تفسير سورة فصّلت

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿حم﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة) ﴿تَنزِيلٌ﴾ أي هذا القرآن
«تنزيل» ﴿مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ بعباده: أرسل لهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأحاطهم بكل ما ينجيهم، وهيأ لهم أسباب الإيمان واليقين
﴿كِتَابٌ﴾ هو القرآن ﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ بينت؛ بما احتوته من أحكام، وأوامر، ونواه
﴿بَشِيراً﴾ لمن اتبعه بالجنة ﴿وَنَذِيراً﴾ لمن خالفه بالنار ﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ﴾ عن سماع هذا الكتاب وتدبره ﴿فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ سماع تدبر
﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾ أغطية
-[٥٨٣]- ﴿وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ﴾ صمم ﴿وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ حائل ومانع؛ يحول دون اتباعك، وإيماننا بما جئت به. ولم يكن ثمة مانع سوى عنادهم واستكبارهم ﴿فَاعْمَلْ﴾ على دينك ﴿إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ على ديننا ﴿فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ﴾ بالإيمان والطاعة عما فرط منكم؛ ليصلح دنياكم وآخرتكم
{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ *
الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} عبر تعالى عمن لا يؤتي الزكاة بالمشركين، وأنه من الكافرين بيوم الدين. لأنه لو آمن بالجزاء؛ لما بخل بالعطاء؛ فتدبر هذا أيها المؤمن (انظر آيتي ٢٥٤ من سورة البقرة، وصلى الله عليه وسلّم٤صلى الله عليه وسلّم من سورة الأنعام)
﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ غير مقطوع
﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ خلقها تعالى في يومين؛ ولو شاء لخلقها في أقل من لمحة؛ وذلك ليعلم خلقه التدبر والأناة ﴿وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً﴾ شركاء، ونظراء. والند: المثل
﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ جبالاً شامخات ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾ بالماء، والزرع، والضرع، والشجر، والثمر ﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا﴾ أرزاق أهلها، ومعايشهم، وما يصلحهم
﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ﴾ قصد ووجه إرادته وقدرته إليها ﴿وَهِيَ دُخَانٌ﴾ بخار مرتفع كالسحاب؛ والمراد أنها لم تكن شيئاً مذكوراً ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ هو على سبيل المجاز؛ ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان، وامتثالهما ذلك الأمر: أنه تعالى أراد أن يكونهما؛ فلم يمتنعا عليه، ولم يعسر عليه خلقتهما؛ وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع؛ إذا أمره الآمر المطاع
﴿فَقَضَاهُنَّ﴾ خلقهن ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا﴾ السماء الأولى ﴿بِمَصَابِيحَ﴾ كواكب ﴿وَحِفْظاً﴾ أي والكواكب فضلاً عن كونها زينة للسماء؛ فهي أيضاً معدة لحفظها من الشياطين التي تسترق السمع ﴿ذَلِكَ﴾ الخلق، والتزيين، والحفظ ﴿تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ﴾ القادر في ملكه، القاهر في خلقه، الغالب الذي لا يغلب
-[٥٨٤]- ﴿الْعَلِيمِ﴾ بخلقه
﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ﴾ عن الإيمان؛ بعد ظهور بواعث الإيقان ﴿فَقُلْ﴾ لهم ﴿أَنذَرْتُكُمْ﴾ أي أنذركم وأحذركم ﴿صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ أي عذاباً يهلككم؛ مثل العذاب الذي أهلك عاداً وثمود. والصاعقة: نار تنزل من السماء. وعاد: قوم هود. وثمود: قوم صالح
﴿إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ﴾ فأنذرتهم بالعذاب، وحذرتهم من الكفر؛ كما جئتكم وأنذرتكم ﴿جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ﴾ ﴿مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ هو كناية عن كثرة الرسل، وإحاطتهم بهم من كل مكان. أو المراد: تتابع الرسل عليهم؛ متقدمين عنهم ومتأخرين. فكذبوهم، وكفروا بهم
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً﴾ عاصفة، تصرصر في هبوبها؛ أي تصوت، وهو من الصرير ﴿فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾ مشئومات؛ لوقوع العذاب فيها. أما سائر الأيام: فلا شؤم فيها؛ إنما يتولد الشؤم من المعاصي، وإتيان ما يغضب الله تعالى، ويستوجب عقابه. (انظر آية ١٣صلى الله عليه وسلّم من سورة الأعراف) ﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى﴾ أشد، وأفدح، وأفضح ﴿وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ﴾ لا يستطيع أحد أن يمنع وقوعه بهم
﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ أي فمهدنا لهم سبل الهداية: بأن جعلنا لهم عقولاً بها يفقهون، وآذاناً بها يسمعون، وأعيناً بها يبصرون؛ وأعددناهم بذلك للرؤية، والاستماع والتفهم؛ ثم أرسلنا لهم الرسل، وأبنا لهم طرق الرشد، وحذرناهم من الوقوع في شرك الشيطان، والسقوط في مهاوي الضلال ﴿فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ أي فاختاروا - برغبتهم وميلهم - الكفر على الإيمان ﴿الْعَذَابِ الْهُونِ﴾ المهين ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ بما كانوا يعملون من المعاصي
﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ يساقون بكثرة إلى النار؛ بحيث يحبس أولهم على آخرهم
﴿حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا﴾ أي جاءوا القيامة، أو جاءوا الجحيم ﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم﴾ يشهد «سمعهم» بما سمع من الغيبة «وأبصارهم» بما رأت من الحرام «وجلودهم» بما ارتكبت من زنا؛ لأن المراد بالجلود: الفروج. والتعبير عن الفروج بالجلود: من الكنايات الدقيقة؛ وإلا فأي ذنب تأتيه الجلود الحقيقية؛ إذا فسرناها على ظاهرها؟
﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾ تستخفون من أنفسكم؛ خشية ﴿أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ﴾ وكيف يستخفي الإنسان بذنبه من أعضائه وهي ملتصقة به؟ أو كيف يستخفي بجريمته من جوارحه وهي أداتها، والسبيل إليها؟ ولكنه لما كان هو المسيطر عليها، الدافع لها، المدبر لارتكابها: كان الإثم محيطاً به، والعقاب واقعاً عليه. ولا أدري كيف يعصي الله تعالى عاصيه، أو كيف يجحده جاحده؛ وهو مطلع عليه، وناظر إليه، وجوارحه يوم القيامة شاهدة عليه؟ وما أحسن قول القائل:
هل يستطيع جحود ذنب واحد
رجل جوارحه عليه شهود؟
﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ﴾ من أنه لا يراكم، وأنه ﴿لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ﴿أَرْدَاكُمْ﴾ أهلككم، وأوقعكم في النار ﴿فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِينَ﴾ وقد كان في استطاعتكم أن تكونوا ضمن الفائزين
﴿وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ أي وإن يطلبوا الرضا: فما هم من المرضيين. وذلك لأن العتاب من علائم الرضا، والعتاب: مخاطبة الإدلال. كما أن التوبيخ: مخاطبة الإذلال
﴿وَقَيَّضْنَا﴾ سخرنا وسلطنا ﴿قُرَنَآءَ﴾ أخداناً من الشياطين ﴿وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ وجب عليهم العذاب ﴿فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ﴾ قد مضت
﴿وَالْغَوْاْ فِيهِ﴾ أي شوشوا عليه بكلام ساقط؛ لا معنى له، ولا طائل وراءه
-[٥٨٦]- ﴿لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ المؤمنين؛ بهذا اللغو والتشويش
﴿وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ﴾ هما شيطانا الجن والإنس؛ فإن شيطان الجن يوسوس إلى بعض الناس بالمعصية، ويوسوس إلى بعضهم بالإغراء عليها، والإيقاع فيها، وكثيراً ما يفوق شيطان الإنس شيطان الجن؛ وهذا ظاهر: فإن من شياطين الإنس من يفوق بوسوسته وإغرائه شياطين الجن؛ أعاذنا الله تعالى منهما بمنه، وحمانا من كيدهما بفضله (انظر آية ١١٢ من سورة الأنعام)
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ﴾ عملوا الصالحات وأقاموا على التوحيد ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ﴾ تنزل عليهم عند الموت؛ قائلين لهم ﴿أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ﴾ ولذلك يرى الميت الصالح ضاحكاً عند موته مستبشراً وقيل: هذه البشرى في مواطن ثلاثة: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث
﴿نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ﴾ نصراؤكم. وهو قول المولى عز وجل. أو من قول الملائكة التي تتنزل عليهم بأمر ربهم ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ ما تطلبون، وما تتمنون
﴿نُزُلاً﴾ النزل: ما يعد للضيف من إكرام
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ﴾ إلى طاعته وعبادته؛ وهو الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي إذا أساء إليك مسيء فأحسن إليه. أو «ادفع بالتي هي أحسن»: بالصبر عند الشدة، والكظم عند الغضب، والعفو عند القدرة
-[٥٨٧]- ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ أي بسبب إحسانك لمن أساء إليك: يصير الذي بينك وبينه عداوة؛ كالصاحب المحب المخلص
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ أي وما يلقى، ويوفق إلى هذه الخصلة الحميدة - التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان، والدفع بالتي هي أحسن - إلا أهل الصبر، الذين لهم عند ربهم حظ عظيم؛ إذ فازوا بجنته، وحظوا بمعيته «إن الله مع الصابرين... وبشر الصابرين... والله يحب الصابرين... ولئن صبرتم لهو خير للصابرين»
﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ﴾ النزغ: الإغراء. أي فإن أغراك الشيطان على ما لا ينبغي؛ من عدم الدفع بالتي هي أحسن، ومقابلة الإساءة بأسوأ منها ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ الجأ إليه، واطلب منه تعالى إنجاءك من كيده وشره فرب شرارة أذكت ناراً، وكلمة أشعلت حرباً؛ وكم رأينا من مجازر بشرية؛ ضاع فيها كثير من الأنفس البريئة؛ بسبب كلمة بسيطة؛ كان علاجها شيء من الحلم، وقليل من الكظم. وذلك من عمل الشيطان الغوي المضل
وَمِنْ آيَاتِهِ} تعالى؛ الدالة على قدرته ووحدانيته ﴿اللَّيْلُ﴾ وقد جعله لباساً؛ لتسكنوا فيه ﴿وَالنَّهَارُ﴾ مبصراً؛ لتبتغوا من فضله ﴿وَالشَّمْسُ﴾ وقد جعلها ضياء ﴿وَالْقَمَرُ﴾ نوراً. خلق الله تعالى كل ذلك لكم؛ ليدل به على وجوده، وَجُوده؛ فاتخذتم منها آلهة تعبدونها ﴿لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ﴾ فإنهما مخلوقان أمثالكم ﴿وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ﴾ المعبود؛ واجب الوجود ﴿الَّذِي﴾ خلقكم، و ﴿خَلَقَهُنَّ﴾ فكيف تعبدون المخلوق، وتذرون أحسن الخالقين؟
﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ﴾ عن عبادة الرحمن، وأصروا على اتباع الشيطان ﴿فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ﴾ من الملائكة عليهم السلام؛ يعبدونه حق عبادته، و ﴿يُسَبِّحُونَ لَهُ﴾ ينزهونه ويقدسونه ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ﴾ لا يملون من عبادته تعالى، وتنزيهه وتقديسه ﴿يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ﴾
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ دلائل قدرته وعظمته وسلطانه ﴿أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً﴾ يابسة؛ لا نبات فيها ﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ تحركت بالنبات وانتفخت ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا﴾ بالإنبات؛ بعد موتها بالجدب ﴿لَمُحْىِ الْمَوْتَى﴾ يوم القيامة للحساب والجزاء
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ أي يغيرون في معانيها، ويميلون بها عن الحق الذي نزلت به. أو «يلحدون في آياتنا» دلائل قدرتنا؛ التي قدمناها وسقناها؛ من إنزال الماء، وإحياء الأرض. بأن يقولوا: إن نزول الماء، بواسطة الأنواء، وطلوع النبات بطبيعة الأشياء ﴿أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ﴾ بسبب كفره وعصيانه، وإلحاده في آيات الله تعالى ﴿خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً﴾
من العذاب؛ بسبب إيمانه، وصالح عمله ﴿اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ﴾ هو غاية الإنذار والتهديد
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ﴾ القرآن ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ منيع، جليل؛ لا يعتريه لغو، أو تناقض
﴿مَّا يُقَالُ لَكَ﴾ يا محمد؛ من الطعن، والسب، والتكذيب ﴿إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ﴾ مثله ﴿لِلرُّسُلِ﴾ الذين أرسلناهم ﴿مِن قَبْلِكَ﴾ كنوح، ولوط، وإبراهيم؛ عليهم السلام ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ﴾ لمن تاب وآمن ﴿وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ لمن كفر وفجر
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً﴾ الأعجمية: هي كل لغة تخالف اللغة العربية ﴿لَّقَالُواْ﴾ محتجين على ذلك ﴿لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ هلا بينت بالعربية حتى نفهمها ﴿ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ أي أقرآن أعجمي، يرسل إلى عربي؟ ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى﴾ يهديهم إلى طريق البر والخير، ويوصلهم إلى الرحمة، والنعمة، والمغفرة، والنعيم المقيم ﴿وَشِفَآءٌ﴾ لما في الصدور وأقسم بكل يمين غموس: أن القرآن الكريم كم أذهب أسقاماً، وأزال آلاماً، وشفى صدوراً، وأبرأ جسوماً وليس بمنقص من قدره، ولا بغاض من فضله: أن يتخذه أناس أداة للتكسب والاحتيال. وقد ورد أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يرقون اللديغ بأم الكتاب فيبرأ لوقته، ويقوم لساعته. وقد أقر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك. فأنعم به من هدى، وأكرم به من شفاء وهو فضلاً عن شفائه الأسقام والأوجاع؛ فإنه يشفي كل من آمن به؛ من الشك والريب ﴿وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ هو ﴿فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ صمم ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ يطمس قلوبهم، ويعمي أبصارهم وبصائرهم ﴿أُوْلَئِكَ﴾ الذين لم يؤمنوا بالقرآن؛ وأصموا أسماعهم عن تلقيه، وأعينهم عن رؤية ما فيه، وقلوبهم عن تفهم معانيه
﴿يُنَادَوْنَ﴾ يوم القيامة ﴿مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ ينادون بأسوإ الصفات، وأقبح السمات: فضيحة لهم، وإزراء بهم، وتقبيحاً لأفعالهم. أو هو تشبيه لعدم استماعهم للنصح في الدنيا؛ كمن ينادي من مكان بعيد؛ فلا يسمع النداء
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراة ﴿فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ كما اختلف في القرآن ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ بتأخير الجزاء والعقاب إلى يوم القيامة ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ في الدنيا ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ أي في شك من القرآن ﴿مُرِيبٍ﴾ موقع في الريبة
﴿إِلَيْهِ﴾ تعالى وحده ﴿يُرَدُّ﴾ يرجع؛ لا إلى أحد من خلقه ﴿عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ معرفة القيامة، ومتى تقوم؟ ﴿وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا﴾ أوعيتها؛ قبل أن تنشق عن الثمرة
-[٥٨٩]- ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾ أي ينادي المشركين؛ قائلاً لهم ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ﴾ الذين أشركتموهم معي في العبادة ﴿قَالُواْ آذَنَّاكَ﴾ أي أعلمناك ﴿مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ﴾ أي ما منا من أحد يشهد، أو يقول: إن لك شريكاً؛ بعد أن عاينا ما عاينا. أو ما منا من أحد يشاهدهم الآن ويراهم؛ حيث إنهم ضلوا عنهم
﴿وَضَلَّ عَنْهُم﴾ غاب ﴿مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ﴾ يعبدون من الأصنام ﴿وَظَنُّواْ﴾ تيقنوا أنهم ﴿مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ﴾ مهرب من العذاب
﴿لاَّ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ﴾ لا يمل ﴿مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ﴾ من طلب المال والعافية ﴿وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ﴾ الفقر، أو المرض ﴿فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ من رحمة الله تعالى واليأس والقنوط: كفر
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾
أي لئن أذقناه عافية من بعد سقم، أو غنى من بعد فقر؛ ليقولن: هذا لي. أي هذا من حقي؛ استوجبته بتقواي وصلاحي، أو بقوتي واجتهادي. وهو في عداد المتكبرين، وفي مقدمة المرائين ﴿وَمَآ أَظُنُّ﴾ أن ﴿السَّاعَةَ قَآئِمَةً﴾ كما يزعم محمد ﴿وَلَئِنْ﴾ قامت كما يقول، و ﴿رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّي﴾ يوم القيامة ﴿إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى﴾ للجنة؛ وهي الجزاء الحسن. وذلك لأن الكافر والمرائي يريان أنهما أولى الناس في الحياة الدنيا بالنعمة، وأحقهم بالعافية، وأنهما أجدر الناس في الآخرة بالثواب والنعيم
﴿وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ﴾ بسعة وغنى ﴿أَعْرَضَ﴾ عن الشكر والعبادة ﴿وَإِذَآ أَنْعَمْنَا﴾ تباعد عن فعل الخير ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ﴾ الفقر، أو المرض ﴿فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ﴾ أي دعاء كثير
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ﴾ هذا القرآن ﴿مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ كما يقول محمد ﴿ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ﴾ كحالكم الآن ﴿مَنْ أَضَلُّ﴾ أي لا أحد أضل ﴿مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ﴾ خلاف في شأن القرآن وصحته ﴿بَعِيدٍ﴾ عن الحق والإيمان
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا﴾ دلائل وحدانيتنا وقدرتنا ﴿فِي الآفَاقِ﴾ أقطار السموات؛ وما فيها من كواكب وبروج، وأنجم وأفلاك. وأقطار الأرض: وما فيها من جبال وبحار، ونبات وأشجار، ومعادن وجواهر، وغير ذلك سنريهم أيضاً آياتنا ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ من بديع الصنعة، ومزيد الحكمة؛ وكيف أنشأناهم من ماء مهين؛ فكانوا بشراً وصهراً أو ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ﴾ بفتح البلاد للمسلمين «وفي أنفسهم» بفتح مكة. أو آيات الآفاق: خراب ديار الأمم السابقة المكذبة، وآيات النفس: الأمراض والبلايا ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ أي القرآن، أو الإسلام، أو أن محمداً هو الرسول الحق ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ﴾ أي أولم يكفهم للإيمان بربهم: ما ساقه من أدلة وجوده وتوحيده؟
-[٥٩٠]- و ﴿أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ مشاهد وعالم، ومجاز عليه
﴿أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ﴾ في شك ﴿مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ﴾ وثوابه وعقابه؛ يوم القيامة ﴿أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ﴾ قدرة وعلماً.
590
سورة الشورى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

590
Icon