تفسير سورة الرعد

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
قيل مكية وقيل مدنية

﴿ تِلْكَ ﴾ إشارة إلى آيات السورة. والمراد بالكتاب السورة، أي : تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها، ثم قال :﴿ والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ من القرآن كله هو ﴿ الحق ﴾ الذي لا مزيد عليه، لا هذه السور وحدها، وفي أسلوب هذا الكلام قول الأنمارية : هم كالحلقة المفرعة، لا يدرى أين طرفاها ؟ تريد الكملة.
﴿ الله ﴾ مبتدأ، و ﴿ الذي ﴾ خبره، بدليل قوله :﴿ وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض ﴾ ويجوز أن يكون صفة. وقوله :﴿ يُدَبّرُ الأمر يُفَصّلُ الآيات ﴾ خبر بعد خبر. وينصره ما تقدّمه من ذكر الآيات ﴿ رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ كلام مستأنف استشهاد برؤيتهم لها كذلك. وقيل : هي صفة لعمد. ويعضده قراءة أبي «ترونه ». وقرئ :«عُمُد »، بضمتين ﴿ يُدَبِّرُ الأمر ﴾ يدبر أمر ملكوته وربوبيته ﴿ يُفَصّلُ ﴾ آياته في كتبه المنزلة ﴿ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ بالجزاء وبأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه. وقرأ الحسن :«ندبر »، بالنون.
﴿ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين ﴾ خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدّها، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت. وقيل : أراد بالزوجين : الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة ﴿ يغشى الليل النهار ﴾ يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً. وقرىء :«يغشّى » بالتشديد.
﴿ قِطَعٌ متجاورات ﴾ بقاع مختلفة، مع كونها متجاورة متلاصقة : طيبة إلى سبخة، وكريمة إلى زهيدة، وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على عكسها، مع انتظامها جميعاً في جنس الأرضية. وذلك دليل على قادر مريد، موقع لأفعاله على وجه دون وجه. وكذلك الزروع والكروم والنخيل النابتة في هذه القطع، مختلفة الأجناس والأنواع، وهي تسقى بماء واحد، وتراها متغايرة الثمر في الأشكال والألوان والطعوم والروائح، متفاضلة فيها. وفي بعض المصاحف : قطعاً متجاورات على : وجعل وقرئ :«وجناتٍ »، بالنصب للعطف على زوجين. أو بالجرّ على كل الثمرات. وقرئ :«وزرعٍ ونخيلٍ »، بالجرّ عطفاً على أعناب أو جنات والصنوان : جمع صنو، وهي النخلة لها رأسان، وأصلها واحد. وقرئ بالضم. والكسر : لغة أهل الحجاز، والضم : لغة بني تميم وقيس ﴿ تَسْقِى ﴾ بالتاء والياء ﴿ وَنُفَضّلُ ﴾ بالنون وبالياء على البناء للفاعل والمفعول جميعاً ﴿ في الأكل ﴾ بضم الكاف وسكونها.
﴿ وَإِن تَعْجَبْ ﴾ يا محمد من قولهم في إنكار البعث، فقولهم عجيب حقيق بأن يتعجب منه ؛ لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعي بخلقهنّ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب ﴿ أَءِذَا كُنَّا ﴾ إلى آخر قولهم : يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم، وأن يكون منصوباً بالقول. وإذا نصب بما دل عليه قوله :﴿ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾، ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ ﴾ أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم ﴿ وَأُوْلَئِكَ الأغلال فِى أعناقهم ﴾ وصف بالإصرار، كقوله :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا ﴾ [ يس : ٨ ] ونحوه :
لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلاَلٌ وَأَقْيَادُ ***
أو هو من جملة الوعيد.
﴿ بالسيئة قَبْلَ الحسنة ﴾ بالنقمة قبل العافية، والإحسان إليهم بالإمهال. وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره ﴿ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات ﴾ أي عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزئوا والمثلة : العقوبة، بوزن السمرة. والمثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، ﴿ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] ويقال : أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته منه. والمثال : القصاص. وقرئ :«المُثُلات » بضمتين لإتباع الفاء العين. و «المَثْلات »، بفتح الميم وسكون الثاء، كما يقال : السمرة. و «المُثْلات » بضم الميم وسكون الثاء، تخفيف «المُثُلات » بضمتين. والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات ﴿ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ ﴾ أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب. ومحله الحال، بمعنى ظالمين لأنفسهم وفيه أوجه. أن يريد السيئات المكفرة لمجتنب الكبائر. أو الكبائر بشرط التوبة. أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال. وروي أنها لما نزلت قال النبي عليه الصلاة والسلام : " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد ".
﴿ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ ﴾ لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عناداً، فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى، من انقلاب العصا حية، وإحياء الموتى، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت رجل أرسلت منذراً ومخوّفاً لهم من سوء العاقبة. وناصحاً كغيرك من الرسل، وما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذر، وصحة ذلك حاصلة بأية آية كانت، والآيات كلها سواء في حصول صحة الدعوة بها لا تفاوت بينها، والذي عنده كل شيء بمقدار يعطي كل نبي آية على حسب ما اقتضاه علمه بالمصالح وتقديره لها ﴿ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ من الأنبياء يهديهم إلى الدين، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية، وبآية خص بها، ولم يجعل الأنبياء شرعاً واحداً في آيات مخصوصة. ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى أنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون، فلا يهمنك ذلك، إنما أنت منذر، فما عليك إلا أن تنذر لا أن تثبت الإيمان في صدورهم، ولست بقادر عليه، ولكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالإلجاء، وهو الله تعالى. ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضاء حكمته أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره : أمر مدبر بالعلم النافذ مقدّر بالحكمة الربانية، ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيراً ومصلحة، لأجابهم إليه. وأما على الوجه الثاني، فقد دل به على أن من هذه قدرته وهذا علمه، هو القادر وحده على هدايتهم، العالم بأي طريق يهديهم، ولا سبيل إلى ذلك لغيره.
﴿ الله يَعْلَمُ ﴾ يحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً، وأن يكون المعنى : هو الله، تفسيراً لهاد على الوجه الأخير، ثم ابتدئ فقيل :﴿ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى ﴾ «وما » في ﴿ مَا تَحْمِلُ ﴾، ﴿ وَمَا تَغِيضُ ﴾، ﴿ وَمَا تَزْدَادُ ﴾ إما موصولة، وإما مصدرية. فإن كانت موصولة، فالمعنى : أنه يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو. من ذكورة وأنوثة، وتمام وخداج، وحسن وقبح، وطول وقصر، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة، ويعلم ما تغيضه الأرحام : أي تنقصه. يقال : غاض الماء وغضته أنا. ومنه قوله تعالى :﴿ وَغِيضَ الماء ﴾ [ هود : ٤٤ ] وما تزداده : أي تأخذه زائداً، تقول : أخذت منه حقي، وازددت منه كذا ومنه قوله تعالى :﴿ وازدادوا تِسْعًا ﴾ [ الكهف : ٢٥ ] ويقال : زدته فزاد بنفسه وازداد، ومما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد، فإنها تشتمل على واحد، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة. ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه. ومنه جسد الولد، فإنه يكون تاما ومخدجاً. ومنه مدة ولادته، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة، وإلى أربع عند الشافعي، وإلى خمس عند مالك، وقيل : إنّ الضحاك ولد لسنتين، وهرم ابن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين، ولذلك سمي هرماً. ومنه الدم، فإنه يقل ويكثر. وإن كانت مصدرية، فالمعنى أنه يعلم حمل كل أنثى، ويعلم غيض الأرحام وازديادها، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ومن أوقاته وأحواله. ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها، على أنّ الفعلين غير متعدّيين، ويعضده قول الحسن : الغيضوضة أن تضع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك، والازدياد أن تزيد على تسعة أشهر. وعنه الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام، والازدياد ما ولد لتمام ﴿ بِمِقْدَارٍ ﴾ بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، كقوله ﴿ إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ ﴾ [ القمر : ٤٩ ].
﴿ الكبير ﴾ العظيم الشأن الذي كل شيء دونه ﴿ المتعال ﴾ المستعلي على كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها.
﴿ سارب ﴾ ذاهب في سربه - بالفتح - أي في طريقه ووجهه. يقال : سرب في الأرض سروباً. والمعنى : سواء عنده من استخفى : أي طلب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته، ومن يضطرب في الطرقات ظاهراً بالنهار يبصره كل أحد. فإن قلت : كان حق العبارة أن يقال : ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار، حتى يتناول معنى الاستواء المستخفي والسارب ؛ وإلا فقد تناول واحداً هو مستخف وسارب قلت : فيه وجهان : أحدهما أنّ قوله ﴿ وَسَارِبٌ ﴾ عطف على من هو مستخف، لا على مستخف، والثاني أنه عطف على مستخف ؛ إلا أن ﴿ مِنْ ﴾ في معنى الاثنين، كقوله :
نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يصْطَحِبَانِ ***
كأنه قيل : سواء منكم اثنان : مستخف بالليل، وسارب بالنهار. والضمير في ﴿ لَهُ ﴾ مردود على ﴿ مِنْ ﴾ كأنه قيل : لمن أسرّ ومن جهر، ومن استخفى ومن سرب.
﴿ معقبات ﴾ جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته، والأصل : معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، كقوله ﴿ وَجَاء المعذرون ﴾ [ التوبة : ٩٠ ] بمعنى المعتذرون. ويجوز معقبات، بكسر العين ولم يقرأ به. أو هو مفعلات من عقبه إذا جاء على عقبه، كما يقال : قفاه، لأنّ بعضهم يعقب بعضاً أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه ﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ هما صفتان جميعاً وليس ﴿ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ بصلة للحفظ، كأنه قيل : له معقبات من أمر الله. أو يحفظونه من أجل أمر الله أي من أجل أنّ الله أمرهم بحفظه. والدليل عليه قراءة علي رضي الله عنه وابن عباس وزيد بن علي وجعفر بن محمد وعكرمة :«يحفظونه بأمر الله ». أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب، بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب، كقوله :﴿ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن ﴾ [ الأنبياء : ٤٢ ] وقيل : المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان، يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله أي من قضاياه ونوازله، أو على التهكم به، وقرئ :«له معاقيب » جمع معقب أو معقبة. والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ ﴾ من العافية والنعمة ﴿ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ من الحال الجميلة بكثرة المعاصي ﴿ مِن وَالٍ ﴾ ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم.
﴿ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ لا يصح أن يكونا مفعولاً لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف، أي : إرادة خوف وطمع. أو على معنى إخافة وإطماعاً، ويجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق، كأنه في نفسه خوف وطمع. أو على : ذا خوف وذا طمع. أو من المخاطبين، أي : خائفين وطامعين. ومعنى الخوف والطمع : أنّ وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق، ويطمع في الغيث. قال أبو الطيب :
فَتَى كالسَّحَابِ الْجُونِ تُخْشَى وَتُرْتَجَى يُرْجَى الْحَيَاء مِنْهَا وَيُخْشَى الصَّوَاعِقُ
وقيل : يخاف المطر من له فيه ضرر، كالمسافر، ومن له في جرينه التمر والزبيب، ومن له بيت يكف، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر، ويطمع فيه من له فيه نفع، ويحيا به ﴿ السحاب ﴾ اسم الجنس، والواحدة سحابة. و ﴿ الثقال ﴾ جمع ثقيلة ؛ لأنك تقول سحابة ثقيلة، وسحاب ثقال، كما تقول : امرأة كريمة ونساء كرام، وهي الثقال بالماء.
﴿ وَيُسَبّحُ الرعد بِحَمْدِهِ ﴾ ويسبح سامع الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له. أي يضجون بسبحان الله والحمد لله. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول :«سبحان من يسبح الرعد بحمده » وعن علي رضي الله عنه : سبحان من سبحت له. وإذا اشتدّ الرعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اللهمّ لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك » وعن ابن عباس.
أنّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو ؟ فقال :«ملك من الملائكة موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب » وعن الحسن : خلق من خلق الله ليس بملك. ومن بدع المتصوّفة. الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم، والمطر بكاؤهم ﴿ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده، وما دلّ على قدرته الباهرة ووحدانيته ثم قال ﴿ وَهُمْ ﴾ يعني الذين كفروا وكذّبوا رسول الله وأنكروا آياته ﴿ يجادلون فِى الله ﴾ حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث وإعاد، الخلائق بقولهم ﴿ مِنْ يحيى العظام وَهِىَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ] ويردّون الوحدانية باتخاذ الشركاء والأنداد، ويجعلونه بعض الأجسام المتوالدة بقولهم ﴿ الملائكة * بَنَات الله ﴾ فهذا جدالهم بالباطل، كقولهم ﴿ وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق ﴾ [ غافر : ٥ ] وقيل : الواو للحال. أي : فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم. وذلك أنّ أربد أخا لبيد ابن ربيعة العامري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم - حين وفد عليه مع عامر بن الطفيل قاصدين لقتله فرمى الله عامراً بغدّة كغدّة البعير وموت في بيت سلولية، وأرسل على أربد صاعقة فقتلته - أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد ؟ ﴿ المحال ﴾ المماحلة، وهي شدّة المماكرة والمكايدة.
ومنه : تمحل لكذا، إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان. ومنه الحديث :«ولا تجعله علينا ما حلا مصدّقاً » وقال الأعشى :
فَرْعُ نَبْعٍ يَهَشُّ في غُصُنِ الْمَجْ دِ غَزِيرُ النّدَى شَدِيدُ الْمِحَالِ
والمعنى أنه شديد المكر والكيد لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون. وقرأ الأعرج بفتح الميم، على أنه مفعل، من حال يحول محالا إذا احتال. ومنه : أحول من ذئب، أي أشدّ حيلة. ويجوز أن يكون المعنى : شديد الفقار، ويكون مثلا في القوة والقدرة كما جاء : فساعد الله أشدّ، وموساه أحدّ ؛ لأن الحيوان إذا اشتدّ محاله، كان منعوتاً بشدّة القوّة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره. ألا ترى إلى قولهم : فقرته الفواقر ؟ وذلك أن الفقار عمود الظهر وقوامه.
﴿ دَعْوَةُ الحق ﴾ فيه وجهان أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، كما تضاف الكلمة إليه في قولك : كلمة الحق، للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل من الباطل. والمعنى أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطي الداعي سؤاله إن كان مصلحة له، فكانت دعوة ملابسة للحق، لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء، لما في دعوته من الجدوى والنفع، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه. والثاني : أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وعلا، على معنى : دعوة المدعوّ الحق الذي يسمع فيجيب. وعن الحسن : الحق هو الله، وكلّ دعاء إليه دعوة الحق. فإن قلت : ما وجه اتصال هذين الوصفين بما قبله ؟ قلت أما على قصة أربد فظاهر ؛ لأن إصابته بالصاعقة محال من الله ومكرٌ به من حيث لم يشعر. وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى صاحبه بقوله :( اللهمّ اخسفهما بما شئت )، فأجيب فيهما، فكانت الدعوة دعوة حق. وأما على الأوّل فوعيد للكفرة على مجادلتهم رسول الله بحلول محاله بهم، وإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دعا عليهم فيهم. ﴿ والذين يَدْعُونَ ﴾ والآلهة الذين يدعوهم الكفار ﴿ مِنْ ﴾ دون الله ﴿ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء ﴾ من طلباتهم ﴿ إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ ﴾ إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه، أي كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم. وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسطهما ناشراً أصابعه، فلم تلق كفاه منه شيئاً ولم يبلغ طلبته من شربه. وقرئ :«تدعون » بالتاء. كباسط كفيه، بالتنوين. ﴿ إِلاَّ فِى ضلال ﴾ إلا في ضياع لا منفعة فيه ؛ لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.
﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ﴾ أي ينقادون لإحداث ما أراده فيهم من أفعاله، شاءوا أو أبوا. لا يقدرون أن يمتنعوا عليه، وتنقاد له ﴿ ظلالهم ﴾ أيضاً حيث تتصرف على مشيئته في الامتداد والتقلص، والفيء والزوال. وقرئ :«بالغدو والإيصال »، من آصلوا : إذا دخلوا في الأصيل.
﴿ قُلِ الله ﴾ حكاية لاعترافهم وتأكيد له عليهم ؛ لأنه إذا قال لهم : من رب السموات والأرض، لم يكن لهم بدّ من أن يقولوا الله. كقوله :﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ [ المؤمنون : ٨٦ ] وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك فإذا قال : هذا قولي قال : هذا قولك، فيحكي إقراره تقريراً له عليه واستيثاقاً منه، ثم يقول له : فيلزمك على هذا القول كيت وكيت. ويجوز أن يكون تلقيناً، أي : إن كعوا عن الجواب فلقنهم، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه ﴿ أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء ﴾ أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك ﴿ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا ﴾ لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا عنها ضرراً، فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب، فما أبين ضلالتكما ﴿ أَمْ جَعَلُواْ ﴾ بل أجعلوا. ومعنى الهمزة الإنكار و ﴿ خَلَقُواْ ﴾ صفة لشركاء، يعني أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله ﴿ فَتَشَابَهَ ﴾ عليهم خلق الله وخلقهم، حتى يقولوا : قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه، فاستحقوا العبادة، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد، إذ لا فرق بين خالق وخالق ؛ ولكنهم اتخذوا له شركاه عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلاً أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق ﴿ قُلِ الله خالق كُلّ شَىْء ﴾ لا خالق غير الله، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق، فلا يكون له شريك في العبادة ﴿ وَهُوَ الواحد ﴾ المتوحد بالربوبية ﴿ القهار ﴾ لا يغالب، وما عداه مربوب ومقهور.
هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلاً لهما، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحليّ منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفي به، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً، يثبت الماء في منافعه. وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب، والثمار التي تنبت به مما يدّخر ويكنز، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزبد السيل الذي يرمي به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب. فإن قلت : لم نكرت الأودية ؟ قلت : لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. فإن قلت : فما معنى قوله :﴿ بِقَدَرِهَا ﴾ ؟ قلت : بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ. ألا ترى إلى قوله :﴿ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس ﴾ لأنه ضرب المطر مثلا للحق، فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف. فإن قلت : فما فائدة قوله :﴿ ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع ﴾ ؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة في قوله :﴿ بِقَدَرِهَا ﴾ لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله :﴿ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس ﴾ لأنّ المعنى : وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع مما يوقد عليه منه ويذاب، وهو الحلية والمتاع. وقوله :﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع ﴾ عبارة جامعة لأنواع الفلز، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما هو هجيرى الملوك، نحو ما جاء في ذكر الآجر ﴿ أوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين ﴾ [ القصص : ٣٨ ] و «من » لابتداء الغاية. أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء. أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبداً رابياً منفخاً مرتفعاً على وجه السيل [ ﴿ جُفَآءً ﴾ يجفؤه السيل :]، أي يرمي به. وجفأت القدر بزبدها، وأجفأ السيل وأجفل. وفي قراءة رؤبة ابن العجاج : جفالا وعن أبي حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفأر. وقرئ :«يوقدون »، بالياء : أي يوقد الناس.
﴿ لِلَّذِينَ استجابوا ﴾ اللام متعلقة بيضرب، أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذين لم يستجيبوا، أي : هما مثلا الفريقين. و ﴿ الحسنى ﴾ صفة لمصدر استجابوا، أي : استجابوا الاستجابة الحسنى. وقوله ﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ﴾ كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين. وقيل : قد تم الكلام عند قوله :﴿ كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال ﴾ [ الرعد : ١٧ ] وما بعده كلام مستأنف. والحسنى : مبتدأ، خبره ﴿ لِلَّذِينَ استجابوا ﴾ والمعنى : لهم المثوبة الحسنى، وهي الجنة ﴿ والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ ﴾ مبتدأ خبره، «لو » مع ما في حيزه و ﴿ سُوء الحِسَابِ ﴾ المناقشة فيه. وعن النخعي : أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء.
دخلت همزة الإنكار على الفاء في قوله ﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ ﴾ لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أنّ حال من علم ﴿ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق ﴾ فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب : كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب ﴾ أي الذين عملوا على قضيات عقولهم، فنظروا واستبصروا.
﴿ والذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله ﴾ مبتدأ. و ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار ﴾ خبره كقوله : والذين ينقضون عهد الله أولئك لهم اللعنة. ويجوز أن يكون صفة لأولي الألباب، والأوّل أوجه. وعهد الله : ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته ﴿ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] ﴿ وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق ﴾ ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه : من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد، تعميم بعد تخصيص.
﴿ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ من الأرحام والقرابات، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان ﴿ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾ [ الحجرات : ١٠ ] بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم، وطرح التفرقة بين أنفسهم وبينهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم. ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر، وكل ما تعلق منهم بسبب، حتى الهرة والدجاجة. وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم ؟ قالوا : من أهل خراسان. قال : اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أنّ العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين ﴿ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ أي يخشون وعيده كله ﴿ وَيَخَافُونَ ﴾ خصوصاً ﴿ سُوء الحِسَابِ ﴾ فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
﴿ صَبَرُواْ ﴾ مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف ﴿ ابتغاء وَجْهِ ﴾ الله، لا ليقال : ما أصبره وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب بالجزع ولئلا يشمت به الأعداء كقوله :
وَتَجَلُّدِي لِلشّامِتِينَ أُرِيِهمُ ***
ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا مردّ فيه للفائت، كقوله :
مَا أنْ جَزعْتُ وَلاَ هَلَعْ تُ وَلاَ يَرُدُّ بُكاي زَنْدَا
وكل عمل له وجوه يعمل عليها، فعلى المؤمن أن ينوي منها ما به كان حسناً عند الله، وإلا لم يستحق به ثواباً، وكان فعل كل فعل ﴿ مّمّا رزقناهم ﴾ من الحلال ؛ لأنّ الحرام لا يكون رزقاً ولا يسند إلى الله ﴿ سِرّا وَعَلاَنِيَةً ﴾ يتناول النوافل، لأنها في السر أفضل والفرائض، لوجوب المجاهرة بها نفياً للتهمة ﴿ وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة ﴾ ويدفعونها عن ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيء غيرهم. وعن الحسن : إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن كيسان : إذا أذنبوا تابوا. وقيل : إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره ﴿ عقبى الدار ﴾ عاقبة الدنيا وهي الجنة، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها.
و ﴿ جنات عَدْنٍ ﴾ بدل من عقبى الدار. وقرئ «فنعم » بفتح النون. والأصل : نعم فمن كسر النون فلنقل كسرة العين إليها، ومن فتح فقد سكن العين ولم ينقل وقرئ :«يدخلونها » على البناء للمفعول.
وقرأ ابن أبي عبلة «صلُح » بضم اللام، والفتح أفصح، أعلم أنّ الأنساب لا تنفع إذا تجردت من الأعمال الصالحة. وآباؤهم جمع أبوي كل واحد منهم، فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم.
﴿ سلام عَلَيْكُمُ ﴾ في موضع الحال، لأنّ المعنى : قائلين سلام عليكم أو مسلمين، فإن قلت : بم تعلق قوله ﴿ بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ ؟ قلت : بمحذوف تقديره : هذا بما صبرتم، يعنون هذا الثواب بسبب صبركم، أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه هذه الملاذ والنعم والمعنى : لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة، كقوله :
بِمَا قَدْ أرَى فِيهَا أوَانِسَ بُدَّنَا *** وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ويجوز أن يتعلق بسلام، أي نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم.
﴿ مِن بَعْدِ ميثاقه ﴾ من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول ﴿ سُوء الدار ﴾ يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا، لأنه في مقابلة عقبى الدار، ويجوز أن يراد بالدار جهنم، وبسوئها عذابها.
﴿ الله يَبْسُطُ الرزق ﴾ أي الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره، وهو الذي بسط رزق أهل مكة ووسعه عليهم ﴿ وَفَرِحُواْ ﴾ بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لافرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة، وخفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزرا يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك.
فإن قلت : كيف طابق قولهم ﴿ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ ﴾ قوله :﴿ قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء ﴾ ؟ قلت : هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبيّ قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية، فإذا جحدوها ولم يعتدّوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط، كان موضعاً للتعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم : إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدّة الشكيمة في الكفر، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية ﴿ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ ﴾ كان على خلاف صفتكم ﴿ أَنَابَ ﴾ أقبل إلى الحق، وحقيقته دخل في نوبة الخير، و ﴿ الذين ءَامَنُواْ ﴾ بدل من ﴿ مَنْ أَنَابَ ﴾.
﴿ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله ﴾ بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته، كقوله :﴿ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] أو تطمئن بذكر دلائله الدالة على وحدانيته، أو تطمئن بالقرآن لأنه معجزة بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها.
﴿ الذين ءَامَنُواْ ﴾ مبتدأ، و ﴿ طوبى لَهُمْ ﴾ خبره. ويجوز أن يكون بدلاً من القلوب، على تقدير حذف المضاف، أي : تطمئن القلوب قلوب الذين آمنوا، وطوبى مصدر من طاب، كبشرى وزلفى، ومعنى «طوبى لك » أصبت خيراً وطيباً، ومحلها النصب أو الرفع، كقولك : طيباً لك، وطيب لك، وسلاماً لك، وسلام لك، والقراءة في قوله «وحسن مآب » بالرفع والنصب، تدلك على محليها. واللام في ﴿ لَهُمْ ﴾ للبيان مثلها في سقيا لك، والواو في طوبى منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها، كموقن وموسر وقرأ مكوزة الأعرابي :«طيبى لهم »، فكسر الطاء لتسلم الياء، كما قيل : بيض ومعيشة.
﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ ﴾ مثل ذلك الإرسال أرسلناك، يعني : أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات، ثم فسر كيف أرسله فقال :﴿ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ ﴾ أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء ﴿ لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك ﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ ﴾ وحال هؤلاء أنهم يكفرون ﴿ بالرحمن ﴾ بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء، وما بهم من نعمة فمنه، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم ﴿ قُلْ هُوَ رَبّى ﴾ الواحد المتعالي عن الشركاء ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ في نصرتي عليكم ﴿ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم.
﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا ﴾ جوابه محذوف، كما تقول لغلامك : لو أني قمت إليك، وتترك الجواب والمعنى : ولو أن قرآنا ﴿ سُيّرَتْ بِهِ الجبال ﴾ عن مقارّها، وزعزعت عن مضاجعها ﴿ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض ﴾ حتى تتصدع وتتزايل قطعاً ﴿ أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى ﴾ فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف، كما قال :﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله ﴾ [ الحشر : ٢١ ] هذا يعضد ما فسرت به قوله :﴿ لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ [ الرعد : ٣٠ ] من إرادة تعظيم ما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن. وقيل : معناه ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى وتنبيههم، لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه كقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة ﴾ [ الأنعام : ١١١ ] الآية. وقيل : إن أبا جهل بن هشام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : سيِّر بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها البساتين والقطائع، كما سخرت لداود عليه السلام إن كنت نبياً كما تزعم، فلست بأهون على الله من داود. وسخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام ثم نرجع في يومنا، فقد شق علينا قطع المسافة البعيدة كما سخرت لسليمان عليه السلام. أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا : منهم قصي بن كلاب فنزلت ومعنى تقطيع الأرض على هذا : قطعها بالسير ومجاوزتها. وعن الفراء : هو متعلق بما قبله. والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال ﴾ وما بينهما اعتراض، وليس ببعيد من السداد. وقيل ﴿ قُطّعَتْ بِهِ الأرض ﴾ شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً ﴿ بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا ﴾ على معنيين، أحدهما : بل لله القدرة على كل شيء، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها ؛ إلا أنّ علمه بأنّ إظهارها مفسدة يصرفه. والثاني : بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان، وهو قادر على الالجاء لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار. ويعضده قوله :﴿ أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الذين ءامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء الله ﴾ يعني مشيئة الإلجاء والقسر ﴿ لَهَدَى الناس جَمِيعًا ﴾ ومعنى ﴿ أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ ﴾ أفلم يعلم. قيل : هي لغة قوم من النخع. وقيل إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه ؛ لأنّ اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك لتضمن ذلك. قال سحيم بن وثيل الرياحي :
أَقُولُ لَهُمْ بالشِّعْبِ إذْ يَيْسُرُونَنِي أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ
ويدل عليه أن علياً وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرؤا :«أفلم يتبين » وهو تفسير ( أفلم ييئس ) وقيل : إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوى السينات، وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام.
وكان متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، وهذه والله فرية ما فيها مرية. ويجوز أن يتعلق ﴿ أَن لَّوْ يَشَاء ﴾ بآمنوا، على أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولهداهم ﴿ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ ﴾ من كفرهم وسوء أعمالهم ﴿ قَارِعَةٌ ﴾ داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم ﴿ أَوْ تَحُلُّ ﴾ القارعة ﴿ قَرِيبًا ﴾ منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارها، ويتعدى إليهم شرورها ﴿ حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله ﴾ وهو موتهم، أو القيامة. وقيل : ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من العداوة والتكذيب قارعة ؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم، وتصيب من مواشيهم. أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك، كما حل بالحديبية، حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة، وكان الله قد وعده ذلك.
الإملاء : الإمهال، وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن، كالبهيمة يملي لها في المرعى وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء به وتسلية له.
﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ ﴾ احتجاج عليهم في إشراكهم بالله، يعني أفا الله الذي هو قائم رقيب ﴿ على كُلّ نَفْسٍ ﴾ صالحة أو طالحة ﴿ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ يعلم خيره وشره، ويعدّ لكل جزاءه، كمن ليس كذلك. ويجوز أن يقدّر ما يقع خبراً للمبتدأ ويعطف عليه وجعلوا، وتمثيله : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه ﴿ وَجَعَلُواْ ﴾ له وهو الله الذي يستحق العبادة وحده ﴿ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ ﴾ أي جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم، ثم قال :﴿ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ ﴾ على أم المنقطعة، كقولك للرجل : قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف، ومعناه : بل أتنبئونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم، والمراد نفي أن يكون له شركاء. ونحو :﴿ قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض ﴾ [ يونس : ١٨ ]، ﴿ أَم بظاهر مّنَ القول ﴾ بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، ﴿ ذلك قَوْلُهُم بأفواههم ﴾ [ التوبة : ٣٠ ]، ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا ﴾ [ يوسف : ٤٠ ] وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق : أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه، فتبارك الله أحسن الخالقين. وقرئ :«أتنبئونه » بالتخفيف ﴿ مَكْرِهِمْ ﴾ كيدهم للإسلام بشركهم ﴿ وَصُدُّواْ ﴾ قرئ بالحركات الثلاث. وقرأ ابن أبي إسحاق :«وصدّ » بالتنوين ﴿ وَمَن يُضْلِلِ الله ﴾ ومن يخذله لعلمه أنه لا يهتدي ﴿ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ فما له من أحد يقدر على هدايته.
﴿ لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحياة الدنيا ﴾ وهو ما ينالهم من القتل والأسر وسائر المحن، ولا يلحقهم إلا عقوبة لهم على الكفر، ولذلك سماه عذاباً ﴿ وَمَا لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ ﴾ وما لهم من حافظ من عذابه. أو ما لهم من جهته واق من رحمته.
﴿ مَّثَلُ الجنة ﴾ صفتها التي هي في غرابة المثل، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف على مذهب سيبويه، أي فيما قصصناه عليكم مثل الجنة. وقال غيره : الخبر ﴿ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ كما تقول : صفة زيد أسمر، وقال الزجاج : معناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار، على حذف الموصوف تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد. وقرأ علي رضي الله عنه «أمثال الجنة » على الجمع أي صفاتها ﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ ﴾ كقوله ﴿ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ﴾ [ الواقعة : ٣٣ ] ﴿ وِظِلُّهَا ﴾ دائم لا ينسخ، كما ينسخ في الدنيا بالشمس.
﴿ والذين ءاتيناهم الكتاب ﴾ يريد من أسلم من اليهود، كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعون بنجران، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، وثمانية من أهل اليمن، هؤلاء ﴿ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحزاب ﴾ يعني ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف وأصحابه، والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما ﴿ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ﴾ لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني [ مما ] هو ثابت في كتبهم غير محرف، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما حرّفوه وبدّلوه من الشرائع. فإن قلت : كيف اتصل قوله :﴿ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ﴾ بما قبله ؟ قلت : هو جواب للمنكرين معناه : قل إنما أمرت فيما أنزل إليّ بأن أعبد الله ولا أشرك به. فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده فانظروا ماذا تنكرون مع ادعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به ﴿ قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ﴾ [ آل عمران : ٦٤ ] وقرأ نافع في رواية أبي خليد :«ولا أشرك » بالرفع على الاستئناف كأنه قال : وأنا [ لا ] أشرك به ويجوز أن يكون في موضع الحال على معنى : أمرت أن أعبد الله غير مشرك به ﴿ إِلَيْهِ أَدْعُو ﴾ خصوصاً لا أدعو إلى غيره ﴿ وَإِلَيْهِ ﴾ لا إلى غيره مرجعي، وأنتم تقولون مثل ذلك، فلا معنى لإنكاركم.
﴿ وكذلك أنزلناه ﴾ ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه، والإنذار بدار الجزاء ﴿ حُكْمًا عَرَبِيّا ﴾ حكمة عربية مترجمة بلسان العرب، وانتصابه على الحال. كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور يوافقهم عليها منها أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله عنها، فقيل له : لئن تابعتهم على دين ما هو إلا أهواء وشبه بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج القاطعة، خذلك الله فلا ينصرك ناصر، وأهلكك فلا يقيك منه واق، وهذا من باب الإلهاب والتهييج، والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه، وأن لا يزلّ زالّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدّة الشكيمة بمكان.
كانوا يعيبونه بالزواج والولاد، كما كانوا يقولون : ما لهذا الرسول يأكل الطعام، وكانوا يقترحون عليه الآيات، وينكرون النسخ فقيل : كان الرسل قبله بشراً مثله ذوي أزواج وذرية. وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ولا يأتون بما يقترح عليهم، والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات ؛ فلكل وقت حكم يكتب على العباد، أي : يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم.
﴿ يَمْحُواْ الله مَا يَشَاء ﴾ ينسخ ما يستصوب نسخه، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته، أو يتركه غير منسوخ، وقيل : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة ؛ لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل ﴿ وَيُثَبّتْ ﴾ غيره. وقيل يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة، ويثبت إيمانهم وطاعتهم. وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسي وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها، والكلام في نحو هذا واسع المجال ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب ﴾ أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه. وقرئ :«ويثبت ».
﴿ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ ﴾ وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم، أو توفيناك قبل ذلك، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم، فلا يهمنك إعراضهم، ولا تستعجل بعذابهم.
﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض ﴾ أرض الكفر ﴿ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ بما نفتح على المسلمين من بلادهم، فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام، وذلك من آيات النصرة والغلبة ونحوه ﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ [ الأنبياء : ٤٤ ]، ﴿ أَفَهُمُ الغالبون ﴾ [ الأنبياء : ٤٤ ]، ﴿ سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق ﴾ [ فصلت : ٥٣ ] والمعنى : عليك بالبلاغ الذي حملته ؛ ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر، ولا يضجرك تأخره ؛ فإن ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها، ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر.
وقرىء «ننقصها » بالتشديد ﴿ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ ﴾ لا رادّ لحكمه. والمعقب : الذي يكرّ على الشيء فيبطله، وحقيقته : الذي يعقبه أي يقفيه بالردّ والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق : معقب ؛ لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب. قال لبيد :
طَلَبُ الْمُعَقِّبِ حَقَّهُ الْمَظْلُومُ ***
والمعنى : أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس ﴿ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب ﴾ فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا. فإن قلت : ما محل قوله لا معقب لحكمه ؟ قلت : هو جملة محلها النصب على الحال، كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه، كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة، تريد حاسراً.
﴿ وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ وصفهم بالمكر، ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال ﴿ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا ﴾ ثم فسر ذلك بقوله :﴿ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكافر لِمَنْ عُقْبَى الدار ﴾ لأنّ من علم ما تكسب كل نفس، وأعدّ لها جزاءها فهو المكر كله ؛ لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون. وهم في غفلة مما يراد بهم. وقرئ :«الكفار »، و «الكافرون ». و «الذين كفروا ». والكفر : أي أهله. والمراد بالكافر الجنس : وقرأ جناح بن حبيش، و «سَيُعلم الكافر »، من أعلمه أي سيخبر.
﴿ كفى بالله شَهِيدًا ﴾ لما أظهر من الأدلة على رسالتي ﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾ والذي عنده علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز الفائت لقوى البشر. وقيل : ومن هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا. لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم : وقيل : هو الله عز وعلا والكتاب : اللوح المحفوظ وعن الحسن : لا والله ما يعني إلا الله. والمعنى : كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو، شهيداً بيني وبينكم. وتعضده قراءة من قرأ :«ومن عنده علم الكتاب » على من الجارّة، أي ومن لدنه علم الكتاب، لأن علم من علمه من فضله ولطفه. وقرىء :«ومن عنده علم الكتاب » على من الجارّة، وعلم، على البناء للمفعول وقرىء :«وبمن عنده علم الكتاب ». فإن قلت : بم ارتفع علم الكتاب ؟ قلت : في القراءة التي وقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالمقدّر في الظرف، فيكون فاعلاً ؛ لأنّ الظرف إذا وقع صلة أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول، فعمل عمل الفعل، كقولك، مررت بالذي في الدار أخوه، فأخوه فاعل، كما تقول : بالذي استقرّ في الدار أخوه.
Icon