تفسير سورة يس

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة يس من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة يس
آياتها ثلاث وثمانون وهي مكية
سورة يس وتسمى معمة أخرج ابن مردويه والخطيب والبيهقي عن أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" يس تدعى معمة تعم صاحبها خير الدين " وتسمى الدافعة لأنها تدفع عن صاحبها كل سوء وتسمى القاضية لأنها تقضي كل حاجة مكية وهي ثلاث وثمانون آية.

﴿ يس { ١ ﴾ } أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم عمي لا يبصرون فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ننشدك بالله والرحم يا محمد، ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس إلى قوله :﴿ أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ فلم يؤمن من ذلك النفر أحد، قرأ حمزة وأبو بكر بإمالة فتح الياء والباقون بإخلاصها وورش وأبو بكر وابن عامر والكسائي يدغمون نون الهجاء في الواو ويبقون الغنة وكذلك في ن ق القلم غير أن عامة أهل الأداء من البصريين يأخذون في مذهب ورش هناك بالبيان والباقون بإظهار النون في السورتين. ويس كسائر المقطعات في المعنى والإعراب وقيل معناه يا إنسان بلغة طي يعني به محمدا صلى الله عليه وسلم على أن صلة يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء كما قيل من الله في أيمن الله كذا روى عن ابن عباس وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وجماعة، وقال أبو العالية يا رجل وقال أبو بكر الوراق يا سيد البشر وروي عن ابن عباس أنه قسم
﴿ والقرآن الحكيم{ ٢ ﴾ } أي المحكم بعجيب النظم وبديع المعاني الواو للقسم أو العطف إن جعل يس مقسما به
﴿ إنك لمن المرسلين { ٣ ﴾ } جواب قسم. فإن قيل الغرض من الإخبار أما إفادة الحكم للمخاطب أو إفادة لازم الحكم يعني إفادة أن المتكلم عالم به وهاهنا لا يتصور شيء منهما فأي فائدة في الأخبار ؟ قلنا الغرض هاهنا إعلام الكفار ورد إنكارهم وإصرارهم حيث قالوا ﴿ لست مرسلا ﴾
﴿ على صراط مستقيم ﴾ متعلق بالمرسلين أي لمن الذين أرسلوا على صراط مستقيم وهو التوحيد والاستقامة في الأمور، أو ظرف مستقر خبر ثان لأن أوحال من المستكن في الجار والمجرور وفائدته المدح ووصف الشرع بالاستقامة صريحا وإن دل عليه ﴿ لمن المرسلين ﴾ التزاما.
﴿ تنزيل العزيز الرحيم { ٥ ﴾ } قرأ حفص وابن عامر وحمزة والكسائي بنصب تنزيل بإضمار أعني بين للصراط أو بإضمار فعله تقديره نزل يعني القرآن تنزيل العزيز في ملكه الرحيم بخلقه حيث نزل الكتاب وأرسل الرسول فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الفاعل وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي القرآن
﴿ لتنذر قوما ﴾ متعلق بتنزيل أو بمعنى قوله لمن المرسلين ﴿ ما أنذر آباؤهم ﴾ ما نافية والجملة صفة لقوم أي لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم حيث لم يبعث بمكة نبي بعد إسماعيل عليه السلام فهم أشد احتياجا إلى الرسالة من غيرهم ﴿ فهم غافلون ﴾ أي لم ينذروا فبقوا غافلين، وقيل ما موصولة أو موصوفة والمعنى لتنذر قوما بالذي أو بشيء أنذر به آباؤهم الأبعدون فيكون مفعولا ثانيا لتنذر أو مصدرية يعني لتنذر قوما إنذار آبائهم أي مثل إنذارهم وعلى هذه الوجوه قوله :﴿ فهم غافلون ﴾ متعلق بقوله إنك لمن المرسلين أي أرسلناك إليهم لتنذرهم فإنهم غافلون.
﴿ لقد حق القول على أكثرهم ﴾ يعني قوله تعالى : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴿ فهم ﴾ أي ذلك الأكثر ﴿ لا يؤمنون ﴾.
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال أبو جهل لئن رأيت محمدا لأفعلن ولأفعلن فنزلت ﴿ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ﴾ إلى قوله ﴿ لا يبصرون ﴾ فكانوا يقولون هذا محمد فيقول أين هو أين هولا يبصره، وقال البغوي نزلت في أبي جهل وصاحبه المخزوميين وذلك أن أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه فرآه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده، فلما عاد إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط قال رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له ما صنعت ؟ فقال ما رأيته ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه شيء كهيئة الفحل يخطر بذنبه ولو دنوت منه لأكلني فأنزل الله تعالى :﴿ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان ﴾
﴿ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان ﴾ أي الأغلال وأصله إلى أذقانهم فلا يخليهم يطأطئون، وقال البغوي هي كناية عن الأيدي وإن لم يجر لها ذكر لأن الغل بجمع اليد إلى العنق معناه إنا جعلنا في أيديهم وأعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان ﴿ فهم مقمحون ﴾ الفاء للسببية فإن الأغلال سبب للإقحام يعني هم رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم لا يستطيعون النظر إلى شيء، وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن ناسا من بني مخزوم تواصوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة فبينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي يسمعون قراءته أرسلوا إليه الوليد ليقتله فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلي فيه فجعل يسمع قراءته ولا يراه فانصرف إليهم فأعلمهم فأتوه فلما انتهوا إلى المكان الذي هو يصلي فيه سمعوا قراءته فيذهبون إلى الصوت فإذا الصوت من خلفهم فيذهبون إليه فيسمعونه أيضا من خلفهم فانصرفوا ولم يجدوا إليه سبيلا فذلك قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال أبو جهل لئن رأيت محمدا لأفعلن ولأفعلن فنزلت ﴿ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ﴾ إلى قوله ﴿ لا يبصرون ﴾ فكانوا يقولون هذا محمد فيقول أين هو أين هولا يبصره، وقال البغوي نزلت في أبي جهل وصاحبه المخزوميين وذلك أن أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه فرآه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده، فلما عاد إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط قال رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له ما صنعت ؟ فقال ما رأيته ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه شيء كهيئة الفحل يخطر بذنبه ولو دنوت منه لأكلني فأنزل الله تعالى :﴿ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان ﴾
﴿ وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص بفتح السين والباقون بفتحها وهما لغتان ﴿ فأغشيناهم ﴾ أي فأعميناهم من التغشية وهي التغطية ﴿ فهم لا يبصرون ﴾ الفاء للسببية، قال أهل المعاني هذا على طريق التمثيل ولم يكن هناك غل ولا سد، أراد الله سبحانه أنا منعناهم عن الإيمان بموانع فجعل الأغلال والسد مثلا لذلك فهو تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا يغني عنهم الآيات والنذر مثلهم بالذين غلت أعناقهم فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وبالذين جعل بينهم السد وبين ما يريدون رؤيته في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له ولو طأطئوا رؤوسهم فرضا يمنعهم السد عن الأبصار فهم لا يبصرون سبيل الهدى أراد إنا منعناهم عن إيذاء الرسول بحفظنا إياه، وجاز أن يكون جعلنا بمعنى نجعل أورد صيغة الماضي لتحقق الوقوع يعني نجعل في جهنم في أعناقهم أغلالا ونجعل بين أيديهم سدا وذلك بجعلهم الله تعالى في توابيت من نار
﴿ وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ سبق تفسيره في سورة البقرة.
﴿ إنما تنذر ﴾ إنذارا يترتب عليه الفائدة ﴿ من اتبع الذكر ﴾ أي القرآن بالتأمل فيه والعمل به ﴿ وخشي الرحمان ﴾ أي خاف عقابه أو المعنى إنما ينفع إنذارك لمن كان صالحا لإتباع الذكر والخشية مستعدا لذلك لم يقل وخشي القهار المنتقم للدلالة على أن الخشية مع ملاحظة صفة الرحمة كمال الخشية وعين الإيمان وأن الإيمان بين الخوف والرجاء ﴿ بالغيب ﴾ حال من فاعل خشي يعني غائبا عن عذابه قبل أن يعاينه أو غائبا عن الناس في خلوته ﴿ فبشره بمغفرة ﴾ لذنوبهم ﴿ وأجر كريم ﴾ حسن وهو الجنة
﴿ إنا نحن نحيي الموتى ﴾ عند البعث أو المراد إنا نعطي العلم والهداية بعد الجهل والضلال ﴿ ونكتب ما قدموا وآثارهم ﴾ الحسنة كعلم علموه وحبس وقفوه وسنة حسنة سنوه والسيئة كإشاعة باطل وتأسيس ظلم وتأييد كفر وبدعة ابتدعوها، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" من سن في الإسلام سنة حسنة يعمل بها من بعده فله أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة يعمل بها من بعده فإن له وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " ١ روه مسلم عن حديث جرير، وقال قوم معنى آثارهم في قوله نكتب ما قدموا ولآثارهم خطوهم إلى المساجد، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى والذي ينتظر الصلوات حتى يصليها مع إمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام " ٢ متفق عليه، وعن جابر رضي الله عنه قال : خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم :" إنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد ؟ قالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم " ٣ رواه مسلم، وروى البغوي عن أنس نحوه وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري نحوه ﴿ وكل شيء ﴾ منصوب بفعل مضمر يفسره ﴿ أحصيناه ﴾ يعني كتبناه ﴿ في إمام مبين ﴾ أي في اللوح المحفوظ.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق ثمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار﴿١٠١٧﴾..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: فضل صلاة الفجر في جماعة ﴿٦٥١﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل كثرة الخطى إلى المساجد ﴿٦٦٢﴾..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل كثرة الخطى إلى المساجد ﴿٦٦٥﴾..
﴿ واضرب لهم ﴾ أي مثل لكفار مكة من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أي مثال واحد وهو يتعدى إلى مفعولين لتضمنه معنى الجعل كأنه قيل واجعل لهم ﴿ مثلا ﴾ مفعول أول ﴿ أصحاب القرية ﴾ مفعول ثان بحذف المضاف تقديره أجعل مثلهم أصحاب القرية وهي إنطاكية أخرجه الفريابي عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن بريدة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة يعني قل حال أهل مكة مثل حال أهل إنطاكية ﴿ إذ جاءها ﴾ أي تلك القرية بدل إشتمال من أصحاب القرية ﴿ المرسلون ﴾ يعني رسل عيسى عليه السلام، قال البغوي قال العلماء بأخبار القدماء بعث عيسى عليه رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية فلما قربا من المدينة فأتيا شيخا يرعى غنمات له وهو حبيب صاحب عيسى عليه السلام فلما سلما عليه قال الشيخ لهما من أنتما ؟ فقالا رسول الله يدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادة الرحمان، فقال معكما آية قال نعم نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، فقال الشيخ إن لي ابنا مريضا منذ سنتين قالا فانطلق بنا نطلع حاله، فأتى بهما إلى منزله فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحا ففشى الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى وكان لهم ملك، قال وهب إسمه انطفس وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام قالوا فانتهى الخبر إليه فدعاهما فقال من أنتما ؟ قالا رسولا عيسى، قال وفيم جئتما ؟ قالا ندعوك من عبادة من لا يسمع ولا يبصر، إلى عبادة من يسمع ويبصر، قال ولكما إله دون آلهتنا، قالا نعم من أوجدك وآلهتك قال قوما حتى أنظر في أمركما فتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق.
قال وهب : بعث عيسى هذين الرجلين إلى أنطاكية فأتياها فلم يصلا إلى ملكها وطال مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبر أو ذكر الله فغضب الملك فأمر بهما فحبسهما وجلد كل واحد منهما مائتي جلدة، قالوا فلما كذب الرسولان وضربا بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما لينصرهما فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثم قال له ذات يوم أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما، فقال الملك حال الغضب بيني وبين ذلك، قال فإن رأى الملك، دعاهما حتى نطلع ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون من أرسلكما إلى هاهنا ؟ قالا الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال لهما شمعون صفاه وأوجزا، فقالا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، قال شمعون وما آتاكما ؟ قالا ما تتمناه فأمر الملك حتى جيء بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زال يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك فقال شمعون للملك إن أنت سألت إلهك حتى يصنع صنعا مثل هذا فيكون لك الشرف فقال الملك ليس لي عنك من سر إن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون إذا دخل الملك على الأصنام يدخل ويصلي كثيرا ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم فقال الملك للرسولين إن قدر إلهكم الذي تعبدانه على إحياء ميت أمنا به قالا إلهنا قادر على كل شيء، فقال الملك إن هاهنا ميتا مات منذ سبعة أيام ابن لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا فجاءوا بالميت وقد تغير واروح فجعلا يدعوان ربهما علانية وجعل شمعون يدعوا ربه سرا فقام الميت وقال إني قدمت منذ سبعة أيام ووجدت مشركا فأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم مما أنتم فيه فآمنوا بالله، ثم قال فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة قال الملك ومن الثلاثة ؟ قال شمعون وهذان وأشار إلى صاحبيه فتعجب الملك فلما علم شمعون أن قوله أثر بالملك أخبره بالحال فآمن الملك وآمن قوم وكفر آخرون، وقيل : إن ابنة الملك كانت توفيت ودفنت فقال شمعون للملك أطلب هذين الرجلين أن يحييا ابنتك فطلب منهما الملك ذلك فقاما وصليا ودعوا وشمعون معهما قرأ بسر فأحيا الله المرأة وانشق القبر عنها فخرجت وقالت أعلموا أنهما صادقان ولا أظنكم تسلمون ثم طلبت من الرسولين أن يرداها إلى مكانها فذرا ترابا على رأسها وعادت إلى قبرها كما كانت.
وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب بل كفر الملك وأجمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين فذلك قوله عز وجل ﴿ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ ﴾
﴿ إذ أرسلنا ﴾ بدل من إذ السابقة ﴿ إليهم اثنين ﴾ ﴿ إذ أرسلنا ﴾ بدل من إذ السابقة ﴿ إليهم اثنين ﴾ قال وهب إسمهما يحيى ويونس ﴿ فكذبوهما فعززنا ﴾ قرأ أبو بكر بالتخفيف، والباقون بالتشديد ومعناهما واحد أي فقوينا ﴿ بثالث ﴾ أي برسول ثالث وهو شمعون كذا أخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير ترك ذكر المفعول به لأن المقصود ذكر المعزز به وما لطف فيه من التدبير حتى عز الحق وزهق الباطل وإذا كان الكلام لغرض يجعل سياقه له ويرفض ما سواه، واخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال بلغني أن عيسى بعث إلى أهل القرية رجلين من الحواريين، وقال كعب الرسولان صادق وصدوق والثالث شاوم وإنما أضاف الله الإرسال إلى نفسه لأن عيسى بعثهم بأمره عز وجل ﴿ فقالوا ﴾ كلهم لأهل أنطاكية ﴿ إنا إليكم مرسلون ﴾
﴿ قالوا ﴾ أي أهل إنطاكية ﴿ ما أنتم إلا بشر مثلنا ﴾ لا مزية لكم علينا يقتضي اختصاصكم بالرسالة من الله ﴿ وما أنزل الرحمان من شيء ﴾ من وحي ﴿ إن أنتم إلا تكذبون ﴾ في دعوى الرسالة
﴿ قالوا ﴾ أي الرسل ﴿ ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ﴾ استشهدوا بعلم الله وهو يجري مجرى القسم ولذلك من قال الله يعلم إني فعلت كذا وهو كاذب كان غموسا وزادوا اللام المؤكدة لأنه جواب عن إنكارهم دون الأول
﴿ وما علينا إلا البلاغ المبين ١٧ ﴾ الظاهر البين بالآيات الشاهدة لصحته كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى يعنون أن إنكارهم لا يضرنا بعدما كان علينا من أداء التبليغ وإنما هو يعود عليكم بالمضرة.
ولما حبس الله عنهم المطر بتكذيبهم الرسل ﴿ قالوا إنا تطيرنا بكم ﴾ يعنون أن ما نزل بنا إنما هو بشؤمكم وذلك لاستغرابهم ما ادعوه واستقباحهم له وتنفرهم عنه فإن عادة الجهال أن يتمنوا كل شيء مالت إليه طباعهم ويتشاءموا ما كرهوه ﴿ لئن لم تنتهوا ﴾ عما تقولون ﴿ لنرجمنكم ﴾ بالحجارة ونقتلنكم ﴿ وليمسنكم منا عذاب أليم ﴾
﴿ قالوا طائركم ﴾ أي سبب شؤمكم ﴿ معكم ﴾ وهو كفركم، وقال ابن عباس حظكم من الخير والشر معكم لا ينفك عنكم ﴿ أئن ذكرتم ﴾ وعظتم به وجواب الشرط محذوف والاستفهام للإنكار يعني أن وعظتم تطيرتم بنا وتوعدتمونا بالرجم لا ينبغي ذلك بل كان ينبغي الاتعاظ والامتنان، قرأ أبو جعفر بفتح الهمزة الثانية وذكرتم بالتخفيف تقديره أتطيرتم وتوعدتم لأن ذكرتم ﴿ بل أنتم قوم مسرفون ﴾ أي قوم عادتكم الإسراف في العصيان ومنها التشاؤم برسل الله والواجب التبرك بهم.
﴿ وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى ﴾ وهو حبيب النجار أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة وقال السدي كان قصارا وقال وهب كان حبيب رجلا يعمل الحرير وكان سقيما وقد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند أقصي باب من أبواب المدينة وكان مؤمنا ذا صدق يجمع كسبه إذا أمسى فقسم نصفين على عياله ويتصدق نصفه فلما بلغه أن قومه قصدوا قتل الرسل جاءهم و﴿ قال يا قوم اتبعوا المرسلين ﴾
﴿ اتبعوا من لا يسئلكم أجرا ﴾ على تبلغ الرسالة الجملة تأكيد للأول أو بدل يشتمل فائدة زائدة ﴿ وهم مهتدون ﴾ إلى خير الدارين.
﴿ ومالي لا أعبد الذي فطرني ﴾ ما استفهامية مبتدأ والظرف خبر له ولا أعبد حال من ضمير المتكلم والجملة معطوفة على قوله :﴿ يا قوم اتبعوا المرسلين ﴾ وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم وفيه تلطف في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإنما في النصح حيث أراد لهم ما أراد لنفسه والمراد تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال ﴿ وإليه ترجعون ﴾ مبالغة في التهديد ثم عاد إلى السياق الأولى فقال ﴿ أأتخذ ﴾ الآية وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال كان حبيب في الغار يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل أتاهم يعني قومه فأظهر دينه وقال :﴿ يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ﴾ فلما قال ذلك قالوا له وأنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل فقال :﴿ ومالي لا أعبد الذي فطرني ﴾ أي خلقني ﴿ وإليه ترجعون ﴾ قرأ حمزة ويعقوب مالي بسكون الياء والباقون بفتحها، قيل أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم لأن الفطرة أثر النعمة وكان عليه إظهاره وفي الرجوع معنى الزجر فكان أليق بهم، قيل إنه لما قال اتبعوا المرسلين أخذوه فرفعوه إلى الملك فقال له الملك أفأنت تتبعهم فقال ومالي لا أعبد الذي فطرني يعني أي شيء لي إذا لم أعبد خالقي ﴿ وإليه ترجعون ﴾ عند البعث فيجازيكم اتخذ استفهام إنكار أي لا أتخذ ﴿ من دونه ﴾ أي دون الذي فطرني ﴿ آلهة إن يردني الرحمان بضر لا تغن عني ﴾ أي لا تنفعني ﴿ شفاعتهم ﴾ والتي تزعمونها ﴿ شيئا ﴾ من الإغناء ﴿ ولا ينقذون ﴾ قرأ ورش بإثبات الياء في الوصل والباقون بالحذف في الحالين أي لا ينقذوني من عذاب الله إن عذبني وفي نفي الإغناء عن الشفاعة في دفع الضرر والإنقاذ من العذاب مبالغة في نفي النفع عن شفاعتهم مطلقا فإن قبول الشفاعة لدفع الضر أقرب من قبولها لنيل الرحمة والجملة الشرطية صفة لآلهة
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:﴿ ومالي لا أعبد الذي فطرني ﴾ ما استفهامية مبتدأ والظرف خبر له ولا أعبد حال من ضمير المتكلم والجملة معطوفة على قوله :﴿ يا قوم اتبعوا المرسلين ﴾ وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم وفيه تلطف في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإنما في النصح حيث أراد لهم ما أراد لنفسه والمراد تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال ﴿ وإليه ترجعون ﴾ مبالغة في التهديد ثم عاد إلى السياق الأولى فقال ﴿ أأتخذ ﴾ الآية وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال كان حبيب في الغار يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل أتاهم يعني قومه فأظهر دينه وقال :﴿ يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ﴾ فلما قال ذلك قالوا له وأنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل فقال :﴿ ومالي لا أعبد الذي فطرني ﴾ أي خلقني ﴿ وإليه ترجعون ﴾ قرأ حمزة ويعقوب مالي بسكون الياء والباقون بفتحها، قيل أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم لأن الفطرة أثر النعمة وكان عليه إظهاره وفي الرجوع معنى الزجر فكان أليق بهم، قيل إنه لما قال اتبعوا المرسلين أخذوه فرفعوه إلى الملك فقال له الملك أفأنت تتبعهم فقال ومالي لا أعبد الذي فطرني يعني أي شيء لي إذا لم أعبد خالقي ﴿ وإليه ترجعون ﴾ عند البعث فيجازيكم اتخذ استفهام إنكار أي لا أتخذ ﴿ من دونه ﴾ أي دون الذي فطرني ﴿ آلهة إن يردني الرحمان بضر لا تغن عني ﴾ أي لا تنفعني ﴿ شفاعتهم ﴾ والتي تزعمونها ﴿ شيئا ﴾ من الإغناء ﴿ ولا ينقذون ﴾ قرأ ورش بإثبات الياء في الوصل والباقون بالحذف في الحالين أي لا ينقذوني من عذاب الله إن عذبني وفي نفي الإغناء عن الشفاعة في دفع الضرر والإنقاذ من العذاب مبالغة في نفي النفع عن شفاعتهم مطلقا فإن قبول الشفاعة لدفع الضر أقرب من قبولها لنيل الرحمة والجملة الشرطية صفة لآلهة
﴿ إني ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ إذا ﴾ أي إذا اتخذ ما لا ينفع ولا يضر بوجه ما آلهة من دون من فطرني وهو يقدر على النفع والضر ﴿ لفي ضلال مبين ﴾ ظاهر لا يخفى على من له أدنى تميز كونه ضلالا، والجملة تعليل للإنكار على اتخاذ الآلهة
﴿ إني ﴾ قرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ آمنت بربكم ﴾ الذي خلقكم أيها القوم أو أيها الملك ﴿ فاسمعون ﴾ أي فاسمعوا إيماني فعلى هذا هذه الآية من تتمة النصح فأن القوم إذا قيل لهم اتبعوا المرسلين كأنهم قالوا هل آمنت أنت بهم فقال إني آمنت بربكم فاسمعوا إيماني ولو لم يكن هذا خيرا ما استأثرت به لنفسه وأضاف الرب إلى المخاطبين ولم يقل آمنت بربي ليكون أدعى لهم إلى الإيمان.
قال البغوي : فلما قال ذلك وثب القوم وثبة رجل واحد فقتلوه قال ابن مسعود وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبة من دبره، وقال السدي كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول اللهم اهدي قومي حتى قطعوه وقتلوه، وقال الحسن خرقوا خرقا في حلقه فعلقوه من سور المدينة وقبره بأنطاكيا فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق يعني حياة الشهداء، وقيل الخطاب للرسل فإنه لما رأى أنه يقتل استشهد الرسل على إيمانه قبل أن يموت والتقدير فقال للرسل إني آمنت
﴿ قيل ﴾ يعني قال الله تعالى لحبيب البخار رضي الله عنه لما استشهد إكراما وإذنا في دخول الجنة كسائر الشهداء ﴿ ادخل الجنة ﴾ وقيل قال الله تعالى ذلك له قبل موته يعني ادخل قبرك الذي هو روضة من رياض الجنة وإنما لم يقل وقيل له أن الغرض بيان المقول دون المقول له فإنه معلوم والكلام فيه والجملة مستأنفة في خير الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربه بعد تصلبه في نصر دينه والله أعلم.
ولما أفضى حبيب إلى الجنة ﴿ قال ﴾ ﴿ يا ليت قومي يعلمون { ٢٦ ﴾ بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } ما موصولة أو مصدرية والباء متعلق بيعلمون أي يعلمون بالذي غفر لي ربي به أو بغفران ربي إياي أو استفهامية والباء متعلق بغفر أي بأي شيء غفر لي يريد به الإيمان والمصابرة على إيذاء الكافرين وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم على اكتساب الإيمان والطاعة على دأب الصالحين في كظم الغيظ والترحم على الأعداء أو ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره وأنه كان على حق.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:﴿ قيل ﴾ يعني قال الله تعالى لحبيب البخار رضي الله عنه لما استشهد إكراما وإذنا في دخول الجنة كسائر الشهداء ﴿ ادخل الجنة ﴾ وقيل قال الله تعالى ذلك له قبل موته يعني ادخل قبرك الذي هو روضة من رياض الجنة وإنما لم يقل وقيل له أن الغرض بيان المقول دون المقول له فإنه معلوم والكلام فيه والجملة مستأنفة في خير الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربه بعد تصلبه في نصر دينه والله أعلم.
ولما أفضى حبيب إلى الجنة ﴿ قال ﴾ ﴿ يا ليت قومي يعلمون ﴿ ٢٦ ﴾ بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ﴾ ما موصولة أو مصدرية والباء متعلق بيعلمون أي يعلمون بالذي غفر لي ربي به أو بغفران ربي إياي أو استفهامية والباء متعلق بغفر أي بأي شيء غفر لي يريد به الإيمان والمصابرة على إيذاء الكافرين وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم على اكتساب الإيمان والطاعة على دأب الصالحين في كظم الغيظ والترحم على الأعداء أو ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره وأنه كان على حق.

قال البغوي : فلما قتل حبيب غضب الله عليهم وعجل لهم النقمة فأمر جبرئيل فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم وذلك قوله تعالى :
﴿ وما أنزلنا على قومه ﴾ أي : قوم حبيب ﴿ من بعده ﴾ من زائدة أي : بعد إهلاكه ﴿ من جند من السماء ﴾ من الأولى زائدة لتأكيد النفي، والثانية للابتداء يعني ما أنزلنا إلا هلاكهم جندا من الملائكة كما أرسلنا يوم بدر والخندق، بل كفينا أمرهم بصيحة ملك، وفيه استحقاره هلاكهم وإيماء بتعظيم الرسول عليه السلام. ﴿ وما كنا منزلين ﴾ : ما نافية أي : ما كان شأننا في إهلاك قوم إنزال جند فإن الأمر أيسر من ذلك، وإنما أنزلنا الأجناد لنصرك بشارة وإكراما لك وتسكينا لقلبك قال الله تعالى :﴿ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله ﴾١ وقيل : ما موصولة معطوفة على جند يعني ما أنزلنا على قومه ما كنا منزلين على من قبلهم من حجارة أو ربح أو أمطار شديدة.
١ سورة الأنفال، الآية: ١٠..
﴿ إن كانت ﴾ أي : ما كانت الأخذة أو العقوبة ﴿ إلا صيحة واحدة ﴾ صاح بها جبرئيل، قرأ الجمهور بالنصب على أنه خبر كان، وأبو جعفر بالرفع جعل الكون تامة بمعنى الوقوع، قال البغوي : قال المفسرون : أخذ جبرئيل بعضا وأتى باب المدينة ثم صاح صيحة واحدة، ﴿ فإذا هم خامدون ﴾ أي : ميتون شبهوا بالنار ؛ لأن الحياة يتعلق بالحرارة الغريزية فإذا خمدت الحرارة الغريزية مات. وجملة ما أنزلنا عطف على قوله ﴿ وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى ﴾. وجملة ما كنا منزلين معترضة، وجملة إن كانت إلا صيحة تعليل، والفاء للسببية يعني فاجئت الصيحة وقت خمودهم.
﴿ يا حسرة على العباد ﴾ : الظرف صفة للحسرة وجعلت الحسرة منادى تنبيها للمخاطبين على وجوب الحسرة عليهم وتنكيرها للتعظيم، كأنه قيل يا حسرة أي : حسرة تعالى فهذه من الأحوال التي من حقها أن تحضري فيها وهي ما دل عليه ﴿ ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون ﴾، استثناء مفرغ حال من الضمير المنصوب أومن رسول أو منهما، والاستثناء يعني الشرط والجزاء يعني كلما يأتيهم رسول يستهزؤون به، والجملة تعليل للحسرة فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء أن يتحسروا وأن يتحسر عليهم المتحسرون، ويتلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين، ويجوز أن يكون تحسرا من الله عليهم على سبيل الاستعارة لتعظيم جنايتهم على أنفسهم، ويؤيده قراءة يا حسرتا، وقيل المنادى محذوف وحسرة منصوب بفعل مقدر تقديره يا أيها المخاطبون تحسروا حسرة على العباد، والحسرة : شدة الحزن والندامة، قال البغوي : فيه قولان : أحدهما يقول الله : يا حسرة وندامة وكآبة على العباد يوم القيامة لما لم يؤمنوا بالرسل، والآخر أنه من قول الهالكين، قال أبو العالية : لما عاينوا العذاب قالوا : يا حسرة على العباد، واللام في العباد للعهد، والمراد بهم أهل أنطاكية أو كل من لم يؤمن بالرسل واستهزأ بهم فهو تعريض لأهل مكة.
﴿ ألم يروا ﴾ : ألم يعلموا وهو معلق عن قوله :﴿ كم أهلكنا قبلهم من القرون ﴾ ؛لأن كم لا يعمل فيما قبلها وإن كانت خبرية ؛لأن أصلها الاستفهام فهو يستدعي صدر الكلام، والضمير في لم يروا لأهل مكة. ﴿ أنهم إليهم لا يرجعون ﴾ : بدل اشتمال من كم على المعنى أي : ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم ألم يروا أنهم غير راجعين إليهم، ولما كان في قوله :﴿ أنهم إليهم لا يرجعون ﴾ إيهاما إلى أن الموتى لا يرجع أبدا ندفع ذلك الوهم قا ل تعالى :﴿ وإن كل لما جميع لدينا محضرو ﴾ ( ٣٢ )
﴿ وإن كل لما جميع لدينا محضرون ( ٣٢ ) ﴾يوم القيامة، قرأ عاصم وحمزة " لما " بالتشديد هاهنا وفي الزخرف والطارق وأخفها ابن عامر إلا في الزخرف في رواية ابن ذكوان ووافق أبو جعفر في الطارق، والباقون بالتخفيف. فمن قرأ بالتشديد فإن نافية " ولما " بمعنى إلا ومن قرأ بالتخفيف فإن مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة وما مزيدة للتأكيد وجميع فعيل بمعنى مفعول ولدينا ظرف له أو لمحضرون.
﴿ وآية لهم الأرض الميتة ﴾ : قرأ نافع بالتشديد ﴿ أحييناها ﴾ : بالمطر خبر للأرض والجملة خبر آية وصفة للأرض، إذ لم يرد بها معينة فهو كقوله ولقد أمر على اللئيم يسبني، و﴿ الأرض ﴾مبتدأ خبرها﴿ آية ﴾أو خبر لكونها نكرة و﴿ الآية ﴾ مبتدأ والجملة معطوفة على قوله :﴿ وإن كل لما ﴾، وجاز أن يكون﴿ أحييناها ﴾ استئنافا لبيان كونها آية ﴿ وأخرجنا منها حبا ﴾ : جنس الحب كالحنطة والشعير ونحو ذلك ﴿ فمنه ﴾ أي : من الحب ﴿ يأكلون ﴾ قدم الصلة للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به،
﴿ وجعلنا فيها جنات ﴾ : بساتين ﴿ من نخيل وأعناب ﴾ أي : من أنواع النخيل والعنب، ولذلك جمعهما دون الحب فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف ولا كذلك وذكر النخيل دون التمر ليطابق الحب والأعناب لاختصاص النخيل بمزيد النفع وآثار الصنع ﴿ وفجرنا فيها ﴾ : في الأرض ﴿ من العيون ﴾ أي : شيئا من العيون فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه عند الأخفش من زائدة.
﴿ ليأكلوا ﴾ : متعلق بفجرنا ﴿ من ثمره ﴾ أي : ثمر ما ذكر وهو الجنات، وقيل : الضمير لله على طريقة الإلتفات والإضافة إليه ؛لأن الثمر بخلقه. قرأ حمزة والكسائي :﴿ ثمره ﴾بضمتين وهو لغة فيه أو جمع ثمار ﴿ وما عملته ﴾ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عملت بغيرها ﴿ أيديهم ﴾ : عطف على ﴿ ثمره ﴾و﴿ ما ﴾ موصولة والمراد : ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما وقيل :﴿ ما ﴾ نافية والمراد : أن الثمر بخلق الله تعالى بفعلهم ويؤيد الأول قراءة الكوفيين بلا هاء ؛فإن حذفه من الصلة أحسن عن غيرها ﴿ أفلا يشكرون ﴾ : الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره : أينكرون إنعام الله فلا يشكرون وحيث كان إنكارا على ترك فهو أمر بالشكر.
﴿ سبحان الذي خلق الأزواج ﴾ أي : الأنواع والأصناف ﴿ كلها مما تنبت الأرض ﴾ من النبات والشجر ﴿ ومن أنفسهم ﴾ أي : الذكر والأنثى ﴿ ومما لا يعلمون ﴾ أي : ما خلق الله في البحر والبر ولم يطلع عليها أحدا.
﴿ وآية لهم ﴾ على قدرتنا ﴿ الليل نسلخ منه النهار ﴾ أي : ننزع ونكشط، وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها بطلوع الشمس فإذا غربت فكأنه مسلخ النهار من الليل وظهرت الظلمة فانسلخ هاهنا مستعار من سلخ الجلد، والكلام في إعرابه مثل ما سبق في قوله تعالى :﴿ آية لهم الأرض الميتة ﴾، ﴿ فإذا هم مظلمون ﴾ : عطف على نسلخ منه النهار فغاصوا وقت كونهم داخلين في الظلمة يعني يذهب بالنهار ويجيء بالليل.
﴿ والشمس ﴾ عطف على الليل ﴿ تجري ﴾ في فلكها مثل جري الحوت في الماء صفة للشمس بناء على تنكيره أو مبتدأ وخبر والجملة معترضة لبيان سبب وجود الليل والنهار ﴿ لمستقر لها ﴾ مصدر ميمي أو ظرف يعني تجري لاستقرار لها على نهج مخصوص أو لموضع استقرارها وهي منتهى دورها تشبهت بالمسافر إذا قطع مسيره أو مستقرها كبد السماء قبيل الزوال فإن حركتها توجد أبطأ بحيث يظن أن لها هناك وقفة أو مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء، أو لمنتهى مقدر بكل يوم من المشارق والمغارب فإن لها في دورها ثلاث مائة وخمسا وستين مشرقا ومغربا تطلع كل يوم من مطلع وتغرب في مغرب ثم لا تعود إليهما إلى العام القابل أو لمنقطع جريها عند خراب الدنيا، وهذه التأويلات كلها مبنية على أنها في ظاهر الحال لا تستقر في وقت من الأوقات ويدل عليه قراءة ابن مسعود ما رواه البغوي عن عمر بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ :﴿ والشمس تجري لمستقر لها ﴾ لكن ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مستقرها تحت العرش " رواه البخاري في الصحيح، وروى البغوي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين غربت الشمس أتدري أين تذهب هذه ؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد ولا تقبل منها وتستأذن في يؤذن لها ويقال ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى :﴿ والشمس تجري لمستقر لها ﴾ قال :" مستقرها تحت العرش " ١ متفق عليه.
ومعنى الحديث والله أعلم أن الشمس بعد غروبها قبل طلوعها تحت العرش فيؤذن لها في الطلوع من جانب المشرق فتطلع ويوشك أن لا يؤذن لها بالطلوع من المشرق بل يؤذن لها بالطلوع من المغرب فحينئذ نطاع من مغربها وهي آية من آيات الساعة، لا يقال إن مقدار الليل من وقت غروبها إلى طلوعها يتفاوت بتفاوت الأقاليم حتى إن تحت القطب الشمالي من وراء بلغار إذا كانت الشمس عند رأس السرطان يكون الليل بحيث لا يكون هناك وقت العشاء بل بعد غروب الشمس إذا غاب الشفق من جانب طلع الصبح من جانب فأي وقت يتصور فيه الشمس ذاهبة تحت العرش ساجدة، قلت : ليس المراد أن الشمس تدوم ساجدة من وقت غروبها إلى وقت طلوعها فجاز أن يكون وقت من الأوقات يكون ظلمة الليل شاملة لجميع الأقاليم وذلك عند منصفها وحينئذ يذهب الملائكة الموكلون على الشمس بها إلى تحت العرش فتخر هناك ساجدة ثم يؤذن لها بالطلوع واختلاف مقدار الليل باختلاف الأقاليم إنما يتعلق باختلاف مبدأ الليل ومنتهاه والله أعلم، والقول بأن الحديث من المتشابهات أو أن المراد بالسجود هو الإنقياد أو نحو ذلك يأباه سياق الحديث ﴿ ذلك ﴾ الجري على هذا التقدير المتضمن للحكمة التي يكل الفطن عن إحصائها ﴿ تقدير العزيز ﴾ الغالب بقدرته على كل مقدور ﴿ العليم ﴾ المحيط علمه بكل معلوم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم{٣٨﴾} ﴿٤٨٠٣﴾، أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان ﴿١٥٩﴾..
﴿ والقمر قدرناه ﴾ أي قدرنا مسيره ﴿ منازل ﴾ أو قدرنا سيره في منازله قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والقمر بالرفع على أنه معطوف على الشمس يعني آية لهم الليل وآية لهم الشمس وآية لهم القمر والجملة الواقعة بعدها كالجملة الواقعة بعد الشمس وقرأ الباقون بالنصب بإضمار فعل فسره بقوله :﴿ قدرناه منازل ﴾ وهي ثمانية وعشرون منزلا، ينزل كل ليلة في واحدة منها لا يتخطئه ولا يتقاصر عنه فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس ﴿ حتى عاد كالعرجون ﴾ أي الشمراخ المعوج فعلون من الإنعراج بمعنى الإعوجاج ﴿ القديم ﴾ العتيق قيل ما هي عليه حول فصاعدا ثم يكون القمر تحت شعاع الشمس في المحاق
﴿ لا الشمس ينبغي لها ﴾ أي يصح لها ويتيسر ﴿ أن تدرك القمر ﴾ قال البيضاوي أي في سرعة سيره وهذا مبني على ما قالت الفلاسفة إن القمر أسرع سيرا من الشمس فإن دورها يتم في شهر ودور الشمس يتم في سنة وعندي الأمر بالعكس كما سنبين إن شاء الله تعالى فالأولى أن لا يقيد السير بالسرعة بل يقال الشمس لا تدرك القمر في سيره المخصوص حتى يتحد سيرهما فإن ذلك يخل بتكون النباتات وتعيش الحيوانات أوفي آثاره ومنافعه أو مكانه بالنزول إلى محله أو سلطانه فتطمس نوره، قلت : وجاز أن يكون المراد بالشمس النهار وبالقمر الليل وهذا يستقيم المقابلة يعني لا ينبغي للنهار أن يدرك الليل أي يسبقها ﴿ ولا الليل سابق النهار ﴾ أي هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته كذا تستفاد من كلام البغوي ﴿ وكل ﴾ التنوين عوض المضاف إليه أي كل واحد منهما، وقال البيضاوي تقديره كلهم والضمير للشموس والأقمار فإن اختلاف الأحوال يوجب تعددا ما في الذات ولو بالاعتبار أو إلى الكواكب فإن ذكرهما مشعر بها ﴿ وفي فلك ﴾ واحد من الأفلاك وهي السماء الدنيا بدليل قوله تعالى :﴿ زينا السماء الدنيا بمصابيح ﴾١ ﴿ يسبحون ﴾ كما يسبح السمك في الماء.
وهذا صريح في أن الشمس والقمر والكواكب سائرة في الفلك بقسر قاسرة من الملائكة أو بالإرادة لا أنها مرتكزة في السماء كالمسامير لا تتحرك إلا بتحرك السماء حركة وضعية كما يقول به الفلاسفة بناء على أن السباحة يستلزم الخرق والالتئام وزعموا أنه محال، فاستدلوا بتعدد الحركات للكواكب على تعدد السماوات على حسب تعدد الحركات فقالوا السماوات تسعة كلها منطبقة بعضها على بعض مثل قشور البصل وقالوا السماء التاسع الذي هو حاد للجميع يتحرك من المشرق إلى المغرب على منطقة وقطبين بحيث يتم دائرة سيره في كل يوم وليلة مرة تقريبا وسائر. . . . . . السماوات تسير بسيره قسرا ولكل منها حركة بالطبع من المغرب إلى المشرق على منطقة أخرى وقطبين آخرين ويحصل التقاطع بين الأقطاب الأربعة قطبي فلك الثوابت وقطبي فلك الأفلاك والشمس يلازم لمنطقة فلك الثوابت وينقسم منطقة فلك الثوابت إلى إثني عشر حصة يسمون كل حصة منها برجا ويسمون ذلك الفلك فلك البروج، قالوا ذلك لما رأوا أن الكواكب لا يتم دائرة سيرها في يوم وليلة، ولما رأوا أن الكواكب كلها غير السبعة التي يسمونها سيارات لا يختلف نسبة بعضها مع بعض قط وأن سيرها ينقص من الدائرة في اليوم والليلة قليلا غاية القلة جدا حكموا بأن كلها مرتكزة في فلك واحد وهي السماء الثامنة فلك البروج وإن سيرها كان لا سير ولذا سموها ثوابت وفلكها فلك الثوابت، ولما رأوا السبعة ينقص سيرها في اليوم والليل من الدائرة نقصانا ظاهرا بحيث يرون القمر يسير في ثلاثين يوما أو تسعة وعشرون دائرة والشمس تسير في ثلاث مائة وخمس وستين يوما ثلاث مائة وأربعا وستين دائرة وهكذا أن أفلاكها سبعة كلها سائرة من المغرب إلى المشرق ولأجل ذلك يرى سيرها في اليوم والليلة ناقصة من الدائرة وكلما رأوا نقصان سيرها من الدائرة أزيد حكموا بكون سيرها أسرع فقالوا فلك القمر أسرع سيرا فإن سيرها إلى المشرق يقطع الدائرة في شهر وفلك الشمس يقطع في سنة ثلاث مائة وخمس وستين يوما وهكذا حكموا في سائر السيارات، ولما رأوا خمسا من الكواكب العطارد والزهرة والمشتري والمريخ والزحل تارة سيرها أزيد من دائرة وتارة أنقص من دائرة وتارة سيرها دائرة تامة لا زائد ولا ناقص سموها خمسة متحيرة وأثبتوا لها تدويرات سير أعلاها يخالف سيرا سفلها كل ذلك بين في علم الهيئة.
ولما دلت النصوص القطعية على أن عدد السماوات سبع لا مزيد عليها بحيث يكفر جاحدها وعلى جواز الخرق والالتئام على الأفلاك بحيث يكفر جاحدها أيضا بل على وقوعها حيث قال الله تعالى :﴿ إذا السماء انشقت ﴾ ﴿ إذا السماء انفطرت ﴾ ﴿ وانشق القمر ﴾٢ ونحو ذلك، ودلت الأحاديث الصحيحة على أن السماوات غير منطبقة بعضها على بعضها بل بين كل منها مسافة بعيدة بحيث يفسق جاحدها روى أحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا حديثا طويلا وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعدما بين الأرض والسماء وبين كل سماءين خمس مائة سنة " ٣ وروى الترمذي وأبو داوود عن العباس بن عبد المطلب مرفوعا حديثا طويلا ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعدما بين الأرض والسماء وبين كل سمائين إما واحدة وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة " ٤ ولعل اختلاف ذلك باعتبار اختلاف سير السائرين سرعة وبطوءا وجب القول ببطلان علم الهيئة وبأن من اعتقدها يخاف عليه الكفر بالكتاب والسنة وإذا ظهر جواز الخرق والالتئام في السماوات لا مانع أن يقال أن الكواكب كلها في السماء الدنيا كما ينطق به قوله تعالى :﴿ وزينا السماء الدنيا بمصابيح ﴾٥ وإن كلا منها في فلك يسبحون وأن سير أكثرها على مقدار واحد قريبا من الدائرة التامة وسير سبعة فيها على مقادير مختلفة على حسب ما يرى ولا مانع من القول بأن الخمسة تارة يسير زائدا وتارة ناقصا على حسب إرادة الله تعالى وهي الخنس الجواري الكنس والله أعلم بحقيقة الحال
١ سورة فصلت، الآية: ١٢..
٢ سورة القمر الآية: ١..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب : تفسير القرآن، باب : ومن سورة الحديد ﴿٣٢٩٨﴾
.

٤ أخرجه الترمذي في كتاب : تفسير القرآن، باب : ومن سورة الحاقة ﴿٣٣٢٠﴾، وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة، باب : في الجهمية ﴿٤٧١٠﴾.
.

٥ سورة فصلت، الآية: ١٢..
﴿ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم ﴾ قرأ أهل المدينة والشام ويعقوب ذرياتهم بالجمع وكسر التاء والباقون ذريتهم على الإفراد بفتح التاء ﴿ في الفلك المشحون ﴾ أي المملوء، الظاهر أن المراد بالذرية أولادهم الذين يتبعونهم إلى تجاراتهم أو صبيانهم ونساؤهم الذين يستصحبونهم فإن الذرية يطلق عليهن لأنهن تراعها، ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم " رأى امرأة مقتولة فقال ما كانت هذه تقاتل بالحق خالدا فقل له لا تقتل ذرية ولا عسيفا " ١ والمراد بالذرية في هذا الحديث النساء لأجل المرأة المقتولة وفي حديث عمر " حجوا بالذرية لا تأكلوا أرزاقها وتذروا أرباقها في أعناقها " أي حجوا بالنساء كذا في النهاية، والمراد بالفلك السفائن الصغار والكبار وتخصيص الذرية بالذكر لأن استقرارهم في السفن أشق وتماسكهم فيها أعجب، وقال الغوي المراد به سفينة نوح عليه السلام والمراد بالذرية الآباء واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد، وقال البيضاوي وعلى تقدير أن يراد بالفلك سفينة نوح عليه السلام معنى الآية أن الله تعالى حمل آباءهم وحملهم وذريتهم في أصلابهم وتخصيص الذرية بالذكر لأنه أبلغ في الإمتنان وأدخل في التعجب مع الإيجاز
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في قتل النساء ﴿٢٦٦٧﴾، وأخرجه لبن ماجه في كتاب: الجهاد، باب: الفارة والبيات وقتل النساء والصبيان ﴿٢٨٤٢﴾.
﴿ وخلقنا لهم من مثله ﴾ أي مثل الفلك مطلقا أو مثل ذلك نوح ﴿ ما يركبون ﴾ من الإبل فإنها سفائن البر أو من الفلك والسفن والرواق على هيئة سفينة نوح
﴿ وإن نشأ نغرقهم ﴾ مع اتخاذ السفائن ﴿ فلا صريخ لهم ﴾ جزاء لشرط محذوف تقديره وإن نغرقهم فلا صريخ لهم أي لا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق أو فلا استغاثة كقولهم أتاهم الصريخ ﴿ ولا هم ينقدون ﴾ عطف على لا صريخ لهم أي لا ينجون من الغرق، قال ابن عباس ولا أحد ينقذهم من عذابي
﴿ إلا رحمة منا ومتاعا ﴾ استثناء مفرغ منصوب على العلية لا ينقذون لشيء إلا لرحمة منا ولتمتيع ﴿ إلى حين ﴾ أي : زمان قدر لآجالهم.
﴿ وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم ﴾ قال ابن عباس :﴿ ما بين أيديكم ﴾يعني الآخرة فاعملوا لها﴿ وما خلفكم ﴾يعني الدنيا فاحذروها ولا تغتروا، وقيل ﴿ ما بين أيديكم ﴾يعني وقائع الله فيما قبلكم من الأمم وما خلفكم عذاب الآخرة وهو قول قتادة، وقيل المراد به نوازل السماء ونوائب الأرض كقوله تعالى :﴿ أولم يروا ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ﴾١ وقيل المراد به عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وقيل عكسه وقيل ما تقدم من الذنوب وما تأخر ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ أي : لتكونوا راجين رحمة الله وجواب إذا محذوف تقديره إذا قيل لهم اتقوا أعرضوا بقرينة قوله تعالى :﴿ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم ﴾.
١ سورة سبأ، الآية: ٩..
﴿ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم ﴾ من الأولى زائدة لتأكيد النفي والثانية للتبعيض ﴿ إلا كانوا عنها معرضين ﴾ استثناء مفرغ مثل قوله :﴿ إلا كانوا به يستهزؤون ﴾ هذه الآية في مقام التعليل لما سبق يعني إذا قيل لهم اتقوا أعرضوا ؛لأنهم اعتادوا وتمرنوه والجملة الشرطية أعني قوله وإذا قيل لهم مع ما عطف عليه أعني وما تأتيهم من آية عطف على قوله :﴿ وما يأتيهم من رسول ﴾
﴿ وإذا قيل لهم ﴾ عطف على الشرطية السابقة يعني كان المؤمنون يقولون لكفار مكة ﴿ أنفقوا ﴾ على المساكين ﴿ مما رزقكم الله ﴾ من الأموال ﴿ قال الذين كفروا ﴾ فيه وضع المظهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بكفرهم ﴿ للذين امنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ﴾ يعني أن الله لم يرزقهم مع قدرته عليه فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعمهم " قيل قاله مشركوا قريش حين استطعمهم فقراء المؤمنين أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن وعبد وبن حميد وابن المنذر عن إسماعيل بن خالد " وهذا قول باطل فإن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم إبتلاء فمنع الدنيا من الفقير لا بخلا وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ما لهم ولكن ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له في مال الغني ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه ولا يدرك العقول كل حكمة في أفعاله ﴿ إن أنتم إلا في ضلال مبين ﴾ حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله ويجوز أن يكون جوابا لهم من الله تعالى أو حكاية لجواب المؤمنين لهم.
﴿ ويقولون متى هذا الوعد ﴾ أي : القيامة والبعث عطف على الشرطية السابقة إستفهام إستبطاء ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في الأخبار بإتيانه جواب الشرط محذوف يعني فأنبئونا عن وقت إتيانه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
﴿ ما ينظرون ﴾ حال من فاعل يقولون يعني يقولون ذلك في حال ما ينتظرون ﴿ إلا صيحة واحدة ﴾ : إستثناء مفرغ منصوب على المفعولية، قال ابن عباس يريد به النفخة الأولى فإن قيل إن الكفار لم يكونوا يعتقدون النفخة فكيف ينتظرونها ؟ قلنا : هذه الآية كناية عن عدم تركهم المعاصي أبدا حتى يموتون أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون فإنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه قبل ذلك فكأنهم ينتظرون لأجل ترك المعاصي صيحة الصعق ﴿ تأخذهم ﴾ صفة لصيحة واحدة الضمير راجع إلى الناس المفهوم مما سبق وكذا كل ضمير بعده ﴿ وهم يخصمون ﴾ : حال من الضمير المنصوب في تأخذهم أي يختصمون في أمور الدنيا من متاجرهم ومعاملاتهم لا يخطر ببالهم شيء من إتيانها، أصله يختصمون فسكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لا التقاء الساكنين على قراءة عاصم وابن ذكوان والكسائي، وقرأ ابن كثير وورش وهشام ويعقوب بفتح الخاء بنقل حركة التاء إلى الخاء والإدغام وقرأ قالون وأبو عمرو باختلاس فتحة الخاء وتشديد الصاد وقرأ قالون أيضا وأبو جعفر بإسكان الخاء كأنهما جوزا التقاء الساكنين إذا كان الثاني مدغما، أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعان ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها " ١ وأخرج الفريابي عنه في هذه الآية قال تقوم الساعة والناس في أسواقهم يتبايعون ويذرعون الثياب ويحلبون اللقاح وفي حوائجهم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، ﴿٦٥٠٦﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قرب الساعة ﴿٢٩٥٤﴾..
﴿ فلا يستطيعون ﴾ عطف على تأخذهم ورابط الموصوف محذوف تقديره فلا يستطيعون بعدها والفاء للسببية ﴿ توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ﴾ وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن الزبير بن العوام قال إن الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب والرجل يحلب الناقة ثم قرأ :﴿ لا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ﴾ يعني لا يقدرون على أن يوصوا في شيء من أمورهم ولا أن يرجعوا إلى أهلهم فيروا حالهم بل يموتون حيث يسمعون الصيحة.
﴿ ونفخ في الصور ﴾ أي ينفخ، ذكر صيغة الماضي لتيقن وقوعه عطف على مضمون فلا يستطيعون يعني يموتون من ساعتهم وينفخ في الصور مرة ثانية وبين النفختين أربعون سنة كذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ ما بين النفختين أربعون، قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما ؟ قال أبيت قالوا أربعون شهرا ؟ قال أبيت، قالوا أربعون عاما ؟ قال أبيت " ١ الحديث، وروى ابن أبي داوود عن أبي هريرة حديثا مرفوعا وفيه بين النفختين أربعون عاما { فإذا هم من الأجداث ﴾ جمع جدث وهو القبر ﴿ إلى ربهم ينسلون ﴾ أي يخرجون والنسل في الأصل الانفصال عن الشيء يقال نسل الوبر من البعير ومنه يقال للولد النسل لانفصاله عن والده وقيل معناه يسرعون، في القاموس الماشي ينسل بضم العين وكسره نسلا ونسيلا ونسلانا يسرع.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا﴾ ﴿٤٩٣٥﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين ﴿٢٩٥٥﴾..
﴿ قالوا ﴾ يعني يقول الكفار حين يبعثهم أورد لفظ الماضي لتيقن وقوعه ﴿ يا ويلنا ﴾ ينادون الويل يعني يا ويل احضر فإن هذا أوانك أو يقال أن المنادى محذوف تقديره لا يا أيها المخاطب ويلنا وهو مصدره فعل له من لفظ منصوب بفعل مقدر في معناه، قال في القاموس معناه حلول الشر، وقال بعض المحققين لم يرد في اللغة أن ويلا وضع لهذا المعنى بل هو اسم لواد في جهنم لما روى أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وابن أبي الدنيا وهناد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ويل واد في جهنم يهوي به الكافر أربعين خريفا قيل أن يبلغ قعره " ١ وروى سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال الويل واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار جعل للمكذبين، وأخرج ابن جبير عن عثمان بن عفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الويل جبل في النار " وأخرج البزار بسند ضعيف عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن في النار حجرا يقال له ويل يصعد عليه العرفاء وينزلون " ﴿ من بعثنا من مرقدنا ﴾ سكت حفص هاهنا سكتة لطيفة والوقفة عليها عند غيره أحسن، قال ابن عباس وقتادة إنما يقولون هذا لأن الله يرفع العذاب عنهم بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الآخرة عاينوا القيامة ودعوا بالويل، وقول ابن عباس هذا دفع لما قالت المعتزلة إن هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر فإنها تدل على أنهم كانوا كالنيام، وقال أهل المعاني إن الكفار إذا عاينوا جهنم بأنواع عذابها صارت عذاب القبر في جنبها كالنوم فقالوا :﴿ من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون ﴾ مبتدأ وخبر وما مصدرية بمعنى المفعول أو موصولة والرابط محذوف يعني هذا ما وعد به الرحمان وصدق فيه المرسلون وجاز أن يكون صدق المرسلون جملة مستأنفة معطوفة على جملة فهذا إقرار منهم حين لا ينفعهم الإقرار، وقيل هذا قول الملائكة جوابا لهم، وقال مجاهد هذا قول المؤمنين في جوابهم وإنما عدل عن سن الجواب تذكيرا لكفرهم وتقريعا لهم عليه وتنبيها بأن الذي يهمهم هو السؤال عن البعث دون الباعث كأنهم قالوا بعثكم الرحمن الذي وعدكم بالبعث وأرسل إليكم الرسل فصدقوكم وليس الأمر كما تظنون أنه بعث النائم فيهكم السؤال عن الباعث بل هو البعث الأكبر ذو الأهوال، وجاز أن يكون هذا صفة لمرقدنا وما وعد خبر محذوف أو مبتدأ خبره محذوف يعني ما وعد الرحمن حق وصدق المرسلون وعلى هذا التأويل لا يلائم السكتة أو الوقف على مرقدنا
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنبياء ﴿٣١٦٤﴾.
﴿ إن كانت ﴾ أي ما كانت الفعلة في بعثهم ﴿ إلا صيحة واحدة ﴾ هي النفخة الأخيرة ﴿ فإذا هم جميع ﴾ أي مجموعون ﴿ لدينا محضرون ﴾ خبر بعد خبر وفي ذلك تهوين لأمر البعث والحشر واستغنائهما عن الأسباب التي ينوطان بها فيما يشاهدونه
﴿ فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون { ٥٤ ﴾ } حكاية لما يقال لهم تصويرا للموعود وتمكينا له في النفوس وكذا قوله :﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ { ٥٥ ﴾ }
﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ ﴾ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بسكون الغين والباقون بضمها وهما لغتان مثل السحت والسحت، واختلفوا في معنى الشغل قال ابن عباس في افتضاض الأبكار وقال وكيع بن الجراح في السماع، وقال الكلبي في شغل عن أهل النار وعما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم، وقال الحسن شغلوا بما في الجنة من النعيم عما فيه أهل النار من العذاب، وقال ابن كيسان في زيارة بعضهم بعضا وفي ضيافة الله تعالى، والأولى أن يقال في شغل ما يشتهون فالصوفية العلية الذين لا مقصود لهم إلا الله تعالى شغلهم الانهماك والاستغراق في التجليات الذاتية على جهم وغيرهم كان شغلهم بالسماع والرياح والأكل والشرب والجماع على حسب شهواتهم ورغباتهم، أخرج أبو نعيم عن شيخ طريقتنا أبي يزيد البسطامي أنه قال إن لله خواصا من عباده لو حجبهم في الجنة عن رؤيته لاستغاثوا كما يستغيث أهلنا بالخروج من النار، وفي تنكير شغل وإبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة والتلذذ وتنبيه على أنه أعلى مما يحيط به الأفهام ويعرب عن كنهه الكلام ﴿ فاكهون ﴾ خبر بعد خبر لإن.
قرأ أبو جعفر فكهون بغير ألف حيث كان ووافق حفص في المطففين وفيه مبالغة والباقون بألف وهما لغتان مثل الحاذر والحذر يعني ناعمون متلذذون في النعمة من الفكاهة وقال مجاهد والضحاك معجبون بما هم فيه وعن ابن عباس قال هم فرحون
﴿ هم وأزواجهم في ظلال ﴾ قرأ حمزة والكسائي ظلل بغير ألف جمع ظلة والباقون ظلال بالألف وكسر الظاء جمع ظل وهو موضع الذي لا يقع عليه الشمس كشعاب أو ظلة وهو ما يترك عن الشمس كقباب ﴿ على ألآرائك ﴾ يعني السرد في الحجال واحدتها أريكة قال البغوي قال ثعلب لا يكون أريكة حتى يكون عليها حجلة، وأحرج البيهقي عن ابن عباس قال لا يكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة فإن كان السرير بغير حجلة لا يكون أريكة، وإن كان حجلة بغير سرير لا يكون أريكة فإذا اجتمعا كانت أريكة وأخرج البيهقي عن مجاهد قال الأرائك من لؤلؤ وياقوت الجار والمجرور متعلق بقوله ﴿ متكئون ﴾ هم مبتدأ خبره في ظلال وعلى الأرائك جملة مستأنفة أو خبر ثان أو الخبر متكئون والجاران صلة له أوهم تأكيد للضمير في شغل أو فاكهون وعلى الأرائك متكئون خبر آخر لإن، وأزواجهم عطف على هم للمشاركة في الأحكام أوفي ظلال حال من المعطوف والمعطوف عليه.
﴿ لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون{ ٥٧ ﴾ } أي ما يطلبون لأنفسهم يقتنعون من الدعاء أو يتمنون من قولهم إدع على ما شئت بمعنى منه على أو ما يدعون في الدنيا من الجنة ودرجاتها، وما موصولة أو موصوفة مبتدأ وخبرها لهم
﴿ سلام ﴾ بدل منها ويجوز أن يكون خبرا لهم أو الخبر المحذوف أي هم سلام ومبتدأ محذوف الخبر أي لهم سلام ﴿ قولا ﴾ يعني يقول الله قولا أو يقال لهم قولا كائنا ﴿ من رب رحيم ﴾ والمعنى أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيما لهم وذلك مطلوبهم ومقناهم ويحتمل نصبه على الاختصاص، أخرج ابن ماجه وابن أبي الدنيا والدار قطني والآجري عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قوله تعالى ﴿ سلام قولا من رب رحيم { ٥٨ ﴾ } فقال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحجب عنهم ويبقى نوره وبركته في ديارهم " ١ قال السيوطي إشرافه سبحانه وإطلاعه منزه عن المكان والحلول، قال البغوي يسلم عليهم الملائكة من ربهم وقال مقاتل يدخل الملائكة على الجنة من كل باب سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم يعطيهم السلامة أسلموا السلامة الأبدية.
١ أخرجه ابن ماجه في افتتاح الكتاب، باب: فيما أنكرت الجهمية ﴿١٨٤﴾.
﴿ وامتازوا اليوم أيها المجرمون ﴾ قال مقاتل والسدي والزجاج يعني اعتزلوا من الصالحين يعني يساق المؤمنون إلى الجنة والمجرمون إلى النار عطف على مضمون ما سبق، وقال الضحاك : إن لكل كافر في النار بيتا يدخل ذلك البيت ويردم بابه بالنار فيكون فيه أبدا الآبدين لا يرى ولا يرى، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا والبيهقي عن مسعود قال إذا ألقي في النار من هو مخلد فيها جعلوا في توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت من حديد ثم قذفوا في أسفل الجحيم فما يرى أحدهم أنه يعذب غيره، وأخرج أبو نعيم والبيهقي عن سويد بن عفلة نحوه
﴿ ألم أعهد إليكم ﴾ ألم آمركم على لسان المرسلين استفهام للإنكار وإنكار النفي إثبات يعني قد عهدت إليكم والجملة في مقام التعليل لتمييزهم من المؤمنين ﴿ يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ﴾ أي لا تطيعوه في معصية الله أن مفسرة للعهد فإنه في معنى القول ﴿ إنه ﴾ أي الشيطان ﴿ لكم عدو مبين ﴾ ظاهر العداوة تعليل للمنع عن طاعته فيما يحملهم عليه
﴿ وأن اعبدوني ﴾ عطف على ولا تعبدوا ﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ إشارة إلى ما عهد إليهم أو إلى عبادته تعالى والجملة استئناف لبيان المقتضى لا للعهد بشقيه أو بالشق الأخير والتنكير للمبالغة والتعظيم أو للتبعيض فأن التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم
﴿ ولقد أضل ﴾ الشيطان ﴿ منكم جبلا ﴾ قرأ أهل المدينة وعاصم بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ويعقوب بضم الجيم والباء وتشديد اللام وابن عامر وأبو عمرو بضم الجيم وسكون الياء، والباقون بضم الجيم والباء بغير تشديد وكلها لغات ومعناها الخلق والجماعة أي خلقا ﴿ كثيرا ﴾ جواب قسم محذوف رجوع إلى بيان معاداة الشيطان وظهور عداوته ووضوح إضلاله لمن له أدنى عقل فإنه إنما يأمر بالفحشاء والمنكر وترك عبادة الخالق الرازق الضار النافع إلى عبادة من لا يضر ولا ينفع وترك اتباع النبي الناصح المؤيد بالمعجزات إلى إتباع هوى النفس﴿ أفلم تكونوا تعقلون ﴾ عداوته مع وضوحها، الاستفهام للتوبيخ وجملة ولقد أضل معترضة للتوبيخ
ويقال لهم لما دنوا من النار ﴿ هذه جهنم التي كنتم توعدون { ٦٣ ﴾
﴿ اصلوها ﴾ أدخلوها وذوقوا حرها ﴿ اليوم بما كنتم تكفرون ﴾ أي بكفركم في الدنيا
﴿ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون { ٦٥ ﴾ } جملة فيها التفات من الخطاب إلى الغيبة، أخرج مسلم عن أنس قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال :" هل تدرون فيما أضحك ؟ قلنا الله ورسوله أعلم، قال :" من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا بشاهد مني، فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فينطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن أناضل " ١ وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال قالوا يا رسول الله " هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة ؟ قالوا لا قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليست في سحابة ؟ قالوا لا، قال فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، فيأتي العبد فيقول أي فلان ألم أكرمك ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأتركك تترأس وتربع، قال بلى يا رب، فيقول أظننت أنك ملاقي ؟ فيقول لا، فيقول إني أنساك كما نسيتني ثم يلقي الثاني فيقول له مثل ذلك، ويقول مثل ذلك ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني ما استطاع فيقال أفنبعث عليك شاهدا فيتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي، فيختم على فيه ويقول لفخذه إنطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظمه بعمله ما كان ذلك قال وذلك المنافق وذلك بعذر عن نفسه وذلك الذي سخط الله عليه " ٢ وأخرج أحمد بسند جيد والطبراني عن عقبة بن عامر مرفوعا " إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال " وفي حديث معاوية بن حيدة عند أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي قال :" تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الغلام فأول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه " وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه فيعترف فيقول أي رب عملت وعملت فيغفر الله ذنوبه ويستره فيها، قال فما على الأرض خليقة يرى من تلك الذنوب شيئا وتبدو حسناته والناس كلهم يرونها، ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيجحده ويقول أي ورب وعزتك كتب علي هذا الملك ما لم أعمل فيقول له عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول : لا وعزتك فإذا فعل ذلك ختم على فيه، قال أبو موسى فإني أحسب أول ما ينطق به فخذه اليمنى ثم تلا :﴿ اليوم نختم على أفواههم ﴾ الآية، أخرج أبو يعلى والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إذا كان يوم القيامة عير الكافر بعمله فجحد وخاصم فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول كذبوا فيقال أهلك وعشيرتك فيقول كذبوا، فيقال أحلفوا فيحلفون ثم يصمتهم الله تعالى ويشهد عليهم ألسنتهم فيدخلهم النار ".
١ أخرجه مسلم في أوائل كتاب: الزهد والرقائق ﴿٢٩٦٩﴾..
٢ أخرجه مسلم في أوائل كتاب: الزهد والرقائق ﴿٢٩٦٨﴾..
﴿ ولو نشاء ﴾ يعني ولو شئنا طمس أعينهم ﴿ لطمسنا على أعينهم ﴾ أي أذهبنا أعينهم الظاهرة حيث لا يبدو لها جفن ولا شق وهو معنى الطمس ﴿ فاستبقوا الصراط ﴾ عطف على طمسنا أي إلى الطريق اعتادوا سلوكهم وانتصابه بنزع الخافض أو بتضمين الاستباق معنى الابتداء أو جعل المسبوق إليه مسبوقا على الاتساع أو على الظرفية ﴿ فأنى يبصرون ﴾ الفاء للسببية والاستفهام للإنكار يعني فكيف يبصرون الطريق حينئذ أي لا يبصرون بسبب الطمس، قال البغوي هذا قول الحسن والسدي، وقال ابن عباس وقتادة ومقاتل وعطاء ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى أبصروا رشدهم يعني لم نشأ ذلك فأنى يبصرون رشدهم
﴿ ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم ﴾ قرأ أبو بكر مكاناتهم بصيغة الجمع والباقون بالإفراد يعني ولو شئنا لجعلناهم قردة وخنازير في منازلهم، وقيل يعني لو شئنا لجعلناهم حجارة وهم قعود في منازلهم لا رواح لهم ﴿ فما استطاعوا مضيا ﴾ أي ذهابا ﴿ ولا يرجعون ﴾ أي ولا رجوعا وضع الفعل موضعه للفواصل، وقيل لا يرجعون عن تكذيبهم إلى التصديق ومعنى هذه الآية والآية السابقة على تأويل الحسن أنهم لكفرهم ونقضهم العهد أحقاء أن يفعل بهم ذلك لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم في الدنيا واقتضاء الحكمة إهمالهم.
﴿ ومن نعمره ﴾ أي من نطل عمره ﴿ ننكسه ﴾ قرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف والتشديد من التنكيس، والباقون بفتح النون الأولى وسكون الثانية وضم الكاف مخففا من المجرد والتنكيس أبلغ والنكس أشهر ومعناه نقلبه ﴿ في الخلق ﴾ يعني كان في بدء الأمر لا يزال يتزايد قوة ونجعله في الأخر بحيث لا يزال يتزايد ضعفا حتى يموت ﴿ أفلا يعقلون ﴾ عطف على مضمون الشرطية السابقة والاستفهام للإنكار يعني ينبغي أن يعقلوا ويعلموا أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ فأنه مشتمل عليها وزيادة غير أنه على تدرج قرأ نافع وابن ذكوان بالتاء على الخطاب لجري الخطاب قبله في قوله :﴿ ألم أعهد إليكم ﴾ والباقون بالياء على الغيبة جريا على قوله :﴿ لو نشاء لمسخناهم ﴾.
قال البغوي قال الكلبي إن كفار مكة قالوا إن محمدا شاعر وما تقوله شعر فأنزل الله تعالى :﴿ وما علمناه الشعر ﴾ عطف على قوله إنك لمن المرسلين، وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة يعني ما علمناه الشعر بتعليم القرآن فإنه غير مقفى ولا موزون وليس معناه مثل معنى الأشعار من التخيلات المرغبة والمنفرة والأقوال الكاذبة ﴿ وما ينبغي له ﴾ أي ما يصح له أن يضيع وقته الشريف في إنشاء الشعر ورعاية الوزن والقافية، وأما ما روى الشيخان في الصحيحين من حديث البراء بن عازب قوله صلى الله عليه وسلم :" أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " ١ ومن حديث جندب بن أبي سفيان " هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت " ٢ فاتفاقي من غير تكلف وتصنع وقعت قصد منه إلى ذلك ومثله لا يعد شاعرا وقد يقع مثله كثيرا في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المسطور من الرجز شعرا. هذا وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم حرك البائين من كذب وعبد المطلب وكسر التاء من دميت بلا إشباع وسكن التاء من لقيت، وقال البغوي ما كان يتزين له بيت شعر حتى إذا تمثل بيت شعر جرى على لسانه منكسرا، وروى البغوي عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا، فقال أبو بكر يا نبي الله قال الشاعر كفى الشيب والإسلام بالمرء ناهيا فأعاد كالأول فقال أبو بكر أشهد أنك رسول الله يقول الله عز وجل :﴿ وما علمناه الشعر وما ينبغي له ﴾، وروى عن المقدام بن شريح عن أبيه قال قلت لعائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل شيئا من الشعر ؟ قالت كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت وربما قال : ويأتيك الأخبار من لم تزودي، وقال معمر عن قتادة بلغني أن عائشة سئلت هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت كان الشعر أبغض الحديث إليه قالت ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا بيت أخي بني قيس بن مطرف.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزودي
فجعل يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار قال أبو بكر ليس هكذا يا رسول الله فقال إني لست بشاعر وما ينبغي لي، وقيل الضمير للقرآن أي وما يصح للقرآن أن يكون شعرا ﴿ إن هو ﴾ أي القرآن ﴿ إلا ذكر ﴾ عظة وإرشاد من الله تعالى :﴿ وقرآن مبين ﴾ للفرائض والحدود والأحكام وإخبار الغيب من الماضي والمستقبل التي لا يمكن إتيانها من الشاعر بل من أحد من البشر
١ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته واستنصر ﴿٢٩٣٠﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: في غزوة حنين ﴿١٧٧٦﴾..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: من ينكب في سبيل الله ﴿٢٨٠٢﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين ﴿١٧٩٦﴾..
﴿ لينذر ﴾ قرأ نافع وابن عامر ويعقوب بالتاء للخطاب أي لتنذر يا محمد بالقرآن وكذلك في الأحقاف ووافق ابن كثير في الأحقاف والباقون بالياء للغيبة متعلق بمضمون ما سبق يعني أنزلنا القرآن وأرسلنا محمدا لينذر القرآن أو الرسول ﴿ من كان حيا ﴾ أي مؤمنا فإنه حي القلب يعقل الأشياء على ما هي عليه وأيضا الحياة الأبدية بالإيمان وتخصيص الأبدية لأنه هو المنتفع به دون الكافر فإنه كالميت لا ينتفع به ولا يدرك الحسن من القبيح يحسب عبادة الأحجار وإتباع الشيطان حسنا وعبادة الخالق وإتباع الرسول الناصح المؤيد بالمعجزات قبيحا فيكون في الآخرة بحيث لا يموت ولا يحيي وللإشعار بأنهم أموات في الحقيقة جعلهم في مقابلة من كان حيا وقال ﴿ ويحق القول ﴾ عطف على لينذر أي ليجب كلمة العذاب ﴿ على الكافرين ﴾.
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا ﴾ الهمزة لاستفهام الإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره أينكرون البعث أو أينكرون خلق الله ولم يروا يعني قد رأوا وأقروا ﴿ أنا خلقنا لهم ﴾ أي تولينا إحداثه دون غيرنا لانتفاعهم ﴿ مما عملت أيدينا ﴾ إسناد العمل إلى الأيدي استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص والتفرد بالأحداث ﴿ أنعاما ﴾ خصها بالذكر بما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع ﴿ فهم لها مالكون ﴾ متملكون بتمليكنا إياهم أو متمكنون من ضبطها والتصرف فيها بتسخيرنا إياها لهم
﴿ وذللناها ﴾ أي سخرناها ﴿ لهم فمنها ركوبهم ﴾ أي مركوبهم يعني الإبل ﴿ ومنها يأكلون ﴾ أي ما يأكلون لحمه
﴿ ولهم فيها منافع ﴾ من الجلود والأصواف والأوبار والنسق له واستعمالها في الحرث وغير ذلك ﴿ ومشارب ﴾ من ألبانها جمع مشربة بمعنى الموضع أو المصدر ﴿ أفلا يشكرون ﴾ الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أينكرون فلا يفكرون لا بل يعترفونه ويكفرون كما يدل عليه ﴿ واتخذوا من دون الله آلهة ﴾
﴿ واتخذوا من دون الله آلهة ﴾ أشركوها به في العبادة بعدما رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة وعلموا أنه المتفرد بها، عطف على مضمون خلقنا لهم يعني أنعمنا عليهم وهم اتخذوا آلهة غيرنا، روى البيهقي والحكيم عن أبي الدرداء أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل :" إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري " ١ ﴿ لعلهم ينصرون ﴾ حال من فاعل اتخذوا يعني راجين أن ينصروهم فيما يحقهم من الأمور، والأمر بالعكس لأنهم ﴿ لا يستطيعون نصرهم ﴾
١ أخرجه الحكيم الترمذي بلا سند، والبيهقي في شعب الإيمان والحاكم وفيه بقية ابن الوليد أورده الذهبي في الضعفاء. انظر: فيض القدير ﴿٦٠٠٨﴾..
﴿ لا يستطيعون نصرهم ﴾ أي أن يمنعوهم من العذاب ﴿ وهم ﴾ أي الكفار ﴿ لهم ﴾ أي لآلهتهم ﴿ جند محضرون ﴾ معدون لحفظهم والذب عنهم في الدنيا وهي لا يسوق إليهم خيرا ولا يدفعون عنهم شرا، وقيل معناه يؤتى يوم القيامة بكل معبود من دون الله ومعه أشياعه الذين عبدوهم كأنهم جند محضرون في النار، الجملة حال من فاعل لا يستطيعون
﴿ فلا يحزنك ﴾ الفاء للسببية يعني إذا سمعت الوعيد للكافرين ﴿ فلا يحزنك قولهم ﴾ في الله بالإلحاد وفيك بالتكذيب والتهجين ﴿ إنا نعلم ما يسرون ﴾ من عداوتك والعقائد الباطلة ﴿ وما يعلنون ﴾ من الأعمال والأقوال الشنيعة فيجازيهم عليه وكفى ذلك أن تتلى به وجملة إنا نعلم تعليل للنهي على الاستئناف.
أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حاصل محقة، فقال يا محمد أيبعث هذا بعدما أرى ؟ قال نعم يبعث الله هذا يميتك ثم يحييه ثم يدخلك نار جهنم فنزلت ﴿ أو لم ير الإنسان ﴾ يعني العاص ابن وائل ﴿ أنا خلقناه من نطفة ﴾ إلى آخر السورة، وأخرج ابن أبي حاتم من طرق عن مجاهد وعكرمة وعروة ابن الزبير والسدي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي مالك وكذا ذكر البغوي أنها نزلت في أبي بن خلف الجمحي خاصم النبي صلى الله عليه وسلم في إنكار البعث وأتاه بعظم قد بلي ففتته بيده وقال أترى يحيي الله هذا بعدما ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" نعم ويبعثك فيدخلك النار " فأنزل الله تعالى هذه الآية الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره أينكر الإنسان قدرتنا على الإعادة ولم ير يعني قد علم أنا خلقناه من نطفة ﴿ فإذا هو خصيم ﴾ الفاء للعطف وإذا للمفاجأة يعني خلقناه من نطفة ففاجأ وقت خصامه ﴿ مبين ﴾ ظاهر أنه مجادل بالباطل لا يريد تحقيق الحق لظهوره حيث يعلم ويعترف ببدء خلقه وينكر ما هو أهون منه وهو الإعادة، وفيه تسلية ثانية بتهوين ما يقول له بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وفيه تقبيح بليغ حيث أتى الكفر في مقابلة النعمة التي لا مزيد عليه وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفا مكرما، وقيل معنى فإذا هو خصيم مبين فإذا هو بعدما كان ماء مهينا مميز منطيق قادر على الخصام معرب عما في نفسه وقيل فهو على مهانة أصله ودناءة أوله يتصدى مخاصمة ربه وينكر قدرته على إحياء الميت وجملة ﴿ أولم ير الإنسان ﴾ إلى آخره بدل من قوله ﴿ أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا ﴾
﴿ وضرب لنا مثلا ﴾ عجيبا وهو نسي القدرة على إحياء الموتى وتشبيهه لخلقه موصوفا بالعجز عما عجزوا عنه ﴿ ونسي خلقه ﴾ أي خلقنا إياه من مني وهو أغرب من إحياء العظم ﴿ قال من يحيي العظام وهي رميم ﴾ حال من العظام استئناف بيان للمثل والرميم ما بلي من العظام فعيل بمعنى فاعل من إم الشيء صار اسما بالغلبة فلذلك لم يؤنث أو بمعنى مفعول من رحمته.
قال البيضاوي فيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء يعني بذلك أن عظم الميتة نجس وبه قال الشافعي، وكذا ذكر ابن الجوزي مذهب أحمد في التحقيق وذكر صاحب رحمة الأمة أن الصحيح من مذهب أحمد طهارة السن والريش والعظم، احتج القائلون بنجاسة عظم الميتة بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم :" لا ينتفع من الميتة بشيء " رواه أبو بكر الشامي بإسناده عن أبي الزبير عن جابر قال صاحب المغني وصاحب تنقيح التحقيق إسناده حسن ورواه ابن وهب في مسنده عن زمعة بن صالح عن أبي الزبير عن جابر ولفظه " لا تنتفعوا من الميتة بشيء ولا تنتفعوا بالميت " قال صاحب التنقيح زمعة فيه كلام وللحديث علة ذكرها ابن معور وغيره، قال صاحب الهداية شعر الميتة وعظمها لا حياة فيهما يعني فلا يحلهما الموت فلا يشتملهما الحديث الوارد في النهي عن الانتفاع بالميتة ويرد على هذا القول هذه الآية فإنها تدل على كون الحياة في العظم، فالأولى أن يقال أن المنجس إنما هو الدم المسفوح
ولا دم في العظم والعصب والشعر وإن كانت فيها حياة ولهذا موت ما لا دم له سائلا من الحيوانات في الماء لا يفسده عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل طعام أو شراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله وشربه ووضؤه " رواه الدارقطني، قال الدارقطني لم يروه غير بقية عن سعيد بن سعيد الزبيدي وهو ضعيف وقال ابن عدي سعيد مجهول، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء " ١ رواه البخاري، والحجة لنا حديث ابن عباس قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة فقال :" ألا استمتعتم بجلدها ؟ فقالوا يا رسول الله إنها ميتة، قال إنما حرم أكلها " ٢ متفق عليه، وروى الدارقطني عن ابن عباس أنه قال إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الميتة لحمها وأما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به، وفيه عبد الجبار بن مسلم قال الدارقطني ضعيف لكن ذكره ابن حبان في الثقات قال ابن همام لا ينزل الحديث عن الحسن والعجب من ابن الجوزي أنه احتج بهذا الحديث على طهارة صوف الميتة وشعرها ولم يحتج بها على طهارة العظم واحتج على نجاسة العظم بحديث " لا تنتفعوا من الميتة بشيء " ولم يحتج بها على نجاسة الصوف والشعر، والحق أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لا تنتفعوا من الميتة بشيء لا تنتفعوا من الميت مما يؤكل لتنجسه باختلاط الدم المسفوح وأما العظم والشعر والصوف مما لا يختلط بالدم فلا بأس به ولا بأس بالجلد بعد الدباغ وإزالة الرطوبة وفي الباب أحاديث أخر منها ما روى الدارقطني عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا كل شيء من الميتة حلال إلا ما أكل منها فأما الجلد والشعر والصوف والعظم فكل هذا حلال لأنه لا يزكى " وفيه أبو بكر الهذلي قال الدارقطني متروك وقال غندر كذاب وقال يحيى وعلي ليس بشيء، وروى الدارقطني عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء " قال الدارقطني لم يأت به غير يوسف بن السفر وهو متروك يكذب وقال أبو زرعة والنسائي هو متروك وقال دحيم ليس بشيء وقال ابن حبان لا يحل الإحتجاج به بحال، وروى ابن الجوزي من طريق أبي يعلى عن حميد الشامي عن سليمان عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج، قال ابن الجوزي الحديث لا يصح حميد وسليمان مجهولان قال أحمد لا أعرف حميدا وقال يحيى بن معين لا عرف سليمان، وأيضا المراد بالعاج الزبل قال ابن قتيبة ليس العاج هاهنا الذي يعرفه العامة ويخرطه من العظم والناب ذلك ميتة منهي عنه فكيف يتخذ لها منه سوارا إنما العاج الزبل قال ذلك الأصمعي، قال ابن همام قول الأصمعي ليس العاج الذي يعرفه العامة، ويوهم أنه ليس من اللغة وليس كذلك قال في المحكم العاج أنياب الفيلة ولا يسمى غير الناب عاجا، وقال الجوهري عظم الفيل الواحد حاجة، فتأويل الأصمعي إنما هو لاعتقاده نجاسة عظم الفيل، قال ويظهر من القاموس أن العاج مشترك في الزبل وعظم الفيل وكذا يظهر من النهاية للجزري والزبل جلد السلحفاة البحرية أو البرية أو عظام ظهر دابة بحرية يتخذ منها الأسورة والأمغاط كذا في القاموس، وأخرج البيهقي عن بقية عن عمرو بن خالد عن قتادة عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يمتشط من مشط من عاج، قال البيهقي ورواية بقية عن شيوخه المجهولين ضعيفة، قال ابن همام فهذه عدة أحاديث لو كانت ضعيفة حسن المتن فكيف ومنها ما لا ينزل عن الحسن وله الشاهد الأول من الصحيحين والله أعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: إذا وقع الذباب في الإناء ﴿٥٨٧٢﴾..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الذبائح والصيد، باب: جلود الميتة ﴿٥٥٣١. وأخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ {٣٦٣﴾..
﴿ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ﴾ فإن قدرته كما كان لامتناع التغير فيه والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها جملة مستأنفة وقوله ﴿ وهو بكل خلق ﴾ أي مخلوق ﴿ عليم ﴾ حال من فاعل يحيي أي يعلم تفاصيل المخلوقات وكيفية خلقها فيعلم أجزاء الأشخاص المتغيبة المتبددة أصولها وفصولها ومواقعها وطرق تميزها وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وإعادة الأعراض والقوى التي كانت فيها أو أحداث مثلها
﴿ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ﴾ بدل من ﴿ الذي أنشأها ﴾ أو خبر مبتدأ محذوف أي هو أو منصوب على المدح بتقدير أعني، قال ابن عباس شجرتان يقال لإحداهما المرخ وللأخرى العفار فمن قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضروان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار يخرج منها النار يقول العرب في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار، وقال العلماء في كل شجر نار إلا العناب ﴿ فإذا أنتم منه توقدون ﴾ أي ففاجئتم وقت إيقادكم ولا تشكون في أنها نار خرجت منه فمن قدر على أحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من الماهية المضادة لها بكيفيته كان أقدر على إعادة العضاضة فيما كان عضا فيبس وبلي ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال ﴿ أو ليس الذي خلق السماوات والأرض ﴾
﴿ أو ليس الذي خلق السماوات والأرض ﴾ الإستفهام للإنكار والعطف على محذوف تقديره أخلق السماوات والأرض كما تعترفون به وليس الذي خلقهما مع كبر جرمهما وعظم شأنهما ﴿ بقادر ﴾ قرأ يعقوب يقدر على صيغة المضارع ﴿ على أن يخلق مثلهم ﴾ في الصغر والحقارة بالإضافة إليهما أو مثلهما في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد ﴿ بلى ﴾ جواب من الله لتقرير ما بعد النفي أي هو قادر على أن يخلق مثلهم ﴿ وهو الخلاق ﴾ يخلق خلقا بعد خلق ﴿ العليم ﴾ بجميع الممكنات عطف على مضمون بلى
﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا ﴾ أن يوجد ﴿ أن يقول له كن فيكون ﴾ أي فهو يكون، نصبه ابن عامر والكسائي عطفا على يقول، قال البيضاوي هو تمثيل لتأثير قدرته في مراده تعالى بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعا لمادة الشبهة وهو قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخالق.
﴿ فسبحان ﴾ مصدر فعل محذوف والفاء للسببية يعني إذا علمتم أنه تعالى خلق الإنسان من نطفة وهو قادر على أن يحيي العظام وأنه إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون فسبحوا سبحان ﴿ الذي بيده ملكوت ﴾ أي الملك بمعنى القدرة زيدت الواو والتاء للمبالغة ﴿ كل شيء ﴾ أي تنزيه له عما ضربوا وتعجيب عما قالوا فيه معللا بكونه مالكا للملك كله قادرا على كل شيء ﴿ وإليه ترجعون ﴾ عطف على قوله بيده وفيه وعد للمقرين ووعيد للمنكرين.
Icon