تفسير سورة آل عمران

اللباب
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة آل عمران
حكى النقاش : أن هذه السورة اسمها في التوراة " طيبة " مدنية بالاتفاق، وهي مائتا آية، وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان كلمات، وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا.

قوله: ﴿الم﴾ قد تقدكم الكلامُ على هذا مُشْبَعًا، ونقل الجرجانيُّ - هنا - أن «الم» إشارة، إلى حروف المعجم، كأنه يقول: هذه الحروفُ كتابك - أو نحو هذا - ويدل ﴿لاا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ على ما ترك ذكره من خبر هذه الحروف، وذلك في نظمه مثل قوله تعالى: ﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ ؟ [الزمر: ٢٢] وترك الجواب لدلالة قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله﴾ [الزمر: ٢٢] عليه؛ تقديره: كمن قسا قلبه.
ومنه قول الشاعر: [الطويل]
١٣١٥ -... - فَلاَ تَدفِنُونِي إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ خَامِرِي أمَّ عَامِرِ... أي: ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر «انتهى».
قال ابنُ عطيةَ: يحسن في هذا القول - يعني قول الجُرْجَانيِّ - أن يكون «نَزَّلَ» خبر، قوله: «اللهُ» حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى.
قال أبو حيَّان: وهذا الذي ذكره الجرجاني فيه نظر؛ لأن مثليته ليست صحيحة الشبع بالمعنى الذي نحا إليه، وما قاله في الآية محتمل، ولكن الأبرع في [نظم] الآية أن يكون «الم» لا يُضَمُّ ما بعدها إلى نفسها في المعنى، وأن يكون قوله {الله لا إله إِلاَّ
3
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} كلاماً مبتدأ جملة رادة على نصارى نجران.
قال شهاب الدينِ: وهذا الذي ردَّه الشيخُ على الجرجانيِّ هو الذي اختاره الجرجانيُّ وجعله أحسنَ الأقوالِ التي حكاها في كتابه «نَظْم الْقُرْآنِ».
قوله: ﴿لاا إله إِلاَّ هُوَ﴾ يجور أن تكون هذه الجملة خَبَرَ الجَلاَلَة، و «نَزَّلَ عَلَيْكَ» خَبْرٌ آخَرُ، ويجوز أن يَكُونَ ﴿لاا إله إِلاَّ هُوَ﴾ مُعْتَرِضَة بين المبتدأ والخَبَرِ، ويجوز أن يكون حَالاً، وفي صاحبه احتمالان:
أحدهما: أن يكون لَفْظَ الجلالة.
والثاني: أن يكون الضمير في «نَزَّلَ» تقديره: نَزَّل عليك الكتاب متوحِّداً بالربوبية. ذكره مَكِّيٌّ، والأَوَّلُ أولَى.
وةقرأ الجمهور ﴿الم الله﴾ بفتح الميم، وإسقاط همزة الجلالة، واختلفوا في فتحة هذه الميم على ستة أوْجُهٍ:
أحدها: أنها حركة التقاء الساكنين، وهو مذهب سيبويه، وجمهورِ الناس.
فإن قيل: أصل التقاء الساكنين الكَسْرُ، فلِمَ عُدِلَ عنهُ؟
فالجوابُ: أنهم لو كَسَروا لكان ذلك مُفْضِياً إلى ترقيق الميم لام الجلالة، والمقصود تفخيمها للتعظيم، فأوثر الفتح لذلك، وأيضاً: فقبل هذه ياء [وهي أخت الكسرة وأيضاً فصل هذه الياء كسرة]، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات، فحركوها بالفتح كما حركوا في نحو: مِنَ اللهِ، وأما سقوط الهمزة فواضحٌ، وبسقوطها التقى الساكنان.
الثاني: أن الفتحة لالتقاء الساكنين [أيضاً ولكن الساكنين] هما الياء التي قبل الميم، والميم الأخيرة، فحُرِّكت بالفتح لئلا يلتقي ساكنان، ومثله: أيْنَ وكَيْف [وكيت، وذيت]، وما أشبهها.
4
وهذا على قولنا: إنَّه لم يُنْوَ الوقفُ على هذه الحروف المقطَّعة، وهذا خلاف القول الأول: فإنه ينوى فيه الوقف على الحروف المقطعة، فسكنت أواخرها، وبعدها ساكن آخر، وهو لام الجلالة، وعلى هذا القول الثاني ليس لإسقاط الهمزة تأثير في التقاء الساكنين، بخلاف الأول، فإن التقاء الساكنين إنما نشأ من حذفها دَرْجاً.
الثالث: أن هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين، بل هي حركة نقل، أي: نُقِلَتْ حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ [طه: ٦٤] وهي قراءة ورش وحمزة - في بعض طرقه - في الوقف، وهو مذهب الفراء، واحتج على ذلك بأن هذه الحروف النيِّةُ بها الوقف، وإذا كان النيةُ بها الوقْفَ، فسكن أواخرها، والنية بما بعدها الابتداء والاستئناف، فكأن همزة الوصل جرت مجرى همزة القطع؛ إذ النية بها الابتداء، وهي تثبت ابتداءً ليس إلاَّ، فلما كانت الهمزةُ في حُكْم الثَّبِتَةِ، وما قبلها ساكن صحيح قابل لحركتها خففوها بأن ألقَوْا حركتها على الساكن قبلها فقد وصلتَ الكلمةَ التي هي فيها بما قبلها وإن كان ما قبلها موضوعاً على الوقف، فقولك: ألقيت حركته عليه بمنزلة قولك: وصلته، ألا ترى أنك إذا خففت: مَنْ أبوك؟ قلتَ: من أبُوكَ، فوصلت، ولو وقفت لم تلق الحركة عليها، وإذا وصلتها بما قبلها لزم إسقاطها، وكان إثباتها مخالفاً لأحكامها في سائر متصرفاتها.
قال شهاب الدينِ: «وهذا الرد مردود بأن ذلك مُعامل معاملةَ الموقوف عليه والابتداء بما بعده لا أنه موقوف عليه، ومبتدأ بما بعده حقيقة، حتى يردّ عليه بما ذكره»، وقد قَوَّي جماعةٌ قولَ الفراء بما حكاه سيبويه من قولهم: ثَلاثَهَ رْبَعَة، والأصل: ثلاثةٌ أربعةٌ، فلما وقف على ثلاثة أبدل التاء هاء كما هو اللغة المشهورة، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فترك الهاء على حالها في الوصل، ثم نقل حركة الهمزة إلى الهاء فكذلك هذا.
ورد بعضهم هذا الدليل وقال: الهمزة في «أربعة» همزة قطع، فهي ثابتة ابتداءً ودَرْجًا فلذلك نُقِلت حركتها، بخلاف همزة الجلالة، فإنها واجبة السقوط، فلا تستحق نقل حركتها إلى ما قبلها، فليس وزان ما نحن فيه.
5
قال شهاب الدين: «وهذا من هذه الحيثية - صحيح، والفرق لائح، إلا أن لفظ الفرّاء فيه أنه أجرى فيه الوصل مُجْرى الوقف من حيث بقيت الهاء المنقلبة عن التاء وصلاً لا وقفاً واعتد بذلك، ونقل إليها حركة الهمزة، وإن كانت همزة قطع».
وقد اختار الزمخشري مذهب الفراءِ، وسأل وأجاب فقال: «ميم» حقها أن يُوقَفَ عليها كما يوقف على الف ولام، وأن يُبْتَدَأ بما بعدها، كما تقول: واحد. اثنان، وهي قراءة عاصم، وأما فتحتها فهي حركة الهمزة أُلْقِيت عليها حين أسْقِطت للتخفيف.
فإن قلت: كيف جاز إلقاء حركتها عليها، وهي همزة وصل لا تثبت في درْج الكلامِ، فلا تثبت حركتها؛ لأن ثبات حركتها كثباتها؟
قلتُ: هذا ليس بدرْج، لأن «ميم» في حكم الوقف والسكون، والهمزة في حكم الثابت، وإنما حُذفت تخفيفاً وألقِيَت حركتها على الساكن قبلها؛ ليدل عليها، ونظيره: وَاحِدِ اثْنَانِ بإلقائهم حركة الهمزة على الدال.
قال أبو حيّان: «وجوابه ليس بشيء؛ لأنه ادَّعَى أن الميم - حين حُرِّكَتْ - موقوف عليها، وأن ذلك ليس بدرْج، بل هو وقف، وهذا خلاف ما أجمعت عليه العرب، والنحاة من أنه لا يُوقف على متحرك ألبتة سواء ك انت حركته إعرابية، أم بنائية، أن نقلية، أم لالتقاء الساكنين، أم للإتباع، أم للحكاية، فلا يجوز في ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ إذا حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى دال» قَدْ «أن تقف على دال» قد «بالفتحة، بل تسكنها - قولاً واحداً.
وأما قوله: ونظير ذلك وَاحِدِ اثْنَانِ - بإلقاء حركة الهمزة على الدال - فإن سيبويه ذكر أنهم يُشِمُّون آخر»
واحد «لتمكنه، ولم يَحْكِ الكسرَ لغةً، فإن صَحَّ الكسر فليس ولكنه موصول بقولهم: اثنان، فالتقى ساكنان دال» واحد «وثاء» اثنين «، فكسرت الدال؛ لالتقاء الساكنين، وحُذِفَتْ همزة الوصل؛ لأنها لا تثبت ي الوصل».
قال شهاب الدينِ: «ومتى ادَّعى الزمخشري أنه يوقف على» مِيمْ «من» الم «- وهي متحركة - حتى يُلْزِمَهُ بمخالفة إجماع العرب والنحاة؟ إنما ادعى أن هذا في نية الموقوف عليه قبل تحريكه بحركة النقل، لا أنه نُقِل إليه، ثم وقف عليه، هذا لم يقله ألبتة، ولم يَخْطُرْ له».
6
ثم قال الزمخشريُّ: «فإن قلْتَ: هَلاَّ زعمتَ أنها حركة التقاء الساكنين؟
قلت: لأن التقاء الساكنين لا يُبَالَى به في باب الوقف، وذلك قولك: هذا إبْراهيمْ، ودَاوُدْ، وإسْحَاقُ، ولو كان التقاء الساكنين - في حال الوقف - يوجب التحريك لحُرِّك الميمَان في ألف لام ميم؛ لالتقاء الساكنين، ولما انتظر ساكن أخر»
.
قال أبو حيَّان: «وهو سؤال صحيح وجواب صحيح لكن الذي قال: إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من» الم «- في الوقف - وإنما عنى التقا ءالساكنين اللذين هما ميم» ميم «الأخري’، ولام التعريف كالتقاء نون» من «ولام» الرجل «إذا قلت مِنَ الرَّجُلِ».
وهذا الوجه هو الذي تقدَّم عن مكي وغيره.
ثم قال الزمخشريُّ: «فإن قلْتَ: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في» ميم «لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين، فإذا جاء ساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا.
قلت: الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن، أنه كان يمكنهم أن يقولوا: وَاحدْ. اثْنَانِ - بسكون الدال مع طرح الهمزة - فيجمعوا بين ساكنين؛ كما قالوا: اصَيْمٌّ ومُديْقٌّ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير، وأنها ليست لالتقاء الساكنين «.
[قال أبو حيّان:»
وفي سؤاله تعمية في قوله: فإن قلت: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين]- ويعني بالساكنين الياء والميم في «ميم» - وحينئذٍ يجيء التعليل بقوله: لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين - يعني الياء والميم - فحركوا - يعني الميم -؛ لالتقائها ساكنةٌ مع لام التعريف؛ إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن، وهو لا يمكن، هذا شرح السؤال، وأما جواب الزمخشري فلا يطابق؛ لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بإمكانية الجمع بين ساكنين في قولهم: وَاحِدْ، اثْنَانِ - بأن يُسكنوا الدالَ والثاءُ ساكنةٌ، وتسقط الهمزة، فعدلوا عن هذا الإسكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال - وهذه مكابرة ف يالمحسوس؛ إذ لا يمكن ذلك أصلاً، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكن الثاء وطرح الهمزة، وأما قوله فجمعوا بين ساكنين، فلا يمكن الجمع؛ لما قلناه، وأما قوله: كما قالوا: أُصَيْمٌّ وَمُدَيْقٌّ فهذا ممكن كما هو في رادّ وضالّ؛ لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط
7
في النحو، فأمكن ذلك، وليس مثل ذلك «واحد» «اثنان» ؛ لأن الساكن الأول ليس حرفَ مدٍّ، ولا الثاني مُدْغماً، فلا يمكن الجمع بينهما، وأما قوله: فلما حركوا الدال، علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وأنها ليست لالتقاء الساكنين [ويعني بالساكنين الياء والميم] ؛ لما بنى على أن الجمع بين الساكنين في «واحد» «اثنان» ممكن، وحركة التقاء الساكنين إنما هي فميا لا يمكن أن يجتمعا في اللفظ ادعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة «.
قال شهاب الدينِ:»
وهذا الذي رَدَّ به عليه صحيح، وهو معلوم بالضرورة؛ إذ لا يمكن النطق بما ذكر «.
ونصر بعضهم رأي الفرّاء واختيار الزمخشري بأن هذه الحروف جيء بها لمعنى في غيرها، فأواخرها موقوفة، والنية بما بعدها الاستئناف، فالهمزة في حكم الثابت كما في أنصاف الأبيات، كقول حسان: [البسيط]
١٣١٦ -... - لَتَسْمَعُنَّ وَشِيكاً فِي ديارِكُمُ
اللهُ أكْبَرُ يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا... ورجحه بعضهم أيضاً بما حكي عن المبرد: أنه يجيز: اللهُ أكْبَرَ اللهُ أكْبَر - بفتح الراء الأولى - قال: لأه في نية الوقف على»
أكبر «والابتداء مبا يعده، فلما وصلوا مع قصدهم التنبيه على الوقف على آخر كل كلمة من كلمات التكبير نقلوا حركة الهمزة الداخلة على لام التعريف إلى الساكن قبلها؛ التفاتاً ملا ذكر من قصدهم، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في حركات الإعراب وأتَوا بغيرها - مع احتياجهم إلى الحركة من حيث هي فلأنْ يفعلوا ذلك فيما كان موقوفَ [الأخير] من باب أولى.
الرابع: أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعراب على أنه مفعول بفعل مقدَّر، أي اقرءوا ﴿الم﴾ وإنما منعه من الصرف العلمية والتأنيث المعنويّ إذْ أريد به اسم السورة، نحو قرأت هودَ، وقد قالوا هذا الوجه بعينه في قراءة مَنْ قرأ ﴿ص والقرآن ذِي الذكر﴾ [ص: ١] بفتح الدال من صاد، فهذا يجوز أن يكون مثله.
الخامس: أن الفتحة علامة الجر، والمراد بألف لام ميم أيضاً السورة، وأنها مُقْسَمٌ بها، فحُذِفَ حرفُ القسم، وبقي عمله، وامتنع من الصرف لما تقدم، وهذا الوجه - أيضاً - مقول في قراءة من قرأ صَادَ - بفتح الدال -، إلا أن القراءة هناك شاذَّةٌ، وهنا متواترةٌ.
والظاهر أنها حركة التقاء الساكنين - كما هو مذهب سيبويه وأتباعه -.
8
السادس: قال ابن كَيْسَانَ: «ألف» اله «وكل ألف مع لام التعريف [ألف] قطع بمنزلة» قَدْ «وحكمها حكم ألف القطع؛ [لأنهما حرفان جاء لمعنى]، وإنما وُصِلَت لكثرة الاستعمال، فمن حرك الميم ألقى عليها حركة الهمزة التي بمنزلة القاف من» قَدْ «ففتحها بفتح الهمزة»، نقله عنه مَكِّي.
فعلى هذا هذه حركة نقل من همزة قطع، وهذا المذهب مشهور عن الخليل بن أحمد، حيث يعتقد أن التعريف حصل بمجموع «أل»، كالاستفهام يحصل بمجموع «هَلْ»، وأن الهمزة ليست مزيدة، لكنه مع اعتقاده ذلك يوافق على سقوطها في الدَّرْج؛ إجراءً لها مُجْرَى همزة الوصل، لكثرة الاستعمال، لذلك قد تثبت ضرورةً؛ لأن الضرورة ترد الأشياء إلى أصولها.
ولما نقل أبو البقاء هذا القول ولم يَعْزُه، قال: «وهذا يصح على قول من جعل أداة التعريف» أل «- يعني الخليل؛ لأنه المشهور بهذه المقالة».
وقد تقدم النقل عن عاصم أنه يقرأ بالوقف على «ميم» ويبتدئ ب ﴿الله لاا إله إِلاَّ هُوَ﴾ كما هو ظاهر عبارة الزمخشري عنه، وغيره يحكي عنه أنه يسكن الميم ويقطع الهمزة - من غير وقف منه على الميم - كأنه يجري الوصل مجرى الوقف، وهذا هو الموافق لغالب نقل القرّاءِ عنه.
وقرأ عمرو بن عُبَيْدٍ - فيما نقل الزمخشري - وأبو حيوة والرُّواسي فيما نقل ابن عطية «المِ اللهُ» - بكسر الميم -.
قال الزمخشريُّ: «وما هي بمقبولة عنه»، والعجب منه كيف تجرأ على عمرو بن عُبَيْدٍ وهو عنده معروف المنزلة، وكأنه يريد: وما هي بمقبولة عنه، أي: لم تصحَّ عنه.
وكأن الأخفش لم يطلع على أنها قراءة فقال: «لو كُسِرَتِ الميمُ؛ لالتقاء الساكنين - فقيل:» المِ اللهُ «- لجاز».
قال الزّجّاج: وهذا غلط من أبي الحسن، لأن قبل الميم ياءٌ مكسوراً ما قبلها فحقها الفتح، لالتقاء الساكنين، وذلك لثقل الكسر مع الياء. وهذا - وإن كان كما قال -
9
إلا أن الفارسيَّ انتصر لأبي الحَسَن، ورَدَّ على أبي إسحاق رَدَّة فقال: «كَسْر الميم لو ورد بذلك سماع لم يدفعه قياس، بل كان يُثْبِتُهُ ويُقَوِّيه -؛ لأن الأصل في التحريك - لالتقاء الساكنين - الكسر، وإنما يُبْدَل إلى غير ذلك لما يعرض من علَّة وكراهة، فإذا جاء الشيء على بابه فلا وَجْهَ لردِّه، ولا مساغ لدَفْعِه، وقول أبي إسحاق؛ إن ما قبل الميم ياءً مكسوراً ما قبلها، فحقها الفتح منقوض بقولهم: جَيْرِ، حيث حَرَّك الساكن - بعد الياء - بالكسر، كما حُرك بعدها بالفتح في أيْنَ، ويدل على جواز التحريك لالتقاء الساكنين بالكسر - فيما كان قبله ياء، - جواز تحريكه بالضم نحو قولهم: حَيْثُ، وإذا جاز الضم كان الكسر أجْوَزَ وأسْهَلَ».

فصل في بيان سبب النزول


في سبب نزول هذه الآية قولان:
الأول: أنها نزلت في اليهود، وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى: ﴿الم ذَلِكَ الكتاب﴾ [البقرة: ١، ٢].
الثاني: أنها من أولها إلى آية المباهلة في نصارى نجران.
قال الكلبي، والربيعُ بنُ أنس - وهو قول محمد بن إسحاقَ -: قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفد نجران - ستون راكباً - فيهم أربة عشر رجلاً من أشرافهم، وثلاثة منهم كانوا
10
أكابر القوم، أحدهم أميرهم، وصاحب مشورتهم، يقال له: العاقب، واسمه عبد المسيح، والثاني مشيرهم ووزيرهم، وكانوا يقولون له: السيد، واسمه الأيهم، والثالث حبرهم وأسقفهم، وصاحب مِدْراسهم، يقال له: أبو حارثة بن علقمة - أحد بني بكر بن وائل - وكان ملوك الروم قد أكرموه وشرَّفوه، وموَّلوه؛ لِما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما قدموا من «نجران» ركب أبو حارثةَ بغلتَه، وكان إلى جنبه أخوه كُرْزُ بنُ علقمةَ، فبينما بغلة ابي حارثةَ تسير إذ عَثَرَتْ، فقال كُرز: تَعْساً للأبعد - يريد رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال أبو حارثة: بل تَعِسَتْ أمُّك، فقال: ولِمَ يا أخي؟ فقال: إنه - واللهِ - النبيُّ الذي كنا ننتظره، فقال له أخوه كرز: فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا؟
قال: لأن هؤلاء الملوك أعطَوْنَا أموالاً كثيرةً، وأكرمونا، فلو آمنَّا بمحمد لأخذوا مِنَّ كُلَّ هذه الأشياءِ، فوقع ذلك في قَلْبِ أخيه كُرْز، وكان يُضْمِره إلى أن أسْلم؛ فكان يُحَدِّثُ بذلك، ثم دخلوا مسجدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين صلى العصر - عليهم ثياب الحِبراتِ جبب وأرْدِيَةٌ -، وقد حانت صلاتهم، فقاموا للصلاة [العاقب والسيد والحبر] في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال رسول الله: دعوهم، فصلوا إلى المشرق، ثم
11
تكلم أولئك الثلاثة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على اختلاف من أديانهم - فتارة يقولون: عيسى هو الله، وتارةً يقولون: هو ابنُ الله، وتارة يقولون: ثالث ثلاثة، ويحتجون على قولهم: هو الله بأنه كان يُحْيي الموتَى، ويُبْرئ الأسقامَ ويُخْبِر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيطير، ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله بأنه لم يكن له أبٌ يُعْلَم، ويحتجون على قولهم: ثالث ثلاثة بقوله تعالى: ﴿فَعَلْنَا﴾، قلنا، ولو كان واحداص لقال: فعلتُ، قلتُ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«أسلموا»، قالوا: قد أسلمنا، قال عليه السلام: «كذبتم؛ يمنعكم من الإسلام دعاؤُكم لله ولداً، وعبادتكم الصليب، وأكلُكُم الخنزيرَ»، قالوا: إن لم يكن ولدَ الله فمن أبوه؟ فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل اللهُ تعالى أولّ سورةِ آل عمرانَ إلى بضع وثمانين آية، منها أخذ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بناظرهم، فقال: «ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّه لاَ يَكُونُ وَلَدٌ إلا ويشبه أبَاهُ؟ قالوا: بَلَى، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لا يَمُوتُ، وأنَّ عِيسَى يأتي عليه الفناءُ؟ قالوا: بَلَى، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ، يَحْفَظُهُ ويَرْزُقُهُ؟ قالوا: بَلَى، قال: فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ تَعَالى لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض، ولا في السَّماءِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسَى شيئاً من ذلك إلا ما عُلِّمَ؟ قالوا: لا، قال: فإن ربَّنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء، قال: ألستم تعلمون أنَّ ربَّنا لا يأكل، ولا يشربُ ولا يُحْدِثُ؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمُّه كما تحمل المرأةُ، ووضعته كما تضع المرأةُ ولدَها، ثم غُذِّي كما يُغَذَّى الصبيُّ، ثم كان يَطْعَم الطعامَ، ويَشْرَب الشراب ويُحدِث الحدثَ؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم» ؟ فسكتوا، وأبَوْا إلا جُحُوداً، ثم قالوا: يا محمد، ألستَ تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: «بلَى»، قالوا: فحسبنا، فأنزل الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧]، ثم أمر الله محمداً بملاعنتهم _ إن ردوا عليه - فدعاهم إلى الملاعنة، فقالوا: يا أبا القاسم، دَعْنَا نَنْظُرْ في أمرنا، ثم نأتيك بما تريد أن تفعل، فانصرفوا، ثم قال بعضُ أولئك الثلاثةِ لبعضهم: ما ترى؟ فقال: والله يا معشرَ النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبيٌّ مُرْسَل، ولقد جاءكم بفَضلٍ من خَبَرِ صاحبكم، ولقد علمتم مَا لاَعَنَ [قط] قومٌ نبيًّا إلا وفنِيَ كبيرُهم وصغيرُهم، وإنه الاستئصالُ منكم - إن فعلتم - وأنتم قد أبيتم إلا دينَكم، والإقامة على ما أنتم عليه فوادِعُوا الرجلَ، وانصرِفوا إلى بلادِكم، فأتَوْا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا [ابا القاسم] قد رأينا أن لا نُلاعنك، وأن نتركَك على دينك، وأن نرجعَ نحن على ديننا، فابعثْ رجلاً من أصحابك [معنا] يحكم بيننا في أشياءَ قد اختلَفْنا فيها من أموالِنا؛ فإنَّك عندنا رِضّى، فقال عليه السلامُ: [ائتوني] في العشيةِ أبعثْ معكم القويَّ لأمينَ، فكان عمرُ يقول: ما أحببت الإمارة قَطّ
12
إلا يومئذٍ؛ رجاءَ أن أكونَ صاحبَها، قال: صلينا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، وجعلت أتَطَاولُ له؛ ليراني، فمل يزَلْ يُرَدِّدُ بصره، حتى رأى أبا عبيدةَ بنَ الجَرَّاحِ، فدعاه، فقال: اخرج معهم واقض بينهم بالحقِّ فيما اختلفُوا فيه، قال عُمرُ: فذهبَ بها أبو عبيدة.
وهذه الرواية تدل على أن المناظرة في تقرير الدين حرفة الأنبياء - عليهم السلام - وأن مذهب الحَشْوية - في إنكار البحث والنظر - باطل قطعاً.

فصل في بيان الرد على النصارى


«في وَجْه الرد على النصارى في هذه الآية» :
وهو أن الحيَّ القيومَ يمتنع أن يكون له ولد؛ لأنه واجب الوجود لذاته، وكلُّ ما سواه فإنه ممكن لذاته، مُحْدَث، حصل بتكوينه وإيجاده، وإذا كان الكُلُّ مُحْدَثًا مخلوقاً امتنع كونُ شيء منها ولداً له، ولما ثبت أن الإله يجب أن يكون حَيًّا قيوماً، وثبت أن عيسى ما كان حيًّا قيُّومًا، لأنه وُلِدَ، وكان يأكل، ويشرب، ويُحْدِث. والنصارى زعموا أنه قُتِل، ولم يقدر على دفع القتل عن نفسه، وهذا يقتضي القطع بأنه ليس بإله.
قوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ العامة على التشديد في «نَزَّل» وَنَصْب «الْكِتَاب»، وقرأ الأعمشُ، والنَّخَعِيُّ، وابنُ أبي عبلة ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ بتخفيف الزاي ورفع الكتاب.
فأما القراءةُ الأولى فقد تقدم أن هذه الجملةَ تحتمل أن تكون خبراً، وأن تكون مستأنفةً.
وأما القراءةُ الثانيةُ، فالظاهر أن الجملةَ فيها مستأنفةٌ، ويجوز أن تكون خبراً، والعائد محذوف، وحينئذ تقديره: نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ مِنْ عِنْدِهِ.
قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن تتعلق الباء بالفعل قبلها، والباء - حينئذ - للسببية، أي: نزله بسبب الحق.
ثانيهما: أن يتعلق بمحذوف؛ على أنه حال، إما من الفاعل - أي: نزَّله مُحِقًّا - أو من المفعول - أي: نزله ملتبساً بالحق - نحو: جاء بكر بثيابه، أي: ملتبساً بها.
13
وقال مَكيّ: «ولا تتعلق الباء ب» نَزَّل «؛ لأنه قد تعدى إلى مفعولين - أحدهما بحرف فلا يتعدى إلى ثالث».
وهذا - الذي ذكره مكيٌّ - غيرُ ظاهر؛ فإن الفعل يتعدى إلى متعلقاته بحروف مختلفة على حسب ما يكون، وقد تقدم أن معنى الباء السببية، فأيُّ مانع يمنع من ذلك؟
قوله: ﴿مُصَدِّقًا﴾ فيه أوجهٌ:
أحدها: أن ينتصبَ على الحال من «الْكِتَاب». فإن قيل بأن قوله: «بِالْحَقِّ» حال، كانت هذه حالاً ثانيةً عند مَنْ يُجِيز تعدد الحال، وإن لم يُقَلْ بذلك كانت حالاً أولى.
الثاني: أن ينتصب على الحال على سبيل البدلية من محل «بِالْحَقِّ»، وذلك عند مَنْ يمنع تعدد الحال في غير عَطْفٍ، ولا بدليَّةٍ.
الثالث: أن ينتصب على الحال من الضمير المستكن في «بِالْحَقِّ» - إذا جعلناه حالاً - لأنه حينئذٍ يتحمل ضميراً؛ لقيامه مقام الحال التي تتحمله، وعلى هذه الأقوال كلِّها فهي حال مؤكِّدة؛ لأن الانتقالَ فيها غير مُتَصَوَّر، وذلك نظير قول الشاعر: [البسيط]
١٣١٧ - أنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفًا بِهَا نَسَبِي وَهَلْ بِدَارَةَ - يَا لَلنَّاسِ - مِنْ عَارِ
قوله: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ مفعول ل «مصَدِّقاً» وزِيدَت اللامُ في المفعول: [تقويةٌ] للعامل؛ لأنه فرع له؛ إذْ هو اسمُ فاعل، كقوله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: ١٦]، وإنما ادَّعَيْنَا ذلك؛ لأنَّ هذه المادةَ متعديةٌ بنفسها.

فصل في تفسير «الحي» و «القيوم»


الحيُّ: هو الفعَّال الدرَّاك، والقيُّومُ: هو القائمُ بذاته، والقائم بتدبير الخلق، وقرأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - الحي القيَّام، والمراد ب «الكتاب» - هنا - هو القرآن.
قال الزمخشري: «وخص القرآن بالتنزيل، والتوراة والإنجيل بالإنزال؛ لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نَزَّل القرآن مُنَجَّماً، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه، وأنزل التوراةَ والإنجيل دفعَةً واحدةً، فلهذا خصَّهما بالإنزال».
فإن قيل: يُشْكِل هذا بقوله: ﴿الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب﴾ [الكهف: ١]، وبقوله: ﴿وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ﴾ [الإسراء: ١٠٥].
فالجواب: أن المرادَ به كُلُّ نَجْمٍ وَحْدَه.
[وسمي الكل باسم البعض مجازاً، أو نقول: «إن أنزل تشتمل على أمرين والتضعيف لا يشتمل إلاّ الإنزال مرة واحدةٌ»
14
قال أبو حيَّان: وقد تقدم الرّدّ على هذا القول في البقرة، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير، ولا على التنجيم، وقد جاء في القرآن أنزل، ونزَّل قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤] ويدل على أنهما بمعنًى واحدٍ قراءة من قرأ ما كان من نزل مشدّداً بالتخفيف إلاَّ ما استثني، ولو كان أحدهما يدلّ على التنجيم والآخر يدل على النزول دفعةً واحدةً لتناقضت الأخبار، وهو محال، وقد سبق الزمخشريَّ في هذا القول بعينه الواحديُّ].
قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ قال أبو مسلم: يحتمل وجوهاً.
أحدها: أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السابقة.
الثاني: أن ما فيه من الوعد والوعيد يحملُ المكلَّف على اتباع الحقِّ في الْعِلم والعملِ.
ثالثها: أنه حَقٌّ؛ بمعنى أنه قول فَصْل وليس بالهَزْل.
رابعها: قال الأصَمُّ: أنْزَلُه بالحق الذي يجبُ له على خلقه من العبوديةِ، وشُكْرِ النعمةِ وما يجب لبعضهم على بعض من العدلِ، والإنصافِ.
خامسها: أنه أنزله بالحق لا بالمعاني المتناقضةِ الفاسدةِ، كما قال: ﴿أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾ [الكهف: ١]، وقال: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ [النساء: ٨٢].
وقوله: ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ معناه: مصدقاً لكُتُبِ الأنبياء، ولِما أخبروا به عن اللهِ، وهذا دليل على صحة القرآن من وجهين:
أحدهما: أنه موافق لسائر الكتب، ولو كان من عند غير الله لم يوافقها، وهو - عليه السلام - لم يختلط بالعلماء، ولا تتلمذ لأحد، ولا قرأ على أحد شيئاً [والمفتري]- إذا كان هكذا - يمتنع أن يَسْلم من الكذب والتحريف، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصصَ من الله تعالى.
الثاني: قال أبو مسلم: إن الله تعالى لم يبعث نبيًّا قط إلا بالدعاء إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الإله عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. والقرآن مصدق لكل الكتب في ذلك.
فإن قيل: كيف سمَّي ما مَضَى بأنه بَيْنَ يديه؟
فالجوابُ: أن تلك الأخبارَ - لغاية ظهورها، وكونها موجودة - سماها بهذا الاسم.
فإن قيل: كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام؟
فالجوابُ: إذا كانت الكتب مشهورة بالرسل، وأحكامها ثابتة إلى حين نزول القرآن
15
فإنها تصير منسوخةً بنزول القرآن، كان القرآن مصدقاً لها، وأيضاً فدلائل المباحث الإلهية، وأصول العقائد لا تختلف، فلهذا كان مصدِّقاً لها.
قوله: ﴿وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل﴾ اختلف الناس في هذين اللفظين، هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف، أم لا يدخلانهما؛ [لكونهما أعجميَّيْن؟].
فذهب الزمخشريُّ وغيرهُ إلى الثاني، قالوا: لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين، قال الزمخشريُّ: «وتكلف اشتقاقهما من الوَرْي والنَّجْل، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما [عربيين] ».
قال أبو حيّان: «وكلامه صحيح، إلا أن فيه استدراكاً، وهو قوله» تَفْعِلَة «ولم يذكر مذهبَ البصريين وهو أن وزنها فَوْعَلَة، ولم ينبه على» تفعلة «هل هي بكسر العين أو فتحها» ؟
قال شهاب الدينِ: «لم يحتج إلى التنبيه على الشيئين لشهرتهما، وإنما ذكر المستغرب»، ويؤيد ما قاله الزمخشريُّ من كونها أعجمية ما نقله الواحديُّ، وهو أن التوراة، والإنجيل، والزبور سريانية فعرَّبوها، ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا:
فقال بعضهم: التوراة مشتقة من قولهم: وَرِيَ الزَّنْدُ إذا قدح، فظهر منه نار، يقال: وَرِيَ الزند وأوريته أنا، قال تعالى:
﴿أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ﴾ [الواقعة: ٧١] ؟، فُثلاثيُّه قاصر، ورباعيه مُتَعَدٍّ، وقال تعالى: ﴿فالموريات قَدْحاً﴾ [العاديات: ٢]، ويقال أيضاً: وَرَيْتُ بِكَ زِنَادِي، فاستعمل الثلاثي متعدياً، إلا أن المازني زعم أنه لا يُتَجَاوز به هذا الفظ، يعني فلا يُقاس عليه، فيقال: وريت النار مثلاً، إذا تقرر ذلك، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور، يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور، سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً﴾ [الأنبياء: ٤٨] وهذا قولُ الفراء و [مذهب] جمهور الناسِ.
وقال آخرون: بل هي مشتقة من ورَّيتُ في كلامي، من التورية، وهي التعريض، وفي الحديث: «كَانَ إذَا أرادَ سَفَراً وَرَّى بِغَيْرِهِ»، وسميت التوراة بذلك: لأن أكثرها
16
تلويحاتٌ ومعاريضُ، وإلى هذا ذهب المؤرج السَّدُّوسي وجماعة، وفي وزنها ثلاثةُ أقوال:
أحدها - وهو قول الخليل وسيبويه - أن وزنها فَوْعَلَة، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو الدَّوْخَلَة والقَوْصرة والدَّوْسَرة والصَّوْمَعة، والأصل: وَوْرَيَة - بواوين؛ لأنها إما من وَرِيَ الزَّنْدُ، وإما من وَرَّيْتُ في كلامي، فأبدلت الواو الأولى تاءٌ، وتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً فصار اللفظ «توراة» - كما ترى - وكُتِبَت بالياء، تنبيهاً على الأصل، كما أميلت لذلك، وقد أبدلت العرب التاء من الواو في ألفاظ نحو تَوْلَج، وتَيْقُور، وتُخَمَة، وتُراث وتُكأة وتُجَاه وتُكْلاَن، من الوُلُوج والوَقَار والوَخَامة والوِرَاثة والوكَاء والوَجْه والوكَالة، ونظير إبدال الواو تاء في التوراة إبدالها أيضاً من قولهم - لما تراه المرأة في الطُّهْرِ بعد الحيض -: التَّرِيَّة، هي فعيلة من لفظ الوراء؛ لأنها تُرَى بعد الصُّفرة والكُدْرة.
الثاني: وهو قول الفراء: أن وزنها تَفْعِلَة - بكسر العين - فأبدلت الكسرة فتحة، وهي لغة طائية، يقولون في الناصية: نَاصَاة، وفي جارية: جَارَاة، وفي نَاجِيَة: نَاجَاة، قال الشاعِرُ: [الطويل]
١٣١٨ -.......................
17
فَخَرَّتْ كَنَاصَاةِ الْحُصَانِ الْمُشَهَّرِ
وقال آخر: [المنسرح]
١٣١٩ -...................... نُفُوساً بُنَتْ عَلَى الْكَرَمِ
وأنشد الفرَّاءُ: [الوافر]
١٣٢٠ - فَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةٍ لِحَيٍّ وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ
وقد رد البصريون ذلك بوجهَيْن:
أحدهما: أن هذا البناء قليل جدًّا - أعني بناء تفعلة - بخلاف فَوْعَلَة، فإنه كثير، فالحمل على الأكثر أولى.
الثاني: أنه يلزم منه زيادة التاء أولاً، والتاء لم تُزَد - أوَّلاً - إلا في مواضع ليس هذا منها، بخلاف قلبها في أول الكلمة، فإنه ثابت، وذلك أن الواو إذا وقعت أولاً قُلبت إما همزة نحو أجُوه وأُقِّتَتْ وإشَاح - في: وجوه ووُقِّتَتْ ووِشَاح - وإما تاء نحو: تُجَاه وتُخْمَة، فاتباع ما عُهِد أولى من اتباع ما لم يُعْهَد.
الثالث: أن وزنها «تَفْعَلة» [بفتح العين]- وهو مذهب الكوفيين - كما يقولون في تَفْعُلَة - بالضم - تَفْعَلَة - بالفتح - وهذا لا حاجة إليه، وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها.
وأَمَالَ «التوراة» - حيث ورد في القرآن - إمالة محضة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان وأمالها بين بين حمزة وورش [عن نافع]، واختلف عن قالون، فروي عنه بين بين والفتح، وقرأها الباقون بالفتح فقط، ووجه الإمالة إن قلنا إن ألفها [منقلبة عن ياء ظاهر، وإن قلنا: إنها أعجمية لا اشتقاق لها، فوجه الإمالة شبه ألفها
18
لألف] التأنيث من حيث وقوعها رابعة، فسبب إمالتها، إما الانقلاب، وإما شبه ألف التأنيث.
والإنجيل؛ قيل: إفعيل كإجفيل، وفي وزنه أقوال:
أحدها: أنه مشتق من النَّجْل، وهو الماء الذي ينز من الأرض ويخرج منها، ومنه النجْل للولد، وسمي الإنجيل؛ لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ.
وقيل: من النجل وهو الأصل، ومنه النجل للوالد، فهو من الأضداد؛ إذ يُطْلَق على الولد والوالد، قال الأعشى: [المنسرح]
١٣٢١ - أنْجَبَ أيَّامَ وَالِدَاهُ بِهِ إذْ نَجَلاَهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلاَ
وقيل: من النجل - وهو التوسعة - ومنه العين النجلاء، لسعتها، ومنه طعنة نجلاء وسمي الإنجيل بذلك؛ لأن فيه توسعةً لم تكن في التوراة؛ إذْ حلل فيه أشياء كانت محرمة.
وقيل: هو مشتق من التناجل وهو: التنازع، يقال: تناجل الناسُ أي: تنازعوا وسُمِّي الإنجيل بذلك لاختلاف الناس فيه، قاله أبو عمرو الشيباني.
والعامة على كسر الهمزة من «إنجيل»، وقرأ الحسن بفتحها.
قال الزمخشري: وهذا يدل على أنه أعجمي؛ لأن أفعيلاً - بفتح الهمزة - قليل عديم في أوزان العرب. قلت: بخلاف إفعيل - بكسرها - فإنه موجود نحو: إجفيل وإخريط وإصليت.
19
قال ابن الخطيبِ: «وأمر هؤلاء الأدباء عجيبٌ؛ لأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخرَ، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل، وإما الدور، ولما كانا باطلَيْنِ وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وَضْعًا أوَّلاً، حتى يُجْعَل سائرُ الألفاظ مشتقةً منها، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا، والفرع هو ذاك الآخر، ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل؟
وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت بذلك لظهورها، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يُسَمَّى بالتوراة، فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يُسَمَّى بالإنجيل، فالطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً، والذهب أصل الخاتم، والغزل أصل الثوب، فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل، ومعلوم أنه ليس كذلك، ثم إنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع، ويقولوا: العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة، فلِمَ لا نتمسك به في أول الأمر، ونُرِيح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان، أحدهما بالعبرية، والآخر بالسريانية [فقيل: التوراة بالعبرانية نور، ومعناه الشريفة، والإنجيل بالسريانية»
إنكليون «، ومعناه الإكليل] [فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب؟ فظهر أنَّ الأوْلَى بالعاقل أن لا يلتفتَ إلى هذه المباحث» ].
قوله: «مِن قَبْلُ» متعلق ب «أنْزَلَ» والمضاف إليه الظرف محذوف؛ لفَهْم المعنى، تقديره: من قبلك، أو من قبل الكتاب، و «الْكِتَاب» غلب على القرآن، وهو - في الأصل - مصدر واقع موقع المفعول به، [أي] المكتوب.
وذكر المنزل عليه في قوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ﴾، ولم يذكره في قوله: ﴿وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل﴾ تشريفاً لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: «هُدًى» فيه وجهان:
20
أحدهما: أنه منصوب على المفعول من أجله، والعامل فيه «أنْزَلَ» أي: أنزل هذين الكتابين لأجل هدايته.
وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هُدًى، والوصفان متقاربان.
فإن قيل: لم وصف القرآن - في أول سورة البقرة - بأنه ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]، ولم يصفه هنا بذلك؟ قيل: إنما وصفه - هناك - بذلك؛ [لأن] المتقين هم المنتفعون به، فهو هدى لهم لا لغيرهم وها هنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يَهْتَدُونَ بالقرآن، فلا جرم لم يقل هنا في القرآن إنه هدًى، بل قال: إنه حق في نفسه - سواء قبلوه أو ردوه - وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما، ويدعون أنهم إنما يعولون في دينهم عليهما، فلا جرم، وصفهما بكونهما هدى. ويجوز أن يكون متعلقاً - من حيث المعنى - ب «نَزَّلَ» و «أنْزَلَ» معاً، وتكون المسألة من باب التنازع على إعمال الثاني والحذف من الأول، تقديره: نزل عليك الكتاب له أي: للهدى، فحذفه.
ويجوز أن يتعلق بالفعلين - معاً - تعلقاً صناعياً، لا على وجه التنازع، بل بمعنى أنه علة للفعلين معاً، كما تقول: أكرمت زيداً وضربت عمراً إكراماً لك، يعني أن الإكرام علة الإكرام والضرب.
والثاني: أن ينتصب على الحال من التوراة والإنجيل. ولم يُثَنَّ؛ لأنه مصدر، وفيه الأوجه المشهورة من حذف المضاف - أي ذَوَي هُدًى - أو على المبالغة - بأن جُعِلا نَفْسَ الهُدَى - أو على جعلهما بمعنى هاديَيْنِ.
وقيل: إنه حال من الكتاب والتوراة والإنجيل.
وقيل: حال من الإنجيل فقط، وحذف مما قبله؛ لدلالة هذا عليه.
وقال بعضهم: تَمَّ الكلام عند قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ فيوقف عليه، ويُبْتَدَأ بقوله: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الفرقان﴾ أي: وأنزل الفرقان هدًى للناس.
وهذا التقدير غير صحيح؛ لأنه يُؤدي إلى تقديم المعمول على حرف النسق، وهو ممتنع؛ إذ لو قلت: قام زيدٌ مكتوفةٌ وضربتُ هِنْداً - تعني وضربت هنداً مكتوفةً - لم يصح، فكذلك هذا.
قوله: «لِلناسِ» يحتمل أن يتعلق بنفس «هُدًى» لأن هذه المادة تتعدى باللام، كقوله تعالى: ﴿يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] وأن يتعلق بمحذوف؛ لأنه صفة ل «هُدًى».
21
قوله: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية، ولم يُجْمَع لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران، وهو يحتمل أن يكون مصدراً واقعاً موقع الفاعل، أو المفعول، والأول أظهر.
قال الزمخشريُّ: «وكرر ذكر القرآن بما هو نعت له. ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس؛ تعظيماً لشأنه، وإظهاراً لفضله».
قال شهاب الدينِ: «قد يعتقد معتقد أن في كلامه هذا رَدًّا لقوله الأول؛ حيث قال: إن» نَزَّل «يقتضي التنجيم، و» أنْزَلَ «يقتضي الإنزال الدفعي؛ لأنه جوز أن يراد بالفرقان القرآن، وقد ذكره ب» أنْزَلَ «، ولكن لا ينبغي أن يُعْتَقَدَ ذلك؛ لأنه لم يَقُل: إن أنزل للانزال الدفعيِّ فقط، بل يقول: إن» نَزَّل «- بالتشديد - يقتضي التفريق، و» أنْزِلَ «يحتمل التفريق، ويحتمل الإنزال الدفعي».

فصل في المراد ب «الفرقان»


قيل: المراد بالفرقان هو الزبور؛ لقوله: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾ [الإسراء: ٥٥].
وقيل القرآن، وإنما أعاده تعظيماً لشأنه، ومدحاً له بكونه فارقاً بين الحق والباطل.
أو يقال: إنه تعالى أعاد ذكرَه ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل، ليجعله فارقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير، فلا تكرار.
وقال الأكثرون: إن المراد أنه تعالى - كما جعل هذه الكتب الثلاثة هدًى ودلالة - قد جعلها مفرقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع.
قال ابن الخطيبِ: «وهذه الأقوال - عندي - مُشْكِلةٌ.
فأما حمله على الزبور فبعيد؛ لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام، وإنما هو مواعظ ووصف التوراة والإنجيل - مع اشتمالهما على الدلائل والأحكام - بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك.
وأما حمله على [القرآن] فبعيد من حيث إنه عطف على ما قبله، والمعطوف يغاير المعطوف عليه، والقرآن مذكور قبل ذلك فيقتضي أن يكون الفرقان مغايراً للقرآن، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه [الكتب] فارقةً بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب، وعطف الصفة على الموصوف - وإن كان قد ورد فيه بعض الأشعار النادرة [إلا أنه] ضعيف، بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام اللهِ تعالى.
والمختار عندي هو أن المراد بالفرقان - هنا - المعجزات المقرونة بإنزال هذه
22
الكتب؛ لأنهم لما أتوا بهذه الكتب، وادعوا أنها نزلت عليهم من عند الله تعالى افتقروا إلى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم ودعوى الكاذبين، فلما أظهر الله تلك المعجزات على وفق دعواهم حصلت المفارقة بين دعوى الصادق، ودعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب بالحق، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا ما عندي «.
ويمكن أن يجاب بأنه إذا قلنا: المراد به جميع الكتب السماوية، فيزول الإشكال الذي ذكره، ويكون هذا من باب ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى: ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾ [عبس: ٢٧ - ٣١].
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ﴾ يحتمل أن يرتفعَ»
عَذَابٌ «بالفاعلية بالجار قبله، لوقوعه خبراً عن» إنَّ «ويحتمل أن يرتفعَ على الابتداء، والجملة خبر» إنَّ «والأول أولى؛ لأنه من قبيل الإخبار بما يقرب من المفردات و» انتقام «افتعال، من النقمة وهي السطوة والتسلط، ولذلك عبر بعضهم عنها بالمعاقبة، يقال: نَقَمَ - بالفتح - وهو الأفصح، ونَقِم - بالكسر - وقد قُرِئ بهما ويقال: انتقم من انتم، أي: عاقبه وقال الليث: ويقال لم أرض عنه، حتى نقمت، وانتقمت إذا كافأه عقوبة بما صنع. وسيأتي له مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى.

فصل


اعلم أنه تعالى لما قرر جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد؛ زَجْراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرةِ، فقال: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ فخصَّ بعضُ المفسّرين ذلك بالنصارى؛ قَصْراً للفظ العام على سبب نزوله.
وقال المحقِّقون: الاعتبار بعموم اللفظ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله ﴿والله عَزِيزٌ﴾، أي: غالب لا يُغْلَب، وهذا إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، و ﴿ذُو انتقام﴾ إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب، فالأول صفة الذات، والثاني صفة الفعل.
23
قوله :﴿ الم ﴾ قد تقدم الكلامُ على هذا مُشْبَعاً، ونقل الجرجانيُّ - هنا- أن " الم " إشارة، إلى حروف المعجم، كأنه يقول : هذه الحروفُ كتابك - أو نحو هذا - ويدل ﴿ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ على ما ترك ذكره من خبر هذه الحروفِ، وذلك في نظمه مثل قوله تعالى :﴿ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ ؟ [ الزمر : ٢٢ ] وترك الجواب لدلالة قوله :﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [ الزمر : ٢٢ ] عليه ؛ تقديره : كمن قسا قلبه.
ومنه قول الشاعر :[ الطويل ]
فَلاَ تَدفِنُونِي إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ خَامِرِي أمَّ عَامِرِ١
أي : ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر " انتهى ".
قال ابنُ عطيةَ٢ : يحسن في هذا القول - يعني قول الجُرْجَانيِّ - أن يكون " نَزَّلَ " خبر، قوله :" اللهُ " حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى.
قال أبو حيَّان٣ : وهذا الذي ذكره الجرجاني فيه نظر ؛ لأن مثليته ليست صحيحة الشبع بالمعنى الذي نحا إليه، وما قاله في الآية محتمل، ولكن الأبرع في [ نظم ] ٤ الآية أن يكون " الم " لا يُضَمُّ ما بعدها إلى نفسها في المعنى، وأن يكون قوله٥ ﴿ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ كلاماً مبتدأ جملة رادة على نصارى نجران.
قال شهاب الدينِ٦ : وهذا الذي ردَّه الشيخُ على الجرجانيِّ هو الذي اختاره الجرجانيُّ وجعله أحسنَ الأقوالِ التي حكاها في كتابه " نَظْم الْقُرْآن ".
قوله :﴿ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملة خَبَرَ الجَلاَلَة، و " نَزَّلَ عَلَيْكَ " خَبْرٌ آخَرُ، ويجوز أن يَكُونَ ﴿ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ مُعْتَرِضَة بين المبتدأ والخَبَرِ، ويجوز أن يكون حَالاً، وفي صاحبه احتمالان :
أحدهما : أن يكون لَفْظَ الجلالة.
والثاني : أن يكون الضمير في " نَزَّلَ " تقديره : نَزَّل عليك الكتاب متوحِّداً بالربوبية٧. ذكره مَكِّيٌّ، والأَوَّلُ أولَى.
وقرأ الجمهور ﴿ الم اللَّهُ ﴾ بفتح الميم، وإسقاط همزة الجلالة، واختلفوا في فتحة هذه الميم على ستة أوْجُهٍ :
أحدها : أنها حركة التقاء الساكنين، وهو مذهب سيبويه٨، وجمهورِ الناس.
فإن قيل : أصل التقاء الساكنين الكَسْرُ، فلِمَ عُدِلَ عنهُ ؟
فالجوابُ : أنهم لو كَسَروا لكان ذلك مُفْضِياً إلى ترقيق الميم لام الجلالة، والمقصود تفخيمها للتعظيم، فأوثر الفتح لذلك، وأيضاً : فقبل هذه٩ ياء [ وهي أخت الكسرة وأيضاً فصل هذه الياء كسرة ] ١٠، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات١١، فحركوها بالفتح كما حركوا في نحو : مِنَ اللهِ، وأما سقوط الهمزة فواضحٌ، وبسقوطها التقى الساكنان.
الثاني : أن الفتحة لالتقاء الساكنين [ أيضاً ولكن الساكنين ] ١٢ هما الياء التي قبل الميم، والميم الأخيرة، فحُرِّكت بالفتح لئلا يلتقي ساكنان، ومثله : أيْنَ وكَيْف [ وكيت، وذيت ] ١٣، وما أشبهها.
وهذا على قولنا : إنَّه لم يُنْوَ الوقفُ على هذه الحروف المقطَّعة، وهذا خلاف القول الأول : فإنه ينوى فيه الوقف على الحروف المقطعة، فسكنت أواخرها، وبعدها ساكن آخر، وهو لام الجلالة، وعلى هذا القول الثاني ليس لإسقاط الهمزة تأثير في التقاء الساكنين، بخلاف الأول، فإن التقاء الساكنين إنما نشأ من حذفها دَرْجاً.
الثالث : أن هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين، بل هي حركة نقل، أي : نُقِلَتْ حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو ﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾ [ طه : ٦٤ ] وهي قراءة١٤ ورش وحمزة - في بعض طرقه - في الوقف، وهو مذهب الفراء، واحتج على ذلك بأن هذه الحروف النيِّةُ بها الوقف، وإذا كان النيةُ بها الوقْفَ، فسكن أواخرها، والنية بما بعدها الابتداء والاستئناف، فكأن همزة الوصل جرت مجرى همزة القطع ؛ إذ النية بها الابتداء، وهي تثبت ابتداءً ليس إلاَّ، فلما كانت الهمزةُ في حُكْم الثَّابِتَةِ، وما قبلها ساكن صحيح قابل لحركتها خففوها بأن ألقَوْا حركتها على الساكن قبلها ورد بعضهم قول الفراء بأن وضع هذه الحروف على الوقف لا يوجب قطع الوصل وإثباتها في المواضع التي تسقط فيها، وأنت إذا ألقيت حركتها على الساكن فقد وصلتَ الكلمةَ التي هي فيها بما قبلها وإن كان ما قبلها موضوعاً على الوقف، فقولك : ألقيت حركته عليه بمنزلة قولك : وصلته، ألا ترى أنك إذا خففت : مَنْ أبوك ؟ قلتَ : من أبُوكَ، فوصلت، ولو وقفت لم تلق الحركة عليها، وإذا وصلتها بما قبلها لزم إسقاطها، وكان إثباتها مخالفاً لأحكامها في سائر متصرفاتها.
قال شهاب الدينِ :" وهذا الرد مردود بأن ذلك مُعامل معاملةَ الموقوف عليه والابتداء بما بعده لا أنه موقوف عليه، ومبتدأ بما بعده حقيقة، حتى يردّ عليه بما ذكره "، وقد قَوَّي جماعةٌ قولَ الفراء بما حكاه سيبويه١٥ من قولهم : ثَلاثَهَرْبَعَة، والأصل : ثلاثةٌ أربعةٌ، فلما وقف على ثلاثة أبدل التاء هاء كما هو اللغة المشهورة١٦، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فترك الهاء على حالها في الوصل، ثم نقل حركة الهمزة إلى الهاء فكذلك هذا.
ورد بعضهم هذا الدليل وقال : الهمزة في " أربعة " همزة قطع، فهي ثابتة ابتداءً ودَرْجاً فلذلك نُقِلت حركتها، بخلاف همزة الجلالة، فإنها واجبة السقوط، فلا تستحق نقل حركتها إلى ما قبلها، فليس وزان ما نحن فيه.
قال شهاب الدين١٧ :" وهذا من هذه الحيثية - صحيح، والفرق لائح، إلا أن لفظ الفرّاء فيه أنه أجرى فيه الوصل مُجْرى الوقف من حيث بقيت الهاء المنقلبة عن التاء وصلاً لا وقفاً واعتد بذلك، ونقل إليها حركة الهمزة، وإن كانت همزة قطع ".
وقد اختار الزمخشري مذهب الفراءِ، وسأل وأجاب فقال :" ميم " حقها أن يُوقَفَ عليها كما يوقف على الف ولام، وأن يُبْتَدَأ بما بعدها، كما تقول : واحد. اثنان، وهي قراءة عاصم١٨، وأما فتحتها فهي حركة الهمزة أُلْقِيت عليها حين أسْقِطت للتخفيف.
فإن قلت : كيف جاز إلقاء حركتها عليها، وهي همزة وصل لا تثبت في درْج الكلامِ، فلا تثبت حركتها ؛ لأن ثبات حركتها كثباتها ؟
قلتُ : هذا ليس بدرْج، لأن " ميم " في حكم الوقف والسكون، والهمزة في حكم الثابت، وإنما حُذفت تخفيفاً وألقِيَت حركتها على الساكن قبلها ؛ ليدل عليها، ونظيره : وَاحِدِ اثْنَانِ بإلقائهم حركة الهمزة على الدال.
قال أبو حيّان :" وجوابه ليس بشيء ؛ لأنه ادَّعَى أن الميم - حين حُرِّكَتْ - موقوف عليها، وأن ذلك ليس بدرْج، بل هو وقف، وهذا خلاف ما أجمعت عليه العرب، والنحاة من أنه لا يُوقف على متحرك ألبتة سواء كانت حركته إعرابية، أم بنائية، أم نقلية، أم لالتقاء الساكنين، أم للإتباع، أم للحكاية، فلا يجوز في ﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾ إذا حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى دال " قَدْ " أن تقف على دال " قد " بالفتحة، بل تسكنها - قولاً واحداً.
وأما قوله : ونظير ذلك وَاحِدِ اثْنَانِ - بإلقاء حركة الهمزة على الدال - فإن سيبويه ذكر أنهم يُشِمُّون آخر " واحد " لتمكنه١٩، ولم يَحْكِ الكسرَ لغةً، فإن صَحَّ الكسر فليس ولكنه موصول بقولهم : اثنان، فالتقى ساكنان دال " واحد " وثاء " اثنين "، فكسرت الدال ؛ لالتقاء الساكنين، وحُذِفَتْ همزة الوصل ؛ لأنها لا تثبت في الوصل ".
قال شهاب الدينِ :" ومتى ادَّعى الزمخشري أنه يوقف على " مِيمْ " من " الم " - وهي متحركة - حتى يُلْزِمَهُ بمخالفة إجماع العرب والنحاة ؟ إنما ادعى أن هذا في نية الموقوف عليه قبل تحريكه بحركة النقل، لا أنه نُقِل إليه، ثم وقف عليه، هذا لم يقله ألبتة، ولم يَخْطُرْ له ".
ثم قال الزمخشريُّ :" فإن قلْتَ : هَلاَّ زعمتَ أنها حركة التقاء الساكنين ؟
قلت : لأن التقاء الساكنين لا يُبَالَى به في باب الوقف، وذلك قولك : هذا إبْراهيمْ، ودَاوُدْ، وإسْحَاقُ، ولو كان التقاء الساكنين - في حال الوقف - يوجب التحريك لحُرِّك الميمَان في ألف لام ميم ؛ لالتقاء الساكنين، ولما انتظر ساكن أخر ".
قال أبو حيَّان :" وهو سؤال صحيح وجواب صحيح لكن الذي قال : إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من " الم " - في الوقف - وإنما عنى التقاء الساكنين اللذين هما ميم " ميم " الأخيرة، ولام التعريف كالتقاء نون " من " ولام " الرجل " إذا قلت مِنَ الرَّجُلِ ".
وهذا الوجه هو الذي تقدَّم عن مكي٢٠ وغيره.
ثم قال الزمخشريُّ :" فإن قلْتَ : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في " ميم " لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين، فإذا جاء ساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا.
قلت : الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن، أنه كان يمكنهم أن يقولوا : وَاحدْ. اثْنَانِ - بسكون الدال مع طرح الهمزة - فيجمعوا بين ساكنين ؛ كما قالوا : اصَيْمٌّ ومُديْقٌّ٢١، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير، وأنها ليست لالتقاء الساكنين ".
[ قال أبو حيّان٢٢ :" وفي سؤاله تعمية في قوله : فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين٢٣ ] - ويعني بالساكنين الياء والميم في " ميم " - وحينئذٍ يجيء التعليل بقوله : لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين - يعني الياء والميم - ثم قال : فإن جاء بساكن ثالث - يعني لام التعريف - لم يمكن إلا التحريك - يعني في الميم - فحركوا - يعني الميم- ؛ لالتقائها ساكنةٌ مع لام التعريف ؛ إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن، وهو لا يمكن، هذا شرح السؤال، وأما جواب الزمخشري فلا يطابق ؛ لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بإمكانية الجمع بين ساكنين في قولهم : وَاحِدْ، اثْنَانِ - بأن يُسكنوا الدالَ والثاءُ ساكنةٌ، وتسقط الهمزة، فعدلوا عن هذا الإسكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال - وهذه مكابرة في المحسوس ؛ إذ لا يمكن ذلك أصلاً، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء وطرح الهمزة، وأما قوله فجمعوا بين ساكنين، فلا يمكن الجمع ؛ لما قلناه، وأما قوله : كما قالوا : أُصَيْمٌّ وَمُدَيْقٌّ فهذا ممكن كما هو في رادّ وضالّ ؛ لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط في النحو، فأمكن ذلك، وليس مثل ذلك " واحد " " اثنان " ؛ لأن الساكن الأول ليس حرفَ مدٍّ، ولا الثاني مُدْغماً، فلا يمكن الجمع بينهما، وأما قوله : فلما حركوا الدال، علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وأنها ليست لالتقاء الساكنين [ ويعني بالساكنين الياء والميم ] ؛ لما بنى على أن الجمع بين الساكنين في " واحد " " اثنان " ممكن، وحركة التقاء الساكنين إنما هي فيما لا يمكن أن يجتمعا في اللفظ ادعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة ".
قال شهاب الدينِ٢٤ :" وهذا الذي رَدَّ به عليه صحيح، وهو معلوم بالضرورة ؛ إذ لا يمكن النطق بما ذكر ".
ونصر بعضهم رأي الفرّاء واختيار الزمخشري بأن هذه الحروف جيء بها لمعنى في غيرها، فأواخرها موقوفة، والنية بما بعدها الاستئناف، فالهمزة في حكم الثابت كما في أنصاف الأبيات، كقول حسان :[ البسيط ]
لَتَسْمَعُنَّ وَش

فصل في بيان الرد على النصارى


" في وَجْه الرد على النصارى في هذه الآية ".
وهو أن الحيَّ القيومَ يمتنع أن يكون له ولد ؛ لأنه واجب الوجود لذاته، وكلُّ ما سواه فإنه ممكن لذاته، مُحْدَث، حصل بتكوينه وإيجاده، وإذا كان الكُلُّ مُحْدَثًا مخلوقاً امتنع كونُ شيء منها ولداً له، ولما ثبت أن الإله يجب أن يكون حَيًّا قيوماً، وثبت أن عيسى ما كان حيًّا قيُّوماً، لأنه وُلِدَ، وكان يأكل، ويشرب، ويُحْدِث. والنصارى زعموا أنه قُتِل، ولم يقدر على دفع القتل عن نفسه، وهذا يقتضي القطع بأنه ليس بإله.
قوله :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ العامة على التشديد في " نَزَّل " وَنَصْب " الْكِتَاب "، وقرأ الأعمشُ، والنَّخَعِيُّ، وابنُ أبي عبلة٤٧ ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ بتخفيف الزاي ورفع الكتاب.
فأما القراءةُ الأولى فقد تقدم أن هذه الجملةَ تحتمل أن تكون خبراً، وأن تكون مستأنفةً.
وأما القراءةُ الثانيةُ، فالظاهر أن الجملةَ فيها مستأنفةٌ، ويجوز أن تكون خبراً، والعائد محذوف، وحينئذ تقديره : نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ مِنْ عِنْدِهِ.
قوله :﴿ بِالْحَقِّ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن تتعلق الباء بالفعل قبلها، والباء - حينئذ - للسببية، أي : نزله بسبب الحق.
ثانيهما : أن يتعلق بمحذوف ؛ على أنه حال، إما من الفاعل - أي : نزَّله مُحِقًّا - أو من المفعول - أي : نزله ملتبساً بالحق - نحو : جاء بكر بثيابه، أي : ملتبساً بها.
وقال مَكيّ٤٨ :" ولا تتعلق الباء ب " نَزَّل " ؛ لأنه قد تعدى إلى مفعولين - أحدهما بحرف فلا يتعدى إلى ثالث ".
وهذا - الذي ذكره مكيٌّ - غيرُ ظاهر ؛ فإن الفعل يتعدى إلى متعلقاته بحروف مختلفة على حسب ما يكون، وقد تقدم أن معنى الباء السببية، فأيُّ مانع يمنع من ذلك ؟
قوله :﴿ مُصَدِّقًا ﴾ فيه أوجهٌ :
أحدها : أن ينتصبَ على الحال من " الْكِتَاب ". فإن قيل بأن قوله :" بِالْحَقِّ " حال، كانت هذه حالاً ثانيةً عند مَنْ يُجِيز تعدد الحال، وإن لم يُقَلْ بذلك كانت حالاً أولى.
الثاني : أن ينتصب على الحال على سبيل البدلية من محل " بِالْحَقِّ "، وذلك عند مَنْ يمنع تعدد الحال في غير عَطْفٍ، ولا بدليَّةٍ.
الثالث : أن ينتصب على الحال من الضمير المستكن في " بِالْحَقِّ " - إذا جعلناه حالاً - لأنه حينئذٍ يتحمل ضميراً ؛ لقيامه مقام الحال التي تتحمله، وعلى هذه الأقوال كلِّها فهي حال مؤكِّدة ؛ لأن الانتقالَ فيها غير مُتَصَوَّر، وذلك نظير قول الشاعر :[ البسيط ]
أنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفًا بِهَا نَسَبِي وَهَلْ بِدَارَةَ - يَا لَلنَّاسِ - مِنْ عَارِ٤٩
قوله :﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ مفعول ل " مصَدِّقاً " وزِيدَت اللامُ في المفعول :[ تقويةٌ ] للعامل ؛ لأنه فرع له ؛ إذْ هو اسمُ فاعل، كقوله تعالى :﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [ البروج : ١٦ ]، وإنما ادَّعَيْنَا ذلك ؛ لأنَّ هذه المادةَ متعديةٌ بنفسها.

فصل في تفسير " الحي " و " القيوم "


الحيُّ : هو الفعَّال الدرَّاك، والقيُّومُ : هو القائمُ بذاته، والقائم بتدبير الخلق، وقرأ عمر - رضي الله عنه - الحي القيَّام٥٠.
والمراد ب " الكتاب " - هنا - هو القرآن.
قال الزمخشري :" وخص القرآن بالتنزيل، والتوراة والإنجيل بالإنزال ؛ لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نَزَّل القرآن مُنَجَّماً، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه، وأنزل التوراةَ والإنجيل دفعَةً واحدةً، فلهذا خصَّهما بالإنزال ".
فإن قيل : يُشْكِل هذا بقوله :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾ [ الكهف : ١ ]، وبقوله :﴿ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ [ الإسراء : ١٠٥ ].
فالجواب : أن المرادَ به كُلُّ نَجْمٍ وَحْدَه.
[ وسمي الكل باسم البعض مجازاً، أو نقول :" إن أنزل تشتمل على أمرين والتضعيف لا يشتمل إلاّ الإنزال مرة واحدةٌ ".
قال أبو حيَّان : وقد تقدم الرّدّ على هذا القول في البقرة، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير، ولا على التنجيم، وقد جاء في القرآن أنزل، ونزَّل قال تعالى :﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ونزلنا عليك الكتاب ﴾ [ النحل : ٤٤ ] ويدل على أنهما بمعنًى واحدٍ قراءة من قرأ ما كان من نزل مشدّداً بالتخفيف إلاَّ ما استثني، ولو كان أحدهما يدلّ على التنجيم والآخر يدل على النزول دفعةً واحدةً لتناقضت الأخبار، وهو محال، وقد سبق الزمخشريَّ في هذا القول بعينه الواحديُّ ].
قوله :﴿ بِالْحَقِّ ﴾ قال أبو مسلم : يحتمل وجوهاً.
أحدها : أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السابقة.
الثاني : أن ما فيه من الوعد والوعيد يحملُ المكلَّف على اتباع الحقِّ في الْعِلم والعملِ.
ثالثها : أنه حَقٌّ ؛ بمعنى أنه قول فَصْل وليس بالهَزْل.
رابعها : قال الأصَمُّ : أنْزَلُه بالحق الذي يجبُ له على خلقه من العبوديةِ، وشُكْرِ النعمةِ وما يجب لبعضهم على بعض من العدلِ، والإنصافِ.
خامسها : أنه أنزله بالحق لا بالمعاني المتناقضةِ الفاسدةِ، كما قال :﴿ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ﴾ [ الكهف : ١ ]، وقال :﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ].
وقوله :﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ معناه : مصدقاً لكُتُبِ الأنبياء، ولِما أخبروا به عن اللهِ، وهذا دليل على صحة القرآن من وجهين :
أحدهما : أنه موافق لسائر الكتب، ولو كان من عند غير الله لم يوافقها، وهو - عليه السلام - لم يختلط بالعلماء، ولا تتلمذ لأحد، ولا قرأ على أحد شيئاً [ والمفتري ] - إذا كان هكذا - يمتنع أن يَسْلم من الكذب والتحريف، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصصَ من الله تعالى.
الثاني : قال أبو مسلم : إن الله تعالى لم يبعث نبيًّا قط إلا بالدعاء إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الإله عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. والقرآن مصدق لكل الكتب في ذلك.
فإن قيل : كيف سمَّي ما مَضَى بأنه بَيْنَ يديه ؟
فالجوابُ : أن تلك الأخبارَ - لغاية ظهورها، وكونها موجودة - سماها بهذا الاسم.
فإن قيل : كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام ؟
فالجوابُ : إذا كانت الكتب مشهورة بالرسل، وأحكامها ثابتة إلى حين نزول القرآن فإنها تصير منسوخةً بنزول القرآن، كان القرآن مصدقاً لها، وأيضاً فدلائل المباحث الإلهية، وأصول العقائد لا تختلف، فلهذا كان مصدِّقاً لها.
قوله :﴿ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ﴾ اختلف الناس في هذين اللفظين، هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف، أم لا يدخلانهما ؛ [ لكونهما أعجميَّيْن٥١ ؟ ].
فذهب الزمخشريُّ وغيرهُ إلى الثاني، قالوا : لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين، قال الزمخشريُّ :" وتكلف اشتقاقهما من الوَرْي والنَّجْل، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما [ عربيين٥٢ ].
قال أبو حيّان٥٣ :" وكلامه صحيح، إلا أن فيه استدراكاً، وهو قوله " تَفْعِلَة " ولم يذكر مذهبَ البصريين وهو أن وزنها فَوْعَلَة، ولم ينبه على " تفعلة " هل هي بكسر العين أو فتحها " ؟
قال شهاب الدينِ٥٤ :" لم يحتج إلى التنبيه على الشيئين لشهرتهما، وإنما ذكر المستغرب "، ويؤيد ما قاله الزمخشريُّ من كونها أعجمية ما نقله الواحديُّ، وهو أن التوراة، والإنجيل، والزبور سريانية فعرَّبوها٥٥، ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا :
فقال بعضهم : التوراة مشتقة من قولهم : وَرِيَ الزَّنْدُ إذا قدح، فظهر منه نار، يقال : وَرِيَ الزند وأوريته أنا، قال تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴾
[ الواقعة : ٧١ ] ؟، فُثلاثيُّه قاصر، ورباعيه مُتَعَدٍّ، وقال تعالى :﴿ فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً ﴾ [ العاديات : ٢ ]، ويقال أيضاً : وَرَيْتُ بِكَ زِنَادِي٥٦، فاستعمل الثلاثي متعدياً، إلا أن المازني زعم أنه لا يُتَجَاوز به هذا اللفظ، يعني فلا يُقاس عليه، فيقال : وريت النار مثلاً، إذا تقرر ذلك، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور، يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور، سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً ﴾ [ الأنبياء : ٤٨ ] وهذا قولُ الفراء و[ مذهب ] ٥٧ جمهور الناسِ.
وقال آخرون : بل هي مشتقة من ورَّيتُ في كلامي، من التورية، وهي التعريض، وفي الحديث :" كَانَ إذَا أرادَ سَفَراً وَرَّى بِغَيْرِهِ٥٨ "، وسميت التوراة بذلك : لأن أكثرها تلويحاتٌ ومعاريضُ، وإلى هذا ذهب المؤرج السَّدُّوسي وجماعة، وفي وزنها ثلاثةُ أقوال :
أحدها - وهو قول الخليل وسيبويه - أن وزنها فَوْعَلَة٥٩، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو الدَّوْخَلَة٦٠ والقَوْصرة٦١ والدَّوْسَرة٦٢ والصَّوْمَعة، والأصل : وَوْرَيَة - بواوين ؛ لأنها إما من وَرِيَ الزَّنْدُ، وإما من وَرَّيْتُ في كلامي، فأبدلت الواو الأولى تاءٌ، وتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً فصار اللفظ " توراة " - كما ترى - وكُتِبَت بالياء، تنبيهاً على الأصل، كما أميلت لذلك، وقد أبدلت العرب التاء من الواو في ألفاظ نحو تَوْلَج، وتَيْقُور، وتُخَمَة، وتُراث وتُكأة٦٣ وتُجَاه وتُكْلاَن، من الوُلُوج والوَقَار والوَخَامة والوِرَاثة والوكَاء والوَجْه والوكَالة، ونظير إبدال الواو تاء في التوراة إبدالها أيضاً من قولهم - لما تراه المرأة في الطُّهْرِ بعد الحيض - : التَّرِيَّة، هي فعيلة من لفظ الوراء ؛ لأنها تُرَى بعد الصُّفرة والكُدْرة.
الثاني، وهو قول الفراء : أن وزنها تَفْعِلَة - بكسر العين - فأبدلت الكسرة فتحة، وهي لغة طائية، يقولون في الناصية : نَاصَاة، وفي جارية : جَارَاة، وفي نَاجِيَة : نَاجَاة، قال الشاعِرُ :[ الطويل ]
. . . *** فَخَرَّتْ كَنَاصَاةِ الْحُصَانِ الْمُشَهَّرِ٦٤
وقال آخر :[ المنسرح ]
. . . *** نُفُوساً بُنَتْ عَلَى الْكَرَمِ٦٥
وأنشد الفرَّاءُ :[ الوافر ]
فَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةٍ لِحَيٍّ *** وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ٦٦
وقد رد البصريون ذلك بوجهَيْن :
أحدهما : أن هذا البناء قليل جدًّا - أعني بناء تفعلة - بخلاف فَوْعَلَة، فإنه كثير، فالحمل على الأكثر أولى.
الثاني : أنه يلزم منه زيادة التاء أولاً، والتاء لم تُزَد - أوَّلاً - إلا في مواضع ليس هذا منها، بخلاف قلبها في أول الكلمة، فإنه ثابت، وذلك أن الواو إذا وقعت أولاً قُلبت إما همزة نحو أجُوه وأُقِّتَتْ وإشَاح - في : وجوه ووُقِّتَتْ ووِشَاح - وإما تاء نحو : تُجَاه وتُخْمَة، فاتباع ما عُهِد أولى من اتباع ما لم يُعْهَد.
الثالث : أن وزنها " تَفْعَلة " [ بفتح العين ] ٦٧ - وهو مذهب الكوفيين - كما يقولون في تَفْعُلَة - بالضم - تَفْعَلَة - بالفتح - وهذا لا حاجة إليه، وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها.
وأَمَالَ " التوراة " - حيث ورد في القرآن - إمالة محضة أبو عمرو٦٨ والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان وأمالها بين بين حمزة وورش [ عن نافع ] ٦٩، واختلف عن قالون، فروي عنه بين بين والفتح، وقرأها الباقون بالفتح فقط، ووجه الإمالة إن قلنا إن ألفها [ منقلبة عن ياء ظاهر، وإن قلنا : إنها أعجمية لا اشتقاق لها، فوجه الإمالة شبه ألفها لألف ] ٧٠ التأنيث من حيث وقوعها رابعة، فسبب إمالتها، إما الانقلاب، وإما شبه ألف التأنيث.
والإنجيل ؛ قيل : إفعيل كإجفيل٧١، وفي وزنه أقوال :
أحدها : أنه مشتق من النَّجْل، وهو الماء الذي ينز من الأرض ويخرج منها، ومنه النجْل للولد، وسمي الإنجيل ؛ لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ.
وقيل : من النجل وهو الأصل، ومنه النجل للوالد، فهو من الأضداد ؛ إذ يُطْلَق على الولد والوالد، قال الأعشى :[ المنسرح ]
أنْجَبَ أيَّامَ وَالِدَاهُ بِهِ *** إذْ نَجَلاَهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلاَ٧٢
وقيل : من النجل - وهو التوسعة - ومنه العين النجلاء، لسعتها، ومنه طعنة نجلاء وسمي الإنجيل بذلك ؛ لأن فيه توسعةً لم تكن في التوراة ؛ إذْ حلل فيه أشياء كانت محرمة.
وقيل : هو مشتق من التناجل وهو : التنازع، يقال : تناجل الناسُ أي : تنازعوا، وسُمِّي الإنجيل بذلك لاختلاف الناس فيه، قاله أبو عمرو الشيباني.
والعامة على كسر الهمزة من " إنجيل "، وقرأ الحسن بفتحها٧٣.
قال الزمخشري : وهذا يدل على أنه أعجمي ؛ لأن أفعيلاً - بفتح الهمزة - قليل عديم في أوزان العرب. قلت : بخلاف إفعيل - بكسرها - فإنه موجود نحو : إجفيل وإخريط٧٤ وإصليت٧٥.
قال ابن الخطيبِ :" وأمر هؤلاء الأدباء عجيبٌ ؛ لأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخرَ، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل، وإما الدور، ولما كانا باطلَيْنِ وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وَضْعًا أوَّلاً، حتى يُجْعَل سائرُ الألفاظ مشتقةً منها، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا، والفرع هو ذاك الآخر، ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل ؟
وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت بذلك لظهورها، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يُسَمَّى بالتوراة، فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يُسَمَّى بالإنجيل، فالطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً، والذهب أصل الخاتم، والغزل أصل الثوب، فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل، ومعلوم أنه ليس كذلك، ثم إنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع، ويقولوا : العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة، فلِمَ لا نتمسك به في أول الأمر، ونُرِيح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجم
قوله :" هُدًى " فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على المفعول من أجله، والعامل فيه " أنْزَلَ " أي : أنزل هذين الكتابين لأجل هدايته.
وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هُدًى، والوصفان متقاربان.
فإن قيل : لم وصف القرآن - في أول سورة البقرة – بأنه ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾
[ البقرة : ٢ ]، ولم يصفه هنا بذلك ؟ قيل : إنما وصفه - هناك - بذلك ؛ [ لأن ] ٧٩ المتقين هم المنتفعون به، فهو هدى لهم لا لغيرهم وها هنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يَهْتَدُونَ بالقرآن، فلا جرم لم يقل هنا في القرآن إنه هدًى، بل قال٨٠ : إنه حق في نفسه - سواء قبلوه أو ردوه - وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما، ويدعون أنهم إنما يعولون في دينهم عليهما، فلا جرم، وصفهما بكونهما هدى. ويجوز أن يكون متعلقاً - من حيث المعنى - ب " نَزَّلَ " و " أنْزَلَ " معاً، وتكون المسألة من باب التنازع على إعمال الثاني والحذف من الأول، تقديره : نزل عليك الكتاب له أي : للهدى، فحذفه.
ويجوز أن يتعلق بالفعلين - معاً - تعلقاً صناعياً، لا على وجه التنازع، بل بمعنى أنه علة للفعلين معاً، كما تقول : أكرمت زيداً وضربت عمراً إكراماً لك، يعني أن الإكرام علة الإكرام والضرب.
والثاني : أن ينتصب على الحال من التوراة والإنجيل. ولم يُثَنَّ ؛ لأنه مصدر، وفيه الأوجه المشهورة من حذف المضاف - أي ذَوَي هُدًى - أو على المبالغة - بأن جُعِلا نَفْسَ الهُدَى - أو على جعلهما بمعنى هاديَيْنِ.
وقيل : إنه حال من الكتاب والتوراة والإنجيل.
وقيل : حال من الإنجيل فقط، وحذف مما قبله ؛ لدلالة هذا عليه.
وقال بعضهم : تَمَّ الكلام عند قوله تعالى :﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ فيوقف عليه، ويُبْتَدَأ بقوله :﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ أي : وأنزل الفرقان هدًى للناس.
وهذا التقدير غير صحيح ؛ لأنه يُؤدي إلى تقديم المعمول على حرف النسق، وهو ممتنع ؛ إذ لو قلت : قام زيدٌ مكتوفةٌ وضربتُ هِنْداً - تعني وضربت هنداً مكتوفةً - لم يصح، فكذلك هذا.
قوله :" لِلناسِ " يحتمل أن يتعلق بنفس " هُدًى " لأن هذه المادة تتعدى٨١ باللام، كقوله تعالى :﴿ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ] وأن يتعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل " هُدًى ".
قوله :﴿ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية، ولم يُجْمَع لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران، وهو يحتمل أن يكون مصدراً واقعاً موقع الفاعل، أو المفعول، والأول أظهر.
قال الزمخشريُّ :" وكرر ذكر القرآن بما هو نعت له. ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس ؛ تعظيماً لشأنه، وإظهاراً لفضله ".
قال شهاب الدينِ :" قد يعتقد معتقد أن في كلامه هذا رَدًّا لقوله الأول ؛ حيث قال : إن " نَزَّل " يقتضي التنجيم، و " أنْزَلَ " يقتضي الإنزال الدفعي ؛ لأنه جوز٨٢ أن يراد بالفرقان القرآن، وقد ذكره ب " أنْزَلَ "، ولكن لا ينبغي أن يُعْتَقَدَ ذلك ؛ لأنه لم يَقُل : إن أنزل للانزال الدفعيِّ فقط، بل يقول : إن " نَزَّل " - بالتشديد - يقتضي التفريق، و " أنْزِلَ " يحتمل التفريق، ويحتمل الإنزال الدفعي ".

فصل في المراد ب " الفرقان ".


قيل : المراد بالفرقان هو الزبور ؛ لقوله :﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾ [ الإسراء : ٥٥ ].
وقيل القرآن، وإنما أعاده تعظيماً لشأنه، ومدحاً له بكونه فارقاً بين الحق والباطل.
أو يقال : إنه تعالى أعاد ذكرَه ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل، ليجعله فارقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير، فلا تكرار.
وقال الأكثرون : إن المراد أنه تعالى - كما جعل٨٣ هذه الكتب الثلاثة هدًى٨٤ ودلالة - قد جعلها مفرقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع.
قال ابن الخطيبِ :" وهذه الأقوال - عندي - مُشْكِلةٌ.
فأما حمله على الزبور فبعيد ؛ لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام، وإنما هو مواعظ ووصف التوراة والإنجيل - مع اشتمالهما على الدلائل والأحكام - بالفرقان أولى من وصْف الزبور بذلك.
وأما حمله على [ القرآن ] ٨٥ فبعيد من حيث إنه عطف على ما قبله، والمعطوف يغاير المعطوف عليه، والقرآن مذكور قبل ذلك فيقتضي أن يكون الفرقان مغايراً للقرآن، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه [ الكتب ] ٨٦ فارقةً بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب، وعطف الصفة على الموصوف - وإن كان قد ورد فيه بعض الأشعار النادرة [ إلا أنه ] ٨٧ ضعيف، بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام اللهِ تعالى.
والمختار عندي هو أن المراد بالفرقان - هنا - المعجزات المقرونة بإنزال هذه الكتب ؛ لأنهم لما أتوا بهذه الكتب، وادعوا أنها نزلت عليهم من عند الله تعالى افتقروا إلى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى٨٨ يحصل الفرق بين دعواهم ودعوى الكاذبين، فلما أظهر الله تلك المعجزات على وفق دعواهم حصلت المفارقة بين دعوى الصادق، ودعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب بالحق، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا ما عندي ".
ويمكن أن يجاب بأنه إذا قلنا : المراد به جميع الكتب السماوية، فيزول الإشكال الذي ذكره، ويكون هذا من باب ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى :﴿ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ﴾ [ عبس : ٢٧-٣١ ].
قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ ﴾ يحتمل أن يرتفعَ " عَذَابٌ " بالفاعلية بالجار قبله، لوقوعه خبراً عن " إنَّ " ويحتمل أن يرتفعَ على الابتداء، والجملة خبر " إنَّ " والأول أولى ؛ لأنه من قبيل الإخبار بما يقرب من المفردات و " انتقام " افتعال، من النقمة وهي السطوة والتسلط، ولذلك عبر بعضهم عنها بالمعاقبة، يقال : نَقَمَ - بالفتح - وهو الأفصح، ونَقِم - بالكسر٨٩ - وقد قُرِئ بهما٩٠ ويقال : انتقم من انتقم، أي : عاقبه وقال الليث : ويقال لم أرض عنه، حتى نقمت، وانتقمت إذا كافأه عقوبة بما صنع. وسيأتي له مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى.

فصل


اعلم أنه تعالى لما قرر جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد ؛ زَجْراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرةِ، فقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ فخصَّ بعضُ المفسّرين ذلك بالنصارى ؛ قَصْراً للفظ العام على سبب نزوله.
وقال المحقِّقون : الاعتبار بعموم اللفظ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ﴾، أي : غالب لا يُغْلَب، وهذا إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، و﴿ ذُو انْتِقَام ﴾ إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب، فالأول صفة الذات، والثاني صفة الفعل.
هذا الكلام يحتمل وجهَيْنِ:
الأول: أن يُنَزَّلَ على سبب النزول؛ وذلك لأن النصارى ادَّعَوُا الإلهيةَ لعيسَى؛ لأمور:
23
أحدها: العلم، فإنه كان يُخْبِر ن الغيوب، ويقول لهذا: إنك أكلت في دارك كذا، ويقول لذلك: إنك صنعت في دارك كذا.
الثاني: القدرة، وهي أن عيسى كان يُحْيي الموتَى، ويُبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً.
الثالث: من جهة الإلزام المعنويّ، وهو أنه لم يكن له أبٌ من البشر.
الرابع: من جهة الإلزام اللفظي، وهو قولهم لنا: أنتم تقولون: إنه روح الله، وكلمته.
فالله تعالى استدل على بطلان قولهم بإلهية عيس، والتثليث بقوله: ﴿الحي القيوم﴾، فالإله يجب أن يكون حيًّا قَيُّوماً، فلزم القطعُ بأنه لم يكن إلهاً، وأجاب عن شبهتهم بعلم الغيوب بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾، وكون عيسى عالماً ببعض المغيِّبات، لا يدل على كونه إلهاً؛ لاحتمال أنه عَلِم ذلك بوحي من الله تعالى، فعدم إحاطته بكل المغيَّبات يدل قطعاً على أنه ليس بإله؛ لأن الإله هو الذي لا يَخْفَى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء؛ لأنه خالقهما، والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى ما كان عالماً بجميع المغيَّبات، وكيف والنصارى يقولون: إنه قُتِل، فلو كان يعلم الغيب، لعلمَ بأن القوم يريدون قتله، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه، وأما تعلقهم بقدرته على إحياء الموتى، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ وتقديره: أن حصول الإحياء لعيسى في بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً؛ لاحتمال أنَّ الله تعالى أكرمه بذلك إظهاراً لمعجزته، وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعاً عدم إلهيته، لأن الإله هو القادر على أن يُصَوِّرَ في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب، فلو كان عيسى قادراً على الإحياء، والإماتة، لأمات أولئك الذين أخذوه وقتلوه - على زعمهم - فثبت أن الإحياء والإماتة في بعض الصور لا تدل على كونه إلهاً، وكذلك عدم حصول الإحياء والإماتة له في كل الصور دليل على أنه ما كان إلهاً.
وأما الشبهة الثالثة وهي الإلزام المعنويّ بأنه لم يكن له أب من البشر، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ فإن شاء صوره من نطفة [الأب]، وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب، كما خلق آدم من غير ابٍ أيضاً ولا أمّ.
وأما قولهم لنا: أنتم تقولون: إنه روح الله وكلمته، فهذا الإلزام لفظي، وهو محتمل للحقيقة والمجاز، فإذا ورد لفظ يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات، فوجب ردُّه إلى التأويل، وذلك هو المراد بقوله:
{هُوَ
الذي
أَنزَلَ
عَلَيْكَ الكتاب
24
مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: ٧]، فظهر بما ذكرنا أن قوله: ﴿الحي القيوم﴾ يدل على أن المسيح ليس بإله، ولا ابن الإله.
وقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ جواب عن تعلُّقهم بالعلم، وقوله: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ جواب عن تمسُّكهم بقدرته على الإحياء والإماته، وعن تمسُّكهم بأنه ما كان له أب من البشر، وقوله: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ جوابٌ عن تمسُّكهم بما ورد في القرآنِ من أن عيسى روحُ الله وكلمته.
الحتمال الثاني: أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح [الخلق]، وذلك لا يتم إلا بأمرين:
الأول: أن يكون عالماً بجميع حاجاتهم بالكمية والكيفية.
الثاني: أن يكون قادراً على دَفْع حاجاتهم، فالأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات، والثاني لا يتم إلا إذا كان قادراُ على جميع الممكنات، ثم إنه استدل على كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ وذلك يدل على كمال علمه، وإثبات كونه عالماً لا يجوز أن يكون بالسمع؛ لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً ما بجميع المعلومات، وإنما الطريق إليه بالدليل العقلي، وذلك بأن نقول: إن أفعال الله محكمة متقنة والفعل المُحْكَم المتقَن يدل على كون فاعله عالماً، وإذَا كان دليل كونه تعالى عالماً ما ذكرنا، فحين ادعى كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ [أتبعه] بالدليل العقلي، وهو أنه يُصَوِّرُ في ظلمات الأرحام هذه البنيةَ العجيبةَ ويركبها تركيباً غريباً من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة، فبعضها أعصاب، وبعضها أوردة، وبعضها شرايين، وبعضها عضلات، ثم إنه ضَمَّ بعضها إلى بعض على أحسن تركيب وأكمل تأليف، وذلك يدل على كمال قدرته، حيث قدر أن يخلق من قطرة من نطفةٍ هذه الاعضاءَ المختلفةَ في الطبع والشكل واللون، فدلَّ هذا الفعلُ المُحْكَم المتقَن على كمال علمه وقدرته.
قوله: ﴿فِي الأرض﴾ يجوز أن يتعلق ب «يخفى»، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «شيء».

فصل


المراد بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ أي: لا يخفى عليه شيء.
فإن قيل: ما فائدة قوله: «فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء» مع أنه لو أطلق لكان أبلغ؟
25
فالجواب: أن الغرض منه إفهام العباد كمال علمه، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات والأرض أقوى؛ لأن الحس يرى عظمة السموات والأرض، فيُعين العقل على معرفة عظمة علم الله تعالى، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم، والإدراك أكمل، ولذلك فإن المعانيَ الدقيقةَ إذا أريد إيضاحُها ذُكِر لها مثال؛ فإن المثال يُعِين على الفهم.
قوله: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام﴾ تحتمل هذه الجملة أن تكون مستأنفةً سيقت لمجرد الإخبار بذلك، وأن تكون في محل رفع خبراً ثانياً لإنَّ.
قوله: ﴿فِي الأرحام﴾ يجوز أن يتعلق ب «يُصَوِّرُكُمْ» وهو الظاهر، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول «يُصَرِّرُكُمْ» أي: يصوركم وأنتم في الأرحام مُضَغٌ.
وقرأ طاوسُ: تَصَوَّرَكُمْ - فعلاً ماضياً - ومعناه: صوركم لنفسه، ولتعبدوه، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعَّل، كقولهم: تأثلث مالاً، وأثَّلته، أي: جعلته أثلة أي: أصلاً، والتصوير: تفعيل من صاره، يصوره، أي: أماله وثناه، ومعنى صوره: جعل له صورة مائلة إلى شكل أبويه.
والصورة: الهيئة يكون عليها الشيء من تأليف خاص، وتركيب منضبط، قاله الواحدي وغيره.
والأرحام: جمع رحم، وأصلها الرحمة، وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة، والعطف، فلهذا سُمِّيَ العُضْوُ رَحِماً.
قوله: ﴿كَيْفَ يَشَآءُ﴾ في أوجه:
أظهرُها: أنَّ «كَيْفَ» للجزاء، وقد جُوزِيَ بها في لسانهم في قولهم: كيف تَصْنَعُ أصنع، وكيف تكونُ أكونُ، إلا أنه لا يُجْزَمُ بهما، وجوابها محذوف؛ لدلالة ما قبلها عليه، وكذلك مفعول «يشاء» لما تقدم أنه لا يُذْكَر إلا لغرابة والتقدير: كيف يشاء تصويركم يصوركم، فحذف تصويركم؛ لأنه مفعول «يَشَاءُ» ويصوركم؛ لدلالة «يُصَوِّرُكُمْ» الأول عليه، ونظيره قولهم: أنت ظكالم إن فعلتَ، تقديره: أنت ظالم إن فعلتَ فأنتَ ظالمٌ.
وعند مَنْ يُجيز تقديمَ الجزاء في الشرط الصريح يجعل «يُصَوِّرُكُمْ» المتقدم هو الجزاء، و «كَيْفَ» منصوب على الحال بالفعل بعده، والمعنى: على أي حالٍ شاء أن يصوركم صوركم، وتقدم الكلام على ذلك في قوله «كيف تكفرون» ولا جائز أن
26
يكون «كَيْفَ» معمولة «يُصَوِّرُكُمْ» ؛ لأن لها صدرَ الكلام، وما له صدر الكلام لا يعمل فيه إلا أحدُ شيئين: إما حرف الجر نحو بمن تمر؟ وإما المضاف نحو غلامُ مَنْ عندَك؟
الثاني: أن يكون «كَيْفَ» ظرفاً ل «يَشَاءُ» والجملة في محل نصب على الحال من ضمير اسم الله تعالى، تقديره: يصوركم على مشيئته، أي: مُريداً.
الثالث: كذلك إلا أنه حال من مفعول «يُصَوِّرُكُمْ» تقديره: يصوركم متقلبين على مشيئته.
ذكر الوجهين أبو البقاء، ولما ذكر غيره كونها حالاً من ضمير اسم الله تعالى قدرها بقوله: يصوركم في الأرحام قادراً على تصويركم مالكاً ذلك.
الرابع: أن تكون الجملة في موضع المصدر، المعنى: يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة كما يشاء قاله الحوفي، وفي قوله: الجملة في موضع المصدر تسامح؛ لأن الجمل لا تقوم مقام المصادر، ومراده أن «كَيْفَ» دالة على ذلك، ولكن لما كانت في ضِمْن الجملة نسب ذلك إلى الجملة.

فصل في معنى الآية


معنى: ﴿يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ ذكراً أو أنثى، أبيضَ أو أسودَ، حسناً أو قبيحاً، تاماً أو ناقصاً، وقد ذكرنا أن هذا رَدٌّ على وفد نجران؛ حيث قالوا: عيسى ولد الله وكان يقول: كيف يكون ولده وقد صوره في الرحم؟ ثم إنه لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد؛ زَجْراً للنصارى عن قولهم بالتثليث فقال: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم﴾ و «الْعَزِيزُ» إشارة إلى كمال القدرةِ، يعني أن قدرته أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء، و «الْحَكِيمُ» إشارة إلى كمالِ العلم، يعني: أن علمه أكملُ من علم عيسى بالغيوبِ؛ فإن علمَ عيسى ببعض الصُّوَرِ، وقَدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً، وإنما الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكناتِ، عالماً بجميع الجزئيات والكليات.
قال عبد الله بن مسعود: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو الصادقُ المصدوقُ - «إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَ عُ خَلْقُهُ في بطن أمه أرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةٌ مثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةٌ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَل إلَيْهِ المَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيه الرُّوحَ، وَيُؤمَرُ بأرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَعَمَلِهِ، وَأجَلِهِ، وَشَقِيّ أوْ سَعِيد، فَوَالَّذِي لاَ إلَه غَيْرَهُ إنَّ أحدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ حَتَى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ
27
فَيَدْخُلَهَا، وَإنَّ أحَدَكُمُ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا».
وعن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحم بِأرْبَعِينَ أوْ خَمْسَةٍ وَأرْبَعِينَ يَوْماً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ، فَيَقُول: أيْ رَبِّ أذَكَرٌ أوْ أنْثَى؟ فَيُكْتَبَان، وَيُكْتِبُ عَمَلُهُ، وَأثَرهُ، وَأجَلُهُ، ورِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ».
28
وَجه النَّظْمِ على الاحتمال الأول في الآية المتقدمة أن النصارى تمسكوا - في بعض شُبَهِهِمْ - بما جاء في القرآن من صفة عيسى عليه السلام أنه روحُ اللهِ وكلمتُه، فبَيَّن الله تعالى بهذه الآيةِ أن القرآن مشتمل على مُحْكَم ومتشابه، والتمسّك بالمتشابهاتِ غيرُ جائزٍ - هذا على الاحتمال الأول في الآيةِ المتقدمةِ، وعلى الثاني - أنه تعالى لما بين أنه قيوم، وهو القائم بمصالح الخلق، والمصالح قسمان: جسمانية، وروحانية، فالجسمانية أشرفها تعدليل البنية على أحسن شكل، وهو المراد بقوله: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام﴾ [آل عمران: ٦] وأما الروحانية فِأشرفُها العِلْمُ، وهو المراد بقوله: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ﴾ يجوز أن تكون «آيَاتٌ» رَفْعاً بالابتداء، والجار خبره، وفي الجملة على هذا وجهانِ:
أحدهما: أنها مستأنفة.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال من «الْكِتَابِ» أي: هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال، أي: منقسماً إلى محكم ومتشابهٍ.
ويجوز أن يكون «منه» هو الحال - وحده - وآيات: رفع [به]- على الفاعلية.
28
و ﴿هُنَّ أُمُّ الكتاب﴾ يجوز أن تكون الجملةُ صفةٌ للنَّكِرَةِ قَبْلَهَا، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً.
وأخْبَرَ بلفظ الواحد «أمُّ» عن جمع «هُنَّ» إمَّا لأن المرادَ أن كل واحدةٍ منه أمٌّ، وإمَّا لأن المجموعَ بمنزلة آية واحدةٍ، كقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠]، وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع، كقوله: ﴿وعلى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧].
وقوله: [الوافر]
١٣٢٢ - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا..................................
وقوله: [الطويل]
١٣٢٣ - بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأمَّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ وَأمّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ
وقال الأخفش: وَحَّد «أمُّ الْكِتَابِ» بالحكاية على تقدير الجواب، كأنه قيل: ما أمُّ الكتاب؟ فقال: هن أم الكتاب، كما يقال: مَن نظيرُ زَيْدٍ؟ فيقول قوم: نحن نظيره، كأنهم حكوا ذلك اللفظ، وهذا على قولهم: دعني من تمرتان، أي: مما يُقَال له: تمرتان.
قال ابنُ الأنباري: «وهذا بعيد من الصواب في الآية؛ لأن الإضمار لم يقم عليه دليل، ولم تدع إليه حاجةٌ».
وقيل: لأنه بمعنى أصْل الكتاب، والأصْل يُوَحَّد.
قوله: «وأُخَر» نسق على «آيات» و «متشابهات» نعت ل «أخر»، وفي الحقيقة «أخر» نعت لمحذوف تقديره: وآيات أخر متشابهات.
قال أبو البقاء: فإن قيل: واحدة [متشابهات: متشابهة، وواحدة أخر: أخرى، والواحد هنا - لا يصح أن يُوصَف بهذا الواحد -، فلا يقال: أخرى متشابهة]، إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضاً، وليس المعنى على ذلك، إنما المعنى أن كل آية تشبه آيةٌ أخرى، فكيف صح وصف هذا الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصْف مفردِه بمفردِه؟
قيل: التشابهُ لا يكون إلا بين اثنين فصاعداً، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل واحدٍ منها مشابهاً للآخر، فلما لم يصح التشابه إلا في حالةِ الاجتماعِ وُصِفَ الجمعُ بالجمعِ؛ لأن كل واحد منها يشابه باقيها، فأما الواحد فلا يصح فيه هذا المعنى، ونظيره قوله:
﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ﴾ [القصص: ١٥] فثنَّى الضمير، وإن كان الواحد لا
29
يقتتل، يعني أنه ليس من شرط صحة الوصف في التثنية أو الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات، وإن كان الأصل ذلك كما أنه لا يُشترط في إسناد الفعل إلى المثنى والمجموع صحة إسناده إلى كل واحد على حدته، وقريب من ذلك قوله: ﴿حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش﴾ [الزمر: ٧٥]، وقيل: ليس لِ «حَافينَ» مفرد؛ لأنه ولو قيل: حافّ لم يَصِحّ؛ إذ لا يتحقق الحفوف في واحد فقط، إنما يتحقق بجمع يُحيطون بذلك الشيءِ المحفوفِ [وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى].

فصل


اعلم أن القرآن الكريمَ كلَّه مُحْكَمٌ من دجهة الإحكام والإتقان والفصاحة وصحة المعاني، وكونه كلاماً حقًّا؛ لقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: ١]، وقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم﴾ [يونس: ١] فهو أفضل من كل كلام يُوجَد في هذه المعاني، ولا يمكن أحد أن يأتي بكلام يساويه فيها، والعرب تقول في البناء الوثيق، والعقد الوثيق الذي لا يمكن حَلُّه: مُحْكَم، وكلُّه متشابه من حيث إنه يشبه بعضهُ بعضاً في الحُسن، ويصدِّقُ بعضُهُ بعضاً؛ لقوله تعالى: ﴿كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ﴾ [الزمر: ٢٣].
وذكر في هذه الآيةِ أن بعضه مُحْكَمٌ، وبعضه متشابه.
واختلف المفسّرون في المحكم - هنا - والمتشابه، فقال ابنُ عباس: المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الانعام، ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١] الآيات، ونظيرها في بني إسرائيل ﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣].
وعنه أنه قال: المتشابهات: حروف التهجي في أوائل السور.
وقال مجاهد وعكرمة: المحكم: ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه، يشبه بعضه بعضاً في الحق، ويصدق بعضه بعضاً، كقوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾ [البقرة: ٢٦]، وقوله: ﴿وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ١٠٠].
وقال قتادة والضحاك والسُّديُّ: المحكم: الناسخ الذي يُعْمَل به، والمتشابه: المنسوخ الذي لا يُعْمَل به ويؤمن به، ورَوَى علي بن أبي طلحةَ عن ابن عباس قال:
30
محكمات القرآن: ناسخه، وحلالُه، وحرامُه، وحدودُه، وفرائضُه، وما يؤمن به ولا يُعْمَل به.
وقيل المحكمات: ما أوقف الله الخلقَ على معناها، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، ولا سبيل لأحد إلى علمه نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجالِ، ونزول عيسى عليه السلام وطلوع الشمس من مغربها وقيام الساعة، وفناء الدنيا.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المُحْكَم ما لا يَحْتَمل من التأويل غير وجه، والمتشابه ما احتمل أوجهاً.
وقيل: المحكم: ما يعرف معناه، وتكون حُجَجُه واضحةً، ولا تشتبه دلائله، والمتشابه: هو الذي يُدرك علمه بالنظر، ولا يَعْرِفُ العوامُّ تفصيلَ الحق فيه من الباطل، وقيل المحكم: ما يستقل بنفسه في المعنى، والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه بل يُرَدّ إلى غيره.

فصل


«في تفسير المحكم في أصل اللغةِ» :
العرب تقول: أحكمتُ وحكمتُ بمعنى رددتُ، ومنعت، والحاكم يمنع الظالمَ عن الظلم، وحَكَمَةُ اللجامِ هي التي تمنعُ الفرسَ عن الاضطرابِ، وفي حديث النَّخَعِيِّ: أحْكم اليتيم كما تُحْكِمُ وَلدَك، أي: امنعه من الفساد.
وقال جَرير: [الطويل]
١٣٢٤ - أبَنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهَاءَكُم...........................
أي: امنعوهم.
وبناءٌ مُحْكَم: أي: وثيق، يمنع مَنْ تعرَّض له، وسُمِّيت الحكمةُ حكمةً؛ لأنها تمنعُ عما لا ينبغي.
والمتشابه: هو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز [
31
بينهما]، قال تعالى: ﴿إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ٧٠]، وقال في وصف ثمارِ الجنةِ: ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها﴾ [البقرة: ٢٥] أي: مُتَّفِق المنظر، وقال تعالى: ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُم﴾ [البقرة: ١١٨]، ويقال: أشبه عليَّ الأمر إذا لم يَظْهَر له الفرق ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أمُورٌ مُتَشابِهَاتٌ» وفي رواية مشتبهات، ثم لما كان من شأن المتشابهَيْن عَجْزُ الإنسانِ عن التمييز بينهما، سمِّي كلُّ ما لا يَهْتَدِي إليه الإنسان بالمتشابه؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبَّب، ونظيره المشكل، سُمِّي بذلك؛ لأنه أشكل أي: دخل في شكل غيره، فأشبهه وشَاكَله، ثُمَّ يقال لكل ما غَمُضَ - وإن لم يكن غموضُه من هذه الجهةِ - مشكلاً، ولهذا يُحْتَمَل أن يقال للذي لا يُعْرَف ثبوتُه أو عدمُه، وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن ومشابهاً [له]، ولم يتميز أحدُهما عن الآخر بمزيد رُجْحَان، فلا جرم يُسَمَّى غير المعلوم بأنه متشابه.
قال ابن الخطيبِ: «فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغةِ، والناس قد أكثروا في تفسير المحكَم والمتشابه، ونحن نذكر الوجهَ الملخص الذي عليه أكثر المحققين ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول: إذا وُضِعَ اللفظ لمعنى فإما أن يحتمل غيره أو لا، فإن كان لا يحتمل غيره فهو النص، وإن احتمل غيرَه فإما أن يكونَ احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر، فيكون بالنسبة إلى الراجح ظاهراً، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً، وإن كان احتماله لهما على السوية، فيكون اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً، فحصل من هذا التقسيم أن اللفظ، إما أن يكون نصاً، أو ظاهراً، أو مؤولاً، أو مشتركاً، والنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح، إلا أن النص راجح مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى بالمحكَم، أما المجمل والمؤول، فهما يشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة [وإن لم يكن راجحاً، أو غير مرجوح، والمؤوَّل - مع أنه غير راجح - فهو مرجوح، لا بحسب الدليل المنفرد]، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى المتشابه؛ لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً، وقد بينَّا أن ذلك يسمى متشابهاً، إما لأن الذي لا يُعْلَمُ يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن، وإما لأجل أن الذي [يحصل] فيه التشابه يصير غير معلوم، فيطلق لفظ» المتشابه «على ما لا يُعْلَم؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبب فهذا هو الكلام المحصَّل في المحكَم والمتشابه.
32

فصل


روى البخاري عن سعيد بن جبيرٍ قال: قال رجلٌ لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال: ما هي؟ قال: قوله: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١] وقال: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الصافات: ٥٠]، وقوله: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢] مع قولهم: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] فقد كتموا في هذه الآية وفي «النازعات» قال: ﴿أَمِ السمآء بَنَاهَا﴾ [النازعات: ٢٧] إلى قوله: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٢٧ - ٣٠] فذكر خلق السماء قبل الأرض، وقال ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: ٩ - ١١] إلى: «طَآئِعِينَ» فذكر خلق الأرض قبل السماء وقال: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ١٠٠] ﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [النساء: ١٥٨] ﴿وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [النساء: ١٣٤] فكأنه كان ثم مضى.
فقال ابن عباس: معنى قوله: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُم﴾ النفخة الأولى ثم يُنْفَخُ في الصور فيُصْعَق مَن في السموات ومن في الأرض إلا مَنْ شَاءَ الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك، وفي النفخة الأخيرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
أما قولهم: ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ أي: أن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فيقول المشركون: تعالوا نقول: ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواههم، وتنطق جوارحُهم بأعمالهم، فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً، وعنده ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾ [الحجر: ٢]، وخلق الأرض في يومين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دَحا الأرض، بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الأشجار والجبال [والآكام] وما بينهما في يومين آخرين، وذلك قوله: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ فخلق الأرض وما فيها في أربعة ايام وخلق السماء في يومين.
وقوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ يعني نفسه، أي: لم يزل، ولا يزال كذلك، وأن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراده ويحك، فلا يختلف عليك القرآنُ، فإن كُلاًّ من عند الله.

فصل


في الفوائد التي لأجلها جُعِل بَعْضُ القرآن محْكَماً، وبعضهُ متشابهاً.
قال ابن الخطيبِ: «طعن بعضُ الملحدة في القرآن؛ لأجل اشتماله على المتشابهات، وقالوا: إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم
33
القيامة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله:
﴿وَجَعَلْنَا
على
قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرا﴾
[الأنعام: ٢٥]، والقدَريُّ يقول: بل هذا مذهب الكفار؛ بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْف﴾ [البقرة: ٨٨]، وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٣٢ - ٢٣]، والنافي يتمسك بقوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ [الأنعام: ١٠٣]، ومثبت الجهة يتمسك بقوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِم﴾ [النحل: ٥٠] وقوله: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: ٥] والنافي يتمسك بقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء﴾ [الشورى: ١١] ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة، وإنما يُرْجَع في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام القيامة هكذا أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً خالياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض؟ فذكر العلماء في فوائد المتشابهات وجوهاً:
الأول: أنه متى ك انت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب.
الثاني: أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه افتقر الناظر إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال، ولو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية، وكان يبقى - حينئذٍ - في الجهل والتقليد.
الثالث: أن القرآن لما كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر إلى تعلم طرق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علوم اللغة، والنحو، وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان الإنسان يحتاج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان في إيراد هذه المتشابهات هذه الفوائد.
الرابع: أن القرآن يشتمل على دعوة الخواص، والعوامّ بالكلية، وطباع العوام تنبو - في أكثر الأمر - عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام - في أول الأمر - إثبات موجود ليس بجسم ولا متحرك ولا يشار إليه ظَنَّ بأن هذا عَدَم ونَفْي، فوقع في العطيل، فكان الأصلح أن يخاطَبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه، وتخيلوه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح فالمخاطبة في أولِ الأمرِ تكون من أبواب المتشابهات، والثاني وهو الذي انكشف لهم في آخر الأمر هو المحكم.
34
الخامس: [لو ك ان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما يُنَفِّر أربابَ المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كلِّ مذهب أن يجدَ فيه ما يقوي له حكمه ويُؤثِرُ مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميعً أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كلُّ صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله، ويصل إلى الحق، والله أعلم].
قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ يجوز أن يرتفع «زيغ» بالفاعلية؛ لأن الجار قبله صلة لموصول، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره الجار قبله.
قوله «الزيغ» قيل: المَيْل [مطلقاً]، وقال بعضهم: هو أخَصُّ من مطلق الميل؛ فإن الزيع لا يقال إلا لما كان من حق إلى باطل.
قال الراغب: «الزيغُ: الميلُ عن الاستقامة إلى أحد الجانبين، وزاغَ وزالَ ومالَمتقاربٌ، لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل» انتهى. يقال: زاغ يَزيغُ زَيْغاً، وزَيْغُوغَةً وزَيغَاناً، وزُيوغاً.
قال الفراء: والعرب تقول في عامة ذواتِ الياء - فيما يُشْبه زِغْت - مثل: سِرْتُ، وصِرْتُ، وطِرْتُ: سَيْرورة، وصَيْرورة، وطَيْرُورة، وحِدت حَيْدودة، ومِلت ميلولة.. لا أحصي ذلك، فأما ذواتُ الواوِ مثل قُلْت، ورُضْت، فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظٍ: الكَيْنُونة والدَّيْمومة - من دام والهَيْعُوعَة - من الهُوَاع، والسَّيْدودَة - من سُدت -، ثم ذكر كلاماً كثيراً غير متعلق بما نحن فيه. وقد تقدم الكلام على هذا المصدر، وأنه قد سمع في هذا المصدرِ الأصل - وهو كَينُونة - في قول الشاعر: [الرجز]
١٣٢٥ - يَا لَيْتَنَا قَدْ ضَمَّنَا سَفِينَهْ حَتَّى يَعُودَ الوَصل كَيَّنُنَهْ
قوله: «ما تشابه» مفعول الاتباع، وهي موصولة، أو موصوفة، ولا تكون مصدريةً؛ لعَوْد الضمير من «تشابه» عليها، إلا على رأيٍ ضعيفٍ، و «مِنه» حال من فاعل «تَشَابه» أي تشابه حال كونه بعضه.
قوله: «ابْتِغَاءَ» منصوب على المفعول له، أي: لأجل الابتغاء، وهو مصدر مضاف لمفعوله. والتأويل: مصدر أوَّل يُؤوِّلُ، وفي اشتقاقه قولان:
35
أحدهما: أنه من آل يَئُولُ أوْلاً، ومآلاً، أي: عَادَ، ورجع، وآلُ الرجلِ من هذا - عند بعضهم إلا أنهم يرجعون إليه في مُهِمَّاتِهِم ويقولون: أولتُ الشيء: أَي: صرفته لوجهٍ لائقٍ به فانصرف، قال الشاعر: [السريع]
١٣٢٦ - أؤَوِّلُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ لَيْسَ قَضَائِي بِالْهَوَى الْجَائِرِ
وقال بعضهم: أوَّلت الشيء، فتأول، فجعل مطاوعه تفعل، وعلى الأول مطاوعه فعل، وأنشد الأعشى: [الطويل]
١٣٢٧ - عَلَى أنَّهَا كَانَتْ تَأوَّلُ حُبَّهَا تَأوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فأصْحَبَا
أي: يعني أن حبها كان صغيراً، قليلاً، فآل إلى العِظَم كما يَئُول السَّقْبُ إلى الكِبر، ثم قد يُطْلَق على العاقبة، والمردِّ؛ لأنَّ الأمر يصير إليهما.
الثاني: أنه مشتق من الإيَالَةِ، وهي السياسةُ، تقول العر: قَدْ ألْنَا وَإيلَ عَلَيْنَا، أي: سُسْنَا وساسَنا غيرُنا، وكأن المؤوِّلَ للكلام سايسهُ، والقادر عليه، وواضِعه موضعَه، نُقِل ذلك عن النضر بن شميل.
وفرق الناس بين التفسير والتأويل في الاصطلاح بأن التفسير مقتصر به على ما لا يُعْلَم إلاَّ بالتوقيف كأسباب النزول، ومدلولات الألفاظ، وليس للرأي فيه مَدْخَل، والتأويل يجوز لمن حصلت عنده صفة أهلِ العلمِ، وأدواتٌ يقدر أن يتكلم بها إذا رجع بها إلى أصولٍ وقواعدَ.

فصل


روى ابنُ عباسٍ: أن رَهْطاً من اليهود منهم حُيَيّ بنُ أخْطَبَ، وكعبُ بنُ الأشرف ونظراؤهما أتوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له حُيَيّ: بلغنا أنه نزلَ عليك الم، فننشدك الله، أنزل عليك؟ قال: نَعَمْ، قال: فإن كان ذلك حقاً فأنا أعلم مدّة مُلْك أمتك، هي إحْدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرُها؟ قال: نعم، المص، قال: هذه أكثر، هي مائة وإحدى وثلاثون سنة، فهل أنزل غيرها؟ قال: نعم، المر، قال: هذه أكثر، هي مائتان وإحدى وسبعون سنة، وقد خَلَّطتَ علينا، فلا ندري ابكثيره نأخذ، أم بقليله ونحن ممن لا يُؤمن
36
بهذا؟ فأنزلَ الله ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾.
وقال الربيع: هم وَفْدُ نجرانَ، خاصموا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عيسى، وقالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله وروح منه؟ قال: بلى، قالوا: حَسْبُنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم أنزل: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩].
قال ابن جريج: هم المنافقون.
وقال الحسن: هم الخوارج، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري مَنْ هُمْ، وقال المحققون: إن هذا يَعُم جميعَ المبطلين، قالت عائشة: تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآيةَ منه آيات محكمة هي أم الكتاب وأخر متشابهات إلى قوله: أولي الألباب ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ فقال رسول الله: «فَإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأولَئِكَ الذين سمى الله فاحذرهم» وعن أبي غالب قال: «كنت أمشي مع أبي أمامة، وهو على حمار حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق، فإذا رؤوسٌ منصوبة، فقال: ما هذه الرؤوس؟ قيل: هذه رؤوس يُجاء بهم من العراق، فقال أبو أمامة: كلابُ النار، كلابُ النار، [كلابُ النار] أو قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قَتَلهم وقتلوه - يقولها ثلاثاً - ثم بكى، فقلت: ما يُبْكيك يا أبا أمامة؟ قال: رحمةً لهم؛ إنهم كانوا من أهل الإسلام، فخرجوا منه، ثم قرأ: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ الآية، ثم قرأ: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات﴾ [آل عمران: ١٠٥]، فقلت: يا أبا أمامة، هم هؤلاء؟ قال: نعم، قلت: أشيء تقوله برأيك، أم شيء سمعته من رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقال: إني إذَنْ لَجرِيء، إني إذاً لَجَريءٌ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه سولم غيرَ مرةٍ ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع، ولا خمس، ولا ست، ولا سبع، ووضع أصبعيه في أذنيه، قال: وإلا فَصُمَّتَا، قالها ثلاثاً - ثم قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول
«تَفرَّقَتْ بَنو إسرائيلَ على أحْدَى وسبعينَ فرقةً،
37
واحدةٌ في الجَنَّةِ، وَسَائِرَهُم في النَّارِ، ولتزيدَنَّ عليهم هَذِهِ الأمةُ واحدةً، واحدةٌ في الجنَّة وسائرُهم في النّار».

فصل


لما بيَّنَ الله تعالى أن الزائغِين يتَّبعون المتشابهِ بيَّن أنّ لهم فيه غرضَيْنِ:
الأول: ابتغاء الفتنة.
والثاني: ابتغاء التأويل.
أما الفتنة فقا لالربيع والسدي: الفتنة: طلب الشرك.
وقال مجاهد: ابتغاء الشبهات واللَّبْس، ليضلوا بها جُهَّالهم.
وقال الأصم: متى وقعوا في المتشابهات، صَارَ بعضهم مخالفاً للبعض في الدين، وذلك يفضِي إلى التقاتل، والهَرْج والمَرْج.
وقيل: المتمسك بالمتشابه يُقَرِّر البِدَع والأباطيل في قلبه، فيصير مفتوناً بذلك الباطلِ، عاكفاً عليه، لا يقلع عنه بحيلة ألبتة لأن الفتنة في اللغة: التوغُّل في محبة الشيء، يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، أي: مُوغِل في طلبها.
وقيل: الفتنة في الدين هي الضلال عنه، [ومعلوم أنه لا فتنة، ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه].
وأما التأويل فقد ذكرنا تفسيره في اللغة، والفرق بينه وبين التفسيرز
قد يسمى التفسيرُ تأويلاً قال تعالى: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ [الكهف: ٧٨]، وقال: ﴿ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٥]، وذلك لأنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى، والمراد منه: أنهم يطلبون التأويل الذي ليس عليه دليل من كتاب الله تعالى ولا بيان، كطلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب للمطيع والعاصي كم تكون؟
38
وقيل: ابتغاء التأويل: طلب عاقبته، وطَلَبُ أجَل هذه الأمة من حساب الجُمل؛ لقوله تعالى: ﴿ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٥] أي: عاقبةً.
وقول: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله﴾ اختلف الناسُ في هذا الموضع: فقال قوم: الواو في قوله: «وَالرَّاسِخُونَ» عاطفة على الجلالة، فيكونون داخلين في عِلْم التأويل وعلى هذا يجوز في الجملة القولية وجهان:
أحدهما: أنها حال: أي: يعلمون تأويله حال كونهم قائلين ذلك.
والثاني: أن تكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم يقولون - وهذا قول مجاهد والربيع وهذا لقوله تعالى: ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى﴾ [الحشر: ٧] ثم قال ﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ﴾ [الحشر: ٨] إلى أن قال: ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩] ثم قال: ﴿والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ ولهذا عطف على ما سبق ثم قال: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا﴾ [الحشر: ١٠] يعني هم مع استحقاقهم الفيء
39
يقولون: ﴿رَبَّنَا اغفر لَنَ﴾ أي: قائلين على حال. وروي عن ابن عباس: أنه كان يقول في هذه الآية: أنا من الراسخين في العلم، وعن مجاهد: أنا ممن يعلم تأويله.
وذهب الأكثرون إلى أن الواو في وقله: «والرَّاسِخُونَ» واو الاستئناف، فيكون مستدأ، وتم الكلام عند قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله﴾ والجملة من قوله: «يَقُولُونَ» خبر المبتدأ، وهذا قول أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وعائشةَ، وعروة بن الزبير، ورواية طاوس عن ابن عباس وبه قال الحسنُ، وأكثر التابعين، واختاره الكسائي، والفرّاء، والأخفش، وقالوا: لا يعلم تأويلَ المتشابه إلا اللهُ، ويجوز أن يكون للقرآن تأويلٌ استأثر الله بعلمه لم يُطْلِع عليه أحداً من خلقه، كما استأثر بعلم السَّاعة، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدَّجَّالِ ونزول عيسى - عليه السلام - ونحوها، والخلق متعبدون بالمتشابه، والإيمان به، وفي المحكم في الإيمان به والعمل، ومما يُصَدّق ذلك قراءةُ عبد الله: «إنْ تأويلُه إلا عندَ الله والرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ..»، وفي حرف أبي: ويقول الراسخون في العلم آمنا به. قال عمر بن عبد العزيز - في هذه الآية -: انتهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بتأويل القرآن إلى أن قالوا: آمنا به، كل من عند ربنا.
وهذا القول أقيسُ في العربية وأشبه بظاهر الآية، ويدل لهذا القول وجوه:
أحدها: أنه ذم طالب المتشابه بقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ﴾.
الثاني: أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾، وقال [في أول البقرة] :﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِم﴾ [البقرة: ٢٦] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل كان لهم في الإيمان به مدحٌ؛ لأن كل من عرف شَيئاً على سبيل التفصيلِ، فلا بد وأن يُؤمن به.
الثالث: لو كان قوله: «وَالرَّاسِخًونَ» معطوفاً لصار قوله: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ ابتداء، وهو بعيد عن الفصاحة، وكان الأولى أن يُقَالَ: وهم يقولون، أو يقال: ويقولون.
فإن قيل: في تصحيحه وجهان:
الأول: أن «يَقُولُونَ» خبر مبتدأ، والتقديرُ: هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا.
الثاني: أن يكون «يَقُولُونَ» حالاً من الراسخين.
فالجواب: أن الأول مدفوع بأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الإضمار أولى، والثاني أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره - وهو الراسخون - فوجب أن يكون قوله: «آمنا به» حالاً من الراسخينَ لا من «الله» وذلك ترك للظاهر.
40
رابعاً: قوله: ﴿كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله، وبما لا يعرفون تفصيله، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل، لم يبق لهذا الكلامِ فائدة.
وخامسها: نُقل عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: تفسير القرآن على اربعة أوجه: «تفسير لا يسمع أحداً جهلُه، وتفسير تعرفه العربُ بألسنتها، وتفسيرٌ تعرفه العلماء، وتفسيرٌ لا يعلمه إلا اللهُ تعالى».
وسئل مالك بن أنس عن قوله: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: ٥] فقال: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة».
والرسوخ: الثبوت والاستقرار ثبوتاً متمكّناً، فهو أخص من مطلق الثَّبَاتِ.
قال الشاعر: [الطويل]
١٣٢٨ - لَقَد ْ رَسَخَتْ فِي الْقَلْبِ مِنِّي مَوَدَّةٌ لِلَيْلَى أبَتْ آيَاتُهَا أن تُغَيَّرا
«آمَنَّا بِهِ» في محل نصب بالقول، و «كُلٌّ» مبتدأ، أي: كله، والجار بعده خبره، والجملة نصب بالقول أيضاً.
فإن قيل: ما الفائدة في لفظ «عِنْدِ» ولو قال: كل من ربنا لحصل المقصود؟
فالجوابُ: أن الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد من التأكيد.
فإن قيل: لِمَ حُذِفَ المضاف إليه من «كُلٌّ» ؟
فالجوابُ: لأن دلالته على المضاف قوية، فالأمْنُ من اللَّبْسِ بعدَ الحذفِ حاصلٌ.
قوله: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب﴾ مَدْحٌ للذين قالوا: آمنا، قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ والسُّدِّيُّ: بقولهم آمنَّا سماهم الله راسخينَ في العلم، فرسوخهم في العلم قولهم: آمنا به - أي المتشابه - كلٌّ من عند ربنا - المحكم والمتشابه، وما علمناه، وما لم نعلم -.
وقيل: الراسخونَ: علماء أهل الكتاب - كعبد الله بن سلام وأصحابه - لقوله تعالى: ﴿لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُم﴾ [النساء: ١٦٢] يعني الدارسين علم التوراة، وسُئِل مالك بن أنس عن الراسخينَ في العلمِ فقال: العالمُ العاملُ بما عَلِم، المتَّبع له.
وقيل: الراسخ ي العلم من وُجِدَ في علمه أربعة أشياءٍ: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.
«وَمَا يذكَّرُ» يتَّعظ بما في القرآن ﴿إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب﴾ ذوو العقول.
41
اعلم أنه تعالى لمَّا حكى عن الراسخين أنهم يقولون: «آمنا به»، حكى أنهم
41
يقولون: ربنا لا تزغ قلوبنا وحذف يقولون؛ لدلالة الأول عليه، كما في قوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا﴾ [آل عمران: ١٩١].
قال القرطبيُّ: ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمدُ.
قوله: «لا تُزغْ» العمة على ضَمِّ حَرْف المضارعةِ، من أزاغ يزيغ، و «قُلُوبَنَا» مفعول به، وقرأ أبو بكر بن فايد وأبو واقد الجراح: «لا تَزغْ قُلُوبُنَا» - بفتح التاء، ورفع «قُلُوبُنَا»، وقرأ بعضهم كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعلى القراءتين، فالقلوب فاعل بالفعل المنهي عنه، والتذكير وأتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمع وتذكيره، والنهي في اللفظ للقلوب، وفي المعنى دعاء لله تعالى - أي: لا تزغ قلوبنا فتزيغ، فهو من باب «لا أرَينَّكَ ههُنَا».
وقول النابغة: [البسيط]
١٣٢٩ - لا أعرِفَن رَبْرَباً حُوراً مَدَامِعُهَا.............................
قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾، «بَعْدَ» منصوب ب «لا تُزِغْ»، و «إذْ» هنا خرجت عن الظرفية؛ للإضافة إليها وقد تقدم أن تصرفها قليل، وإذا خرجت عن الظرفيةِ، فلا يتغير حكمها من لزوم إضافتها إلى الجملة بعدها، كما لم يتغير غيرها من الظروف في هذا الحكمِ، ألا ترى إلى قوله ﴿هذا يَوْمُ يَنفَعُ﴾ [المائدة: ١١٩] و ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ﴾ [الانفطار: ١٩]- قراءة من رفع «يومُ» في الموضعين -.
وقول الآخر: [الطويل]
١٣٣٠ -................................ عَلَى حِينِ الكِرَامُ قَلِيلُ
وقوله: [الطويل]
١٣٣١ - عَلى حِينِ مَنْ تَلْبَثْ عَلَيْهِ ذُنُوبهُ........................
42
وقوله: [الطويل]
١٣٣٢ - عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا.....................
وقوله: [الطويل]
١٣٣٣ - أَلا لَيْتَ أَيَّامَ الصَّفَاء جَدِيدُ..........................
كيف خرجت هذه الظروف عن النصب إلى الرفع والجر والنصب ب «لَيْت»، ومع ذلك هي مضافةٌ للجمل التي بعدها.

فصل


هذه الآية تدل على أن الزيغَ والهداية خلق الله تعالى، قال أهل السنة: ذلك لأن القلب صالح لأن يميلَ إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين، إلا عند حدوث داعية وإرادة أحدثها الله تعالى.
فإن كانت تلك الداعية [داعية] الكفر، فهي الخذلان، والإزاغة، والصد، والختم، والرَّيْن، والقسوة والوقر والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن.
وإن كانت تلك الداعيةُ داعيةَ الإيمان، فهي التوفيق، والإرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبيت، والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «قَلْبُ المؤمن بَيْنَ أصبعينِ مِنْ أصابعِ الرَّحْمَنِ، إنْ شَاءَ أقامه، وإن شاء أزاغَهُ»، والمرادُ من هذين الأصبعين الداعيتان، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:
«اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ القلوب
43
والأبصار ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دينك» ومعناه ما ذكرنا، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَثَلُ الْقلبِ كَرِيشَةٍ بأرْضٍ فَلاَةٍ تُقلبُهَا الرِّياحُ ظَهْراً لِبَطْنٍ».
وقالت المعتزلةُ: الزيغُ لا يجوز أن يكون بفعل الله؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥]، وهذا صريح في أن ابتداء الزيغ منهم.
والجوابُ: أن مذهبهم أن كل ما صح في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لُطْفاً، وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلاهيته، ولصار محتاجاً، والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجةٍ إلى طلبه بالدعاء؟
فإن قيل: فما الجواب عن قوله: ﴿فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ ؟
قلنا: لا يبعد أن الله تعالى يُزيغهم ابتداء، فعند ذلك يزيغون، ثم يترتب على الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى، ولا منافاةَ فيه.
وقوله: ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾، أي: جعلتنا مهتدين، وهذا صريحٌ أيضاً في أن حصولَ الاهتداءِ في القلب بتخليق اللهِ تعالى.
قوله: ﴿وَهَبْ لَنَا﴾ الهِبَة: العَطِيَّة، حذفت فاؤها، وكان حق عين المضارع منها كسر العين منه، إلا أن ذلك منعه كونُ العين حرفَ حَلْقٍ، فالكسرة مقدَّرة، فلذلك اعتبِرَت تلك الكسرةُ المقدرةُ فحذفت لها الواو وهذا نحو: «يضع» و «يسع»، لكون اللام حرف حلقٍ، ويكون «هَبْ» فعل أمر بمعنى اعتقد، فيتعدى لمفعولين.
كقوله: [المتقارب]
١٣٣٤ -........................... وَإلاَّ فَهَبْنِي أمْرَأ هالِكا
وحينئذ لا يتصرف.
ويقال أيضاً: وَهَبني الله فِداك، أي: جعلني، ولا يتصرف أيضاً عن الماضي بهذا المعنى.
44
قوله: «مِنْ لَدُنْكَ» متعلق ب «هَبْ»، و «لَدُنْ» ظرف، وهي لأول غاية زمان أو مكان، أو غيرها من الذوات نحو: من لدن زيد، فليست مرادفة لِ «عِنْد»، بل قد تكون بمعناها، وبعضهم يقيدها بظرف المكانِ، وتضاف لصريح الزمانِ.
قال: [الراجز]
١٣٣٥ - تنتَهِضُ الرِّعْدَةُ فِي ظُهَيْرِي مِن لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى الْعُصَيْرِ
ولا يُقْطع عن الإضافة بحال، وأكثر ما تضاف إلى المفردات، وقد تُضاف إلى «أنْ» وَصِلَتها؛ لأنهما بتأويل مفردٍ.
قال: [الطويل]
١٣٣٦ - وُلِيتَ فَلَمْ تَقْطَعْ لَدُنْ أنْ وَلِيتَنَا قَرَابَةَ ذِي قُرْبَى وَلاَ حَقَّ مُسْلِمِ
أي: لدن ولايتك إيانا، وقد تضاف إلى الجملة الاسمية.
كقوله: [الطويل]
١٣٣٧ - وَتَذْكُرُ نُعْمَاهُ لَدُنْ أنْتَ يَافِعٌ إلَى أنْتَ ذُو فَؤْديْنِ أبيضَ كَالنَّسْرِ
وقد تُضَافُ للفعلية.
كقوله: [الطويل]
١٣٣٨ - لزمْنَا لَدُنْ سَالَمْتُمُونَا وِفَاقَكُمْ فَلاَ يَكُ مِنْكُمْ لِلْخِلاَفِ جُنُوحُ
وقال آخرُ: [الطويل]
١٣٣٩ - صَرِيعُ غَوانٍ رَاقَهُنَّ وَرُقْنَهُ لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ
وفيها لغتان: الإعراب، وهي لغة قَيْس، وبها قَرَأ أبو بكر عن عاصم ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ [النساء: ٤٠]- بجر النون -، وقوله: [الرجز]
١٣٤٠ -..........................
45
مَنْ لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى العُصَيْرِ
ولا تخلو من «من» غالباً، قاله ابنُ جني، ومن غير الغالب ما تقدم من قوله:
١٣٤١ -............. لَدُنْ أنت يافع..............................
وإن وقع بعدها لفظ «غدوة» خاصة - جاز نصبها، ورفعها، فالنصب على خبر «كان» أو التمييز والرفع على إضمار «كَانَ» التامة، ولولا هذا التقدير لزم إفراد «لَدُن» عن الإضافة، وقد تقدم أنه لا يجوز، فمن نَصْب «غدوة» قوله: [الطويل]
١٣٤٢ - فَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمُ لَدُنْ غُدْوَةً حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ
واللغةُ المشهورةُ بناؤها؛ لشبهها بالحرف في لزوم استعمالٍ واحدٍ، وامتناع الإخبار بها، بخلاف «عند»، و «لدن» فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً؛ إذ يكون فضلةً، وعُمدةً، وغايةً وغير غاية، بخلاف «لَدُن».
وقال بعضهم: «علة بنائِها كونها دالة على الملاصقة، ومختصةً بها، بخلاف» عند «فإنها لا تدل على الملاصقة، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف، فكأنها مضمنة معنى حرف كان من حقه أن يوضَع لذلك، فلم يُوضَع، كما قالوا في اسم الإشارةِ، واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصتان ب» لَدُنْ «المفتوحة اللام، المضمومة الدال، الواقع آخرُها نونٌ، وأما بقية لغاتها فهي - فيها - مبنية عند جميع العرب، وفيها عشر لغاتٍ: أشهرها الأولى، ولدَن، ولدِن - بفتح الدال وكسرها - ولَدْنِ، ولُدنِ - بفتح اللام وضمها، مع سكون الدالِ وكسر النونِ - ولُدْنَ - بالضم والسكون وفتح النون -، ولَدْ، ولُدْ - بفتح اللام وضمها مع سكون الدالِ، ولَدُ - بفتح اللام وضم الدال ولت - بإبدال الدال تاءً ساكنةً، ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رَدُّ النون.
قوله: ﴿أَنْتَ الوهاب﴾ »
أنت «يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون ضميرَ الفصل، وأن يكون تأكيداً لاسم» إنَّ «.

فصل


اعلم أن هؤلاء المؤمنين سألوا ربهم ألا يَجْعَل قلوبَهُم مائلةً إلى العقائد الفاسدة ثم أتبعوا ذلك بطلب تنوير قلوبهم.
46
وقال» رحمة «؛ ليشمل جميع أنواع الرحمةِ، ولما ثبت بالبرهان القاطع أنه لا رحيمَ إلا هو أكد ذلك بقوله: ﴿مِن لَّدُنْكَ﴾ تنبيهاً للعقل على أن المقصود لا يحصل إلا منه.
وقوله: ﴿أَنْتَ الوهاب﴾ كأن العبد يقول: إلهي هذا الذي طلبته منك بهذا الدعاء بالنسبة إليّ - حقير - بالنسبة إلى كمال كرمك، وغاية جودِك ورحمتك؛ فإنك أنت الوهاب.
47
قرأ أبو حاتم ﴿جَامِعُ الناس﴾ بالتنوين والنصب - و «لِيَوْمٍ» اللام للعلة، أي: لجزاءِ يوم، وقيل: هي بمعنى «في»، ولم يذكر المجموع لأجله، و «لا رَيْبَ» صفة ل «يَوْم»، أي: لا شك فيه، فالضمير في «فِيهِ» عائد عليه، وأبْعَد مَن جَعَلَه عائداً على الجمع المدلول عليه ب «جَامِعُ»، أو على الجزاء المدلول عليه بالمعنى، أو على العَرْض.
قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد﴾ يجوز أن يكون من تمام حكايةِ قولِ الراسخين، فيكون التفاتاً من خطابهم للباري تعالى بضمير الخطاب إلى الإتيَان بالاسم الظاهر؛ دلالةً على تعظيمه، ويجوز أن يكون مستأنفاً من كلام الله تعالى، فلا التفاتَ حينئذٍ.
و «الميعاد» مصدر، وياؤه منقلبة عن واو، لانكسار ما قبلها كميقات.
فإن قيل: لم قالوا - في هذه الآية -: إن اللهَ لا يخلف الميعادَ، وقالوا - في تلك الآية - إنك لا تخلف الميعاد؟
فالجوابُ: أن هذه الآيةَ في مقام الهيبةِ، يعني أن الآية تقتضي الحشر والنشر؛ ليُنْتَصَف للمظلومين من الظالمين، فكان ذكره باسمه الأعظم أوْلَى في هذا المقامِ، وفي تلك الآية مقام طلب العبدِ من ربه أن ينعم عليه بفضله، ويتجاوز عن سيئاته، فليسَ مقام الهيبةِ، فلا جرم قال: ﴿إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد﴾ [آل عمران: ١٩٤].

فصل


اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا؛ فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالأخرة؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ووعدك حق، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.

فصل


اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا؛ فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ووعدك حق، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.

فصل


احتج الجبائيُّ - بهذه الآية - على القطع بوعيد الفساق، قال: لأن الوعيدَ داخل
47
تحت لفظ الوعد؛ لقوله تعالى: ﴿قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً﴾ [الأعراف: ٤٤]، والموعد والميعاد واحد، وقد أخبر - في هذه الآيةِ - أنه لا يُخْلف الميعاد.
والجواب: لا نسلم القول بوعيد الفساق مطلقاً، بل ذلك مشروط بعدم العفو، كما هو مشروط بعدم التوبة بالاتفاقِ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل، سلمنا أنه توعدهم، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد، ويكون قوله: ﴿فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً﴾ كقوله:
﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١] وقوله: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩]، فيكون من باب التهكمِ، ويجوز أن يكون المراد أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله تعالى.
وذكر الواحديُّ في البسيط - أنه يجوز أن يُحْمَل هذا على ميعاد الأولياء، دون وعيد الأعداء؛ لأن خُلْفَ الوعيد كرم عند العرب؛ لأنهم يمدحون بذلك، قال: [الطويل]
١٣٤٣ - إذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أنَجْزَ وَعْدَهُ وَإنْ أوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُه
وروى المناظرة بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عُبَيْد: قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عُبَيْد فما تقول في أصحاب الكبائر؟ فقال: أقول: إنَّ الله تعالى وَعَدَ وعْداً وأوعد إيعاداً، فهو مُنجز إيعاده كما هو منجز وعده، فقال أبو عمرو بن العلاء: إنك رجل أعْجَمُ، لا أقول: أعجم اللسان، ولكن أعجمُ القلب؛ إن العربَ تَعُدُّ الرجوعَ عن الوعد لُؤماً، وعن الإيعاد كَرَمًا، وأنشد: [الطويل]
١٣٤٤ - وَإنِّيَ إن أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ لَمُكْذِبُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
فقال له عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو، فهل يُسَمّى الله مكذب نفسه؟ فقال: لا، فقال له عمرو بن عبيد: فقد سقطت حجتك.
قال ابن الخطبيبِ: «وكان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول: إنك قِسْت الوعيد على الوعد، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين؛ وذلك لأن الوعدَ حق عليه، والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره، فذلك هو اللؤم، فظهر الفرق.
48
وأما قولك: لو لم يفعلْ لصار كاذباً، أو مكذب نفسه.
فالجوابُ: أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيدُ ثابتاً جزماً من غير شرط، وعندي أن الوعيد مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى».
49
لما حكى دعاءَ المؤمنين وتضرُّعَهم حكى كيفيةَ حال الكافرين، وشدة عقابهم، وفيهم قولان:
أحدهما: أن المراد بهم وفد نجران؛ لأنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني أعلم أنه رسولُ اللهِ حقاً، ولكني إن أظهرتُ ذلك أخذ ملوكُ الرومِ مني ما أطَوْنِي من المال، فبيَّن الله تعالى أن أموالهم لا تدفع عنهم عذابَ الله.
الثاني: أن اللفظ عام، وخصوصُ السبب لا سمنع عمومَ اللفظ.
قوله: ﴿لَن تُغْنِيَ﴾ العامة على «تُغْنِي» بالتاء من فوق؛ مراعاةً لتأنيث الجميع، وقرأ الحسنُ وأبو عبد الرحمن بالياء من تحت - بالتذكير - على الأصل، وسكن الحسن ياءَ «تُغْنِي» ؛ استثقالاً للحركةِ على حرف العلة، وذهاباً به مَذْهَبَ الألف، وَبَعضهم يخص هذا بالضرورةِ.
قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ في «مِن» هذه أربعة أوجه:
أحدها: أنها لابتداء الغايةِ - مجازاً - أي: من عذاب اله وجزائه.
الثاني: أنها بمعنى «عند» قاله أبو عبيدة، وجعله كقوله تعالى: ﴿أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٤]، أي: عند جوع، وعند خوف، وهذا ضعيف عند النحويين.
الثالث: أنها بمعنى بدل.
قال الزمخشري: قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ مثل قوله: ﴿إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً﴾ [يونس: ٣٦]، والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعته شيئاً، أي: بدل رحمته وطاعته، وبدل الحق ومنه [قوله] :«ولا ينفع ذا الجد منك الجد»، أي: لا
49
ينفعه جده وحظه من الدنيا بدلاً، أي: بدل طاعتك وما عندك، وفي معناه قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى﴾ [سبأ: ٣٧]، وهذا الذي ذكره من كونها بمعنى بدل جمهور النحاة يَأبَاه؛ فإن عامة ما أوْرَدَهُ يتأوَّله الجمهورُ.
ومنه قوله: [الرجز]
١٣٤٥ - جاريةٌ لَمْ تَأكُلِ الْمُرَقَّقَا وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا
وقول الآخر: [الكامل]
١٣٤٦ - أخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفصيلِ غُلُبَّةً ظُلْماً، وَيَكْتُبُ للأميرِ أفِيلا
وقوله تعالى: ﴿لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ [الزخرف: ٦٠]، وقوله: ﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ [التوبة: ٣٨] ؟
الرابع: أنها تبعيضية، إلا أن هذا الوجه لما أجازه أبو حيّان مبنياً على إعراب «شَيْئاً» مفعولاً به، بمعنى: لا تدفع، ولا تمنع، قال: فعلى هذا يجوز أن يكون «من» في موضع الحال من «شَيْئاً» ؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعتِ له، فلما تقدم انتصب على الحال، وتكون «من» إذ ذاك - للتبعيض.
قال شهاب الدينِ: «وهذا ينبغي أن لا يجوز ألبتة؛ لأن» منَ «التبعيضية تؤوَّلُ بلفظ بعض مضافةً لما جرَّتْه» مِنْ «ألا ترى أنك إذا قلتَ: رأيت رجلاً من بني تميم، معناه: بعض بني تميم، وأخذت من الدراهم: أي: بعضَ الدراهم، وهنا لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصْلاً، وإنما يصح جعله صفة لِ» شَيْئاً «إذا جعلنا» مِنْ «لابتداء الغاية، كقولك: عندي درهم من زيد، أي: كائن أو مستقر من زيد، ويمتنع فيها التبعيض، والحال كالصفة في المعنى، فامتنع أن تكون من للتبعيض مع جعله» مِنَ اللهِ «حالاً من» شَيْئاً «، وأبو حيّان تبع أبا البقاءِ في ذلك، إلا أن أبا البقاء حين قال ذلك - قَدَّر مضافاً وضَّح به قوله، والتقدير: شيئاً من عذاب الله، فكان ينبغي أن يتبعه - في هذا الوجهِ - مُصَرِّحاً بما يدفع هذا الذي ذكرته».
و «شَيْئاً» إما منصوب على المفعول به وقد تقدم تأويله وإما على المصدرية، أي: شَيْئاً من الإغناء.
قوله: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ هذه الجملة تحتمل وجهَيْن:
50
أحدهما: أن تكون مستأنفةً.
والثاني: أن تكون منسوقة على خبر «إنَّ» و «هم» تحتمل الابتداء والفصل.
وقرأ العامة «وَقُودُ» بفتح الواو، والحَسن بِضَمِّها وتقدم تحقيقُ ذلك في البقرة، وأن المصدرية محتملة في المفتوح الواو أيضاً، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويله، فلا حاجة إلى إعادته.

فصل


اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنهم كل ما يُنْتَفَعُ به، ثم تجتمع عليه الأسبابُ المؤلمة.
الأول هو المراد بقوله: ﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم﴾ ؛ فإن المرء - عند الخطوب - يفزع إلى المال والولد؛ لأنهما أقربُ الأمور التي يُفْزَع إليها في دَفْع النوائب، فبيَّن تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالِفَةٌ لصفةِ الدنيا، وإذا تعذَّر عليه الانتفاع في ذلك اليوم بالمالِ والولدِ - وهما أقرب الطرق - فما عداه بالتعذُّر أوْلَى، ونظيره: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٨ - ٨٩].
وأما الثاني من أسباب كمال العذاب - وهو اجتماع الأسباب المُؤْلمةِ - فهو المراد بقوله: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ وهذا هو النهايةُ في العذابِ؛ فإنه لا عذابَ أعظم من أن تشتَعِل النارُ فيم كاشتعالها في الحطب اليابِسِ.
51
في كاف «كَدَأب» وجهانِ:
أحدهما: أنها في محل رَفْع؛ خَبَراً لِمبتدأ مُضْمَر، تقديره: دأبهم - في ذلك «كَدَأبِ آلِ فِرعَوْن» وبه بدأ الزمخشريُّ، وابنُ عطية.
الثاني: أنها في محل نَصْب، وفي الناصب لها تسعةُ أقوالٍ:
أحدها: أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف، والعامل فيه «كَفَرُوا»، تقديره: إنَّ الذين كفروا كُفْراً كدأب آل فرعون، أي: كعادتهم في الكفر، وهو رأي الفرَّاءِ.
وهذا القول مردود بأنه قد أخبر عن الموصول قبل تمام صلته، فلزم الفصلُ بينَ أبْعَاضِ العلةِ بالأجنبيِّ، وهو لا يجوز.
51
الثاني: أنه مصوب ب «كَفَرُوا» لكن مقدر؛ لدلالة هذا الملفوظ به عليه.
الثالث: أن الناصبَ مقدَّر، مدلول عليه بقوله: «لَنْ تُغْنِيَ» أي: بطل النتفاعهم بالأموالِ والأولادِ كعادة آل فرعونَ في ذلك. والمعنى: إنكم قد عرفتم ما حلَّ بآل فرعون ومَنْ قبلَهم من المكذبين بالرسل - من العذاب المعجل الذي عنده - لم ينفعهم مال ولا ولد.
الرابع: أنه منصوب بلفظ «وَقُودُ»، أي: تُوقَد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون، كما تقول: إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك، تريد: كظلم أبيك، قاله الزمخشريُّ، وفيه نظر؛ لأن الوقود - على القراءة المشهورة - الأظهر فيه أنه اسم لِما يوقد به، وإذا كان اسماً فلا عَمَل له، فإن قيل: إنه مصدر على قراءة الحَسن صَحَّ، ويكون معنى الدأب: الدؤوب - وهو اللُّبْثُ والدوام، وطول البقاء في الشيء - وتقدير الآية: «وَأُولَئِكَ هُم وَقُودُ كَدَأْبِ آل فِرْعَونَ».
[أي: دؤوبهم في النار كدأب آل فرعون].
الخامس: أنه منصوب بنفس «لَنْ تُغْنِي» أي: لن تغني عنهم مثل ما لم تُغنِ عن أولئك، ذكره الزمخشري، وضعَّفه أبو حيَّان بلزوم الفصل بين العامل ومعموله بالجملة - التي هي قوله: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ قال: «على أي التقديرين اللَّذَيْنِ قدرناهما فيهما من أن تكون معطوفة على خبر» إنَّ «أو على الجملة المؤكَّدة ب» إنَّ «قال: فإن جعلتها اعتراضيةً - وهو بعيد - جازَ ما قال الزمخشريُّ».
السادس: أن يكون العامل فيها فعلاً مقدَّراً، مدلولاً عليه بلفظ «الوَقُود»، تقديره: توقَد بهم كعادة آل فرعون، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق، قاله ابنُ عطية.
السابع: أن العامل يُعَذَّبُونَ كعادةِ آل فرعونَ، يدل عليه سياق الكلام.
الثامن: أنه منصوب ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾، والضمير في «كَذَّبُوا» - على هذا - لكفار مكة وغيرهم من معاصِرِي رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أي: كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعونَ في ذلك التكذيب.
التاسع: أن العامل فيه قوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ الله﴾، أي: فأخذهم الله أخْذاً كأخذه آل فرعون، والمصدر تارةً يضاف إلى الفاعل، وتارةً إلى المفعول، والمعنى: كَدَأبِ الله في آل فرعون، ونظيره قوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ [البقرة: ١٦٥] أي: كَحُبِّهم لله، وقال: ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ﴾ [الإسراء: ٧٧] والمعنى: سنتي فيمن أرسلنا قبلك، وهذا مردود؛ فإن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها، لا يجوز قمت زيداً فضربت وأما زيداً فاضرب، فقد تقدم الكلام عليه في البقرة.
52
وقد حكى بعضُ النحاةِ - عن الكوفيين - أنهم يجيزون تقديم المعمول على حرف العطف، فعلى هذا يجوز هذا القول، وفي كلام الزمخشريِّ سهو؛ فإنه قال: ويجوز أن ينتصب محلُّ الكاف ب «لَنْ تُغْنِيَ» أو ب «خَالِدُونَ»، [أي: لم تُغنِ عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك، أو هم فيها خالدون كما يُخَلَّدُون].
وليس في لفظ الآية الكريمة ﴿خَالِدُونَ﴾، إنما نظم الآية ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾، ويبعد أن يقال: أراد «خَالِدُون» مُقَدَّراً، يدل عليه السياق، اللهم إلا إن فسرنا الدأبَ باللُّبْث والدوام وطول البقاء.
وقال القفَّالُ: «يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى، والعادة المضافة إلى الكفار، كأنه قيل: إن عادة هؤلاء الكفار في إيذاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كعادة من قبلهم في إيذاء رُسُلِهِم وعادتنا أيضاً في إهلاك الكفارِ، كحعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين، والمقصود - على جميع التقديراتِ - نصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على إيذاء الكفار، وبشارته بأن الله سينتقم منهم».
الدأب: العادة، يقال: دأب، يَدْأبُ، اي: واظب، ولازم، ومنه ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً﴾ [يوسف: ٤٧]، أي: مداومة.
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
١٣٤٧ -... - كَدَأبكَ مِنْ أمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا
وَجَارَتِهَا أمِّ الرَّبَابِ بِمَاسَلِ... وقال زُهير: [الطويل]
١٣٤٨ - لأرْتَحِلَنّ بِالْفَجْرِ ثُمَّ لأدْأبَنّْ... إلَى اللَّيْلِ إلاَّ أنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ
وقال الواحديُّ: «الدأب: الاجتهاد والتعب، يقال: صار فلان يومه كله يَدْأب فيه، فهو دائب، أي: اجتهج في سَيْرِه، هذا أصله في اللغة، ثم [يصير] الدأب عبارة عن الحال والشأن والأمر والعادة؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله».
وكذا قال الزمخشريُّ، قال: «مصدر دأب في العمل إذا كَدَح فيه، فوُضِع مَوْضِعَ ما عليه الإنسان من شأنه وحاله».
53
ويقال: دأَب، ودأْب - بفتح الهمزة وسكونها - وهما لغتان في المصدر كالضأن والضأَن وكالمَعْز والمَعَز وقرأ حفص: ﴿سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً﴾ بالفتح.
قال الفرَّاء: «والعرب تثقل ما كان ثانيه من حروف الحلق كالنَّعْل والنَّعَل، والنَّهْر والنَّهَر، والشَّأْم والشَّأَم.
وأنشد: [البسيط]
١٣٤٩ - قَدْ سَارَ شَرْقِيُّهُمْ حَتَّى أتَوْا سَبَأ وَانْسَاحَ غَرْبِيُّهُمْ حَتَّى هَوى الشَّأَمَا
﴿والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ يجوز أن يَكُونَ مجروراً نسقاً على ﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾، وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء، والخبر قوله - بعد ذلك - ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله﴾، وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً، وخص أبو البقاء جواز الرفع بكون الكافِ في محل رفع، فقال:»
فعلى هذا - أي: على كونها مرفوعة المحل؛ خبراً لمبتدأ مضمر - يجوز في ﴿والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ مبتدأ، و «كَذَّبُوا» خبره «.
قوله: ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ قد تقدم أنه يجوز أن يكون خَبراً عن «الَّذِينَ»
إن قيل: إنه مبتدأ، فإن لم يكن مبتدأ فقد تقدم أيضاً أنه يكون تفسيراً للدأب، كأنه قيل: ما فعلوا، وما فعل بهم؟ فقيل: كذبوا بآياتِنا، فهو جوابُ سؤال مقدر، وأن يكون حالاً، وفي قوله: ﴿بِآيَاتِنَا﴾ التفات؛ لأن قبله ﴿مِّنَ الله﴾ وهو اسم ظاهر.
والمراد بالآيات: المعجزات، والباء في «بِذُنُوبِهِمْ» يَجوز أن تكون سببيةً، أي: أخذهم بسبب ما اجترحوا، وأن تكون للحالِ، أي أخذهم متلبسين بالذنوب، غير تائبين منها والذنب في الأصل - التِّلْو والتابع، وسُمِّيَت الجريمةُ ذَنْباً؛ لأنها يتلو، أي: يتبع عقابُها فاعلمه والذَّنُوب: الدَّلْو؛ لأنها تتلو الحبلَ في الجذبِ، وأصل ذلك من ذَنَب الحيوان؛ لأن يذنبه أي: يتلوه، يقال: ذنبه يذنبه ذنباً، أي: تبعه، واستعمل في الأخذ؛ لأن مَنْ بينَ يده العقاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يَقْدر على التخلُّص. قوله ﴿شَدِيدُ العقاب﴾ كقوله: ﴿سَرِيعُ الحساب﴾ [البقرة: ٢٠٢]، أي: شديدٌ عِقَابه وقد تقدم تحقيقه.
54
قرأ الأخوان: «سَيُغلبُونَ» و «يُحْشَرُونَ» - بالغيبة - والباقون بالخطاب، وهما واضحان كقولك: قل لزيد: قم؛ على الحكاية، وقل لزيد: يقوم وقد تقدم نحو من هذا في قوله: ﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله﴾ [البقرة: ٨٣].
وقال أبو حيّان: - في قراءة الغيبة -: «الظاهر أنَّ الضميرَ للذين كفروا، وتكون الجملة - إذ ذاك ليست محكية ب» قل «بل محكية بقول آخَرَ، التقدير: قل لهم قولي: سيغلبون وإخباري أنهم سيقع عليهم الغَلَبةُ، كما قال:» قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سلف «فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيُغْلَبون، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيُغْلَبُون».
وهذا الذي قاله سبقه إليه الزمخشريُّ، فأخذه منه، ولكن عبارة الزمخشريِّ أوضحُ، قال رَحِمَهُ اللَّهُ: فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين القراءتين - من حيث المعنى؟
قلت معنى القراءة بالتاء - أي من فوق - الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحَشْر إلى جهنَّمَ، فهو إخبار بمعنى: ستُغْلَبُون وتُحْشَرون، فهو كائن من نفس المتوعَّد به، وهو الذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكي لهم ما أخْبِرَ به من وعيدهم بلفظه، كأنه قال: أدِّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك: «سيُغْلَبون ويُحْشَرون».
وجوَّز الفرَّاءُ وثعلبُ أن يكون الضمير في «سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ» لكفار قريش، ويُرَاد بالذين كفروا اليهود، والمعنى: قل لليهود: ستُغْلَبُ قريش. وهذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط.
قال مَكيٌّ: «ويقوِّي القراءة بالياء - أي من تحت - إجماعهم على الياء في قوله: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨]، والتاء يعني من فوق أحَبُّ إليَّ، لإجماع الحَرَميَّينِ وعاصم وغيرهم على ذلك».
قال شهابُ الدينِ: ومِثْل إجماعهم على قوله: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ﴾ [الأنفال: ٣٨] إجماعُهم على قوله ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ﴾ [النور: ٣٠]، وقوله: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ﴾ [الجاثية: ١٤]، وقال الفرّاء: «مَن قرأ بالتاءِ جعل
55
اليهود والمشركين داخِلينَ في الخطاب، ثم يجوز - في هذا المعنى - التاء والياء، كما تقول في الكلام: قل لعبد الله: إنه قائم، وإنك قائم».
وفي حرف عبد الله: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾، ومَن قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود، وأنَّ الغَلَبَةَ تقع على المشركين، كأنه قيل: قل يا محمد لليهود سيُغْلَب المشركون، ويُحْشَرُونَ، فليس يجوز في هذا المعنى إلاَّ الياءُ لأن المشركين غيب.

فصل في سبب النزول


في سبب نزول الآية أوجه:
الأول: قال ابن إسحاق - ورواه سعيدُ بنُ جُبَيْر، وعكرمةُ عن ابن عباس -: لما أصاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قريشاً ببدر، ورجع إلى المدينة، جمع اليهودَ في سوق بني قينقاع، وقال: يا معشرَ اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، فأسلموا قبل أن يَنْزِل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نَبِيٌّ مُرْسَل، تجدون ذلك في كتابكم، فقالوا: يا محمد، لا يَغُرَّنَّكَ أنك لقيت قوماً أغماراً - لا عِلْم لهم بالحرب - فأصَبْتَ منهم فُرْصَةٌ، وإنا - والله - لو قاتلناك لعرفْتَ أنَّا نحن الناس، فأنزل الله تعالى: ﴿ {قُل لِلَّذِينَ كفروا﴾، يعني اليهود «سَتُغْلَبُونَ» تُهْزَمُونَ، «وَتُحْشَرُونَ» فِي الآخرة «إلَى جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمِهَادُ» أي: الفراش.
الثاني: قال الكلبيُّ عن ابن عباس - أيضاً -: إن يهود أهل المدينة - لما شاهَدُوا هزيمة المشركين يومَ بدر - قالوا: والله إن هذا لهو النبيُّ الأميُّ الذي بَشَّرَنَا به موسى، وفي التوراة نعته، وأنه لا يُرَدُّ عليه رأيه، وأرادوا اتباعه، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة له أخرى، فلما كان يوم أحد، ونُكِبَ أصحابُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شَكُّوا، وقالوا: ليس هو ذلك، فغَلَبَ عليهمُ الشقاءُ فلم يُسْلِموا، وقد كان بينهم وبين أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عهدٌ إلى مدة فنقضوا ذلك العهدَ، وانطلق كعبُ بن الأشرف في ستين راكباً - إلى مكة يستنفرهم، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله هذه الآية.
الثالث: أن هذه الآية واردة في جميع الكفار.

فصل في تكليف ما لا يطاق


استدلوا على [جواز] تكليف ما لا يطاق بهذه الآية، قالوا: لأن الله تعالى أخبر
56
عن الكفارِ بأنهم يُحْشَرونَ إلى جهنم، فلو آمنوا لانقلب هذا الخبر كَذِباً، وذلك محال، فكأنَّ الإيمان منهم محال، وقد أمِروا به، فيكون تكليفاً بالمحال.
﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ إخبار عن أمر يحصل في المستقبل، وقد وقع مخبره على موافقته، فكان هذا إخباراً عن الغيب، فهو مُعْجز، ونظيره - في حق عيسى - ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ [آل عمران: ٤٩].
قوله: ﴿بِئْسَ المهاد﴾ المخصوص بالذم محذوفٌ، أي بئس المهاد جهنمُ، والحذف للمخصوص يدل على صحة مذهب سيبويه من أنه مبتدأ.
والجملة قبله خبره، ولو كان - كما قال غيره - مبتدأ محذوف الخبر، أو بالعكس، ملا حف ثانياً؛ للإجحاف بحذف سائر الجملة.
و «بئس» مأخوذ من البأساء، وهو الشر والشدة، قال تعالى: ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف: ١٦٥] أي: شديد.
57
«قَدْ كَانَ» جواب قسم محذوفٍ، و «آيَةٌ» اسم «كان» ولم يُؤنث الفعلُ؛ لأن تأنيث الآية مجازيٌّ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان.
فهذا كقول امرئِ القيسِ: [المتقارب]
١٣٥٠ - بَرَهْرَهَةٌ، رُؤدَةٌ، رَخْصَةٌ كَخُرُعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ
قال الأصمعي: «البَرَهْرَهَةُ: الممتلِئَة المُتَرَجْرِجَة، والرُّؤدَة، والرادة: الناعمة».
قال أبو عمرو: وإنما قال: الْمُنْفَطِر، ولم يقل: المنفطرة؛ لأنه رَدٌّ على القضيب، فكأنه قال: البان المنفطر، والخرعوبة: القضيب، والمنفطر: الذي ينفطر بالورق، وهو ألين ما يكون.
قال أبو حيّان: أوَّل البانةَ بمعنى القضيب، فلذلك ذكر المنفطر، ولوجود الفصل ب «لَكُم» فإن الفصلَ مسوغ لذلك مع كون التأنيث حقيقيًّا، كقوله: [البسيط]
57
وقال بعضهم: محمول على المعنى، والمعنى: قد كان لكم بيانُ هَذه الآيةِ.
وفي خبر «كان» وَجهَانِ:
أحدهما: أنه «لَكُم» و «فِي فِئَتَيْنِ» في محل رفع نَعْتاً لِ «آيَةٌ».
والثاني: أنه «فِي فِئَتَيْنِ» وفي «لَكُمْ» وجهانِ:
أحدهما: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «آية» ؛ لأنه - في الأصل - صفة لآية، فلمَّا تقدَّم نُصِبَ حَالاً.
الثاني: أنه متعلق ب «كان» ذكره أبو البقاء، وهذا عند مَنْ يَرَى أنها تعمل في الظرف وحرف الجر ولكن في جَعْل «فِي فِئَتَيْنِ» الخَبَرَ إشْكالٌ، وهو أن حكم اسم «كان» حكم المبتدأ، فلا يجوز، أن يكونَا اسماً لها إلا ما جاز الابتداء به، وهنا لو جعلت «آية» مبتدأ، وما بعدها خبراً لم يجز؛ إذْ لا مُسَوِّغَ لربتداء بهذه النكرة، بخلاف ما إذا جَعَلْتَ «لَكُم» الخبرَ، فإنَّه جائز لوجود المسوِّغ، وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جَرٍّ.
قوله: ﴿التقتا﴾ في محل جر، صفة ل «فِئَتَيْنِ»، أي: فئتين ملتقيتين، يعني بالفئتين المسلمين والمشركين يوم بَدر.
قوله: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ﴾ العامة على رفع «فِئَةٌ» وفيها أوجُه:
أحدها: أن تَرْتَفِعَ على البدل من فاعل «الْتَقَتَا»، وعلى هذا فلا بد من ضمير محذوف يعود على «فِئَتَيْنِ» المتقدمتين في الذكر؛ ليسوغ الوصف بالجملة؛ إذ لو لم يقدَّر ذلك لما صَحَّ؛ لخلو الجملة الوصفية من ضمير، والتقدير: في فئتين التقت فئةٌ منهما مؤمنة، وفئة أخرى كافرة.
الثاني: أن يرتفع على خبر ابتداء مُضْمَرٍ، تقديره: إحداهما فئةٌ تقاتل، فقطع الكلام عن أوله، ومِثْلُه ما أنشده الفرّاء على ذلك: [الطويل]
١٣٥١ - إنَّ امْرَأ غَرَّهُ مِنكُنَّ وَاحِدَةٌ بَعْدِي وَبَعْدَكِ فِي الدُّنْيا لَمَغْرُورُ
١٣٥٢ - إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ شَامِتٌ وَآخَرُ مُثنٍ بالذي كُنْتُ أصْنَعُ
أي أحدهما شامت، وآخر مُثنٍ، ومثله في القطع قول الآخر: [البسيط]
58
١٣٥٣ - حَتَّى إذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ وَغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ
أي: بعضه مَلْويٌّ، وبَعْضُه مَحْصُود.
قال أبو البقاء: فإن قلتَ: إذا قدرت في الأولى إحداهما مبتدأ كان القياس أن يكون والأخرى أي الفئة الأخر كافرة.
قيل: لمَّا عُلِم أن التفريقَ هنا لنفس الشيء المقدم ذكره كان التعريفُ والتنكيرُ واحداً، ومثل الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيت المتقدِّم: شامت، وآخر مُثْنٍ، فجاء به نكرة دون ال.
الثالث: أن يرتفع على الابتداء، وخبره مُضْمَر، تقديره: منهما فئةٌ تقاتل، وكذا في البيت، أي: منهم شامت، ومنهم مثنٍ.
ومثله قول النابغةِ: [الطويل]
١٣٥٤ - تَوهَّمْتُ آيَاتٍ لهَا فَعَرَفْتُهَا لِستَّةِ أعْوَامٍ، وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْن لأياً أبِينُهُ نُؤيٌ كجذمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ
تقديره: منهنَّ - أي من الآيات - رمادٌ، ومنهن نُؤيٌ ويحتمل البيت أن يكون - كما تقدم - من تقدير مبتدأ، ورماد خبره، كما تقدم في نظيره.
وقرأ الحسنُ ومجاهدٌ وحُمَيدٌ: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ﴾ بالجر على البدل من فِئَتَيْنِ «، ويُسَمَّى هذا البدل بدلاً تفصيلياً كقول كُثَيِّر عَزَّةَ: [الطويل]
١٣٥٥ - وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْن رِجْلٍ صَحِيحَةٍ وَرِجْلٍ رَمَى فِيْهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ
هو بدل بعض من كل، وإذا كان كذلك فلا بد من ضمير يعود على المبدل منه، تقديره: فئةٍ منهما.
وقرأ ابن السَّمَيْفَع، وابن أبي عَبْلَة»
فِئَةٌ «بالنصب، وفيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: النصب بإضمار أعني.
59
والثاني: النصب على المَدْح، وتحرير هذا القول أن يقال على المدح في الأول وعلى الذم في الثاني، كأنه قيل: أمدح فئةٌ تقاتل في سبيل الله، وأذمُّ أخرى كافرةً.
والثالث: أن ينتصب على الاختصاص، جوَّزَه الزمخشريُّ.
قال أبو حيّان:» وليس بجيد؛ لأن المنصوبَ لا يكون نكرةٌ ولا مُبْهَماً «.
قال شهابُ الدينِ: لا يعني الزمخشريُّ الاختصاصَ المبوَّبَ له في النحو نحو:»
نَحْنُ - مَعَاشِرَ الأنبياءِ - لا نُورَثُ «، إنما على النصب بإضمار فعلٍ لائقٍ، وأهل البيان يُسَمُّونَ هذا النحوَ اختصاصاً.
الرابع: أن ينتصب»
فِئَةٌ «على الحال من فاعل» الْتَقَتَا «، كأنه قيل: التقتا مؤمنةً وكافرةً، فعلى هذا يكون» فئة «و» أخرى «توطئةً للحال؛ لأن المقصود ذكر وَصْفَيْهما، وهذا كقولهم: زيد رجلاً صالحاً، ومثله في باب الإخبار - ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ [الأعراف: ٨١]، ونحوه. قوله: ﴿وأخرى كَافِرَةٌ﴾ » أخْرَى «صفة لموصوف محذوف، تقديره: وفِئَةٌ أخْرَى كَافِرَةٌ وقرئت» كافرة «بالرفع والجر على حسب القراءتين المذكورتين في» فِئَةٌ تُقَاتِلُ «، وهذه منسوقة عليها.
وكان من حق من قرأ»
فِئَةٌ «- بالنصب - أن يقرأ» وأخْرَى كَافِرَةٌ «بالنصب عطفاً على الأولى، وفي عبارة الزَّمخشريِّ ما يوهم القراءة به؛ فإنه قال:» وقرئ «فِئَةٍ تقاتلُ» «وأخرى كافرةٍ» بالجر على البدل من «فئتين»، والنصب على الاختصاص أو الحال «فظاهر قوله: و» بالنصب «أي في جميع ما تقدم وهو فئةً تقاتلُ أخرى كافرةً وقد تقدم سؤال أبي البقاء، وهو لو لم يقل: والأخرى بالتعريف أعني حال رفع فئة تقاتل على خبر ابتداء مضمر تقديره إحداهما، والجواب عنه.
والعامة على «تُقَاتِلُ»
- بالتأنيث «؛ لإسناد الفعل إلى ضمير المؤنث، ومتى أسْنِد إلى ضمير المؤنث وجب تأنيثه، سواء كان التأنيث حقيقةً أو مجازاً، نحو الشمس طلعت، وعليه جمهور الناس.
وخالف ابنُ كَيْسان، فأجاز: الشمسُ طلع.
مستشهداً بقول الشاعر: [المتقارب]
60
١٣٥٦ - فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا وَلا أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَِهَا
حيث قال: أبقل - وهو مسند لضمير الأرض - ولم يقل: أبقلت، وغيره يخصه بالضرورة.
وقالوا: إذ كان يمكن أن يَنقلَ حركةَ الهمزةِ على تاء التأنيثِ الساكنةِ، فيقول: ولا أرضَ أبقلتِ أبْقَالَها.
وقد رَدُّوا عليه بأن الضرورة ليس معناها ذلك، ولئن سلمنا ذلك فلا نُسَلِّم أن هذا الشاعرَ كان ممن لغته النقل، لأن النقل ليس لغةَ كلِّ العربِ.
وقرأ مجاهدٌ ومقاتل:» يُقَاتِلُ «- بالياء من تحت - وهي مُخَرَّجةٌ على مذهب ابنِ كَيْسَانَ، ومُقوِّيَةٌ له، قالوا: والذي حسن ذلك كونُ» فِئَةٌ «في معنى القوم والناس، فلذلك عاد الضمير عليها مذكراً.
قوله:»
يَرَوْنَهُمْ «، قرأ نافع - وحده - من السبعة، ويعقوب، وسهل:» تَرَوْنَهُمْ «بالخطاب والباقون من السبعة بالغيبة.
فأما قراءة نافع ففيها ثمانية أوجهٍ:
أحدها: أن الضميرَ في»
لَكُمْ «والمرفوع في» تَرَوْنَهُمْ «للمؤمنين، والضمير المنصوب في» تَرَوْنَهُمْ «والمجرور في» مِثْلَيْهِمْ «للكافرين، والمعنى: قد كان لكم - أيها المؤمنون - آية في فئتين بأن رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد، وهو أبلغ في القدرة؛ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عَدَدِ الكافرين، ومع ذلك انتصروا عليهم وغلبوهم، وأوقعوا بهم الأفاعيلَ، ونحوه قوله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله﴾ [البقرة: ٢٤٩].
واستبعد بعضهم هذا التأويلَ؛ لقوله تعالى - في الأنفال [الآية: ٤٤]-: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً﴾، فالقصة واحدة، وهناك تدل الآية على أن الله - تعالى - قلَّل المشركين في أعين المؤمنين؛ لئلا يَجْبُنُوا عنهم، وعلى هذا التأويل - المذكور ههنا - يكون قد كثرهم في أعينهم. ويمكن أن يجاب باختلاف الحالين؛ وذلك أنه في وقتٍ أراهم [إياهم] مثلي عددهم؛ ليمتحنهم ويبتليهم، ثم قلَّلهم في أعينهم؛ ليقدموا عليهم، فالآيتان باعتبارين، ومثله قوله تعالى:
﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ [
61
الرحمن: ٣٩]، وقوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٩٢] وقوله: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢] مع قوله: ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥].
قال الفرّاء: المراد بالتقليل: التهوين، كقولك - في الكلام - إني لأرى كثيركم قليلاً، أي: قد هوّن عليّ، [لا أني أرى الثلاثة اثنين].
الثاني: أن يكون الخطاب في «تَرَوْنَهُم» للمؤمنين - أيضاً - والضمير المنصوب في «تَرَوْنَهُمْ» للكافرين - أيضاً - والضمير المجرور في «مِثْلَيْهِمْ» للمؤمنين، والمعنى: تَرَوْنَ أيُّها المؤمنون الكافرين مثلَي عدد أنفسكم، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأي العينِ؛ وذلك أن الكفار كانوا ألفاً ونَيِّفاً، والمسلمون على الثلث منهم، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم، على ما قرر عليهم - في مقاومة الواحدِ للاثنين - في قوله تعالى: ﴿فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٦] بعدما كُلِّفوا أن يقاوم كلُّ واحد عشرة في قوله تعالى: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ﴾ [الأنفال: ٦٥].
قال الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «وقراءة نافع لا تُساعِد عليه»، يعني على هذا التأويل المذكور ولم يُبين وجه عدم المساعدةِ، ووجهه - والله أعلم - أنه كان ينبغي أن يكون التركيبُ: ترونهم مثليكم - بالخطاب في «مِثْلَيهم» لا بالغيبة.
قال أبو عبدِ الله الفارسيّ - بعد الذي ذكره الزمخشريّ -: «قلت: بل يُساعد عليه، إن كان الخطاب في الآية للمسلمين، وقد قيل ذلك» اه، فلم يأت أبو عبد الله بجواب؛ إذ الإشكالُ باقٍ. وقد أجاب بعضهم عن ذلك بجوابين:
أحدهما: أنه من باب الالتفاتِ من الخطاب إلى الغيبة، وأنَّ حقَّ الكلام: مثلَيْكم - بالخطاب - إلا أنه التفت إلى الغيبة، ونظَّره بقوله تعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢].
والثاني: أن الضمير في «مِثْلَيْهِمْ» وإن كان المراد به المؤمنين إلا أنه عاد على قوله: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله﴾، والفئة المقاتلة في سبيل الله عبارة عن المؤمنين المخاطبين.
والمعنى: تَرَوْنَ - أيها المؤمنون - الفئةَ الكافرةَ مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله، [فكأنه] قيل: ترونهم - أيها المؤمنون - مثليكم، وهو جواب حسن.
فإن قيل: كيف يرونهم مثليهم رأيَ العينِ، وقد كانوا ثلاثة أمثالكم؟
فالجواب: أن الله - تعالى - إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي
62
علم المسلمون أنهم يغلبونهم؛ وذلك لأنه - تعالى - قال: ﴿فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ فأظهر ذلك العدد [من المشركين] للمؤمنين؛ تقوية لقلوبهم، وإزالةٌ للخوف عن صدورهم.
الثالث: أن يكون الخطاب في «لَكُمْ» وفي «تَرَونَهُم» للكفار وهم قريش، والضمير المنصوب والمجرور للمؤمنين أي: قد كان لكم - أيها المشركون - آية؛ حيث ترون المسلمين مثلي أنفسهم في العدد، فيكون قد كثرهم في أعين الكفارِ، ليجبنُوا عنهم، فيعود السؤالُ المذكور بين هذه الآية، وآية الأنفال، وهي قوله تعالى:
﴿وَيُقَلِّلُكُمْ
في
أَعْيُنِهِمْ
[الأنفال: ٤٤]، فكيف يقال - هنا - إنه يكثرهم؟ فيعود الجواب المتقدم باختلاف الحالتين، وهو أنه قللهم أولاً، ليجترئ عليهم الكفارُ، فلما التقى الجمعان كثرهم في أعينهم؛ ليحصل لهم الخَوَرُ والفَشَلُ.
الرابع: كالثالث، إلا أن الضمير في «مثليهم» يعود على المشركين، فيعودُ ذلك السؤالُ، وهو أنه كان ينبغي أن يقال: مثليكم، ليطابق الكلام، فيعود الجوابان.
وهما: إما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وإما عوده على الفئة الكافرة؛ لأنها عبارة عن المشركين، كما كان ذلك الضمير عبارة عن الفئة المقاتلة، ويكون التقدير: ترون - أيها المشركون - المؤمنين مثلي فئتكم الكافرة. وعلى هذا فيكونون قد رَأوا المؤمنين مثلي أنفسِ المشركين - ألفين ونيفاً - وهذا مَدَدٌ من الله تعالى، حيثُ أرى الكفارَ المؤمنين مثلي عدد المشركين، حتى فشلوا، وجبنوا، فطمع المسلمون فيهم، فانتصروا عليهم، ويؤيده قوله تعالى: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾ [آل عمران: ١٣] الإرادة - هنا - بمنزلة المدد بالملائكة في النصرة بكليهما، ويعود السؤال، وهو كيف كثرهم إلى هذه الغايةِ مع قوله - في الأنفال -: ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ﴾ [الأنفال: ٤٤] ؟ ويعود الجواب.
الخامس: أن الخطاب في «لَكُم» و «تَرَوْنَهُمْ» لليهود، والضميران - المنصوب والمجرور - على هذا عائدان على المسلمين، على معنى: ترونهم - لو رأيتموهم - مثليهم، وفي هذا التقدير تكلُّف لا حاجة إليه.
وكأن هذا القائل اختار أن يكون الخطاب في الآية المتقدمة - وهي قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ - ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ - لليهود، فجعله في «تَرَوْنَهُم» لهم - أيضاً - ولكن الخروج من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أوْلَى من هذا التقدير المتكلف؛ لأن اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ، حتى يُخَاطَبُوا برؤيتهم لهم كذلك، ويجوز - على هذا القول - أن يكون الضمير - المنصوب والمجرور - عائدَيْن على الكفار، أي: أنهم كُثِّرَ في أعينهم الكفارُ، حتى صاروا مثلي عدد المؤمنين، ومع ذلك غلبهم المؤمنون، وانتصروا
63
عليهم، فهو أبلغ في القدرة. ويجوز أن يعود المنصوب على المسلمين، والمجرور على المشركين، أي: ترون - أيها اليهود المسلمين مثلي عدد المشركين؛ مهابةً لهم، وتهويلاً لأمر المؤمنين، كما كان ذلك في حق المشركين - فيما تقدم من الأقوال -، ويجوز أن يعود المنصوب على المشركين، والمجرور على المسلمين، والمعنى: ترون - أيها اليهود لو رأيتم - المشركين مثلي عدد المؤمنين وذلك أنتم قُلِّلوا في أعينهم؛ ليَحْصُل لهم الفزَعُ والغَمُّ؛ لأنه كان يغمهم قلةُ المؤمنين، ويعجبهم كثرتهم ونصرتهم على المسلمين، حَسَداً وبَغْياً.
فهذه ثلاثة أوجهٍ مرتبة على الوجهِ الخامسِ، فتصير ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع. أما قراءة الباقين ففيها أوجه:
أحدها: أنها كقراءة الخطاب، فكل ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا، ولكنه جاء على باب الالتفاتِ من خطاب إلى غيبةٍ.
الثاني: في أن الخطاب في «لَكُمْ» للمؤمنين، والضمير المرفوع في «يَرَوْنَهُم» للكفار، والمنصوب والمجرور للمسلمين، والمعنى: يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المؤمنين - ستمائة ونيفاً وعشرين - أراهم الله - مع قتلهم - إياهم ضعفهم؛ ليهابوهم، ويجبنوا عنهم.
الثالث: أن الخطاب في «لَكُم» للمؤمنين - أيضاً - والضمير المرفوع في «يَرَوْنَهُم» للكفار، والمنصوب للمسلمين، والمجرور للمشركين، أي: يرى المشركون [المؤمنين] مثلي عدد المشركين أراهم الله المؤمنين أضعافهم؛ لما تقدم في الوجه قبله.
الرابع: أن يعود الضميرُ المرفوعُ في «يَرَوْنَهُم» على الفئة الكافرةِ؛ لأنها جمع في المعنى، والضمير المنصوب والمجرور على ما تقدم من احتمال عودهما على الكافرين، أو [على] المسلمين، أو أحدهما لأحدهم.
والذي تقوى في هذه الآيةِ - من جميع الوجوه المتقدمةِ - من حيث المعنى أن يكون مدارُ الآيةِ على تقليل المسلمين، وتكثير الكافرين؛ لأن مقصود الآية ومساقها للدلالةِ على قدرةِ الله الباهرةِ، وتأييده بالنصر لعباده المؤمنين مع قلة عددهم، وخُذْلان الكافرين مع كَثْرةِ عددهم وتحزبهم لنعلم أن النصر كله من عند الله، وليس سببه كثرتكم وقلةَ عدوِّكم، بل سببه ما فعله الله تعالى من إلقاء الرعب في قلوب أعدائكم، ويؤيده قوله بعد ذلك: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾ وقال في موضع آخر: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً﴾ [التوبة: ٢٥].
64
وقال أبو شامة - بَعْدَ ذِكر هذا المعنى وتقويته -: فالهاء في «يَرَوْنَهُمْ» للكفار، سواء قُرِئ بالغيبة أم بالخطاب، والهاء في «مِثلَيْهم» للمسلمين.
فإن قلت: إن كان المراد هذا فهلاَّ قيل: يَرَونَهُمْ ثلاثةَ أمثالهم، فكان أبلغ في الآية، وهي نَصْر القليل على هذا الكثير، والعدة كانت كذلك أو أكثر؟
قلت: أخبر عن الواقع، وكان آية أخرى مضمومة إلى آيةِ البصر، وهي تقليل الكفارِ في أعين المسلمين وقللوا إلى حد وعد المسلمون النصر عليهم فيه، وهو أن الواحد من المسلمين يَغْلِب الاثنين، فلم تكن حاجة إلى التقليل بأكثر من هذا، وفيه فائدةُ وقوع ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه انتهى.
قال شهاب الدين: «وإلى هذا المعنى ذهب الفراء، أعني أنهم يرونهم ثلاثةَ أمثالهم فإنه قال: مثليهم: ثلاثة أمثالهم، كقول القائل: عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها».
وغلطة أبو إسحاقَ - في هذا - وقال: مِثْل الشيء: ما ساواه، ومثلاه [ما ساواه] مرتين.
قال ابن كَيْسان: الذي أوقع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا - يوم بدر - ثلاثة أمثالِ المؤمنين فتوهَّم أنه لا يجوز أن يروهم إلا على عدتهم، والمعنى ليس عليه، وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين:
إحداهما: أنه رأى الصلاح في ذلك؛ لأن المؤمنين تقوى قلوبُهم بذلك.
والأخرى: أنه آية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والجملة - على قراءة نافع - يحتمل أن تكون مستأنفةً، لا محل لها من الإعراب، ويحتمل أن يكون لها محل، وفيه - حينئذ - وجهانِ:
أحدهما: النصب على الحال من الكاف في «لَكُم» أي: قد كان لكم حال كونكم ترونهم.
والثاني: الجر؛ نعتاً ل «فِئَتَيْنِ» ؛ لأن فيها ضميراً يرجع عليهما، قاله أبو البقاء وأما على قراءة الغيبة فيحتمل الاستئناف، ويحتمل الرفع؛ صفة لإحدى الفئتين، ويحتمل الجر؛ صفة ل «فِئَتَيْنِ» أيضاً، على أن تكون الواو في «يَرَوْنَهُمْ» ترجع إلى اليهود؛ لأن في الجملة ضميراً يعود على الفئتين.
وقرأ ابن عباس وطلحة «تُرَوْنَهُمْ» - مبنياً للمفعول على الخطاب - والسُّلَميّ كذلك إلا أنه بالغيبة وهما واضحتان مما تقدم تقريره والفاعل المحذوف هو الله تعالى والرؤية - هنا - فيها رأيان:
65
أحدهما: أنها البصرية، ويؤيد ذلك تأكيده بالمصدر المؤكد، وهو قوله: «رَأيَ الْعينِ».
قال الزمخشريُّ: «رؤية ظاهرة مكشوفة، لا لبس فيها» ؛ لأن الإدراك عند المعتزلة واجب الحصول عند اجتماع الشرائط، وسلامة الحاسَّةِ، ولهذا اعتذر القاضي عن هذا الموضع [بوجوه] :
أحدها: أن عند الاشتغالِ بالمحاربةِ لا يتفرغ الإنسان لأن يُدِيرَ حدقته حول العسكر، وينظر إليهم على سبيل التأمل
وثانيها: أنه قد يحصل من الغبار ما يمنع من إدراك البعض.
وثالثها: يجوز أن يقال: إن الله تعالى خلق في الهواء ما منع من إدراك ثلث العسكر، [فعلى هذا]، يتعدى لواحد، ومثليهم نصب على الحالِ.
الثاني: أنها من رؤية القلبِ، فعلى هذا يكون «مِثْلَيهِم» مفعولاً ثانياً، وقد ردّه أبو البقاء فقال: ولا يجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب - على كل الأقوال - لوجهين: أحدهما: قوله: «رأي العين».
الثاني: أن رؤية القلب علم، ومحال أن يُعْلَمَ الشيء شَيْئَين.
وأجيب عن [الوجه] الأول بأن انتصابهَ انتصابُ المصدر التشبيهي، أي: رأياً مثل رأي العين، أي: يشبه رأي العين، فليس إياه على التحقيق، وعن الثاني بأن الرؤية هنا يُرَاد بها الاعتقاد، فلا يلزم المحال المذكور، وإذا كانوا قد أطلقوا العلم - في اللغة - على الاعتقاد - دون اليقين - فلأن يطلقوا عليه الرأيَ أوْلَى وأحْرَى.
ومن إطلاق العلم على الاعتقاد قوله تعالى: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ [الممتحنة: ١٠] ؛ إذْ لا سبيلَ إلى العلم اليقيني في ذلك؛ إذ لا يعلم ذلك إلاَّ اللهُ تعالى، فالمعنى: فإن اعتقدتموهن، والاعتقاد قد يكون صحيحاً، وقد يكون فاسداً، ويدل على هذا التأويل قراءة من قرأ «تُرَوْنَهُمْ» - بالتاء والياء مبنيًّا للمفعول -؛ لأن قولهم: أرَى كذا - بضم الهمزة - يكون فيما عند المتكلم فيه شك وتخمينٌ، لا يقين وعلم، فلما كان اعتقاد التضعيف في جمع الكفار، أو في جمع المؤمنين تضميناً وظناً؛ لا يقيناً دخل الكلامَ ضربٌ من الشكِّ، وأيضاً - كما يستحيل حملُ الرؤيةِ هنا على العلم - يستحيل أيضاً حملها على رؤية البصر بعين ما ذكرتم من المحال، وذلك كما أنه لا يقع العلم غيرَ مطابقٍ للمعلوم، كذلك لا يقع النظر البصري غير مطابق لذلك الشيء المُبْصَر المنظور إليه، فكان المراد التخمين والظن، لا اليقين والعلم، كذا قيل، وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم
66
أن البصر لا يخالف المُبْصَر؛ لجواز أن يحصل خَلَلٌ في البصر، وسوء في النظر، فيتخيل الباصر الشيئَ شيئَيْن فأكثر، وبالعكس.
احتج من قال: إن الرائي هو المشركون بوجوه: الأول: أن تعلُّق الفعل بالفاعل أشدُّ من تعلُّقهِ بالمعفول، فجَعْلُ أقرب المذكورين السابقين فاعلاً وأبعدهما مفعولاً أوْلَى من العكس، وأقرب المذكورين هو قوله: ﴿كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ﴾.
الثاني: مُقَدَّمُ الآية - وهو قوله ﴿قَدْ كَانَ لِكُمْ آيَةٌ﴾ خطاب مع الكفار، فقراءة نافع - بالتاء - تكون خطاباً مع أولئك الكفار، والمعنى: تَرَوْنَ يا مشركي قريش المسلمين مثليهم، فهذه القراءة لا تساعد غلا على كون الرائي مشركاً.
الثالث: أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية للكفار حتى تكونَ حُجَّةً عليهم، ولو كانت هذه الحالةُ حاصلة للمؤمن لم يصح جَعْلُها حُجَّةٌ على الكافر.
واحتج من قال: الراءون هم المسلمون بأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤيةُ ما ليس بموجود وهو محال - ولو كان الراءون هم المؤمنين لزم أن لا يرى ما هو موجود، وهذا ليس بمحال فكان أولى، قال ابن مسعودٍ: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علنيا رجلاً واحداً، ثم قللهم الله - أيضاً - في أعينهم حتى رَأوْا عدداً يسيراً أقل من أنفسهم، قال ابن مسعود: «حَتَّى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعينَ؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً».

فصل


وجه النظم أنه - تعالى - لما أنزل الآية المتقدمة في اليهود، وهي قوله: ﴿سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾، فدعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الإسلام، أظهروا التمرد، وقالوا: لسنا أمثال قريشٍ في الضعفِ، وقلة المعرفة بالقتال، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما نغلب به كل مَنْ ينازعنا، فقال تعالى: إنكم - وإن كنتم [أغنياء]، أقوياء، أرباب قدرة وعدة فإنكم - ستغلبون، ثم ذكر - تعالى - ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك، فقال: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا﴾ يعني واقعة بدر؛ فإن الكثرة والعُدَّة كانت للكفار، والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين، ثم إن الله تعالى قهر الكفارَ، ونصر المسلمين، وهذا يدل على أن النصر بتأييد الله ونصرِه.
67
الفئة: الجماعة، والمراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله - أي: في طاعته رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه يوم بدر، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، سبعة وسبعين رجلاً من المهاجرين، ومائتين وستة وثلاثين من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين عليّ بن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيراً، بين كل أربعة منهم بعير، وفرسان: فرس للمقدادِ بن عمرو، وفرس لمرثد بن ابي مريد، وأكثرهم رجَّالةٌ، وكان معهم من الدروع ستة، وثمانية سيوف، والمراد بالأخْرَى الكافرة مُشركو مكة، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة، رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفيهم مائةُ فرس، وكان فيهم أبو سفيان وأبو جهلٍ، وكان معهم من الإبل سبعمائةُ بعيرٍ، وأهل الخيل كلُّهم كانوا دارعين وهم مائة نفرٍ، وكان في الرجال دروع سوى ذلك.

فصل


ذكر العلماءُ في كَوْنِ هذه الواقعةِ آية وجوهاً:
أحدها: أن المسلمين كانوا قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور، منها: قِلَّةٌ العَدَد.
ومنها: أهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا.
ومنها: قِلَّةُ السلاح والخيل.
ومنها: أن ذلك أول غزواتهم، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من كثرة العدد، وأنهم خرجوا متأهبين للمحاربة، وأنهم كانوا معتادين للحروب في الأزمنة الماضية، وإذْ كان الأمر كذلك فكان غَلَبُ هؤلاء الضعفاء خارجاً عن العادة، فيكون مُعْجزاً.
وثانيها: أنه - عليه السلام - كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش، بقوله: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧]، يعني جمع قريش، وكان قد أخبر - قبل الحرب - بأن هذا مصرع فلان، فلما وُجِدَ مَخْبَرُ خَبَرهِ في المستقبل على وَفقِ خَبَرِه، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب؛ فكان مُعْجِزاً.
وثالثها: قوله تعالى: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين﴾، والصحيح أن الرائين هم المشركون، والمرئيين هم المؤمنون، وعلى كلا التقديرين يكون مُعْجِزاً.
ورابعها: قال الحسنُ: إن الله - تعالى - أمدَّ رسولَه في تلك الغزوة بخمسةِ آلافِ من الملائكة، لقوله تعالى: ﴿فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: ٩]، وقال: ﴿بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: ١٢٥] قيل: إنه كان على أذناب خيولهم ونواصيهم صوفٌ أبيض، وهو المراد من قوله: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾.
68
قوله: ﴿رَأْيَ العين﴾ في انتصابه ثلاثة أوجهٍ، تقدم منها اثنان النصب على المصدر التوكيدي، أو النصب على المصدر التشبيهيّ.
الثالث: أنه منصوب على ظرف المكانِ، قال الواحديُّ: «.. كما تقول: ترونهم أمامكم، ومثله هو مني مَزجَرَ الكلب، وَمَناطَ [الْعُنق]، وهذا إخراج للفظ عن موضوعه - مع عدم المساعد - معنًى أو صناعةً.
و»
رأى «مشترك بين» رأى «معنى أبصر، ومصدره: الرَّأي، والرؤية، وبمعنى اعتقد وله الرأي وبمعنى الحلم، وله الرؤيا كالدنيا، فوقع الفرق بالمصدر، فالرؤية للبصر خاصةً، والرؤيا للحلم فقط، والرأي مشترك بين البصرية والاعتقادية، يقال: هذا رأي فلان، أي: اعتقاده.
قال: [الطويل]
١٣٥٧ - رَأى النَّاسَ - إلاَّ مَنْ رَأى مِثْلَ رَأيِهِ خَوَارِدَ تَرَّاكِينَ قَصْدَ الْمَخَارِجِ
قوله: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾ التأييد: تفعيل، من الأَيْد، وهو القوَّة، والباء سببية أي: سبب تأييده، ومفعول»
يَشَاءُ «محذوف، أي: من يشاء تأييده.
وقرأ ورش»
يُويِّدُ «، بإبدال الهمزة واواً مَحْضَةً، وهو تسهيل قياسيٌّ؛ قال أبو البقاء وغيره:» ولا يجوز أن يُجْعَل بَيْنَ بَيْنَ؛ لقربها من الألف، والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، ولذلك لم تجعل الهمزة المبدوء بها بَيْنَ بَيْنَ لاستحالة الابتداء بالألف «.
وهو مذهب سيبويه في الهمزة المفتوحة بعد كسرة قلبها ياء محضة، وبعد الضمة قَلْبُها واواً محضة للعلة المذكورة وهي قُرْب الهمزة التي بَيْنَ بَيْنَ من الألف، والألف لا تكون ضمة ولا كسرة.
و»
عبرة «: فِعْلَة - من العبور كالركبة وكالجِلْسة، والعبور: التجاوز، ومنه عبرتُ النهر، والمعبر السفينة؛ لأن بها يُعْبَر إلى الجانب الآخر، وعَبْرَةُ العين: دَمْعُهَا؛ لأنها تجاوزها، وعَبَّر بالعِبْرة عن الاتعاظ والاستيقاظ؛ لأن المتَّعِظَ يَعْبُر من الجَهْل غلى العلم، ومن الهلاك إلى النجاة، والاعتبار: افتعال منه، والعبارة: الكلام الموصل إلى الغرض، لأن فيه مجاوزةً، وعبرت الرؤيا وعبَّرتها، - مخفَّفاً ومثقلاً - لأنك نقلت ما عندك من تأويلها إلى رائيها.
و»
لأولي أبصار «صفة ل» عبرة «، أي: عبرة كائنة لأولي الأبصار - لذوي العقول يقال: لفلان بصر بهذا الأمر.
69
وقيل: لمن أبصر الجمعين.
70
والعامة على بناء «زُيِّنَ» للمفعول، والفاعل المحذوف هو الله تعالى؛ لما ركب في طباع البشر من حب هذه الأشياء، وقيل: هو الشيطان، فالأوّل قول أهلِ السنة؛ قالوا: لو كان المزين هو الشيطان فمن ذا الذي زَيَّن الكفرَ والبدعةَ للشيطان؟ فإن كان ذلك شيطاناً آخرَ لزم التسلسل، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن في الإنسان كذلك، وإن كان من الله وهو الحق - فليكن في حَقِّ الإنسان أيضاً كذلك، ويؤيده قوله تعالى: ﴿هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾ [القصص: ٦٣] يعني إن اعتقد أحد أنَّا أغويناهم، فمَن الذي أغوانا؟ وهذا ظاهر جداً، وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا﴾ [الكهف: ٧] ونُقِل عن المعتزلة ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدها: أن الشيطان زَيَّن لهم، حكي عن الحسن أنه [كان]- يحلف بالله على ذلك - ويقول: من زينها؟ إنما زيَّنها الشيطانُ؛ لأنه لا أحد أبغض لها من خالقها.
احتج لهم القاضي بوجوه:
الأول: أنه تعالى أطلق حبَّ الشهواتِ، فيدخل فيه حُبُّ الشهواتِ المحرمةِ، ومُزَينُ الشهواتِ المحرمة هو الشيطانُ.
الثاني: أنه - تعالى - ذكر القناطيرَ المقنطرةَ من الذهبِ والفضةِ، وحُبُّ هذا المالِ الكثيرِ لا يليق إلا بمَنْ جعل الدنيا قِبْلَةَ طلبه، ومُنتَهَى مقصودِه؛ لأن أهْلَ الآخرةِ يكتفون بالبُلْغَةِ.
الثالث: قوله تعالى: ﴿ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا﴾، فذكره في مَعْرض ذَمِّ الدنيا، والذامُّ للشيء لا يزينُهُ.
الرابع: قوله: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم﴾ [آل عمران: ١٥] والمقصود من هذا الكلامِ صرفُ العبدِ عن الدنيا وتقبيحُها له، وذلك لا يليق بمن يزيِّنُ الدنيا في عينه.
القول الثاني: أن المزين هو الله تعالى، واحتجوا عليه بوجوه:
أحدها: أنه تعالى كما رغَّب في منافِع الآخرةِ فقد خلق مَلاَذَّ الدنيا، وأباحها لعبيده؛ فإنه إذا خلق الشهوةَ والمُشْتَهَى، وخلق للمشتهى عِلْماً بما في تناوُل المشتَهَى من اللذةِ، ثم أباح له ذلك التناولَ؛ يقال: إنه زيَّنَها له.
70
وثانيها: أن الانتفاع بهذه الشهواتِ وسائلُ إلى منافع الآخرةِ، والله تعالى نَدَب إليها، فكان تزييناً لها، أمَّا كونها وسائلَ إلى ثوابِ الآخرةِ أنه يتصدق بها، ويتقوَّى بها على الطاعة وأيضاً إذا علم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله حمله ذلك على الاتشغال بالشكر.
قال صاحب بن عبَّادٍ: «شُرْبُ الْماءِ الْبَارِدِ في الصَّيْفِ يَسْتَخْرِجُ الْحَمْدَ مِنْ أقْصَى الْقَلْبِ» وأيضاً فإن القادرَ على التمتُّع باللذات إذا تركها واشتغل بالعبادة، وتحمل ما في ذلك من المشقة ك ان أكثرَ ثواباً.
وثالثها: قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً﴾ [البقرة: ٢٩]، وقوله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق﴾ [الأعراف: ٣٢]، وقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا﴾
[الكهف: ٧] وقال: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٣١]، وقال: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢]، وقال: ﴿كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً﴾ [البقرة: ١٦٨]، وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى.
القول الثالث - وهو اختيار الجبائي والقاضي -: وهو التفصيل، فإن كان حراماً فالتزيين فيه من الشيطان، وإن كان واجباً، أو مندوباً، فالتزيين فيه من الله تعالى ذكره القاضي في تفسيره وبقي قسمٌ ثالث، وهو المباح الذي ليس في فعله ثواب، ولا في تركه عقابٌ، وكان من حق القاضي أن يذكره فلم يذكره. ويُبَيِّنَ التزيين فيه، هل هو من الله تعالى أو من الشيطان؟
وقرأ مجاهد: «زَيَّنَ» مبنيًّا للفاعل، و «حُبَّ» مفعول به نصاً، والفاعل إما ضمير الله تعالى؛ المتقدم ذكره في قوله: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾ [آل عمران: ١٣]، وإما ضمير الشيطان، أضمر - وإنْ لم يجر له ذكر - لأنه أصل ذلك، فذكرُ هذه الأشياءِ مُؤذِنٌ بذِكْرِه، وأضافَ المصدر لمفعوله في ﴿حُبُّ الشهوات﴾.
والشهوات جمع شَهْوَة - بسكون العين - فحُرِّكت في الجمع، ولا يجوز التسكين إلا في ضرورة، كقوله: [الطويل]
١٣٥٨ - وَحُمِّلتُ زَفْرَاتِ الضُّحَى فَأطَقْتُهَا وَمَا لِي بِوَفْرَاتِ العَشِيِّ يَدَانِ
بتسكين الفاء. والشهوةُ مصدر يُراد به اسم المفعول، أي: المشتهيات، فهو من
71
باب: رَجُل عَدل حيث جعلت نفس المصدر مبالغةً. والشهوة: مَيْل النفس، وتُجْمَع على شهوات - كالآية الكريمة - وعلى شُهًى - كغُرَفٍ -.
قالت امرأة من بني نصر بن معاوية: [الطويل]
١٣٥٩ - فَلَوْلاَ الشُّهَى - وَاللهِ - كُنْتُ جَدِيرَةٌ بِأنْ أتركَ اللَّذَاتِ في كُلِّ مشْهَدِ
قال النحويون: لا تُجْمَع فَعْلَة - المعتلة اللام يعنون بفتح الفاء وسكون العين على فُعَل إلا ثلاثة ألفاظٍ: قرية وقُرًى، ونَزْوَة ونُزًى، وكَوَّة - عند من فتح الكاف - وكُوًى.
واستدرك أبو حيّان: «واستدركت - أنا - شُهًى، وأنشد البيت».
وقال الراغب: «وقد يُسَمَّى المشتهى، شهوةً، وقد يقال للقوَّة التي بها يُشْتَهَى الشيء: شهوة، وقوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات﴾ يحتمل الشهوتين».
قال الزمخشريُّ: وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان:
إحداهما: أنه جعل الأعيانَ التي ذكرها شهواتٍ؛ مبالغةً في كونها مشتهاةٌ، محروصاً على الاستمتاع بها.
الثانية: أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية، فكأن المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير منها.

فصل


وَجهُ النظم: أنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني قال لأخيه: إنه يعرف صدق محمد فيما جاء به، إلا أنه لا يُقرُّ بذلك؛ خوفاً من أن يأخذ ملكُ الروم منه المالَ والجاهَ، وأيضاً روينا أن النبي - عليه السلام - لما دعا اليهود إلى الإسلام - بعد غزوة بدر - أظهروا من أنفسهم القوةَ والشدةَ، والاستظهارَ والسلاحَ، فبين - تعالى - في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها - من متاع الدنيا - زائلة، باطلة، وأن الآخرة خير وأبقى.

فصل


قال المتكلمون: دلت هذه الآية على أن الحبَّ غيرُ الشهوةِ؛ لأنه أضافهُ إليها، والمضاف غيرُ المضافِ إليه، والشهوة فعل الله تعالى، والمحبة فعل العبد.
قالت الحكماءُ: الإنسان قد يحب شيئاً، ولكنه يحب ألا يحبه، كالمسلم قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات، لكنه يحب ألا يحبه، وأما من أحب شيئاً، وأحب أن يحبه،
72
فذلك هو كمال المحبة، فإن كان ذلك في جانب الخير، فهو كمال السعادة، كقول سليمان: ﴿إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير﴾ [ص: ٣٢]، ومعناه: أحب الخير، وأحب أن أكون محباً للخير، وإن كان ذلك في جانب الشرِّ فهو كما قال في هذه الآية؛ فإن قوله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات﴾ يدل على ثلاثةِ أمور مترتبة:
أولها: أنه يشتهي أنواع المشتهيات.
ثانيها: أنه يحب شهوته لها.
ثالثها: أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة.
ولما اجتمعت هذه الدرجاتُ الثلاثُ في هذه القضية بلغت الغايةَ القصوى في الشدة، فلا تنحلّ إلا بتوفيق عظيمٍ من الله تعالى، ثم إنه أضاف ذلك إلى الناس، ولفظ «النَّاس» عام، دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس، والعقل - أيضاً - يدل عليه؛ لأن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب، ومطلوب لذاته، والمنافع قسمان: جسماني، وروحاني، فالجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر، والروحاني لا يحصل إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة، ثم إن انجذاب نفسه إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب، فلا جرم كان الغالب على الخلق هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية، فلهذا السبب عم الله هذا الحكمَ في الكل.
قوله تعالى: ﴿مِنَ النساء﴾ في محل نَصْب على الحال من الشهوات، والتقدير: حال كون الشهوات من كذا وكذا، فهي مفسرة لها في المعنى.
ويجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس، لقول الزمخشريِّ: «ثم يفسره بهذه الأجناس».
كقوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠]، والمعنى: فاجتنبوا الأوثان التي هي رِجْسٌ.
وقدم النساءَ على الكل، قال القرطبيُّ: لكثرة تشوُّق النفوس إليهن؛ لأنهن حبائلُ الشيطان، وفتنة الرجالِ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلَى الرِّجالِ مِنَ النِّسَاءِ» أخرجه البخاري ومسلم لأن الالتذاذ منهن أكثرُ، والاستئناسَ بهن أتَمُّ، ولذلك قال
73
تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: ٢١]، ثم ثَنَّى بالولد الذَّكَر؛ لأن حُبَّ الولد الذكر أكثر من حب الولد الأنثى، واعلم أن الله تعالى - في إيجاد حُبِّ الزوجة والولد في قلب الإنسان - حكمةً بالغةً؛ إذْ لولا هذا الحُبُّ لَمَا حصل التوالُدُ والتناسُل، وهذه المحبة غريزة في جميع الحيوان، والبنين: جمع ابن، قال نوح:
﴿رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي﴾ [هود: ٤٥] ويًصَغَّر «ابن» على بُنَيّ، قال لقمان: ﴿يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله﴾ [لقمان: ١٣]، وقال نوح: ﴿يابني اركب مَّعَنَا﴾ [هود: ٤٢].
قوله تعالى: ﴿والقناطير﴾ هي جمع قِنْطار، وفي نونه قولان:
أحدهما: أنها أصلية، وأن وَزْنَه فِعْلاَل، كحِمْلاق، وقِرْطاس.
والثاني: أنها زائدة، وأن وزنه فِنْعال كفِنْعاس، وهو الجمل الشديد، واشتقاقه من قطر يقطر - إذا سال؛ لأن الذهب والفضة يُشَبَّهَان بالماء في سرعة الانقلابِ، وكثرة التقلُّب.
وقال الزَّجَّاج: هو مأخوذ من قَنْطَرتُ الشيء - إذا عقدته وأحكمته - ومنه القنطرة؛ لإحْكام عقدها.
حكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون: القنطار وزن لا يُحَدُّ.
قال ابن الخطيب: «وهذا هو الصحيح».
وقال الربيع بن أنس: القنطار: المال الكثير بعضه على بعض.
وقال القرطبي: «والعرب تقول قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار».
وقال معاذ بن جبل - ورواه أبَيّ بنُ كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «القنطارُ ألفٌ ومئتا أوقية».
وقال ابن عباس والضحاك: ألف ومائتا مثقالٍ، وعنهما - في رواية أخرى - اثنا عشر ألفَ درْهمٍ أو ألف دينار دية أحدكم، وبه قال الحسن.
وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «القِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ ألْفَ أوْقيةٍ».
74
وروى أنس - أيضاً - عنه أن القنطار ألف دينار.
وروى سعيد بن المسيب وقتادة: ثمانون ألفاً.
وقال مجاهدٌ: سبعون ألفاً.
وقال السُّدِّيُّ: أربعة آلاف مثقالٍ.
وقال الكلبيُّ أبو نضرة: القنطار - بلسان الروم - ملء مسك الثور من ذهب، أو فضة.
وقال الحكم: القنطار ما بين السماء والأرض من مال.
وقال سعيد بن جبير وعكرمة: مائة ألفٍ، ومائة مَنّ، ومائة رَطل، ومائة مثقال، ومائة درهم، وقد جاء الإسلام - يوم جاء - وبمكة مائة رجل قد قَنْطروا.
قوله: «الْمُقَنطَرَة» مُنَفْعَلَة من القنطار وهو للتأكيد، كقولهم: ألف مؤلَّفة، وبدرة مبدرة، وإبل مُؤبَّلة، ودراهم مُدَرْهمة.
وقال الكلبي: القناطير الثلاثة، والمقنطرة المضاعفة، فكان المجموع ستة.
وقال الضحاك: معنى «الْمُقَنْطَرَة» : المحَصَّنة المُحْكمة.
وقال قتادة: هي الكثير بعضها فوق بعض.
وقال السُّدِّي: المضروبة، المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير.
وقال الفراء: المضعّفة، والقناطير الثلاثة، فالمقنطرة تسعة وجاء في الحديث أن القنطار ألف ومائتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض.
وقال ابو عبيدة: القناطير أحدها قنطار، ولا نجد العرب تعرف وزنه ولا واحد للقنطار من لفظه.
75
وقال ثعلب: المعوَّل عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا: قَنَاطير مقنطرةٌ، فهي اثنا عشر ديناراً وقيل: غن القنطار ملء جلد ثور ذهباً.
وقيل: ثمانون ألفاً وقيل: هو جملة كثيرة مجهولة من المال نقله ابن الأثير.
قوله: ﴿مِنَ الذَّهَبِ﴾ كقوله: ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾، [والذَّهَب] مؤنث، ولذلك يُصَغَّر على ذهيبة، ويُجْمَع على أذهاب وذُهوب، واشتقاقه من الذهاب، ويقال: رجل ذَهِب بكسر الهاء - رأى معدن الذهب فدُهِش و [ «الفضة» تجمع على فضض، واشتقاقها من انفض إذا تفرق].
قال القرطبيُّ: والذهب مكيالٌ لأهل اليَمَن، قال: واشتقاق الذهب والفضة، يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد ف ي الوجود، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول بعضهم: [البسيط]
١٣٦٠ - النَّارُ آخِرُ دِينَارٍ نَطَقْتَ بِهِ وَالهَمُّ آخِرُ هَذَا الدِّرْهَمِ الجَارِي
وَالمَرْءُ بَيْنَهُمَا إذْ كَانَ ذَا وَرَعٍ مُعَذَّبُ القَلْبِ بَيْنَ الهَمِّ وَالنَّارِ
والذهب والفضة: إنما كانا محبوبَيْن لأنهما جُعِلا ثَمَن جميع الأشياء، فمالكها كالمالك لجميع الأشياء.
قوله: «وَالْخَيْلِ» عطف على النساء، قال أبو البقاء: [معطوف على النساء]، لا على الذهب والفضة، لأنها لا تسمى قنطاراً وتوهم مثل هذا بعيد جداً، والخيل فيه قولان:
أحدهما: قال الواحديُّ: «إنه جمع لا واحد له من لفظه، كالقَوْم، والنساء والرهط».
الثاني: أن واحده خائل، فهو نظير راكب وركب، وتاجر وتجر، وطائر وطير.
وفي هذا خلاف بين سيبويه والأخفش، فسيبويه يجعله اسم جمع، والخفش يجعله جمع تكسير.
وفي اشتقاقها وجهان:
أحدهما: من الاختيال - وهو العجب - سُمِّيت بذلك؛ لاختيالها في مِشيتها
بطول أذنابها قال امرؤ القيس: [المتقارب]
76
الثاني: من التخيل، قيل: لأنها تتخيل في صورة من هو أعظم منها.
وقيل: أصل الاختيال من التخيل، وهو التشبيه بالشيء؛ لأن المختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه كِبْراً. والأخيل: الشَّقِرَّاق؛ لأنه يتغير لونهُ، فمرة أحمر، ومرة أصفر وعليه قوله: [مجزوء الكامل]
١٣٦١ - لَهَا ذَنَبٌ مِثْلُ ذَيْلِ الْعَرُوسِ تَسُدُّ بِهِ فَرْجَهَا مِنْ دُبُرْ
١٣٦٢ - كَأبِي بَرَاقِشَ كُلُّ لَوْ نٍ لَوْنُهُ يَتَخَيَّلُ
وجوز بعضهم: أن يكون مخفَّفاً من «خَيَّل» - بتشديد الياء - نحو مَيْت - في ميِّت - وهيْن في هَيِّن، وفيه نظر؛ لأن كل ما سُمِع فيه التخفيف سُمِع فيه التثقيل، وهذا لم يُسْمع إلا مخفَّفاً؛ وهذا تقدم.
وقال الراغب: «الخيل - في الأصل - اسم للأفراس والفرسان جميعاً، قال تعالى: ﴿وَمِن رِّبَاطِ الخيل﴾ [الأنفال: ٦٠] في الأصل للأفراس، ويستعمل في كل واحد منهما منفرداً، نحو ما رُوِي» يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي «، فهذا للفرسان، وقوله - عليه السلام -:» عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ «، يعني الأفراس، وفيه نظر؛ لأن أهل اللغة نَصُّوا على أن قوله - عليه السلام -» يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي «إما مجاز إضمار أو مجاز علاقة، ولو كان للفرسان حقيقة لما ساغ قولهم.
قوله: «الْمُسَوَّمَة»
أصل التسويم: التعليم، ومعنى مسومة: مُعَلَّمة.
قال أبو مسلم: مأخوذ من السيما - بالمد والقصر - ومعناه واحد، وهو الهيئة الحسنة، قال تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ﴾ [الفتح: ٢٩] واختلفوا في تلك العلامة.
فقال أبو مسلم: هي الأوضاح والغُرز التي تكون في الخيل وهي أن تكون غُرًّا محجلة.
وقال الأصم: البلق.
وقال قتادة: الشِّية. وقال المؤرج: الكَيّ، والأول أحسن؛ لأن الإشارة في الآية إلى أشرف أحوالها وقال: بل هي من سوم الماشية، أي: مرعية، يقال: أسَمْتُ ماشيتس، فسامت، قال تعالى: ﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ [النحل: ١٠]، وسومتها فاستامت، أي: مرعية، فيتعدى - تارة - بالهمزة، وتارة بالتضعيف.
77
وقيل: بل هو من السيمياء - وهي الحسن - فمعنى مُسَومة: أي: ذات حُسن، قاله عكرمة، واختاره النحاس؛ قال لأنه من الوَسْم، ورد عليه بعضهم: باختلاف المادتين، وأجاب بعضهم بأنه من باب المقلوب، فيصح ما قاله وتقدم تحقيق ذلك في «يسومونكم» وقوله «بسيماهم».

فصل


قال القرطبيُّ: جاء في الخبر عن علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله عَزَّ وَجَلَّ خلق الفرس من الريح، ولذلك جعلها تطير بلا جناح.
قال وهب بن منبه: خلقها من ريح الجنوب. وفي الخبر: أن الله تعالى عرض على ىدم جميع الدواب، فقال له: اختر منها واحدة، فاختار الفرس، فقيل له: اخترتَ عِزَّك، فصار اسمه الخيل من هذا الوجه، ويُمِّي خَيْلاً؛ لأن من ركبها اختال على أعداء الله، وسُمِّي فرساً؛ لأنه يفترس مسافات الجو افتراس السبع، ويقطعها كالالتهام بيديه على الشيء خَطْفاً وتَنَاولاً، وسمي عَربيًّا؛ لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل؛ جزاء على رفع قواعد البيت، وإسماعيل عربي، فصارت له نحلةً من الله، وسمي عربياً، وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يَدْخُلُ الشَّيْطَان دَاراً فِيهَا فَرَسٌ عَتِيقٌ»، وإنما سمي عتيقاً؛ لأنه تخلص من الهجانة، وقال - عليه السلام -: «خَيْرُ الْخَيْلِ الأدْهَمُ، الأقرعُ، الأرْثم ثم الأقرح المحجل طَلْقُ اليَمينِ».
قوله: ﴿والأنعام﴾ جمع نَعَمٍ، والنعم مختصة بالإبل، والبقر، والغنم.
وقال الهروي: النعم يذكر ويؤنث، فإذا جُمِع أطلق على الإبل والبقر والغنم، وظاهر هذا أنه - قبل جمعه على أنعام - لا يطلق على الثلاثة، بل يختص بواحد منها، وقد صرَّح الفراء بهذا، فقا لالنعم: الإبل فقط قال بعضهم لكونها تشبه النعام في جزاء الصبر. وقال ابن كيسان: إذا قلت: نعم لم يكن إلا للإبل وإذا قلت: أنعام وقعت على الإبل وكل ما يرعى؛ قال حسان: [الوافر]
78
وهو مذكر ولا يؤنث، تقول: هذا نعم وارد، وهو جمعٌ، لا واحد له من لفظه.
وقال ابن قتيبة: «الأنعام: الإبل والبقر والغنم، واحده: نَعَمٌ وهو جمع لا واحد له من لفظه»، سميت بذلك؛ لنعومة مشيها ولينها، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدًّا.
قوله: «وَالْحَرْثِ»، الحرث تقدم تفسيره وهو - هنا - مصدر واقع موقع المفعول به، فلذلك وُحِّد، ولم يُجْمع كما جُمِعت أخواته، ويجوز إدغام الثاء في الذال، وإن كان بعض الناس ضعفه: بأنه يلزم الجمع بين ساكنين، والأول ليس حرف لين، قال: بخلاف «يَلْهَثْ ذلك» حيث أدغم الثاء في الذال؛ لانتفاء التقاء الساكنين، إذ الهاء قبل الثاء متحركة.

فصل


الحرث هنا اسم لكل ما يحرث. تقول: حرث الرجل حرثاً إذا أثار الأرض بمعنى الفلاحة، ويقال: حرث وفي الحديث: «احرثوا هذا القرآن أي: فتشوه» قال ابن الأعرابي الحرث: التفتيش، وفي الحديث أصدق الأسماء الحارث، لأن الحارث هو الكاسب، واحترس المال كسبه، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس، والجمع: أحْرِثَة، وأحرث الرجل ناقته أهزلها. وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعاً من الفصاحة والبلاغة، منها: الإتيان بها مجملة، ومنها جعله لها نفس الشهوات؛ مبالغة في التنفير عنها، ومنها: البداءة بالأهم، فالأهم، فذكر - أولاً - النساء لأنهن أكثر امتزاجاً، ومخالطة بالإنسان، وهن حبائل الشيطان، قال - عليه السلام -: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتنَةً أضَرَّ عَلَى الرَّجَالِ مِنَ النسَاءِ»، وقال: «مَا رَأيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أسْلَبَ لِلُبِّ الرَّجُل الْحَلِيمِ مِنكُنَّ»، ويُرْوَى: الحازم منكن.
وقيل: فيهن فتنتان، وفي البنين فتنة واحدة؛ لأنهن يقطعن الأرحام والصلات بين الأهل - غالباً -، وهن سبب في جَمْع المال من حلال وحرام - غالباً -، والأولاد يُجْمَع لأجلهم المال، فلذلك ثنى بالبنين، وفي الحديث: «الْوَلدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ»، ولأنهم لأجلهم المال، فلذلك ثنى بالبنين، وفي الحديث: «الْوَلدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ»، ولأنهم
79
فروع منهن، وثمراتٌ نشأت عنهن، وفي كلامهم: «المرء مفتون بولده»، وقُدِّمت على الأموال؛ لأنها أحَبُّ إلى المرء من ماله.
وأما تقديمُ المال على الولد - في بعض المواضع - فإنما ذلك في سياق امتنان، وإنعام أو نُصْرة، ومعاونة؛ لأن الرجالَ تُستمال بالأموال - ثم ذكر تمامَ اللذةِ، وهو المركوب البهيمي من بينِ سائر الحيوانات، ثم أتى بما يَحصل به جمال حين تريحون وحين تسرحون، كما تشهد به الآية الأخرى ثم ذكر ما به قوامهم، وحياة بنيتهم، وهو الزروع والثمار.
ومنها الإتيان بلفظ يشعر بشدة حب هذه الأشياء، بقوله: «زين» والزينة محبوبة في الطباع.
ومنها: بناء الفعل للمفعول؛ لأن الغرضَ الإعلام بحصول ذلك.
ومنها: إضافة الحبِّ للشهوات، والشهوات هي الميل والنزوع إلى الشيء.
ومنها التجنيس: القناطير المقنطرة.
ومنها: الجمع بين ما يشبه المطابقة في قوله: ﴿الذهب والفضة﴾ ؛ لأنهما صارا متقابلَيْن في غالبِ العُرْف.
ومنها: وصف «الْقَنَاطِيرِ» ب «الْمُقَنْطَرَةِ» الدالة على تكثيرها مع كَثْرتها في ذاتها.
ومنها: ذكر هذا الجنس بمادة «الْخَيْلِ» لما في اللفظ من الدلالة على تحسينه، ولم يقل: الأفراس، وكذا قوله «الأنْعَامِ»، ولم يَقُل: الإبل والبقر والغنم؛ لأنه أخصر.

فصل


قال القرطبيُّ: قال العلماء: ذكر الله - تعالى - أربعة أصناف من المال، كل نوع منها يتموَّل به صِنْفٌ من الناس، أمَّا الذهب والفضة فيتموَّل به التُّجَّارُ، وأما الخيل المسومة فيتموّل بها الملوكُ، وأما الأنعامُ فيتموَّل بها أهلُ البوادِي، وأما الْحَرْثُ فيتموَّل به أهل البساتين، فتكون فتنة كل صنفٍ في النوع الذي يتموَّل به، وأما النساء والبنون ففتنة للجميع.
قوله: ﴿ذلك مَتَاعُ﴾ الإشارة بذلك للمذكور المتقدم، فلذلك وَحَّدَ اسم الإشارة والمشارُ إليه متعدد، كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]. وقد تقدم.

فصل


قال القاضي: وهذا يدل على أن هذا التزيين مضافٌ إلى الله تعالى؛ لأن متاعَ الدنيا
80
إنما خُلِقَ ليُسْتَمْتَعَ بها، والاستمتاعُ بمتاع الدنيا على وجوه:
منها: أن ينفرد به من خَصَّه الله تعالى بهذه النعم، فيكون مذموماً.
ومنها: أن يتركَ الانتفاع به - مع الحاجة إليه - فيكون مذموماً.
ومنها: أن ينتفع به في وجه مباحٍ، من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالحِ الآخرةِ، وذلك لا ممدوح ولا مذموم.
ومنها: أن ينتفع به على وَجْهٍ يتوصل به إلى مصالحِ الآخرةِ، وذلك هو الممدوحُ.
قوله: ﴿والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب﴾، أي: الْمَرْجع، فالمآب: مَفْعَل، من آب، يئوب، إياباً، وأوْبَةً وأيبةً، ومآباً، أي: رجع، والأصل: مَأوَب، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى الهمزةِ الساكنة قبلَها، فقلبت الواوُ ألفاً، وهو - هنا - اسم مصدر، أي: حسن الرجوع، وقد يقع اسم مكانٍ، أو زمان، تقول: آب يَئُوبُ أواباً وإياباً كقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ﴾ [الغاشية: ٢٥] وقوله: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَآباً﴾ [النبأ: ٢١ - ٢٢]. فإن قيل: المآب قسمان: الجنة، وهي في غاية الحُسْن، والنار، وهي خالية عن الحُسْن فكيف وصف المآب المطلق بالحسن؟
فالجواب: أنَّ المقصود - بالذات - هو الجنة، وأما النار فمقصودة بالعرض، والمقصود من الآية التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة؛ لأن قوله: ﴿ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا﴾ أي: ما يتَمتع به فيها، ثم يذهب ولا يَبقَى، قال - عليه السلام -: «ازهد فِي الدُّنيا يحِبَّك اللهُ» أي: في متاعِها من الجاهِ والمالِ الزائدِ على الضَّرورِيِّ والله تعالى - أعلم.
81
قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية، والباقون بالتحقيق فيهما، ومَد هاتَيْن الهمزَتَيْن - بلا خلاف - قالون عن نافع، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما والباقون بغير مدّ على أصولهم من تحقيق وتسهيل.
81
وورش على أصله من نقل حركة الهمزة الأولى إلى لام «قُلْ».
ولا بد من ذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة وشبهها، وتحرير مذاهبهم؛ فإنه موضع عسير الضبط، فنقول: الوارد من ذلك في القرآن الكريم ثلاثة مواضع - أعني همزتين، أولاهُمَا مفتوحةُ، والثانية مضمومة - الأول: هذا الموضع.
والثاني: ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾ [ص: ٨]، والثالث: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا﴾ [القمر: ٢٥]، والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتب:
أحدها: مرتبة قالون، وهي تسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ، وإدخال ألِفٍ بين الهمزتين - بلا خلاف - كذا رواه عن نافع.
الثانية: مرتبة وَرْش وابن كثير، وهي تسهيل الثانية - أيضاً - بين بين، من غير إدخال ألِفٍ بين الهمزتين بخلاف كذا روى ورش عن نافع.
الثالثة: مرتبة الكوفيين وابنِ ذكوان عن ابن عامر، وهي تحقيق الثانيةِ، من غير إدخال ألف بلا خلاف -، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر.
الرابعة: مرتبة هشام، وهي أنه رُويَ عنه ثلاثةُ أوجه:
الأول: التحقيق، وعدم إدخال ألف بين الهمزتين في الثلاثِ مواضِعَ.
الثاني: التحقيق، وإدخال ألف بينهما في المواضع الثلاثة.
الثالث: التفرقة بين السور، فيُحقق ويُقْصِر في هذه السورة، ويُسَهِّل ويمد في السورتين الأخْرَيَيْن.
الخامسة: مرتبة أبي عمرو، وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه. وتسهيل هذه الأوجه تقدم في أول البقرة.
ونقل أبو البقاء أنه قُرِئَ: أَؤُنَبِّئكم - بواوٍ خالصةٍ بعد الهمزةِ؛ لانضمامها - وليس ذلك بالوَجْه.
وفي قوله: ﴿أَؤُنَبِّئُكُم﴾ التفاتٌ من الغيبة - في قوله: «للنَّاسِ» - إلى الخطاب، تشريفاً لهم.
«بِخَيْرٍ» متعلق بالفعل، وهذا الفعل لَمَّا لم يضمن معنى «أعلم» تعدى لاثنين، الأول تعدى إليه بنفسه، وإلى الثاني بالحرف، ولو ضُمِّنَ معناها لتعدَّى إلى ثلاثة.
و «مِنْ ذَلِكُمْ» متعلق ب «خَيْر» ؛ لأنه على بابه من كونه أفعل تفضيل، والإشارة ب «ذَلِكُمْ» إلى ما تقدم من ذكر الشهوات وتقدم تسويغ الإشارة بالمفرد إلى الجمع، ولا
82
يجوز أن تكون «خير» ليست للتفضيل، ويكون المراد به خيراً من الخيور، ويكون «مِنْ» صفة لقوله: «خَيْرٍ».
قال أبو البقاء: «من» في موضع نَصْب بخير، تقديره [بما يفضل من ذلك، ولا يجوز أن يكون صلة لخير؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها] مما رغبوا فيه بعضاً لِمَا زهدوا فيه من الأموال ونحوها، وتابَعَهُ في ذلك أبو حيان.

فصل


كيفية النَّظم أنه - تعالى - لما عدَّد نِعَم الدنيا بيَّن - هنا - أن منافع الآخرة خيرٌ منها كما قال في آية أخرى: ﴿والآخرة خَيْرٌ وأبقى﴾ [الأعلى: ١٧] ؛ لأن نعم الدنيا مشوبَةٌ بالأنكاد، فانيةٌ، ونِعَم الآخرة خالصةٌ، باقيةٌ.
قوله: ﴿لِلَّذِينَ اتقوا﴾ يجوز فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه متعلّق بخَيْرٍ، ويكون الكلام تم هنا، وتُرْفَع «جَنَّاتٌ» على خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره هو جنات، أي ذلك الذي هو خير مما تقدم جنات، فالجملة بيان وتفسير للخَيْريَّة، ومثله قوله تعالى: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم﴾ [الحج: ٧٢]، ثم قال:
﴿النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ﴾ [الحج: ٧٢] ويؤيد ذلك قراءة «جَنَّاتٍ» - بكسر التاء - على أنها بدل من «بِخَيْرٍ» فهي بيان للخير.
والثاني: أن الجارَّ خبر مقدم، و «جَنَّاتٌ» مبتدأ مؤخر، أو يكون «جَنَّاتٌ» فاعلاً بالجار قبله - وإن لم يعتمد - عند مَنْ يَرَى ذلك، وعلى هذين التقديرين، فالكلام تم عند قوله: ﴿مِّن ذلكم﴾، ثم ابتدأ بهذه الجملة، وهي - أيضاً مبينة ومفسِّرة للخَيْرية.
وأما الوجهان الأخيران فذكرهما مكي - مع جَرِّ «جَنَّات» - يعني أنه لم يُجِز الوجهين إلا إذا جررت «جنات» بدلاً من «خَيْر».
الوجه الأول: أنه متعلق ب «أؤثنَبِّئُكُمْ».
الوجه الثاني: أنه صفة ل «خَيْر».
ولا بد من إيراد نصه؛ فإن فيه غشكالاً، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن ذكر أن «لِلَّذِينَ» خبر مقدَّم، و «جنات» مبتدأ -: «ويجوز الخفض في» جناتٍ «على البدل من» خَيْر «على أن تجعل اللام في» لِلَّذِينَ «متعلقةً ب» أؤُنَبِّئُكُمْ «، أو تجعلها صفة ل» خَيْر «، ولو جعلت اللام متعلقة بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض» جنات «؛ لأن حروف الجر، والظروف
83
إذا تعلقت بمحذوف، وقد قامت مقامه - صار فيها ضمير مقدر مرفوع، واحتاجت إلى ابتداء يعود عليه ذلك الضمير، كقولك: لزيد مال، في الدار زيد، خلفك عمرو، فلا بد من رفع» جَنَّات «، إذا تعلقت اللام بمحذوف، ولو تعلقت بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت» جَنَّات «بفعلها، وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف، أو حروف الخفض صفةً لما قبلها، فحينئذ يتمكن ويحْسُن رفعُ الاسم بالاستقرار، وقد شرحنا ذلك وبيناه في أمثلة؛ وكذلك إذا كانت أحوالاً».
فقد جوَّز تعلُّقَ هذه اللام ب «أؤُنَبِّئُكُمْ» أو بمحذوف على أنها صفة لخير، بشرط أن يُجَرَّ لفظُ «جنات» على البدل من «خَيْر» وظاهره أنه لا يجوز ذلك مع رفع «جَنَّات» وعلَّل ذلك بأن حروف الجر تتعلق بمحذوف، يحمل الضمير، فوجب أن يُؤتَى له بمبتدأ هو «جَنَّات» وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزم؛ إذ لقائل أن يقول: أجوز تعلق اللام بما ذكرت من الوجهين مع رفع «جَنَّات» على أنها خبر مبتدأ محذوف، لا على الابتداء حتى يلزم ما ذكرت ولكن الوجهين ضعيفان من جهة أخرى، وهو أن المعنى ليس واضحاً بما ذكر مع أنّ جعله صفة لخير أقوى من جعلها متعلقة ب «أؤُنَبِّئُكُمْ» ؛ إذ لا معنى له، وقوله - في الظروف وحروف الجر -: إنها عند الحذاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفات.. وكذلك إن كانت أحوالاً - فيه قصور؛ لأن هذا الحكم مستقر لها في مواضع:
منها: الموضعان اللذان ذكرهما.
وثالثها: أن يقعا صلة.
ورابعها: أن يقعا خبراً لمبتدأ.
وخامسها: أن تعتمد على نقي.
وسادسها: أن تعتمد على استفهام. وقد تقدم تحرير هذا.

فصل


قد بيَّنا في قوله تعالى: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] معنى التقوى، وبالجملة فإن المتقي هو الآتي بالواجبات، المتحرز عن المحظورات.
وقيل: التقوى عبارة عن اتقاء الشرك؛ لأن التقوى - في عُرْف القرآن - مختصة بالإيمان. قال تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى﴾ [الفتح: ٢٦]، وظاهر اللفظ يطابق الامتنان بحقيقة التقوى، وهي حاصلةٌ عند حصولِ اتقاء الشرك وعرف القرآن مطابق لذلك، فوجب حملُه على مَن اتقى الكفر:
قوله: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ فيه أربعة أوجهٍ:
84
أحدها: أنه في محل نصب على الحال من «جَنَّات» ؛ لأنه - في الأصل - صفة لها، فلما قُدِّم نصب حالاً.
الثاني: أنه متعلق بما تعلق به «لِلَّذِينَ» من الاستقرار، إذَا جعلناه خبراً، أو رافعاً «جَنَّاتٌ» بالفاعلية، أما إذا علقته ب «خَيْر» أو «أؤنَبَّئُكُمْ» فلا؛ لعدم تضمينه الاستقرار.
الثالث: أن يكون معمولاً ل «تَجْرِي»، وهذا لا يساعد عليه المعنى.
الرابع: أنه متعلق ب «خَيْر»، كما تعلق به «لِلَّذِينَ»، كما تقدم.
ويضعف أن يكون الكلام قد تم عند قوله: ﴿لِلَّذِينَ اتقوا﴾ ثم يُبْتَدَأ بقوله: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ﴾ - على الابتداء والخبر - وتكُون الجملة مبيِّنة ومفسِّرة للخيرية، كما تقدم في غيرها. وقرأ يعقوب «جَنَّاتٍ» بكسر التاء - وفيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها بدل من لفظ «بِخَيْر» فتكون مجرورة، وهي بيان له - كما تقدم.
الثاني: أنها بدل من محل «بِخَيْر» - ومحله النصب - وهو في المعنى كالأول.
الثالث: أنه منصوب بإضمار «أعني»، وهو نظير الوجه الصائر إلى رفعه على خبر ابتداء مضمر.
قوله: «تَجْرِي» صفة لِ «جَنَّات»، فهو في محل رفع، أو نصب، أو جر - على حسب القراءتين، والتخاريج فيهما - و «مِنْ تَحْتِهَا» متعلق ب «تَجْرِي» وجوز فيه أبو البقاء أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه حال من «الأنهار» قال: أي: تجري الأنهار كائنةً تحتها، وهذا يشبه تهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه.
قوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ حال، وصاحبها الضمير المستكن في «لِلَّذِينَ» والعامل فيها - حينئذ - الاستقرار المقدَّر.
وقال أبو البقاء: «إن شئت من الهاء في: تَحْتِهَا»، وهذا الذي ذكره - إنما يتمشى على مذهب الكوفيين، وذلك أن جعلها حالاً من الهاء في تحتها يؤدي إلى جريان الصفة على غير من هي له في المعنى؛ لأن الخلود من أوصاف الجنة ولذلك جمع هذه الحال جمع العقلاءِ، فكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير مرفوع بارز، هو الذي كان مستتراً في الصفة نحو: زيد هند ضاربها هو، والكوفيون يقولون: إن أمِنَ اللبس - كهذا - لم يجب بروز الضمير، وإلا يجب، والبصريون لا يفرقون. وتقدم البحث في ذلك.
قوله: ﴿وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ﴾ «من رفع» جَنَّاتٌ «- كما هو المشهور - كان عطف» أزْواجٌ «و» رِضْوانٌ «سَهْلاً، ومَنْ كَسَر التاء فيجب - حينئذ - على قراءته أن يكون مرفوعاً على أنه مبتدأ خبره مضمر، تقديره: ولهم أزواجٌ، ولهم رضوان، وتقدم الكلام على» أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ «في البقرة.
85

فصل


اعلم أن النعمة - وإن عَظُمَت - لن تكمل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنْس إلاَّ بِهِنَّ وقد وصفهن بصفة واحدةٍ جامعةٍ لكل مطلوب، فقال:» مُطَهَّرَةٌ «فيدخل في ذلك الطهارة من الحيض والنفاس والأخلاق الدنيئة، والقُبْح، وتشويه الخِلْقة، وسوء العِشرة، وسائر ما ينفر عنه الطبع.
قوله:»
وَرِضْوَان «فيه لغتان:
ضم الراء، وهي لغة تميم وقيس، وبها قرأ عاصم في جميع القرآن إلا في الثانية من سورة المائدة وهي ﴿مَنِ اتبع رِضْوَانَه﴾ [المائدة: ١٦]، فبعضهم نقل عنه الجَزْم بكسرها، وبعضهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة.
والكسر، وهو لغة الحجاز، وبها قرأ الباقون - وهل هما بمعنى واحد، أو بَينهما فرقٌ؟
قولان:
أحدهما: أنهما مصدران بمعنى واحد - كالعُدْوان.
قال الفرّاء:»
رَضِيتُ رِضاً، ورِضْوَاناً ورُضْواناً، ومثل الرِّضْوَان - بالكسر - الحِرْمان، وبالضم الطُّغْيَان، والرُّجحان، والكُفْران، والشُّكْران «.
الثاني: أن المكسور اسم، ومنه رِضوان: خازن الجنة صلّى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته.
والمضموم هو المصدر، و «مِنَ اللهِ»
صفة لِ «رِضْوَان».

فصل


روى أبو سعيد الخدري أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَداً مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: ألاَ أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أسْخَطْ عَلَيْكُمُ بَعْدَهُ أبَداً».
86
ثم قال: «وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ»، أي: عالم بمصالحهم، فيجب أن يَرْضَوْا لأنفسهم ما اختاره لهم.
قوله تعالى: ﴿الذين يَقُولُونَ﴾ يحتمل أن يكون محلُّه الرفعَ، والنصبَ، والجرَّ، فالرفع من وجهينِ:
أحدهما: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: الذين يقولون كذا مستجاب لهم، أو لهم ذلك الجزاء المذكور.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: مَنْ هُمْ هؤلاء المتقون؟ فقيل: الذين يقولون كيت، وكيت.
والنصب من وجه واحدٍ، وهو النصب بإضمار أعني، أو أمدح، وهو نظير الرفع على خبر ابتداء مضمر، ويُسَمَّيَان: الرفع على القطع، والنصب على القطع.
والجر من وجهين:
أحدهما: النعت.
والثاني: البدل، ثم لك - في جعله نَعْتاً أو بَدَلاً - وجهان:
أحدهما: جعله نعتاً لِلَّذِينَ اتَّقَوا، أو بدلاً منه.
والثاني: جعله نعتاً للعباد، أو بدلاً منهم.
واستضعف ابو البقاء جعله نعتاً للعباد، قال: [ويضعف أن يكون صفةً للعباد] ؛ لأن فيه تخصيصاً لعلم اللهِ، وهو جائز - على ضعفه - ويكون الوجه فيه إعلامهم بأنه عالم بمقدار مشقتهم في العبادة، فهو يُجازيهم عليها، كما قال: ﴿والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم﴾ [النساء: ٢٥].
والجملة من قوله: ﴿والله بَصِيرٌ﴾ يجوز أن تكون معترضة، لا محل لها، إذا جعلتَ «الَّذِينَ يَقُولُونَ» تابعاً لِ «الَّذِينَ اتَّقَوا» - نعتاً أو بدلاً -، وإن جعلته مرفوعاً، أو منصوباً فلا.

فصل


اعلم أن قولَهم ﴿رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ يدل على أنهم توسَّلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة، والله - تعالى - مدحهم بذلك، وأثْنَى عليهم، فدلَّ هذا على أن العبد - بمجرد الإيمان - يستوجب الرحمةَ والمغفرةَ من الله تعالى، ويؤيِّدُ هذا قولُه تعالى: ﴿رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار﴾ [آل عمران: ١٩٣].
87
فإن قيل: أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة؛ حيث أتبع هذه الآية بقوله: ﴿الصابرين والصادقين﴾ ؟
فالجواب: أن هذه الآيةَ تؤكد ما قلنا؛ لأنه - تعالى - جعل مجردَ الإيمانِ وسيلةً إلى طَلَب المغفرة، ثم ذكر بعده صفاتِ المطيعين، وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائطَ للحصول على المغفرة لكان ذِكرُها قبل طَلَب المغفرة أولى، فلما رتَّب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعده هذه الصفاتِ، علمنا أن هذه الصفاتِ غيرُ معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي مُعْتَبَرَة في حصول كمال الدرجات.
قوله تعالى: ﴿الصابرين﴾ إن قدرت ﴿الذين يَقُولُونَ﴾ منصوبَ المحل، أو مجروره - على ما تقدم - كان «الصَّابِرِينَ» نعتاً له - على كلا التقديرين، فيجوز أن يكون في محل نصب، وأن يكون في محل جر، وإن قدرته مرفوعَ المحل تعين نَصْب «الصَّابِرِينَ» بإضمار «أعني».

فصل


المراد بالصابرين في أداء المأمورات، وترك المحظورات، وعلى البأساء، والضراء وحين البأس، والصادقين في إيمانهم.
قال قتادة: «هم قوم صدقت نِيَّاتُهم، واستقامت قلوبُهم وألسنتُهم، فصدقوا في السر والعلانية».
فالصدق يجري على القول والفعل والنية، فالصدق في القول مشهور - وهو تجنُّب الكذب - والصدق في الفعل الإتيان به تاماً، يقال: صدق فلان في القتال، وصدق في الحكمة، والصدق في النية العزم الجازم حتى يبلغَ الفعلَ.
«القانِتِينَ» المطيعين، المُصَلِّين، والقنوت: عبارة عن الدوام على الطاعة والمواظبة عليها، «والمنفقين» أموالهم في طاعة الله، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه، وأهله، وأقاربه، وصلة رحمه، وفي الزكاة، والجهاد، وسائر وجوه البر.
﴿والمستغفرين بالأسحار﴾.
قال مجاهدٌ وقتادة والكلبيُّ: يعني المصلين بالأسحار.
وعن زيد بن أسلم: هم الذين يصلون الصبحَ في جماعةٍ.
88
وقال الحسنُ: مدوا الصلاة إلى السَّحَر، ثم استغفروا.
وقال نافع: كان ابن عمر يُحْيِي الليل، ثم يقول: يا نافِعُ، أسْحَرْنَا؟ فيقول: لا، فيعاوِدُ الصلاةَ، فإذا قلتُ: نَعَمْ، قعد يستغفر اللهَ، ويدعو حتى يُصْبحَ.
وعن أبي هريرةَ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يَنْزِلُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةِ - حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أنا الْملِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَن ذَا الَّذِي يَسْالُنِي فَأُعْطِيهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ؟» رواه مسلم.
قال القرطبيُّ: وقد اختلف في تأويله، وأوْلى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي - مفسَّراً - عن أبي هريرة وأبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قالا: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله - عَزَّ وَجَلَّ - يُمْهلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأوَّلُ، ثُمَّ يَأمرُ مُنَادِياً، يَقُولُ: هَلْ مِن دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟»، صححه أبو محمد عبدُ الحق، وهو يرفع الإشكال، ويوضِّح كلَّ احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي: ينزل مَلَكُ رَبِّنَا، فيقول. وقد رُوِيَ «يُنْزَلُ» - بضمِّ الياءِ - وهو يُبَيِّن ما ذكرنا.
وحكي عن الحسن أن لُقْمانَ قال لابنه: «لاَ تَكُونَنَّ أعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ؛ يُصَوِّتُ بالأسْحَارِ وَأنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ».
واعلم أن وقت السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النومِ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبوديةِ، كانت الطاعة أكملَ، وأشقَّ، فيكثر ثوابُها، وأيضاً فإن النوم هو الموت الأصغر، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياءً، فيكون وقتاً للوجود العام.
و «الأسْحَار» جمع سَحَرٍ - بفتح العين وسكونها - واختلف أهلُ اللغة في السَّحَرِ، ايُّ وقت هو؟
89
فقال الزّجّاج وجماعة: إنه وقتٌ قبلَ طلوعِ الفجر، ومنه تسحر، أي: أكل في ذلك الوقت واسْتَحَرَ - إذا سافر فيه -.
قال زُهَيْر: [الطويل]
١٣٦٣ - وَكَانَتْ لاَ يَزَالُ بِهَا أنِيْسٌ خِلالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
١٣٦٤ - بَكَرْنَ بُكُوراً، وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ
وقال الرَّاغب: «السَّحَر: اختلاط ظلام آخرِ الليل بضياءِ النهارِ، وجُعِل اسماً لذلك الوقت، ويقال: لَقِيتُه بأعلى السحرين، والْمُسْحِر: الخارج سَحَراً، والسّحور: اسم للطعام المأكول سَحَراً، والتَّسَحُّر: أكلُه».
والمُسْتَحِر: الطائر الصيَّاح في السَّحَر.
قال الشاعر: [المتقارب]
١٣٦٥ - يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيَابِهَا إذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَجِرْ
وقال بعضهم: أسْحَر الطائرُ، أي: صاح، وتحرك في صياحه، وأنشد البيت، وهذا وإن كان مطلقاً فإنما يريد ما ذكر بالصياح في السَّحر، ويقال: أسْحَر الرجلُ إذا دَخَل في وقت السحر كأظهر - أي: دخل في وقت الظهر.
قال: [المتقارب]
١٣٦٦ - وَأدْلجَ مِن طَيْبَة مُسْرِعاً فَجَاءَ إلَيْنَا وَقَدْ أسْحَرَ
ومثله: استحر أيضاً.
وقال بعضهم: السَّحَرُ من ثُلُث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.
وقال بعضهم - أيضاً -: السحر - عند العرب - من آخر الليل، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلِّه، يقال له سحر قيل: وسمي السحر سحراً؛ لخفائه، ومنه قيل للسِّحْرِ سِحْرٌ؛ للُطْفِهِ وخفائه.
90
والسَّحْر - بسكون الحاء - منتهى قصبة الرّكبة، ومنه قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «مَاتَ بَيْنَ سَحْري وَنَحْري» سُمِّي بذلك لخفائه.
و «سَحَر» فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرْف وعدمه، والتصرف وعدمه، والإعراب وعدمه، يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى -.
فإن قيل: كيف دخلت الواوُ على هذه الصفاتِ، وكلُّها لقبيل واحد؟ ففيه جوابان:
أحدهما: أن الصفاتِ إذا تكرَّرَت جاز أن يُعْطَف بعضُها على بعض بالواو - وإن كان الموصوف بها واحداً -، ودخول الواو - في مثل هذا - تفخيم؛ لأنه يُؤذِن بأن كل صفة مستقلة بالمدح.
الثاني: أن هذه الصفات متفرقة فيهم، فبعضُهم صابر، وبعضُهم صادق، فالموصوف بها متعدِّد. هذا كلام أبي البقاء.
وقال الزمخشريُّ: «الواو المتوسطة بين الصفاتِ للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها».
قال ابو حيّان: «ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال».
قال شهاب الدين: «قد علمه علماء البيان، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب».
والباء في قوله: «بِالأسْحَارِ» بمعنى «في».
91
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ ﴾ يحتمل أن يكون محلُّه الرفعَ، والنصبَ، والجرَّ، فالرفع من وجهينِ :
أحدهما : أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره : الذين يقولون كذا مستجاب لهم، أو لهم ذلك الجزاء المذكور.
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل : مَنْ هُمْ هؤلاء المتقون ؟ فقيل : الذين يقولون كيت، وكيت.
والنصب من وجه واحدٍ، وهو النصب بإضمار أعني، أو أمدح، وهو نظير الرفع على خبر ابتداء مضمر، ويُسَمَّيَان : الرفع على القطع، والنصب على القطع.
والجر من وجهين :
أحدهما : النعت.
والثاني : البدل، ثم لك - في جعله نَعْتاً أو بَدَلاً - وجهان :
أحدهما : جعله نعتاً لِلَّذِينَ اتَّقَوا، أو بدلاً منه.
والثاني : جعله نعتاً للعباد، أو بدلاً منهم.
واستضعف أبو البقاء جعله نعتاً للعباد، قال :[ ويضعف أن يكون صفةً للعباد ] ١١ ؛ لأن فيه تخصيصاً لعلم اللهِ، وهو جائز - على ضعفه - ويكون الوجه فيه إعلامهم بأنه عالم بمقدار مشقتهم في العبادة، فهو يُجازيهم عليها، كما قال :﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ﴾ [ النساء : ٢٥ ].
والجملة من قوله :﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ ﴾ يجوز أن تكون معترضة، لا محل لها، إذا جعلتَ " الَّذِينَ يَقُولُونَ " تابعاً لِ " الَّذِينَ اتَّقَوا " - نعتاً أو بدلاً-، وإن جعلته مرفوعاً، أو منصوباً فلا.

فصل


اعلم أن قولَهم ﴿ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾ يدل على أنهم توسَّلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة، والله - تعالى - مدحهم بذلك، وأثْنَى عليهم، فدلَّ هذا على أن العبد - بمجرد الإيمان - يستوجب الرحمةَ والمغفرةَ من الله تعالى، ويؤيِّدُ هذا قولُه تعالى :﴿ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ﴾ [ آل عمران : ١٩٣ ].
فإن قيل : أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة ؛ حيث أتبع هذه الآية بقوله :﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ ﴾ ؟
فالجواب : أن هذه الآيةَ تؤكد ما قلنا ؛ لأنه - تعالى - جعل مجردَ الإيمانِ وسيلةً إلى طَلَب المغفرة، ثم ذكر بعده صفاتِ المطيعين، وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائطَ للحصول على المغفرة لكان ذِكرُها قبل طَلَب المغفرة أولى، فلما رتَّب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعده هذه الصفاتِ، علمنا أن هذه الصفاتِ غيرُ معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي مُعْتَبَرَة في حصول كمال الدرجات.
قوله تعالى :﴿ الصَّابِرِينَ ﴾ إن قدرت ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ ﴾ منصوبَ المحل، أو مجروره - على ما تقدم - كان " الصَّابِرِينَ " نعتاً له - على كلا التقديرين، فيجوز أن يكون في محل نصب، وأن يكون في محل جر، وإن قدرته مرفوعَ المحل تعين نَصْب " الصَّابِرِينَ " بإضمار " أعني ".

فصل


المراد بالصابرين في أداء المأمورات، وترك المحظورات، وعلى البأساء، والضراء وحين البأس، والصادقين في إيمانهم.
قال قتادة :" هم قوم صدقت نِيَّاتُهم، واستقامت قلوبُهم وألسنتُهم، فصدقوا في السر والعلانية ".
فالصدق يجري على القول والفعل والنية، فالصدق في القول مشهور - وهو تجنُّب الكذب - والصدق في الفعل الإتيان به تاماً، يقال : صدق فلان في القتال، وصدق في الحكمة، والصدق في النية العزم الجازم حتى يبلغَ الفعلَ.
" القانِتِينَ " المطيعين، المُصَلِّين، والقنوت : عبارة عن الدوام على الطاعة والمواظبة عليها، " والمنفقين " أموالهم في طاعة الله، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه، وأهله، وأقاربه، وصلة رحمه، وفي الزكاة، والجهاد، وسائر وجوه البر.
﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار ﴾.
قال مجاهدٌ وقتادة والكلبيُّ : يعني المصلين بالأسحار. ١٢
وعن زيد بن أسلم : هم الذين يصلون الصبحَ في جماعةٍ. ١٣
وقال الحسنُ : مدوا الصلاة إلى السَّحَر، ثم استغفروا. ١٤
وقال نافع : كان ابن عمر يُحْيِي الليل، ثم يقول : يا نافِعُ، أسْحَرْنَا ؟ فيقول : لا، فيعاوِدُ الصلاةَ، فإذا قلتُ : نَعَمْ، قعد يستغفر اللهَ، ويدعو حتى يُصْبحَ. ١٥
وعن أبي هريرةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يَنْزِلُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةِ - حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ، أنا الْملِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَن ذَا الَّذِي يَسْالُنِي فَأُعْطِيهُ ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ١٦ ؟ " رواه مسلم.
قال القرطبيُّ : وقد اختلف في تأويله، وأوْلى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي - مفسَّراً - عن أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - قالا : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :" إن الله - عز وجل - يُمْهلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأوَّلُ، ثُمَّ يَأمرُ مُنَادِياً، يَقُولُ : هَلْ مِن دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى١٧ ؟ "، صححه أبو محمد عبدُ الحق، وهو يرفع الإشكال، ويوضِّح كلَّ احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي : ينزل مَلَكُ رَبِّنَا، فيقول. وقد رُوِيَ " يُنْزَلُ " - بضمِّ الياءِ - وهو يُبَيِّن ما ذكرنا.
وحكي عن الحسن أن لُقْمانَ قال لابنه :" لاَ تَكُونَنَّ أعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ ؛ يُصَوِّتُ بالأسْحَارِ وَأنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ ". واعلم أن وقت السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النومِ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبوديةِ، كانت الطاعة أكملَ، وأشقَّ، فيكثر ثوابُها، وأيضاً فإن النوم هو الموت الأصغر، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياءً، فيكون وقتاً للوجود العام.
و " الأسْحَار " جمع سَحَرٍ - بفتح العين وسكونها - واختلف أهلُ اللغة في السَّحَرِ، ايُّ وقت هو ؟
فقال الزّجّاج١٨ وجماعة : إنه وقتٌ قبلَ طلوعِ الفجر، ومنه تسحر، أي : أكل في ذلك الوقت واسْتَحَرَ- إذا سافر فيه.
قال زُهَيْر :[ الطويل ]
بَكَرْنَ بُكُوراً، وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ١٩
وقال الرَّاغب٢٠ :" السَّحَر : اختلاط ظلام آخرِ الليل بضياءِ النهارِ، وجُعِل اسماً لذلك الوقت، ويقال : لَقِيتُه بأعلى السحرين، والْمُسْحِر : الخارج سَحَراً، والسّحور : اسم للطعام المأكول سَحَراً، والتَّسَحُّر : أكلُه ".
والمُسْتَحِر : الطائر الصيَّاح في السَّحَر.
قال الشاعر :[ المتقارب ]
يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيَابِهَا إذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَجِرْ٢١
وقال بعضهم : أسْحَر الطائرُ، أي : صاح، وتحرك في صياحه، وأنشد البيت، وهذا وإن كان مطلقاً فإنما يريد ما ذكر بالصياح في السَّحر، ويقال : أسْحَر الرجلُ إذا دَخَل في وقت السحر كأظهر - أي : دخل في وقت الظهر.
قال :[ المتقارب ]
وَأدْلجَ مِن طَيْبَة مُسْرِعاً فَجَاءَ إلَيْنَا وَقَدْ أسْحَرَا٢٢
ومثله : استحر أيضاً.
وقال بعضهم : السَّحَرُ من ثُلُث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.
وقال بعضهم - أيضاً - : السحر - عند العرب - من آخر الليل، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلِّه، يقال له سحر قيل : وسمي السحر سحراً ؛ لخفائه، ومنه قيل للسِّحْرِ سِحْرٌ ؛ للُطْفِهِ وخفائه.
والسَّحْر - بسكون الحاء - منتهى قصبة الرّكبة، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها - :" مَاتَ بَيْنَ سَحْري وَنَحْري٢٣ " سُمِّي بذلك لخفائه.
و " سَحَر " فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرْف وعدمه، والتصرف وعدمه، والإعراب وعدمه، يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى -.
فإن قيل : كيف دخلت الواوُ على هذه الصفاتِ، وكلُّها لقبيل واحد ؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أن الصفاتِ إذا تكرَّرَت جاز أن يُعْطَف بعضُها على بعض بالواو - وإن كان الموصوف بها واحداً -، ودخول الواو - في مثل هذا - تفخيم ؛ لأنه يُؤذِن بأن كل صفة مستقلة بالمدح.
الثاني : أن هذه الصفات متفرقة فيهم، فبعضُهم صابر، وبعضُهم صادق، فالموصوف بها متعدِّد. هذا كلام أبي البقاء.
وقال الزمخشريُّ :" الواو المتوسطة بين الصفاتِ للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها ".
قال أبو حيّان :" ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال ".
قال شهاب الدين٢٤ :" قد علمه علماء البيان، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب ".
والباء في قوله :" بِالأسْحَارِ " بمعنى " في ".
العامة على «شَهِدَ» فعلاً ماضياً، مبنيًّا للفاعل، ولفظ الجلالة رَفْع به.
وقرأ أبو الشعثاء: «شُهِدَ» مبنيًّا للمفعول، ولفظ الجلالة قائِم مقام الفاعل، وعلى هذه القراءة يكون «أنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ» في محل رفع؛ بدلاً من اسم «اللهُ» - بدل اشتمال، تقديره: شُهِدَ وحدانيةُ الله - تعالى - وألوهيتهُ.
ولما كان المعنى على هذه القراءة كذلك أشكل عطف الملائكة، وأولي العلم على لفظ الجلالة، فخُرِّج ذلك على عدم العطف، بل إما على الابتداء، والخبر محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، تقديره: والملائكة، وأولو العلم يشهدون بذلك، يدل عليه قوله تعالى: ﴿شَهِدَ الله﴾، وإما على الفاعلية بإضمار محذوف، تقديره: وشَهِدَ الملائكةُ،
91
وأولو العلم بذلك، وهو قريب من قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال﴾ [النور: ٣٦]، في قراءة مَنْ بناه للمفعول.
وقوله: [الطويل]
١٣٦٧ - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
وقرأ أبو المهلَّب: «شُهَدَاءَ اللهِ» جمعاً على فُعَلاَء - كظُرفاءَ - منصوباً، ورُوِيَ عنه وعن أبي نُهَيْك كذلك إلا أنه مرفوع، وفي كلتا القراءتين مضاف للفظ الجلالة، فأما النصب فعلى الحال، وصاحبها هو الضمير المستتر في «الْمُسْتَغْفِرِينَ».
قال ابنُ جني، وتبعه الزمخشريُّ، وأبو البقاء: وأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ، أي: هم شهداءُ الله.
وشهداء: يُحْتَمل أن يكون جمع شاهد - كشاعر وشُعَراء - وأن يكون جمع شهيد كظريف وظُرفاء. وقرأ أبو المهلب - أيضاً -: «شُهُداً الله» - بضم الشين والهاء والتنوين ونصب لفظ الجلالة وهو منصوب على الحال؛ جمع شهيد - كنذير ونُذُر - واسم «الله» منصوب على التعظيم أي يشهدون الله، أي: وحدانيته.
وروى النقاش أنه قرأ كذلك، إلاّ أنه قال: برَفْع الدال ونصبها، والإضافة للَفْظ الجلالة، فالرفع والنصب على ما تقدم في «شُهَدَاءَ»، وأما الإضافة، فيحتمل أن تكون محضة، بمعنى أنك عرفتهم إضافتهم إليه من غير تعرض لحدوث فعل، كقولك: عباد الله، وأن يكون من نصب كالقراءة قبلها فتكون غير محضة.
92
ونقل الزمخشريُّ أنه قُرِئ «شُهَدَاء لله» جمعاً على فُعَلاَء، وزيادة لام جر داخلة على اسم الله، وفي الهمزة النصب والرفع، وخرجهما على ما تقدم من الحال والخبر، وعلى هذه القراءات كلها ففي رفع «الْمَلاَئِكَةِ» وما بعدها ثلاثة أوجه:
أحدها: الابتداء، والخبر محذوف.
والثاني: أنه فاعل بفعل مقدر.
الثالث: - ذكره الزمخشريُّ - وهو النسق على الضمير المستكن في «شَهِدَ اللهُ»، قال: «وجاز ذلك لوقوع الفاصلِ بينهما».
قوله: «أنَّهُ» العامة على فَتح الهمزة، وإنما فُتِحَت؛ لأنها على حذف حرف الجر، أي: شهد الله بأنه لا إله إلا هو، فلما حذف الحرف جاز أن يكون محلها نصباً، وأن يكون محلها جَرًّا.
وقرأ ابن عباس «إنَّهُ» - بكسر الهمزة - وفيها تخريجان:
أحدهما: إجراء «شَهِدَ» مُجْرَى القولن لأنه بمعناه، وكذا وقع في التفسير: شهد الله اي: قال الله، ويؤيدَه ما نقله المؤرِّجُ من أن «شَهِد» بمعنى «قال» لغة قيس بن عيلان.
الثاني: أنها جملة اعتراض - بين العامل - وهو شَهِد - وبين معموله - وهو قوله: إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلاَمُ «، وجاز ذلك لِما في هذه الجملةِ من التأكيد، وتقوية المعنى وهذا إنما يتجه على قراءة فتح» أنَّ «من» أنَّ الدِّينَ «، وأما على قراءة الكسر فلا يجوز، فتعيَّنَ الوجهُ الأول.
والضمير في»
أنَّهُ «يحتمل العود على الباري؛ لتقدم ذكره، ويحتمل أن يكون ضميرَ الأمر، ويؤيِّدُ ذلك قراءةُ عبد الله: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ ف» أنْ «مخفَّفة في هذه القراءة، والمخففة لا تعمل إلا في ضمير الشأن - ويُحْذَف حينئذ - ولا تعمل في غيره إلا ضرورة [وأدغم أبو عمرو بخلاف عنه واو هُوَ في واو النسق بعدها، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة عند قوله:» هُوَ وَالَّذِينَ ىمَنُوا مَعَه «].

فصل


قال سعيدُ بنُ جُبَيْر: كان حَوْلَ البيت ثلاثمائةٍ وستون صَنَماً، فلما نزلت هذه الآية خَرَرْنَ سُجَّداً.
93
وقيل: نزلت هذه الآية في نصارى نجران.
وقال الكلبيُّ: قدم حَبْران من أحبار الشام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما أبْصَرَ المدينةَ قال أحدهما: ما أشبه هذه المدينةَ بصفة مدينةِ النبيّ الذي يخرج في آخر الزمان؟ فلما دخَلاَ عليه عرفاه بالصفة، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: وأنت أحمد؟ قال: أنا محمد وأحمد، قال: فإنا نسألك عن شيء، فإن أخبرتنا به آمَنَّا بك، وصدقناك، فقال: سَلاَ، فقالا: أخبرنا عَنْ أعظم شهادة في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، فأنزل الله هذه الآيةَ، فأسلم الرجلان.

فصل


قال بعض المفسرين: شهد الله، أي: قال.
وقيل: بَيَّن الله؛ لأن الشهادة تبيين.
وقال مجاهد: حَكَم الله.
وقيل: أعْلَمَ الله أنه لا إله إلا هو.
فإن قيل: المدَّعِي للوحدانية هو الله - تعالى - فكيف يكون المدَّعِي شاهداً؟
فالجوابُ من وجوهٍ:
أحدها: ما تقدم من أن» شَهِدَ «بمعنى» قال «أو» بَيَّن «أو» حَكَم «.
الثاني: أن الشاهدَ الحقيقي ليس إلا الله - تعالى -؛ لأنه الذي خلق الأشياءَ، وجعلها دلائلَ على توحيده، فلولا تلك الدلائلُ لم يتوصل أحد إلى معرفته بالوحدانيةِ، فهو - تعالى وفقهم، حتى أرشدهم إلى معرفة التوحيد، وإذا كان كذلك كان الشاهد على الوحدانيةِ هو الله تعالى، ولهذا قال:
﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيد﴾ [الأنعام: ١٩].
الثالث: أنه الموجود - أزلاً وأبداً - وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صِرْفاً، والعدم غائب، والموجود حاضر، وإذا كان ما سواه - في الأزل - غائباً، وهو - تعالى - حاضر فبشهادته صار شاهداً، فكان الحق شاهداً على الكل، فلهذا قال: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾.

فصل


تقدم أن شهادة اللهِ الإخبار والإعلام، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار والمراد بأولي العلم، قيل: الأنبياء - عليهم السلام -.
قال ابنُ كَيْسَان: يعني المهاجرين والأنصار.
وقال مقاتل: علماء مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه.
94
قال السُّديُّ والكلبيُّ: يعني جميع المؤمنين الذين عرفوا وحدانية الله - تعالى - بالدلائل القاطعة؛ لأن الشهادة إنما تكون مقبولة، إذا كان الإخبار بها مقروناً بالعلم، ولذلك قال - عليه السلام -: «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ».
فإن قيل: إذا كانت شهادةُ الله عبارةً عن إقامة الدلائل، وشهادة الملائكة، وأولي العلم عبارة عن الإقرار، فكيف جمعهما في اللفظ؟
فالجواب: أن هذا ليس ببعيد، ونظيره قوله - تعالى: ﴿إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي﴾ [الأحزاب: ٥٦]، ومعلوم أن الصلاة من الله تعالى الرحمة - كما ورد - ومن الملائكة الدعاء، ومن المؤمنين الاستغفار، وقد جمعهما في اللفظ.

فصل


دلّت هذه الآيةُ على فَضْل العلم وشرف العلماء؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنه الله باسمه واسم ملائكته، كما قرن الله اسم العلماء، وقال تعالى - لنبيه -: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [طه: ١١٤]، فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله - تعالى - نبيَّه المزيد منه، كما أمره أن يستزيد من العلم.
وقال عليه السلام: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ»، وقال: «العُلمَاءُ أمناء اللهِ عَلَى خَلْقِهِ» [وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير].
قوله تعالى: ﴿قَآئِمَاً بالقسط﴾ في نَصْبه أربعة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على الحال، واختلفوا في ذلك؛ فبعضهم جعله حالاً من اسم «اللهُ»، فالعامل فيها «شَهِدَ».
قال الزمخشري: وانتصابه على أنه حال مؤكِّدة منه، كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الحق مُصَدِّقا﴾ [البقرة: ٩١].
قال أبو حيّان: وليس من باب الحال المؤكدة؛ لأنه ليس من باب ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ [مريم: ١٥] ولا من باب: أنا عبد الله شجاعاً فليس «قَائِماً بِالْقِسْطِ» بمعنى «شَهِدَ» وليس مؤكداً مضمونَ الجملة السابقة في نحو: أنا عبد الله شجاعاً، وهو زيد شجاعاً، لكنْ في هذا التخريج قلقٌ في التركيب؛ يصير كقولك: أكل زيدٌ طعاماً وعائشةُ وفاطمةُ جائعاً، ففصل بين المعطوف عليه، والمعطوف بالمفعول، وبين الحال وصاحبه بالمفعول، والمعطوف، لكن يمشيه كونها كلُّها معمولةٌ لعاملٍ واحدٍ.
قال شهاب الدينِ: مؤاخذته له في قوله «مؤكِّدة» غير ظاهرةٍ، وذلك أن الحالَ على قسمين:
95
إما مؤكدة، وإما مبيِّنة - وهي الأصل - فالمبيِّن ةلا جائز أن تكون ههنا؛ لأن المبيّنة منتقلة، والانتقال - هنا - محال؛ إذْ عَدْلُ الله - تعالى - لا يتغير.
وقيل: لنا قسم ثالث - وهي الحال اللازمة - فكان للزمخشري مندوحة عن قوله: «مؤكِّدة» وعن قوله «لازمة».
فالجواب: أن كل مؤكِّدة لازمة، فلا فرق بين العبارتين - وإن كان الشيخ زعم أن إصلاح العبارة يحصل بقوله: لازمة - ويدل على ما ذكرته من ملازمة التأكيد للحال اللازمة وبالعكس الاستقراء وقوله: ليس معنى «قَائِماً بِالْقِسْطِ» معنى «شَهِدَ» ممنوع، بل معنى: «شَهِدَ» مع متعلَّقِهِ هو ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ - مساوٍ لقوله: «قَائِماً بِالْقِسْطِ» ؛ لأن التوحيد ملازمٌ للعدل.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: لِمَ جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفَيْن عليه، ولو قلتَ: جاءني زيدٌ وعمرو راكباً لم يَجُزْ؟
قلتُ: إنما جاز هذا؛ لعدم الإلباس، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ [الأنبياء: ٧٢]- إن انتصب»
نَافِلَةً «حالاً عن يعقوب، ولو قلت: جاءني زيد وهند راكباً، جاز؛ لتميزه بالذكورة».
قال أبو حيّان: «وما ذَكَرَ من قوله: جاءني زيد وعمرو راكباً، أنه لا يجوز ليس كما ذكر، فهذا جائز؛ لأن الحال قَيْدٌ فيمن وقع منه أو به الفعل، أو ما أشبه ذلك، وإذا كان قَيْداً فإنه يُحْمَل على أقرب مذكور؛ ويكون» راكباً «حالاً مما يليه، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة لو قلت: جاءني زيد وعمرو الطويل، لكان» الطويل «صفة لعمرو، ولا تقول: لا تجوز هذه المسألة؛ لأنه يلبس، بل لا لبس في هذا، وهو جائز، فكذلك الحال، وأما قوله: إن» نَافِلَة «انتصب حالاً عن» يعقوب «فلا يتعين أن يكون حالاً عن يعقوب؛ إذ يحتمل أن يكون» نَافِلَةً «مصدراً - كالعاقبة والعافية - ومعناه زيادة، فيكون ذلك شاملاً إسحاق ويعقوب؛ لأنهما زِيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره».
قال شهاب الدينِ: «مراد الزمخشريِّ بمنع جاءني زيد وعمرو راكباً إذا أريد أن الحال منهما معاً، أما إذا أُريد أنها حال من واحد منهما فإنما يُجْعَل لِما يليه؛ لعَوْد الضمير على أقرب مذكور».
وبعضهم جعله حالاً من «هُوَ».
قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: قد جعلته حالاً من فاعل «شَهِدَ» فهل يصح أن ينتصب حالاً عن «هو» في «لا إلَهَ إلاَّ هُوَ» ؟
96
قلتُ: نعم؛ لأنها حالٌ مؤكِّدةٌ، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة - التي هي زيادة في فائدتها - عامل فيها، كقولك: «أنا عبد الله جاعاً»، يعني: أن الحال المؤكِّدة لا يكون العامل فيها النصب شَيْئاً من الجملة السابقة قبلها، إنما تنتصب بعامل مضمر، فإن كان المتكلم مُخْبِراً عن نفسه، نحو أنا عبد الله شجاعاً قدرته: أحُقَّ - مبنياً للمفعول - شجاعاً، وإن كان مُخبراً عن غيره قدرته - مخبراً عن الفاعل - نحو هذا عبد الله شجاعاً أي: أحقه، هذا هو المذهب المشهور في نَصْب مثل هذه الحال، وفي المسألة قولٌ ثانٍ - لأبي إسحاق - أن العامل فيها هو خبر المبتدأ؛ لِمَا ضُمِّنَ مِنْ مَعْنَى المشتق؛ إذْ هو بمعنى المُسَمَّى، وقول ثالث أن العامل فيها المبتدأ؛ لما ضُمِّن من معنى التنبيه وهي مسألة طويلة.
وبعضم جعله حالاً من الجميع على اعتبار كل واحدٍ قائماً بالقسط، وهذا مناقض لما قاله الزمخشري من أن الحال مختصة بالله - تعالى - دون ما عُطِف عليه، وهذا المذهب مردود بأنه لو جاز ذلك لجاز: جاء القوم راكباً، أي: كل واحد منهم «راكباً» والعربُ لا تقول ذلك ألبتة ففسد هذا، فهذه ثلاثة أوجهٍ في صاحب الحال.
الوجه الثاني من أوجه نصب قائماً: نصبه على النعت للمنفي ب «لا» كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلا هو.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: هل يجوز أن يكون صفةً للمنفي، كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلاَّ هو؟
قلتُ: لا يَبْعد؛ فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف»
ثم قال: «وهو أوجه من انتصابه عن فاعل» شَهِدَ «، وكذلك انتصابه على المدح».
قال أبو حيّان «:» وكأن الزمخشريَّ قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله: لا رجل إلا عبد الله شجاعاً،... وهذا الذي ذكره لا يجوز؛ لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما ﴿والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾، وليسا معمولَيْن لشيءٍ من جملة ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾، بل هما معمولان ل «شَهِدَ»، وهو نظير: عرف زيدٌ أنَّ هِنْداً خَارِجَةٌ وعمرو وجَعْفَرٌ التميميَّةَ، فيفصل بين «هند» و «التميمية» بأجنبي ليس داخلاً في خبر ما عمل فيها، وذلك الأجنبي هو «عمرو وجعفر» المرفوعان المعطوفان ب «عرف» - على زيد، وأما المثال الذي مَثَّل به، وهو: لا رجل إلا عبد الله شجاعاً، فليس نظير تخريجه في الآية؛ لأن قولك: إلا عبد الله، بدل على الموضع من «لا رجل»، فهو تابع على الموضع، فليس بأجنبي على أنَّ في جواز هذا التركيب نظراً؛ لأنه بدل، و «شجاعاً» وصف، والقاعدة: أنه إذا اجتمع البدل والوصف قُدِّم الوصف على البدل، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل - على الصحيح - فصار من جملة أخْرَى على هذا المذهب «.
97
الوجه الثالث: نصبه على المدح.
قال الزمخشري: فإن قلت: أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة، كقولك: الحمدُ للهِ الحميدَ، «إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ»، وقوله: [البسيط]
١٣٦٨ - إنَّا - بَنِي نَهْشَلٍ - لا ندعِي لأبٍ...............................
قلتُ: قد جاء نكرةً كما جاء معرفةً، وأنشد سيبويه - مما جاء منه نكرة - قول الْهُذَلِيّ: [المتقارب]
١٣٦٩ - وَيَأوِي إلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي
قال أبو حيان: «انتهى هذا السؤال وجوابه، وفي ذلك تخليط؛ وذلك أنه لم يُفَرِّقُ بين المنصوب على المدح، أو الذم، أو الترحم، وبين المنصوب على الاختصاص، وجعل حكمَها واحداً، وأوْرَد مثالاً من المنصوب على المدح، وهو الحمد لله الحميدَ، ومثالَيْن من المنصوب على الاختصاص، وهما:» إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ «، وقوله:» إنَّا - بَنِي نهشل - لا ندَّعِي لأب «والذي ذكره النحويون أن المنصوبَ على المدح أو الذم أو الترحُّم، قد يكون معرفة، وقبله معرفة - يصلح أن يكون تابعاً لها، وقد لا يصلح - وقد يكون نكرةً وقبله معرفة، فلا يصلح أن يكون نعتاً لها.
نحو قول النابغة:
١٣٧٠ - أقَارعُ عَوْفٍ، لا أحَاوِلُ غَيْرَهَا وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ
فنصب»
وُجُوهَ قُرُودٍ «على الذم، وقبله معرفة، وهي» أقارعُ عَوْفٍ «، وأما المنصوب على الاختصاص فنصوا على أنه لا يكون نكرةً، ولا مُبْهَماً، ولا يكون إلا معرَّفاً بالألف واللام، أو بالإضافة، أو بالعلميَّة، أو لفظ» أي «، ولا يكون إلا بعد ضمير متكلم مختص
98
به، أو مشارك فيه، وربما أتى بعد ضمير مخاطب».
الوجه الرابع: نَصْبه على القطع، أي إنه كان من حقه أن يرتفع؛ نعتاً لله تعالى بعد تعريفه ب «أل» والأصل: شَهِدَ اللهُ القائمُ بالقسط، فلما نُكِّر امتنع إتباعه، فقُطِع إلى النصب، وهذا مذهبُ الكوفيين، ونقله بعضهم عن الفراء - وحده -، ومنه عندهم قول امرئ القيس:
١٣٧١ -.................................. وَعَالَيْنَ قِنْوَاناً مِنَ الْبُسرِ أحْمَرَا
وقد تقدم ذلك محققاً.
الأصل: «من البُسْر الأحمر» ويؤيد هذا قراءة عبدِ الله «القائمُ بالقسط» - برفع القائم؛ تابعاً للفظ الجلالة - وخرَّجه الزمخشري وغيره على أنه بدل من «هو» أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو القائم.
قال أبو حيّان: ولا يجوز ذلك؛ لأن فيه فَصْلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي، وهو المعطوفان؛ لأنهما معمولان لغير العامل في المبدَل منه، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل ف يالمعطوف لم يجز ذلك - أيضاً -؛ لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قُدِّمَ البدل على العطف. لو قلت: جاء زيدٌ وعائشةُ أخوك، لم يجز، إنما الكلام: «جاء زيدٌ أخوك وعائشةُ».
فيحصل في رفع «القائم» - على هذه القراءة - ثلاثة اوجهٍ: النصب، والبدل، وخبر مبتدأ محذوف.
ونقِل عن عبد الله - أيضاً - أنه قرأ «قَائِمٌ بِالْقِسطِ» - بالتنكير، ورفعه من وجْهَي البدل، وخبر المبتدأ.
وقرأ أبو حنيفة: «قَيِّماً» - بالنصب على ما تقدم -.
فهذه أربعة أوجه مُحَرَّرَة من كلام القوم.
والظاهر أن رفع ﴿والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾ عطفٌ على لفظِ الجلالةِ.
وقال بعضهم: الكلام تم عند قوله: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾، وارتفع «الْمَلاَئِكَةُ» بفعل مُضْمَر، تقديره: وشهد الملائكة وأولو العلم بذلك، وكأن هذا المذهبَ يرى أن شهادة الله مغايرة لشهادة الملائكة وأولي العلم، ولا يجيز إعمال المشترك في معنيَيْه، فاحتاج من
99
أجل ذلك إلى إضمار فعل يوافق هذا المنطوقَ لفظاً، ويخالفه معنى، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي﴾ [الأحزاب: ٥٦] كما قدمناه.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هل دخل قيامُه بالقسط في حكم شهادة الله والملائكة، وأولي العلم، كما دخلت الوحدانية؟
قلتُ: نعم، إذا جعلته حالاً من»
هُوَ «أوْنَصْباً على المدح منه، أو صفة للمنفي، كأنه قيل: شهد الله والملائكة، وأولو العلم أنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط».

فصل


معنى «قَائِماً بِالْقِسْطِ» أي: قائماً بتدبير الخلْقِ، كما يقال: فلان قائم بأمر فلان، أي مدبِّر له، رزَّاق، مجازٍ بالأعمال، والمراد بالقِسْط: العدل.
قال ابن الخطيب: وهذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا، ومنه ما هو متصل بباب الدين أما المتصل بالدنيا فانظر - أوَّلاً - في كيفية خَلْقِه أعضاءَ الإنسان؛ حتى تعرفَ عدلَ الله - تعالى - فيها، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحُسْن والقُبْح، والغِنَى والفقر، والصحةِ والسقم، وطول العمر وقصره، واللذة والآلام، واقطع بأن كل ذلك عدل من الله، وحكمة وصواب، ثم انظر في كيفية خلق العناصر، وأجرام الأفلاك، وتقدير كل واحد منها بقدر معين، وخاصيَّةٍ معينة، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب.
وأما ما يتصل بأمر الدين فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل، والفطانة والبلادة، والهداية والغواية، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط.
قوله تعالى: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ في هذه الجملة وجهان:
الأول: أنها مكرَّرة للتوكيد، قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: لِمَ كرَّر قولَه: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ ؟ قلت: ذكره - أولاً - للدلالة على اختصاصه بالوحدانية، وأنه لا إله إلا تلك الذات المتميزة، ثم ذكره - ثانياً - بعدما قَرَن بإثبات الوحدانية إثبات العدل؛ للدلالة على اختصاصه بالأمرين، كأنه قال: لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين، ولذلك قرن به قوله تعالى: ﴿العزيز الحكيم﴾ ؛ لتضمنها معنى الوحدانيةِ والعدلِ».
وقال بعضهم: ليس بتكرير؛ لأن الأول شهادة الله - تعالى - وحده. والثاني: شهادة الملائكة وأولي العلم، وهذا عند من يرفع «الْمَلاَئِكَةُ» بفعل آخر مضمر - كما ذكرنا - من أنه لا يرى إعمال المشترك، وأن الشهادتين متغايرتان، وهو مذهب مرجوح.
وقال الراغبُ: «إنما كرَّر ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ ؛ لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد؛ لأن أكثرها مشارك - في ألفاظها - العبيد، فيصح وصفُهم بها، ولذلك وردت ألفاظ في حقه أكثر وأبلغ».
وقال بعضهم: «فائدة هذا التكرار الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون - أبداً - في
100
تكرير هذه الكلمة؛ فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان، هي هذه الكلمة، فإذا كان في أكثر أوقاتِه مشتغلاً بذكرِها، كان مشتَغِلاً بأعظم أنواع العبادات».
قوله: ﴿العزيز الحكيم﴾ فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه بدل من «هُوَ».
الثاني: أنه خبر مبتدأ مُضْمَر.
الثالث: أنه نعت لِ «هُوَ»، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب الكسائي؛ فإن يرى وَصْفَ الضمير الغائبِ.

فصل


ذِكْرُ هاتين الصفتين إشارةٌ إلى كمال العلم؛ لأن الإلهية لا تحصل إلا معهما؛ لأن كونه قائماً بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالماً بمقادير الحاجات، وكان قادراً على تحصيل المهمات، وقد قدَّم «الْعَزِيزُ» على «الْحَكِيمُ» ؛ لأن العلم بكونه - تعالى - قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الاستدلالية، فلما كان هذا الخطاب مع المستدلين - لا جرم - قدَّم ذكر «الْعَزِيزُ» على «الْحَكِيمُ».
101
قرأ الكسائي بفتح الهمزة، والباقون بكسرها، فأما قراءة الجماعةِ فعلى الاستئناف، وهي مؤكِّدة للجملة الأولى.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت: فائدته أن قوله: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ توحيد، وقوله:» قائِماً بِالقِسْط «تعديلٌ، فإذا أردفه بقوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ فقد آذَن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس في شيء من الدين عنده».
وأما قراءة الكسائي ففيها أوجه:
أحدها: أنها بدل من ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ - على قراءة الجمهورِ - في أن ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ فيها وجهان:
أحدهما: أنه من بدل الشيء من الشيء، وذلك أن الدين - الذي هو الإسلام - يتضمن العدلَ، والتوحيد، وهو هو في المعنى.
101
والثاني: أنه بدل اشتمال؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيدِ والعدلِ.
والثاني من الأوْجُهِ السابقةِ: أن يكون «إنَّ الدِّينَ» بدلاً من قوله «بِالْقِسْطِ» ثم لك اعتباران:
أحدهما: أن تجعله بدلاً من لفظه، فيكون محل «إنَّ الدِّينَ» الجر.
والثاني: أن تجعلَه بدلاً من موضعه، فيكون محلها نصباً، وهذا - الثاني - لا حاجة إليه - وإن كان أبو البقاء ذَكَرَه.
وإنما صحَّ البدلُ في المعنى؛ لأن الدين - الذي هو الإسلامُ - قِسْط وعَدْل، فيكون - أيضاً - من بدل الشيء من الشيء - وهما لعينٍ واحدة -.
ويجوز أن يكون بدل اشتمال؛ لأن الدين مشتمل على القسط - وهو العدل - وهذه التخاريج لأبي علي الفارسي، وتبعه الزمخشريُّ في بعضها.
قال أبو حيّان: «وهو _ أبو علي - معتزليّ، فلذلك يشتمل كلامُه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل، وعلى البدل من أنه خرجه هو وغيره، وليس بجيد؛ لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي في كلام العرب وهو: عَرَفَ زَيْدٌ أنَّهُ لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ وَبَنُو تَمِيمٍ وَبَنُ دَارِمٍ مُلاَقِياً لِلْحُرُوبِ، لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ الْبَطَلُ الْحَامِي، إنَّ الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ، وتقريب هذا المثال: ضرب زيدٌ عائشة، والعُمرانِ حَنِقاً أختك، فحَنقاً، حال من» زيد «و» أختك «بدل من» عائشة «ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف - وهذا لا يجوز - والحال لغير المبدل منه - وهو لا يجوز -؛ لأنه فصل بأجنبي بين البدل والمبدل منه».
قوله عرف زيد هو نظير «شَهِدَ اللهُ»، وقوله: أنه لا شجاع إلا هو نظير ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ وقوله: وبنو دارم نظير قوله: «وَالْمَلاَئِكَةُ» وقوله: ملاقياً للحروب نظير قوله: «قَائِماً بِالْقِسْطِ» وقوله: لا شجاع إلا هو نظير قوله: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ فجاء به مكرَّراً - كما في الآية - وقوله: البطل الحامي نظير قوله «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» وقوله: إن الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ نظير قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾.
قال شهابُ الدين: «ولا يظهر لي منعُ ذلك ولا عدمُ صحةِ تركيبهِ، حتى يقول: ليس بجيِّد، وبعيد أن يأتي عن العرب مثلُه، وما ادَّعاه بقوله - في المثال الثاني -: إن فيه الفصل بأجنبيٍّ فيه نظر؛ إذْ هذه الجمل صارت كلُّها كالجملةِ الواحدةِ؛ لما اشتملت عليه من تقويةِ كلمات بعضها ببعض، وأبو علي وأبو القاسم وغيرُهما لم يكونوا في محل مَنْ يَجْهَل صحةَ تركيبِ بعضِ الكلام وفساده».
ثم قال أبو حيّان: «قال الزمخشريُّ: وقُرِئَتَا مفتوحتَيْن على أن الثاني بدل من الأول، كأنه قيل: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، والمبدَل هو المبدَل منه في
102
المعنى، فكان بياناً صريحاً؛ لأن دينَ الإسلام هو التوحيد والعدل» فقال: فَهَذَا نَقْل كَلاَمِ أبي عَلِيٍّ دُونَ استيفاس.
الثالث - من الأوجل -: أن يكون «إنَّ الدِّينَ» معطوفاً على ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ حذف منه حرف العطف، قاله ابن جرير، وضعفه ابن عطية، ولم يُبَيِّن وَجْهَ ضَعْفه.
قال أبو حيان: «ووجه ضَعْفِه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف، فيفصل بين المتعاطفَين المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل، نحو أكل زيدٌ خُبْزاً، وعَمْرو سَمَكاً، يعني فصلت بين زيد وعمرو ب» خبزاً وسمكاً «.
الرابع: أن يكون معمولاً لقوله: ﴿شَهِدَ الله﴾، أي: شهد الله بأن الدين، فلما حذف حرف الجر جاز أن يحكم على موضعه بالنصب، أو الجر.
فإن قلت: إنما يتجه هذا التخريجُ على قراءة ابن عباس، وهي كسر»
أنّ «الأولى، وتكون الجملة - حينئذ - اعتراضاً بين طشَهِدَ» وبين معموله كما تقدم، وأما على قراءة فتح «أن» الأولى - وهي قراءة العامة - فلا يتجه ما ذكرتَ من التخريج؛ لأن الأولى معمولة له، استغنى بها.
فالجوابُ: أن ذلك مُتَّجِهٌ - أيضاً - مع فتح الأولى، وهو أن يُجْعَل الأولى على حذف لام العلة تقديره: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام؛ لأنه لا إله إلا هو، وهذا التخريج ذكره الواحديُّ، وقال: «هذا معنى قول الفراء حيث يقول - في الاحتجاج للكسائي -: إن شئت جعلت» أنه «على الشرط، وجعلنا الشهادة واقعة على قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾، ويكون» إنَّ «الأولى يصلح فيها الخفض، كثولك: شهد الله لوحدانية أن الدين عند الله الإسلام».
وهو كلام مُشْكِلٌ في نفسه، ومعنى قوله على الشرط، أي: العلة، سمَّى العلةَ شرطاً؛ لأن المشروطَ متوقفٌ عليه كتوقف المعلول على علتع، فهو علة، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين.
ثم اعترض الواحدي على هذا التخريج بأنه لو كان كذلك لم يَحْسُن إعادة اسم «الله»، ولكان التركيب: إن الدين عنده الإسلام؛ لأن الاسم قد سَبَق، فالوجه الكناية.
ثم أجاب بأن العربَ رُبَّما أعادت الاسم موضعَ الكناية، وأنشد: [الخفيف]
103
يعني أنه من باب إيقاع الظاهر موقع المضمر، ويزيده - هنا - حُسْناً أنه في موضع تعظيم وتفخيم.
الخامس: أن تكون على حذف حرف الجر معمولة للفظ «الْحَكِيم»، كأنه قيل: الحكيم بأن، أي: الحاكم بأن ف «حَكِيم» مثال مبالغة، مُحَوَّل من فاعل، فهو كالعليم والخبير والبصير، أي: المبالغ في هذه الأوصاف، وإنما عَدَل عن لفظ «حاكم» إلى «حكيم» - مع زيادة المبالغة -؛ لموافقة «الْعَزِيز»، ومعنى المبالغة: تكرار حكمهِ - بالنسبة إلى الشرائع - أن الدينَ عند الله الإسلام؛ إذْ حَكَم في كلّ شريعة بذلك، قاله أبو حيّان، ثم قال: فإن قلتَ: لم حَمَلْتَ «الْحَكِيم» على أنه مُحوَّل من «فاعل» إلى فعيل؛ للمبالغة، وهَلاَّ جعلته «فَعِيلا»، بمعنى «مُفْعِل» فيكون معناه «الْمُحكِم» كما قالوا في «أليم» : إنه بمعنى «مُؤْلِم» وفي «سميع» من قول الشاعر: [الوافر]
١٣٧٣ - أمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعي السَّمِيع...............................
أي: المُسْمِع؟
فالجوابُ: أنا لا نسلم أن «فَعِيلا» يأتي بمعنى «مفعل»، وقد يؤول «أليم» و «سميع» على غير «مفعل»، ولئن سلمنا ذلك، فهو من الندور والشذوذ، بحيث لا يَنْقاس، [وأما] «فعيل» محوَّل من «فاعل» ؛ للمبالغة فهو منقاس؛ كثير جداً، خارج عن الحصر، كعليم، وسميع، وقدير، وخبير، وحفيظ إلى ألفاظ لا تُحْصَى كَثْرَةً، وأيضاً فإن العربيَّ الْقُحَّ، الباقي على سجيته لم يفهم من «حكيم» إلا أنه محوَّل من «فاعل» ؛ للمبالغة، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله﴾ [المائدة: ٣٨] والله غفور رحيم أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، فقيل له: التلاوة: ﴿والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، فقال: هكذا يكون، عَزَّ فَحَكَم فقط، ففَهِم من «حكيم» أنه محوَّل - للمبالغة - من «حاكم»، وفَهْم هذا العربيِّ حُجَّةٌ قاطعةٌ بما قلناه، وهذا تخريج سَهْل، سائغ جداً، يزيل تلك التكلفات والتركيبات التي يُنزّه كتابُ الله عنها، وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول، ولا نجعل ﴿إِنَّ الدِّينَ﴾ معمولاً لِ «شَهِدَ» - كما فهموا - وأن ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ اعتراض - يعني بين الحال وصاحبها، وبين معموله - بل نقول: معمول «شَهِدَ» هو «إنَّهُ» - بالكسر - على تخريج من خرج أن «شَهِدَ» - لما كان بمعنى القول - كسر ما بعده؛ إجراءً له مُجْرَى القول.
أو نقول: إنه معموله، وعلقت، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي، بخلاف ما لو كان مثبتاً فإنك تقول: شهدت إنَّ زيداً لَمُنْطَلِقٌ، فتعلق ب «إنَّ» مع وجود اللام؛ لأنه لو لم تكن اللام لفتحت «إنَّ»، فقلت: شهدت أنَّ زَيْداً منطلقٌ، فمن قرأ بفتح «أنَّه»، فإنه لم يَنْو
104
التعليقَ، ومن كسر فإنه نوى التعليق، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي كما ذكرنا.
قال شهاب الدينِ: وكان الشيخ - لما ذكر الفصل والاعتراض بين كلمات هذه الآية - قال ما نصه: «وأما قراءة ابن عباس فتخرج على أن ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ هو معمول» شَهِدَ «ويكون في الكلام اعتراضان:
أحدهما: بين المعطوف عليه والمعطوف وهو ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ وإذا أعربنا ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ خبرَ مبتدأ محذوفٍ كان ذلك ثلاثة اعتراضات، انظر هذه التعوجيهات البعيدة، التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظيرٍ من كلام العربِ، وإنما حمل على ذلك العُجْمَةُ، وعدمُ الإمعان في تراكيب كلام العربِ، وحِفْظِ أشعارِها»
.
قال شهاب الدينِ: «ونسبة كلامِ أعلام الأئمة إلى العجمة، وعدم معرفتهم بكلام العرب، وحملهم كلام الله على ما لا يجوز، وأن هذا - الذي ذكره - هو تخريج سهل واضح، غير مقبول ولا مُسَلَّم، بل المتبادر إلى الذهن ما نقله الناسُ، وتلك الاعتراضات بين أثناء تلك الآيةِ الكريمةِ موجودٌ نظيرُها في كلامِ العربِ، وكيف يجهل الفارسي والزمخشريُّ والفراءُ وأضرابهم ذلك؟ وكيف يَتَبَجَّجُ باطِّلاعه على ما لم يَطلع عليه مثلُ هؤلاء؟ وكيف يظن بالزمخشري أنه لا يعرفُ مواقعَ النظم، وهو المسلَّم له في علم المعاني والبيان والبديع، ولا يَشُك أحد أنه لا بد لمن يتعرض إلى علم التفسير أن يعرفَ جملةً صالحةً من هذه العلوم».
قوله: ﴿عِنْدَ الله﴾ ظرف، العامل فيه لفظ «الدِّين» ؛ ملا تضمنه من معنى الفعل.
قال أبو البقاء: «ولا يكون حالاً؛ لأن» إنَّ «لا تعمل في الحال».
قال شهاب الدين: قد جوز في «ليت» وفي «كأن» أن تعمل في الحال «.
قال شهاب الدين: قد جوز في «ليت» وفي «كأن» أن تعمل في الحال.
قالوا: لما تضمنته هذه الأحرف من معنى التمني والتشبيه، ف «إن» للتأكيد، فلْتَعْمَل في الحال - أيضاً - فليست تتباعد عن «الهاء» التي للتنبيه.
قيل: هي أولى منها، وذلك أنها عاملة، و «هاء» ليست بعاملة، فهي أقرب لشبه الفعل من هاء.

فصل


الدين - في أصل اللغة - عبارة عن الانقياد والطاعة والتسليم والمتابعة، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ [النساء: ٩٤]، أي: لمن صار منقاداً
105
لكم، ومتابعاً، والإسلام هو الدخول في السلم، يقال: أسلم، أي: دخل في السلم، كقولهم: أشتى، وأقحط، وأصل السِّلم: السلامة، وقال ابن الأنباري: «المُسْلِم» معناه المخلص لله عبادته، من قولهم: سَلِم الشيء لفلان، أي: خَلصَ، فالإسلام معناه: إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى «.
وأما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان؛ لوجهين:
أحدهما: هذه الآية؛ لأن قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ يقتضي أن الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام، فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله - وهو باطل -.
الثاني: قوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥] فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام لوجب أن لا يكون مقبولاً عند الله تعالى.
قال القرطبيُّ: الإسلام هو الإيمان، بمعنى التداخل، وهو أن يُطْلَق أحدهما ويُراد به مسماه في الأصل ومُسمَّى الآخر، كما في هذه الآية؛ إذ قد دخل فيهما التصديق والأعمال، ومنه قوله - عليه السلام -:»
الإيمانَ مَعْرِفةٌ بالْقَلْبِ، وقَوْلٌ باللِّسَان، وعَمَلٌ بالأرْكَانِ «أخرجه ابن ماجه.
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤] صريح في أن الإسلام غير الإيمان.
فالجواب: أن الإسلام عبارة عن انقياد - كما بينَّا في أصل اللغة - والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف - فلا جرم - كان الإسلام حاصلاً في الظاهر، والإيمان - أيضاً - كان حاصلاً في حكم الظاهر؛ لأنه - تعالى - قال: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١] والإيمان الذي يُبيح النكاحَ في الحكم - هو الإقرار الظاهر، فعلى هذا، الإسلام والإيمان تارةً يُعتبران في الظاهر دون الباطن، وتارة في الباطن والظاهر، فالأول هو النفاق، وهو المراد بقوله:»
قَالَتِ الأعْرَابُ «؛ لأن باطن المنافق غير منقاد لدين الله تعالى، فكان تقدير الآية: لم تسلموا في القلب والباطن، ولكن قولوا: أسلمْنا في الظاهر.

فصل


قال قتادة - في قوله تعالى -: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾، شهادة ألا إله إلا الله،
106
والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رُسُلَه وَدَلَّ عليه أولياءه، لا يقبلُ غيرَه، ولا يَجْزِي إلا به.
روى غالب القطان، قال: أتيتُ الكوفةَ في تجارة، فنزلتُ قريباً من الأعمش، فكنت أختلف إليه، فلما كنت ذاتَ ليلةٍ، أردت أن أنحدر إلى البصرة، قام من الليل يتهجد، فمرَّ بهذه الآيةِ: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم﴾ [آل عمران: ١٨] قال الأعمش: وأنا أشهدُ بما شَهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي - عند الله - وديعة، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ - قالها مراراً.
قلت: لقد سمع فيها شيئاً، فصليْت معه، وودعته، ثم قلت: إني سمعتُكَ تُرَدِّدُهَا، فما بلغك؟ قال: واللهِ لا أحَدثُكَ بها إلى سنةٍ، فكتَبْتُ على بابه ذلك اليومَ، وأقمتُ سنةً، فلمَّا مضت السنةُ، قلتُ: يا أبا محمد، قد مضت السنةُ، فقال: حَدَّثني من حدثني عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يُجَاء بِصَاحِبهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ اللهُ تعالى: إنَّ لِعَبْدِي هذا - عندي - عهداً، وَأنا أحَقُّ مَنْ وَفَى بِالْعَهْدِ، أدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ».
قوله تعالى: ﴿وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾.
قال الكلبي: نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام، أي: وما اختلف الذين أوتوا الكتابَ في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم، يعني بيان نعته في كتبهم.
وقال الربيع: إن موسى - عليه السلام - لما حضره الموتُ دعا سبعين رجلاً من أحبار بني إسرائيل، فاستَوْدَعَهم التوراة، واستخلف يُوشَعَ بن نون، فلما مضى القرنُ السبعين - حتى أهرقوا بينهم الدماء، ووقع الشَّرُّ والاختلافُ، وذلك ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم﴾ يعني بيان ما في التوراة، ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أي: طلباً للملك والرياسة، فسلط الله عليهم الجبابرةَ.
قال محمدُ بنُ جفعر بن الزبير: نزلت في نصارى نجران، معناها: {وَمَا اختلف
107
الذين أُوتُواْ الكتاب} يعني الإنجيل في أمر عيسى، وفرَّقوا القول فيه: ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم﴾ بأن الله واحد، وأن عيسى عبدُ اله ورسوله، ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾، أي: المعاداة والمخالفة.
وقيل: المراد اليهود والنصارى، واختلافهم هو قولُ اليهودِ: عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقول النصارى: المسيح ابنُ الله، وأنكروا نبوة محمد، قالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش، لأنهم أميُّونَ، ونحن أهل الكتاب.
وقوله: ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم﴾ أي: الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم؛ لأنا لو حملناهم على العلم لصاروا معاندين، والعناد على الجمع العظيم لا يصح. [وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب، وهو جمع عظيم.
وقال الأخفش: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب؛ بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.
وقال ابن عمر وغيره: أخبر - تعالى - عن] اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائقِ، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا.
وفي الكلام تقديم وتأخير، فالمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.
قوله: «بَغْياً» فيه أوجه:
أحدها: أنه مفعول من أجله، العامل فيه «اخْتَلَفَ» والاستثناء مُفَرَّغ، والتقدير: وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره، قاله الأخفش، ورجحه أبو علي.
الثاني: أنه مصدر في محل نصب على الحال من «الذين» كأنه قيل: ما اختلفوا إلا في هذه الحال، والاستثناء مُفَرَّغ أيضاً.
الثالث: أنه منصوب على المصدر، والعامل فيه مقدَّر، كأنه لما قيل: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ﴾ دل على معنى: وما بغى، فهو مصدر، قاله الزّجّاجُ، ووقع بعد «إلا» مستثنيان، وهما: «مِنْ بَعْدِ» و «بَغْياً» وقد تقدم تخريج ذلك.
قال الأخفش: قوله: «بَغْياً» من صلة قوله: «اخْتَلَفُوا»، والمعنى: وما اختلفوا بغياً بينهم إنما اختلفوا للبغي.
قال القفّالُ: وهذا أجودُ من الأول؛ لأن الأولَ يُوهِمُ أنَّ اختلافَهم بسبب مجيء العلم، والثاني يفيد أن اختلافهم لأجل الحَسَدِ والبغي.
قوله: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله﴾ «مَنْ» مبتدأ، وفي خبره الأقوال الثلاثة - أعني: فعل
108
الشرط وحده، أو الجواب وحده، أو كلاهما - وعلى القول بكونه الجواب وحده لا بد من ضمير مقدَّر، أي: سريع الحساب له.

فصل


وهذا تهديد، وفيه وجهان:
الأول: المعنى: فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً، فيحاسبه، أي: يُجازيه على كُفْره.
الثاني: أن الله تعالى سيُعْلِمه بأعماله معاصيه وأنواع كفره، بإحصاء سريع، مع كَثْرَةِ الأعمال.
109
﴿فَإنْ حَآجُّوكَ﴾ أي: خاصموك يا محمد في الدين بالأقاويل المزوَّرة، المغالطات، فأسْند أمرك إلى ما كُلِّفْتَ به من الإيمان والتبليغ، وعلى الله نصرك وذلك أن اليهود والنصارى قالوا: لسنا على ما سميتنا به يا محمد، إنما اليهودية والنصرانية نسب، والدين هو الإسلام، ونحن عليه، فقال الله تعالى - ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ أي: انقدت لله وحده، وإنما خص الوجه؛ لأنه أكرم جوارح الإنسان.
وقال الفرّاءُ: معناه: أخلصت عملي لله.
وفي كيفية إيراد هذا الكلام وجوه:
أحدها: أنه - عليه السلام - كان قد أظهر لهم الحجةَ - على صدقه - قبل نزول هذه الآية - مراراً، فإن هذه السورة مدنية، وكان قد أظهر لهم المعجزاتِ بالقرآن، ودعاء الشجرة، وكلام الذئب، وغيرها مما يدل على صحة دينه، وذكر الحجة على فساد قول النصارى بقوله ﴿الحي القيوم﴾، وأجاب عن شبه القوم بأسرها، ومشاهدة يوم بدر وأثبت التوحيد، ونفى الضدَّ والندَّ والصاحبة والولد بقوله: ﴿شَهِدَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]، وبين - تعالى - أن إعراضهم عن الحق إنما كان بَغْياً وحَسَداً، فلما لِمْ يَبْقَ حجة على فِرَق الكفار إلا أقامها، قال بعده: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ وهذه عادة المُحِقِّ مع المُبْطِلِ، إذا أورد عليه حُجَّة بَعْدَ حُجَّة، ولم يرجع إليه، فقد يقول - في آخر الأمر -: أما أنا فمنقادٌ للحق، فإن وافقتم، واتبعتم الحق الذي أنا عليه، فقد اهتديتم، وإن اعترضتم، فالله بالمرصاد.
ثانيها: أن القوم كانوا مُقِرِّينَ بوجود الصانع، وكونه مستحقاً للعبادة، فكأنه - عليه السلام - قال لهم: هذا القدر متفق عليه بين الكُلِّ، فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه، وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك، وأنتم المدعون فعليكم الإثبات،
109
ونظيره قوله: ﴿قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [أل عمران: ٦٤].
وثالثها: قال أبو مسلم: هو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرِّين بتعظيم إبراهيم - عليه السلام -، وبأنه كان مُحِقًّا صادقاً في دينه إلا في زيادات من الشرائع، فأمر الله تعالى - محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يتبع ملته، بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [النحل: ١٢٣]، ثم أمخر محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم حيث قال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض﴾ [الأنعام: ٧٩] فقل يا محمد: «أسْلَمْتُ وَجْهِيَ» كقول إبراهيم: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ»، أي: أعرضت عن كل معبود سوى الله - تعالى - وقصدته وأخصلت له، كأنه قال: فإن نازعوك في هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريقة إبراهيم - عليه السلام - وأنتم مقرون بأن طريقته حق لا شبهة فيها، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات.

فصل


فَتَحَ الياءَ من «وَجْهِيَ» - هنا وفي الأنعام - نافع وابن عامر وجعفر وحفص وسكنها الباقون.
قوله: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ في محل «مَنْ» وجوه:
أحدها: الرفع؛ عطفاً على التاء في «أسْلَمْتُ»، وجاز ذلك؛ لوجود الفصل بالمفعول؛ قاله الزمخشريُّ وابن عطية.
قال أبو حيان: «ولا يمكن حمله على ظاهره؛ لأنه إذا عطف الضمير في نحو:» أكلت رغيفاً وزيدٌ «لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف، وهنا لا يسوغ ذلك؛ لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم. وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسلم وجهه، بل المعنى على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسلم وجهه لله، وأنهم أسلموا وجوههم لله؛ [فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول، لا مشارك في مفعول» أسْلَمْتُ «والتقدير: ومن اتبعني وجهه، أو أنه مبتدأ محذوف الخبر؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير: ومن اتبعني كذلك، أي: أسلموا وجوههم لله]، كما تقول: قضى زيد نحبه وعمرو، أي: عمرو كذلك، أي: قضى نحبه».
قال شهابُ الدينِ: «إنما صحت المشاركة في نحو: أكلتُ رغيفاً وزيدٌ؛ لإمكان ذلك، وأما في الآية الكريمة فلا يُتَوَهَّمُ فيه المشاركة».
110
الثاني: أنه مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف - كما تقدم.
الثالث: أنه منصوب على المعية، والواو بمعنى «مع» أي: أسلمت وجهي لله مع من اتبعني؛ قاله الزمخشريُّ.
وقال أبو حيّان: «ومن الجهة التي امتنع عطف» مَنْ «على الضمير - إذا حُمِلَ الكلام على ظاهره دون تأويل - يمتنع كون» مَنْ «منصوباً على أنه مفعول معه؛ لأنك إذا قلتَ: أكلتُ رغيفاً وعمرو أي مع عمرو - دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف، وقد أجاز الزمخشريُّ هذا الوجهَ، - وهو لا يجوز - لما ذكرنا - على كل حال؛ لأنه لا يجوز حذف المفعول مع كون الواوِ واوَ» مع «ألبتة».
قال شهابُ الدينِ: «فهم المعنى، وعدم الإلباس يسَوِّغ ما ذكره الزمخشريُّ، وأي مانع من أن المعنى: فقل: أسلمت وجهي لله مصاحباً لمن أسلم وَجْهَهُ لله أيضاً، وهذا معنى صحيح مع القول بالمعية».
الرابع: أن محل «مَنْ» الخفض، نسقاً على اسم «الله»، وهذا الإعراب - وإن كان ظاهره مُشْكِلاً - قد يؤول على معنى: جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له، ولمن اتبعني بالحفظ له.
وقد أثبت الياءَ في «مَنِ اتَّبَعَنِي» نافع، وحذفها أبو عمرو وخلاد - وقفاً - والباقون حذفُوهَا فيهما؛ موافقةً للرسم، وحسن ذلك أيضاً كونها فاصلةً ورأس آية، نحو ﴿أَكْرَمَنِ﴾ [الفجر: ١٥] و ﴿أَهَانَنِ﴾ [الفجر: ١٦] وعليه قول الأعشى: [المتقارب]
١٣٧٢ - لاَ أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالفقِيرَا
١٣٧٤ - وَهَلْ يَمْنَعَنِّي أرْتيادِي الْبِلاَ دَ مِنْ حَذَر الْمَوْتِ أنْ يَأتِيَنْ
وقول الأعشى - أيضاً -: [المتقارب]
١٣٧٥ - وَمَنْ شَانِىءٍ كَاسِفٍ بَالُهُ إذا مَا انْتَسَبْتُ لَهْ أنْكَرَنْ
قال بعضهم: حذف هذه الياء مع نون الوقاية - خاصّة - فإن لم تكن نونٌ فالكثير إثباتُها.
قوله: قال ﴿وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب﴾ يعني اليهود والنصارى، والمراد بالأميِّيِّين: مشركو
111
العرب، ووصفهم بكونهم أميين؛ لأنهم لم يَدَّعوا كتاباً، شبههم بمن لا يقرأ ولا يكتب، وإما لكونهم ليسوا من أهل الكتابة والقراءة، وإن كان فيهم من يكتب فهو نادر.
قوله: ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ صورته استفهام، ومعناه الأمر، أي: أسلموا، كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١].
قال الزمخشري: «يعني أنه قد أتاكم من البيِّنات ما يوجب الإسلام، ويقتضي حصوله - لا محالة - فهل أسلمتم بعدُ أم أنتم على كفركم؟، وهذا كقولك - لمن لخَّصْتُ له المسألة، ولم تُبْقِ من طُرُق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته -: هل فهمتها، أم لا - لا أُمَّ لك - ومنه قوله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر، وفي الاستفهام استقصار، وتعبير بالمعاندة، وقلة الإنصاف؛ لأن المُنْصِفَ - إذا تَجَلَّتْ لَهُ الحجَّةُ - لم يتوقف إذْعانه للحق».
وقال الزّجّاج: «أأسْلَمْتُم» تهديد.
قال القرطبيُّ: «وهذا حَسَنٌ؛ لأن المعنى: أأسْلَمْتُمْ أمْ لاَ؟».
قوله: ﴿فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا﴾ دخلت «قد» على الماضي؛ مبالغة في تحقُّق وقوعِ الفعل، وكأنه قد قَرُب من الوقوع.
رُوي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ هذه الآية، فقال أهل الكتاب: أسْلَمْنَا، فقال لليهود: أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى كَلِمَةُ اللهِ وَعَبْدُهُ، وَرَسُولُهُ؟ فقالوا: معاذَ اللهِ، وقال للنَّصَارَى: أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؟ فقالوا معاذَ الله أن يكون عيسى عبداً، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ﴾، أي: تبليغ الرسالة، وليس عليك الهداية.
والبلاغ: مصدر «بَلَغَ» - بتخفيف عين الفعل -.
قيل: إنها نُسِخَت بالجهاد. ﴿والله بَصِيرٌ بالعباد﴾ عالم بمن يؤمن ومن لا يؤمن، وهذا يفيد الوعد والوعيد.
112
لما ذكر حال من يُعْرِض ويتولّى وصفهم في هذه الآيةِ بثلاثِ صفاتٍ:
الأولى قوله: ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ﴾ لما ضمن هذا الموصول معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو قوله: ﴿فَبَشِّرْهُم﴾، وهذا هو الصحيح، أعني أنه إذا نُسِخَ المبتدأ ب «إنَّ» فجواز دخول الفاء باقٍ؛ لأن المعنى لم يتغير، بل ازداد تأكيداً، وخالف الأخفش،
112
فمنع دخولها من نسخه ب «إنَّ» والسماع حُجَّةٌ عليه كهذه الآية، وكقوله: ﴿إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق﴾ الآية [البروج: ١٠]، وكذلك إذا نُسِخَ ب «لَكِنَّ» كقوله: [الطويل]
١٣٧٦ - فَوَاللهِ مَا فَارَقْتُكُمْ عَنْ مَلَلَةٍ وَلَكِنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ
وكذلك إذا نُسِخ ب «أنَّ» - المفتوحة - كقوله: ﴿واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: ٤١] أما إذا نُسِخ ب «لَيْتَ»، و «لَعَلَّ» و «كَأنَّ» امتنعت الفاءُ عند الجميع؛ لتغيُّرِ المعنى.

فصل


المراد بهؤلاء الكفارِ اليهودُ والنصارى.
فإن قيل: ظاهر هذه الآيةِ يقتضي كونَهم كافرين بجميع آيات الله - تعالى -، واليهود والنصارى، كانوا مقرِّين بالصانع وعلمِه وقدرته والمعادِ.
الجواب: أن تُصْرَفَ الآياتُ إلى المعهود السابق - وهو القرآن ومحمد - أو نحمله على العموم، ونقول: إن من كذب بنبوة محمد - عليه السلام - يلزمه أن يُكذب بجميع آيات الله تعالى.
الصفة الثانية: قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ قرأ الحسن هذه والتي بعدها بالتشديد ومعناه: التكثير، وجاء - هنا - ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ منكَّراً، وفي البقرة [بِغَيْرِ الحَقِّ} معرَّفاً قيل: لأن الجملة - هنا - أخرجت مخرَجَ الشرط - وهو عام لا يتخصَّص - فلذلك ناسبَ أن تذكر في سياق النفي؛ لتعمَّ.
وأما في البقرة فجاءت الآية في ناسٍ معهودين، مختصين بأعيانهم، وكان الحق الذي يُقْتَل به الإنسان معروفاً عندهم، فلم يقصد هذا العموم الذي هنان فجِيء في كل مكان بما يناسبه.

فصل


روى أبو عبيدة بنُ الجراح، قال: قلت: يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أشَدُّ عذاباً يَوْمَ القيامةِ؟ قال: رجل قتل نبيًّا، أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرأ هذه الآية، ثم قال: يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبيًّا، من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل، واثنا عشر رجلاً من عُبَّادِ بني إسرائيلَ، فأمَرُوا قَتَلَتَهُمْ
113
بالمعروفِ، ونَهَوْهُمْ عن المنكر، فقُتِلوا جميعاً من آخرِ النَّهَارِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، فَهُم الَّذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى.
وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن زكريا، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم.
فإن قيل: قوله: ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ في حكم المستقبل؛ لأنه كان وعيداً لمن كان في زمن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يقع منهم قتل الأنبياء، ولا الآمرين بالقسط، فكيف يَصِحُّ ذلكظ
فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن هذه لما كانت طريقة أسلافِهم صحَّت الإضافة إليهم؛ إذْ كانوا مُصَوِّبِينَ لهم، راضين بطريقتهم، فإن صُنْعَ الأب قد يُضاف إلى الابن، إذا كان راضياً به.
الثاني: أن القوم كانوا يريدون قَتلَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقتلَ المؤمنين، إلا أن الله - تعالى - عَصَمَه منهم، فلما كانوا راغبين في ذلك صحَّ إطلاق هذا الاسم عليهم - على سبيل المجاز - كما يقال: النار مُحْرِقةٌ، السَّمُّ قاتل.
فإن قيل: قَتْل الأنبياء لا يصح أن يكون إلا بغير حق، فما فائدة قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ؟
فالجوابُ تقدم في البقرة، وأيضاً يجوز أن يكون قصدوا بقتلهم أنها طريقة العدل عندهم.
فإن قيل: قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النبيين﴾ ظاهره يُشْعِر بأنهم قتلوا كُلَّ النبيِّين، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل، ولا الأكثر، ولا النصف.
فالجواب أن الألف واللام هنا للعَهْد، لا للاستغراق.
الصفة الثالثة: قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ الذين﴾ قرأ حمزة «وَيُقَاتِلُونَ» - من المقاتلة - والباقون «وَيَقْتُلُونَ» - كالأول.
فأما قراءةُ حمزةَ فإنه غاير فيها بين الفعلين، وهي موافقة لقراءة عبد الله «وَقَاتَلُوا» - من المقاتلة - إلا أنه أتى بصيغة الماضي، وحمزة يحتمل أن يكون المضارع - في قراءته - لحكاية الحال، ومعناه: المُضِيّ.
114
وأما الباقون فقيل - في قراءتهم -: إنما كرر الفعل؛ لاختلاف متعلَّقه، أو كُرِّرَ؛ تأكيداً، وقيل: المراد بأحد القتلَيْن إزهاق الروح، وبالآخر الإهانة، وإماتة الذكر، فلذلك ذكر كل واحد على حدته، ولولا ذلك لكان التركيبُ: ويقتلون النَّبِيِّينَ والذين يأمرون، وبهذا التركيب قرأ أبَيّ.
قوله: ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ إما بيان، وإما للتبعيض، وكلاهما معلوم أنهم من الناس، فهو جَارٍ مَجْرَى التأكيد.

فصل


قال القرطبيُّ: «دلت هذه الآيةُ على أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً في الأمم المتقدمةِ، وهو فائدة الرِّسالةِ وخلافة النبوة».
قال الحسنُ: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ أمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، أو نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهُوَ خَلِيفَةُ اللهِ في أرْضِهِ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِهِ، وَخِلِيفَةُ كِتَابِهِ».
وعن دُرَّةَ بِنْتِ أبِي لَهَب، قالت: جاء رجل إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو على المنبر - فقال: مَنْ خيرُ الناس يا رسول الله؟ قال: «آمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأتْقَاهُمْ لله، وَأوْصَلُهُمْ لِرَحِمِهِ».
قد ورد في النزيل: ﴿المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف﴾ [التوبة: ٦٧]، ثم قال: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ [التوبة: ٧١].
فجعل - تعالى - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين، فدل ذلك على أن أخَصَّ أوصاف المُؤمِن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه، ثم إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطانُ؛ إذْ كانت إقامةُ الحدودِ إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلاً قويًّا، عالماً، اميناً، ويأمره بذلك، ويُمْضِي الحدودَ على وَجْهها من غير زيادةٍ، كما قال تعالى:
﴿الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر﴾ [الحج: ٤١].

فصل


قال الحسنُ: هذه الآيةُ تدل على أن القائمَ بالأمْر بالمعروف والنهي عن المنكر - عند الخوف - تلي منزلته - في العِظَم - منزلةَ الأنبياء، ورُوِيَ أنَّ رَجُلاً قام إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
115
بمِنًى - فقال: أيُّ الجهاد أفضلُ؟ فقال عليه السلام: «أفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ».
قال ابن جريج: كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل - ولم يكن يأتيهم كتابٌ - فيدكِّرُون قومَهم فيُقْتلون، فيقوم رجال ممن تَبِعهم وصدَّقهم، فيذكرون قومَهم، فيُقْتَلون - أيضاً - فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس.
قوله: ﴿أولئك الذين حَبِطَتْ﴾ قرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن «حَبَطَتْ» بفتح الباء - وهي لغة معروفة، أي: بطلت في الدنيا - بإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن، وقَتْلِهم، وسَبْيِهم وأخذ أموالهم، واسترقاقِهم، وغير ذلك من أنواع الذل - وفي الآخرة - بإزالة الثواب، وحصول العقاب - ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ يَدْفَعُونَ عَنْهُم.
116
قوله :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ ﴾ قرأ ابنُ عباس٨ وأبو عبد الرحمن " حَبَطَتْ " بفتح الباء - وهي لغة معروفة، أي : بطلت في الدنيا - بإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن، وقَتْلِهم، وسَبْيِهم وأخذ أموالهم، واسترقاقِهم، وغير ذلك من أنواع الذل - وفي الآخرة - بإزالة الثواب، وحصول العقاب - ﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ يَدْفَعُونَ عَنْهُم.
لمَّا نَبَّهَ على عِنادِهم بقوله: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ﴾ [آل عمران: ٢٠] بَيَّنَ في هذه الآيةِ غايةَ عِنادِهم، واعلم أن ظاهر الآية يتناول الكُلَّ؛ لأنه ذكره في معرض الذم، إلا أنه قد دَلَّ دليل آخر على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك، لقوله تعالى: ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: ١١٣] والمراد بالكتاب غير القرآن؛ لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار، وهم اليهود والنصارى.

فصل


في سبب النزول وجوهٍ:
أحدها: رَوَى ابنُ عباس: أنَّ رجلاً وامرأةً - من اليهود - زَنَيَا وكانا ذَوَى شَرَفٍ، وكان في كتابهم الرَّجْمُ، فكرهوا رَجْمَهُمَا؛ لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، رجَاءَ أن يكون عنده رخصةٌ في تَرْك الرجم، فحكم الرسولُ - عليه السلام - بالرجم، فأنكروا ذلك، فقال - عليه السلام - «بيني وبينكم التوراةُ؛ فإن فيها الرَّجمَ، فمَنْ أعْلَمُكم» ؟ قالوا: رجل أعور يسكن فَدك، يقال له: ابن صوريا، فأرسلوا إليه فقدِمَ المدينةَ، وكان جبريلُ قد وصفه لرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنت ابن صُوريا» ؟ قال: نَعَمْ، قال: «
116
أنت أعلمُ اليهودِ» ؟ قال: كذلك يَزْعُمُونَ، قال: «فأحْضِروا التوراةَ»، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابنُ سَلاَم: قد جاوَزَ موضِعَها يا رسول الله، وقام فرفع كَفَّه عنها فوجدوا آيةَ الرجم، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهما فرُجِمَا، فغضبت اليهودُ لذلك غَضَباً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وثانيها: روى سعيدُ بنُ جُبَيْر وعكرمةُ - عن ابنِ عباس - قال: دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيت المِدْرَاس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن يزيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم، قالا: إن إبراهيمَ كان يهوديًّا فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فهلموا إلى التوراة؛ فهي بيننا وبينكم حَكَمْ فأتيَا عليه»، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وثالثها: أن علامة بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مذكورةٌ في التوراةِ، والدلائل على صحة نبوته موجودة فيها فلما دادلوه في النبوة والبعثة دعاهم إلى التحاكم إلى كتابهم، فأبَوْا، فأنزل الله - تعالى - هذه الآيةَ، ولذلك قال: ﴿فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: ٩٣] وهذه الآية تدل على أن دلائلَ صحةِ نبوتهِ موجودةٌ في التوراة؛ إذْ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته لسارعوا إليه، ولَمَا ستروا ذلك.
رابعها: أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى؛ فإن دلائل صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت موجودة في التوراة والإنجيل.
وقوله: ﴿نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ أي: من علم الكتاب؛ لأنا لو أجريناه على ظاهره، فهم قد أوتوا كل الكتاب، والمراد بذلك العلماء منهم، وهم الذين يُدْعَوْن إلى الكتاب؛ لأن مَنْ لا علمَ له بذلك لا يدعى إليه.
قوله: «يُدْعَوْنَ» في محل نَصْب على الحال من ﴿الذين أُوتُواْ الكتاب﴾.
قوله: «إلَى كِتَابِ اللهِ» قال أكثرُ المفسرين: هو التوراة؛ لوجوهٍ:
أحدها: ما ذكرنا في سبب النزول.
ثانيها: أن الآيةَ سِيقت للتعجُّب من تمرُّدِهم وإعْرَاضِهم، والتعجُّب إنما يحصل إذا تَمَرَّدُوا على حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته.
ثالثها: أن هذا هو المناسب لما قبل الآية؛ لأنه لما بَيَّن أنه ليس عليه إلا البلاغ وصبَّره على معاندتهم - مع ظهور الحُجَّة عليهم - بيَّن أنهم استعملوا طريقَ المكابرةِ في نفس كتابِهم الذي أقروا بصحته، فستروا ما فيه من الدلائلِ الدالةِ على صحةِ نبوةِ محمدٍ - عليه السلام - فهذا يدل على أنهم في غاية التعصُّب والبُعْدِ عن قبول الحق.
117
قال ابنُ عباس والحسنُ وقتادةُ: هو القرآن.
روى الضّحاكُ عن ابن عباس - في هذه الآية - أن الله - تعالى - جعل القرآن حَكَماً فيما بينهم وبَيْنَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهُدَى، فأعرضوا عنه، وقال تعالى: ﴿هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق﴾ [الجاثية: ٢٩]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ [النور: ٤٨].
فإن قيل: كيف دُعُوا إلى حُكْم كتاب لا يؤمنون به؟
فالجواب: أنه مدعوا إليه بَعْدَ قِيَام الحُجَج الدالَّةِ على أنه كتابٌ من عند الله.
قوله: «ليحكم» متعلق ب «يدعون». وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور.
وقرأ الحسن وأبو جعفر والجحدري «لِيُحْكَمَ» - مبنيًّا للمفعول - والقائم مقام الفاعل هو الظرف، أي: ليقع الحكمُ بينهم.
قال الزمخشريُّ: قوله: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم، لا فيما بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: ﴿ثُمَّ يتولى﴾ عطف على «يُدْعَوْنَ» و «مِنْهُمُ» صفة ل «فَرِيقٌ»، وقوله: ﴿وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ يجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في «مِنْهُمْ» ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في «مِنْهُمْ» ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون حالاً من «فَرِيقٌ»، وجاز ذلك - وإن كان نكرةً - لتخصيصه بالوصف قبله، وإن كان حالاً فيجوز أن تكون مؤكِّدةً؛ لأن التولِّ] والإعراض عما دعا إليه.
قال ابنُ الخطيبِ: «فكأن المتولِّيَ والمعرضَ هو ذلك الفريق، والمعنى أنه مُتَوَلِّ عن استماع الحُجَّة في ذلك المقام، ومُعْرِضٌ عن استماع سائر الحُجَج».
ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، لا محل لها، أخبر عنهم بذلك، فيكون المتولِّي هم الرؤساء والعلماء، والأتباع مُعرضون عن القبول؛ لأجل تَوَلِّي علمائِهم.
118
قوله: «ذَلِكَ» فيها وجهان:
أصحهما: أنها مبتدأ، والجار بعده خبره، اي: ذلك التوَلِّي بسبب هذه الأقوال الباطلةِ، التي لا حقيقةَ لها.
118
والثاني: ان «ذَلِكَ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ، اي: الأمر ذلك، وهو قول الزَّجَّاج وعلى هذا قوله: «بأنَّهُمْ» متعلق بذلك المقدَّر - وهو الأمر ونحوه -.
وقال أبو البقاء: فعلى هذا يكون قوله «بأنَّهُمْ» في موضع نَصْب على الحال بما في «ذَا» من معنى الإشارة، أي: ذلك الأمر مستحقاً بقولهم، ثم قال: «وهذا ضعيفٌ».
قلت: بل لا يجوز ألبتة.
وجاء - هنا - «مَعْدُودَاتٍ»، بصيغة الجمع - وفي البقرة «مَعْدُودَةً»، تفنُّناً في البلاغة، وذلك أن جمع التكسير - غير العاقل - يجوز أن يعامَل معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً، ومعاملةَ جمع الإناث أخْرَى، فيقال: هذه جبال راسيةٌ - وإن شئت: راسياتٌ -، وجمال ماشية، وإن شئت: ماشيات.
وخص الجمع بهذا الموضع؛ لأنه مكان تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا: فأتى بلفظ الجمع مبالغةٌ في زجرهم، وزجر من يعمل بعملهم.

فصل


قال الجبائيُّ: «هذه الآية فيها [دلالة] على بُطْلان قَوْل مَنْ يقول: إنَّ أهلَ النار يخرجون من النار، قال: لأنه لو صَحَّ ذلك في هذه الآية لصح في سائر الأمم، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المُخْبِر بذلك كاذباً، ولما استحق الذمَّ، فلما ذكر الله - تعالى - ذلك في معرض الذمِّ، علمنا أن القول بخروج أهل النارِ من النار [قول] باطل».
قال ابن الخطيبِ: «كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام؛ لأن مذهبه أن العَفْوَ حَسَنٌ، جائز من الله، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفوِ في هذه الأمةِ حصولُه في سائر الأمم سلمنا أنه لا يلزم ذلك، لكن لِمَ قلتم: إن القومَ إنما استحقوا الذمَّ على مجرَّد الإخبارِ بأن الفاسقَ يخرج من النار؟
بل ههُنَا وُجُوهٌ أخَر:
الأول: لعلهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسقِ قصيرة، قليلة؛ فإنه روي أنهم كانوا يقولون: إنَّ مدة عذابنا سبعةُ أيام، ومنهم من قال: لا، بل أربعينَ ليلةً - على قدر مُدَّة عبادة العَجْل -.
الثاني: أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين، ويقولون: بتقدير وقوع الخطأ منا، فإنَّ عذابنا قليل، وهذا خطأ؛ لأن عندنا المخطئ في التوهيد والنبوة والمعاد كافر، والكافر عذابه دائم.
الثالث: أنهم لما قالوا: ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ استحقروا تكذيبَ محمد -
119
عليه السلام -، واعتقدوا أنه لا تأثيرَ له في تغليظ العقاب، فكان ذلك تصريحاً بتكذيبه - عليه السلام - وذلك كُفر، والكافر المُصِرُّ على كُفره لا شكَّ أن عذابَه مُخَلَّد، فثبت أنَّ احتجاجَ الجبائي بهذه الآية ضعيف».
قوله: ﴿وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ﴾ الغُرور: الخِدَاع، يقال منه: غَرًَّهُ، يَغُرُّهُ، غُرُوراً، فهو غَارٌّ، ومغرور.
والغَرُور: - بالفتح - مثال مبالغة كالضَّرُوب.
والغِرُّ: الصغير، والغِرِّيرَة: الصغيرة؛ لأنهما يُخ
عان، والغِرَّة: مأخوذة من هذا، قال: أخذه على غِرَّة، أي: تغفُّل وخداعِ، والغُرَّة: بياض في الوجه، يقال منه: وَجْهٌ أغَرُّ، ورجل أغَرّ وامرأة غَرَّاء.
والجمع القياسي: غُرٌّ، وغير القياسي غُرَّانُ.
قال: [الطويل]
١٣٧٧ - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ وَأوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ
والغرة من كل شيء أنفسه، وفي الحديث: «وَجَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً، عَبْداً أوُ أمَةً».
قيل: الغُرًَّة: الخِيار، وقال أبو عمرو بن العلاء - في تفسير هذا الحديث - إنه لا يكون إلا الأبيض من الرقيق، كأنه أخَذَه من الغُرَّة، وهو البياض في الوَجْه.
قوله: ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ «ما» يجوز أن تكون مصدريةً، أو بمعنى «الذي»، والعائد محذوف أي: الذي كانوا يفترونه.
قيل هو قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨].
وقيل: هو قولهم: نحن على الحق وأنت على الباطل.
قوله: «فَكَيْفَ إذا» «كَيْفَ» منصوبة بفعل مُضْمَر، تقديره: كيف يكون حالهم، كذا قدَّره الحوفيّ وهذا يحتمل أن يكون الكون تاماً، فيجيء في «كيف» الوجهان المتقدمان في قوله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ» من التشبيه بالحال، أو الظرف، وأن تكون الناقصة فتكون «كيف» خبرها.
120
وقدّر بعضهم الفعل، فقال: كيف يصنعون؟ [فإن أراد «كان» التامة كانت في موضع نصب على الحال، وإن أراد الناقصة كانت في موضع نصب على خبر «كان» ]، فكيف على ما تقدم من الوجهين.
ويجوز أن تكون «كيف» خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف، تقديره: فكيف حالُهم؟
قوله: ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ «إذا» ظرف محض من غير تضمين شرط، والعامل فيه العامل مُضْمَر، وهي منصوبة انتصاب الظروفِ كان العامل في «إذَا» الاستقرار العامل في «كَيْفَ» ؛ لأنها كالظرف، وإن قلنا: إنها اسم غير ظرف، بل لمجرد السؤال كان العامل فيها نفس المبتدأ - الذي قدرناه - أي: كيف حالهم في وقت جمعهم؟
ويُحْذَف الحال - كثيراً - مع «كيف»، لدلالته عليها، تقول: كنت أكرمه - ولم يزرني - فكيف لو زارني؟ أي: كيف حاله إذا زارني؟ وهذا الحذف يوجب مزيد البلاغة، لما فيه من تحرُّك النفي على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة، وكل نوع من أنواع العذاب - في هذه الآية -.
قوله: «لِيَوْمٍ» متعلق ب «جَمَعْنَاهُمْ» أي: لقضاء يوم، أو لجزاء يوم.
فإن قيل: لِمَ قال: «لِيَوْمٍ» ولم يقل: في «يَوْمٍ».
فالجوابُ: ما ذكرناه من أنّ المرادَ: لجزاء يوم، أو لحساب يوم، فحذف المضاف، ودلت اللام عليه قال الفرّاءُ: اللام لفعل مضمر، فإذا قلتَ: جُمِعُوا ليوم الخميس، كان المعنى: جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس، وإذا قلت: جُمِعُوا في يوم الخميس لم تُضْمِرْ فِعْلاً.
وأيضاً فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدةَ فيه إلا المجازاة.
وقال الكسائيُّ: اللام بمعنى «في».
«لا ريب فيه» صفة للظرف.
قوله: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ إن حَمَلْتَ «مَا كَسَبَتْ» على عمل العبد، جُعِلَ في الكلام حذفٌ، والتقدير: ووفيت كلُّ نفسٍ جزاءَ ما كسبت من ثواب وعقاب، وإن حملت «مَا كَسَبَتْ» على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار، ثم قال: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ فلا يُنْقَص من ثواب حسناتهم، ولا يُزاد على عقاب سيئاتهم.

فصل


استدلوا بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة - من أصحاب الصلاة - لا يُخَلَّد في
121