تفسير سورة إبراهيم

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ

سورة إبراهيم
مكية وهي: اثنتان وخمسون آية إلا آيتين مدنيّتين
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣)
قال الله عزّ وجلّ: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يعني: هذا كتاب أنزلنا جبريل ليقرأ عليك، وهو القرآن لِتُخْرِجَ النَّاسَ أي: لتدعو الناس مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني: من الكفر إلى الإيمان. وسمى الكفر ظلمات، لأن الكفر طريق الضلالة، فمن وقع فيه ضلّ الطريق. وسمى الإيمان نوراً، لأنه طريق واضح مبين بِإِذْنِ رَبِّهِمْ يقول: بأمر ربهم إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يعني: دين الإسلام العزيز، المنيع بالنقمة لمن لم يجب الرسول، الْحَمِيدِ لمن وحده. ويقال: الْحَمِيدِ في فعاله. ويقال: الْحَمِيدِ لأفعال الخلق. يشكر لهم اليسير من أعمالهم، ويعطي الجزيل.
ثم قال الله تعالى: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخلق. قرأ ابن عامر ونافع: اللَّهِ بالضم على معنى الابتداء، وقرأ الباقون: اللَّهِ بالكسر على معنى البناء.
ثم قال: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ يعني: الكافرين بوحدانية الله تعالى مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ أي:
غليظ دائم. والويل: الشدة من العذاب. ويقال: الويل وادٍ في جهنم.
ثم نعتهم فقال: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يعني: يستأثرون ويختارون الدنيا الفانية عَلَى الْآخِرَةِ الباقية، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني: يصرفون الناس عن ملة الإسلام وَيَبْغُونَها عِوَجاً يعني: يريدون بملة الإسلام غيراً وزيغاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق.
يعني: في خطأ طويل بعيد عن الحق.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ يعني: بلغة قومه ليفهموه وليكون
أبيَنَ لهم. يعني: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ طريق الهدى فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ عن دين الإسلام من لم يكن أهلاً لذلك وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى دينه الإسلام من كان أهلاً لذلك وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه، الْحَكِيمُ في أمره وقضائه، ويقال: الْحَكِيمُ حكم بالضلالة والهدى لمن يشاء.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا يعني: باليد والعصا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ يعني:
ادع قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني: من الكفر إلى الإيمان وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ يعني:
خوّفهم بمثل عذاب الأمم الخالية ليحذروا فليؤمنوا. وقال مجاهد: أيام نعمه، وكذلك قال قتادة والسدي. يعني: ذكرهم نعمائي ليؤمنوا بي. وروي في الخبر: «أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن حببني إلى عبادي، قال: رب كيف أحببك إلى عبادك، والقلوب بيدك؟ فأوحى الله إليه أن ذكرهم نعمائي».
ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ يعني: في الذي فعلت بالأمم الخالية، وما أعطيتهم من النعم لعلامات لِكُلِّ صَبَّارٍ على طاعة الله، والصبار: هو المبالغ في الصبر شَكُورٍ يعني:
شكور لنعم الله تعالى، وهو على ميزان فَعُول، وهو المبالغة في الشكر.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٦ الى ٨]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
ثم قال تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يعني: من فرعون وآله، كما قال في آية أخرى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ [الأنفال: ٥٤] يعني:
فرعون وآله. يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يقول: يعذبونكم بأشد العقاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ الصغار وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يعني: يستخدمون نساءكم وَفِي ذلِكُمْ يعني: ذبح الأبناء، واستخدام النساء، بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ يعني: بلية عظيمة لكم من خالقكم. ويقال: في إنجاء الله نعمة عظيمة لكم.
قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ يعني: قد قال ربكم. ويقال: أعلم ربكم لَئِنْ شَكَرْتُمْ نعمتي عليكم لَأَزِيدَنَّكُمْ من النعمة وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ بتوحيد الله وجحدتم نعمتي عليكم إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ في الآخرة. قال الفقيه: حدثنا أبي رحمه الله بإسناده عن أبي هريرة أنه قال: «من رزق ستاً لم يحرم ستاً. من رزق الشكر لم يحرم الزيادة لقوله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
ومن رزق الصبر لم يحرم الثواب لقوله تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: ١٠] ومن رزق التوبة لم يحرم القبول لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشورى: ٢٥] ومن رزق الاستغفار لم يحرم المغفرة لقوله تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً [نوح: ١٠] ومن رزق الدعاء لم يحرم الإجابة لقوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠] ومن رزق النفقة لم يحرم الخلف لقوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ: ٣٩].
قوله تعالى: وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعني: إن جحدتم نعمة الله ولم تؤمنوا به فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ يعني: غنيا عن إيمانكم وطاعتكم حَمِيدٌ لمن عبده منكم بالمغفرة.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٩]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يقول: ألم يأتكم في القرآن خبر الذين من قبلكم من الأمم الماضية، كيف عذّبهم الله تعالى عند تكذيب رسلهم قَوْمِ نُوحٍ كيف أهلكهم الله بالغرق، وَعادٍ كيف أهلكهم الله بالريح، وَثَمُودَ كيف أهلكهم بالصيحة، فهذا تهديد لأهل مكة ليعتبروا بهم.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كيف عذبوا لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ يعني: لا يعلم عددهم إلا الله. قال ابن مسعود: «كذب النسابون وقرأ هذه الآية: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني: الأمم الخالية جاءتهم رسلهم بالأمر والنهي» فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ قال مقاتل: وضع الكفار أيديهم على أفواههم، فقالوا للرسل:
اسكتوا فإنكم كذبة، وإن العذاب غير نازل بنا. وروى هبيرة بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود في قوله فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ قال: «جعلوا أصابعهم في فيهم». وقال القتبي: أي:
عضوا عليها حنقا وغيظاً.
قال مجاهد وقتادة: يعني: ردّوا عليهم قولهم وكذبوهم، ويقال: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ يعني:
نِعَم رسلهم، لأن مجيئهم بالبينات نعم. يعني قوله: فِي أَفْواهِهِمْ أي: بأفواههم. أي: ردوا تلك النعمة بالنطق بالتكذيب وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا فهذا هو ردهم بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ يعني: بما تدعونا إليه وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ وهو المبالغة في الشك يعني: ظاهر الشك.

[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٠ الى ١٢]

قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)
قوله تعالى: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ يقول: أفي وحدانية الله شك، وعلامات وحدانيته ظاهرة؟ وهو قوله: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: أتشكون في الله خالق السموات والأرض يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ يعني: يدعوكم إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى ليتجاوز عنكم مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني: منتهى آجالكم، فلا يصيبكم فيه العذاب.
فأجابهم قومهم قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا يقول: ما أنتم إلا آدميون مثلنا، لا فضل لكم علينا بشيء. تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا أي: تصرفونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الآلهة فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني: بحجة بينة.
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يقول: ما نحن إلا آدميون مثلكم كما تقولون وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ويختاره للنبوة وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ جواباً لقولهم: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني: لا ينبغي أن نأتيكم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لأن الأمر بيد الله تعالى وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني: على المؤمنين أن يتوكلوا على الله.
قوله: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا يعني: وفقنا لطريق الإسلام، ويقال:
أكرمنا بالنبوة وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي فليثق الواثقون.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا يقول:
لتدخلن في ديننا، فهذا كله تعزية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ليصبر على أذى المشركين كما صبر من قبله من الرسل فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ يقول: أوحى الله تعالى إلى الرسل لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ فهذا لام القسم، ويراد به: التأكيد للكلام، أن يهلك الكافرين من قومهم وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ يقول: لننزلنكم في الأرض من بعد هلاكهم. فأهلك الله تعالى قومهم، فسكن الرسل ومن معهم من المؤمنين ديارهم ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي يقول: ذلك الثواب لِمَنْ خافَ مَقامِي يعني: مقامه يوم القيامة بين يدي رب العالمين.
وروي عن أبيّ بن كعب أنه قال: «يقومون ثلاثمائة عام لا يؤذن لهم فيقعدون، أما المؤمنون فيهون عليهم، كما تهون عليهم الصلاة المكتوبة». وروي عن منصور عن خيثمة أنه
قال: كنا عند عبد الله بن عمر فقلنا: أن عبد الله بن مسعود كان يقول: «إن الرجل ليعرق حتى يسبح في عرقه، ثم يرفعه العرق حتى يلجمه. فقال ابن عمر: هذا للكفار، فما للمؤمنين؟ فقلنا:
الله أعلم. فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، حدثكم أول الحديث، ولم يحدثكم آخره، إن للمؤمنين كراسي يجلسون عليها، ويظلل عليهم بالغمام، ويكون يوم القيامة عليهم كساعة من نهار»
.
ثم قال تعالى: وَخافَ وَعِيدِ أي: وخشي عذابي عليه. قرأ نافع في رواية ورش:
وخاف وعيدي بالياء يعني: خاف عذاب الله. وقرأ الباقون: بغير ياء، لأن الكسرة تقوم مقامه، وأصله الياء.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٥ الى ١٧]
وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
ثم قال تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا يقول: واستنصروا. قال قتادة: استنصرت الرسل على قومهم، وقال مقاتل: يعني، قومهم دعوا الله فقالوا: اللهم إن كانت رسلنا صادقين فعذبنا.
ويقال: استنصر كلا الفريقين وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يقول: خسر عند الدعاء كُلّ مُتَكَبّرٍ عن الإيمان، معرض عن التوحيد. وقال الزجاج: الجبار، الذي لا يرى لأحد عليه حقا، والعنيد:
الذي يعدل عن القصد. ويقال: الجبار الذي يضرب عند الغضب، ويقتل عند الغضب. وقال مجاهد: كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي: المعاند للحق مجانبه. ويقال: هذه الآية نزلت في أبي جهل.
قوله تعالى: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ يقول: من قدامه جهنم، يعني: بعد الموت. ويقال: من بعده جهنم. ويقال: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ يعني: أمامه. كقوله تعالى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف: ٧٩] يعني: أمامهم.
ثم قال: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يعني: بماء يسيل من جلودهم من القيح والدم.
ويقال: ماء كهيئة الصديد.
قوله تعالى: يَتَجَرَّعُهُ يعني: يردّه في حلقه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ يقول ولا يقدر على ابتلاعه لكراهيته، وقال ابن عباس: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ يعني: يجترّه من كل مكان من جسده. ويقال: من كل ناحية، ومن كل عرق، ومن كل موضع شعرة يجد طعم الموت وَما هُوَ بِمَيِّتٍ، يعني: لا يموت أبداً وَمِنْ وَرائِهِ يعني: من بعد الصديد عَذابٌ غَلِيظٌ يعني: شديد لا يفتر عنه.

[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٨ الى ٢٠]

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)
قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ يقول: صفة الذين كفروا. ويقال: مثل أعمال الذين كفروا بربهم يوم القيامة كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ يقول: ذرته الريح فِي يَوْمٍ عاصِفٍ يعني: عاصف شديد الريح. فكذلك الكفار أحبط الله ثواب أعمالهم، وهذا كقوله وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: ٢٣] لأن أعمالهم كانت بغير إيمان، ولا تُقبل الإيمان إذا لم يكن بالإخلاص، ولا تُقبل الأعمال إلا بالإيمان، ولا ثواب لهم بها.
- قرأ نافع اشتدت بِهِ الرياح بالألف. وقرأ الباقون: بغير ألف «١» -. لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ يقول: لا يقدرون على ثواب أعمالهم ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يعني: الخطأ البعيد عن الحق.
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ يقول: ألم تعلم أن الله خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قرأ حمزة والكسائي خالق السماوات والارض بكسر الضاد على معنى الإضافة. وقرأ الباقون:
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بنصب الضاد على معنى الفعل الماضي.
وقوله: بِالْحَقِّ يعني: بالعدل. ويقال: ببيان الحق إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يقول: يميتكم، ويهلكهم إن عصيتموه وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يعني: قوماً غيركم، خيراً منكم، وأطوع لله تعالى.
فهذا تهديد من الله تعالى ليخافوه.
ثم قال: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ يعني: إهلاككم ليس على الله بشديد.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢١]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١)
قوله تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً يقول: وخرجوا من قبورهم لأمر الله تعالى. يعني:
القادة والأتباع اجتمعوا للحشر والحساب، وهذا كقوله: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:
٤٧] فَقالَ الضُّعَفاءُ يعني: الأتباع والسفلة لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم القادة إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في الدنيا نطيعكم فيما أمرتمونا به فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا يقول: هل أنتم حاملون عنا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا يعني: القادة للسفلة لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ يقول: لو أكرمنا الله
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «ب».
بالهدي والتوحيد لهديناكم لدينه، وأنا أمرناكم بأعمالنا التي كنا عليها. ويقال: معناه، لو أدخلنا الله الجنة، لشفعنا لكم.
ثم قالت القادة للسفلة سَواءٌ عَلَيْنا العذاب أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ يعني: من مفر ولا ملجأ من عذاب الله. وروى أسباط عن السدي أنه قال: يقول أهل النار:
تعالوا فلنصبر، لعلّ الله يرحمنا بصبرنا، فيصبرون، فلا يرحمون. فيقولون: تعالوا فلنجزع، لعل الله يرحمنا بجزعنا فيجزعون، فلا يغني عنهم شيئاً، فيقولون: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٢]
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَّآ أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
قوله تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ روى سفيان، عن رجل، عن الحسن أنه قال: إذا كان يوم القيامة، ودخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة، قام إبليس خطيباً على منبر من نار، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ. ويقال: إنهم لما دخلوا النار، أقبلوا على إبليس، وجعلوا يتهمونه ويلومونه ويقولون: أنت الذي أضللتنا، فيرد عليهم إبليس عليه اللعنة، فبيّن الله تعالى ردّه عليهم لكيلا يغتروا به في الدنيا، فذلك قوله: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ يعني: لما فرغ من الأمر حين دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فقال إبليس لأهل النار: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ يعني: البعث بعد الموت والجنة والنار وَوَعَدْتُكُمْ بأنه لا جنة، ولا نار، ولا بعث، ولا حساب فَأَخْلَفْتُكُمْ فكذبتكم الوعد وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ يعني: لم يكن لي قدرة على الإكراه والقهر. ويقال: لم أكن ملكاً فقهرتكم على عبادتي. ويقال: لم يكن لي حجة على ما قلت لكم إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ يعني:
سوى أن دعوتكم إلى طاعتي فَاسْتَجَبْتُمْ لِي يعني: أجبتم لي طوعا واختيارا فَلا تَلُومُونِي بدعوتي إياكم وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ بالإجابة مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أي: بمغيثكم فأخرجكم من النار وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ يقول: ولا أنتم بمغيثيّ، فتخرجونني من النار. إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ قال الكلبي: فيه تقديم وتأخير. يقول: إني كفرت من قبل ما عبدتموني به وكنت كافراً قبل ذلك، فليس لكم عندي صراخ، ولا إجابة. وقال مقاتل: معناه إني تبرأت اليوم بما أشركتموني مع الله في طاعتي مِن قَبْلُ في الدنيا. وقال القتبي: في قوله: إِنِّي كَفَرْتُ، أي تبرأت كقوله في سورة الممتحنة: كَفَرْنا بِكُمْ [الممتحنة: ٤] أي: تبرأنا منكم. وكذلك في العنكبوت: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ [العنكبوت: ٢٥] يعني: يتبرأ بعضكم من بعض. وهذا موافق لقوله تعالى: يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: ١٤].
ثم قال: إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني: الكافرين لهم عذاب دائم. قرأ حمزة ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ بكسر الياء، وهي قراءة الأعمش. وقرأ الباقون: بنصب الياء. قال أبو عبيدة:
النصب أحسن. والأول ما نراه إلا غلطاً. وهكذا قال الزجاج. ويقال: هي لغة لبعض العرب.
والنصب هي اللغة الظاهرة. وهو موافق للعربية قرأ أبو عمرو أَشْرَكْتُمُونِي بالياء عند الوصل، وقرأ الباقون بغير الياء وقرأ نافع اشتدت بِهِ الرياح بالألف، والباقون بغير ألف.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٣]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)
قوله تعالى: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: وحدوا الله، وأدّوا الفرائض، وانتهوا عن المحارم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهي الأنهار التي ذكر في قوله فِيهَآ: أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد: ١٥] الآية خالِدِينَ فِيها مقيمين في الجنة لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها أبدا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ يعني: يسلم بعضهم على بعض.
ويقال: لهم التحية من الله تعالى.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا يقول: كيف بيّن الله شبهاً كَلِمَةً طَيِّبَةً وهي كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، لا تكون في كلمة التوحيد زيادة ولا نقصان، ولكن يكون لها مدد وهو التوفيق للطاعة في الأوقات كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهي النخلة. كما أنه ليس في الثمار شيء أحلى وأطيب من الرطب، فكذلك ليس في الكلام شيء أطيب من كلمة الإخلاص.
ثم وصف النخلة فقال: أَصْلُها ثابِتٌ يعني: في الأرض وَفَرْعُها فِي السَّماءِ يعني:
رأسها في الهواء فكذلك الإخلاص يثبت في قلب المؤمن، كما تثبت النخلة في الأرض. فإذا تكلم المؤمن بالإخلاص، فإنها تصعد في السماء، كما أن النخلة رأسها في السماء، وكما أن النخلة لها فضل على سائر الشجر في الطول واللون والطيب والحسن، فكذلك كلمة الإخلاص لها فضل على سائر الكلام، فهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن يقول: أَصْلُها ثابِتٌ يعني: أنّ المعرفة في قلب المؤمن ثابتة كالشجرة الثابتة في الأرض، بل هي أثبت في الشجرة في الأرض، لأن الشجرة تقطع ومعرفة العارف لا يقدر أحد أن يخرجها من قلبه، إلا المعرف الذي عرفه.
ويقال: وَفَرْعُها فِي السَّماءِ يعني: ترفع أعمال المؤمن المصدق إلى السماء، لأن الأعمال لا تقبل بغير إيمان، فالإيمان أصل، والأعمال فرع الإيمان، فترفع أعماله وتقبل منه.
ثم قال: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ يعني: تخرج ثمارها في كل وقت، وتخرج منها في كل
وقت من ألوان المنفعة كُلَّ حِينٍ يعني: في كل وقت. روى الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس أنه قال: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ قال: «غدوة وعشية». وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: «النخلة يكون حملها شهرين. فنرى أن الحين شهران». وروى هشام بن حسان، عن عكرمة، أنه قال: حلف رجل فقال: إن فعلت كذا إلى حين، فعليَّ كذا. فأرسل عمر بن عبد العزيز إلى ناس من الفقهاء فسألهم، فلم يقولوا شيئاً، قال عكرمة. فقلت: إن من الحين حيناً لا يدرك كقوله تعالى وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: ٨٨] وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس: ٩٨] ومنها ما يدرك كقوله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ فأراد ما بين خروج الثمرة إلى صرامها، فأراد به ستة أشهر. قال: فأعجب بذلك أي: فرح بذلك عمر بن عبد العزيز. وروي عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن امرأة حلفت ألاَّ تدخل على أهلها حيناً، قال: الحين ما بين أن يطلع الطلع إلى أن يجد، فبين أن يجد إلى أن: يطلع الطلع، ستة أشهر. وعن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: «الحين ما بين الثمرتين». أي سنة. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: «الحين السنة». وعن مقاتل: سنة. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الحين ستة أشهر. وقال عكرمة: النخلة لا يزال فيها شيء ينتفع به إما ثمرة وإما حطبه، فكذلك الكلمة الطيبة ينتفع بها صاحبها في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: بِإِذْنِ رَبِّها أي: بأمر ربها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ يعني: يبيّن الله الأشباه لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يعني: يتعظون، ويتفكرون في الأمثال فيوحّدونه.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧)
قوله تعالى وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ يعني: كلمة الشرك كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ وهي الحنظلة ليس لها حلاوة ولا رائحة طيبة، فكذلك الشرك بالله خبيث. ثم وصف الشجرة فقال: اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ أي: اقتلعت من فوق الأرض مَا لَها مِنْ قَرارٍ يعني: ليس لها أصل، تجيء بها الريح، وتذهب. فكذلك الكفر ليس له أصل، ولا حجة في الأرض، ولا في السماء.
ثم قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ بلا إله إلا الله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يعني: يثّبتهم على ذلك القول عند النزع وَفِي الْآخِرَةِ يعني: في القبر. وقال البراء بن عازب: «نزلت الآية في عذاب القبر: يسأل من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ يعني: إذا أجاب فقد ثبّته الله تعالى». وقال الضحاك: إذا وضع المؤمن في قبره وانصرف عنه الناس، دخل عليه ملكان، فيجلسانه ويسألانه: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ وما كتابك؟ وما قبلتك؟ فيثبّته الله في القبر، كما يثبته في الحياة الدنيا بالإقرار بالله تعالى وكتبه ورسله. وروى ابن طاوس عن أبيه
أنه قال: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يعني: قول لا إله إلا الله، يثّبتهم عليها في الدنيا، وَفِي الْآخِرَةِ عند المسألة في القبر. وهكذا قال قتادة. وقال الربيع بن أنس فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يعني: في القبر وَفِي الْآخِرَةِ يعني: يوم الحساب. ويقال: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ يعني:
يموت مع الإيمان، ويبعث على الإيمان يوم القيامة.
ثم قال: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يعني: يضلهم عن الحجة، فلا يقولونها في القبر. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا دخل الكافر والمنافق قبره. قالا له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له: لا دريت ويضربانه بمرزبة، فيصيح صيحة يسمعها ما بين الخافقين، إلا الجن والإنس» «١». فذلك قوله تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ يعني: ما شاء للمؤمنين أن يثبتهم، وللكافرين أن يضلهم عن الجواب.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً قال مقاتل: كانت النعمة أن الله أطعمهم من جوع، وأمنهم مّنْ خوْفٍ، يعني: من الخوف والقتل. ثم بعث فيهم رسولاً منهم، فكفروا بهذه النعمة وبدّلوها، وهم: بنو أمية، وبنو المغيرة وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ يعني:
وأنزلوا سائر قريش دارَ الْبَوارِ أي: دار الهلاك بلغة عمان، أهلكوا قومهم، ثم يصيرون بعد القتل إلى النار يوم القيامة، فذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً أي:
غيّروا نعمة الله عليهم بالكفر وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ يعني: دار الهلاك قال قتادة: وهم قادة المشركين يوم بدر. قال الكلبي: أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ يعني: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها هي دارهم في الآخرة. وقال الكلبي: أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ يعني: مصرعهم ببدر. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يعني: يدخلونها يوم القيامة وَبِئْسَ الْقَرارُ يعني: بئس المستقر جهنم.
ثم قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً يعني: شركاء لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ يعني: ليصرفوا الناس عن دين الإسلام. قرأ أبو عمرو وابن كثير: لِيُضِلُّوا بنصب الياء، يعني: أنهم أخطئوا الطريق وضلوا. وقرأ الباقون: بالضم، يعني: ليصرفوا الناس عن الهدى.
قال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ تَمَتَّعُوا يعني: عيشوا في الدنيا. فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ يعني: مرجعكم يوم القيامة إلى النار.
(١) حديث أنس: أخرجه البخاري (١٣٣٨) (١٣٧٤) ومسلم (٢٨٧٠) (٧١) والنسائي: ٤/ ٩٨ وأحمد: ٣/ ١٢٦.

[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣١ الى ٣٤]

قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
قوله تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ حمزة والكسائي وابن عامر: قل لعباد الذين بغير ياء. وقرأ الباقون: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ بالياء مع النصب. وأصله الياء، إلا أن الكسرة تغني عن الياء. وقال بعض الحكماء: شرف الله تعالى عباده بهذه الياء، وهي خير لهم من الدنيا وما فيها، لأن فيه إضافة إلى نفسه، والإضافة تدل على العتق، لأن رجلاً لو قال لعبده: يا ابن، أو يا ولد لا يعتق، ولو قال يا ولدي أو يا ابني يعتق بالإضافة إلى نفسه، فكذلك إذا أضاف الله العباد إلى نفسه، وفيه دليل على أنه يعتقهم من النار.
قوله: يُقِيمُوا الصَّلاةَ يعني: يتمونها بركوعها وسجودها ومواقيتها، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال سِرًّا وَعَلانِيَةً يعني: سِرًّا على المتعففين، وَعَلانِيَةً على السائلين مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ يعني: لا فداء فيه وَلا خِلالٌ يعني: لا مخالة تنفعه، وهي الصداقة. لأنه إذا نزل بهم شدة في الدنيا، يفادون ويشفع خليلهم، وليس في الآخرة شيء من ذلك، وإنما هي أعمالهم. قرأ ابن كثير وأبو عمرو لاَّ بَيْعٌ وَلاَ خلال بنصب العين واللام. وقرأ الباقون: بالرفع والتنوين فيهما، وهذا الاختلاف مثل قوله وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [البقرة: ٢٥٤].
ثم بيّن دلائل وحدانيته فقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء وهو المطر فَأَخْرَجَ بِهِ يعني: فأنبت بالمطر مِنَ الثَّمَراتِ يعني: من ألوان الثمرات، رِزْقاً لَكُمْ يعني: طعاما لكم. وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ يعني: ذلّل لكم ركوب الفلك لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ يقول بإذنه وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ يعني:
دائمين مطيعين. يعني: ذلّل لكم ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يعني: جعل بني آدم، يلتمسون فيها المعيشة، وينتشرون في النهار إلى حوائجهم، وفي الليل مستقرهم ومنامهم، وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ يعني: أعطاكم من كل شيء لم تحسنوا أن تسألوا، فأعطيتكم برحمتي. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة أنه قال: لم تسألوه بكل الذي أعطاكم. وقال معمر والحسن: آتاكم من كل الذي سألتموه. قال مجاهد: كل ما سألتموه، أي رغبتم إليه فيه، قرأ بعضهم مِنْ كُلِّ بالتنوين يعني: أعطاكم من كل شيء.
وقراءة العامة مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ من غير تنوين على معنى الإضافة. يعني: من جميع ما سألتموه.
ثم قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوها يعني: لا تقدروا على أداء شكرها. ويقال:
لاَ تُحْصُوها يعني: لا تحفظوها إِنَّ الْإِنْسانَ يعني: الكافر لَظَلُومٌ كَفَّارٌ يعني: يظلم نفسه بالكفر بنعم الله تعالى.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً يعني: مكة آمناً من القتل والغارة. ويقال: من الجذام والبرص وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ وذلك أن إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء البيت، سأل ربه أن يجعل هذا البلد آمناً، وخاف على بنيه لأنه رأى القوم يعبدون الأوثان.
فسأل ربه أن يجنبهم عبادة الأوثان فقال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ يقول: احفظني وبنيّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ يعني: لكي لا نعبد الأصنام، وفيه دليل أن المؤمن لا ينبغي له أن يأمن على إيمانه، وينبغي أن يكون متضرعاً إلى الله ليثبّته على الإيمان، كما سأله إبراهيم لنفسه ولبنيه الثبات على الإيمان. وروي عن يحيى بن معاذ أنه كان يقول: إنّ جميع سروري بهذا الإسلام، وأخاف أن تنزعه مني، فما دام هذا الخوف معي رجوت أن لا تنزعه مني».
ثم قال: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يقول: بهن ضلّ كثير من الناس، فكأن الأصنام سبب لضلالتهم. فنسب الإضلال إليهن، وإن لم يكن منهن عمل في الحقيقة. وقال بعضهم: كان الإضلال منهن، لأن الشياطين كانت تدخل أجواف الأصنام وتتكلم، فذلك الإضلال منهن.
ثم قال تعالى: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يعني: من آمن بي فهو معي على ديني. ويقال:
فهو من أمتي وَمَنْ عَصانِي يعني: لم يطعني، ولم يوحدك فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إن تاب، وأن توفقه حتّى يسلم.
ثم قال تعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي يعني: أنزلت بعض ذريتي، وهو إسماعيل بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ يعني: بأرض مكة، وذلك أن سارة كانت لها جارية يقال لها: هاجر، فوهبتها من إبراهيم، فولدت منه إسماعيل، فغارت سارة وناشدته أن يخرج بهما من أرض الشام، فأخرجهما إبراهيم عليه السلام إلى أرض مكة ثم رجع إلى سارة فلما كبر إسماعيل،
رجع إبراهيم إليه، وبنى معه البيت. فذلك قوله: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي: بعض ذريتي، وهو إسماعيل، بأرض ليس فيها زرع عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي حرم فيه القتال والاصطياد، وأن يدخل فيه أحد بغير إحرام، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ يعني: وفّقهم ليتموا الصلاة، وإنما ذكر الصلاة خاصة، لأن الصلاة أولى العبادات وأفضلها فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ يعني: تشتاق إليهم. قال مجاهد: لو قال إبراهيم: فاجعل أفئدة الناس.
تهوى إليهم لزاحمتهم الروم وفارس، ولكنه قال: أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ وَارْزُقْهُمْ يعني:
أطعمهم مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ يعني: لكي يشكروا فيما رزقتهم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٨ الى ٤٤]
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤)
ثم قال تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي من الوجد بإسماعيل وهاجر، والحب لهما، وَما نُعْلِنُ عند سارة من الصبر عنهما وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ يعني: لا يذهب على الله شيء فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ يعني: من عمل أهل السماء وأهل الأرض. قال بعضهم: هذا كلام إبراهيم، وقال بعضهم: هذا كلام الله تعالى.
ثم رجع إلى كلام إبراهيم فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ يعني: بعد الكبر، وهو ابن تسع وتسعين سنة في رواية الكلبي، وفي رواية الضحاك: ابن مائة وعشرين سنة. إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وكان إسماعيل أكبرهما بثلاث عشرة سنة إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ يعني: مجيب الدعاء.
قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ يعني: أكرمني بإتمام الصلاة وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يعني: فأكرمهم أيضاً لإتمام الصلاة رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ أي: استجب دعائي. ويقال: معناه تقبل عملي، واستجب دعائي رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ قرأ بعضهم: ولوالدتي لأن أمه كانت مسلمة. وقرأ بعضهم: ربّنا اغفر لي ولوَلَدَيّ يعني: إسماعيل وإسحاق، وقراءة العامة وَلِوالِدَيَّ لأنه كان يستغفر لأبيه عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يعني: اغفر لجميع المؤمنين يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ يعني: يوم القيامة.
قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ قرأ حمزة وعاصم وابن عامر:
وَلا تَحْسَبَنَّ بنصب السين، وقرأ الباقون: بالكسر، ومعناهما واحد. يعني: لا تظنّن يا محمد أن الله غافل عما يعمل الظالمون، أي: المشركين. يعني: إن أعمالهم لا تخفى عليّ، ولو شئت لعجلت عقوبتهم في الدنيا. قال ميمون بن مهران: هذه الآية تعزية للمظلوم ووعيد الظالم إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يعني: يمهلهم ويؤجلهم. قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين نُؤخِرهُمْ بالنون وقرأ الباقون: بالياء. لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ يعني: تشخص فيه أبصار الكافرين. وذلك حين عاينوا النار شخصت فيه أبصارهم فلا يطرفون فيها.
مُهْطِعِينَ أي: مسرعين، يقال: أهطع البعير في السير، إذا أسرع. ويقال: مُهْطِعِينَ أي ناظرين قاصدين نحو الداعي. وقال قتادة: مُهْطِعِينَ أي: مسرعين مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ المقنع الذي يرفع رأسه شاخصا بصره، لا يطرف. وقال مجاهد: مُهْطِعِينَ مديمي النظر، مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ، رافعي رؤوسهم. وقال الخليل بن أحمد: المهطع الذي قد أقبل إلى الشيء ينظره، ولا يرفع عينيه عنه مُقْنِعِي يعني: رافعي رؤوسهم، مادي أعناقهم لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يعني: لا يرجع إلى الكفار بصرهم وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ يعني: خالية من كل خير، كالهواء ما بين السماء والأرض. وقال السدي: هوت أَفْئِدَتُهُمْ بين موضعها وبين الحنجرة، فلم ترجع إلى موضعها. ولم تخرج كقوله: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ [غافر: ١٨] وهكذا قال مقاتل، وقال أبو عبيدة: هَواءٌ أي مجوفة لا عقول فيها.
ثم قال: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يعني: خوف أهل مكة يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ في الآخرة.
قوله تعالى: فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: أشركوا رَبَّنا أَخِّرْنا يعني: أجلنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ لنرجع إلى الدنيا نُجِبْ دَعْوَتَكَ يعني: الإسلام وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ على دينهم. يقول الله تعالى: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ يقول: حلَفْتُم وأنتم في الدنيا من قبل هذا اليوم مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ أي: لا تزولون عن الدنيا، ولا تبعثون.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧)
قوله تعالى: وَسَكَنْتُمْ يقول: نزلتم فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي أشركوا، يعني: منازل قوم عاد وثمود وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ يقول: كيف عاقبناهم عند التكذيب وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ يقول: بيّنا ووصفنا لكم عصيانهم وجحودهم، والعذاب الذي نزل بهم.
يعني: إنكم سمعتم هذا كله في الدنيا فلم تعتبروا. فلو رجعتم بعد هذا اليوم، لا تنفعكم الموعظة أيضاً.
ثم قال تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ يعني علم الله مكرهم، وقد: صنعوا صنيعهم، يعني: الأمم الخالية وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ يعني: علم الله مكرهم، ولا يخفى عليه. قال علي بن أبي طالب: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ «أي التابوت، والنسور، وهو نمرود بن كنعان وقومه». وروى وكيع بإسناده عن عليّ رضي الله عنه قال: «إن جباراً من الجبابرة قال: لا أنتهي حتى أعلم ما في السماء، يعني: نمرود، فاتخذ فراخ نسور، ثم أمر بها فأطعمت اللحم حتى اشتدت وغلظت واستفحلت، وأخذ تابوتاً يسع فيه رجلان، ثم أمر بالنسور فجوعت، ثم ربط أرجلها بالأوتاد، وشدت بقوائم التابوت، وجعل في وسط التابوت اللحم، ثم جلس في التابوت هو ورجل معه، ثم أرسل النسور وجعل اللحم على رأس خشبة على التابوت، فطارت النسور إلى السماء ما شاء الله. ثم قال لصاحبه: انظر ماذا ترى؟ فنظر فقال: أرى الجبال كأنها ذباب، ثم طارت ما شاء الله، ثم قال: انظر ماذا ترى، فنظر فقال: ما أرى إلا السماء، وما تزداد منها إلا بعداً. قال:
نكّس الخشبة، فنكسها فانقضت النسور حتى سقطت على الأرض، فسمع هزته الجبال، فكادت تزول عن أماكنها»
. ثم قرأ عليّ رضي الله عنه وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ أي: وقد كاد مكرهم ليزيل الجبال عن أماكنها. ويقال: إن نمرود بن كنعان هو أول من تجبر وقهر وسن سنن السوء، وأول من لبس التاج، فأهلكه الله تعالى ببعوضة دخلت في خياشمه، فعذب بها أربعين يوماً ثم مات. وقال قتادة: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ يعني: الكفار حين ادعوا لله تعالى ولداً، فكاد أن تزول الجبال. ويقال: أهل مكة مكروا في دار الندوة، وقد كاد مكرهم أن يزول منه أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمر دين الإسلام. إذ ثبوته كثبوت الجبال، لأن الله تعالى وعد نبيّه صلّى الله عليه وسلّم إظهار دين الإسلام، بدليل ما قال بعد هذا فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ قرأ الكسائي لِتَزُولَ بنصب اللام الأُولى، ورفع الثانية. وقرأ الباقون: بكسر اللام الأولى، ونصب الثانية ومعناه: ما كان مكرهم ليزول به أمر دين الإسلام، إذ ثبوته كثبوت الجبال. ومن قرأ لَيَزُولُ فمعناه: وإن كان مكرهم يعني: مكر الكفار ليبلغ إلى إزالة الجبال، فإن الله ينصر دينه. وروي عن ابن مسعود أن قرأ وإن كاد مَكْرِهِمْ.
قوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ يعني: في نزول العذاب بكفار مكة، إن شاء عجل لهم العقوبة في الدنيا. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ ذو انتقام للكفار.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٨ الى ٥٢]
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
248
قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ قال علي بن أبي طالب يعني: «أي: غير هذه الأرض التي عليها بنو آدم، بأرض بيضاء نقية لم يعمل فيها بالمعاصي، ولا سفك عليها الدماء». وهكذا قال ابن مسعود.
قال: حدّثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا أبو يعقوب. قال: حدثنا محمد بن يونس العامري. قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم. قال: حدثنا القاسم بن الفضل، عن الحسن، عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل تذكرون أهاليكم يوم القيامة؟ قال: «أَمَّا عِنْدَ مَوَاطِنَ ثَلاَثَةٍ فَلاَ: عِنْدَ الصِّرَاطِ، والكِتَابِ، والمِيزَانِ». قالت: ألم يقل الله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ أين يكون الناس يومئذٍ؟ قال: «سَأَلْتِنِي عَنْ شَيءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكِ». فقال:
«النَّاسُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الصِّرَاطِ». وروي عن ابن عباس أنه قال: «تمد الأرض مد الأديم، ويزاد في سعتها».
ثم قال: وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ يعني: خرجوا من قبورهم، وظهروا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ لخلقه.
قوله تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يعني: المشركين يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ مسلسلين فِي الْأَصْفادِ يعني: في الأغلال، يقرن كل كافر مع شيطان سَرابِيلُهُمْ يعني: قمصهم مِنْ قَطِرانٍ أي قمصهم من النحاس المذاب هكذا قال قتادة. وقال الحسن البصري: القطران الآنك. وقال عكرمة: هو القطران الذي يطلى به الأشياء، حتى يشتعل ناراً. وقال الضحاك:
مِنْ قَطِرانٍ يعني: من صفر حار قد انتهى حره. وقال القتبي: مُقَرَّنِينَ أي: قرن بعضهم إلى بعض في الأغلال. وروي عن أبي هريرة أنه كان يقرأ من قَطِرانٍ. ويقول: القطر النحاس والآنك الذي انتهى حره، وسَرابِيلُهُمْ أي قمصهم.
ثم قال تعالى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ يعني: تعلو وجوههم النار، ولا يمتنعون منها.
قوله تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ من خير أو شر إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يقول: إذا حاسب، فحسابه سريع.
قوله: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ يعني: هذا القرآن إرسال وبيان من الله تعالى. ويقال: أبلغكم عن الله تعالى. وَلِيُنْذَرُوا بِهِ يعني: ليخوفوا بالقرآن عن معصية الله تعالى وَلِيَعْلَمُوا يعني:
لكي يعلموا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ صادق وَلِيَذَّكَّرَ أي ليتعظ بما أنزل من التخويف في القرآن أُولُوا الْأَلْبابِ يعني: ذوو العقول من الناس. والله سبحانه وتعالى أعلم- وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم «١».
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة «أ».
249
Icon