني فقال: آتينا بالمَدِّ على فاعلنا من المؤاتاة بمعنى سارعنا، على حذف المعفول به، ولا يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوليه.
قال شهاب الدين: وهذا هو الذي منع الزمخشري أن يجعله من الإتياء. قوله: ﴿طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ مصدران في موضع الحال، أي طائعتين أو مُكْرهتين.
وقرأ الأعمش «كُرْهاً» بالضم، وتقدم الكلام على ذلك في النساء. وقله: «
110
قَالَتَا: أي قالت السماءُ والأرض، وقال ابن عطية: (رحمة الله عليه) أراد الفرقتين المذكورتين، جعل السموات سماءً والأرضين أرضاً كقوله:
٤٣٥٤ - أَلَمْ يحْزُنْكَ أَنَّ حِبَالَ قَوْمِي وَقَوْمِكَ قَدْ تَبَاينتا انقِطَاعاَ
عبر عنهما» بتَبَايَنَتَا «. قال أبو حيان وليس كما ذكر لأنه لم يتقدم إلا ذكر الأرض مفردة والسماء مفردة فلذلك حسن التعبير بالتثنية.
وأما البيت فكأنه قال: حَبْلَي قَوْمِي وَقَوْمِكَ، وأنث في تَبَايَنَتَا على المعنى؛ لأنه عنى بالحبال المودة. قوله:»
طَائِعِينَ «في مجيئه مجيء جمع المذكورين العقلاء وجهان:
أحدهما: أن المراد يأتينا من فيهما من العقلاء وغيرهم، فلذلك غلَّب العقلاء على غيرهم، وهو رأي الكسائيِّ.
والثاني: أنه لما عاملهم معاملة العقلاء في الإخبار عنهما، والأمر لهما جمعهما كجمعهم، كقوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] وهل هذه المحاورة حقيقة أو مجازاً وإذا كانت مجازاً فهل هو تمثيلٌ أو تخييلٌ؟. خلاف.

فصل


ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإيمان فأطاعُوهُ وهذا ليس بمستبعد كما أن الله تعالى أنطقَ الجبالَ مع داود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقال: ﴿ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير﴾ [سبأ: ١٠] وأنطق الأيدي والأرجل، فقال: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤] وقوله: ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: ٢١] ٍ وإذا كان كذلك فكيف يستبعدُ أن يخلقَ الله تعالى في ذات السموات والأرض حياةً وعقلاً ثم يوجه التكليف عليهما؟ ويؤكد هذا وجوه:
الأول: أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره، إلا إن منع منه مانع، فههنا لا مانع.
111
الثاني: أنه تعالى جمعهما جمع العقلاء فقال: ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾.
الثالث: قوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ [الأحزاب: ٧٢] وهذا يدل على كونها عارفة بالله، عالمة بتوجه تكليف الله تعالى.
وأجاب ابن الخطيب عن هذا القول: بأن المراد من قوله ﴿١٦٤٩; ئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ الإثبات الى الوجود والحدوث والحصول، فعلى هذا التقدير فحال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة، إذ لو كانت موجودةً فذلك لا يجوز، فثبت أن حال توجه هذا الأمر عليها كانت معدومة، وإذا كانت معدومة لم تكن فاهمة، ولا عارفة للخطاب، فلم يَجُزْ توجُّه الأمر عليها.

فصل


روى مجاهدٌ وطاوس عن ابن عباس أنه قال: قال الله للسموات والأرض أخرجا ما فيكما من المنافع ومصالح العباد، أما أنتِ يا سماءُ فأطعلي شَمْسَكِ وقَمَركِ ونُجُومكِ، وأنت يا أرض فشقَّقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتكِ، وقال لهما: افعلا ما آمركما طوعاً، وإلا ألجأتكما إلى ذلك (حتى) تفعلا فنقول: فعلى هذا التقدير لا يكون المراد من قوله: أتينا طائعين حدوثهما في ذاتهما، بل يصيرُ المراد من هذا الأمر أن يظهرا ما كان مودعاً فيهما، وهذا باطل؛ لأنه تعالى قال: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ وذلك يدعل على حُدُوثَ السماء إنما حصل بعد قوله: ﴿١٦٤٩; ئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾.

فصل


اعلم أن المقصود من هذا الكلام إظهار كمال القدرة، والتقدير ائتيا ذلك أو أَبَيْتُما كما يقول الجبار لمن تحت يده: لتفعلن هذا شِئْتَ أو أبيتَ، ولَتَفْعَلُنَّهُ طَوْعاً أو كَرهاً.
وقيل: إنَّهُ تعالى ذكر السماء والأرض، ثم ذكر الطوع والكره فوجب أن ينصرف الطوعُ إلى السماء والكرهُ إلى الأرض، وتخصص السماء بالطوع لوجوه:
أحدهما: أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف تُشْبِهُ حيواناً مطعياً لله عزَّ وجلَّ بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال، تارة تكون ساكنةً، وتارة تضطربُ.
وثانيها: أن الموجود في السماء ليس إلا الطاعة، قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ
112
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: ٥٠] وأما أهل الأرض فليس كذلك.
وثالثها: أن السماء موصوفة بكمال الحال، وقيل: إنها أفضل الألوان وشكلها أفضل الأشكال وهو المستدير ومكانها أفضل الأمكنة، وهو العُلُوُّ، وسُكَّانُها أفضل الأجرام، وهي الكواكب المنيرة بخلاف الأرض فإنها مكان الظلمة والكثافة، واختلاف الأحوال وتغيير الذات والصفات فلا جرم عبَّر عن تكوين السماء بالطَّوْعِ وعن تكوين الأرض وبالكره.
قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ ف ينصب «سَبْعَ» أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه مفعول ثانٍ «لقَضَاهُنَّ» ؛ لأنه ضمّن معنى صيَّرهُنَّ بقضائه سبع سموات.
الثاني: أنه منصوب على الحال من مفعول «فقضاهن» أي قضاهن معدودةً، وقضى بمعنى «صَنَعَ» كقول أبي ذؤيب:
٤٣٥٥ - وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ
أي صنعها.
الثالث: أنه تمييز؛ قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسَّراً بسبع سمواتٍ على التمييز يعني بقوله «مبهماً»، أنه لا يعود على السماء، لامن حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى بخلاف كونه حالاً أو مفعولاً ثانياً.
الرابع: أنه بدل من «هُنَّ» في «فَقََاهُنَّ» قاله مكي، وقال أيضاً: السماء، تذكَّر وتؤَنَّثُ، وعلى التأنيث جاء القرآن، ولو جاء على التذكير لقيل: سَبْعَةَ سمواتٍ. وقد تقدم تحقيق تذكيره وتأنيثه في أوائل البقرة.
113

فصل


قال أهل الأثر: إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والإثنين، وخلق سائر ما في الأرض يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعةٍ من يوم الجُمُعةِ فخلق بها آدم، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة.
فإن: قيل: اليوم عبادرة عن النهار والليل، وذلك إنما يحصل بطُلُوعِ الشَّمس وغروبها، وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصوم اليوم؟
فالجواب: معناه أنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلكٌ وشمس لكان المقدار مُقدَّراً بيوم. وقضاء الشيء إتمامه والفرغ منه.
قوله: ﴿وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا﴾. قال عطاء عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار، وجبال البرد، وما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقال قتادة والسُّدِّيُّ: يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها. وقال مقاتل: وأوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي، وذلك يوم الخميس والجمعة، قال السدي: ولله في كل سماء بيت يُحَجُّ إليه ويطوف به الملائكة، كل واحد منها مقابل للكعبة بحيث لو موقعت منه حصاةٌ لوقعت على الكعبة.
قوله: ﴿وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ﴾ وهي النيران التي خقلها في السموات، وخص كل واحد بضوء معين، وسرٍّ معين وطبيعة معينة لا يعرفها إلا الله تعالى.
قوله: «وَحِفْظاً» في نصبه وجهان:
الأول: أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر، أي: وحفظناها بالثواقب من الكواكب حفظاً.
والثاني: أنه مفعول من أجله على المعنى؛ فإن التقدير: خلقنا الكواكب زينةً وحِفظاً، قال أبو حيان «وهو تَكَلُّفٌ وعُدُولٌ عن السَّهْلِ البَيِّن».
114

فصل


المعنى وحفظاها من الشياطين الذي يسترقون السمع، ثم قال: «ذلِكَ» أي الذي ذكر من صُنْعَةِ «العَزِيزِ» في ملكه «العَلِيمِ» بخلقه فالعزيزُ إشارة إلى كمال القدرة، والعليمُ إشارة إلى كمال العلم.
115
قوله :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما غير مقطوع١، من قولك : مننتُ الحبلَ أي قطعتُهُ، ومنه قولهم :«قَد مَنَّهُ السَّفرَ » أي قطعه٢ وأنشدوا :
٤٣٥٢ فَضْلَ الجَوَادِ على الخَيْلِ البِطَاءِ فَلاَ يُعْطِي بذلك مَمْنُوناً وَلاَ نَزِقَا٣
وقال مقاتل : غير منقوص، ومنه المنون لأنه ينقص منة الإنسان وقوته، وأنشدوا لذي الإصبع العُدواني :
٤٣٥٣ إنِّي لَعَمْرُكَ مَا بَابِي بِذِي غَلَقٍ على الصَّدِيقِ ولا خَيرِي بِمَمْنُونِ٤
وقيل : غير ممنون به عليهم ؛ لأن عطاء الله لا يُمَنُّ به إنما يَمُنُّ المخلوق. وقال مجاهد : غير محسوب وقال السُّدِّيّ : نزلت هذه الآية في المَرْضَى والزَّمنى والهَزْمَى إذا عجزوا عن الطاعة يكتبه لهم الأجرُ كأصح ما كانوا يعلمون فيه٥.
روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مَرِضَ، قيل للملك الموكل به : اكتُبْ له مثل علمه إذا كان طليقاً حتى أطلقه أو أكفته إليَّ »٦.
١ نقله البغوي في تفسيره ٦/١٠٤..
٢ نقله صاحب اللسان (منن) ٤٢٧٧..
٣ من البسيط لزهير بن أبي سلمى من قصيدة في مدح هرم بن سنان، ويروى: الجياد بدل الجواد والبطاء البطيئة، والنزق الخفيف الطائش، والممنون المقطوع يقول: إن فضله على غيره مثل فضل الجياد على الخيل البطاء. وشاهده: أن الممنون بمعنى المقطوع وانظر اللسان بطأ ٢٩٩ والبحر المحيط ٧/٤٨٥ والدر المصون ٤/٧١٩، والقرطبي ١٥/٣٤١، وديوانه ٤٩..
٤ من البسيط كسابقه وشاهده كسابقه أيضا في أن الممنون معناه المقطوع والغلق ـ بالتحريك ـ ما يغلق به الباب من الرتاج ونحوه. ويروى: ولا زادي بممنون، ويروى: (عن الصديق) بدل (على الصديق) وانظر القرطبي ١٥/٣٤١، والبحر ٧/٤٨٥، وديوان الحماسة البصرية ١/٢٢٤، والدر المصون ٤/٧١٨، وديوان المفضليات ٤٢٢ و٣٢٧ وفتح القدير ٤/٥٠٦ هو وما قبله..
٥ البغوي ٦/١٠٥ والقرطبي ١٥/٣٤١ و٣٤٢ والخازن ٦/١٠٤..
٦ أورده أحمد في المسند ٢/٢٠٣ كما أخرجه البغوي في المرجع السابق عن ابن عمر أيضا..
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ ﴾ الآية قرأ ابنُ كثير أينكم لتكفرون - بهمزة وبعدها ياء محققة ساكنة بلا مد - والباقون ممدوداً مشدد النون١. وهو استفهام بمعنى الإنكار، أي كيف تكفرون بالله، وكيف يجوز جعل هذه الأنداد الخسيسة أنداداً لله مع أنه تعالى خلق الأرض في يومين، وهما يوم الأحد ويوم الاثنين، وتمم بقية مصالحها في يومين آخرين وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين، فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة كيف يعقل الكفر به، وإنكار قدرته على الحَشْر والنَّشر٢ ؟
فإن قيل : مَن استدل بشيء على إثبات شيء فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلماً عند الخصم حتى يصح الاستدلال به، وكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أمر لا يمكن إثباته بالعقل المحض إنا يمكن إثباته بالسمع ووحي الأنبياء والكفار كانوا منازعين في الوحي والنبوة، فلا يعقل تقرير المقدمة عليهم، وإذا امتنع تقريرها عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم.
فالجواب : إثبات كون السموات والأرض مخلوقةً بالعقل مُمكنٌ، وإذا أمكن ذلك أمكن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم. وحينئذ يقال : الكافر كيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القادرة٣ وبين الصَّنم الذي هو جمادٌ لا يضرُّ ولا ينفع في المعبودية٤ والإلهية ؟ بقي أن يقال : فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أثر. قال ابن الخطيب : بل له أثر في هذا الباب، وذلك أن التورية مشتملة على هذا المعنى، فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب فكفار مكة كانوا يتعقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم، والظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني فاعتقدوا كونها حقاً، وإذا كان الأمر كذلك حَسن أن يقال لهم : إن الإله الموصوفَ بالقدرة على خلق هذه الأشياء العظيمة في هذه المدة اللطيفة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكاً له في المعبودية والإلهية ؟ ! فبهذا التقدير حسن الاستدلال٥.
قوله :«وَتَجْعَلُونَ لَهُ » عطف على «لَتَكْفُرُونَ »٦ فهو داخل في حيز الاستفهام وقوله :﴿ ذَلِكَ رَبُّ العالمين ﴾ أي ذلك الموجود الذي علمتَ من صفته وقدرته أن خلق الأرض في يومين ( هو٧ رب العالمين وخالقهم ومبدعهم فكيف أثبتم له أنداداً من الخشب والحجر ؟ ثم إنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقاً للأرض في يومين )
١ الإتحاف ٣٨٠ والنشر ٢/٣٦٦ وهي قراءة عشرية متواترة..
٢ قاله الرازي في تفسيره ٢٧/١٠٣..
٣ في ب القاهرة..
٤ في ب العبودية..
٥ الرازي ٢٧/١٠٢..
٦ في ب أتكفرون بالهمزة والتصحيح من أ..
٧ ما بين القوسين زيادة للمقام من الرازي المصدر السابق..
ثم أخبر أنه أتى بثلاثة أنواعٍ من الصُّنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك، فالأول قوله :﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ وهذا مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الموصول، للفصل بينهما بأجنبي، وهو قوله :«وَتَجْعَلُونَ » فإنه معطوف على قوله :«لتكفرون »١ كما تقدم.
والمراد بالرواسي الجبال.
فإن قيل : ما الفائدة في قوله :«من فوقها » ولم يقتصر على قوله ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ كما اقتصر على قوله ﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ﴾ [ المرسلات : ٢٧ ] وقوله ﴿ وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ ﴾ [ الأنبياء : ٣١ ] وقوله :﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ [ الرعد : ٣ ].
فالجواب : أنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التَّحتانيَّة هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، ولكنه تعالى قال : خُلِقَتْ هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أنَّ الأرض والجبال أثقالٌ وكلها مفتقرة إلى مُمْسِكٍ وحافظٍ وما ذاك الحافظ المدبِّر إلا الله سبحانه وتعالى٢.
النوع الثاني : قوله «وَبَارَكَ فِيهَا » أي في الأرض بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار. قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد شقَّ الأنهار، وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار، وخلق أصناف الحيوانات، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات.
النوع الثالث : قوله ﴿ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ﴾ قيل : المعنى وقدر فيها أقوات أهلِها ومعايشهم ما يصلحهم وقال محمد بن كعب : قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان. وقال مجاهد : وقدر فيها أقواتها من المطر. وعلى هذا فالأقوات للأرض لا للسكان، والمعنى أن الله عزَّ وجلَّ قدر لكل أرض حظَّها من المطر٣. وقيل٤ المراد من إضافة القُوت إلى الأرض كونها متولدة في تلك الأرض وحادثة فيها ؛ لأن النحاة قالوا في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة، وإلى محله أخرى، فقوله «وقدر فيها أقواتها » أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة بمعنى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في ذلك البلد وبالعكس فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال.
قوله :﴿ في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ﴾ تقديره : في تَمَام أَرْبَعَةِ أيام باليَوْمَيْنِ المتقدمين. قال الزجاج : في تتمَّة أربعة أيام٥، يريد بالتتمة اليومين. وقال الزمخشري : في أربعة أيام فلذلك٦ المدة خلق الله الأرض وما فيها كأنه قال : كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستويةً بلا زيادة ولا نُقصانٍ.
قال شهاب الدين : وهذا كقولك : بَنَيْتُ بيتي في يوم وأكملته في يومين أي بالأول٧. وقال أبو البقاء : أي في تمام أربعة أيام، ولولا هذا التقدير لكانت الأيام ثمانيةً يومان في الأول، وهو قوله :﴿ خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ ﴾ ويومانِ في الآخر وهو قوله ﴿ فقضاهن سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ وأربعةُ في الوَسَطِ وهو قوله ﴿ في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ﴾٨.
فإن قيل : إنه تعالى لما ذكر خلق الأرض في يومين، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعدَ عن الشُّبهة وعن الغلط فَلِمَ تَرَك التصريح وذكر الكلام المجمل ؟
فالجواب : أن قوله «في أربعة أيام سواء » فيه فائدة زائدة على ما إذا قال : خلقت هذه الثلاثة في يومين ؛ لأنه لو قال : خلقت هذه الأشياء في يومين لم يُفِدْ هذا الكلام كون اليومين مُستغرقين بتلك الأعمال ؛ لأنه قد يقال : عملتُ هذا العمل في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل، أمَّا لما ذكر خلق الأرض، وخلق هذه الأشياء ثم قال : في أربعة أيام سواء دلَّ على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقةً في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نُقصانٍ٩.
قوله :«سواء » العامة عل النصب، وفيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر، أي استوت قاله مكي١٠ وأبو البقاء١١.
الثاني : أنه حال من «ها » في أقواتها، أو من «ها » في «فيها » العائدة على الأرض أو من الأرض قاله أبو البقاء١٢ وفيه نظر لأن المعنى إنما هو وصف الأيام بأنها سواء، لا وصف الأرض بذلك وعلى هذا جاء التفسير١٣.
ويدل على ذلك قراءة سَواءٍ بالجر صفة للمضاف، أو المضاف إليه، وقال قتادةُ والسُّدي سواء معناها سواء لمن سِأل عن الأمر، واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة فيه فإنه يجده كما قال تعالى. إلا أن ابن زيد وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي ذكره أبو البقاء فإنهم قالوا معناه مستوٍ مهيَّأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر، فعبر بالسائلين عن الطالبين١٤. وقرأ زيدُ بنُ علي والحسنُ وابنُ أبي إسحاق وعيسى ويعقوبُ وعمرُو بن عُبيدٍ : سَواءٍ بالخفض١٥ على ما تقدم١٦. وأبو جعفر بالرفع١٧ وفيه وجهان :
أحدهما : أنه على خبر ابتداء مضمر، أي هي سواء، لا يزيدُ ولا يَنقُصُ، وقال مكِّي : هو مرفوع بالابتداء وخبره للسائلين١٨ ؛ وفيه نظر، من حيث الابتداء بنكرة من غير مُسوَّغ. ثم قال : بمعنى مستويات لمن سأل فقال : في كَمْ خلقت١٩ ؟ وقيل : للسائلين لجميع السائلين لأنهم يسألون الرزق وغيره من عند الله تعالى٢٠.
قوله «للسائلين » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلق بسَوَاء بمعنى مستويات للسائلين٢١.
الثاني : أنه متعلق بقدَّر، أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها٢٢ المحتاجين المقتاتين.
الثالث : أن يتعلق بمحذوف، كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها٢٣ ؟.
١ بالمعنى من التبيان للعكبري ١٠٢٣ وباللفظ من الدر المصون ٤/٧١٩..
٢ الرازي ٢٧/١٠٢..
٣ السابق وانظر البغوي والخازن ٦/١٠٥ والجامع للإمام القرطبي ١٥/٣٤٢، ٣٤٣..
٤ هذا هو رأي الإمام الرازي في التفسير الكبير المرجع السابق..
٥ قاله في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٨١..
٦ في الكشاف فذلكة وكذا نقل عنه صاحب الدر المصون ٤/٧١٩ وكذلك البحر المحيط ٧/٤٨٥..
٧ الدر المصون ٤/٧١٩..
٨ التبيان ١١٢٣..
٩ الرازي ٢٧/١٠٣..
١٠ مشكل إعراب القرآن ٢/٢٧٠..
١١ التبيان ١١٢٤..
١٢ التبيان ١١٢٤..
١٣ نقله السمين في إعرابه ٤/٧١٩..
١٤ في ب الظالمين وهو خطأ. وانظر البحر المحيط ٧/٤٨٦..
١٥ البحر المحيط ٧/٤٨٦ والتبيان ١١٢٤ وهي قراءة عشرية متواترة انظر الإتحاف ٣٨٠، والنشر لابن الجزري ٢/٣٦٦ وانظر أيضا معاني القرآن للفراء ٣/١٢ و١٣ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٣٨١..
١٦ نعت للأربعة..
١٧ متواترة عشرية أيضا وانظر المرجعين السابقين والكشاف ٣/٤٤٤ ومختصر ابن خالويه ١٣٢..
١٨ مشكل إعراب القرآن ٢/٢٧٠..
١٩ السابق..
٢٠ وهو قول أهل المعاني القرطبي ١٥/٣٤٣..
٢١ الدر المصون ٤/٧٢٠..
٢٢ في ب بها..
٢٣ قال بهذين الوجهين الزمخشري في الكشاف ٣/٤٤٤..
قوله ( تعالى )١ :﴿ ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ أي عمد إلى خلق السماء٢. وقال ابن الخطيب : من قولهم : استوى إلى مكان كذا إذا توجَّه إليه توجُّهاً لا يلتفتُ معه إلى عمل آخر وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج. ونظيره قولهم : استقام إليه وامتدَّ إليه، قال تعالى :﴿ استقيموا إِلَيْهِ ﴾ [ فصلت : ٦ ] والمعنى : ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السموات بعد خلق الأرض ما فيها٣ من صارفٍ يصرفُهُ عن ذلك. والدُّخان : هو ما ارتفع عن لهب النار٤. ويستعار لما يرى من بُخار الأرض عند جدبها وقياس جمعة في القلة أَدْخِنَةٌ وفي الكثرة دُخْيَان، نحو : غُرابٍ وأغربة وغِرْبَانٍ وشذوا في جمعه على : دَوَاخِن٥، قيل : هو جمع داخِنةٍ تقديراً على سبيل الإسناد المجازيّ، ومثله عثانٌ وعواثِن٦.
وقوله : و «هِيَ دُخَان » من باب التشبيه الصُّوري ؛ لأن صورتها صورة الدُّخانِ في رأي العين٧.

فصل


قال المفسرون : هذا الدخان بُخار الماء، وذلك أن عرش الرحمن كان على الماء قبل خلق السموات والأرض، كما قال تعالى :﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء ﴾ [ هود : ٧ ].
ثم إن الله تعالى أحدث في ذلك الماء اضطراباً فأزْبَدَ٨ وارتفع، وخرج منه دُخانٌ فأما الزَّبدُ فبقي على وجه الماء فخلق منه اليبوسة وأحدثَ منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السَّموات.
فإن قيل : قوله تعالى ﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان ﴾ يُشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض٩، وقوله تعالى ﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣٠ ] يشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض !
فالجواب : المشهور أن يقال : إنه تعالى خلق الأرض أولاً، ثم خَلَقَ بعنده السماء، ثم بعد أن خَلَقَ السماء دحى١٠ الأرض، وبهذه الطريق يزول التناقض. قال ابن الخطيب : وهذا الجواب عندي مُشكِلٌ من وجوه١١ :
الأول : أنه تعالى خَلَقَ الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود، إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة ثم إنه تعالى قال بعد ذلك :﴿ ثُمَّ استوى إِلَى السماء ﴾ فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض، وبعد أن جعلها مدحُوَّةً وحينئذ يعود السؤال.
الثاني : أنه ورد أنَّ الدلائل الهندسية دلَّت على أن الأرض كرةٌ في أول حدوثها إن قلنا : إنها كرة، والآن بقيتْ كرة أيضاً فهي منذ خلقت كأنها مدحُوَّةٌ، وإن قلنا : إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال : إنها كانت مدحُوَّةً قبل ذلك، ثم أزيل عنها هذه الصفة وذلك باطل.
الثالث : أن الأرض جسمٌ في غاية العِظم والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحوَّا، فالقول بأنها كانت غير مدحوةٍ ثم صارت مدحوة قولٌ باطل.
والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت من موضع الصّخرة ببيت المقدس فهو كلام مشكل لأنه إذا كان المراد أنها على عظمها خلقت من ذلك الموضع ثم خلق بقيةُ أجزائها، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولاً فهذا يكون اعترافاً بأن تخليق الأرض وقع متأخراً عن تخليق السماء.
الرابع : أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين، وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام، فإذا حصل دَحْوُ الأرض بعد ذلك فقد حصل هذا الدحو في زمانٍ آخر بعد الأيام الستة فحينئذ يقع تخليق السموات والأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل.
الخامس : أنه لا نزاع في أن قوله تعالى بعد هذه الآية :﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ كناية عن إيجاد السموات والأرض، فلو تقدم إيجاد السموات لكان قوله تعالى :﴿ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ يقتضي إيجاد الموجودات وأنه محال باطل. هذا تمام البحث عن هذا الجواب١٢.
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق السماء قبل الأرض، وتأول قوله :﴿ ثمَّ استوى إلى السماء ﴾ ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دُخان قبل أن يخلق الأرض، فأضمر فيه كان كما قال تعالى :﴿ قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ [ يوسف : ٧٧ ] معناه إن يكن سرق، وقال تعالى :﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا ﴾ [ الأعراف : ٤ ] ( والمعنى١٣ ) فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي قال ابن الخطيب وهذا عندي ضعيف، لأن تقدير الكلام ثُمَّ كان قد استوى إلى السماء. هذا جمع بين الضدين لأن كلمة «ثُمَّ » تقتضي التأخير، وكلمة «كان » تقتضي التقديم، والجمع بينهما يفيد التناقض، وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض١٤ والركاكة فيه. والمختار عندي إن يُقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض، وتأويل الآية أن يقال١٥ : الخلق ليس عبارةً عن التكوين والإيجاد، والدليل عليه قوله تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] فلو كان الخلق عبارةً عن الإيجاد والتكوين لصار تقدير الآية أوجدهُ من تراب، ثم قال له كن فيكون وهذا محال فثبت أن الخلق ليس عبارةً عن الإيجاد والتكوين، بل هو عبارة عن التقدير، والتقدير في حق الله هو كلمته بأن سيُوجدُهُ. وإذا ثبت هذا فنقول قوله : خلق الأرض في يومين معناه أنه قضى بحدوثِهِ في يومين، وقضاء الله أنه سيحدث كذا في مدة كذا لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال فَقَضَاءُ الله بحُدُوثِ الأرض في يومين قد تقدم على إحداثِ السَّماء وحينئذ يزول السؤال١٦.
قوله :﴿ ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾. وقرأ العامة «ائتيا » أمراً من الإتيان «قَالَتَا أَتَيْنَا » منه أيضاً. وقرأ ابن عباس وابن جبيرٍ ومجاهدٌ «آتِيا » قَالَتَا آتينا بالمد فيهما١٧ وفيه وجهان :
أحدهما : من المؤاتاة وهي المُوافقة، أي ليوافق كل منكما الأخرى لما يليق بها.
وإليه ذهب الرازي١٨ والزَّمخشريُّ١٩، فوزن «آتِيَا » فاعلا، كقاتِلا، و«آتيْنَا » وزنه فاعلنا كقاتلنا.
والثاني : أنه من الإيتاء بمعنى الإعطاء، فوزن «آتِيَا » أفْعِلاَ كأكرما، ووزن «آتينا » أَفْعَلْنَا كأَكْرَمْنَا. فعلى الأول يكون قد حذف مفعولاً، وعلى الثاني قد حذف مفعولين ؛ إذ التقدير أعطيا الطاعة من أنفسكما مَنْ أمركما، قالتا أَعطيناهُ الطاعة٢٠. وقد منع أبو الفضل الرازي الوجه الثاني فقال : آتينا بالمَدِّ على فاعلنا من المؤاتاة بمعنى سارعنا، على حذف المفعول به، ولا يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوليه٢١.
قال شهاب الدين : وهذا هو الذي منع الزمخشري٢٢ أن يجعله من الإيتاء. قوله :﴿ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ مصدران في موضع الحال، أي طائعتين أو مُكْرهتين٢٣.
وقرأ الأعمش «كُرْهاً » بالضم٢٤، وتقدم الكلام على ذلك في النساء٢٥. قوله :«قَالَتَا : أي قالت السماءُ والأرض، وقال ابن عطية :( رحمة الله عليه )٢٦ أراد الفرقتين المذكورتين٢٧، جعل السموات سماءً والأرضين أرضاً كقوله :
٤٣٥٤ أَلَمْ يحْزُنْكَ أَنَّ حِبَالَ قَوْمِي وَقَوْمِكَ قَدْ تَبَاينتا انقِطَاعاَ٢٨
عبر عنهما «بتَبَايَنَتَا ». قال أبو حيان وليس كما ذكر لأنه لم يتقدم إلا ذكر الأرض مفردة والسماء مفردة فلذلك حسن التعبير بالتثنية.
وأما البيت فكأنه قال : حَبْلَي قَوْمِي وَقَوْمِكَ، وأنث في تَبَايَنَتَا على المعنى ؛ لأنه عنى بالحبال المودة٢٩. قوله :«طَائِعِينَ » في مجيئه مجيء جمع المذكورين العقلاء وجهان :
أحدهما : أن المراد يأتينا من فيهما من العقلاء وغيرهم، فلذلك غلَّب العقلاء على غيرهم، وهو رأي الكسائيِّ.
والثاني : أنه لما عاملهم معاملة العقلاء في الإخبار عنهما، والأمر لهما جمعهما كجمعهم، كقوله :﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾٣٠ [ يوسف : ٤ ] وهل هذه المحاورة حقيقة أو مجازاً وإذا كانت مجازاً فهل هو تمثيلٌ أو تخييلٌ ؟. خلاف٣١.

فصل


ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإيمان فأطاعُوهُ وهذا ليس بمستبعد كما أن الله تعالى أنطقَ الجبالَ مع داود عليه الصلاة والسلام فقال :﴿ ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير ﴾ [ سبأ : ١٠ ] وأنطق الأيدي والأرجل، فقال :﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ النور : ٢٤ ] وقوله :﴿ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [ فصلت : ٢١ ] وإذا كان كذلك فكيف يستبعدُ أن يخلقَ الله تعالى في ذات السموات والأرض حياةً وعقلاً ثم يوجه التكليف عليهما ؟ ويؤكد هذا وجوه :
الأول : أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره، إلا إن منع منه مانع، فههنا لا مانع.
الثاني : أنه تعالى جمعهما جمع العقلاء فقال :﴿ قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾.
الثالث : قوله :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ] وهذا يدل على كونها عارفة بالله، عالمة بتوجه تكليف الله تعالى.
وأجاب ابن الخطيب عن هذا القول : بأن المراد من قوله ﴿ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ الإثبات إلى الوجود والحدوث والحصول، فعلى هذا التقدير فحال٣٢ توجه٣٣ هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة، إذ لو كانت موجودةً فذلك لا يجوز، فثبت أن حال توجه هذا الأمر عليها كانت معدومة، وإذا كانت معدومة لم تكن فاهمة، ولا عارفة للخطاب، فلم يَجُزْ توجُّه الأمر عليها٣٤.

فصل٣٥


روى مجاهدٌ وطاوس عن ابن عباس أنه قال : قال الله للسموات والأرض أخرجا ما فيكما من المنافع ومصالح العباد، أما أنتِ يا سماءُ فأطلعي شَمْسَكِ وقَمَركِ ونُجُومكِ، وأنت يا أرض فشقَّقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتكِ، وقال لهما : افعلا ما آمركما طوعاً، وإلا ألجأتكما إلى ذلك ( حتى )٣٦ تفعلا ( ه )٣٧ فنقول : فعلى هذا التقدير لا يكون المراد من قوله : أتينا طائعين حدوثهما في ذاتهما، بل يصيرُ المراد من هذا الأمر أن يظهرا ما كان مودعاً فيهما، وهذا باطل ؛ لأنه تعالى قال :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ وذلك يدل على حُدُوثَ السماء إنما حصل بعد قوله :﴿ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾٣٨.

فصل


اعلم أن المقصود من هذا الكلام إظهار كمال القدرة، والتقدير ائتيا ذلك أو أَبَيْتُما كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شِئْتَ أو أبيتَ، ولَتَفْعَلُنَّهُ طَوْعاً أو كَرهاً.
وقيل : إنَّهُ تعالى ذكر السماء والأرض، ثم ذكر الطوع والكره فوجب أن ينصرف الطوعُ إلى السماء والكرهُ إلى الأرض، وتخصص السماء بالطوع لوجوه :
أحدهما : أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف تُشْبِهُ حيواناً مطعياً لله عزَّ وجلَّ بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال، تارة تكون سا
١ زيادة من أ..
٢ قاله البغوي في معالم التنزيل ٦/١٠٥..
٣ في تفسيره: وما فيها من غير صارف وانظر الرازي ٢٧/١٠٤، وانظر لسان العرب (سوا) ٢١٦٤ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٣٨١، وغريب القرآن ٣٨٨، وانظر بإفاضة في اللسان المرجع السابق..
٤ اللسان (دخن) ١٣٤٤، وانظر معنى الاستواء السابق في الكشاف أيضا ٣/٤٤٥..
٥ حيث إن فعال يكسر على أفعلة في القلة وفي الكثرة على فعلان وهو مفاد قول إمام النحاة في الكتاب ٣/٦٠٣..
٦ العثان والعثن الدواخن والجمع عواثن على غير قياس... والعواثن والدواخن لا يعرف لهما نظير اللسان (عثن) ٢٨١٠ وانظر "ليس" لابن خالويه ١١..
٧ الدر المصون ٤/٧٢٠..
٨ أي حصل له رغوة أو كثر. انظر اللسان "زبد" ١٨٠٣..
٩ في يشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء بالعكس من أ..
١٠ الدحو: البسط، دحا الأرض يدحوها دحوا: بسطها وقال شمر: دحا الأرض: أوسعها انظر اللسان دحا ١٣٣٨..
١١ انظر تفسير الإمام الفخر الرازي مع تغيير طفيف في الأسلوب ٢٧/١٠٤ و١٠٥..
١٢ السابق..
١٣ سقط من ب..
١٤ المرجع السابق..
١٥ في ب أن نقول..
١٦ المرجع السابق..
١٧ قراءة شاذة غير متواترة رغم أنها جائزة لغة، وقد ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢/٢٤٥، والقرطبي في الجامع ١٥/٣٤٤، والسمين في الدر ٤/٧٢٠..
١٨ المراد بت الإمام الفخر صاحب التفسير الكبير الذي يكثر المؤلف من النقل عنه والذي يكثر هو الآخر من النقل من الزمخشري انظر الرازي ٢٧/١٠٦ فقد قال: ومعنى الإتيان الحصول والوقوع على وفق المراد..
١٩ انظر الكشاف ٣/٤٤٦..
٢٠ الدر المصون ٤/٧٢١..
٢١ بالمعنى من البحر المحيط ٧/٤٨٧..
٢٢ الدر المصون المرجع السابق..
٢٣ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٤٤٦..
٢٤ ذكر تلك القراءة أبو حيان في البحر ٧/٤٨٧..
٢٥ يشير إلى قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها﴾ ]النساء: ١٩]..
٢٦ زيادة من أ..
٢٧ البحر المحيط المرجع السابق..
٢٨ من تمام الوافر للقطامي وهو من الاستعطاف والتوسل.
وشاهده: "تباينتا" حيث جعل حبال قومه وحبال قومها كل جماعة، وثنى هذا بقوله تباينتا أي الجماعتان ولو أراد جمع التكسير أو لفظ الجمعية لقال تباينت وانظر البحر المحيط ٧/٤٨٧ والدر المصون ٤/٧٢١، وديوانه ٣٧..

٢٩ بالمعنى من البحر المرجع السابق..
٣٠ يوسف ٤. وانظر الرأيين في معاني الفراء ٣/١٣ والثاني في بيان ابن الأنباري ٢/٣٣٧ ومعاني الزجاج ٤/٣٨١..
٣١ هناك من قال بالحقيقة وهناك من قال بالتخييل انظر الكشاف ٣/٤٥ والقرطبي ١٥/٣٤٤..
٣٢ كذا في الرازي وفي ب محال تحريف..
٣٣ كذا في النسختين توجه مصدرا لتوجه وفي الرازي: توجيه..
٣٤ انظر الرازي ٢٧/١٠٨..
٣٥ في ب وقيل بدل من "فصل"..
٣٦ سقط من أ الأصل..
٣٧ كذلك زيادة من ب وانظر معالم التنزيل للبغوي ٦/١٠٦..
٣٨ الرازي في تفسيره ٢٧/١٠٨ وهو رأي له..
قوله تعالى :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ في نصب «سَبْعَ » أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه مفعول ثانٍ «لقَضَاهُنَّ » ؛ لأنه ضمّن معنى صيَّرهُنَّ بقضائه سبع سموات١.
الثاني : أنه منصوب على الحال من مفعول «فقضاهن » أي قضاهن معدودةً٢، وقضى بمعنى «صَنَعَ »٣ كقول أبي ذؤيب :
٤٣٥٥ وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ٤
أي صنعها.
الثالث : أنه تمييز ؛ قال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسَّراً بسبع سمواتٍ على التمييز٥ يعني بقوله «مبهماً »، أنه لا يعود على السماء، لا من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى بخلاف كونه حالاً أو مفعولاً ثانياً.
الرابع : أنه بدل من «هُنَّ » في «فَقَضَاهُنَّ » قاله مكي٦، وقال أيضاً : السماء، تذكَّر وتؤَنَّثُ، وعلى التأنيث جاء القرآن، ولو جاء على التذكير لقيل : سَبْعَةَ سمواتٍ٧. وقد تقدم تحقيق تذكيره وتأنيثه في أوائل البقرة٨.

فصل


قال أهل الأثر : إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والإثنين، وخلق سائر ما في الأرض يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعةٍ من يوم الجُمُعةِ فخلق بها آدم، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة.
فإن : قيل : اليوم عبارة عن النهار والليل، وذلك إنما يحصل بطُلُوعِ الشَّمس وغروبها، وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم ؟
فالجواب : معناه أنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلكٌ وشمس لكان المقدار مُقدَّراً بيوم٩. وقضاء الشيء إتمامه١٠ والفرغ منه.
قوله :﴿ وأوحى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ﴾. قال عطاء عن ابن عباس١١ رضي الله عنهما : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار، وجبال البرد، وما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقال قتادة والسُّدِّيُّ : يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها. وقال مقاتل : وأوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي، وذلك يوم الخميس والجمعة، قال السدي : ولله في كل سماء بيت يُحَجُّ إليه ويطوف به الملائكة، كل واحد منها مقابل للكعبة بحيث لو وقعت منه حصاةٌ لوقعت على الكعبة.
قوله :﴿ وَزَيَّنَّا السماء الدنيا بِمَصَابِيحَ ﴾ وهي النيران التي خلقها في السموات، وخص كل واحد بضوء معين، وسرٍّ معين وطبيعة معينة لا يعرفها إلا الله تعالى.
قوله :«وَحِفْظاً » في نصبه وجهان :
الأول : أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر، أي : وحفظناها بالثواقب من الكواكب حفظاً١٢.
والثاني : أنه مفعول من أجله على المعنى ؛ فإن التقدير : خلقنا الكواكب زينةً وحِفظاً١٣، قال أبو حيان «وهو تَكَلُّفٌ وعُدُولٌ عن السَّهْلِ البَيِّن »١٤.

فصل


المعنى وحفظناها من الشياطين الذي يسترقون السمع، ثم قال :«ذلِكَ » أي الذي ذكر من صُنْعَةِ «العَزِيزِ » في ملكه «العَلِيمِ » بخلقه فالعزيزُ إشارة إلى كمال القدرة، والعليمُ إشارة إلى كمال العلم١٥.
١ قاله السمين في الدر ٤/٧٢٢..
٢ السابق.
٣ معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٣٨١ و٣٨٢..
٤ من تمام الكامل لأبي ذؤيب كما أخبر. والشاهد: قضاهما بمعنى صنعهما. ومسرودتان صفة لموصوف محذوف أي درعان مسرودتان، والبيت في معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣/٣٨٢ وفتح القدير ٤/٥٠٨ ومجمع البيان ٧/٥٩٦، وشرح المفصل ٣/٥٨، ٥٩، والبحر المحيط ٧/٤٧٧ والمعاني الكبير ٢/١٠٣٩ وغريب القرآن ٣٨٨ وتأويل المشكل ٣٤٢ واللسان قضى وديوان المفضليات ٥٠٠ و٨٨١ وديوان الهذليين ١/١٩..
٥ الكشاف ٣/٤٤٧..
٦ مشكل إعراب القرآن له ٢/٢٧٠..
٧ السابق ٢/٢٧٠ و٢٧١..
٨ يشير إلى قوله تعالى: ﴿ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات﴾ [البقرة: ٢٩]..
٩ انظر تفسير الإمام الرازي ٢٧/١٠٧ والكشاف بإجمال ٣/٤٤٧..
١٠ اللسان قضى ٣٦٦٥..
١١ هذه الأقوال ذكرها العلامة البغوي في "معالم التنزيل" ٦/١٠٦، وكذلك الخازن في "لباب التأويل" السابق، والقرطبي ١٥/٣٤٥ وانظر أيضا الرازي ٢٧/١٠٧، والبحر المحيط ٧/٤٨٨..
١٢ قاله العكبري في التبيان ١٠٢٤ والأخفش في المعاني ٦٨١ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٨٢، والزمخشري في الكشاف ٣/٤٤٧، والسمين في الدر ٤/٧٢٢ ونقله في إعراب القرآن ٤/٥٢ والمغني ٤٧٩..
١٣ قال بهذا الوجه كسابقه العكبري والكشاف والسمين المراجع السابقة..
١٤ بالمعنى من البحر فإنه قال: "ولا حاجة إلى هذا التقدير الثاني وتكلفه مع ظهور الأول وسهولته" البحر ٧/٤٨٨.
.

١٥ انظر البغوي ٦/١٠٦..
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً﴾ هذا التفات من خطابهم بقوله: «قُلْ أَئِنَّكُمْ» إلى الغيبة لفعلهم الإعراض، أعرض عن خطابهم وهو تناسب حسنٌ، والمعنى أن الحجة قد تمت على أكمل الوجوه، فإن بقُوا مصرِّين على الجهل لم يبق حينئذ علاجٌ ف يحقهم إلا إنزال العذاب عليهم، فلهذا قال: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾، أي هلاكاً مثلَ هلاكِهِمْ، والإنذار التخويف.
قال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأي شيءٍ كان. وقرأ الجمهور: صاعِقَةً مثل صََاعِقَةِ بالألف فيهما. وابنُ الزبير والنَّخعيُّ والسُّلميُّ وابن محيصنٍ: صعقةٌ مثل صعقةِ محذوف الألف وسكون العين. وتقدم الكلام في ذلك في أوائل البقرة. يقال: صعقته الصاعقة فصعق. وهذا مما جاء فيه فعلتُهُ بالفتح ففعل بالكسر. ومثله: جذَعتُهُ فجذعَ. قال الزمخشري: والصَّعقَةُ المرة من الصَّعق.
قوله: «إذْ جَاءَتْهُم» فيه أوجه:
أحدها: أنه ظرف «لأنْذَرْتُكُم»، نحو: لقيتك إذ كان كذا.
الثاني: أنه منصوب بصاعقه، لأنها بمعنى العذاب، وأي أنذرتكم العذاب الواقع في وقت مجيء رُسُلهم.
115
الثالث: أنه صفة لصاعقة الاولى.
الرابع: أنه حال من «صاعقة» الثانية، قالهما أبو البقاء. وفيه نظر إذ الظَّاهِرُ أنَّ الصَّاعِقَة جُثَّةٌ وهي قطعة نار تنزل من السماء فتحرق كما تقدم تفسيرها، ولا يقع الزمان صفة لها، ولا حالاً عنها، وتأويلها بمعنى العذاب إخراجٌ لها عن مدلولها من غير ضرورةٍ، وإنما جعلها وصفاً للأولى، لأنها نكرة، وحالاً من الثانية معرفة لإضافتها إلى علم، ولو جعلها حالاً من الأولى لأنها تخصصت بالإضافة لجاز. فتعودُ الأوجهُ خمسةً.
قوله: ﴿مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الظاهر أن الضَّميرين عائدان على عاد وثمود. وقيل: الضمير في «خَلْفِهِمْ» يعودُ على الرسل واستُبعد هذا من حيث المعنى؛ إذ يصير التقدير: جاءتهم الرسل من خلق الرسل أي من خلف أنفسهم، وقد يجاب عنه بأنه من باب: دِرْهَمٌ ونصفُهُ، أي ومن خلف رسُلٍ أخرين.
قوله: ﴿أَلاَّ تعبدوا﴾ يجوز في «أن» ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أن تكمون المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوفٌ، الجملة النهيية بعدها خبر، كذا أعربه أبو حيان وفيه نظر من وجهين:
أحدهما: أنَّ المخففة (من الثقيلة) لا يقع بعدها فعلٌ إلا من أفعال اليقين.
والثاني: أن الخبر في باب إنَّ وأخواتها لا يكون طلباً، فإن ورد منه شيء أوِّلَ، ولذلك تأَوَّلُوا:
٤٣٥٦ - إنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا
وقوله:
116
على إضمار القول.
الثاني: أنها الناصبة للمضارع، والجملة النهيية بعدها صلتها وصلت بالنهي كما توصل بالأمر في كتبتُ إليه بأن قُم.
وقد مر في وصلها بالأمر إشكالٌ يأتي مثله في النهي.
الثالث: أن تكون مفسرة لمجيئهم؛ لأنه يتضمن قولاً، و «لا» في هذه الأوجه كلها ناهية، ويجوز أن تكون نافية على الوجه الثاني، ويكون الفعل منصوباً بأن بعد لا النافية، فإنَّ لا النافية لا تمنع العامل أن يعمل فيما بعدها، نحو: جئتُ بلا زيدٍ، ولم يذكر الحوفيُّ غيره.
قوله: «لَوْ شَاءَ» قدَّر الزمخشري مفعول شاء لو شاء إرسالَ الرُّسل لأنْزَلَش ملائكةً قال أبو حيان تتبعت القرآن وكلام العرب، فلم أجد حذف مفعول شاء الواقع بعد لو إلاَّ من جنس جوابها، نحو ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى﴾ [الأنعام: ٣٥] أي لو شاء (الله) جمعهم على الهدى لجمعهم عليه. (و) ﴿لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً﴾ [الواقعة: ٦٥] و ﴿لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً﴾ [الواقعة: ٧٠] و ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ﴾ [يونس: ٩٩] و ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: ١١٢] و ﴿لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ﴾ [النحل: ٣٥]، وقال الشاعر (رحمة الله عليه) :
٤٣٥٧ - وَلَوْ أَصَابَتْ لَقَالَتْ وَهيَ صَادِقَةٌ إنَّ الرِّيَاضَةَ لاَ تُنْصِبْكَ لِلشِّيبِ
٤٣٥٨ - فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتَ قَيْسَ بْنَ خَالِدٍ وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتَ عَمْروا بْنَ مَرْثَدِ
وقال الأخرة:
117
قال: فعلى ما تقدم لا يكمون المحذوف ما قدره الزمخشري، وإنما التقدير: لو شاء ربنا إنزال ملائكةٍ بالرسالة إلى الإنس لأَنزلهُم بها إلبيهم وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر إذ علَّقُوا ذلك بإنزال الملائكة وهو لم يشأ ذلك فكيف يشاءُ ذلك في البشر.
قال شاهب الدين: وتقدير أبي القاسم أوقع معنًى وأخلصُ من إيقاع الظاهر موقع المضمر؛ إذ يصير التقدير «لوشاء إنزال ملاكةٍ لأنزلَ ملائكة».
قوله: ﴿بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ هذا خطاب لهودٍ وصالح وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغلب المخاطب على الغائب نحو: أَنتَ وَزَيْدٌ تقومانِ. و «ما» يجوز أن تكون موصولة بمعنى «الذي»، وعائدها «به»، وأن تكون مصدرية، أي بإرسالكم فعلى هذا يكون «به» يعود على ذلك المصدر المؤول، ويكون من باب التأكيد، كأنه قيل: كافرون بإِرسالكم به.

فصل


معنى جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم، أي إن الرسل المبعوثين إليهم أتوهُم من كل جانب، وأتوا بجميع وجوه الدلالات، فلم يروا منهم إلا العُتُوَّ والإعراض، كما حكى الله تعالى عن الشيطان: ﴿لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] أي من كل جهة. وقيل: المعنى أن الرسل جاءتهم من قبلهم أي أرسلوا إلى آبائهم، ومن خلفهم يعني الذين أرسلوا إليهم.
فإن قيل: كيف يمكن وصفهم بأنهم جاءوا؟!.
فالجواب: قد جاءهم هودٌ وصالح داعيين إلى الإيمان بهما، وبجميع الرسل، ويهذا التقدير: فكأن جميع الرسل قد جاءوهم وأمروهم بالتوحيد ونفي الشرك، فقالوا: ﴿لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة﴾ وجعلوا عدم إنزال الملائكة دليلاً على تكذيب الرسل، والمعنى أنه تعالى لو شاء إرسال الرسل إلى البشر لجعل رسله ملائكةً؛ لأن الملائكة أفضى إلى المقصود من بعثةِ البشر.
ثم قالوا إنا بما أُرْسلتُم به كافرون، وتقدم الجواب عن هذه الشُّبهة في سورة الأنعام.
واعلم أن قولهم: أرسلتم به، ليس إقراراً بأن أولئك الأنبياء رسلٌ وإنما ذكروه حكاية الكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء، كما قال فرعون: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧].
118

فصل


روي أن أبا جهل لعنه الله مقال في ملأ من قريش: التبس علينا أمرُ محمد، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر ولاسحر والكهانةِ وكلَّمَهُ ثم أتانا من أمره، فقال عُيينةُ بْنُ حصن: والله لقد علمتُ الشعر والسحر والكهانة، وعلمُ من ذلك علماً ولا يخفى عليَّ، فأتاه، فقال يا محمدُ: أنت خيرٌ أم هاشم؟ أتت خير أم عبد المطلب؟ أ، ت خبر أم عبد الله؟ فَلِمَ تَشْتِمُ آلهتنا وتضلِّلُ آباءنا؟ فإ، كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواءَ فكنت رئيسنا، وإن أردت الباءة زوَّجناك أَعزَّ نسوة تختارُوهُنَّ من أيذِ بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستعين به على ذلك، ورسو الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ساكت، فملا فرغ، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَفرغت؟ قال: نعم. قال: فاسمع ثم إنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تَعَوَّذَ ثم قرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم» حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً إلى أن بلغ قوله: فإن أَعْرَََضُوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عُيينةُ على فِيهِ وناشدهُ بالرحم إلا ما سكت، ثم رجع إلى أهله، فلم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عيينة إلا قد صَبَأ فانطلقوا إليه وقالوا: يا عيينة، ما حَبَسَكَ عنا، إلا أنك قد صبأت إلى محمد، وأعجبك طعامُه، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً، ثم قال: «واللهُ لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني قصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ماهو بشعرٍ ولا كهانةٍ ولا سحر، وقرأ السورة ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه، وناشدته بالرحم حتى سكت، لقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخِفت أن ينزل العذاب.
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ قيل: هذا الاستكبار إظهار العُجِبِ والتِّه وعدم الالتفات إلى الغير. وقيل: الاستعلاء على الناس واستخدامهم. ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو قولهم: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ وكانوا ذوي أجسام طوال، وقوة شديدة.
ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنهم لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ وإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل فيجب عليهم الانقياد لله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه.
فإن قيل: صيغة أفعل التفضيل إنما تجري بين شيئين لأحدهما نسبة إلى الآخر لكن قدرة العبد متناهية، وقدرة الله لا نهاية لها والمتناهي لا نسبة لها إلى غير المتناهي فما معنى قوله: «أنَّ الله أَشَدَّ منْهُمْ قوة»
؟.
119
فالجواب: هذا ورد على قانون قولنا: الله أكبر، ثم قال: ﴿وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ والمعنى أنهم يعرفون أنها حق ولكنهم يجحدونها كما يجحد المُودَعُ الوَدِيعةَ.
واعلم أنَّ نظم الكلام أن يقال: أما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وكانوا بآياتنا يجحدون، وأما قولهم: ﴿مَنْ أشد من اقوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة﴾ اعتراض وقع في البين لتقرير الداعي إلى الاستكبار.
120
قوله :«إذْ جَاءَتْهُم » فيه أوجه :
أحدها : أنه ظرف «لأنْذَرْتُكُم »، نحو : لقيتك إذ كان كذا١.
الثاني : أنه منصوب بصاعقه، لأنها بمعنى العذاب٢، أي أنذرتكم العذاب الواقع في وقت مجيء رُسُلهم٣.
الثالث : أنه صفة لصاعقة الأولى.
الرابع : أنه حال من «صاعقة » الثانية، قالهما أبو البقاء٤. وفيه٥ نظر إذ الظَّاهِرُ أنَّ الصَّاعِقَة جُثَّةٌ وهي قطعة نار تنزل من السماء فتحرق كما تقدم تفسيرها، ولا يقع الزمان صفة لها، ولا حالاً عنها، وتأويلها بمعنى العذاب إخراجٌ لها عن مدلولها من غير ضرورةٍ، وإنما جعلها وصفاً للأولى، لأنها نكرة، وحالاً من الثانية معرفة لإضافتها إلى علم، ولو جعلها حالاً من الأولى لأنها تخصصت بالإضافة لجاز. فتعودُ الأوجهُ خمسةً.
قوله :﴿ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ الظاهر أن الضَّميرين عائدان على عاد وثمود٦. وقيل : الضمير في «خَلْفِهِمْ » يعودُ٧ على الرسل واستُبعد هذا من حيث المعنى ؛ إذ يصير التقدير : جاءتهم الرسل من خلف الرسل أي من خلف أنفسهم، وقد يجاب عنه بأنه من باب : دِرْهَمٌ ونصفُهُ، أي ومن خلف رسُلٍ آخرين٨.
قوله :﴿ أَلاَّ تعبدوا ﴾ يجوز في «أن » ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن تكون المخففة من٩ الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوفٌ، الجملة النهيية بعدها خبر، كذا أعربه أبو حيان وفيه نظر من وجهين :
أحدهما : أنَّ المخففة ( من الثقيلة ) لا يقع بعدها فعلٌ إلا من أفعال اليقين.
والثاني : أن الخبر في باب إنَّ وأخواتها لا يكون طلباً، فإن ورد منه شيء أوِّلَ، ولذلك تأَوَّلُوا :
٤٣٥٩ - واللَّذِ لَوْ شَاءَ لَكُنْت صَخْراً أَوْ جَبَلاً أَشَمَّ مُشْمَخرًّا
٤٣٥٦ إنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ١٠ سَيِّدَهُمْ لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا١١
وقوله :
٤٣٥٧ وَلَوْ أَصَابَتْ لَقَالَتْ وَهي صَادِقَةٌ إنَّ الرِّيَاضَةَ لاَ تُنْصِبْكَ لِلشِّيبِ١٢
على إضمار القول.
الثاني : أنها الناصبة للمضارع، والجملة النهيية بعدها صلتها وصلت بالنهي كما توصل بالأمر في كتبتُ إليه بأن قُم١٣.
وقد مر في وصلها بالأمر إشكالٌ يأتي مثله في النهي.
الثالث : أن تكون مفسرة لمجيئهم١٤ ؛ لأنه يتضمن قولاً، و«لا » في هذه الأوجه كلها ناهية، ويجوز أن تكون نافية على الوجه الثاني، ويكون الفعل منصوباً بأن بعد لا النافية، فإنَّ لا النافية لا تمنع العامل أن يعمل فيما بعدها، نحو : جئتُ بلا زيدٍ، ولم يذكر الحوفيُّ غيره١٥.
قوله :«لَوْ شَاءَ » قدَّر الزمخشري مفعول شاء لو شاء إرسالَ الرُّسل لأنْزَلَ ملائكةً١٦ قال أبو حيان تتبعت القرآن وكلام العرب، فلم أجد حذف مفعول شاء الواقع بعد لو إلاَّ من جنس جوابها، نحو ﴿ وَلَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى ﴾ [ الأنعام : ٣٥ ] أي لو شاء ( الله ) جمعهم على الهدى لجمعهم عليه. ( و١٧ ) ﴿ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ﴾ [ الواقعة : ٦٥ ] و﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ﴾ [ الواقعة : ٧٠ ] و﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ ﴾ [ يونس : ٩٩ ] و﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ] و﴿ لَوْ شَاءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ ﴾ [ النحل : ٣٥ ]، وقال الشاعر ( رحمة الله عليه١٨ ) :
٤٣٥٨ فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتَ قَيْسَ بْنَ خَالِدٍ وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتَ عَمْرو بْنَ مَرْثَدِ١٩
وقال الآخر :
٤٣٥٩ واللَّذِ لَوْ شَاءَ لَكُنْت صَخْراً أَوْ جَبَلاً أَشَمَّ مُشْمَخرًّا٢٠
قال : فعلى ما تقدم لا يكون المحذوف ما قدره الزمخشري، وإنما التقدير : لو شاء ربنا إنزال ملائكةٍ بالرسالة منه إلى الإنس لأَنزلهُم بها إليهم وهذا أبلغ في٢١ الامتناع من إرسال البشر إذ علَّقُوا ذلك بإنزال الملائكة وهو لم يشأ ذلك فكيف يشاءُ ذلك في البشر٢٢.
قال شهاب الدين : وتقدير أبي القاسم أوقع معنًى وأخلصُ من إيقاع الظاهر موقع المضمر ؛ إذ يصير التقدير «لو شاء إنزال ملائكةٍ لأنزلَ ملائكة »٢٣.
قوله :﴿ بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ ﴾ هذا خطاب لهودٍ وصالح وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغلب المخاطب على الغائب نحو : أَنتَ وَزَيْدٌ تقومانِ. و«ما » يجوز أن تكون موصولة بمعنى «الذي »، وعائدها «به »، وأن تكون مصدرية، أي بإرسالكم فعلى هذا يكون «به » يعود على ذلك المصدر المؤول، ويكون من باب التأكيد، كأنه قيل : كافرون بإِرسالكم به٢٤.

فصل


معنى جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم، أي إن الرسل المبعوثين إليهم أتوهُم من كل جانب، وأتوا بجميع وجوه الدلالات، فلم يروا منهم إلا العُتُوَّ والإعراض، كما حكى الله تعالى عن الشيطان :﴿ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ [ الأعراف : ١٧ ] أي من كل جهة. وقيل : المعنى أن الرسل جاءتهم من قبلهم أي أرسلوا إلى آبائهم، ومن خلفهم يعني الذين أرسلوا إليهم.
فإن قيل : كيف يمكن وصفهم بأنهم جاءوا ؟ !.
فالجواب : قد جاءهم هودٌ وصالح داعيين إلى الإيمان بهما، وبجميع الرسل، وبهذا التقدير : فكأن جميع الرسل قد جاءوهم وأمروهم بالتوحيد ونفي الشرك، فقالوا :﴿ لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة ﴾ وجعلوا عدم إنزال الملائكة دليلاً على تكذيب الرسل، والمعنى أنه تعالى لو شاء إرسال الرسل إلى البشر لجعل رسله ملائكةً ؛ لأن الملائكة أفضى إلى المقصود من بعثةِ البشر.
ثم قالوا إنا بما أُرْسلتُم به كافرون، وتقدم الجواب عن هذه الشُّبهة في سورة الأنعام.
واعلم أن قولهم : أرسلتم به، ليس إقراراً بأن أولئك الأنبياء رسلٌ وإنما ذكروه حكاية الكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء، كما قال فرعون :﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [ الشعراء : ٢٧ ].

فصل


روي أن أبا جهل لعنه الله مقال في ملأ من قريش : التبس علينا أمرُ محمد، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر و السحر والكهانةِ وكلَّمَهُ ثم أتانا من أمره، فقال عُيينةُ بْنُ حصن : والله لقد علمتُ الشعر والسحر والكهانة، وعلمُ من ذلك علماً ولا يخفى عليَّ، فأتاه، فقال يا محمدُ : أنت خيرٌ أم هاشم ؟ أتت خير أم عبد المطلب ؟ أتت خبر أم عبد الله ؟ فَلِمَ تَشْتِمُ آلهتنا وتضلِّلُ آباءنا ؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواءَ فكنت رئيسنا، وإن أردت الباءة زوَّجناك أَعزَّ نسوة تختارُوهُنَّ من أيِ بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستعين به على ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما فرغ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أَفرغت ؟ قال : نعم. قال : فاسمع ثم إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تَعَوَّذَ ثم قرأ :«بسم الله الرحمن الرحيم » حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً إلى أن بلغ قوله : فإن أَعْرَََضُوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عُيينةُ على فِيهِ وناشدهُ بالرحم إلا ما سكت، ثم رجع إلى أهله، فلم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عيينة إلا قد صَبَأ فانطلقوا إليه وقالوا : يا عيينة، ما حَبَسَكَ عنا، إلا أنك قد صبأت إلى محمد، وأعجبك طعامُه، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً، ثم قال :«واللهُ لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني قصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعرٍ ولا كهانةٍ ولا سحر، وقرأ السورة ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه، وناشدته بالرحم حتى سكت، لقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخِفت أن ينزل العذاب.
١ التبيان ١١٢٤..
٢ البحر المحيط ٧/٤٨٩..
٣ في ب رسله..
٤ التبيان المرجع السابق..
٥ الدر المصون ٤/٧٢٣..
٦ نقله الزمخشري في الكشاف ٣/٤٤٧ والبغوي ٦/١٠٦..
٧ نقله أبو زكريا الفراء في معاني القرآن ٣/١٣..
٨ قال بهذا الاعتراض والجواب أبو حيان في البحر المحيط ٧/٤٨٨، ونقله عنه تلميذه الشهاب السمين في الدر المصون ٤/٧٢٣، ٧٢٤..
٩ أحد قولي الزمخشري في الكشاف ٣/٤٤٨ وأحد أقوال البحر المحيط لأبي حيان أيضا ٧/٤٨٩..
١٠ في ب بالأمس..
١١ من البسيط لأبي مكعت. وشاهده: "لا تحسبوا" جملة نهيية طلبية مؤولة بالخبر، حيث هي واقعة خبرا لإن المخففة من الثقيلة على إضمار القول. وقد تقدم..
١٢ من البسيط كسابقه وهو للجميع بن منقذ، وشاهده: "لا تنصبك" فهذه جملة طلبية ليست خبرا لإن ولكنها مدخول عليها بقول مضمر هو الخبر وقد تقدم..
١٣ هو أحد أقوال أبي حيان فيه انظر البحر ٧/٤٨٩ وعلى هذا فهي مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بحرف جر محذوف والتقدير: بعدم عبادتهم..
١٤ الكشاف ٣/٤٤٨ والبحر المحيط ٧/٤٨٩..
١٥ المرجع الأخير السابق..
١٦ الكشاف المرجع السابق..
١٧ زيادة للسياق..
١٨ زيادة من أ..
١٩ من الطويل لطرفة بن العبد ويروى صدره:
أرى كل ذي جد ينوء بجده ............................
والشاهد: أن مفعول شاء الواقع بعد لو مقدر من جنس جوابها كما قرر بذلك أبو حيان والتقدير:
فلو شاء ربي كوني................. كنت
وانظر ديوان طرفة ٣٦ والسبع الطوال ٢٠٩ و٢١٠، والبحر المحيط ٧/٤٩٠، والدر المصون ٤/٧٢٥..

٢٠ من الرجز وهو مجهول ويروى:
والذ لو شاء لكانت برا
وكانت أي الدنيا، والبر مقابل البحر، والأشم المرتفع، والمشمخر: العالي المتطاول. وشاهده: أن جواب لو مقدر من جنس الجواب تقديره: لو شاء كوني وقد تقدم ويستشهد النحاة بالبيت على حذف ياء الذي تخفيفا وكسر ما قبلها لغة لبعض العرب..

٢١ في ب من..
٢٢ البحر المحيط ٧/٤٩٠..
٢٣ الدر المصون ٤/٧٢٥..
٢٤ المرجعان السابقان..
قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق ﴾ قيل : هذا الاستكبار إظهار العُجِبِ والتّيِه وعدم الالتفات إلى الغير. وقيل : الاستعلاء على الناس واستخدامهم. ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو قولهم :﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ وكانوا ذوي أجسام طوال، وقوة شديدة.
ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنهم لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم فقال :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ وإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل فيجب عليهم الانقياد لله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه.
فإن قيل : صيغة أفعل التفضيل إنما تجري بين شيئين لأحدهما نسبة إلى الآخر لكن قدرة العبد متناهية، وقدرة الله لا نهاية لها والمتناهي لا نسبة لها١ إلى غير المتناهي فما معنى قوله :«أنَّ الله أَشَدَّ منْهُمْ قوة » ؟.
فالجواب : هذا ورد على قانون قولنا : الله أكبر٢، ثم قال :﴿ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ والمعنى أنهم يعرفون أنها حق ولكنهم يجحدونها كما يجحد المُودَعُ الوَدِيعةَ٣.
واعلم أنَّ نظم الكلام أن يقال : أما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وكانوا بآياتنا يجحدون، وأما قولهم :﴿ مَنْ أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة٤ اعتراض وقع في البين٥ لتقرير الداعي إلى الاستكبار.
١ كذا في أ وفي ب والرازي له وهو الأصح..
٢ أي أن أفعل ليست للتفضيل فهو هنا بمعنى كبير كالبيت المشهور: "وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم.... البيت"..
٣ قاله الرازي ٢٧/١١٢ والزمخشري في الكشاف ٣/٤٤٩..
٤ من لفظ "بين" الظرفية..
٥ الرازي السابق..
قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً﴾ الصَّرصرُ: الريح الشديدة، فقيل: هي الباردة من الصَّرِّ وهو البرد، وقيل: هي الشدية السُّمُوم، وقيلأ: المُصوِّتةُ من صرَّ البابُ أي سُمِعَ صريرُهُ. والصَّرَّةٌ: الصَّيحة ومنه: ﴿فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ﴾ [الذاريات: ٢٩] قال ابن قتيبة «صَرْصَرٌ» يجوز أن يكون الصَّرِّ وهو البرد، وأن يكون من صرَّ البابُ، وأن يكون من الصََّرَّة ومنه: ﴿فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ﴾ [الذاريات: ٢٩].
قوال الراغب: صَرْصرٌ لفظه من الصّر وذلك يرجع إلى الشد لما في البرودة من التعقيد.
قوله: في أيَّام نحساتٍ قرأ الكوفيون وابنُ عامر بكسر الحاء والباقون بسكونها.
120
فأما الكسر فهو صفة على «فَعِلٍ» وفعلُهُ: «فَعِلَ» بكسر العين أيضاً كفِعْلِهِ؛ يقال: نَحِسَ فهو نَحِسٌ، كَفَرِحَ، فهُو فَرِحٌ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ، ومعناه نكدات مَشْئُوماتٌ ذاتُ نُحُوسٍ.
وأمال اللَّيثُ من الكسائيِّ ألفه لأجل الكسرة، ولكنه غير مشهور عنه حتى نسبه الدَّانيُّ للوهم وأما قراءة الإسكان فتحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون مخفف من «فَعِل» في القراءة المتقدمة وفيه توافق القراءتين.
الثاني: أنه مصدر وصف به كرجُلٍ عَدْلٍ، إلا أنَّ هذا يضعفه الجمعُ، فإن الفصيحَ في المصدر الموصوف (به) أن يوحَّد وكأنَّ المُسوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعه في الأصل.
الثالث: أنه صفة مستقلة على «فَعْل» بسكون العين ولكن أهل التصريف لم يذكروا في الصفة الجائية من «فَعِل» بكسر العين إلا أوزاناً محصورة ليس فيه «فَعْل» بالسكون فذركوا: فَرِحَ فهو فَرِحٌ وحوز فهو أحْوَرُ، وشَبع فهو شَبْعَانُ، وسَلِمَ فهو سَالِمٌ، وبلي فَهُو بالٍ. وفي معنى «نحسات» قولان:
أحدهما: أنها من الشّؤم، قال السدي أي مشائيم من النحس المعروف.
والثاني: أنها من شدة البرد وأنشدوا على الأول قولَ الشاعر:
121
وعلى المعنى الثاني:
٤٣٦٠ - يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْماً نَحْسَا نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ وَنَجْماً نَحْسَا
٤٣٦١ - كَأَنَّ سُلاَفَةً عُرِضَتْ لِنَحْسٍ يُحِيلُ شَفِيفُهَا المَاءَ الزًُّلاَلاَ
ومنه:
٤٣٦٢ - قَدْ أَغْتَدِي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ للصَّيْدِ فِي يَوْمِ قَلِيلِ النَّحْسِ
وقيل: يريدُ به في هذا البيت الغبار، أي قليل الغبار. وقد قيل بذلك في الآية إنها ذات غبار. و «نَحِسَات» نعت لأيَّام، والجمع بالألف والتاء مُطَّرِدٌ في صفة ما لايعقل كأيَّام معدوداتٍ كما تقدم تحقيقه في البقرة (اللَّهُمَّ يَسِّرْ).

فصل


الصَّرْصَر: العاصفة التي تُصَرْصِرُ في هُبُوبِهَا؟. روي عن عبد الله بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: الرِّياح ثمانٍ، اربعٌ منها عذاب وهي العاصف، والصرصر، والعقيم، والعاصفة، واربع منها رحمة، وهي: الناشرات، والمُبَشِّرات، والمُرْسَلاَت، والذَّارياتت. وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خَاتَمِي. وقال الضحاك: أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، وتوالت الرياح عليهم من غير مَطَرٍ.

فصل


استدلَّ الأَحكَامِيُّون من المُنَجِّمِينَ بهذه الآية على أن بعض الأيام يكون نحساً وبعضها سعداً وأجاب المتكلمون بأن المراد بهذه الحسنات أي ذات غبار وتراب ثائر، لا يكاد يُبْصَرُ فيه ولا يُتَصَرَّف فيه، وقالوا أيضاً: معنى كون هذه الأيام نَحِسَاتٍ أن الله أهلكهم فيها. وأجاب الأحكاميون بأن الأحكام في وضع اللغة هي المشئومات لأن
122
النحس مقابلة السعد، والهواء الكدر يقابله الصافي. وأيضاً فإنه تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات، فوجب أن كون تلك الأيام نَحِسَةً مغايارً لذلك الذاب الذي وقع فيها.
قوله: ﴿لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا﴾ أي عذاب الهوان والذل مقابل لذلك الاستكبار ﴿وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ﴾ أي لا يكون لهم ناصر يدعف عنهم ذلك الخزي.
قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ﴾ الجمهور على رفعه، ممنوع الصرف. والأعمش وابن وثَّاب مصروفاً، وكذلك كل ما في القرآن إلا قوله: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة﴾ [الإسراء: ٥٩]، قالوا لأن الرسم ثمود بغير ألف. وقرأ ابن عباس وابنُ أبي إسحاق والأعمش في روايةٍ ثموداً منصوباً مصروفاً. والحسنُ وابن هرمزٍ وعاصم أيضاً منصوباً غير منصرف.
فأما الصرف وعدمه فقد تقدم توجيههما في «هُودٍ». وأما الرفع فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر، وهو متعيّن عند الجمهور لأن «أَمَّا» لا يليها إلا المبتدأ، فلا يجوز فيما بعدها الاشتغال إلا في قليل كهذه القراءة، وإذا قدرت الفعل الناصب فقدِّره بعد
123
الاسم المنصوب أي وأما هديناهم فهديناهم. قالو: لأنها لا يليها الأفعال.

فصل


قال الزمخشري: وقرىء: بضم الثَّاء. قال مجاهد: هديناهم: دعوناهم. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بيَّنَّا لهم سبيل الهدى، وقيل: دللناهم على طريق الخير والشر، كقوله ﴿هَدَيْنَاهُ السبيل﴾ [الإنسان: ٣] ﴿فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾ أي فاختاروا الكفر على الإيمان.
وذكر الزمخشري في تفسير الهدى قوله تعالى: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] : أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية، وهذه الآية تبطل قوله لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإفضاء إلى البغية لم يحصل. (انتهى).

فصل


قالت المعتزلة: دلت هذه الآية على أن الله تعالى ينصب الدلائل ويزيح الأعذار إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد، لأن قوله تعالى: «فَهَديْنَاهُمْ» يدل على أنه تعالى نصب لهم الدلائل، وقوله ﴿فاستحبوا العمى على الهدى﴾ يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى، وهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد.
والجواب من وجهين:
الأول: أنما صدر عنهم ذلك العمى لأنهم أحبوا تحصيله، فملا وقع في قلوبهم هذه المحبة دون محبة صده، فِإن حصل هذا الترجيح لا لمرجِّح فهو باطل وإن كان لمرجِّح فإن كان المرجِّح هو العبد عاد الطلب، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب.
الثاني: أنه تعالى قال: ﴿فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾ ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمًى وجهلاً بل ما يظنُّ في ذلك العمى والجهل بكونه تبصرةً وعلماً مما يرغب فيه فإقدامه على اختياره على ذلك الجهل الثاني إن كان باختياره لزم التسلسل وهو محال، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى
124
جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب.
قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ وصاعقة العذاب أي المهلكة والعذاب الهون أي ذي الهون، أي الهوان وهو الذي يهينهم ﴿بما كانوا يكسبون﴾ من شركهم وتكذيبهم صالحاً.
ثم قال: ﴿وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ﴾ يعني يتقون الأعمال التي كانوا يأتون بها عادٌ وثمودٌ.
فإن قيل: كيف يجوز للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينذر قومه مثل صاعقة عادٍ وثمود مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣] وجاء في الحديث الصحيح أن الله رفع عن هذه الأمة أنواع العذاب؟!.
فالجواب: أنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعادٍ وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة وأن السبب الموجب للعذاب واحد ربما يكون العذاب النازل بهم من جنس ذلك وإن كان أقل درجة، وهذا القدر يكفي في التخويف.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار﴾ الآية لما بين كيفية عقوبة أولئك لكفار في الدنيا أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة ليصحل تمام الاعتبار في الزجر والتحذير، فقال: «ويوم يحشر». في العامل في هذا الظرف وجهان:
أحدهما: محذوف دل عليه ما بعده من قوله «فَهُمْ يوزَعُونَ» تقديره: يساقُ الناسُ يَوْمَ يُحْشَر وقدره أبو البقاء يمنعون يوم يحشر.
الثاني: أنه منصوب باذكر، أي اذكر يوم. وقرأ نافع «نَحْشُرُ» بنون العظمة وضم الشين «أَعْدَاءَ» نصباً أي نحشر نحن، والباقون بياء الغيبة مضمومة والشين مفتوحة على ما لم يسم فاعله و «أَعْدَاءُ» رفعاً لقيامه مقام الفاعل.
ووجه الأول أنه معطوف على «وَنَجَّيْنَا» فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ (يقويه) وقوله ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين﴾ [مريم: ٨٥]، ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ﴾ [الكهف: ٤٧].
وحجة الثانية: أن قصة ثمود قد تمت وقوله: «وَيَوْمَ يُحْشَر» ابتداء كلام آخر وأيضاً
125
الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله: ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ﴾ [الصافات: ٢٢] وهم الملائكة، وأيضاً موافمقة لقوله: «فَهُمْ يُوزَعُونَ» وأيضاً فتقدير القراءة الأولى، أن الله تعالى قال: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله﴾ فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال: ويوم نَحْشُرُ أعداءنا إلى النار. وكسر الأعرج شين «يحشِر». ثم قال: «فهم يُوزَعون» أي يساقون، ويدفعون إلى النار. وقال قتادة والسدي: يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا. أي يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم.
126
قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ ﴾ الجمهور على رفعه، ممنوع الصرف. والأعمش وابن وثَّاب مصروفاً١، وكذلك كل ما في القرآن٢ إلا قوله :﴿ وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ]، قالوا لأن الرسم ثمود بغير ألف. وقرأ ابن عباس وابنُ أبي إسحاق والأعمش في روايةٍ ثموداً منصوباً مصروفاً٣. والحسنُ وابن هرمزٍ وعاصم أيضاً منصوباً غير منصرف٤.
فأما الصرف وعدمه فقد تقدم توجيههما في «هُودٍ »٥. وأما الرفع فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر، وهو متعيّن عند الجمهور٦ لأن «أَمَّا » لا يليها إلا المبتدأ، فلا يجوز فيما بعدها الاشتغال إلا في قليل كهذه القراءة٧، وإذا قدرت الفعل الناصب فقدِّره بعد الاسم المنصوب أي وأما هديناهم فهديناهم. قالو : لأنها لا يليها الأفعال٨.

فصل


قال الزمخشري : وقرئ : بضم الثَّاء٩. قال مجاهد : هديناهم : دعوناهم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما بيَّنَّا لهم سبيل الهدى، وقيل : دللناهم على طريق الخير والشر، كقوله ﴿ هَدَيْنَاهُ السبيل ﴾ [ الإنسان : ٣ ] ﴿ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى ﴾ أي فاختاروا الكفر على الإيمان.
وذكر الزمخشري في تفسير الهدى قوله تعالى :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ] : أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية١٠، وهذه الآية تبطل قوله لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإفضاء إلى البغية لم يحصل١١. ( انتهى )١٢.

فصل


قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أن الله تعالى ينصب الدلائل ويزيح الأعذار إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد، لأن قوله تعالى :«فَهَديْنَاهُمْ » يدل على أنه تعالى نصب لهم الدلائل، وقوله ﴿ فاستحبوا العمى على الهدى ﴾ يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى، وهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد.
والجواب من وجهين :
الأول : أنه إنما صدر عنهم ذلك العمى لأنهم أحبوا تحصيله، فلما وقع في قلوبهم هذه المحبة دون محبة صده، فِإن حصل هذا الترجيح لا لمرجِّح فهو باطل وإن كان لمرجِّح فإن كان المرجِّح هو العبد عاد الطلب، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب.
الثاني : أنه تعالى قال :﴿ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى ﴾ ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه١٣ عمًى وجهلاً بل ما يظنُّ١٤ في ذلك العمى والجهل بكونه تبصرةً وعلماً مما يرغب فيه فإقدامه على اختياره١٥ على ذلك الجهل الثاني إن كان باختياره لزم التسلسل وهو محال، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب١٦.
قوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ وصاعقة العذاب أي المهلكة والعذاب الهون أي ذي الهون، أي الهوان وهو الذي يهينهم ﴿ بما كانوا يكسبون ﴾ من شركهم وتكذيبهم صالحاً.
١ من القراءات الأربع فوق العشر المتواترة ذكرها صاحب الإتحاف ٣٨٠ وانظر أيضا معاني القرآن للفراء ٣/١٤، ومختصر ابن خالويه ١٣٣، والبحر المحيط ٧/٤٩١، والكشاف ٣/٤٤٩ وبدون نسبة الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٨٣ وهي من الشواذ..
٢ من لفظ ثمود..
٣ لم تعز في الكشاف ٣/٤٤٩ ونسبها أبو حيان في البحر ٧/٤٩١ إلى عاصم وما هو أعلى موافق لما في الدر المصون ٤/٨٢٨..
٤ ذكرها في الشواذ ابن خالويه في المختصر ١٣٣ بالإضافة إلى الكشاف المرجع السابق ولم أجدها في المتواتر عن عاصم..
٥ عند الآية ٦٨ منها: ﴿ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود﴾ وكذلك الآيات ٦١ و٩٥ منها أيضا ومفاد ما ذكر: أن هود لا يجوز صرفه لأنه مطلق على قبيلة فيكون ممنوعا للعلمية والتأنيث، ويجوز أن يصرف لأنه على ثلاثة أحرف علم أعجمي أوسطه ساكن كنوح..
٦ قال الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٨٣: والاختيار رفع ثمود على الابتداء والخبر، وهذا مذهب جميع النحويين اختيار الرفع، وكلهم يجيز النصب وقال الزمخشري في الكشاف ٣/٤٤٩: "والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء" بينما قال سيبويه في الكتاب: "لأن أما وإذا من حروف الابتداء، يصرفان الكلام إلى الابتداء" الكتاب ١/٩٥. ففهم من كلام سيبويه تعيين رفع ما بعد "أما" بخلاف قولي الزجاج والزمخشري السابقين..
٧ وهو الموافق أيضا لما في الكتاب قال: إلا أن يوقع بعدها فعل، نحو: "أما زيدا فضربت" الكتاب المرجع السابق، وكهذه الآية التي معنا..
٨ انظر هذا بتفصيل في المغني ٥٨ قال: ويجب تقدير العامل بعد الفاء وقبل ما دخلت عليه لأن "أما" نائبة عن الفعل، فكأنها فعل، والفعل لا يلي الفعل..
٩ الكشاف ٣/٤٤٩..
١٠ الكشاف ١/١١٦..
١١ الرازي ٢٧/١١٣..
١٢ زيادة من ب..
١٣ كذا في الرازي وفي النسختين: لكونه باللام..
١٤ في الرازي ما لم يظن..
١٥ في الرازي: فإقدامه على اختيار ذلك الجهل..
١٦ انظر الرازي ٢٧/١١٣ و١١٤..
ثم قال :﴿ وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ ﴾ يعني يتقون الأعمال التي كانوا يأتون بها عادٌ وثمودٌ.
فإن قيل : كيف يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه مثل صاعقة عادٍ وثمود مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] وجاء في الحديث الصحيح أن الله رفع عن هذه الأمة أنواع العذاب ؟ !.
فالجواب : أنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعادٍ وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة وأن السبب الموجب للعذاب واحد ربما يكون العذاب النازل بهم من جنس ذلك وإن كان أقل درجة، وهذا القدر يكفي في التخويف١.
١ الرازي المرجع السابق..
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله إِلَى النار ﴾ الآية لما بين كيفية عقوبة أولئك لكفار في الدنيا أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة ليحصل تمام الاعتبار في الزجر والتحذير، فقال :«ويوم يحشر ». في العامل في هذا الظرف وجهان :
أحدهما : محذوف دل عليه ما بعده من قوله «فَهُمْ يوزَعُونَ » تقديره : يساقُ١ الناسُ يَوْمَ يُحْشَر٢ وقدره أبو البقاء يمنعون يوم يحشر٣.
الثاني : أنه منصوب باذكر، أي اذكر يوم٤. وقرأ نافع «نَحْشُرُ » بنون العظمة وضم الشين «أَعْدَاءَ » نصباً أي نحشر نحن، والباقون بياء الغيبة مضمومة والشين مفتوحة على ما لم يسم فاعله و«أَعْدَاءُ » رفعاً لقيامه مقام الفاعل٥.
ووجه الأول أنه معطوف على «وَنَجَّيْنَا » فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ ( يقويه )٦ وقوله ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين ﴾ [ مريم : ٨٥ ]، ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ ﴾ [ الكهف : ٤٧ ].
وحجة الثانية : أن قصة ثمود قد تمت وقوله :«وَيَوْمَ يُحْشَر » ابتداء كلام آخر وأيضاً الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله :﴿ احشروا الذين ظَلَمُواْ ﴾ [ الصافات : ٢٢ ] وهم الملائكة، وأيضاً موافقة لقوله :«فَهُمْ يُوزَعُونَ » وأيضاً فتقدير القراءة الأولى، أن الله تعالى قال :﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله ﴾ فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال : ويوم نَحْشُرُ أعداءنا إلى النار. وكسر الأعرج شين «يحشِر ». ثم قال :«فهم يُوزَعون » أي يساقون، ويدفعون إلى النار٧. وقال قتادة والسدي : يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا٨. أي٩ يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم.
١ في ليساق..
٢ بتوضيح لكلام أبي البقاء من الدر المصون للسمين ٤/٧٢٨..
٣ انظر التبيان له ١١٢٥..
٤ السمين السابق..
٥ من القراءة المتواترة، ذكرها صاحب الإتحاف ٣٨١ وصاحب السبعة ٥٧٦ وصاحب النشر ٢/٣٦٦ وابن خالويه في الحجة ٣١٧ وانظر الكشف لمكي ٢/٢٤٨..
٦ ما بين القوسين زيادة من الرازي ولاستقامة الكلام فهي ساقطة من النسختين..
٧ قال بهذه التوجيهات بالإضافة لمراجع القراءات السابقة الرازي في التفسير الكبير ٢٧/١١٥..
٨ البغوي ٦/١٠٩..
٩ هذا التفسير قاله الرازي في مرجعه السابق..
قوله تعالى: ﴿حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا﴾ «حتى» غاية ليُحْشَرُ والمعنى حتى إذا جاءوا النار فيكون «ما» صلة. وقيل: فيها فائدة زائدة وهي تأكيد وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله تعالى: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [يونس: ٥١] أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به.

فصل


في كيفية تلك الشهادة ثلاثة أقوال:
الأول: أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه.
والثاني: أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني.
الثالث: أن يظهر في تلك الأعضاء أحوال تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يقال: يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه.
126

فصل


قال ابن الخطيب: والسبب في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر أن الحواسَّ الخمس وهي السمع والبصر، والشَّمُّ والذَّوْقُ واللمسُ، وآلة اللمس هي الجلد، فالله تعالى ذكر هاهنا ثلاثة أنواع من الحواس وهي السمع والبصر واللم، وأهمل ذكر نوعين، وهما: الذوق والشم، فالذوق داخل في اللّمس من بعض الوجوه؛ لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسَّة لجرم (الطعام وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك مماسةً لجرم) المشموم فكانا داخلين في جنس اللَّمس. وإذا عرف هذا فنقول: نقل عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج، وهذا من باب الكنايات، كما قال: ﴿لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً﴾ [البقرة: ٢٣٥] وأراد النكاح وقال: ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط﴾ [النساء: ٤٣] والمراد قضاء الحاجة، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَوَّلَ مَا يَتَكَلَّمُ مِنَ الآدميِّ فَخِذُهُ وكَفُّه» وعلى هذال التقدير فتكون هذه الآية وعيداً شديداً في إتيان الزنا؛ لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ. وقال مقاتل: تنطق جوارحهم بما كتمته الأنفس من عملهم.
قوله: «وَقَالُوا» يعني الكفار الذين يحشرون إلى النار ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ هذا من جواب الجلود، ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال كونكم في الدينا ثم (على) خلقكم وأنطقاكم في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟!
قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾ أي تستخفون عند الإقدام على الأعمال القبيحة. وقال مجاهد تتقون، وقال قتادة: تظنون. قوله ﴿أَن يَشْهَدَ﴾ يجوز فيه أوجه:
أحدهما: من أن يشهد.
الثاني: خيفة أن يشهد.
الثالث: لأجل أن يشهد وكلاهما بمعنى المفعول له.
127
الرابع: عن أن يشهد أي ما كنتم تمتنعون ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها.
الخامس: أنه ضمن معنى الظن وفيه بعد.

فصل


معنى الكلام أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة؛ لأن استتارهم ما كان لأجل قولهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة، وذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يخفونها. وريَ عن ابن مسعود رض يالله عنه قال: كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشيّ أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، مفقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا سمع إذا أخفينا. فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ... ﴾ الآية. قيل: الثقفي عبد ياليل وختناه القرشيان ربيعة وصفوان بن أمية.
قوله: «وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ» فيه أوجه:
أحدها: أن «ذلكم» رفع بالإبتداء و «ظنكم» خبره و «الَّذِي ظَنَنْتُمْ» نعته «وَأَرْداكُمْ» حال و «قد» معه مقدرة على رأي الجمهور خلافاً للأخفش، ومنع مكي الحالية للخلو من «قد: وهو ممنوع لما تقدم.
128
والثاني: أن يكون» ظَنُّكُمْ «بدلاً، والموصول خبره، و» أَرْدَاكُمْ «حال أيضاً.
الثالث: أن يكون الموصول خبراً ثانياً.
الرابع: أن يكون»
ظنكم «بدلاً أو بياناً، والموصول هو الخبر، و» أرْدَاكُمْ «خبر ثاني.
الخامس: أن يكون ظنكم والموصول والجملة من»
أرْداكم «أخباراً إلا أن أبا حيان ردَّ على الزمخشري قوله:» وَظَنُّكُمْ وَأَرْدَاكُمْ «خبران قال: لأن قوله» وَذلِكُمْ «إشارة إلى ظنهم السابق فيصير التقدير: وظنكم بربكم أنه لا يعلم ظنكم بربكم فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز وهذا نظير ما منعه النحاة من قولك: سَيِّد الجارية مالكها.
وقد منع ابن عطية كون»
أَرْدَاكُمْ «حالاً، لعدم وجود» قد «. وتقدَّمم الخلاف في ذللك.

فصل


قال المفسرون: وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم أي ظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون أرادكم أهلككم. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: طرحكم ف يالنار ﴿فأصبحتم من الخاسرين﴾ وهنذا نص صريح في أن من ظن أنه يخرج شيء من المعلومات عن علم الله فإنه يكون من الهالكين الخاسرين.
قال المحققون: الظن قسمان:
أحدهما: حسن، والآخر: فاسد. فالحسن أن يظن بالله عَزَّ وَجَلَّ الرحمة والفضل والإحسان، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حكايةً عن الله عَزَّ وَجَلَّ:»
أنَا عِنْدَ ظَنِّّ عَبْدِي بي «وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» لاَ يمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلاَّ وهُوَ حَسَنُ الظَّنِّ بالله «.
والظن القبيح أن يظن أنه تعالى أنه يعرب عن علمه بعض الأحوال. وقال قتادة:
129
والظن نوعان: مُنْجِي ومُرْدِي فالمنجي قوله: ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢] وقوله: ﴿الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] والمردي هو قوله ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ﴾.
130
قوله :«وَقَالُوا » يعني الكفار الذين يحشرون إلى النار ﴿ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ هذا من جواب الجلود، ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال كونكم في الدنيا ثم ( على )١ خلقكم وإنطاقكم٢ في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء٣ ؟ !
١ سقط من ب..
٢ في ب أنطقكم بالفعلية..
٣ هذا قول الرازي في تفسيره المرجع السابق..
قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ ﴾ أي تستخفون عند الإقدام على الأعمال القبيحة. وقال مجاهد تتقون، وقال قتادة : تظنون١. قوله ﴿ أَن يَشْهَدَ ﴾ يجوز فيه أوجه :
أحدهما : من أن يشهد٢.
الثاني : خيفة أن يشهد.
الثالث : لأجل أن يشهد وكلاهما بمعنى المفعول له٣.
الرابع : عن أن يشهد أي ما كنتم تمتنعون٤ ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها.
الخامس : أنه ضمن معنى الظن٥ وفيه بعد.

فصل


معنى الكلام أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة ؛ لأن استتارهم ما كان لأجل قولهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة، وذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يخفونها. وريَ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشيّ أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، مفقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا سمع إذا أخفينا. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ﴿ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ. . . ﴾ الآية٦. قيل : الثقفي عبد٧ ياليل وختناه القرشيان ربيعة وصفوان بن أمية.
١ البغوي السابق والقرطبي ١٥/٣٥٢..
٢ قاله العكبري في التبيان ١١٢٥ قال: لأن "تستتر" لا يتعدى بنفسه..
٣ البحر المحيط ٧/٤٩٣، البغوي ٤/٧٢٩..
٤ هذا رأي ابن الأنباري في البيان ٢/٣٣٩..
٥ نقله السمين في الدر المصون ٤/٧٢٩ نقلا عن أبي حيان في بحره فقد قال في البحر: "وعبر قتادة عن تستترون بتظنون أي وما كنتم تظنون أن يشهدوا" المرجع السابق ٧/٤٩٣..
٦ ذكره السيوطي في أسباب النزول ٢/١٤٩ وانظر أيضا معالم التنزيل للبغوي ٦/١٠٩، ولباب التأويل للإمام الخازن ٦/١٠٩ أيضا..
٧ هو عبد بن يا ليل بن ناشب بن غيرة الليثي من بني سعد بن ليث شهد بدرا وتوفي في آخر خلافة عمر وكان شيخا كبيرا انظر أسد الغابة ٣/٣٣٤..
قوله :«وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ » فيه أوجه :
أحدها : أن «ذلكم » رفع بالإبتداء و«ظنكم » خبره و«الَّذِي ظَنَنْتُمْ » نعته «وَأَرْداكُمْ » حال و«قد » معه مقدرة١ على رأي الجمهور خلافاً للأخفش٢، ومنع مكي الحالية للخلو من «قد٣ : وهو ممنوع لما تقدم.
والثاني : أن يكون «ظَنُّكُمْ » بدلاً، والموصول خبره، و «أَرْدَاكُمْ » حال أيضاً.
الثالث : أن يكون الموصول خبراً ثانياً.
الرابع : أن يكون «ظنكم » بدلاً أو بياناً، والموصول هو الخبر، و «أرْدَاكُمْ » خبر ثان٤.
الخامس : أن يكون ظنكم والموصول والجملة من «أرْداكم » أخباراً٥ إلا أن أبا حيان ردَّ على الزمخشري قوله :«وَظَنُّكُمْ وَأَرْدَاكُمْ » خبران قال : لأن قوله «وَذلِكُمْ » إشارة إلى ظنهم السابق فيصير التقدير : وظنكم بربكم أنه لا يعلم ظنكم بربكم٦ فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز وهذا نظير ما منعه النحاة من قولك : سَيِّد الجارية مالكها.
وقد منع ابن عطية كون «أَرْدَاكُمْ » حالاً، لعدم وجود «قد٧ ». وتقدَّم الخلاف في ذلك.

فصل


قال المفسرون : وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أي ظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون أرادكم أهلككم. قال ابن عباس رضي الله عنهما : طرحكم في النار ﴿ فأصبحتم من الخاسرين ﴾٨ وهذا نص صريح في أن من ظن أنه يخرج شيء من المعلومات عن علم الله فإنه يكون من الهالكين الخاسرين٩.
قال المحققون : الظن قسمان :
أحدهما : حسن، والآخر : فاسد. فالحسن أن يظن بالله عز وجل الرحمة والفضل والإحسان، قال عليه الصلاة والسلام حكايةً عن الله عز وجل :«أنَا عِنْدَ ظَنِّّ عَبْدِي بي١٠ » وقال عليه الصلاة والسلام :«لاَ يمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلاَّ وهُوَ حَسَنُ الظَّنِّ بالله١١ ».
والظن القبيح أن يظن أنه تعالى أنه يعزب١٢ عن علمه بعض الأحوال. وقال قتادة : والظن نوعان : مُنْجِي١٣ ومُرْدِي فالمنجي قوله :﴿ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ [ الحاقة : ٢ ] وقوله :﴿ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ ﴾ [ البقرة : ٤٦ ] والمردي هو قوله ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ﴾.
١ ذكر هذا الإعراب أبو البقاء العكبري في التبيان ١١٢٥..
٢ مع الكوفيين فإنهم لن يشترطوا وجود "قد" مع الفعل الماضي الواقع حالا فحجتهم أن كل ما جاز أن يقع صفة للنكرة، نحو مررت برجل قاعد جاز أن يكون حالا من المعرفة مثل: مررت بالرجل قاعدا والفعل الماضي يقع وصفا للنكرة نحو: مررت برجل قعد فينبغي أن يقع حالا للمعرفة نحو: مررت بالرجل قعد. وقد ذكر هذه القضية ابن الأنباري في الإنصاف المسألة رقم ٣٢ (٢٥٢ و٢٥٨) وانظر أيضا الهمع ١/٢٤٧، ورأي الأخفش قد وافق عليه أبو حيان من المتأخرين قال في الهمع: قال أبو حيان: والصحيح جواز وقوع الماضي حالا بدون قد ولا يحتاج إلى تقدير..
٣ قال في المشكل ٢/٢٧٢ وقال الفراء "أرادكم" حال والماضي لا يحسن أن يكون حالا عند البصريين إلا على إضمار "قد"..
٤ وهذه الأوجه الأربعة قال بها العكبري في التبيان ١١٢٥ وبتوضيح من الدر المصون للسمين ٤/٧٢٩ وانظر الكشاف ٣/٤٥١ والبيان لابن الأنباري ٢/٣٣٩..
٥ متعددة لمبتدأ واحد وهو "وذلكم" قال بذلك السمين في الدر ٤/٧٢٩، والزمخشري في الكشاف ٣/٤٥٣..
٦ في البحر: قيصير التقدير وظنكم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم والمؤلف مشى في نقله عن أبي حيان من الدر المصون للشهاب السمين ٤/٧٢٩، وانظر البحر ٧/٤٩٣..
٧ المرجع السابق..
٨ معالم التنزيل للبغوي ٦/١٠٩..
٩ نقله الرازي ٢٧/١١٧..
١٠ نقله البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه البخاري ٤/٢٧٨٨..
١١ لم أعثر عليه إلا في تفسير الإمام الرازي ٢٧/١١٧ فقد نقله بدون سند إلى راويه عنه صلى الله عليه وسلم..
١٢ أي يغيب..
١٣ كذا رسمها الناسخ في نسخ اللباب والأصح لغويا منج ومرد..
قوله تعالى: ﴿فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ﴾ أي سكن لهم، يعني إن أمسكوا عن الاستغاثة لفرجٍ يتنظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مثوى لهم أيم مقاماً لهم.
قوله: ﴿وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين﴾ العامة على فتح الياء من «يَسْتَعْتِبُوا» وكسر التاء الثانية مبنياً للفاعل ﴿فما هم من المعتبين﴾ بكسر التاء اسم الفاعل ومعناه وإن طلبوا العُتْبَى وهي الرضا فما هم ممن يعطاها. والمعتب الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل، يقال: أعتبني فلانٌ، أي أرضاني بعد إسخاطه إيَّاي، وا ستعتبته طلبتمنه أن يعتب أي يرضى. وقيل: المعنى وإن طلبوا زوال ما يعتبون فيه فماهم من المجابين إلى إزالة العتب. وأصل العتب المكان النَّائي بنازله، ومنه قيل لأسكفَّة الباب والمرقاة: عتبة، ويعبر بالعتب عن الغلظة التي يجدها الإنسان في صدره على صاحبه، وعتبت فلاناً أبرزت له الغلظة، وأعتبته أزلت عبتاه كأشكيته وقيل: حملته على العتب.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: وإن يُستعتبوا مبنياً للمفعول فما هم من المُعْتِبِينَ اسم فاعل بمعنى إن يطلب منهم أن يرضوا فما هم فاعلون ذلك، لأنهم فارقوا دار التكليف، وقيل: معناه أن يطلب ما لا يعتبون عليه فما هم ممَّن يريد العُتْبَى وقال أبو ذؤيب:
130
قوله: «وَقَيَّضْنَا لَهُمْ» بعثنا لهم وولكنا، وقال مقاتل: هَيَّأْنَاهُ. وقال الزجاج: سينالهم وأصل التقييض التيسير والتهيئة، قضيته للداء هيأته له ويسّرته، وهذان ثوبان قيِّضان أي كل منهما مكافىء للآخرة في الثمن. والمقايضة المعارضة، وقوله ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً﴾ [الزخرف: ٣٦] أي نسهل ونيسر ليستولي عليه استيلاء القَيْض على البَيْض.
والقيض في الأصل قشر البيض الأعلى. قال الجوهري: ويقال: قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع، وهما قيضان كما يقال: بيعان. وقيَّض الله فلاناً لفلان أي جاء به ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ﴾ والمراد بالقرناء النظراء من الشياطين حتى أضلونهم ﴿فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ من أمر الدنيا حتى أثروه على الآخر «وَمَا خَلْفَهُمْ» من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب وإنكار البعث.
وقال الزجاج: زينوا (لهم ماب ين أيديهم من أمر الآخرة أنَّه لا بعث ولا جنة ولا نار، وما خلفهم من أمر الدنيا وأن الدنيا قديمة، ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك.
وقيل: مابين أيديهم أعمالهم التي يعملونها وما خلفهم ما يعزمون أن يعملوه.
وقال ابن زيد: مابين أيديهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة (وما بقي من أعمالهم الخسيسة)).

فصل


دلت هذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر؛ لأنه تعالى قيَّض لهم قرناء
131
فزينوا لهم الباطل، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر.
وأجاب الجُبَّائيُّ بأنقال: لو أراد المعاصي لكانوا يفعلها مطيعين؛ لأن الفاعل لما يريده منه غيره يجب أن يكون مطيعاً له. وأجاب ابن الخطيب: بأنهن لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعاً له لواجب أن يكون الله مطيعاً لعباده إذا فعل ما أرادوه فهذا إلزام الشيء على نفسه وإن أردت غيره فلا بد من بيانه حتى ينظر فيه هلا يصح أم لا.
قوله: «فِي أُمَمٍ» نصب على الحال من الضمير في «عَلَيْهِمْ» والمعنى كائنين في جملة إُمَمٍ، وهذا كقوّله (شِعْراً) :
٤٣٦٣ - أَمِنَ المَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ والدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
٤٣٦٤ - إنّْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَة مَأْ فُوكاً فَفِي آخَرِين قَدْ اَفِكُوا
أي في جملة قوم آخرين. وقيل: في بمعنى «مع».

فصل


احتجّ أهل السنة بأنه تعالى أخبر أن هؤلاء حق عليهم القول فلو لم يكونوا كفاراً لا نقلب هذا الخبر الحق باطلاً، وهذا العلم جهلاً، وهذا الخبر الصدق كذباً، وكل ذلك محال، ومستلزم المحال فثبت أن صدور الإيمان وعدم صدور الكفر عنهم محال.
قوله (تعالى) :﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ... ﴾ الآية اعلم أن الكلام ابتداء من قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ﴾ [فصلت: ٥] إلى قوله: ﴿إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ [فصلت: ٥].
وأجاب الله تعالى عن تلك الشبهة واتصل الكلام إلى هذا الموضع، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهة أخرى فقال: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ﴾ العامة على فتح الغين وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون من «لَغِيَ» بالكسر يَلْغَى، وفيها معنيان:
أحدهما: من ألغى إذا تكلم باللغو وهو ما لا فائدة فيه.
132
والثاني: أنه من لغى بكذا أي رمى به فتكمون «في» بمعنى الباء أي ارموا به وانبذوه.
والثاني: من الوجهين الأولين: أن يكون من «لَغَا» بالفتح أيضاً حكاه الأخفش، وكان قياسه الضم كغزا يغزو، ولكنه فتح لأجل حرف الحلق. وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السمال والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم الغين، من لغا بالفتح يَلغُو كدَعَا يَدُعُوا، وفي الحديث: «فَقَدْ لَغَوْتَ» وهنذا موافق لقراءة غير الجمهور.

فصل


قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يعني الغَطُوا فيه، كان بعضهم يوصي بعضاً: إذا رأيتم محمداً يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو.
قال مجاهد: والغوا في بالمكاء والصّفير. وقال الضحاك: أكثروا الكلام فختلط عليه ما يقول؛ وقال السّدي صيحوا في وجهه. «لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» على قراءته، وهذا جهل منهم لأنهم في الحال أقروا بأنهم مشتغلين باللغو والباطل من العمل والله تعالى ينصر محمداً بفضله ولما ذكر الله تعالى هددهم بالعذاب الشديد وقال ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً﴾ وهذا تهديد شديد؛ لأن لفظ الذوق إنما بذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة، ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب شديد، فِإن كان القليل منه عذاباً شديداً فكيف يكون حال الكثير منه؟! ثم قال: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ قال أكثر العلماء: المراد بالأسوأ أي أقبح أعمالهم لأنهم أحبطوها بالكفر فضاعت أعمالهم الحسنة، ولم يبق معهم إلا الأعمال القبيحة فلا جرم لم يحصلوا إلا على السيئات.
133
قوله :«وَقَيَّضْنَا لَهُمْ » بعثنا لهم وولكنا، وقال مقاتل : هَيَّأْنَاهُ١. وقال الزجاج : سينالهم٢ وأصل التقييض التيسير والتهيئة، قيضته للداء هيأته له ويسّرته، وهذان ثوبان قيِّضان أي كل منهما مكافئ للآخر في الثمن. والمقايضة المعارضة، وقوله ﴿ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً ﴾ [ الزخرف : ٣٦ ] أي نسهل ونيسر ليستولي عليه استيلاء القَيْض على البَيْض٣.
والقيض في الأصل قشر البيض الأعلى٤. قال الجوهري٥ : ويقال : قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع، وهما قيضان كما يقال : بيعان. وقيَّض الله فلاناً لفلان أي جاء به ومنه قوله تعالى :﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ ﴾٦ و المراد بالقرناء النظراء من الشياطين حتى أضلوهم ﴿ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة «وَمَا خَلْفَهُمْ » من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب وإنكار البعث٧.
وقال الزجاج : زينوا ( لهم٨ ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنَّه لا بعث ولا جنة ولا نار، وما خلفهم من أمر الدنيا وأن الدنيا قديمة، ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك٩.
وقيل١٠ : مابين أيديهم أعمالهم التي يعملونها وما خلفهم ما يعزمون١١ أن يعملوه.
وقال ابن زيد : مابين أيديهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة ( وما بقي من أعمالهم الخسيسة )١٢ ).

فصل


دلت هذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر ؛ لأنه تعالى قيَّض لهم قرناء فزينوا لهم الباطل، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر.
وأجاب الجُبَّائيُّ بأن قال : لو أراد المعاصي لكانوا بفعلها١٣ مطيعين ؛ لأن الفاعل لما يريده منه غيره يجب أن يكون مطيعاً له. وأجاب ابن الخطيب : بأنه لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعاً له لوجب أن يكون الله مطيعاً لعباده إذا فعل ما أرادوه١٤ فهذا إلزام الشيء على نفسه وإن أردت غيره فلا بد من بيانه حتى ينظر فيه هلا يصح أم لا١٥.
قوله :«فِي أُمَمٍ » نصب على الحال من الضمير في «عَلَيْهِمْ » والمعنى كائنين في جملة أمَمٍ، وهذا كقوّله ( شِعْراً )١٦ :
٤٣٦٤ إنّْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَة مَأْ فُوكاً فَفِي آخَرِين قَدْ اَفِكُوا١٧
أي في جملة قوم آخرين. وقيل : في بمعنى «مع »١٨.

فصل


احتجّ أهل السنة بأنه تعالى أخبر أن هؤلاء حق عليهم القول فلو لم يكونوا كفاراً لانقلب هذا الخبر الحق باطلاً، وهذا العلم جهلاً، وهذا الخبر الصدق كذباً، وكل ذلك محال، ومستلزم المحال فثبت أن صدور الإيمان وعدم صدور الكفر عنهم محال.
١ انظر معالم البغوي ٦/١١٠..
٢ نقله في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٨٤..
٣ انظر اللسان قيض ٣٧٩٥ وغريب القرآن ٣٨٩..
٤ اللسان المرجع السابق..
٥ هو إسماعيل بن حماد الجوهري الإمام أبو نصر الفارابي كان من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلما، إماما في اللغة والأدب ومن فرسان الكلام والأصول من مؤلفاته: "الصحاح" المشهور اختلف في وفاته فقيل سنة ٤٠٠. وقيل: ٣٩٣ هـ البغية ١/٤٤٦..
٦ انظر الصحاح له قيض..
٧ قال بهذه المعاني البغوي ٦/١١٠..
٨ ما بين القوسين الكبيرين بتقديم وتأخير وتداخل لما بعده من الكلام في نسخة ب..
٩ قول الزجاج في معاني القرآن ٤/٣٨٤ زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها وما خلفهم وما يعزمون أن يعملوه..
١٠ نقله الرازي وهو رأي الزجاج كما رأينا..
١١ في الرازي وما زعموا أنهم يعملونه..
١٢ تكملة لرأي ابن زيد عن الرازي ٢٧/١١٩..
١٣ في ب يفعلونها..
١٤ في ب أراده..
١٥ نقله الرازي في تفسيره ٢٧/١١٩..
١٦ زيادة من ب..
١٧ من المنسرح لعروة بن أذنية، ويروى: "إن تك عن أفضل المرءة".
والمأفوك: المصروف عن الحق وهو يخاطب إنسانا قد عزف عن صنع الخير، قائلا إنك لست الوحيد في ذلك فغيرك كثير ممن لا يلتفتون إلى هذا الأشياء الحسنة. وشاهده: "ففي آخرين" حيث تعلق الجار والمجرور بحال محذوف أي فأنت كائنا أو مستقرا في جملة قوم آخرين. وانظر المحتسب ٢/١٦١ و٢٦٧ والبحر المحيط ٧/٤٩٣ وإصلاح المنطق ٢٣، ولسان العرب أفك ٩٧ والكشاف ٢/٤٥٢، والدر المصون ٤/٧٣٠ والقرطبي ١٥/٣٥٥ وديوانه ٣٤٣..

١٨ نقله أبو حيان في البحر المرجع السابق ولم يرتضه..
قوله ( تعالى )١ :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ. . . ﴾ الآية اعلم أن الكلام ابتداء من قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ ﴾ [ فصلت : ٥ ] إلى قوله :﴿ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ [ فصلت : ٥ ].
وأجاب الله تعالى عن تلك الشبهة٢ واتصل الكلام إلى هذا الموضع، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهة أخرى فقال :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ ﴾ العامة على فتح الغين وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون من «لَغِيَ » بالكسر يَلْغَى، وفيها معنيان :
أحدهما : من ألغى إذا تكلم باللغو وهو ما لا فائدة فيه٣.
والثاني : أنه من لغى بكذا أي رمى به فتكون «في » بمعنى الباء أي ارموا به وانبذوه٤.
والثاني : من الوجهين الأولين : أن يكون من «لَغَا » بالفتح أيضاً حكاه الأخفش، وكان قياسه الضم كغزا يغزو، ولكنه فتح لأجل حرف الحلق٥. وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السمال والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم الغين، من لغا بالفتح يَلغُو كدَعَا يَدُعُوا٦، وفي الحديث :«فَقَدْ لَغَوْتَ »٧ وهذا موافق لقراءة غير الجمهور.

فصل


قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني الغَطُوا فيه، كان بعضهم يوصي بعضاً : إذا رأيتم محمداً يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو.
قال مجاهد : والغوا في بالمكاء٨ والصّفير. وقال الضحاك : أكثروا الكلام فيختلط عليه ما يقول ؛ وقال السّدي صيحوا في وجهه. «لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ » على قراءته٩، وهذا جهل١٠ منهم لأنهم في الحال أقروا بأنهم مشتغلين باللغو والباطل من العمل والله تعالى ينصر محمداً بفضله ولما ذكر الله تعالى هددهم بالعذاب الشديد
١ زيادة من أ..
٢ في ب الشبه..
٣ لسان العرب ٤٠٤٩..
٤ نقله أبو حيان في البحر عن أبي الفضل الرازي صاحب اللوامح ٧/٤٩٤ و٤٩٥..
٥ المرجع السابق. والذي في معاني الأخفش ٦٨٣: وقال: والغوا فيه لأنها من لغوت بلغا مثل محوت يمحا، وقال بعضهم: "والغوا فيه" وقال لغوت تلغو مثل محوت تمحو وبعض العرب يقول: لغي يلغى وهي قبيحة قليلة ولكن لغي بكذا وكذا أي: أغري بت فهو يقوله ويصنعه..
٦ من القراءة الشاذة غير المتواترة، وذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢/٢٤٦ وابن خالويه في المختصر ١٢٣..
٧ أورده البخاري في صحيحه عن أبي هريرة باب الجمعة رقم ٣٦ وأورده أيضا أحمد في مسنده ٢/٢٤٤ و٢٧٢ و٢٨٠ و٣٩٣ و٣٩٦ و٣٨٥ و٥٣٢..
٨ وهو عدم الاستماع والتهريج..
٩ انظر معالم التنزيل للبغوي ٦/١١٠..
١٠ قاله الرازي ٢٧/١٢٠..
وقال ﴿ فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً ﴾ وهذا تهديد شديد ؛ لأن لفظ الذوق إنما بذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة، ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب شديد، فِإن كان القليل منه عذاباً شديداً فكيف يكون حال الكثير منه ؟ ! ثم قال :﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ قال أكثر العلماء١ : المراد بالأسوأ أي أقبح أعمالهم لأنهم أحبطوها بالكفر فضاعت أعمالهم الحسنة، ولم يبق معهم إلا الأعمال القبيحة فلا جرم لم يحصلوا إلا على السيئات.
١ انظر القرطبي ١٥/٣٥٦..
قوله تعالى: «ذَلِكَ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مبتداً و «جزاء» خبره.
والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: الأمر ذلك ﴿أَعْدَآءِ الله النار﴾ جملة مستقلة مبنيةٌ للجملة قبلها.
(قوله) :«النار» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من «جزاء» وفيه نظر؛ إذ البدل يحل محلّ المبدل منه فيصير التقدير ذلك النار.
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر.
الثالث: أنه مبتدأ و ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ﴾ الخبر، و «دَارُ» يجوز ارتفاعها بالفاعليَّة أو الابتداء.
وقوله: ﴿فِيهَا دَارُ الخُلْدِ﴾ يقتضي أن يكون «دار الخلد» غير النار، وليس كذلك بل النار هي نفس دار الخلد. وأجيب عن ذلك: بأنه قد يجعل الشيء ظرفاً لنفسه باعتبار متعلَّقه على سبي المبالغة، لأن ذلك المتعلق صار مستقراً له، وهو أبلغ من نسبة المتعلق إليه على سبيل الإخبار به عنه. ومثله قول الآخر:
٤٣٦٥ -........................ وَفيِ اللهِ إنْ لَمْ تُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ
134
وقوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١] والرسول هو نفس الأسوة. كذا أجابوا. وفيه نظر؛ إذ الظاهر وهو معنى صحيح منقول أن في النار داراً تسمى دار الخلد، والنار محيطة بها.
قوله: «جزاء» في نصبه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب بفعل مقدر، وهو مصدر مؤكد، أي يجزون جزاءً.
الثاني: أن يكون بالمصدر الذي قبله، وهو جزاء أعداء الله. والمصدر ينصب بمثله كقوله ﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً﴾ [الإسراء: ٦٣].
الثالث: أن ينتصب على أنه مصدر واقع موقع الحال و «بِمَا» متعلق «بجزاء» الثاني إن لم يكن مؤكداً وبالأول إن كان (مؤكداً) و «بِآيَاتِنَا» متعلق بيجحدون.

فصل


لما قال: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: ٢٧] بين أن ذلك الأسوأ الذي جعل جزاء أعداء الله هو النار، ثم قال: ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ﴾، أي لهم في جملة النار دارٌ معينة، وهي دار العذاب الخلد، ﴿جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون﴾ أي يبلغون في القراءة، وسماه لآمنوا به فاستخرجوا (تلك) الطريقة الفاسدة وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً وأنهم جحدوا حسداً.
قال الزمخشري: «أي بما كانوا يلغون، فذكر الجحود؛ لأنه سبب اللَّغو» انتهى.
ثعني أنه من باب إقامة السبب قمام المسبَّب، وهو مجاز سائغٌ.
قوله: ﴿وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا....﴾ الآية تقدم الخلاف في «أَرِنَا» وفي نون الَّذين وقال الخليل: إذا قلت: أرني ثوبك فمعناه بصِّرنيهِ، وبالسكون أعطنيه.
135

فصل


لما بين أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعقاب الشديد مجالسة قرناء السو بيَّن أن الكفار (عند الوقوع في العذاب الشديد) في النار يقولون: ﴿رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس﴾ ومعناه أن الشيطان على نوعين جنِّي وإنْسِيٍّ.
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن﴾ [الأنعام: ١١٢] وقال: ﴿الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس مِنَ الجنة والناس﴾ [الناس: ٥٦] وقيل: هما إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه؛ لأن الكفر سنة إبليس والقتل بغير حق سنة قابيل فهما سنة المعصية. ﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا﴾ في النار ﴿لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين﴾ قال مقاتل: يكونون أسفل منا في النار. وقال الزجاج: ليكونا في الدرك الأسفل. وقال بعض الحكماء: المراد باللَّذَيْنَ يُضِلاَّن الشهو والغضب والمراد بجعلهما تحت أقدامهم كونهما مسخَّرين للنفس مطيعين لها، وأن لا يكونا مستوليين عليها قاهرين لها.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا﴾ الآية. لما ذكر الوعيد أردفه بذكر الوعد كما هو الغالب. واعلم أن «ثُمَّ» لتراخي الرتبة في الفضيلة سئل أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن الاستقامة فقال: أن لا تشرك بالله شيئاً. وقال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغَ رَوَغَات الثَّعْلَب. وقال عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أخلصوا العمل. وقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أدَّوا الفرائض. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه استقاموا على أداء الفرائض. وقال الحسن (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) استقاموا على أمر الله بطاعته واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله. وقال قتادة: كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال: «اللَّهُمَّ فَارْزُقْنَا الاستقامة.
قوله: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة﴾ قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) عند الموت. وقال مقاتل وقتادة: إذا قاموا من قبورهم. وقال وكيع بن الجرَّاح: البشرى
136
تكون في ثلاثة مواظن، عند الموت وفي القبر وعند البعث.
قوله: ﴿أَلاَّ تَخَافُواْ﴾ يجوز في» أن «أن تكون المخففة، أو الفسِّرة، أو الناصبة و» لا «ناهية على الوجهين الأولين، ونافية على الثالث. وقد تقدم ما في ذلك من الإشكال. فالتقدير بأن لا تخافوا أي بانتفاء الخوف. وقال أبو البقاء: التقدير: بأن لا تخافوا، أو قائلين أن لا تخافوا فعلى الأول: هو حال، أي نزلوا بقولهم: لا تخافوا. وعلى الثاني: الحال محذوفة. قال شهاب الدين: يعني الباء المقدرة حالية، فالحال غير محذوفة وعلى الثاني الحال هو القول المقدر وفيه تسامح، وإلا فالحال محذوفة في الموضعين، وكما قام المقول مقام الحال كذلك قام الجار مقامها. وقرأ عبد الله» لا تخافوا «بإسقاط» أن «وذلك على إضمار القول، أي: يقولون لا تخافوا.

فصل


﴿أن لا تخافوا﴾ من الموت. قال مجاهد: لا تخافون على ما تَقْدَمُونَ عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلَّفتم من أهل وولد، فإنا نخلفكم في ذلك كله.
وقال عطاء ابن أبي رباح: لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم.
قوله: ﴿وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾.
فإن قيل: البشارة عبارةٌ عن الخبر الأول بحصول المنافع، فأما إذا أخبر الرجل بحصول المنفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كان الإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارةً، والمؤمن قد يسمع بشارات الخير، فإذا سمع المؤمن هذا الخبَر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة، فما السَّبب في تسمية هذا الخبر بشارة؟
فالجواب: أن المؤمن قد يسمع بشارات الخير، (فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة! قلنا: المؤمن يسمع أن من كان مؤمناً تقِيًّا) كان له الجنة أما إذا لم (يسمع) ألبتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا
137
الكلام من الملائكة كان أخباراً بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الاول فكان ذلك بشارة.
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث (لا) يكون فازعاً من الأهوال ومن الفزع الشديد (بل يكون آمن الصدر لأن قوله: ﴿أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ﴾ يفيد نفي الخوف، والحزن على الإطلاق).
قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة﴾ وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ﴾ [فصلت: ٢٥]. قال السدي: تقول الملائكة نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا (ونحن أولياؤكم من الدينا) ونحن أولياؤكم في الآخرة أي لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ﴾ من الكرامات واللذات ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ أي تتمنون.
فإن قيل: هلى هذا التفسير لا فرق بين قوله: ﴿ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم﴾ و ﴿ولكم فيها ما تدعون﴾ قال ابن الخطيب: والأقرب عندي أن قوله: ﴿ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم﴾ إشار إلى الجنة الرُّحانيَّة المذكورة في قوله ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم﴾ [يونس: ١٠] الآية.
138
قوله :﴿ وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا. . . ﴾ الآية تقدم الخلاف في «أَرِنَا »١ وفي نون الَّلذين وقال الخليل : إذا قلت : أرني ثوبك فمعناه بصِّرنيهِ، وبالسكون أعطنيه٢.

فصل


لما بين أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعقاب الشديد مجالسة قرناء السوء بيَّن أن الكفار ( عند الوقوع٣ في العذاب الشديد ) في النار يقولون :﴿ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس ﴾ ومعناه أن الشيطان على نوعين جنِّي وإنْسِيٍّ.
قال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ] وقال :﴿ الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس مِنَ الجنة والناس ﴾ [ الناس : ٥-٦ ] وقيل٤ : هما إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه ؛ لأن الكفر سنة إبليس والقتل بغير حق سنة قابيل فهما سنا المعصية٥. ﴿ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا ﴾ في النار ﴿ لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين ﴾ قال مقاتل : يكونون أسفل منا في النار٦. وقال الزجاج : ليكونا في الدرك الأسفل٧. وقال بعض الحكماء : المراد باللَّذَيْنَ يُضِلاَّن الشهوة والغضب٨ والمراد بجعلهما تحت أقدامهم كونهما مسخَّرين للنفس مطيعين لها، وأن لا يكونا مستوليين٩ عليها قاهرين لها.
١ ﴿وأرنا مناسكنا وتب علينا﴾ [البقرة: ١٢٨] فقرأ ابن كثير في البقرة وفي فصلت بإسكان الراء وقرأ نافع وحمزة وعاصم والكسائي بكسر الراء وانظر السبعة لابن مجاهد ١٧٠ واللباب ١/٢٤٠ ب ميكروفيلم..
٢ نقله صاحب الكشاف ٢/٤٥٢ و٤٥٣ والبحر المحيط ٧/٤٩٥..
٣ زيادة من الرازي لتوضيح السياق الذي نقل منه أصلا..
٤ وروي عن ابن عباس رضي الله عنه القرطبي ١٥/٣٥٧..
٥ انظر الرازي ٢٧/١٢٠ والبغوي ٦/١١٠..
٦ الرازي السابق..
٧ معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٨٥..
٨ نقله الرازي عن بعض تلامذته المرجع السابق للرازي..
٩ السابق أيضا..
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا ﴾ الآية. لما ذكر الوعيد أردفه بذكر الوعد كما هو الغالب. واعلم أن «ثُمَّ » لتراخي الرتبة في الفضيلة١ سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال : أن لا تشرك بالله شيئاً. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغَ رَوَغَات الثَّعْلَب. وقال عثمان رضي الله عنه أخلصوا العمل. وقال علي رضي الله عنه أدَّوا الفرائض. وقال ابن عباس رضي الله عنه استقاموا على أداء الفرائض. وقال الحسن ( رضي٢ الله عنه ) استقاموا على أمر الله بطاعته واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله. وقال قتادة : كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال : اللَّهُمَّ فَارْزُقْنَا الاستقامة.
قوله :﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة ﴾ قال ابن عباس ( رضي الله٣ عنهما ) عند الموت. وقال مقاتل وقتادة : إذا قاموا من قبورهم. وقال وكيع بن الجرَّاح٤ : البشرى تكون في ثلاثة مواطن، عند الموت وفي القبر وعند البعث٥.
قوله :﴿ أَلاَّ تَخَافُواْ ﴾ يجوز في «أن » أن تكون المخففة، أو المفسِّرة٦، أو الناصبة٧ و «لا » ناهية على الوجهين الأولين، ونافية على الثالث٨. وقد تقدم ما في ذلك من الإشكال. فالتقدير بأن لا تخافوا أي بانتفاء الخوف. وقال أبو البقاء : التقدير : بأن لا تخافوا، أو قائلين أن لا تخافوا فعلى الأول : هو حال، أي نزلوا بقولهم : لا تخافوا. وعلى الثاني : الحال محذوفة٩. قال شهاب الدين : يعني أن الباء المقدرة حالية، فالحال غير محذوفة وعلى الثاني الحال هو القول المقدر وفيه تسامح، وإلا فالحال محذوفة في الموضعين، وكما قام المقول مقام الحال كذلك قام الجار مقامها١٠. وقرأ عبد الله «لا تخافوا »١١ بإسقاط «أن » وذلك على إضمار القول، أي : يقولون لا تخافوا.

فصل


﴿ ألا تخافوا ﴾ من الموت. قال مجاهد : لا تخافون على ما تَقْدَمُونَ عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلَّفتم من أهل وولد، فإنا نخلفكم في ذلك كله.
وقال عطاء ابن أبي رباح : لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم١٢.
قوله :﴿ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾.
فإن قيل : البشارة عبارةٌ عن الخبر الأول بحصول المنافع، فأما إذا أخبر الرجل بحصول المنفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كان الإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارةً، والمؤمن قد يسمع بشارات الخير، فإذا سمع المؤمن هذا الخبَر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة، فما السَّبب في تسمية هذا الخبر بشارة ؟
فالجواب : أن المؤمن قد يسمع بشارات الخير، ( فإذا١٣ سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة ! قلنا : المؤمن يسمع أن من كان مؤمناً تقِيًّا ) كان له الجنة أما إذا لم ( يسمع )١٤ ألبتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا الكلام من الملائكة كان أخباراً بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الأول فكان ذلك بشارة.
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث ( لا )١٥ يكون فازعاً من الأهوال ومن الفزع الشديد ( بل يكون١٦ آمن الصدر لأن قوله :﴿ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ﴾ يفيد نفي الخوف، والحزن على الإطلاق ).
١ قاله الزمخشري قال: "ثم لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة"..
٢ سقط من ب..
٣ كذلك..
٤ ابن مليح الرؤاسي الإمام الحافظ الثبت، روى عنه محمد بن إسماعيل الحساني وسمع هشام بن عروة وابن جريج وعنه أخذ ابن المبارك، وأحمد وزهير بن حرب مات سنة ١٩٧ هـ، انظر الطبقات للداودي ٢/٣٥٨: ٣٦١..
٥ انظر هذه الأقوال في البغوي والخازن ٦/١١٠ و١١١ وانظر القرطبي ١٥/٣٥٨ ففيه المزيد من الأقوال أيضا..
٦ قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣/٤٥٣..
٧ الدر المصون ٤/٧٣٣ لتوضيح وتفصيل ما أفهمه كلام الزمخشري في المرجع السابق..
٨ الدر المصون ٤/٧٣٣ لتوضيح وتفصيل ما أفهمه كلام الزمخشري في المرجع السابق..
٩ التبيان ١١٢٥ و١١٢٦..
١٠ الدر المصون ٤/٧٣٣..
١١ قراءة شاذة غير متواترة نقلها الكشاف ٣/٤٥٣ والفراء في معاني القرآن ٣/١٨..
١٢ انظر البغوي ٦/١١١..
١٣ بياض من النسخ وتكملة من الرازي المصدر لهذا الكلام..
١٤ بياض من النسخ وتكملة من الرازي المصدر لهذا الكلام..
١٥ ساقطة من النسختين وتكملة لا بد منها حتى يتأتى المعنى..
١٦ تكملة كسابقتها من الفخر الرازي لا بد منها وانظر الرازي ٢٧/١٢٢..
قوله تعالى :﴿ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة ﴾ وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال :﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ ﴾ [ فصلت : ٢٥ ]. قال السدي : تقول الملائكة نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا ( ونحن أولياؤكم من١ الدنيا ) ونحن أولياؤكم في الآخرة أي لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ ﴾ من الكرامات واللذات ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾ أي تتمنون.
فإن قيل : على هذا التفسير لا فرق بين قوله :﴿ ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ﴾ و ﴿ ولكم فيها ما تدعون ﴾ قال ابن الخطيب : والأقرب عندي أن قوله :﴿ ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ﴾ إشارة إلى الجنة الرُّوحانيَّة المذكورة في قوله ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم ﴾٢ [ يونس : ١٠ ] الآية.
١ سقط من ب وهي بقية كلام السدي المنقول في البغوي المرجع السابق..
٢ وكلامه في التفسير الكبير ما يأتي: ما تشتهي أنفسكم إشارة إلى الجنة الجثمانية وقوله: "ولكم فيها ما تدعون" إشارة إلى الجنة الروحانية الرازي ٢٧/١٢٣..
قوله: «نُزُلاً» فيه أوجه:
أحدها: أنه منصوب على الحال من الموصول، أو من عائده، والمراد بالنزل الرزق المعدّ للنازل كأنه قيل ولكم فيهنا الذي تدعونه حال كونه معدًّا.
الثاني: أنه حال من فاعل «تَدَّعُونَ» أو من الضمير في «لَكُمْ» على أن يكون نزلاً جمع نازل كصَابِر وصُبُرٍ وشَارِفٍ وشُرُفٍ.
138
والثالث: أنه مصدر مؤكد، وفيه نظر، لأن المصدر «نزل» النزول لا النزل. وقيل: هو مصدر أنزل.
قوله: ﴿من غفور رحيم﴾ يجوز أن يكون تعلقه بمحذوف على أنه صفة «لنزلاً» في «لكم» من الاستقرار أي استقر لكم من جهة غفور رحيم، وأن يتعلق بما تعلق به الظرف في «لكم» من الاستقرار أي استقر لكم من جهة غفورٍ رحيمٍ.
قال اأبو البقاء: فيكون حالاً من ما. قال شهاب الدين: وهذا البناء منه ليس بواضح بل هو متعلق بالاستقرار فَضلةً كسائر الفضلات، وليس حالاً من «ما».
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله... ﴾ الآية قال ابن سيرين والسُّدِّيُّ: هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وقال الحسن: هو المؤمن الذي أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه، وعمل صالحاً في إجابته وقال إنَّني من المسلمين. وقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها إن هذه الآية نزلت في المؤذِّنين. وقال عكرمة: هو المؤذن. وقال أبو أمامة الباهليّ: وعمل صالحاً: ركعتين بين الأذان والإقامة. وقال قيس بن أبي حازمٍ: هو الصلاة بين الأذان والإقامة.
قوله: ﴿وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين﴾ العامة على إنيي بنونين. وابن أبي عبلة وابن نوحٍ بنون واحدة. قوله تعالى: «ولا السيئَةُ» في «لا» هذه وجهان:
أحدهما: أنها زائدة للتوكيد، كقوله: ﴿وَلاَ الظل وَلاَ الحرور﴾ [فاطر: ٢١] وكقوله: ﴿وَلاَ المسياء﴾ [غافر: ٥٨]، لأن استوى لا يكتفي بواحد.
والثاني: أنها مؤسسة غير مؤكِّدة؛ إذ المراد بالحسنة والسيئة الجنس، أي لا تستوي الحسنات في أنفسنا فإنها متفاوته، ولا تستوي السيئات أيضاً، فربَّ واحدةٍ أعظم من أخرى، وهو مأخوذ من كلام الزمخشري، وقال أبو حيان: «إن أخذت الحسنة والسيئة جنساً لم يكن زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا». قال شهاب الدين: «فقد جعلها في المعنى الثاني زائدة، وفيه نظر لما تقدم».
139

فصل


قال المفسرون: المراد بالحسنة الصَّبر، وبالسيئة الغضب. وقيل: الحلم والجهل.
وقيل: العفو والإساء. قال بان الخطيب: لما حكى الله تعالى عنهم قولهم: «قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ» وإصرارهم الشديد على دينهم، وعد التأثّر بدلائل محمد صلى الله عليه سولم ثم أطنب في الجواب عن شبهاتهم ثم رغّب محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن لا يترك الدعوة إلى الله بقوله:
﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا﴾ [فصلت: ٣٠] فلهم الثواب العظيم، ثم تَرَقَّى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى، وهي أن الدعوة إلى الله تعالى أعظم الدرحات، ثم كأن سائلاً (سأل ف) قال: إن الدعوة إلى الله، وإن كانت طاعةً عظيمةً، إلا أنَّ الصبر على سفاهة الكفَّار شديدةً، فذكر الله تعالى ما يصلحُ لأ، يكون دافعاً لهذا الإشكال فقال: ﴿ولا تستوي الحنسة ولا السيئة﴾.
والمراد بالحسنة دعوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الحق، والصبر على جهالة الكفار، وترك الانتقام وترك الالتفات إليهم؛ والمراد بالسيئة ما أظهروا من الجلافة في قولهم: «قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ» وقوله: ﴿لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ﴾ [فصلت: ٢٦] فكأنه قال: يا محمد فعلُك حسنة، وفعلُهم سيئة، ولا تستوي الحسنة (ولا السيئة) أنت إذا أتيت بهذه الحسنة استوتجبت التعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة، وهم بالضِّدِّ من ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة. ثم قال ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ يعني ادفع ستاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطُّرق. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أمر بالصبر عند الغضب، وبالحِلْم عند الجهل، وبالعفو عن الإساءة. والمعنى أنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرةً بعند أخرى ولم تقابل سفاهتهم بالغضب استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا أفعالهم القبيحة، وانقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغضاء إلى المودَّة فقال: ﴿فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ﴾ يعني إذا فعلت ذلك خضع لك عدوك ﴿كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ أي كالصديق القريب، قال مقاتل بن حيَّان: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وذلك لأنه لان للمسلمين شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم أسلم فصار وليًّا بالإسلام وحميماً بالقرابة.
قوله: كأنه ولي «في هذه الجملة التَّشبيهيَّة وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب على الحال، والموصول متبدأ، و»
إذا «التي
140
للمفاجأة خبره والعامل في هذا الظرف من الاستقرار هو العامل في هذا الحال. ومحطُّ الفائدة في هذا الكلام (هي الحال والتقدير: فالبحضرة المعادي مشبهاً القريب الشفوق.
والثاني: أن الموصول مبتدأ) أيضاً، والجملة بعد خبره، و» إذَا «معمولة لمعنى التشبيه والظرف يتقدم على عامله المعنوي. هذا إن قيل: إنها ظرف.
فإن قيل: إنَّها حرف فلا عامل.
قوله:»
وَمَا يُلَقَّاها: العامة على يُلَقَّاها من التَّلْقِيَة. وابن كثير في رواية وطلحة بن مصرف يُلاَقَاها من المُلاَقَاةِ، فالضمير للخصلة أو الكلمة، (أو الجنة أو شهادة التوحيد.

فصل


لما أرشد الله تعالى إلى الطريق النافع في الدين والدنيا) قال: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ﴾ (قَالَ الزَّجاج: «وَمَا يُلَقَّى هذه الفِعْلَةَ إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) على تحمل المكاره وتجرح الشدائد وكظم الغيظ، وترك الانتقام. ﴿يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ من الفضائل النفسانية. وقال قتادة الحظ العظيم الجنة، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.
141
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله. . . ﴾ الآية قال ابن سيرين والسُّدِّيُّ : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وقال الحسن : هو المؤمن الذي أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه، وعمل صالحاً في إجابته وقال إنَّني من المسلمين. وقالت عائشة رضي الله عنها إن هذه الآية نزلت في المؤذِّنين. وقال عكرمة : هو المؤذن. وقال أبو أمامة الباهليّ : وعمل صالحاً : ركعتين بين الأذان والإقامة. وقال قيس بن أبي حازمٍ : هو الصلاة بين الأذان والإقامة١.
قوله :﴿ وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين ﴾ العامة على إنني بنونين. وابن أبي عبلة وابن نوحٍ٢ بنون واحدة. قوله تعالى :«ولا السيئَةُ » في «لا » هذه وجهان :
أحدهما : أنها زائدة للتوكيد، كقوله :﴿ وَلاَ الظل وَلاَ الحرور ﴾ [ فاطر : ٢١ ] وكقوله :﴿ وَلاَ المسيء ﴾ [ غافر : ٥٨ ]، لأن استوى لا يكتفي بواحد.
والثاني : أنها مؤسسة غير مؤكِّدة٣ ؛ إذ المراد بالحسنة والسيئة الجنس، أي لا تستوي الحسنات في أنفسها إنها متفاوتة، ولا تستوي السيئات أيضاً، فربَّ واحدةٍ أعظم من أخرى، وهو مأخوذ من كلام الزمخشري٤، وقال أبو حيان :«إن أخذت الحسنة والسيئة جنساً لم يكن زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا »٥. قال شهاب الدين :«فقد جعلها في المعنى الثاني زائدة، وفيه نظر لما تقدم »٦.

فصل


قال المفسرون : المراد بالحسنة الصَّبر، وبالسيئة الغضب. وقيل : الحلم والجهل.
وقيل : العفو والإساءة٧. قال ابن الخطيب : لما حكى الله تعالى عنهم قولهم :«قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ » وإصرارهم الشديد على دينهم، وعد التأثّر بدلائل محمد صلى الله عليه وسلم ثم أطنب في الجواب عن شبهاتهم ثم رغّب محمداً صلى الله عليه وسلم في أن لا يترك الدعوة إلى الله بقوله :
﴿ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا ﴾ [ فصلت : ٣٠ ] فلهم الثواب العظيم،
١ هذه الأقوال ذكرها القرطبي في الجامع ١٥/٣٦٠ والبغوي في معالم التنزيل ٦/١١١..
٢ هو إبراهيم بن أحمد بن نوح الأصبهاني الفقيه روى القراءة عن أبي خالد النزندولاني عن قتيبة وروى عنه ابن شنبوذ. انظر غاية النهاية ١/٩، وهذه القراءة شاذة انظر البحر ٧/٤٩٧..
٣ انظر البحر المحيط ٧/٤٩٨ والكشاف ٣/٤٥٤ وقد قال بالوجهين أيضا الأخفش في معانيه ٢/٦٨٤ وقال بوجه الزيادة فقط الزجاج في معانيه أيضا ٤/٣٨٦..
٤ بالمعنى من الكشاف ٣/٤٥٤ و٤٥٥..
٥ البحر المحيط ٧/٤٩٨..
٦ الدر المصون ٤/٧٣٤..
٧ البغوي ٦/١١٢..
ثم تَرَقَّى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى، وهي أن الدعوة إلى الله تعالى أعظم الدرجات، ثم كأن سائلاً ( سأل٨ ف ) قال : إن الدعوة إلى الله، وإن كانت طاعةً عظيمةً، إلا أنَّ الصبر على سفاهة الكفَّار شديدةً فذكر الله تعالى ما يصلحُ لأن يكون دافعاً لهذا الإشكال فقال :﴿ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ﴾.
والمراد بالحسنة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدين الحق، والصبر على جهالة الكفار، وترك الانتقام وترك الالتفات إليهم ؛ والمراد بالسيئة ما أظهروا من الجلافة في قولهم :«قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ » وقوله :﴿ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ] فكأنه قال : يا محمد فعلُك حسنة، وفعلُهم سيئة، ولا تستوي الحسنة ( ولا١ السيئة ) أنت٢ إذا أتيت بهذه الحسنة استوجبت التعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة، وهم بالضِّدِّ من ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة. ثم قال ﴿ ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطُّرق٣. قال ابن عباس رضي الله عنهما أمر بالصبر عند الغضب٤، وبالحِلْم عند الجهل، وبالعفو عند الإساءة. والمعنى أنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرةً بعند أخرى ولم تقابل سفاهتهم بالغضب استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا أفعالهم القبيحة، وانقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغضاء إلى المودَّة فقال :﴿ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ ﴾ يعني إذا فعلت ذلك خضع لك عدوك ﴿ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ أي كالصديق القريب، قال مقاتل بن حيَّان : نزلت في أبي سفيان بن حرب، وذلك لأنه لان للمسلمين شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم فصار وليًّا بالإسلام وحميماً بالقرابة٥.
قوله :﴿ كأنه ولي ﴾ في هذه الجملة التَّشبيهيَّة وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب على الحال، والموصول متبدأ، و «إذا » التي٦ للمفاجأة خبره والعامل في هذا الظرف من الاستقرار هو العامل في هذا الحال. ومحطُّ الفائدة في هذا الكلام ( هي٧ الحال والتقدير : فبالحضرة المعادي مشبهاً القريب الشفوق.
والثاني : أن الموصول مبتدأ ) أيضاً، والجملة بعد خبره، و «إذَا » معمولة لمعنى التشبيه والظرف يتقدم على عامله المعنوي. هذا إن قيل : إنها ظرف.
فإن قيل : إنَّها حرف فلا عامل٨.
١ زيادة من أ..
٢ في الرازي بمعنى أنك إذا أتيت..
٣ انظر الرازي ٢٧/١٢٧..
٤ البغوي ٦/١١٢..
٥ السابق..
٦ كذا في الدر المصون وفي النسختين "الذي" وكلا اللفظين صحيحان وقد أخذ المؤلف هذين الوجهين عن الدر المصون عن أبي البقاء العكبري في التبيان ١١٣٧..
٧ ما بين القوسين كله سقط من أ بسبب انتقال النظر..
٨ المرجعين السابقين..
قوله :﴿ وَمَا يُلَقَّاها ﴾ : العامة على يُلَقَّاها من التَّلْقِيَة. وابن كثير في رواية وطلحة بن مصرف يُلاَقَاها١ من المُلاَقَاةِ، فالضمير للخصلة أو الكلمة، ( أو الجنة٢ أو شهادة التوحيد.

فصل


لما أرشد الله تعالى إلى الطريق النافع في الدين والدنيا ) قال :﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ ﴾ ( قَالَ٣ الزَّجاج :«وَمَا يُلَقَّى هذه الفِعْلَةَ إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ) على تحمل المكاره وتجرح الشدائد وكظم الغيظ، وترك الانتقام. ﴿ وما يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ من الفضائل النفسانية٤. وقال قتادة٥ الحظ العظيم الجنة، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.
١ من القراءات الشاذة، ولم أجدها عن ابن كثير في المتواتر وانظر مختصر ابن خالويه ١٣٣ والبحر المحيط ٧/٤٩٨..
٢ ما بين المعقوفين كله سقط من ب..
٣ ما بين القوسين سقط من أ الأصل والمؤلف نقل كعادته عن الرازي هذا وما في إعراب القرآن للزجاج "وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة" ٤/٣٨٦..
٤ قاله الرازي ٢٧/١٢٧..
٥ البغوي ٦/١١٣..
قوله تعالى:
141
سورة الأعراف. قال الزمخشري: النَّزغُ والنَّسْغُ بمعنى واحد وهو شبه النَّخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينسخه يبعثه على ما لا ينبغي. والمعنى وإن صرفك الشيطان عما شرع لك من الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من شره «إنه هو السميع» لاستعاذتك وأقوالك «العليم» بأفعالك وأحوالك.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار... ﴾ الآية لما بين تعالى في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى وهي عبارة عن تنوير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته، ومن جملتها العالم بجميع أجزائه فبدأ هاهنا بذكر الفلكِّات وهي اللَّيل والنَّهار، والشمس والقمر، وقدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيهاً على أن الظلمة عدمٌ، والنور وجود، والعدم سابق على الوجود، وهذا كالتنبيه على وجود الصانع وتقدم شرحه مراراً. ولما بين أن الشمس والقمر يحدثان وهما دليلان على وجود الإله القادر قال ﴿لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ﴾ يعني أنهما عبدا دليلان على وجود الإله (القادر) والسجود عبارة عن نهاية التعظيم وهو لا يليق إلا بمن كان أشرف الموجودات فقال: ﴿لا تسجدوا للشمس ولا للقمر﴾ لأنهما عبدان مخلوقان، واسجدوا لله الخالق القادر الحكيم.
أحدهما: أنه يعود على «الليل والنهار والشمس والقمر». وفي مجيء الضمير كضمير الإناث (كما قال الزمخشري هو أنَّ جمع ما لا يعقل حكمه حكم الأثنى أو الإناث) نحو: الأَقْلاَمُ بريتُهَا وبرَيْتُهُنَّ.
وناقشه أبو حيان: من حيث إنه لم يفرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك؛ لأن الأفصح في جمع القلة أن يعامل معالمة الإناث، وفي جمع الكثرة أن يعامل معالمة الأنثى، فالأفصح أن يقال: الأجذاع كَسَرتهُنَّ، والجذوع كسرتُهَا، والذي تقدم في هذه الآية ليس بجمع قلة أعني بلفظ واحد ولكنه ذكر أربعة متعاطفة فتنزَّلَت منزلة الجمع المعبر به عنها بفلظ واحد. قال شهاب الدين: والزمخشري ليس في مقام بيان الفصيح والأفصح بل في مقام كيفية مجيء الضمير ضمير إناث بعد تقدم ثلاثة أشياء مذكرات وواحد مؤنث والقاعدة تغليب المذكر على المؤنث أو لَمَّا قال: «وَمِن آياتِهِ» كُنَّ في
142
معنى الآيات فقيل: خَلَقَهُنَّ. ذكر الزمخشري أيضاً أنه يعود على لفظ الآيات وهذا هو الوجه الثاني.
الثالث: أنه يعود على الشمس والقمر؛ لأن الاثنين جمع، والجمع مؤنث لقولهم: «شُمُوسٌ وأَقْمَارٌ».
وقال البغوي: إنما قال خلقُهُنَّ بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير، ولم يُجْر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث.
قوله: ﴿إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ قيل: كان ناسٌ يسجدون للشمس والقمر كالصَّابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنه يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فَنُهُوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق هذه الأشياء.
قوله: ﴿فَإِنِ استكبروا﴾ أي عن السجود ﴿فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ﴾ لا يَمَلُّونَ.
فإن قيل: إن الذين يسجدون للشمس والقمر يقولون نحن أقلّ وأذلّ من أن يحصُل لنا أهليَّةٌ لعبادة الله تعالى ولكنا عبيدٌ للشمس والقمر وهما عبدان لله تعالى، وإذا كان قولهم هكذا فكيف يليق بهم أنهم استكبروا عن السجود لله تعالى؟!.
فالجواب: ليس المراد من الاستكبار ههنا ما ذكرتم بل المراد استكبارهُم عن قول قولك يا محمد بالنهي عن السجود للشمس والقمر.

فصل


قال ابن الخطيب ليس المراد بهذه العِنديَّة قرب المكان، بل يقال: عند المَلِك من الجُند كذا وكذا، ويدل عليه قوله: «أنا عِنْدَ ظَنَّ عَبْدِي بِي» وأنا عِنْدَ المُنْكَسِرَة قُلُوبُهُم من أجلي في مقعدٍ صدقٍ عند ملكٍ مُقتدرٍ، ويقال: عند الشافعي: أنَّ المُسْلم لا يُقْتَلُ بالذِّمِّيِّ.

فصل


دلَّت هذه الآية على أن المَلِكَ أفضل من البشر؛ لأنه إنما يُسْتَدَلُّ بحال الأعلى على الأدنى فيقال: هؤلاء القوم إن استكبروا عن طاعة فلان، فالأكبر يخدمونه.
143
فإن قيل: وصف الملائكة بأنهم يسبحون له بالليل والنهار لا يفترون، وهذا يدل على مواظبتهم على التسبح لا ينفكون عنه لحظةً وادة كما قال: ﴿يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٠] واشتغالهم بهذه العمل على سبيل الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال لكنهنم ينزلون على الأرض، كما قال تعالى ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: ١٩٣١٩٤] وقال ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحجر: ٥١] وقال ﴿عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ﴾ [التحريم: ٦] وقال عن الذين قاتلوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بدر ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: ١٢٥].
فالجواب: أن الذين ذكرهم الله ههنا بكونهم واظبين على التسبيح أقوام مُعيَّنُونَ من الملائكة.

فصل


اختلفوا في مكان السجدة فقال الشافعي رحمهُ الله هو عند قوله تعالى «إِيَّاهنُ تَعْبُدُونَ» وقال أبو حنيفة رضي الله: هو عند قوله تعالى «وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ».
قوله: «وَمِنْ آيَاتِهِ» أي ومن دلائل قدرته أنك ترى الأرض خاشعةً أي يابسة غير الإنبات فيها ﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ﴾، أي تحركت بالنبات، وَرَبَت انْتَفَخَتْ؛ لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الأربعة الفكلية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي هذه الآية ثم قال: ﴿إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى﴾ يعنى أن القادر على إحياء الأرض بعند موتها هو القادرُ على أحياء هذه الأجساد بعد موتها. ثم قال: ﴿إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهذ هو الدليل الأصلي وتقدم تقريره مِرَاراً.
144
قوله تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار. . . ﴾ الآية لما بين تعالى في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى وهي عبارة عن تنوير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته، ومن جملتها العالم بجميع أجزائه فبدأ هاهنا بذكر الفلكِّيات وهي اللَّيل والنَّهار، والشمس والقمر، وقدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيهاً على أن الظلمة عدمٌ، والنور وجود، والعدم سابق على الوجود، وهذا كالتنبيه على وجود الصانع وتقدم شرحه مراراً. ولما بين أن الشمس والقمر يحدثان وهما دليلان على وجود الإله القادر قال ﴿ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ ﴾ يعني أنهما عبدا دليلان على وجود الإله ( القادر )١ والسجود عبارة عن نهاية التعظيم وهو لا يليق إلا بمن كان أشرف الموجودات فقال :﴿ لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ﴾ لأنهما عبدان مخلوقان، واسجدوا لله الخالق القادر الحكيم٢.
قوله :﴿ خلقهن ﴾ في هذا الضمير ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه يعود على «الليل والنهار والشمس والقمر »٣. وفي مجيء الضمير كضمير الإناث ( كما قال الزمخشري هو أنَّ جمع ما لا يعقل حكمه حكم الأنثى أو الإناث ) نحو : الأَقْلاَمُ بريتُهَا وبرَيْتُهُنَّ.
وناقشه أبو حيان : من حيث إنه لم يفرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك ؛ لأن الأفصح في جمع القلة أن يعامل معاملة الإناث، وفي جمع الكثرة أن يعامل معالمة الأنثى، فالأفصح أن يقال : الأجذاع كَسَرتهُنَّ، والجذوع كسرتُهَا، والذي تقدم في هذه الآية ليس بجمع قلة أعني بلفظ واحد ولكنه ذكر أربعة متعاطفة فتنزَّلَت منزلة الجمع المعبر به عنها بلفظ واحد٤. قال شهاب الدين : والزمخشري ليس في مقام بيان الفصيح والأفصح بل في مقام كيفية مجيء الضمير ضمير إناث بعد تقدم ثلاثة أشياء مذكرات وواحد مؤنث والقاعدة تغليب المذكر على المؤنث٥ أو لَمَّا قال :«وَمِن آياتِهِ » كُنَّ في معنى الآيات فقيل : خَلَقَهُنَّ. ذكر الزمخشري٦ أيضاً أنه يعود على لفظ الآيات وهذا هو الوجه الثاني.
الثالث : أنه يعود على الشمس والقمر ؛ لأن الاثنين جمع، والجمع مؤنث لقولهم :«شُمُوسٌ وأَقْمَارٌ »٧.
وقال البغوي : إنما قال خلقُهُنَّ بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير، ولم يُجْر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث٨.
قوله :﴿ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ قيل : كان ناسٌ يسجدون للشمس والقمر كالصَّابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنه يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فَنُهُوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق هذه الأشياء٩.
١ سقط من ب الأصل..
٢ انظر الرازي بتغيير طفيف في العبارة ٢٧/١٢٨، ١٢٩..
٣ نقله الزمخشري في الكشاف ٣/٤٥٤..
٤ نقله في البحر المحيط ٧/٤٩٨، ونقله عن السمين في الدر المصون ٤/٧٣٥، وانظر معاني الفراء ٣/٨..
٥ الدر المصون ٤/٧٣٥..
٦ الكشاف للزمخشري ٣/٤٥٤، وقد قال بذلك أيضا أبو البركات ابن الأنباري في البيان ٢/٣٤٠ قال والهاء والنون في "خلقهن" تعود على الآيات، ولا تعود على الشمس ولقمر والليل والنهار؛ لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلب جانب المذكر على جانب المؤنث..
٧ قال بذلك أبو حيان في البحر ٧/٤٩٩..
٨ معالم التنزيل له ٦/١١٢..
٩ ذكره الزمخشري في الكشاف ٣/٤٥٤ والرازي في التفسير الكبير ٢٧/١٢٩..
قوله :﴿ فَإِنِ استكبروا ﴾ أي عن السجود ﴿ فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ ﴾ لا يَمَلُّونَ.
فإن قيل : إن الذين يسجدون للشمس والقمر يقولون نحن أقلّ وأذلّ من أن يحصُل لنا أهليَّةٌ لعبادة الله تعالى ولكنا عبيدٌ للشمس والقمر وهما عبدان لله تعالى، وإذا كان قولهم هكذا فكيف يليق بهم أنهم استكبروا عن السجود لله تعالى ؟ !.
فالجواب : ليس المراد من الاستكبار ههنا ما ذكرتم بل المراد استكبارهُم عن قول قولك يا محمد بالنهي عن السجود للشمس والقمر١.

فصل


قال ابن الخطيب ليس المراد بهذه العِنديَّة قرب المكان، بل يقال : عند المَلِك من الجُند كذا وكذا، ويدل عليه قوله :«أنا عِنْدَ ظَنَّ عَبْدِي بِي »٢ وأنا عِنْدَ المُنْكَسِرَة قُلُوبُهُم من أجلي في مقعدٍ صدقٍ عند ملكٍ مُقتدرٍ، ويقال : عند الشافعي : أنَّ المُسْلم لا يُقْتَلُ بالذِّمِّيِّ.

فصل


دلَّت هذه الآية على أن المَلِكَ أفضل من البشر ؛ لأنه إنما يُسْتَدَلُّ بحال الأعلى على الأدنى فيقال : هؤلاء القوم٣ إن استكبروا عن طاعة فلان، فالأكابر يخدمونه.
فإن قيل : وصف الملائكة بأنهم يسبحون له بالليل والنهار لا يفترون، وهذا يدل على مواظبتهم على التسبيح لا ينفكون عنه لحظةً واحدة كما قال :﴿ يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٠ ] واشتغالهم بهذا العمل على سبيل الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال لكنهم ينزلون على الأرض، كما قال تعالى ﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ ﴾ [ الشعراء : ١٩٣ - ١٩٤ ] وقال ﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الحجر : ٥١ ] وقال ﴿ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ﴾ [ التحريم : ٦ ] وقال عن الذين قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ﴿ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٢٥ ].
فالجواب : أن الذين ذكرهم الله ههنا بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام مُعيَّنُونَ من الملائكة.

فصل


اختلفوا في مكان السجدة فقال الشافعي رحمهُ الله هو عند قوله تعالى «إِيَّاهنُ تَعْبُدُونَ »٤ وقال أبو حنيفة رضي الله : هو عند قوله تعالى «وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ »٥.
١ المرجع السابق..
٢ سبق هذا الحديث..
٣ لفظ إن سقط من أ الأصل..
٤ وهو قول مالك أيضا..
٥ قال ابن وهب ونقل القرطبي في الجامع عكس ما قال المؤلف، انظر الجامع ١٥/٣٦٤..
قوله :«وَمِنْ آيَاتِهِ » أي ومن دلائل قدرته أنك ترى الأرض خاشعةً أي يابسة غير الإنبات فيها ﴿ فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ ﴾، أي تحركت بالنبات، وَرَبَت انْتَفَخَتْ ؛ لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض١ وانتفخت ثم تصدعت عن النبات.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الأربعة الفلكية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي هذه الآية ثم قال :﴿ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْيىِ الموتى ﴾ يعنى أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادرُ على أحياء هذه الأجساد بعد موتها. ثم قال :﴿ إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ وهذا هو الدليل الأصلي وتقدم تقريره مِرَاراً.
١ قاله الزجاج في معاني القرآن ٤/٣٨٨..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا﴾ الآية لما بين أن الدعوة إلى دين الله تعالى أعظم المناصب، وأشرف المراتب، ثم بين أن الدعوة إنما تحصُلُ بذكر دلائل التوحيد العدل وصحة البعث والقيامة عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات، ويجادل بإبقاء الشُّبهات فيها فقال: إن الذين يُلحدون في آياتنا لا يخفون علينا، يقال: ألحدَ الحافِرُ
144
وَلَحَدَ إذ مال عن الاستقامة فحفر في شقِّ فالمُلحِدُ، هو المُنْنحَرِفُ، ثم اختص في العرف بالمُنْحرِفِ عن الحق إلى الباطل قال مجاهد: يلحدون في آياتنا بالمُكَاءِ والتصدية واللغو واللَّغط. وقال قتادة: يكذبون في آياتنا. قوال السدي: يعاندون ويشاقون ﴿لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ﴾ وهو كقول الملك المهيب: إنَّ الذين ينازعون في ملكي أعرفهم فإنت ذلك (لا) لا يكون تهديداً. ثم قال: ﴿أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة﴾ وهذا استفهام بمعنى التقدير، والغرض منه التنبيه على أن المُلحِدِين في الآيات يُلْقَون في النار، وأن المؤمنين بالآيات يأتون آمنين يوم القيامة. قال المفسرون: المراد حمزة، وقيلأ: عثمان، وقيل: عمار بن ياسر. ثم قال: ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ وهذا أمر تهديد ووعيد أيضاً، ﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي عالم بأعمالكم فيجازيكم.
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ في خبرها ستةُ أوجه:
أحدها: أنه مذكور، وهو قوله «أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ» وقد سئل بلال بنُ أبي بُرْدَة عن ذلك في مجسله فقال: لا أجد لها معاداً، فقال له أبو عمرو بن العلاء: إنه منك لقريب أولئك ينادون. وقد استبعد هذا من وجهين:
أحدهما: كثرة الفواصل.
والثاني: تقدم من يصح الإشارة إليه بقوله: «أُولَئِكَ» وهو قوله: «وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ» واسم الإشارة يعود على أقرب مذكور.
الثاني: أنه محذوف لفهم المعنى فقدر: مُعَذَّبُونَ، أو مُهْلَكُونَ، أو مُعَانِدُونَ. وقال الكسائي: سد مسده ما تقدم من الكلام قبل «إنَّ» وهو قوله {أَفَمَن
145
يلقى فِي النار}. يعني في الدلالة عليه، والتقدير يُخلَّدُونَ في النار، وقال البغوي: يَجَازَوْنَ بكُفْرِهِمْ. وسأل عيسى بن عمر عَمْرَو بن عبيدٍ عن ذلك فقال معناه في التفسير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به، فقدر الخبر من جنس الصِّلة. وفيه نظر من حيث اتّحاد الخبر والمُخبر عنه في المعنى من غير زيادة فائدة، نحو: سيِّدُ الجارِية مَالِكُها.
الثالث: أن «إنَّ الَّذِينَ» الثانية بدل من «إِنَّ الَّذِين» الأولى المحكوم به على البدل محكوم به على المبدل منه فيلزم أن يكون الخبر ﴿يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ﴾ وهو منتزع من كلام الزمخشري.
الرابع: أنَّ الخير قوله: ﴿لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ والعائد محذوف تقديره لا يأتيه الباطل منهم، نحو: «السَّمْنُ منوان بِدرهَم» أي منوان منه أو يكون «أل» عوضاً من الضمير في رأي الكوفيين، تقديره: «إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالِّكْرِ لاَ يَأتِيهِ بَاطِلُهُمْ».
الخامس: أن الخبر قوله تعالى: ﴿مَّا يُقَالُ لَكَ﴾ والعائد محذوف أيضاً تقديره: إنَّ الَّذِين كَفَرُوا بالذِّكْرِ مَا يقال لك في شأنهم إلاَّ ما قد قيل للرسل من قبلك. وهذان الوجهان ذهب إليهما أن أبو حيَّان.
والسادس: قال بعض الكوفيين: إنه قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ﴾ وهذا غير متعقَّلٍ.
قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ جملة حالية، وقوله ﴿لاَّ يَأْتِيهِ الباطل﴾ صفة «الكتاب»، و «تَنْزِيلٌ» خبر مبتدأ محذوف، أو صفة لكتاب على أنَّ «لاَ يأْتِيهِ» معترف أو صفة كما تقدم على رأي من يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح، وتقدم تحقيقه
146
في المائدة. و «مِنْ حَكِيم» صفة «لتنزيل» أو متعلق به و «الباطل» اسم فاعل، وقيل: مصدر كالعاصِفةِ والعاقِبةِ.

فصل


لما بلغ في تهديد المُلحدين في آيات القرآن أتبعه تعظيم القرآن فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ قال الكلبي عن أبن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: أي كريم على الله. وقال قتادة: أعزة الله تعالى لا يجد الباطل إليه سبيلا. قال قتادة والسدي: الباطل هو الشيطان لا يستطيع أن يغيره أو يزيل فيه أو ينقص منه. وقال الزجاج: معناه أنه محفوظ من أن يُنْقَصُ منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يُزَادُ فيه فيأتيه الباطل من خلفه، وعلى هذا فمعنى الباطل هو الزيادة والنقصان. وقال مقاتل: لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله، ولا يأتي بعده كتاب فيُبطلُهُ (و) قال الزمخشري هذا تمثيل والمقصود أن الباطل لا يتطرطُ إليه ولا يجد إليثه سبيلاً من جهة من الجهات حين يصل إليه.

فصل


اعلم أنَّ لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه؛ لأن النسخ إبطال، فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه وهذا خلاف الآية.
ثم قال: ﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ أي حكيم في جميع أفعاله حميد إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه.
قوله تعالى: ﴿مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ﴾.... الآية لما هدَّ الملحدين في آيات الله ثم بين شرف آيات الله وعلو درجة كتاب الله تعالى رجع إلى أمر رسوله بأن يصبر على أذى قومه، وأن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة وهو قولهم: ﴿قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ [فصلت: ٥] إلى قوله: ﴿فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ [فصلت: ٥] فقال: ﴿ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك﴾ أي إنهم قالوا للأنبياء قبلك: ساحرٌ، وكذبوهم
147
كما كُذِّبت. وقيل: المراد ما قال لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل وهو أنه أمرك وأمرهم بالصبر على سفاهة الأقوام.
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ﴾ قيل: هو مفسر للمقول كأنه قيل: قيل للرسل إن ربك لذو مغفرة وقيل: هو مستأنف ومعناه لذو مغفرة لمن تاب وآمن بك، وذُو عِقَابٍ أليمٍ لمن أصر على التكذيب.
148
قوله :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ ﴾ في خبرها ستةُ أوجه :
أحدها : أنه مذكور، وهو قوله «أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ »١ وقد سئل بلال بنُ أبي بُرْدَة٢ عن ذلك في مجلسه فقال : لا أجد لها معاداً، فقال له أبو عمرو بن العلاء : إنه منك لقريب أولئك ينادون٣. وقد استبعد هذا من وجهين :
أحدهما : كثرة الفواصل.
والثاني : تقدم من يصح الإشارة إليه بقوله :«أُولَئِكَ » وهو قوله :«وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ » واسم الإشارة يعود على أقرب مذكور٤.
الثاني : أنه محذوف لفهم المعنى فقدر٥ : مُعَذَّبُونَ، أو مُهْلَكُونَ، أو مُعَانِدُونَ٦. وقال الكسائي : سد مسده ما تقدم من الكلام قبل «إنَّ » وهو قوله ﴿ أَفَمَن يلقى فِي النار ﴾٧. يعني في الدلالة عليه، والتقدير يُخلَّدُونَ في النار، وقال البغوي : يَجَازَوْنَ بكُفْرِهِمْ٨. وسأل عيسى بن عمر عَمْرَو بن عبيدٍ عن ذلك فقال معناه في التفسير : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به٩، فقدر الخبر من جنس الصِّلة. وفيه نظر من حيث اتّحاد الخبر والمُخبر عنه في المعنى من غير زيادة فائدة، نحو : سيِّدُ الجارِية مَالِكُها١٠.
الثالث : أن «إنَّ الَّذِينَ » الثانية بدل من «إِنَّ الَّذِين » الأولى المحكوم به على البدل محكوم به على المبدل منه فيلزم أن يكون الخبر ﴿ لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ ﴾ وهو منتزع من كلام الزمخشري١١.
الرابع : أنَّ الخير قوله :﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ﴾
الرابع : أنَّ الخير قوله :﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ﴾ والعائد محذوف تقديره لا يأتيه الباطل منهم، نحو :«السَّمْنُ منوان بِدرهَم » أي منوان منه أو يكون «أل » عوضاً من الضمير في رأي الكوفيين، تقديره :«إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالِّكْرِ لاَ يَأتِيهِ بَاطِلُهُمْ ».
الخامس : أن الخبر قوله تعالى :﴿ مَّا يُقَالُ لَكَ ﴾ والعائد محذوف أيضاً تقديره : إنَّ الَّذِين كَفَرُوا بالذِّكْرِ مَا يقال لك في شأنهم إلاَّ ما قد قيل للرسل من قبلك. وهذان الوجهان ذهب إليهما أن أبو حيَّان١.
والسادس : قال بعض الكوفيين : إنه قوله :﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ ﴾ وهذا غير متعقَّلٍ٢.
قوله :﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴾ جملة حالية٣، وقوله ﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل ﴾ صفة «الكتاب»، و«تَنْزِيلٌ» خبر مبتدأ محذوف، أو صفة لكتاب على أنَّ «لاَ يأْتِيهِ» معترف أو صفة كما تقدم على رأي من يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح٤، وتقدم تحقيقه في المائدة. و«مِنْ حَكِيم» صفة «لتنزيل» أو متعلق به و«الباطل» اسم فاعل، وقيل : مصدر كالعاصِفةِ والعاقِبةِ٥.

فصل


لما بلغ في تهديد المُلحدين في آيات القرآن أتبعه تعظيم القرآن فقال :﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴾ قال الكلبي عن أبن عباس رضي الله عنهم٦ : أي كريم على الله. وقال قتادة : أعزة الله تعالى لا يجد الباطل إليه سبيلا. قال قتادة والسدي : الباطل هو الشيطان لا يستطيع أن يغيره أو يزيل فيه أو ينقص منه٧. وقال الزجاج : معناه أنه محفوظ من أن يُنْقَصُ منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يُزَادُ فيه فيأتيه الباطل من خلفه٨، وعلى هذا فمعنى الباطل هو الزيادة والنقصان. وقال مقاتل : لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله، ولا يأتي بعده كتاب٩ فيُبطلُهُ ( و ) قال الزمخشري هذا تمثيل والمقصود أن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات حين يصل إليه١٠.

فصل


اعلم أنَّ لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه ؛ لأن النسخ إبطال، فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه وهذا خلاف الآية.
١ نقله أبو البقاء في التبيان ١١٢٧ وهو رأي ابن الأنباري في البيان ٢/٣٤١ ومكي في مشكل إعراب القرآن ٢/٢٧٢..
٢ قاضي البصرة وأميرها والمفوض من قبل خالد القسري كان من أهل الأدب والفصاحة توفي سنة ١٢٠ هـ وانظر هامش إنباه الرواة ١/٢٤٥..
٣ انظر هذا بالمعنى من البحر المحيط ٧/٥٠٠ وباللفظ من الدر المصون ٤/٧٣٥..
٤ نقل هذين الاعتراضين أبو حيان في مرجعه السابق عن الحوفي رحمه الله..
٥ في ب ويقدر..
٦ هو قول العكبري في التبيان ١١٢٧..
٧ نقله أبو حيان في المرجع السابق..
٨ البغوي ٦/١١٣..
٩ نقله أبو الحسن الأخفش في المعاني ٦٨٤ و٦٨٥..
١٠ البحر المحيط ٧/٥٠٠..
١١ الكشاف ٣/٤٥٥، فقد قال: فإن قلت: بم اتصل قوله: "إن الذين كفروا بالذكر"؟ قلت: هو بدل من قوله: إن الذين يلحدون في آياتنا، والذكر القرآن؛ لأنهم كفروا به..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:قوله :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ ﴾ في خبرها ستةُ أوجه :
أحدها : أنه مذكور، وهو قوله «أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ »١ وقد سئل بلال بنُ أبي بُرْدَة٢ عن ذلك في مجلسه فقال : لا أجد لها معاداً، فقال له أبو عمرو بن العلاء : إنه منك لقريب أولئك ينادون٣. وقد استبعد هذا من وجهين :
أحدهما : كثرة الفواصل.
والثاني : تقدم من يصح الإشارة إليه بقوله :«أُولَئِكَ » وهو قوله :«وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ » واسم الإشارة يعود على أقرب مذكور٤.
الثاني : أنه محذوف لفهم المعنى فقدر٥ : مُعَذَّبُونَ، أو مُهْلَكُونَ، أو مُعَانِدُونَ٦. وقال الكسائي : سد مسده ما تقدم من الكلام قبل «إنَّ » وهو قوله ﴿ أَفَمَن يلقى فِي النار ﴾٧. يعني في الدلالة عليه، والتقدير يُخلَّدُونَ في النار، وقال البغوي : يَجَازَوْنَ بكُفْرِهِمْ٨. وسأل عيسى بن عمر عَمْرَو بن عبيدٍ عن ذلك فقال معناه في التفسير : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به٩، فقدر الخبر من جنس الصِّلة. وفيه نظر من حيث اتّحاد الخبر والمُخبر عنه في المعنى من غير زيادة فائدة، نحو : سيِّدُ الجارِية مَالِكُها١٠.
الثالث : أن «إنَّ الَّذِينَ » الثانية بدل من «إِنَّ الَّذِين » الأولى المحكوم به على البدل محكوم به على المبدل منه فيلزم أن يكون الخبر ﴿ لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ ﴾ وهو منتزع من كلام الزمخشري١١.
الرابع : أنَّ الخير قوله :﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ﴾
الرابع : أنَّ الخير قوله :﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ﴾ والعائد محذوف تقديره لا يأتيه الباطل منهم، نحو :«السَّمْنُ منوان بِدرهَم » أي منوان منه أو يكون «أل » عوضاً من الضمير في رأي الكوفيين، تقديره :«إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالِّكْرِ لاَ يَأتِيهِ بَاطِلُهُمْ ».
الخامس : أن الخبر قوله تعالى :﴿ مَّا يُقَالُ لَكَ ﴾ والعائد محذوف أيضاً تقديره : إنَّ الَّذِين كَفَرُوا بالذِّكْرِ مَا يقال لك في شأنهم إلاَّ ما قد قيل للرسل من قبلك. وهذان الوجهان ذهب إليهما أن أبو حيَّان١.
والسادس : قال بعض الكوفيين : إنه قوله :﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ ﴾ وهذا غير متعقَّلٍ٢.
قوله :﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴾ جملة حالية٣، وقوله ﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل ﴾ صفة «الكتاب»، و«تَنْزِيلٌ» خبر مبتدأ محذوف، أو صفة لكتاب على أنَّ «لاَ يأْتِيهِ» معترف أو صفة كما تقدم على رأي من يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح٤، وتقدم تحقيقه في المائدة. و«مِنْ حَكِيم» صفة «لتنزيل» أو متعلق به و«الباطل» اسم فاعل، وقيل : مصدر كالعاصِفةِ والعاقِبةِ٥.

فصل


لما بلغ في تهديد المُلحدين في آيات القرآن أتبعه تعظيم القرآن فقال :﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴾ قال الكلبي عن أبن عباس رضي الله عنهم٦ : أي كريم على الله. وقال قتادة : أعزة الله تعالى لا يجد الباطل إليه سبيلا. قال قتادة والسدي : الباطل هو الشيطان لا يستطيع أن يغيره أو يزيل فيه أو ينقص منه٧. وقال الزجاج : معناه أنه محفوظ من أن يُنْقَصُ منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يُزَادُ فيه فيأتيه الباطل من خلفه٨، وعلى هذا فمعنى الباطل هو الزيادة والنقصان. وقال مقاتل : لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله، ولا يأتي بعده كتاب٩ فيُبطلُهُ ( و ) قال الزمخشري هذا تمثيل والمقصود أن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات حين يصل إليه١٠.

فصل


اعلم أنَّ لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه ؛ لأن النسخ إبطال، فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه وهذا خلاف الآية.
١ نقله أبو البقاء في التبيان ١١٢٧ وهو رأي ابن الأنباري في البيان ٢/٣٤١ ومكي في مشكل إعراب القرآن ٢/٢٧٢..
٢ قاضي البصرة وأميرها والمفوض من قبل خالد القسري كان من أهل الأدب والفصاحة توفي سنة ١٢٠ هـ وانظر هامش إنباه الرواة ١/٢٤٥..
٣ انظر هذا بالمعنى من البحر المحيط ٧/٥٠٠ وباللفظ من الدر المصون ٤/٧٣٥..
٤ نقل هذين الاعتراضين أبو حيان في مرجعه السابق عن الحوفي رحمه الله..
٥ في ب ويقدر..
٦ هو قول العكبري في التبيان ١١٢٧..
٧ نقله أبو حيان في المرجع السابق..
٨ البغوي ٦/١١٣..
٩ نقله أبو الحسن الأخفش في المعاني ٦٨٤ و٦٨٥..
١٠ البحر المحيط ٧/٥٠٠..
١١ الكشاف ٣/٤٥٥، فقد قال: فإن قلت: بم اتصل قوله: "إن الذين كفروا بالذكر"؟ قلت: هو بدل من قوله: إن الذين يلحدون في آياتنا، والذكر القرآن؛ لأنهم كفروا به..


ثم قال :﴿ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ أي حكيم في جميع أفعاله حميد إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه١١.
قوله تعالى :﴿ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ﴾. . . . الآية لما هدَّ الملحدين في آيات الله ثم بين شرف آيات الله وعلو درجة كتاب الله تعالى رجع إلى أمر رسوله بأن يصبر على أذى قومه، وأن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة وهو قولهم :﴿ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ﴾ [ فصلت : ٥ ] إلى قوله :﴿ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ [ فصلت : ٥ ] فقال :﴿ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ﴾ أي إنهم قالوا للأنبياء قبلك : ساحرٌ، وكذبوهم كما كُذِّبت. وقيل : المراد ما قال لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل وهو أنه أمرك وأمرهم بالصبر على سفاهة الأقوام١٢.
قوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ ﴾ قيل : هو مفسر للمقول كأنه قيل : قيل للرسل إن ربك لذو مغفرة١٣ وقيل : هو مستأنف١٤ ومعناه لذو مغفرة لمن تاب وآمن بك، وذُو عِقَابٍ أليمٍ لمن أصر على التكذيب.
١٢ السابق..
١٣ ذكره أبو حيان في البحر ٧/٥٠١ والسمين في الدر ٤/٧٣٦..
١٤ المرجع الأخير السابق..
قوله: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ﴾ أي جعلنا هذا الكتاب الذي يقرؤه على الناس قرآناه أعجميًّا بغير لغة العرب ﴿لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ أي هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها.
قوله: «أَأَعْجَمِيٌّ» قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيق الهمزة، وهشام بإسقاط الأولى، والباقون: بتسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ. وأما المدّ فقد عرف حكمه من قوله: ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦] في أول الكتاب. فمن استفهم قال معناه أكتاب أعجمي ورسول عربي؟
وقيل: ومرسل إليه عربي؟ وقيل: معناه بعضه أعجمي وبعضه عربي؟ ومن لم يثبت همزة الاستفهام فيحتمل أنه حملها لفظاً وأرادها معنى، وفيه توافق القراءتين، إلا أن ذلك لاي يجوز عند الجمهور إلا إذا كان في الكلام «أم» نحو: بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ.
148
فإن لم يكن «أم» لم يجز إلا عند الأخفش. وتقدم ما فيه.
ويحتمل أن يكون جعله خبراً محضاً ويكون معناه: هلا فُصِّلت آياتُهُ فكان بعضها أعجمياً يفهم العجم وبضعه عربياً يفهمه العرب. والأعجمي من لا يفصح، وإن كان من العرب وهو منسوب إلى صفته، كأحمريّ، ودوّاريّ؛ فالياء فيه للمبالغة في الوصف وليس فيه حقيقياً. وقال الرازي في لوامحه: فهو كياء كُرْسيّ وبختيّ.
وفرق أبو حيان بينهما فقال: ليست كياء كُرسيّ، فإنَّ ياء كرسيِّ وبختيّ بُنِيَت الكلمة عليها بخلاف ياء «أعْجَمِيٍّ» فإنهم يقولون: رجلٌ أعجم وأَعجميٌّ.
وقرأ عمرو بن ميمونٍ أعَجميّ بفتح العين وهو منسوب إلى العجم والياء فيه للنسب حقيقة، ويقال: رجلٌ عجميّ وإن كان فصحياً. وقد تقدم الفرق بينهما في سورة الشعراء. وفي رفع أعجمي ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره أعجمي وعربي يستويان.
والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي القرآن أعجمي والمرسل به عربيٌّ.
والثالث: أنه فاعل فعل مضمر، أي أيستوي عجميٌّ وعربيٌّ. إذ لا يحذف الفعلُ إلا في مواضع تقدم بيانها.

فصل


قال المفسرون: هذا استفهام على وجه الإنكار، لأنهم كانوا يقولون: المُنزَّلُ عليه عربي، والمُنَزَّلُ أعجمي وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يدخل على يسار غلام
149
عامر بن الحضرمي وكان يهوديًّا أعجمياً يكنى أبا فكيهة، فقال المشركون: إنما يعلمه يسار فضربه سيده وقال: إنك تعلِّمُ محمداً فقال يسار: هو يعلّمني، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن الخطيب: نقلوا في نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت قالوا: هلا نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية. وعندي: أن أمثال هذه الكلمات فيها حذف عظيم على القرآن، لأن يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض، وأنه يوجب أعظم أنواع الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذه الطعن ادعاه كونه كتاباً منتظماً؟! فضلاً عن ادِّعاء كونه معجزاً؛ بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد على ما حكى الله عنهم من قولهم ﴿قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر﴾ وهذا الكلام متعلق به أيضاً وجوب له والتقدير: إنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكانه لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب؟ ويصح لهم أن يقولوا: قلوبنا في أكنة من هذا الكلام، وفي آذاننا وقر منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه.
أما لمَّا نزل هذا الكتاب بلغة العرب وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة فيكف يُمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها وفي آذانكم وقر منها؟! فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جواباً عن ذلك الكلام بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم، وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيبٌ جدًّا.
قوله: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ﴾ أي قل يا محمد هو يعني القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء هدى من الضلالة وشفاء لما في القلوب. وقيل: شفاءٌ من الأوجاع. قال ابن الخطيب: هذا متعلق بقولهم: ﴿قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾.. الآية [فصلت: ٥] كأنه تعالى يقول: إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكمخ لا بلغة أجنبية عنكم فلا يمكنكم أن تقولوا قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا هذه اللغة فكل من أعطاه الله تعالى طبعاً مائلاً إلى الحق، وقلباً داعياً إلى الصدق وهمَّةً تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين فإن هذا القرآن يكون في حقه هُدًى وشفاء. أما كونه هدى فإنه فإنه أذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى، وذلك شفاء لهم من مرض الكفر والجهل، وأما من غرق في بحر الخِذْلان وشغف بمتابعة الشيطان فكأنَّ هذا القرآن عليهم عَمًى، كما قال: ﴿وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت: ٥] أولئك يُنادون من كان بعيدٍ بسبب ذلك الحجاب الحائل بينه وبين الانتفاع ببيان القرآن وكل من أنصف ولم يتعسف علم أن التفسير على هذا الوجه الذي ذكرناه أولى مما ذكروه؛ لأن السورة نتصير من
150
أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً منسوقاً نحو غرض واحد.
قوله: ﴿والذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ و «في آذانِهِم» خبره و «وَقْرٌ» فاعل، أو «في آذَانِهِم» خبر مقدم و «وقر» مبتدأ مؤخر، فالجملة خبر الأول.
الثاني: أن «وقراً» خبر مبتدأ مضمر، والجملة خبر الأول، والتقدير والذين لا يؤمنون هو وقر في آذانهم. لما أخبر عنه بأنه هدى لأولئك أخبر عنه أنه وقر في آذان هؤلاء وعمًى عليهم، قال معناه الزمخشري. ولا حاجة إلى الإضمار مع تمام الكلام بدونه.
الثالث: أن يكون «الذين لا يؤمنون» عطفاً على «الذين آمنوا» و «وَقْرٌ» عطف على «هُدى». وهذا باب العطف على معمولي عاملين وفيه مذاهب تقدم تحريرها.
قوله: «عَمًى» العامة على فتح الميم المنونة، وهو مصدر لعَمِي يَعْمَى عَمًى، نحو: صَدِيَ يَصْدَى صَدًى وهَوِيَ يَهْوَى هَوًى. وقرأ ابن عباس، وابن عمر، وابن الزُّبير وجماعةٌ عم بسكرهنا منونة اسماً منقوصاً، وصف بذلك مجازاً. وقرأ عمرو بن دينار، ورُبيت عن ابن عباس: «عَمِيَ» بكسر الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً. وفي الضمير وجهان:
أظهرهما: أنه القرآن.
والثاني: أنه للوقر، والمعنى يأباه و «في آذانهم» إن تجعله خبراً تعلق بمحذوف على أنه حال منه لأنه صفة في الأصل، ولا يتعلق به لأنه مصدر، فلا يتقدم معموله عليه وقوله: ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ كذلك في قراءة العامة وأما في القراءتين المتقدمتين فيتعلق «على» بما بعده إذ ليس بمصدر. قال أبو عبيد: والأولى هي الوجه، لقوله: ﴿هُدًى وَشِفَآءٌ﴾ وكذلك «عمى» وهو مصدر مثلهما ولو كان المذكور أنه هادٍ وشافٍ لكان الكسر في «عَمِيَ» أجود، فيكون نعتاً لهما.

فصل


قال قتادة: عَمُوا عن القرآن وصمُّوا عنه، فلا ينتفعون به. {أولئك ينادون من مكان
151
بعيد} قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء.
وقيل: من دعي من كان بعيد لم يسمع وإن سمع لم يفهم فكذا حال هؤلاء، وهذا مثل لقلّة انتفاعِهِمْ بما يُوعظُونَ بِهِ.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ﴾ وجه تعلقه بما قبله كأنه قيل: إنا لما آتينا موسى الكتاب فقبله بعضهم وردَّهُ آخرون فكذلك آتيناك هذا الكتاب، فقبله بعضهم وهم أصحابك، ورده آخرون وهم الذين يقولون: قلبونا في أكنة مما تدعوننا إليه. ثم قال: ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ يعني في تأخير العذاب عنهم ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ وهو يقوم القيامة ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع أي لفرغ من عذابهم وعجل إهلاكهم ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ من صدقك وكتابك «مُرِيبٍ» موقع لهم الريبة، فلا ينبغي أن يعظم استيحاشك من قولهم: ﴿قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه﴾. ثم قال: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾ يعنى خفف على نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم وإن كفروا فضرر كفرهم يعود عليهم فالله سبحانه وتعالى يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.
قوله: «فلنفسه» يجوز أن يتعلق بفعل مقدر أي فلنفسه عملهُ، وأن كيون خبر مبتدأ مضمر أي فالعامل الصالحُ لنفسه. وقوله «فَعَلَيْهَا» مثله.
ثم قال: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ والكلام على نظيره قد تقدم في سورة آل عمران عند قوله: ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [آل عمران: ١٨٢].
قوله (تعالى) :﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة﴾ لما هدد الكفار بقووله: ﴿من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها﴾ ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه يوم القيامة، فكأن سائلاً قال: ومتى يكون ذلك اليوم؟ فقال تعالى: إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة وقت ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال: إليه يرد علم الساعة وهذه الكلمة تفيد الحصر، أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله تعالى وكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين:
أحدهما: قوله: ﴿وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا﴾.
والثاني: قوله: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾.
152
قوله: ﴿وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ﴾ ما هذه يجوز أن تكون نافية وهو الظاهر وأن تكون موصولة جوَّز ذلك أبو البقاء، ولم يبين وجهه، وبيانه أنها مجرورة المحمل عطف على الساعى أي (علم الساعة) وعلم التي تخرج، و «مِنْ ثَمَراتٍ» على هذا حال، أو تكون «مِن» للبيان، و «مِن» الثانية لابتداء الغاية. وأما الثانية فنافية فقط. قال أبو البقاء: لأنه عطف عليها «وَلاَ تَضَعُ» ثم نقض النفي بإلا ولو كانت مبعنى الذي معطوف على الساعة لم يَجُزْ ذلك.
وقرأ نافعٌ وابن عامر «ثَمَراتٍ» ويقويه أنها رُسِمَتْ بالتاء الممطوطة والباقون ثمرة بالإفراد، والمراد بها الجنس، فإن كانت «ما» نافية كانت «مِنْ» مزيدة في الفاعل، وإن كانت موصولة كانت للبيان كما تقدم. والأكمام جمع «كِمّ» بكسر الكاف؛ كذا ضبطه الزمخشري، وهو ما يغطي الثمرة كجُفِّ الطَّلع. وقال الراغب: الكُم ما يغطي اليد من القميس وما يغطي الثمرة وجمعه: أكمامٌ، وهذا يدل على أنه مضموم الكاف؛ إذ جعله مُشْتَرَكاً بين «كم» القميص، و «كم» الثمرة، ولا خلاف في «كُم» القميص بالضم فيجوز أن يكون في وعاء الثمرة لغتان، دون «كم» القميص جمعاً بين قوليهما. وأما أَكمَةٌ فواحدها «كِمامٌ» كأزمَّةٍ وزمامٍ.
قال أبو عبيدة: أكمامها أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم وكمَّة. قال
153
ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : يعنى الكُفُرَّى قبل أن تنشقَّ. ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ أي إليه يرد علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنِّتاج.
قوله: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي﴾ أي بحسب زعمكم واعتقادكم. (و) ابن كثير ياء شُركائي. ﴿قالوا آذَنَّاكَ﴾ قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : أسمعناك، كقوله
﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ [الإنشقاق: ٢]، يعني سمعت. وقال الكلبي: أعلمناك، قال بان الخطيب: وهذا بعيد؛ لأن أهل القيامة يعملون أن الله تعالى يعلم الأشياء علماً واجباً، فالإعلام في حقه محال.
قوله: ﴿مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ﴾ هذه الجملة المنفية معلقة «لآذناك» ؛ لأنهما يمعنى أعلمناكَ، قال:
﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ ﴾ الآية. تقدم تفسيرها في آخر
٤٣٦٦ - آذَنَتْنَا ببَيْنها أَسْمَاءُ رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ مِنْهُ الثَّواءُ
وتقدم الخلاف في تعليق أعلم. و «مِنْ» للغاية. والصحيح وقوعه سماعاً من العرب. وجوَّز أبو حاتم أن يوقف على «آذنَّاكَ» وعلى «ظنوا» ويبتدأ بالنفي بعدهما على سبيل الاستئناف. و «مِنّا» خبر مقدم. و «مِنْ شَهِيدٍ» مبتدأ، ويجوز أن يكون «مِنْ شَهِيدٍ» فاعلاً بالجار قبله؛ لاعتماده على النفي.

فصل


في معنى الآية وجوه:
قيل: ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكاً لما عاينوا العذاب تبرأوا من الأصنام.
154
وقيل: معناه ما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم فلا يبصرونها في ساعة التوبيخ وقيل: هذا كلام الأصنام كأن الله يجيبها، ثم إنها تقول: «مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ» بصحة ما أضافه إلينا من الشركة، وعلى هذا التقدير فمعنى ضلالهم عنهم (أنهم لا ينفعونهم وهي معنى قوله: ﴿وَضَلَّ عَنْهُم) مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ﴾ [فصلت: ٤٨].
155
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ ﴾ وجه تعلقه بما قبله كأنه قيل : إنا لما آتينا موسى الكتاب فقبله بعضهم و ردَّهُ آخرون فكذلك آتيناك هذا الكتاب، فقبله بعضهم وهم أصحابك، ورده آخرون وهم الذين يقولون : قلبونا في أكنة مما تدعوننا إليه١. ثم قال :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ ﴾ يعني في تأخير العذاب عنهم ﴿ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ وهو يقوم القيامة ﴿ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع أي لفرغ من عذابهم وعجل إهلاكهم ﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ﴾ من صدقك وكتابك «مُرِيبٍ » موقع لهم الريبة، فلا ينبغي أن يعظم استيحاشك من قولهم :﴿ قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ﴾.
١ الرازي ٢٧/١٣٤..
ثم قال :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ يعنى خفف على نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم وإن كفروا فضرر كفرهم يعود عليهم فالله١ سبحانه وتعالى يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾٢.
قوله :«فلنفسه » يجوز أن يتعلق بفعل مقدر أي فلنفسه عملهُ٣، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي فالعامل الصالحُ لنفسه٤. وقوله «فَعَلَيْهَا » مثله.
ثم قال :﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ والكلام على نظيره قد تقدم في سورة آل عمران عند قوله :﴿ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [ آل عمران : ١٨٢ ].
١ في ب والله، بالواو..
٢ انظر المرجعين السابقين..
٣ الدر المصون ٤/٧٣٨..
٤ التبيان ١١٢٨..
قوله ( تعالى )١ :﴿ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة ﴾ لما هدد الكفار بقوله :﴿ من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ﴾ ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه يوم القيامة، فكأن سائلاً قال : ومتى يكون ذلك اليوم ؟ فقال تعالى : إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة وقت ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال : إليه يرد علم الساعة وهذه الكلمة تفيد الحصر، أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله تعالى وكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين :
أحدهما : قوله :﴿ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا ﴾.
والثاني : قوله :﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ﴾٢.
قوله :﴿ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ ﴾٣ ما٤ هذه يجوز أن تكون نافية وهو الظاهر وأن تكون موصولة جوَّز ذلك أبو البقاء٥، ولم يبين وجهه، وبيانه أنها مجرورة المحمل عطف على الساعة أي ( علم الساعة )٦ وعلم التي تخرج، و «مِنْ ثَمَراتٍ » على هذا حال، أو تكون «مِن » للبيان، و«مِن » الثانية لابتداء الغاية. وأما الثانية فنافية فقط. قال أبو البقاء : لأنه عطف عليها «وَلاَ تَضَعُ » ثم نقض النفي بإلا ولو كانت بمعنى الذي معطوفة على الساعة لم يَجُزْ ذلك٧.
وقرأ نافعٌ وابن عامر «ثَمَراتٍ »٨ ويقويه أنها رُسِمَتْ بالتاء الممطوطة والباقون ثمرة بالإفراد، والمراد بها الجنس، فإن كانت «ما » نافية كانت «مِنْ » مزيدة في٩ الفاعل، و إن كانت موصولة كانت للبيان١٠ كما تقدم. والأكمام جمع «كِمّ » بكسر الكاف ؛ كذا ضبطه الزمخشري١١، وهو ما يغطي الثمرة كجُفِّ الطَّلع١٢. و قال الراغب : الكُم ما يغطي اليد من القميص وما يغطي الثمرة وجمعه : أكمامٌ١٣، وهذا يدل على أنه مضموم الكاف ؛ إذ جعله مُشْتَرَكاً بين «كم » القميص، و«كم » الثمرة، ولا خلاف في «كُم » القميص بالضم فيجوز أن يكون في وعاء الثمرة لغتان، دون «كم » القميص جمعاً بين قوليهما١٤. وأما أَكمَةٌ فواحدها «كِمامٌ » كأزمَّةٍ وزمامٍ١٥.
قال أبو عبيدة : أكمامها أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم١٦ وكمَّة. قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١٧ : يعنى الكُفُرَّى١٨ قبل أن تنشقَّ. ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ﴾ أي إليه يرد علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنِّتاج١٩.
قوله :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي ﴾ أي بحسب زعمكم واعتقادكم. ( و ) ابن كثير ياء شُركائي٢٠. ﴿ قالوا آذَنَّاكَ ﴾ قال ابن عباس ( رضي الله٢١ عنهما ) : أسمعناك، كقوله ﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ [ الإنشقاق : ٢ ]، يعني سمعت. وقال الكلبي : أعلمناك، قال ابن الخطيب : وهذا بعيد ؛ لأن أهل القيامة يعملون أن الله تعالى يعلم الأشياء علماً واجباً، فالإعلام في حقه محال٢٢.
قوله :﴿ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ﴾ هذه الجملة المنفية معلقة «لآذناك » ؛ لأنهما بمعنى أعلمناكَ، قال :
٤٣٦٦ آذَنَتْنَا ببَيْنها أَسْمَاءُ رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ مِنْهُ الثَّواءُ٢٣
وتقدم الخلاف في تعليق أعلم٢٤. و«مِنْ » للغاية. والصحيح وقوعه سماعاً من العرب. وجوَّز أبو حاتم أن يوقف على «آذنَّاكَ » وعلى «ظنوا » ويبتدأ بالنفي بعدهما على سبيل الاستئناف. و«مِنّا » خبر مقدم. و«مِنْ شَهِيدٍ » مبتدأ، ويجوز أن يكون «مِنْ شَهِيدٍ » فاعلاً بالجار قبله ؛ لاعتماده على النفي٢٥.

فصل


في معنى الآية وجوه :
قيل : ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكاً لما عاينوا العذاب تبرأوا من الأصنام.
وقيل : معناه ما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم فلا يبصرونها في ساعة التوبيخ وقيل : هذا كلام الأصنام كأن الله يجيبها، ثم إنها تقول :«مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ » بصحة ما أضافه إلينا من الشركة، وعلى هذا التقدير فمعنى ضلالهم عنهم ( أنهم٢٦ لا ينفعونهم وهي معنى قوله :﴿ وَضَلَّ عَنْهُم ) مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ ﴾ [ فصلت : ٤٨ ].
١ زيادة من أ الأصل..
٢ قاله الإمام الرازي في التفسير الكبير ٢٧/١٣٦ و١٣٧..
٣ ضبطت في النسخ ثمرة بالإفراد..
٤ في ب يجوز أن تكون "ما" نافية.. الخ..
٥ التبيان ١١٢٨..
٦ ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر..
٧ في التبيان لم يستقم وكل هذا أخذ من التبيان لأبي البقاء ١١٢٨..
٨ هي القراءة المعهودة عن حفص عن عاصم وهي قراءة متواترة انظر السبعة لابن مجاهد ٥٧٧ والكشف لمكي ٢/٢٤٩..
٩ وهو ثمرات وهو حينئذ يكون مرفوعا بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال النحل بحركة حرف الجر الزائد..
١٠ انظر الدر المصون ٤/٧٣٩..
١١ الكشاف ٣/٤٥٦..
١٢ في النخل خاصة ويسميه عوام الناس الكوز وانظر اللسان "جفف" ٦٤٢..
١٣ المفردات للراغب ٤٤١..
١٤ في ب قولهما وفي اللسان: والكم للطلع ـ بضم الكاف ـ وقد ضبطت في المحكم والتهذيب بالضم ككم القميص. بينما وجدت في المصباح والقاموس والنهاية كم الطلع وكل نور بالكسر وانظر اللسان كمم ٣٩٣١ والقاموس والمصباح "كمم"..
١٥ نقل صاحب اللسان عن الجوهري: والكم بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور، والجمع كمام وأكمه وأكمام اللسان المرجع السابق..
١٦ في ب كمة وانظر المجاز ٢/١٩٨ "أي أوعيتها واحدتها كمة" وهو ما كانت فيه وكم وكمة واحد وجمعهما أكمام وأكمة..
١٧ زيادة من أ..
١٨ وهي وعاء طلع النخل والكافور. ، اللسان كفر..
١٩ انظر معالم التنزيل ٦/١١٤..
٢٠ الإتحاف ٣٨٢ وهي من الأربع فوق العشر المتواترة..
٢١ زيادة من أ..
٢٢ الرازي ٢٧/١٣٦..
٢٣ البيت من الخفيف، وهو مطلع معلقة الحارث بن حلزة اليشكري وأسماء اسم امرأة. والبين البعد والمعنى لا نمل إقامة هذه المرأة بيننا لكنها أعلمتنا بالرحيل.
والشاهد: آذنتنا فإنها بمعنى أعلمتنا. وقد تقدم..

٢٤ للثاني والثالث من مفاعيل أعلم وأرى ما كان لهما في باب "علم ورأى" من جواز الإلغاء والتعليق وغيرهما ومنع قوم الإلغاء والتعليق هنا سواء ثبت للفاعل أو للمفعول، وعليه ابن النحاس وابن أبي الربيع لأن مبنى الكلام عليهما ولا يجيء بعدما مضى الكلام على الابتداء ومنعهما آخرون إن ثبت للفاعل وعليه الجزولي؛ لما فيه من إعمالها في المفعول الأول وإلغائها بالنسبة إلى الأخيرين وذلك تناقض لأنه بقوة وضعف معا بخلاف ما إذا لم يثبت للمفعول. ومنع آخرون التعليق دون الإلغاء وعليه الأكثرون، ومنع قوم إلغاء أعلم دون أرى، وعليه الشلوبين؛ لأن أعلم مؤثر فلا يلغى كما تلغى الأفعال المؤثرة. وأرى بمعنى أذن موافقة في الإلغاء كما وافقه في المعنى. انظر الهمع ١/١٥٨..
٢٥ انظر في هذا التبيان للعكبري ١١٢٨ و١١٢٩ والدر المصون ٤/٧٤٠..
٢٦ ما بين القوسين سقط من أ الأصل..
قوله تعالى: ﴿وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ﴾ كقوله: «مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» ومعناه: أنهم أيقنوا أنهم لا محيص لهم عن النار أي مهرب، وهذا ابتداء كلام من الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿اَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير﴾... الآية لما بين تعالى من حال هؤلاء الكفار (أنهم) بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله في الدنيا تبرأُوا عن تلك الشركاء في الآخرة بين أن الإنسان في جميع الأوقات متغير الأحوال، فإن أحسَّ بخير وقدرة تعاظم، وإن أَحسَّ ببلاءٍ ومحنةٍ ذُلَّ. والمعنى أن الإنسان في حال الإقبال لا ينتهي إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها، وفي مجال الإدبار والحِرمان يصير آيساً قناطاً. وفي قوله ﴿فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ مُبالغةٌ من وجيهن:
أحدهما: من طريق فعول.
والثاني: من طريق التكرار.
واليأس من صفة القلب، والقنوط أن يظهر آثار اليأس في الوجه والأحوال الظاهر.
ثم بين تعالى أن الذين صار آيساً قانطاً لو عاودَتْهُ النعمة والدَّولة وهو قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ
155
رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} فِإنه يأتي بثلاثة أنواع من الأقوايل الفاسدة الموجبة للكفر والبعد عن الله.
فالأول: قوله ﴿لَيَقُولَنَّ هذا لِي﴾ وهو جواب القسم لسبقه الشرط، وجواب الشرط محذوف كما تقدم تقريره.
وقال أبو البقاء: ليقولن جواب الشرط والفاء محذوفة. قال شهاب الدين (رَحِمَهُ اللَّهُ) وهو لايجوز إلا في شعر كقوله:
٤٣٦٧ - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا........................
حتى إنَّ المبرد يمنعه في الشعر، ويروى البيت:
٤٣٦٨ - مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ فَالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ... فصل
معنى قوله: «هذَا لي» أي هذا حقي وصل إِليَّ؛ لأني استوجبته بعلمي وعملي، ولا يعلم المِسْكِنُ أن أحداً لا يستحق على الله شيئاً، لأنه إن كان عارياً من الفضائل، فلاكمه ظاهر الفساد، وإن كان موصوفاً بشيء من الفضائل والصفات الحميدة فهي إنما حصلت بفضل الله تعالى وإحسانه، فيثبتُ بهذا فساد قوله: إنما حصلت هذه الخيرات بسبب استحقاقي.
النوع الثاني من كلامه الفاسد: قوله: ﴿وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً﴾، والمعنى أنه يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النُّفرة عن الآخرة فإذا آل الأمرُ إلى أحوال الدنيا يقول: إنها لي، وإذا آل الأمر إلى الآخرة يقول: وَمَا أظُنُّّ السَّاعَةَ قَائِمَة.
النوع الثالث: من كلامه الفساد: قوله: ﴿وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى﴾ أي أن هذا الكافر يقول: لست على يقين من البعث وإن كان الأمر على ذلك ورُدِدْتُ إلى ربي إن لي عنده الحسنى أي الجنة، كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة: ولما
156
حكى الله عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال: ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ﴾ قال ابن عباس رضي الله عهما: لنوقفنّهم على مساوىء أعمالهم ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ وهذا في مقابلة قوله: ﴿إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى﴾.
ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الآفات حكى أفعاله أيضاً فقال: ﴿وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ أي أعرض عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله. ﴿وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ أي تعاظم، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع. ومعنى «عريض» كبير. والعرب تستعمل الطُّول والعَرْضَ في الكثرة، يقال: أَطَاللَ فلانٌ الكَلاَم والدعاءَ وأعْرَضَ أي أَكثَرَ.
قوله تعالى: (قلْ أرَأيْتُمْ) تقدم الكلام عليها، ومفعولها الأول هنا محذوف، تقديره أرأيتم أنْفُسَكُمْ والثاني هو الجملة الاستفهامية.

فصل


ومعنى الآية إنكم لما سمعتم هذا القول القرآن أعرضتم عنه، وما تأملتهم فيه وبالغتم في النُّفرةِ عنه حتى قلتم قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه وفي آذننا وقر ومن المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلاً وليس العلم فساد القول بالتوحيد والنبوة علماً بديهيًّا فقيل: الدليل يحتمل أن يكون صحيحاً، وأن يكون فساداً، فتبقدير أن يكون صحيحاً كان إصراركم على دفعة من أعظم موجبات العقاب فيجب عليكم أن تتركوا هذه النفرة، وأن ترجعوا إلى النظر والاستدلال فإن دَلَّ دليل على صحته قَبِلْتُموهُ، وإن دل دليل على فساده تركتموه، وقبل الدليل فالإصرار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل.
فقوله: ﴿مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ موضوع موضع بيان حالهم وصفتهم.
ولما ذكر هذه الوجوه الكثرة في تقرير التوحيد والنبوة آجاب عن شبهات المشركين فقال: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ﴾ الآفاق جمع أفق وهو الناحية. نقل النَّوَوِيُّ في التهذيب قال أهل اللغة: الآفاق النَّواحِي، الواحد أفُق بضم الهمزة والفاء، وأُفْق بإسكان الفاء قال الشاعر (رَحِمَهُ اللَّهُ) :
157
وهو كأعناقٍ في عنق، أُبْدِلَتْ همزته ألفاً. ونقل الراغب أنه يقال: أَفَقٌ بفتح الهمزة والفاء فيكون كجبلٍ وأجبالٍ. وأفَقَ فلانٌ أي ذهب في الآفاق. والآفِقُ الذي بلغ نهاية الكرم تشبيهاً في ذلك بالذهاب في الآفاق. والنسبة إلى اأفق أَفَقيّ بفتحهما. ويحتمل أن نسب إلى المفتوح ثم استغنوا بذلك عن النسبة إلى المضموم، وله نظائر. قال النووي: قالوا: والنسبة إليه أُفُقيّ بضم الهمزة والفاء وبفتحهما لغتان مشهورتانِ.

فصل


قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : معنى قوله سنريهنم آياتنا في الآفاق أي منازل الأمم الخالية وفي أنفسهم بالبلاء والأمراض. وقال قتادة: يعني وقائع الله تعالى في الأمم الخالية وفي أنفسهم يوم بدر. وقال مجاهد والحسن والسدي: ما يفتح الله من القُرى على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمين وفي أنفسهم: فتح مكة.
فإن قيل: حمل الآية على (هذا) الوجه بعيد؛ لأن أقصى ما في الباب أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استولى على البلاد المحيطة بمكة ثم استولى على مكة إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقاً فإنا نرى بعض الكفار قد يستولي على بلاد المسلمين وعلى مولكهم (وهذا يدل على كونهم) محقين.
فالجواب: أنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على تلك البلاد على كونه محقاً في ادعاء النبوة، بل يستدل به من حيث إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبر عن أنه سيستولي عليها ويقهر أهلها وهذا إخبار عن الغيب، وقند وقع مُخْبَره مطابقاً لخَبَرِهِ، فيكون هذا إخباراً صدقاً عن الغيب فيكون معجزاً فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا
158
الاستيلاء على كون هذا الدين حقاً. وقال عطاء وابن زيد: في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم، وآيات الليل والنهار، والأضواء، والظلال والظلمات والنبات والأشجار والأنهار، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة، وبديع الحمكة، في كيفية تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام، وحدوث الأعضاء العجيبة، والتركيبات الغريبة، كقوله: ﴿وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١] يعني نريهم هذه الدلائل ﴿حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق﴾ من عند الله يعني محمداً صلى لله عليه وسلم، وأنه مرسل من عند الله.
فإن قيل: هذا الوجه ضعيف، لأ، قوله تعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا﴾ يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد أطلعهم علهيا قبل ذلك فيعتذر حمل اللفظ على هذا الوجه.
فالجواب: أن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب (التي أَوْدَعَهَا الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها فهو تعالى يطعلهم على تلك العجائب زماناً فزماناً؛ لأن كل أحد رأى بنية الإنسان وشاهدها، إلا أن العجائب) إلى أبدعها الله تعالى في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها، والذي وقف على شيء منها كلَّما أزداد وقوفاً على تلك العجائب ازْدَاد يقينا وتعظيماً، وكذلك التركيبات (الفلكية أيضاً).
والأولى أن يقال: إن كان المراد بقوله: ﴿حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق﴾ وهو الرسول فقول مجاهد أولى وإن كان المراد به الدين والتوحيد فهذا أولى.
قوله: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن الباء مزيدة في الفاعل، وهذا هو الراجح، والمفعول محذوف، أي أَوَ لَمْ يكف ربُّك.
وفي قوله: ﴿أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ وجهان:
أحدهما: أنه بدل من «بربك» فيكون مرفوع المحل، مجرور اللفظ كمتبوعه.
والثاني: أن الأصل بأنه، تم حذف الجار فجرى الخلاف.
الثاني من الوجهين الأولين: أن يكون «بِرَبَّكَ» هو المفعول و «أنه» وما بعده هو
159
الفاعل، أي أو لم يكف ربَّك شَهَادَته.
وقرىء: «إنَّه على كلِّ» «بالكسر»، وهو على إضمار القول أو على الأستئناف.

فصل


اعلم أن قوله «بِرَبِّك» في موضع الرفع على أنه فاعل كما تقدم ومعناه: أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد، أي شهيداً على الأشياء لأنه خلق الدلائل الدالة عليها.
وقال مقاتبل: أو لم يكفِ بربك شاهداً أن القرآن من الله عزَّ وجلَّ. قال الزجاج: معنى الكفاية ههنا أن الله عزَّ وجلَّ قد بين من الدلائل ما فيه كِفَاية.
قوله: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ﴾ أي في شك من البعث والقيامة. وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن في مُرْيَة بضم الميم وقد تقدم أنها لغة في المكسورة الميم.
ثم قال: ﴿أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ﴾ أي عالم بكل المعلومات (التي لا نهاية لها فيعلم بواطن الكفر وظواهرهم ويجازي كل واحد على فعله).
فإن قيل: الإحاطة مشعرة بالنهاية، وهذا يقتضي أن يكون معلومه مُتَنَاهِياً!
فالجواب: أن قوله: ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ﴾ يقتضي أن يكون عمله بكل شيء محيطاً أي بكلّ واحد من الأشياء وهذا يقتضي أن يكون واحدٌ منها متناهياً لا كون مجموعها متناهياً والله أعلم.
روى الثعلبي في تفسيره أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «من قرأ حم السجدة أعطاه الله من الأجر بكل حرف منها عَشرَ حَسَنَاتٍ».
160
سورة الشورى
161
قوله تعالى :﴿ لاَ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَاءِ الخير ﴾. . . الآية لما بين تعالى من حال هؤلاء الكفار ( أنهم )١ بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله في الدنيا تبرأُوا عن تلك الشركاء في الآخرة بين أن الإنسان في جميع الأوقات متغير الأحوال، فإن أحسَّ بخير وقدرة تعاظم، وإن أَحسَّ ببلاءٍ ومحنةٍ ذُلَّ. والمعنى أن الإنسان في حال الإقبال لا ينتهي إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها، وفي مجال الإدبار والحِرمان يصير آيساً قناطاً. وفي قوله ﴿ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ﴾ مُبالغةٌ من وجهين :
أحدهما : من طريق فعول.
والثاني : من طريق التكرار.
واليأس من صفة القلب، والقنوط أن يظهر آثار اليأس في الوجه والأحوال الظاهرة.
١ سقط من ب..
ثم بين تعالى أن الذين صار آيساً قانطاً لو عاودَتْهُ النعمة والدَّولة١ وهو قوله :﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ﴾ فِإنه يأتي بثلاثة أنواع من الأقاويل الفاسدة الموجبة للكفر والبعد عن الله٢.
فالأول : قوله ﴿ لَيَقُولَنَّ هذا لِي ﴾ وهو جواب القسم لسبقه الشرط، وجواب الشرط محذوف كما تقدم تقريره٣.
وقال أبو البقاء : ليقولن جواب الشرط والفاء محذوفة٤. قال شهاب الدين ( رحمه الله٥ ) وهو لا يجوز إلا في شعر كقوله :
٤٣٦٧ مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ***. . . . . . . . . . . . . . . ٦
حتى إنَّ المبرد يمنعه في الشعر، ويروى البيت :
٤٣٦٨ مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ فَالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ٧ ***. . .

فصل


معنى قوله :«هذَا لي » أي هذا حقي وصل إِليَّ ؛ لأني استوجبته بعلمي وعملي، ولا يعلم المِسْكيِنُ أن أحداً لا يستحق على الله شيئاً، لأنه إن كان عارياً من الفضائل، فكلامه ظاهر الفساد، وإن كان موصوفاً بشيء من الفضائل والصفات الحميدة فهي إنما حصلت بفضل الله تعالى وإحسانه، فيثبتُ بهذا فساد قوله : إنما حصلت هذه الخيرات بسبب استحقاقي.
النوع الثاني من كلامه الفاسد : قوله :﴿ وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً ﴾، والمعنى أنه يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النُّفرة عن الآخرة فإذا آل الأمرُ إلى أحوال الدنيا يقول : إنها لي، وإذا آل الأمر إلى الآخرة يقول : وَمَا أظُنُّّ السَّاعَةَ قَائِمَة.
النوع الثالث : من كلامه الفساد : قوله :﴿ وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى ﴾ أي أن هذا الكافر يقول : لست على يقين من البعث وإن كان الأمر على ذلك ورُدِدْتُ إلى ربي إن لي عنده الحسنى أي الجنة، كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة. ولما حكى الله عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال٨ :﴿ فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ قال ابن عباس٩ رضي الله عنهما : لنوقفنّهم على مساوئ أعمالهم ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ وهذا في مقابلة قوله :﴿ إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى ﴾.
١ الدولة ـ بضم الدال أو فتحها على خلاف في ذلك ـ العقبى في المآل وانظر اللسان دول ١٤٥٥..
٢ وانظر في هذا كله الفخر الرازي ٢٧/١٣٧..
٣ ذكره السمين في الدر ٤/٧٤٠ وانظر التبيان ١١٢٩..
٤ السابق..
٥ زيادة من أ..
٦ صدر بيت من البسيط عجزه:
............................... والشر بالشر عند الله مثلان
وهو لعبد الرحمن بن حسان. واستشهد بت على حذف الفاء من قوله: "الله يشكرها" والأصل فالله يشكرها، ولم يرتض المبرد هذا. وقد تقدم..

٧ قال المبرد في المقتضب: فلا اختلاف بين النحويين أنه على إرادة الفاء؛ لأن التقديم فيه لا يصلح وانظر نوادر أبي زيد ٢٠٧، ٢٠٨..
٨ الرازي ٢٧/١٣٧ و١٣٨..
٩ البغوي والخازن ٦/١١٥..
ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الآفات حكى أفعاله أيضاً فقال :﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾ أي أعرض عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله. ﴿ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾ أي تعاظم، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع١. ومعنى «عريض » كبير. والعرب تستعمل الطُّول والعَرْضَ في الكثرة، يقال : أَطَالَ فلانٌ الكَلاَم والدعاءَ وأعْرَضَ أي أَكثَرَ٢.
١ الرازي السابق والكشاف ٣/٤٥٧..
٢ المرجعان السابقان..
قوله تعالى :( قلْ أرَأيْتُمْ ) تقدم الكلام عليها، ومفعولها الأول هنا محذوف، تقديره أرأيتم أنْفُسَكُمْ والثاني١ هو الجملة الاستفهامية.

فصل


ومعنى الآية إنكم لما سمعتم هذا القول القرآن أعرضتم عنه، وما تأملتهم فيه وبالغتم في النُّفرةِ عنه حتى قلتم قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه وفي آذننا وقر ومن المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلاً وليس العلم فساد القول بالتوحيد والنبوة علماً بديهيًّا فقيل : الدليل يحتمل أن يكون صحيحاً، وأن يكون فساداً، فبتقدير أن يكون صحيحاً كان إصراركم على دفعة من أعظم موجبات العقاب فيجب عليكم أن تتركوا هذه النفرة، وأن ترجعوا إلى النظر والاستدلال فإن دَلَّ دليل على صحته قَبِلْتُموهُ، وإن دل دليل على فساده تركتموه، وقبل الدليل فالإصرار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل.
فقوله :﴿ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ موضوع موضع بيان حالهم وصفتهم٢.
١ البحر المحيط ٧/٥٠٥، والسمين ٤/٧٤٠..
٢ الرازي ٢٧/١٣٨ و١٣٩..
ولما ذكر هذه الوجوه الكثرة في تقرير التوحيد والنبوة آجاب عن شبهات المشركين فقال :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ ﴾ الآفاق جمع أفق وهو الناحية. نقل النَّوَوِيُّ في التهذيب قال أهل اللغة : الآفاق النَّواحِي، الواحد أفُق بضم الهمزة والفاء، وأُفْق بإسكان الفاء قال الشاعر ( رحمه الله )١ :
٤٣٦٩ - لَوْ نَالَ حَيٌّ مِنَ الدُّنيا بِمَنْزِلَةٍ أُفْقَ السَّمَاءِ لَنَالَتْ كَفُّهُ الأْفُقَا
٤٣٦٩ لَوْ نَالَ حَيٌّ مِنَ الدُّنيا بِمَنْزِلَةٍ أُفْقَ السَّمَاءِ لَنَالَتْ كَفُّهُ الأْفُقَا٢
وهو كأعناقٍ في عنق، أُبْدِلَتْ همزته ألفاً٣. ونقل الراغب أنه يقال : أَفَقٌ بفتح الهمزة والفاء٤ فيكون كجبلٍ وأجبالٍ. وأفَقَ فلانٌ أي ذهب في الآفاق. والآفِقُ الذي بلغ نهاية الكرم تشبيهاً في ذلك بالذاهب في الآفاق. والنسبة إلى الأفق أَفَقيّ بفتحهما٥. ويحتمل أن نسب إلى المفتوح ثم استغنوا بذلك عن النسبة إلى المضموم، وله نظائر٦. قال النووي : قالوا : والنسبة إليه أُفُقيّ بضم الهمزة والفاء وبفتحهما لغتان٧ مشهورتانِ.

فصل


قال ابن عباس ( رضي الله عنهما٨ ) : معنى قوله سنريهم آياتنا في الآفاق أي منازل الأمم الخالية وفي أنفسهم بالبلاء والأمراض. وقال قتادة : يعني وقائع الله تعالى في الأمم الخالية وفي أنفسهم يوم بدر. وقال مجاهد والحسن والسدي : ما يفتح الله من القُرى على محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين وفي أنفسهم : فتح مكة٩.
فإن قيل : حمل الآية على ( هذا ) الوجه بعيد ؛ لأن أقصى ما في الباب أن محمداً صلى الله عليه وسلم استولى على البلاد المحيطة بمكة ثم استولى على مكة إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقاً فإنا نرى بعض الكفار قد يستولي على بلاد المسلمين وعلى ملوكهم١٠ ( وهذا يدل على كونهم ) محقين.
فالجواب : أنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد عليه الصلاة والسلام على تلك البلاد على كونه محقاً في ادعاء النبوة، بل يستدل به من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن أنه سيستولي عليها ويقهر أهلها وهذا إخبار عن الغيب، وقد وقع مُخْبَره مطابقاً لخَبَرِهِ، فيكون هذا إخباراً صدقاً عن الغيب فيكون معجزاً فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقاً. وقال عطاء وابن زيد : في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم، وآيات الليل والنهار، والأضواء، والظلال والظلمات والنبات والأشجار و الأنهار، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة، وبديع الحكمة، في كيفية تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام، وحدوث الأعضاء العجيبة، والتركيبات الغريبة، كقوله :﴿ وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢١ ] يعني نريهم هذه الدلائل ﴿ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق ﴾ من عند الله يعني محمداً صلى لله عليه وسلم، وأنه مرسل من عند الله.
فإن قيل : هذا الوجه ضعيف، لأن قوله تعالى ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا ﴾ يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد أطلعهم عليها قبل ذلك فيتعذر حمل اللفظ على هذا الوجه.
فالجواب : أن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب ( التي أَوْدَعَهَا١١ الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زماناً فزماناً ؛ لأن كل أحد رأى بنية الإنسان وشاهدها، إلا أن العجائب ) إلى أبدعها الله تعالى في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها، والذي وقف على شيء منها كلَّما أزداد وقوفاً على تلك العجائب ازْدَاد يقينا وتعظيماً، وكذلك التركيبات ( الفلكية أيضاً )١٢.
والأولى أن يقال : إن كان المراد بقوله :﴿ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق ﴾١٣ وهو الرسول فقول مجاهد أولى وإن كان المراد به الدين والتوحيد فهذا أولى.
قوله :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن الباء مزيدة في الفاعل، وهذا هو الراجح، والمفعول محذوف، أي أَوَ لَمْ يكف ربُّك١٤.
وفي قوله :﴿ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه بدل من «بربك » فيكون مرفوع المحل، مجرور اللفظ كمتبوعه١٥.
والثاني : أن الأصل بأنه، تم حذف الجار فجرى الخلاف١٦.
الثاني من الوجهين الأولين : أن يكون «بِرَبَّكَ » هو المفعول و«أنه » وما بعده هو الفاعل، أي أو لم يكف ربَّك شَهَادَته.
وقرئ :«إنَّه على كلِّ » «بالكسر »١٧، وهو على إضمار القول أو على الاستئناف.

فصل


اعلم أن قوله «بِرَبِّك » في موضع الرفع على أنه فاعل كما تقدم ومعناه : أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد، أي شهيداً على الأشياء لأنه خلق الدلائل الدالة عليها.
وقال مقاتبل : أو لم يكفِ١٨ بربك شاهداً أن القرآن من الله عزَّ وجلَّ. قال الزجاج : معنى الكفاية ههنا أن الله عزَّ وجلَّ قد بين من الدلائل ما فيه كِفَاية١٩.
١ زيادة من أ..
٢ من البسيط لزهير بن أبي سلمى.
والشاهد في أفق الأولى والثانية حيث إنهما مفرد آفاق والأولى بضم الهمزة وتسكين الفاء والثانية بضم الهمزة والفاء، ومن المحتمل أن يكون للوزن العروضي دخل في هيئة الكلمتين. وانظر الديوان له ٥٥، والبحر المحيط ٧/٤٨١، والدر المصون ٤/٧٤٠..

٣ يقصد أن آفاق جمع عن أفق وآفاق أصلها أأفاق بزنة أفعال، فاجتمعت همزتان الأولى متحركة والثانية ساكنة فأبدلت الثانية من جنس حركة الأولى مثل: آبار، وآثام وغيرهما..
٤ أتى الراغب في كتابه بهذه الكلمة دون ضبط إلا أن محقق الكتاب ضبطها بالكسر..
٥ ومحقق الكتاب ضبطها أيضا بضم الهمزة والفاء واحتمال أن يعود هذا كله إلى الطبع والسهو والله أعلم انظر المفردات (١٩) "أفق"..
٦ قال إمام النحاة سيبويه فيما جاء من النسب شاذا. وفي السهل سهلي وفي الدهر دهري.. وقالوا في الأفق: أفقي، ومن العرب من يقول: أفقي فهو على القياس الكتاب ٣/٣٣٦، وانظر أيضا اللسان أفق ٩٦ ومفردات الراغب السابق ١٩..
٧ انظر تهذيب النووي المرجع السابق..
٨ سقط من ب..
٩ هذه الآراء ذكرها القرطبي في الجامع ١٥/٣٧٤ و٣٧٥..
١٠ ما بين القوسين سقط من أ الأصل..
١١ ما بين القوسين كله سقط من ب بسبب انتقال النظر. وانظر في هذا كله تفسير الإمام الرازي ٢٧/١٣٩ و١٤٠..
١٢ سقط من ب..
١٣ انظر الرازي المرجع السابق..
١٤ انظر الكشاف ٣/٤٥٨ معنى، والبحر المحيط ٧/٥٠٥ والدر المصون ٤/٧٤١ لفظا..
١٥ المرجع السابق بالمعنى من الكشاف السابق أيضا..
١٦ المرجع ما قبل الأخير، وقد نقل هذه الأوجه أبو البقاء في التبيان ١١٢٩ وابن الأنباري في البيان ٢/٣٣٤..
١٧ قراءة شاذة ولم ينسبها أبو حيان في البحر ولا السمين في الدر انظر البحر ٧/٥٠٥، والدر المصون ٤/٧٤١..
١٨ البغوي ٦/١١٥..
١٩ قال: "ومعنى الكفاية ههنا أنه قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة على توحيده وبينت رسله" معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٩٢..
قوله :﴿ أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ ﴾ أي في شك من البعث والقيامة١. وقرأ أبو عبد الرحمن٢ والحسن في مُرْيَة بضم الميم٣ وقد تقدم أنها لغة في المكسورة٤ الميم.
ثم قال :﴿ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ ﴾ أي عالم بكل المعلومات ( التي لا نهاية لها٥ فيعلم بواطن الكفر وظواهرهم ويجازي كل واحد على فعله ).
فإن قيل : الإحاطة مشعرة بالنهاية، وهذا يقتضي أن يكون معلومه٦ مُتَنَاهِياً !
فالجواب : أن قوله :﴿ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ ﴾ يقتضي أن يكون علمه بكل شيء محيطاً أي بكلّ واحد من الأشياء وهذا يقتضي أن يكون واحدٌ منها متناهياً لا كون مجموعها متناهياً والله أعلم.
١ قاله البغوي في معالم التنزيل ٦/١١٥ والقرطبي في الجامع ١٥/٣٧٥..
٢ هو أبو عبد الرحمن السلمي وقد تقدم التعريف به..
٣ نقلها صاحب الإتحاف من الآية ١١ من هود وعلى ذلك فهي من الأربع الشواذ فوق العشر المتواترات وذكرها كقراءة الزمخشري في الكشاف ٣/٤٥٨..
٤ قال في اللسان: والمرية والمرية الشك والجدل بالكسر والضم وقرئ بهما في قوله عز وجل "فلا تك في مرية منه". قال ثعلب: هما لغتان، قال: وأما مرية الناقة فليس فيها إلا الكسر (ومرية الناقة أي التي تدر على من يمسح ضروعها) والضم غلط. اللسان (مرا) ٤١٨٩..
٥ ما بين القوسين ساقط من أ الأصل..
٦ في ب معلوما وفي الرازي علومه ففي الثلاث اختلاف لفظي يعود إلى معنى واحد..
Icon