تفسير سورة الزمر

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

نزولها: ما أخرجه جويبر عن ابن عباس قال: إنها نزلت في ثلاثة أحياء: عامر، وكنانة، وبني سلمة، كانوا يعبدون الأوثان، ويقولون: الملائكة بناته، فقالوا: ﴿ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى﴾.
قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ...﴾ الآية، سبب نزولها ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عمر قال: إنها نزلت في عثمان بن عفان، وأخرج ابن سعد، عن طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: نزلت في عمار بن ياسر، وأخرج ابن جويبر، عن ابن عباس، قال: نزلت في ابن مسعود، وعمار بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وأخرج جويبر عن عكرمة قال: نزلت في عمار بن ياسر.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿تَنْزِيلُ الْكِتابِ﴾؛ أي (١): القرآن، وخصوصًا منه هذه السورة الشريفة، وهو مبتدأ، خبره قوله: كائن ﴿مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ﴾ في حكمه ﴿الْحَكِيمِ﴾ في تدبيره، لا من غيره. كما يقول المشركون: إن محمدًا - ﷺ -، تقوله من تلقاء نفسه، وإلى هذا ذهب الزجاج، وقيل معناه: تنزيل الكتاب من الله، فاستمعوا له، واعملوا به، فهو كتاب عزيز، نزل من رب عزيز، على عبد عزيز، بلسان ملك عزيز، في شأن أمة عزيزة، والتعرض لوصفي العزة والحكمة، للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب بجريان أحكامه، ونفاذ أوامره، ونواهيه، من غير مدافع ولا ممانع، وبابتناء جميع ما فيه على أساس الحكم الباهرة، وفي «فتح الرحمن»: العزيز في قدرته، الحكيم في إبداعه.
وأجاز (٢) الفراء، والكسائي: النصب على أنه مفعول به، لفعل مقدر؛ أي: اتبعوا أو اقرؤوا تنزل الكتاب. وقال الفراء: ويجوز نصبه على الإغراء؛ أي:
إلزموا.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
٢ - وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ﴾ شروع (١) في بيان شأن المنزل إليه، وما يجب عليه إثر بيان شأن المنزل، وكونه من عند الله تعالى، فلا تكرار في إظهار الكتاب في موضع الإضمار لتعظيمه، ومزيد الاعتناء بشأنه، والباء (٢): إما متعلق بالإنزال؛ أي: بسبب الحق وإثباته وإظهاره، وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة؛ أي: أنزلناه إليك حال كوننا محقين في ذلك، أو حال من الكتاب؛ أي: أنزلناه حال كونه ملتبسا بالحق والصواب؛ أي: كل ما فيه من إثبات التوحيد، والنبوة، والمعاد، وأنواع التكاليف حق، لا ريب فيه، موجب للعمل حتمًا.
وفي «التأويلات النجمية»: أي من الحق نزل، وبالحق نزل، وعلى الحق نزل. قال في «برهان القرآن»: كل موضع خاطب الله فيه النبي - ﷺ - بقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ﴾ ففيه تكليف، وإذا خاطبه بقوله: ﴿أَنْزَلْنا عَلَيْكَ﴾ ففيه تخفيف، ألا ترى إلى ما في أول السورة ﴿إِلَيْكَ﴾ فكلفه الإخلاص في العبودية، وإلى ما في آخرها ﴿عَلَيْكَ﴾ فختم الآية بقوله: ﴿وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾؛ أي: لست بمسؤول عنهم، فخفف عنه ذلك، انتهى.
والمعنى (٣): أي هذا الكتاب العظيم، منزل من عنده تعالى، فهو الحق الذي لا مرية فيه، كما جاء في آية أخرى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)﴾، وبعد أن بيّن شأن المنزل، وأنه من عند الله تعالى، ذكر ما اشتمل عليه ذلك المنزل، من الحق والعدل، فقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ﴾؛ أي: إنا أنزلنا إليك القرآن أيها الرسول، آمرا بالحق، والعدل الواجب اتباعهما، والعمل بهما.
ثم أمر رسوله بعبادته، والإخلاص له. فقال: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ﴾ حال كونك ﴿مُخْلِصًا لَهُ﴾ سبحانه ﴿الدِّينَ﴾ والعمل والطاعة؛ أي: فاعبده تعالى، ممحضًا له
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
العبادة، من شوائب الشرك والرياء، بحسب ما أنزل في تضاعيف كتابه على لسان نبيه، من تخصيصه وحده بالعبادة، وأنه لا ند له ولا شريك.
والفاء في قوله: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ﴾. فاء: الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أيها الرسول الكريم، أنا أنزلنا إليك، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: اعبد الله مخلصًا له الدين، والإخلاص: أن يقصد العبد بنيته، وعمله إلى خالقه، لا يجعل ذلك لغرض من الأغراض. والدين: العبادة، والطاعة، ورأسها: توحيد الله، وأنه لا شريك له. وقرأ الجمهور (١): ﴿الدِّينَ﴾ بالنصب على أنه مفعول ﴿مُخْلِصًا﴾، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه، على أنه فاعل، بمخلصًا، على طريقة الإسناد المجازي كشعر شاعر، وقال الزمخشري: وحق من رفعه أن يقرأ ﴿مخلَصًا﴾ بفتح اللام كقوله: ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾، حتى يطابق قوله: ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ﴾، والخالص، والمخلص واحد، وفي الآية دليل على وجوب النية، وإخلاصها عن الشوائب؛ لأن الإخلاص من الأمور القلبية، التي لا تكون إلا بأعمال القلب، وقد جاءت السنة الصحيحة: «أن ملاك الأمر في الأقوال والأفعال: النية»، كما في حديث: «إنما الأعمال بالنيات»، وحديث: «لا قول، ولا عمل إلا بنية».
٣ - ثم أكد هذا الأمر بقوله: ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ﴾ ألا: حرف استفتاح وتنبيه؛ أي: انتبهوا من غفلتكم أيها العباد، واعلموا أن لله سبحانه، لا لغيره، الدين الخالص من شوائب الشرك، والعبادة الخالصة من شوائب الرياء، لا شركة لأحد معه فيها؛ لأن كل ما دونه ملكه، وعلى المملوك طاعة مالكه، وفي «الكواشي»: ألا لله الدين الخالص من الهوى، والشك، والشرك، فيتقرب به إليه رحمة، لا أن له حاجة إلى إخلاص عبادته. وفي «التأويلات النجمية»: الدين الخالص: ما يكون جملته لله، وما للعبد فيه نصيب، والمخلص: من خلّصه الله من حبس الوجود، بجوده لا بجهده.
(١) البحر المحيط.
478
وعن الحسن: الدين الخالص: الإسلام، لأن غيره من الأديان ليس بخالص من الشرك، فليس بدين الله الذي أمر به. فالله تعالى لا يقبل إلا دين الإسلام، وفي حديث رواه الحسن عن أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول الله - ﷺ -، إني أتصدق بالشيء، وأصنع الشيء أريد به وجه الله تعالى، وثناء الناس، فقال رسول الله - ﷺ -: «والذي نفس محمد - ﷺ - بيده، لا يقبل الله شيئًا شورك فيه»، ثم تلا: ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ﴾.
وبعد أن أبان سبحانه، أن رأس العبادة الإخلاص لله، أعقب ذلك بذم طريق المشركين، فقال: ﴿وَالَّذِينَ﴾ عبارة عن المشركين. ومحله الرفع على الابتداء، وخبره قوله الآتي: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾. ﴿اتَّخَذُوا﴾ يعني عبدوا ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى؛ أي: حال كونهم متجاوزين الله، وعبادته ﴿أَوْلِياءَ﴾؛ أي: أربابًا وأوثانًا كالملائكة، وعيسى، وعزير، والأصنام، ولم يخلصوا العبادة لله تعالى، بل شابوها بعبادة غيره حال كونهم قائلين: ﴿ما نَعْبُدُهُمْ﴾؛ أي: الأولياء لشيء من الأشياء ﴿إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى﴾؛ أي: تقريبًا، فهو مصدر مؤكد على غير لفظ العامل، ملاق له في المعنى، وكانوا إذا سئلوا عمن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله، فإذا قيل لهم: لم تعبدون الأصنام؟ قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله تعالى.
والحاصل: أن الموصول مبتدأ، خبره جملة ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾، وجملة ﴿ما نَعْبُدُهُمْ﴾ إلخ، في محل النصب على الحال، بتقدير القول، والاستثناء مفرّغ من أعم الأشياء.
والمعنى: والذين عبدوا من دونه تعالى أوثانًا، ولم يخلصوا العبادة لله بل شابوها بعبادة غيره قائلين: ما نعبدهم لشيء من الأشياء، إلا ليقربونا إلى الله تقريبًا، ويشفعوا لنا عنده، وقرىء ﴿ما نعبدكم إلا لتقربونا﴾ حكاية لما خاطبوا به آلهتهم، ذكره في «المراح».
﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ خبر الموصول، كما مر؛ أي: إن الله يحكم يوم القيامة، بين المتخذين غير المخلصين، وبين خصمائهم المخلصين للدين، وقد
479
حذف لدلالة الحال عليه. ﴿فِي ما﴾؛ أي: في الدين الذي ﴿هُمْ﴾؛ أي: الفريقان ﴿فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ بالتوحيد والإشراك، وادعى كل فريق صحة ما انتحله وأخذه، وحكمه تعالى في ذلك، إدخال الموحدين الجنة، والمشركين النار، فالضمير للفريقين. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لا يَهْدِي﴾؛ أي: لا يوفق الاهتداء إلى الحق الذي هو طريق النجاة من المكروه، والفوز بالمطلوب ﴿مَنْ هُوَ كاذِبٌ﴾؛ أي: راسخ في الكذب ﴿كَفَّارٌ﴾؛ أي: مبالغ في الكفر، فإنهما فاقدان للبصيرة غير قابلين للاهتداء، لتغييرهما الفطرة الأصلية، بالتمرن في الكفر والضلالة، قال في «الوسيط»: هذا فيمن سبق عليه القضاء، بحرمان الهداية، فلا يهتدي إلى الصدق والإيمان البتة، وكذبهم قولهم في بعض أوليائهم: بنات الله وولده، وقولهم: إن الآلهة تشفع لهم، وتقربهم إلى الله، وكفرهم عبادتهم تلك الأولياء، وكفرانهم النعمة بنسيان المنعم الحقيقي.
وقرأ أنس بن مالك، والجحدري، والحسن، والأعرج، وابن يعمر ﴿مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ بصيغة فعال فيهما. وقرأ زيد بن علي: ﴿من هو كذوب كفور﴾ بصيغة فعول فيهما.
وحاصل معنى الآية: أي والذين اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله منزلة، ويشفعوا لنا عنده في حاجتنا، ومن حديث عبادتهم للأصنام: أنهم جعلوا تماثيل الكواكب، والملائكة والأنبياء، والصالحين الذين مضوا، وعبدوها باعتبار أنها رمز إليها، وقالوا: إن الإله الأعظم، أجلّ من أن يعبده البشر مباشرة، فنحن نعبد هذه الآلهة، وهي تعبد الإله الأعظم، وهذه شبهة تمسك بها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءت الرسل مفندة لها، ماحيةً لها من الأذهان العالقة بها، موجهة العقول إلى إفراد الله وحده بالعبادة، قال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾، وقال: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)﴾.
قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم: من ربكم، ومن خالقكم، ومن خلق
480
السموات والأرض، وأنزل من السماء ماء؟ قالوا: الله. فيقال لهم: فلم تعبدونهم؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده، فرد الله عليهم بقوله في سورة الأحقاف: ﴿فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ﴾. ثم هددهم، وبيّن لهم عاقبة ما يفعلون، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾، وبين خصومهم، وهم المحقون فيما اختلفوا فيه من التوحيد، والإشراك يوم القيامة، ويجازي كلا بما هو أهل له، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة، ويدخل المشركين النار، ثم بيّن نتيجة الحكم، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ﴾؛ أي: إن الله لا يرشد إلى الحق، ولا يوفق له، من هو كاذب مفتر عليه، بزعمه أن له ولدًا، وأن له ندًا، وأن الأوثان تشفع لديه إلى غير ذلك، من الترهات والأباطيل، التي لا يقبلها العقل، ولا تجد لها مستندًا من نقل.
٤ - ثم فصل ما كذبوا فيه، فقال: ﴿لَوْ أَرادَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ ولا ينبغي له ذلك كما زعم المشركون، بأن الله اتخذ ولدًا ﴿لَاصْطَفى﴾؛ أي: لاتخذ واختار ﴿مِمَّا يَخْلُقُ﴾؛ أي: من جنس مخلوقاته ﴿ما يَشاءُ﴾ ويريد، ولم يخص مريم، ولا عيسى، ولا عزيز بذلك، ولخلق جنسًا آخر، أعز وأكرم مما خلق، واتخذه ولدًا لكنه لا يفعله لامتناعه، والممتنع لا تتعلق به القدرة والإرادة، وإنما أمره اصطفاء من شاء من عباده وتقريبهم منه، وقد فعل ذلك بالملائكة وبعض الناس، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾. ولذا وضع الاصطفاء مكان الاتخاذ.
ثم نزه سبحانه نفسه، عن أن يكون له ولد، فقال: ﴿سُبْحانَهُ﴾؛ أي: تنزيهًا له عن ذلك، وهو مصدر من سبح إذا بعد؛ أي: تنزه تعالى عن ذلك الاتخاذ، وعما نسبوا إليه من الأولاد، والأولياء، وعلم للتسبيح مقول على ألسنة العباد؛ أي: أسبحه تسبيحًا لائقًا به، أو سبحوه تسبيحًا حقيقًا بشأنه ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، خبره ﴿اللَّهُ﴾ المتصف بالألوهية ﴿الْواحِدُ﴾ الذي لا ثاني له، والولد ثاني والده، وجنسه، وشبهه، وفي «بحر العلوم»: ﴿واحد﴾؛ أي: موجود جل عن التركيب والمماثلة، ذاتًا وصفةً. فلا يكون له ولد؛ لأنه يماثل الوالد في الذات
والصفات. ﴿الْقَهَّارُ﴾ الذي بقهاريته لا يقبل الجنس، والشبه بنوع ما. وفي «الإرشاد»: قهار لكل الكائنات، كيف يتصور أن يتخذ من الأشياء الفانية ما يقوم مقامه؟.
والمعنى: أي تقدس أن يكون له ولد، فإنه هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عما سواه، قهر الأشياء فدانت له، وتسلط على المخلوقات بقدرته. فذلت له تعالى، عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
٥ - ولما نزه تعالى نفسه، ووصف ذاته بالوحدة، والقهر، ذكر ما دل على ذلك، من اختراع العالم العلوي والسفلي بالحق، وتكوير الليل والنهار، وتسخير النيرين، وجريهما على نظام واحد، واتساق أمرهما على ما أراد إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة، فقال: ﴿خَلَقَ﴾ وأوجد ﴿السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ وما بينهما من الموجودات، حال كونها ملتبسة ﴿بِالْحَقِّ﴾ والصواب، مشتملة على الحكم والمصالح، لا باطلًا وعبثًا، ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه، استحال أن يكون له شريك، أو صاحبة أو ولد.
ثم بيّن كيفية تصرفه في السموات والأرض، فقال: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ﴾؛ أي: يلف ظلام الليل على ضوء النهار ويغطيه به فيجيء النهار ويذهب الليل، والمعنى: يغشي كل واحد منهما الآخر، كأنه يلفه عليه لف اللباس على الملابس. وقيل المعنى: يكوّر الليل؛ أي: يضم بعض ساعاته على النهار، فيطول النهار كما في نهار الصيف، ويكوّر النهار؛ أي: يضم بعض ساعاته على الليل، فيطول الليل كما في ليل الشتاء، والتكوير في اللغة (١): طرح الشيء بعضه على بعض، يقال: كوّر المتاع إذا ألقى بعضه على بعض، ومنه: كوّر العمامة، فمعنى تكوير الليل على النهار: تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه، ومعنى تكوير النهار على الليل: تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته، وهو معنى قوله تعالى: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾، هكذا قال قتادة وغيره، وقال الضحاك؛ أي: يلقي هذا
(١) الشوكاني.
482
على هذا، وهذا على هذا، وهو مقارب للقول الأول، وقيل معنى الآية: أن ما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل، وهو معنى قوله: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ﴾، أو يجعل كلًا منهما كارًا على صاحبه كرورًا، متتابعًا تتابع أكوار العمامة بعضها على بعض، وفي التكوير المذكور في الآية إشارة إلى جريان الشمس والقمر في مطالعهما، وانتقاص الليل والنهار، وازديادهما. قال الرازي: إن النور والظلمة عسكران عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا.
ومعنى الآية (١): أي خلق هذا العالم العلوي، على ما فيه من بديع الصنع، من شموس وأقمار، تكوّن الليل والنهار، والعالم السفلي، المشتمل على المواليد الثلاثة، من حيوان ونبات وجماد، وسخر كل ما فيه ظاهرًا وباطنًا، لانتفاع الإنسان في سبل معايشه، إذا استعمل عقله، واستخدم فكره في استنباط مرافقه، خلقهما على أكمل وجه وأبدع نظام، قائمين على الحق والصواب والحكم والمصالح، وبعد أن أبان أنه خلقهما ذكر سبيل تصرفه فيهما، فقال: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ﴾ إلخ؛ أي: يغشي كلًا منهما الآخر، كأنه يلفه عليه لف اللباس على اللابس، أو يجعلهما في تتابعهما، أشبه بتتابع أكوار العمامة، بعضها على بعض، ألا ترى إلى الأرض وقد دارت حول نفسها، وهي مكوّرة، فأخذ النهار الحادث من مقابلتها للشمس، يسير من الشرق إلى الغرب، ويلف حولها طاويًا الليل، والليل من الجهة الأخرى يلتف حولها طاويًا النهار، فالأرض كالرأس، والظلام والضياء يتتابعان تتابع أكوار العمامة، ويلتفان متتابعين حولها، وفي (٢) هذا إيماء إلى كروية الأرض أولًا، وإلى دورانها حول نفسها ثانيًا. فتكوير الأرض ظاهر الآية، ودورانها أتى تابعًا بالرمز والإشارة.
﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾؛ أي: جعلهما، وهما وسيلتا الليل والنهار، منقادين لأمره تعالى بالطلوع والغروب لمنافع العباد، فأكثر منافع العباد مرتبطة بهما.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
483
ثم بيّن كيفية هذا التسخير فقال: ﴿كُلٌّ﴾ منهما ﴿يَجْرِي﴾ ويسير في فلكه وبروجه ﴿لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: إلى مدة معينة، هي منتهى دورته، في كل يوم، أو في كل شهر، أو إلى مدة انتهاء حركته، وانقطاع سيره بتصرم الدنيا، وهو يوم القيامة ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾، وفي الحديث: وكل بالشمس سبعة أملاك، يرمونها بالثلج، ولولا ذلك ما أصابت شيئًا إلا أحرقته.
ثم ذيل الكلام بالجملة الآتية، ترغيبًا في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له، والتحذير من الكفر والمعاصي. فقال: ﴿أَلا﴾؛ أي: انتبهوا، واعلموا ﴿هُوَ﴾ سبحانه وحده ﴿الْعَزِيزُ﴾ الغالب القادر على كل شيء، فيقدر على عقاب العصاة، والانتقام منهم. ﴿الْغَفَّارُ﴾؛ أي: المبالغ في المغفرة، ولذلك لا يعاجل بالعقوبة، وسلب ما في هذه الصنائع البديعة، من آثار الرحمة، وعموم المنفعة.
والمعنى: أي انتبهوا أيها العباد، واعلموا أن الله الذي فعل هذه الأفعال، وأنعم على خلقه بهذه النعم، هو القادر على الانتقام ممن عاداه، الغفار لذنوب عباده التائبين، ولا يخفى ما في هذا، من الدلالة على كمال قدرته تعالى، وكمال رحمته، فهو القهار ذو القوة المتين، الغفار لذنوب التائبين.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ﴿الْغَفَّارُ﴾ (١): هو الذي أظهر الجميل، وستر القبيح، والذنوب من جملة القبائح، التي سترها بإسبال الستر عليها في الدنيا، والتجاوز عن عقوبتها في الآخرة، والغفر هو الستر:
الأول: ستره على عبده، أن جعل مقابح بدنه، التي تستقبحها الأعين، مستورة في باطنه، مغطاةً بجمال ظاهره، فكم بين باطن العبد، وظاهره في النظافة والقذارة، وفي القبح والجمال، فانظر ما الذي أظهره، وما الذي ستره.
والثاني: أن يجعل مستقر خواطره المذمومة، وإرادته القبيحة سر قلبه، حتى لا يطّلع أحد على سر قلبه، ولو انكشف للخلق، ما يخطر بباله في مجاري وسواسه، وما ينطوي عليه ضميره من الغش والخيانة، وسوء الظن بالناس
(١) روح البيان.
484
لمقتوه، بل سعوا في تلف روحه وإهلاكه، فانظر كيف ستر عن غيره أسراره وعوارفه؟.
والثالث: مغفرة ذنوبه التي كان يستحق الافتضاح بها، على ملأ من الخلق، وقد وعد أن يبدل من سيئاته حسنات، ليستر مقابح ذنوبه، بثواب حسناته، إذا مات على الإيمان، وحظ العبد من هذا الاسم، أن يستر من غيره ما يحب أن يستر منه، وقد قال النبي - ﷺ -: «من ستر على مؤمن عورته، ستر الله عورته يوم القيامة». والمغتاب، والمتجسس، والمكافىء على الإساءة بمعزل عن هذا الوصف، وإنما المتصف به من لا يفشي من خلق الله، إلا أحسن ما فيهم، ولا ينفك مخلوق عن كمال، ونقص، وعن قبح وحسن، فمن تغافل عن المقابح، وذكر المحاسن، فهو ذو نصيب من هذا الاسم والوصف، كما روي عن عيسى عليه السلام: أنه مر مع الحواريين بكلب ميت، قد غلب نتنه، فقالوا: ما أنتن هذه الجيفة؟ فقال عيسى عليه السلام: ما أحسن بياض أسنهانها، تنبيهًا على أن الذي ينبغي أن يذكر من كل شيء، ما هو أحسنه.
وبعد أن ذكر الدلائل التي بثها في العالم العلوي.. أردفها ذكر الدلائل التي أودعها في العالم السفلي، وبدأها بخلق الإنسان؛ لأنه أعجب ما فيه، لما فيه من العقل، وقبوله الأمانة الإلهية، ولله در من قال:
وَتَزْعُمُ أَنَّكَ جُرْمٌ صَغِيْرُ وَفِيْكَ انْطَوَى الْعَالَمُ الأَكْبَرُ
٦ - ﴿خَلَقَكُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى، أيها الناس جميعًا، على اختلاف ألسنتكم وألوانكم ﴿مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ هي نفس آدم، عليه السلام ﴿ثُمَّ جَعَلَ﴾؛ أي: خلق ﴿مِنْها﴾؛ أي: من جنس تلك النفس الواحدة، أو من قصيراها، وهي الضلع التي تلي الخاصرة، أو آخر الأضلاع من جهة السيار ﴿زَوْجَها﴾ حواء. و ﴿ثُمَّ﴾ عطف على محذوف، هو صفة لنفس؛ أي: خلقكم من نفس واحدة خلقها، ثم جعل منها زوجها فشفعها، وذلك فإن ظاهر الآية يفيد أن خلق حواء بعد خلق ذرية آدم، وليس كذلك. وفيه إشارة إلى أن الله تعالى، خلق الإنسان من نفس واحدة هي الروح، وخلق منها زوجها، وهو القلب، فإنه خلق من الروح كما خلقت
485
حواء، من ضلع آدم عليه السلام، فالله تعالى متفرد بهذا الخلق مطلقًا، فينبغي أن يُعرف ويُعبد بلا إشراك به.
والمعنى: أي خلقكم سبحانه، على اختلاف ألسنتكم، وألوانكم، من نفس واحدة، وهي آدم، ثم جعل من جنسها زوجها، وهي حواء. والتعبير بالجعل دون الخلق، مع العطف بثم، للدلالة على أن خلق حواء، من ضلع آدم، أدخل في كونه آية دالة على كمال القدرة؛ لأن خلق آدم، هو على عادة الله، المستمرة في خلقه، وخلقها على الصفة المذكورة، لم تجر به عادة، لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها.
ثم ثنى بخلق الحيوان، فقال: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ﴾؛ أي: قضى، وقسم لكم. فإن قضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء، حيث تكتب في اللوح المحفوظ، وقيل: عبر بالإنزال لما يروى: أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها، فيكون الإنزال حقيقة. أو أحدث لكم، وأنشأ بأسباب نازلة من السماء: كالأمطار، وأشعة الكواكب. وهذا كقوله: ﴿قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا﴾. ولم ينزل اللباس نفسه، ولكن أنزل الماء الذي هو سبب القطن والصوف، واللباس منهما. ﴿مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ﴾ ذكرًا، وأنثى، وهي الإبل، والبقر، والضأن، والمعز. والأنعام: جمع نعم بفتحتين، وهي جماعة الإبل في الأصل، لا واحد لها من لفظها. قال ابن الشيخ في أول المائدة: الأنعام مخصوص بالأنواع الأربعة. وهي الإبل، والبقر، والضأن، والمعز. ويقال لها: الأزواج الثمانية؛ لأن ذكر كل واحد من هذه الأنواع زوج بأنثاه، وأنثاه زوج بذكره، فيكون مجموع الأزواج ثمانية بهذا الاعتبار، من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، والخيل، والبغال، والحمير خارجة من الأنعام.
وخصت (١) هذه الأنواع الأربعة بالذكر، لكثرة الانتفاع بها من اللحم، والجلد، والشعر، والوبر. وفي «التأويلات النجمية»: وأنزل لكم من الأنعام
(١) روح البيان.
486
ثمانية أزواج؛ أي: خلق فيكم من صفات الأنعام ثماني صفات، وهي الأكل والشرب، والتغوط والتبول، والشهوة والحرص، والشره والغضب، وأصل جميع هذه الصفات، الصفتان الاثنتان: الشهوة والعضب، فإنه لا بد لكل حيوان من هاتين الصفتين، لبقاء وجوده بهما، فبالشهوة يجلب المنافع إلى نفسه، وبالغضب يدفع المضرات.
ثم ذكر سبيل خلق ما ذكر، من الأناسي والأنعام، فقال: ﴿يَخْلُقُكُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى، أيها الناس ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ﴾؛ أي: في
أرحامهن ﴿خَلْقًا﴾ كائنًا ﴿مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ﴾؛ أي: خلقًا مدرجًا حيوانًا، سويًا من بعد عظام مكسوة لحمًا، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ مخلقة، من بعد مضغ غير مخلقة، من بعد علقة من بعد نطفة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوارًا (١٤)﴾ قاله قتادة والسدي. وقال ابن زيد: خلقكم خلقا في بطون أمهاتكم، من بعد خلقكم في ظهر آدم، عليه السلام. وقوله: ﴿فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ﴾ متعلق بقوله: يخلقكم وهي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، قاله مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك. وقال سعيد بن جبير: ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة الليل. وقال أبو عبيدة: ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرحم، والخلق في بطون الأمهات. حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان. وإنما قال: ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ﴾ لتغليب من يعقل، ولشرف الإنسان على سائر الخلق، والمشيمة بفتح الميم: محل الولد؛ أي: الجلد الرقيق المشتمل على الجنين.
والمعنى: أي يبتدىء خلقكم أيها الناس، في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق. فيكون أحدكم أولًا نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يكون عظمًا وعصبًا، ثم يكون لحمًا، وينفخ فيه الروح، فيصير خلقًا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين ﴿فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ﴾؛ أي: في ظلمات أغشية ثلاثة، جعلها المولى سبحانه وقاية، للولد، وحفظًا له من التعفن.
وقرأ عيسى، وطلحة: ﴿يخلقكم﴾ بإدغام القاف في الكاف، وقرأ حمزة: ﴿أمهاتكم﴾ بكسر بالهمزة، والميم، وقرأ الكسائي: بكسر الهمزة، وفتح الميم،
487
وقرأ الباقون: بضم الهمزة، وفتح الميم.
والإشارة بقوله: ﴿ذلِكُمُ﴾ إليه سبحانه وتعالى، باعتبار أفعاله المذكورة، ومحله الرفع على الابتداء؛ أي: ذلكم العظيم الشأن الذي عدّت أفعاله ﴿اللَّهُ﴾ المعبود بحق، خبر المبتدأ، وقوله: ﴿رَبُّكُمْ﴾ خبر آخر له؛ أي: مربيكم فيما ذكر من الأطوار، وفيما بعدها، ومالكم المستحق لتخصيص العبادة به، وفي «التأويلات النجمية»؛ أي: أنا خلقتكم، وأنا صورتكم، وأنا الذي أسبغت عليكم أنعامي، وخصصتكم بجميع إكرامي، وغرقتكم في بحار أفضالي، وعرّفتكم استحقاق شهود جمالي وجلالي، وهديتكم إلى توحيدي، وأدعوكم إلى وحدانيتي، فما لكم لا تنطقون إلي بالكلية؟ وما لكم لا تطلبون مني ولا تطلبونني وقد بشرتكم بقولي: ألا من طلبني وجدني، ومن كان لي كنت له، ومن كنت له يكون له ما كان لي، انتهى. ﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾ على الإطلاق في الدنيا والآخرة، ليس لغيره شركة في ذلك بوجه من الوجوه، وهو خبر ثالث، وقوله: ﴿لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ خبر رابع؛ أي: لا معبود إلا هو، كما أنه لا مقصود إلا هو ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾؛ أي: فكيف تنصرفون عن عبادته، وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره، ومن أي وجه تصرفون، وتردون عن ملازمة بابه، بالعبودية إلى باب عاجز مثلكم من الخلق؛ أي: كيف تصرفون، وتعدلون عن عبادته تعالى، إلى عبادة الأوثان، مع وفور موجباتها ودواعيها، وانتفاء الصارف عنها بالكلية إلى عبادة غيره.
والخلاصة: كيف تعبدون معه تعالى سواه؟ أين ذهبت عقولكم، وكيف ضاعت أحلامكم؟!.
٧ - ولما ذكر الله سبحانه النعم، التي أنعم بها على عباده، وبيّن لهم من بديع صنعه وعجيب فعله، ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به.. عقّبه بقوله: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا﴾ به تعالى، بعد مشاهدة ما ذكر من فنون نعمائه، ومعرفة شؤونه العظيمة، الموجبة للإيمان والشكر، والخطاب لأهل مكة، كما في «الوسيط»، والظاهر: التعميم لكل الناس، كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾ وعن جميع العالمين؛ أي: فاعلموا أنه
488
تعالى، غني عن إيمانكم وشكركم؛ أي: غير محتاج إليكم، ولا إلى إيمانكم، ولا إلى عبادتكم له، فإنه الغني المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله. ﴿وَ﴾ مع كون كفر الكافر لا يضره، كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن، فهو أيضًا ﴿لا يَرْضى لِعِبادِهِ﴾؛ أي: لأحد من عباده ﴿الْكُفْرَ﴾؛ أي: لا يحبه، ولا يأمر به، وإن تعلقت به إرادته تعالى من بعضهم؛ أي: عدم رضاه بكفر عباده، لأجل منفعتهم ودفع مضرتهم رحمة عليهم، لا لتضرره تعالى به، وإنما قال: ﴿لِعِبادِهِ﴾ ولم يقل: لكم، لتعميم الحكم للمؤمنين والكافرين، وتعليله بكونهم عباده.
واعلم (١): أن الرضا ترك السخط، والله تعالى لا يترك السخط في حق الكافر؛ لأنه لسخطه عليه أعد له جهنم، ولا يلزم منه عدم الإرادة، إذ ليس في الإرادة ما في الرضا من نوع استحسان، فالله تعالى مريد الخير والشر، ولكن لا يرضى بالكفر والفسوق، فإن الرضا إنما يتعلق بالحسن من الأفعال دون القبيح، وعليه أهل السنة، وكذا أهل الاعتزال، وفي «الخازن»: الرضا عبارة عن مدح الشيء، والثناء عليه بفعله، والله تعالى لا يمدح الكفر، ولا يثني عليه، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد، وقد لا يرضى به، ولا يمدح عليه، وقد بان الفرق بين الإرادة والرضا، انتهى.
والمعنى: أي لا يُحب لعباده الكفر، ولا يأمر به؛ لأنه مانع من ارتقاء النفوس البشرية، بجعلها ذليلة خاضعة للأرباب المتعددة والمعبودات الحقيرة، من الخشب والنصب، وممن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
ثم لما ذكر سبحانه: أنه لا يرضى لعباده الكفر، بيّن أنه يرضى لهم الشكر، فقال: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا﴾؛ أي: وإن تؤمنوا به تعالى، وتوحدوه، يدل عليه، ذكره في مقابلة الكفر. ﴿يَرْضَهُ لَكُمْ﴾؛ أي: يرض الشكر، ويحبه عنكم، ويثيبكم عليه، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر؛ لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة، ولأنه على مقتضى السنن القويم والصراط المستقيم العادل، كما قال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ
(١) روح البيان.
489
لَأَزِيدَنَّكُمْ}.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة (١): ﴿يرضه﴾ بضم الهاء مختلسة، وقرأ أبو عمرو، وحمزة في بعض الروايات ساكنة الهاء للتخفيف، وقرأ نافع في بعض الروايات، وابن عامر، والكسائي، وابن ذكوان، والدوري مضمومة الهاء مشبعة.
ثم ذكر سبحانه: أن كل إنسان يوم القيامة يجازى بما قدم من عمل، ولا يضيره عمل غيره، فقال: ﴿وَلا تَزِرُ﴾؛ أي: لا تحمل ﴿وازِرَةٌ﴾؛ أي: نفس حاملة للوزر والإثم ﴿وِزْرَ﴾؛ أي: حمل، وذنب نفس ﴿أُخْرى﴾؛ أي: غيرها، وهذا بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره أصلًا؛ أي: ولا تحمل أي نفس أوزار نفس أخرى، بل كل مطالب بعمل نفسه خيرًا كان أو شرًا.
ثم بيّن أن جزاء المرء في الآخرة، وفق ما عمل في الدنيا، فقال: ﴿ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ﴾؛ أي: ثم بعد موتكم إلى خالقكم، لا إلى غيره ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾؛ أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: فيخبركم عند ذلك ﴿بِما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَعْمَلُونَ﴾ ـه من خير وشر، فيجازيكم على ذلك ثوابًا وعقابًا، وفيه تهديد شديد.
وفي تفسير «أبي السعود» في غير هذا الموضع: عبّر (٢) عن إظهاره التنبئة، لما بينهما من الملابسة، في أنهما سببان للعلم، تنبيها على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه، غافلين عن سوء عاقبته؛ أي: يظهر لكم على رؤوس الأشهاد، ويعلمكم أي شيء شنيع كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار، ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء، انتهى.
وحاصل المعنى (٣): أي ثم بعد موتكم، مصيركم يوم القيامة إلى خالقكم، البصير بأمركم العليم بالسر والنجوى، فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا، إذ لا
(١) المراح.
(٢) أبو السعود.
(٣) المراغي.
490
تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء، ثم يجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، فاحذروا أن تلقوا ربكم، وقد عملتم في الدنيا ما لا يرضاه، فتهلكوا.
ثم بيّن أن هذه المجازاة، ليست بالعسيرة عليه سبحانه، فقال: ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى، ﴿عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾؛ أي: بخطرات القلوب، فضلًا عن غيرها، وهذا تعليل للتنبئة؛ أي: مبالغ في العلم بمضمرات القلوب، فكيف بالأعمال الظاهرة؟ وأصله: عليم بمضمرات صاحبة الصدور، وهي القلب؛ أي: إنه تعالى محيي جميع أعمالكم حتى ما تضمره صدوركم، مما لا تدركه أعينكم، فكيف بما رأته العيون، وأدركته الأبصار؟ وفي الآية دليل على أن ضرر الكفر والطغيان يعود إلى نفس الكافر، كما أن نفع الشكر والإيمان يعود إلى نفس الشاكر، والله غني عن العالمين، كما في الأحاديث القدسية: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم - أي: على تقوى أتقى قلب رجل - ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم.. ما نقص ذلك من ملكي شيئًا»، وفي آخر الحديث: «فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه». جعلنا الله وإياكم من عباده الصالحين، الصادقين المخلصين في الأقوال والأفعال والأحوال، دون الفاسقين الكاذبين المرائين، آمين يا من يقبل اليسير ويعطي الكثير.
٨ - ثم بيّن سبحانه شأن الكافر بالنسبة إلى ربه، فقال: ﴿وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ﴾؛ أي: أصاب الإنسان، ووصل إليه ﴿ضُرٌّ﴾؛ أي: سوء حال أي ضر كان، من مرض أو فقر أو خوف ﴿دَعا رَبَّهُ﴾ في كشف ذلك الضر، حال كونه ﴿مُنِيبًا إِلَيْهِ﴾؛ أي: راجعًا إليه تعالى، مستغيثًا به في دفع ما نزل به، تاركًا لما كان يدعون، ويستغيث به من ميت أو حي أو صنم أو غير ذلك، والإنابة إلى الله: الرجوع إليه بالتوبة، وإخلاص العمل له. والنوب: رجوع الشيء مرة بعد أخرى، وهذا وصف للجنس بحال بعض أفراده، كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ
491
كَفَّارٌ}. وفيه (١) إشارة، إلى أن من طبيعة الإنسان، أنه إذا مسه ضرب خشع وخضع وإلى ربه فزع، وتملق بين يديه وتضرع. ﴿ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ﴾ وأعطاه ﴿نِعْمَةً﴾ عظيمة صادرة ﴿مِنْهُ﴾ تعالى، حاصلة من جنابه، وأزال عنه ضره، وكفاه أمره، وأصلح باله، وأحسن حاله ﴿نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ﴾؛ أي: نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل أن يخوله ما خوله، كقوله تعالى: ﴿مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾، وقيل: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به، وتركه. أو نسي ربه الذي كان يدعوه، ويتضرع إليه إما بناء على أن ﴿مًا﴾ بمعنى: من كان في قوله تعالى: ﴿وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣)﴾، وإما إيذانًا بأن نسيانه، بلغ إلى حيث لا يعرف مدعوه ما هو، فضلًا عن أن يعرفه من هو، فيعود إلى رأس كفرانه، وينهمك في كبائر عصيانه، ويشرك بمعبوده، ويصر على جحوده، وذلك لكون دعائه المحسوس معلولًا بالضر الممسوس، لا ناشئًا عن الشوق إلى الله المأنوس. وهو معنى قوله: ﴿وَجَعَلَ﴾ ذلك الإنسان ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه ﴿أَنْدادًا﴾؛ أي: شركاء من الأصنام أو غيرها يستغيث بها، ويعبدها ﴿لِيُضِلَّ﴾ الناس بذلك ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾ تعالى؛ أي: عن طريق الله التي هي الإسلام والتوحيد.
وقرأ الجمهور: ﴿لِيُضِلَّ﴾ بضم الياء؛ أي: ما اكتفى بضلال نفسه حتى جعل غيره يضل. وقرأ (٢) ابن كثير، وأبو عمرو، وعيسى: بفتحها.
ثم أمر الله سبحانه، رسوله - ﷺ -، أن يهدد من كان متصفًا بتلك الصفة، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد تهديدًا لذلك الضال المضل، وبيانًا لحاله ومآله: ﴿تَمَتَّعْ﴾؛ أي: عش في الدنيا ﴿بِكُفْرِكَ﴾؛ أي: في كفرك، واستمتع بزخارفها تمتعًا ﴿قَلِيلًا﴾ فمتاع الدنيا قليل وإن طالت، فهو صفة لمصدر محذوف، أو زمانًا قليلًا، فهو صفة زمان محذوف، فالأمر بالتمتع للتهديد، كقوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
492
ثم علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ في الآخرة﴾؛ أي: من ملازميها، والمعذبين فيها على الدوام، وهو تعليل لقلة التمتع، وفيه من الإقناط من النجاة ما لا يخفى كأنه قيل: وإذ قد أبيت قبول ما أمرت به، من الإيمان والطاعة، فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته.
والمعنى (١): أي وإذا أصاب الكافر بلاء في جسده، أو شدة في معيشته، أو خوف على حياته.. استغاث بربه الذي خلقه، ورغب إليه في كشف ما نزل به، تائبا إليه مما كان عليه من قبل ذلك من الكفر به، وإشراك الآلهة والأوثان في عبادته، ثم إذا منحه نعمة منه فأزال ما به من ضر، وأبدله بالسقم صحة وبالشدة رخاء.. ترك دعاءه الذي كان يدعوه من قبل، أن يكشف ما كان به من ضر، فجعل لله شركاء، وأضل الناس، ومنعهم من توحيده والإقرار به، والدخول في الإسلام له، ثم أوعده، وهدده فقال: ﴿تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا...﴾ إلخ؛ أي: قل أيها (٢) الرسول لمن فعل ذلك: تمتع بما أنت فيه من زخرف الدنيا ولذاتها، منصرفًا عن النظر إلى أدلة التوحيد، التي أوجدها الله سبحانه في الأكوان، وجعلها في نفس الإنسان زمنًا قليلًا إلى أن تستوفي أجلك، وتأتيك منيتك، ثم أنت بعد ذلك من أصحاب النار المخلدين فيها أبدًا.
٩ - ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين، وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم.. ذكر صفات المؤمنين، فقال: ﴿أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ﴾ إلخ، وهذا إلى آخره، من تمام الكلام المأمور به رسول الله - ﷺ -، و ﴿أَمَّنْ﴾ بالتشديد، على أن أصله: أم من هو قانت، وهي إما متصلة حذف معادلها، والمعنى: قل له يا محمد: أأنت أيها المشرك أحسن حالًا ومآلًا، أم من هو قانت وعابد لربه، قائم بأداء الطاعات ﴿آناءَ اللَّيْلِ﴾ ودائب على وظائف العبادات في ساعات الليل أوله، وآخره، ووسطه التي تكون فيها العبادة أشق على النفوس، وأبعد عن
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
493
الرياء، فتكون أقرب إلى القبول، وقوله: ﴿ساجِدًا﴾ حال (١) من ضمير ﴿قانِتٌ﴾؛ أي: حال كونه ساجدًا في صلاته ﴿وَقائِمًا﴾ فيها، وتقديم السجود على القيام، لكونه أدخل في معنى العبادة، والواو للجمع بين الصفتين، فالمعنى: ﴿قانِتٌ﴾؛ أي: قائم طويل القيام في الصلاة، كما يشعر به ﴿آناءَ اللَّيْلِ﴾؛ لأنه إذا قام في ساعات الليل، فقد أطال القيام بخلاف من قام في جزء من الليل، والمراد بالسجود والقيام: الصلاة، عبّر عنها بهما لكونهما أعظم أركانها، والاستفهام على كونها متصلة للتقرير. ولا شك أن الجواب لا يحتاج إلى بيان، وإما منقطعة فتقدّر ببل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري، والمعنى: بل أمن هو قانت مطيع لربه ساجدًا وقائمًا كالكافر المقول له: تمتع بكفرك قليلًا؛ أي: لا يستويان، بل هو في الجنة والكافر في النار.
وقرأ ابن كثير ونافع، وحمزة، والأعمش، وعيسى، وشيبة، والحسن في رواية (٢): ﴿أمن﴾ بتخفيف الميم، والظاهر: أن الهمزة لاستفهام التقرير، ومقابله محذوف لفهم المعنى، والتقدير: أهذا القانت خير، أم الكافر المخاطب بقوله: ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ﴾، ويدل عليه قوله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾، وقرأ باقي السبعة، والحسن، وقتادة، والأعرج، وأبو جعفر: أمن بتشديد الميم، وهي ﴿أم﴾ أدغمت ميمها في ميم ﴿من﴾، فاحتملت ﴿أم﴾ أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها، تقديره: أهذا الكافر خير، أم من هو قانت، واحتملت أن تكون منقطعة تقدر ببل والهمزة، والتقدير: بل أم من هو قانت صفته كذا، كمن ليس كذلك. وقرأ الجمهور ﴿ساجِدًا وَقائِمًا﴾ بالنصب على الحال، والضحاك برفعهما إما على النعت لقانت، وإما على أنه خبر بعد خبر.
وقوله: ﴿يَحْذَرُ الْآخِرَةَ﴾ حال أخرى (٣) على الترادف، أو التداخل أو استئناف، كأنه قيل: ما باله يفعل القنوت في الصلاة؟ فقيل: هو يحذر عذاب الآخرة لإيمانه بالبعث. ﴿وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾؛ أي: المغفرة أو الجنة، لا أنه يحذر
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
494
ضر الدنيا ويرجو خيرها فقط كالكافر؛ أي: حالة كونه يخاف عذاب الآخرة ويرجو جنة ربه، فينجو مما يخافه ويفوز بما يرجوه، ودلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء، يرجو رحمة ربه لعمله، ويخاف عذابه لتقصيره في عمله، ثم الرجاء إذا جاوز حده يكون آمنا، والخوف إذا جاوز حده يكون يائسا، وكل منهما كفر، فوجب أن يعتدل كما قال - ﷺ -: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا»، وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز.
ثم أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ -، أن يقول لهم قولًا آخر، يتبين به الحق من الباطل، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد بيانًا للحق، وتنبيهًا على شرف العلم والعمل: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾ حقائق الأعمال، فيعملون بموجب علمهم، كالقانت المذكور ﴿وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ ما ذكر، فيعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم، كالكافر المذكور، أو الذين (١) يعلمون أن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حق، والذين لا يعلمون ذلك، أو الذين يعلمون ما أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك، أو المراد: العلماء، والجهال، ومعلوم عند كل من له عقل، أنه لا استواء بين العلم والجهل، ولا بين العالم والجاهل، وقال الزجاج؛ أي: كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقيل: المراد بالذين يعلمون: هم العاملون بعلمهم، فإنهم المنتفعون به؛ لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم، والاستفهام فيه للتنبيه على كون الأولين في أعلى معارج الخير، وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر، وفي «بحر العلوم»: الفعل منزل منزلة اللازم، ولم يقدر له مفعول؛ لأن المقدر كالمذكور. والمعنى: لا يستوي من يوجد فيه حقيقة العلم ومن لم يوجد.
وعبارة المراغي هنا (٢): أي قل أيها الرسول لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعة ربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من عقاب، والذين لا يعلمون ذلك؟ فهم يخبطون خبط عشواء، لا يرجون بحسن
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
495
أعمالهم خيرًا، ولا يخافون من سيئها شرًا، وجاء هذا الكلام بأسلوب الاستفهام، للدلالة على أن الأولين بلغوا أعلى معارج الخير، وأن الآخرين درجوا في دركات الشر، ولا يخفى ذلك على منصف ولا مكابر.
ثم بيّن أن ما سلف إنما يفهمه كل ذي لب، فأمثال هؤلاء على قلوبهم غشاوة لا يفقهون موعظة، ولا تنفع فيهم التذكرة، فقال: ﴿إِنَّما يَتَذَكَّرُ﴾ ويتعظ، ويتدبر، ويتفكر ﴿أُولُوا الْأَلْبابِ﴾؛ أي أصحاب العقول الكاملة، السالمة من الشك والشرك، وهم المؤمنون، لا الكفار، وقرىء: ﴿يذكر﴾ بإدغام تاء ﴿يَتَذَكَّرُ﴾ في الذال، وهذا كلام (١) مستقل، غير داخل في الكلام المأمور به، وارد من جهته تعالى؛ أي: إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة، أصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل والوهم، وهؤلاء بمعزل عن ذلك، قيل: قضية اللب الاتعاظ بالآيات، ومن لم يتعظ فكأنه لا لب له، ومَثَلهُ مَثَلُ البهائم.
والخلاصة: أنه إنما يعلم الفرق بين هذا وذاك، من له لب وعقل يتدبر به، وقيل لبعض العلماء (٢): إنكم تقولون: العلم أفضل من المال، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك؛ ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء، فأجاب: بأن هذا أيضًا يدل على فضيلة العلم. لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه.
١٠ - ولما نفى الله سبحانه المساواة، بين من يعلم ومن لا يعلم، وبيّن أنه إنما يتذكر أولو الألباب.. أمر رسوله - ﷺ - بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه، والإيمان به. فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لعبادي المؤمنين: ﴿يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بتوحيد الله ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ بامتثال مأموراته، واجتناب منهياته، وإخلاص الإيمان له، ونفي الشركاء عنه؛ أي: قل لهم: قولي هذا بعينه؛ أي:
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
496
قل لهم: ربكم يقول: أطيعوا ربكم في الصغير والكبير من الأمور، وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة، فإنه أصله: يا عبادي بالياء، حذفت اكتفاءً بالكسرة.
والمعنى: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾؛ أي: دوموا، واثبتوا على تقوى ربكم؛ لأن بالإيمان حصلت التقوى عن الكفر والشرك، أو اتقوا عذابه وغضبه باكتساب طاعته، واجتناب معصيته، أو اتقوا به عما سواه، حتى تخلصوا من نار القطيعة، وتفوزوا بوصاله ونعيم جماله.
ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى، بيّن لهم ما في هذه التقوى من الفوائد، فقال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾؛ أي: للذين عملوا الأعمال الحسنة على وجه الإخلاص. خبر مقدم ﴿فِي هذِهِ الدُّنْيا﴾ متعلق بأحسنوا ﴿حَسَنَةٌ﴾ عظيمة ومثوبة كبيرة في الآخرة، لا يعرف كنهها، مبتدأ مؤخر. وهي الجنة، والشهود؛ لأن جزاء الإحسان الإحسان، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، فالمحسن هو المشاهد، وبمشاهدة الله يغيب ما سوى الله تعالى، فلا يبقى إلا هو، وذلك حقيقة الإخلاص، وأما غير المحسن، فعلى خطر لبقائه مع ما سوى الله تعالى، فلا يأمن من الشرك والرياء القبيح، ومن كان عمله قبيحًا لم يكن جزاؤه حسنًا، وقيل: ﴿فِي هذِهِ الدُّنْيا﴾ متعلق بـ ﴿حَسَنَةٌ﴾ على أنه بيان لمكانها، فيكون المعنى: للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة، والعافية، والظفر، والغنيمة، والأول أولى.
وحاصل المعنى: أي لمن أحسن في هذه الدار، وعمل صالح الأعمال، وزكى نفسه فيها، حسنة من صحة وعافية، ونجاح في الأعمال، التي يزاولها كفاء ما يتحلى به، من تمسك بآداب الدين واتباع فضائله، وحسنة في الآخرة، فيتمتع بجنات النعيم ورضوان الله عنه ﴿وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾.
ثم لما كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات، والإحسان في وطنه، أرشد الله سبحانه، من كان كذلك إلى الهجرة من مكة إلى المدينة،
497
وصبّرهم على مفارقة الأوطان، فقال: ﴿وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ﴾ فمن (١) تعسر عليه التوفر على التقوى، والإحسان في وطنه. فليهاجر إلى حيث يتمكن فيه من ذلك، كما هو سنة الأنبياء، والمرسلين، والصالحين، فإنه لا عذر له في التفريط أصلًا؛ أي: إنكم إذا لم تتمكنوا من التوفر على الإحسان والتقوى، وصرف الهمم إلى العبادة في البلد الذي أنتم فيه، فتحولوا عنه إلى بلاد تستطيعون فيها ذلك، واجعلوا أسوتكم الأنبياء والصالحين، فقد فعل كثير منهم ذلك، وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي، وقد ورد: «إن من فر بدينه من أرض إلى أرض وجبت له الجنة»، وإنما قال: «بدينه» احترازًا عن الفرار بسبب الدنيا ولأجلها، خصوصًا إذا كان المهاجر إليه أعصى من المهاجر منه، وقيل المراد بالأرض هنا: أرض الجنة، رغّبهم في سعتها وسعة نعيمها، كما في قوله: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ﴾. والأول أولى.
ثم ذكر ما لهم من رفيع المنزلة، وعظيم الأجر على ذلك. فقال: ﴿إِنَّما يُوَفَّى﴾ ويعطى ﴿الصَّابِرُونَ﴾ الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى، وحافظوا على حدوده، ولم يفرطوا في مراعاة حقوقه، لما اعتراهم في ذلك من فنون الآلام، والبلايا التي من جملتها مهاجرة الأهل، ومفارقة الأوطان، والمعنى: يعطون ﴿أَجْرَهُمْ﴾ بمقابلة ما كابدوا من الصبر ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾؛ أي: بحيث لا يحصى، ولا يحصر؛ أي: يوفيهم الله، ويعطيهم أجرهم وافيًا كاملًا في مقابلة صبرهم بغير حساب؛ أي (٢): بما لا يقدر على حصره حاصر، ولا يستطيع حسابه حاسب. قال عطاء: بما لا يهتدي إليه عقل، ولا وصف، وقال مقاتل: أجرهم الجنة، وأرزاقهم فيها بغير حساب.
والحاصل: أن الآية تدل (٣) على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له؛ لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
498
فهو غير متناه، وهذه فضيلة عظيمة، ومثوبة جليلة تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله تعالى، وطامع فيما عنده من الخير، أن يتوفر على الصبر، ويزم نفسه بزمامه، ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل ولا يجلب خيرًا قد سلب، ولا يدفع مكروهًا قد وقع، وإذا تصور العاقل هذا حق تصوره، وتعقله حق تعقله، علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم، وظفر بهذا الجزاء الخطير، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى، ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، فضم إلى مصيبته مصيبةً أخرى، ولم يظفر بغير الجزع، وفي الحديث: «أنه تنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج، فيوفون بها أجورهم، ولا تنصب لأهل البلاء، بل يصب عليهم الأجر صبًا، حتى يتمنى أهل المعافاة في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل». وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: سمعت جدي رسول الله - ﷺ - يقول: «أد الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصب عليهم الأجر صبًا». ثم تلا هذه الآية ﴿إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾.
وسئل النبي - ﷺ - أي الناس أشد بلاءً؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه». فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه ذا رقة هوّن عليه، فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض كمن ليس له ذنب، وقال - ﷺ -: «إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله.. ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبر على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله»، وإن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله عز وجل، إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي، فله الرضى، ومن سخط فله السخط، وقال يوسف بن الحسين: ليس بصابر من يتجرع المصيبة، ويبدي فيها الكراهة، بل الصابر من يتلذذ بصبره، حتى يبلغ به إلى مقام الرضا.
١١ - وروى مقاتل: أن كفار قريش، قالوا للنبي - ﷺ -: ما يحملك على الذي أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة آبائك وسادات قومك، يعبدون اللات والعزى، فتأخذ بتلك
الملة. فقال تعالى له: ﴿قُلْ﴾ يا محمد - ﷺ - لهؤلاء المشركين: ﴿إِنِّي أُمِرْتُ﴾ من جانبه تعالى بـ ﴿أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ﴾ سبحانه، وحده، حال كوني ﴿مُخْلِصًا لَهُ﴾ تعالى ﴿الدِّينَ﴾؛ أي: العبادة من الشرك والرياء، بأن يكون المقصود من العبادة هو المعبود بالحق، لا غير.
والمعنى (١): أي قل أيها الرسول لمشركي قومك: إن الله سبحانه، أمرني أن أعبده مفردًا له الطاعة، دون كل ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد، وفي هذا نعي لهم، على تماديهم في عبادة الأوثان، والكلام عليه من وادي قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة.
١٢ - ﴿وَأُمِرْتُ﴾ بذلك ﴿لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ من هذه الأمة؛ أي: لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة؛ لأن السبق في الدين، إنما هو بالإخلاص فيه، فمن أخلص عد سابقا، فإذا كان الرسول، متصفا بالإخلاص قبل إخلاص أمته..
فقد سبقهم في الدارين، إذ لا يدرك المسبوق مرتبة السابق، ألا ترى إلى الأصحاب مع من جاء بعدهم، والظاهر (٢): أن اللام زائدة، فيكون كقوله تعالى: ﴿أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾، فالمعنى: وأمرت أن أكون أول من أسلم من أهل زماني؛ لأن كل نبي يتقدم أهل زمانه في الإسلام والدعاء إلى خلاف دين الآباء، وإن كان قبله مسلمون، قال بعضهم: الإخلاص: أن يكون جميع الحركات في السر والعلن لله تعالى وحده، لا يمازجه شيء.
وقال الزمخشري: فإن قلت (٣): كيف عطف ﴿أُمِرْتُ﴾ على ﴿أُمِرْتُ﴾ وهما واحد؟.
قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء آخر، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه، ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، انتهى.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الكشاف.
١٣ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لمشركي قومك: ﴿إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي﴾ وخالفته بترك الإخلاص، والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك ﴿عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾؛ أي: أخاف من عذاب يوم القيامة، وهو يوم عظيم، لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال، بحسب عظم المعصية وسوء الحال، وفيه زجر عن المعصية بطريق المبالغة؛ لأنه عليه السلام، مع جلالة قدره، إذا خاف على تقدير العصيان، فغيره من الأمة أولى بذلك الخوف.
قال أكثر المفسرين (١): المعنى إني أخاف إن عصيت ربي، بإجابة المشركين إلى ما دعوني إليه، من عبادة غير الله عذاب يوم القيامة، عظيم الشأن والأهوال، وقال أبو حمزة اليماني، وابن المسيّب: هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ﴾، وفي هذه الآية دليل على أن الأمر للوجوب؛ لأن قبله ﴿إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ﴾، فالمراد: عصيان هذا الأمر، وفي هذا من التعريض بهم ما لا يخفى.
١٤ - ثم كرر الأمر مرة أخرى، بالإخلاص في الطاعة، للتهديد والوعيد، فقال: ﴿قُلِ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين: ﴿اللَّهَ﴾ سبحانه، نصب بقوله: ﴿أَعْبُدُ﴾ على ما أمرت به لا غيره، لا استقلالًا، ولا اشتراكًا، والتقديم مشعر بالاختصاص حالة كوني ﴿مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ وعبادتي من كل شائبة شرك، وشك، ورياء، وسمعة.
فإن قلت (٢): ما فائدة التكرار في قوله: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (١١)﴾، وفي قوله: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (١٤)﴾؟.
قلت: هذا ليس بتكرار؛ لأن:
الأول: الإخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى، بالإتيان بالعبادة والإخلاص.
والثاني: أنه إخبار بأنه أمر أن يخص الله تعالى، وحده بالعبادة، ولا يعبد
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
أحدًا غيره، مخلصًا له دينه؛ لأن قوله: ﴿أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ﴾ لا يفيد الحصر، وقوله: ﴿اللَّهَ أَعْبُدُ﴾ يفيد الحصر. والمعنى: الله أعبد ولا أعبد أحدًا غيره.
والحاصل: أنه سبحانه أمر رسوله - ﷺ - (١):
أولًا: بأن يخبرهم بأنه مأمور بالعبادة والإخلاص فيها.
وثانيًا: بأن يخبرهم بأنه مأمور، بأن يكون أول من أسلم وأطاع وانقاد.
وثالثًا: بأن يخبرهم بخوفه من العذاب، على تقدير العصيان.
١٥ - ورابعًا: بأن يخبرهم، بأنه امتثل الأمر وانقاد وعبد الله تعالى، وأخلص له الدين، على أبلغ وجه وآكده، إظهارا لتصلبه في الدين، وحسمًا لأطماعهم الفارغة، وتمهيدًا لتهديدهم بقوله: ﴿فَاعْبُدُوا...﴾ إلخ؛ أي: قد امتثلت أنا ما أمرت به، فاعبدوا يا معشر المشركين ﴿ما شِئْتُمْ﴾ قال في «الإرشاد»: وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى، كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه، أمروا به كي يحل بهم العقاب.
ولما قال المشركون: خسرت يا محمد، حيث خالفت دين آبائك، قال تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم: ﴿إِنَّ الْخاسِرِينَ﴾؛ أي: الكاملين في الخسران، الذي هو عبارة عن إضاعة ما يهمه، وإتلاف ما لا بد منه، هم ﴿الَّذِينَ﴾ فالجملة من الموصول، والصلة خبر ﴿إِنَّ﴾ ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بالضلال واختيار الكفر لها؛ أي: أضاعوها، وأتلفوها إتلاف البضاعة، فقوله: ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعول ﴿خَسِرُوا﴾. ﴿وَأَهْلِيهِمْ﴾ بالضلال، واختيار الكفر لهم أيضًا ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ يوم يدخلون النار بدل الجنة، حيث عرّضوهما للعذاب السرمدي، وأوقعوهما في هلكة لا هلكة وراءها. ﴿أَلا﴾ انتبهوا، واستمعوا ﴿ذلِكَ﴾ الخسران ﴿هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: الظاهر الجلي، حيث استبدلوا بالجنة نارًا، وبالدرجات دركات، كما في «كشف الأسرار»، وفي «التأويلات النجمية»: الخاسر في الحقيقة، من خسر دنياه بمتابعة
(١) أبو السعود.
الهوى، وخسر عقباه بارتكاب ما نهى عنه، وخسر مولاه بتولي غيره.
والمعنى (١): أي قل لهم أيها الرسول: إن الخسران الذي لا خسران بعده، هو خسران النفس، وإضاعتها بالضلال، وخسران الأتباع الذين أضلوهم، وأوقعوهم في العذاب السرمدي يوم القيامة، إذ أوقعوهم في هلكة ما بعدها هلكة، ألا هو الخسران المبين، الظاهر لكمال هوله، وفظاعة شأنه.
١٦ - ثم فصل ذلك الخسران، وبينه بعد إبهامه، تهويلًا وتعظيمًا لأمره فقال: ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، والضمير للخاسرين ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ حال من ﴿ظُلَلٌ﴾ وهو مبتدأ مؤخر ﴿مِنَ النَّارِ﴾ صفة لـ ﴿ظُلَلٌ﴾، والظل: جمع ظلة كغرف وغرفة، كما سيأتي، وهي في الأصل: سحابة تظل، والمراد هنا (٢): طباق وسرادقات من النار ودخانها، وسميت النار ظلة لغلظها وكثافتها، ولأنها تمنع من النظر إلى ما فوقهم، والمعنى: للخاسرين ظلل وطبقات من النار، ودركات كثيرة متراكبة بعضها فوق بعض، حال كون تلك الظلل من فوقهم ﴿وَمِنْ تَحْتِهِمْ﴾ أيضًا ﴿ظُلَلٌ﴾ والمراد: إحاطة النار بهم من جميع جوانبهم، كما قال تعالى: ﴿أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها﴾. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾، وقوله: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ﴾.
والمعنى: أي لهم من فوقهم أطباق من النار، تلتهب عليهم، ومن تحتهم ظلل؛ أي: أطباق من النار، وسمي ما تحتهم ظللا لأنها تظلل من تحتها من أهل النار؛ لأن طبقات النار، كان في كل طبقة منها طائفة من طوائف الكفار، كما قال السدي: هي لمن تحتهم ظلل، وهكذا حتى ينتهي إلى القعر والدرك الأسفل، الذي هو للمنافقين. فالظلل لمن تحتهم، وهي فرش لهم، وكما قال في «الأسئلة المقحمة»: كيف يسمى ما هو الأسفل ظللًا والظلل ما يكون فوقًا؟
والجواب: لأنها تظلل من تحتها.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
503
وفي (١) ذلك إشعار بشدة حالهم في النار، وتهكم بهم؛ لأن الظلة إنما هي للاستظلال والتبرد، خصوصًا في الأراضي الحارة كأرض الحجاز، فإذا كانت من النار نفسها كانت أحر، ومن تحتها أغم.
﴿ذَلِكَ﴾ العذاب الفظيع هو الذي ﴿يُخَوِّفُ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿بِهِ﴾ بذلك العذاب ﴿عِبادَهُ﴾ في القرآن ليؤمنوا، ويحذرهم إياه بآيات الوعيد، ليجتنبوا ما يوقعهم فيه، وفي «الوسيط»: يخوف الله به عباده المؤمنين، يعني: أن ما ذكر من العذاب معد للكفار، وهو تخويف للمؤمنين ليخافوه، فيتقوه بالطاعة والتوحيد، وهو معنى قوله: ﴿يَاعِبَادِ﴾ بحذف الياء، وأصله يا عبادي بالياء ﴿فَاتَّقُونِ﴾ ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي؛ أي: اتقوا هذه المعاصي، الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار. ووجه تخصيص العباد بالمؤمنين (٢): أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم، وقيل: هو للكفار وأهل المعاصي، وقيل: هو عام للمسلمين والكفار. وهذه عظة من الله تعالى، بالغة منطوية على غاية اللطف والرحمة، وفيه إشارة، إلى أن الله تعالى، خلق جهنم سوطًا يسوق به عباده إلى الجنة، إذ ليس تحت الوجود إلا ما هو مشتمل على الحكمة والمصلحة، فمن خاف بتخويف الله تعالى إياه، من هذا الخسران.. فهو عبده عبدًا حقيقيًا، ومستأهل لشرف الإضافة إليه.
ومعنى قوله: ﴿ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ﴾؛ أي (٣): إنما يقص عليكم ربكم خبر ما سيكون، لا محالة، ليزدجر عباده عن المحارم والآثام، ومعنى قوله: ﴿يا عِبادِ فَاتَّقُونِ﴾؛ أي: يا عبادي بالغوا في الخوف والحذر والتقوى، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي. وهذه منة منه تعالى، منطوية على نهاية اللطف والرحمة.
الإعراب
{تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
504
اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (٢)}.
﴿تَنْزِيلُ﴾: مبتدأ، ﴿الْكِتابِ﴾: مضاف إليه. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: خبر، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًا. ﴿الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾: نعتان للجلالة، ويجوز أن يكون ﴿تَنْزِيلُ﴾: خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا تنزيل الكتاب؛ أي: هذا القرآن هو الكتاب المنزل، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ متعلق بالمصدر، أو بمحذوف خبر بعد خبر. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿أَنْزَلْنا﴾: فعل، وفاعل. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، ﴿الْكِتابَ﴾: مفعول به. ﴿بِالْحَقِّ﴾: حال من الفاعل؛ أي: ملتبسين بالحق، أو من المفعول؛ أي: ملتبسًا بالحق. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت إنزالنا عليك الكتاب، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول: اعبد الله مخلصًا له الدين. ﴿اعبد الله﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿مُخْلِصًا﴾: حال من فاعل اعبد، ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿مُخْلِصًا﴾، و ﴿الدِّينَ﴾: مفعول ﴿مُخْلِصًا﴾
﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)﴾.
﴿أَلا﴾: حرف استفتاح وتنبيه، ﴿لِلَّهِ﴾: خبر مقدم، ﴿الدِّينُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿الْخالِصُ﴾: صفة لـ ﴿الدِّينُ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة، مقررة لما قبلها. ﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿اتَّخَذُوا﴾ صلة الموصول، ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: مفعول ثان لـ ﴿اتَّخَذُوا﴾، أو حال من الفاعل، ﴿أَوْلِياءَ﴾: مفعول أول، ﴿ما﴾ نافية، ﴿نَعْبُدُهُمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لقول محذوف، هو خبر المبتدأ، والتقدير: والذين اتخذوا من دونه أولياء، يقولون ما نعبدهم، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿أَلا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ﴾: اللام: لام
505
كي، ﴿يقربونا﴾: فعل مضارع، وفاعل، ومفعول به منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأن أصله: يقربوننا. والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: إلا لتقريبهم إيانا إلى الله سبحانه، الجار والمجرور متعلق بنعبدهم، والاستثناء من أعم الأحوال؛ أي: ما نعبدهم لحال من الأحوال إلا لتقريبهم إيانا إلى الله تعالى. ﴿زُلْفى﴾ مصدر مؤكد، ليقربونا من غير لفظه، ولكنه ملاق لعامله في المعنى. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَحْكُمُ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿بَيْنَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَحْكُمُ﴾، ﴿فِي ما﴾: متعلق بـ ﴿يَحْكُمُ﴾ أيضًا، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾، وجملة ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾ خبرهم، والجملة الاسمية صلة ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لا يَهْدِي﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿مِنْ﴾ اسم موصول، في محل النصب مفعول ﴿يَهْدِي﴾، ﴿هُوَ كاذِبٌ﴾ مبتدأ وخبر، ﴿كَفَّارٌ﴾ خبر ثان، والجملة الاسمية صلة ﴿مِنْ﴾ الموصولة.
﴿لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)﴾.
﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿أَرادَ اللَّهُ﴾: فعل، وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَتَّخِذَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، منصوب بأن المصدرية ﴿وَلَدًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية مع صلتها، في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿أَرادَ﴾، تقديره: لو أراد الله سبحانه، اتخاذه ولدًا لنفسه. ﴿لَاصْطَفى﴾ اللام: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾، ﴿اصطفى﴾: فعل، وفاعل مستتر، يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿مِمَّا﴾: متعلق بـ ﴿اصطفى﴾، وجملة ﴿اصطفى﴾ جواب ﴿لَوْ﴾: الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿يَخْلُقُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر
506
يعود على الله، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، والعائد محذوف تقديره: مما يخلقه. ﴿ما يَشاءُ﴾: ما اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿اصطفى﴾، وجملة ﴿يَشاءُ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما يشاؤه، ﴿سُبْحانَهُ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوه سبحانًا، أو أسبحه سبحانًا. والجملة مستأنفة. ﴿هُوَ اللَّهُ﴾: مبتدأ، وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿الْواحِدُ الْقَهَّارُ﴾: نعتان للجلالة، ﴿خَلَقَ السَّماواتِ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة مستأنفة. ﴿وَالْأَرْضَ﴾ معطوف على السموات، ﴿بِالْحَقِّ﴾: حال من الفاعل أو من المفعول، ﴿يُكَوِّرُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿اللَّيْلَ﴾: مفعول به، ﴿عَلَى النَّهارِ﴾: متعلق بـ ﴿يُكَوِّرُ﴾، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿خَلَقَ﴾، أو مستأنفة مسوقة لبيان كيفية تصرفه. ﴿وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ معطوفة على نظيرتها. ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على ﴿خَلَقَ السَّماواتِ﴾، ﴿وَالْقَمَرَ﴾: معطوف على الشمس. ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد العموم، وجملة ﴿يَجْرِي﴾: خبره، ﴿لِأَجَلٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَجْرِي﴾، ﴿مُسَمًّى﴾: نعت ﴿لِأَجَلٍ﴾. والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿أَلا﴾: حرف استفتاح، ﴿هُوَ الْعَزِيزُ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿الْغَفَّارُ﴾: خبر ثان. والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)﴾.
﴿خَلَقَكُمْ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ نَفْسٍ﴾ متعلق بخلق، ﴿واحِدَةٍ﴾: صفة ﴿نَفْسٍ﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، وسيأتي سر العطف بها في البلاغة. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿خَلَقَكُمْ﴾، ﴿مِنْها﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿زَوْجَها﴾: مفعول به، ﴿وَأَنْزَلَ﴾: معطوف على خلقكم، ﴿لَكُمْ﴾ حال من ثمانية أزواج، ﴿مِنَ الْأَنْعامِ﴾
507
متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾، ﴿ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ﴾: مفعول به. ﴿يَخْلُقُكُمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة مستأنفة أو حال من فاعل ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾. ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَخْلُقُكُمْ﴾، ﴿خَلْقًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، ﴿مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ﴾: صفة لـ ﴿خَلْقًا﴾ أو متعلق بـ ﴿يَخْلُقُكُمْ﴾، فيكون المصدر لمجرد التأكيد. ﴿فِي ظُلُماتٍ﴾ جار ومجرور، بدل من الجار والمجرور في قوله: ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ﴾، أو متعلق بـ ﴿خَلْقٍ﴾ المجرور قبله، ﴿ثَلاثٍ﴾: صفة ﴿ظُلُماتٍ﴾، ﴿ذلِكُمُ﴾: مبتدأ، ﴿اللَّهُ﴾: خبر أول، والجملة مستأنفة. ﴿رَبُّكُمْ﴾: خبر ثان، ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿الْمُلْكُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع، خبر ثالث لاسم الإشارة، وجملة ﴿لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ خبر رابع له، وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلًا مرارًا، فلا حاجة إلى إعادته. ﴿فَأَنَّى﴾: الفاء: استئنافية. ﴿أنى﴾: اسم استفهام بمعنى كيف، في محل النصب على الحال، مبني على السكون، والعامل فيه ﴿تُصْرَفُونَ﴾، ﴿تُصْرَفُونَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل. والجملة الفعلية مستأنفة.
﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)﴾.
﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿تَكْفُرُوا﴾: فعل، وفاعل مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿إن الله﴾: ناصب واسمه، ﴿غَنِيٌّ﴾: خبره. ﴿عَنْكُمْ﴾: متعلق به، وجملة ﴿إِنْ﴾ في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَلا﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿لا﴾: نافية، ﴿يَرْضى﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿لِعِبادِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَرْضى﴾، ﴿الْكُفْرَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من الضمير المستكن في ﴿غَنِيٌّ﴾. ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا﴾: فعل، وفاعل مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها،
508
﴿يَرْضَهُ﴾: فعل مضارع، ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهَ﴾، مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إِنْ﴾ الأولى. ﴿لَكُمْ﴾ متعلقان به ﴿وَلا تَزِرُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَزِرُ﴾: فعل مضارع، ﴿وازِرَةٌ﴾: فاعل ﴿وِزْرَ أُخْرى﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ، ﴿إِلى رَبِّكُمْ﴾. خبر مقدم، ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على ما قبلها. ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿ينبئكم﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على الجملة الاسمية قبلها، ﴿بِما﴾ متعلق بـ ﴿ينبئكم﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة كان صلة لما الموصولة. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبره، بِذاتِ الصُّدُورِ متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾. وجملة ﴿إِنْ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨)﴾.
﴿وَإِذا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿مَسَّ الْإِنْسانَ﴾: فعل، ومفعول به. ﴿ضُرٌّ﴾: فاعل، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إِذا﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿دَعا رَبَّهُ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة جواب ﴿إِذا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذا﴾ مستأنفة. ﴿مُنِيبًا﴾: حال من فاعل ﴿دَعا﴾، ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿مُنِيبًا﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخ، ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿خَوَّلَهُ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ ﴿إِذا﴾. ﴿نِعْمَةً﴾: مفعول ثان، ﴿مِنْهُ﴾: صفة لـ ﴿نِعْمَةً﴾، ﴿نَسِيَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة جواب ﴿إِذا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذا﴾ معطوفة على جملة ﴿إِذا﴾ الأولى. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول نسي. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على
509
الإنسان. ﴿يَدْعُوا﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَدْعُوا﴾، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق به أيضًا، أو حال من فاعل ﴿يَدْعُوا﴾، وجملة ﴿يَدْعُوا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كانَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ويصح أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: نسي كونه داعيًا. ﴿وَجَعَلَ﴾: فعل، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، معطوف على ﴿نَسِيَ﴾، ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له، ﴿أَنْدادًا﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿لِيُضِلَّ﴾: اللام لام كي، ﴿يضل﴾: فعل، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يضل﴾، وجملة ﴿لِيُضِلَّ﴾: في تأويل مصدر مجرور باللام، ومفعول الإضلال محذوف؛ أي: لإضلاله الناس، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿تَمَتَّعْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة في محل النصب، مقول لـ ﴿قُلْ﴾، ﴿بِكُفْرِكَ﴾ متعلق بـ ﴿تَمَتَّعْ﴾ أو حال من فاعل تمتع؛ أي: ملتبسًا بكفرك، ﴿قَلِيلًا﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تمتعًا قليلًا، أو زمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا. ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿مِنْ أَصْحابِ﴾: خبره، ﴿النَّارِ﴾ مضاف إليه، وجملة إن مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وَقائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾.
﴿أَمَّنْ﴾ ﴿أم﴾: متصلة، ومعادلها محذوف، ﴿من﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، ﴿هُوَ قانِتٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة صلة ﴿من﴾ الموصولة، وخبر ﴿من﴾ الموصولة محذوف والتقدير: أهذا الكافر خير، أم الذي هو قانت خير، أو منقطعة، بمعنى: بل، وهمزة الاستفهام الإنكاري. و ﴿من﴾: مبتدأ، والخبر محذوف أيضًا، تقديره: بل أمن هو قانت كهذا الكافر لا، والجملة مستأنفة. ﴿آناءَ اللَّيْلِ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿قانِتٌ﴾، ﴿ساجِدًا﴾: حال من الضمير المستكن في ﴿قانِتٌ﴾، ﴿وَقائِمًا﴾: معطوف على ﴿ساجِدًا﴾، وجملة ﴿يَحْذَرُ الْآخِرَةَ﴾: حال ثالثة، وجملة ﴿وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾: عطف على جملة ﴿يَحْذَرُ﴾.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ
510
يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)}.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿هَلْ﴾: حرف للاستفهام الإنكاري، ﴿يَسْتَوِي الَّذِينَ﴾: فعل، وفاعل، والجملة مقول لـ ﴿قُلْ﴾، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾: صلة الموصول، ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول، وجملة ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾: صلة الموصول، والاستفهام إنكاري؛ أي: لا يستويان، وفي الآية تنزيل المتعدي منزلة القاصر. ﴿إِنَّما﴾: أداة حصر، ﴿يَتَذَكَّرُ﴾: فعل مضارع، ﴿أُولُوا الْأَلْبابِ﴾: فاعل، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. ﴿يا عِبادِ﴾: منادى مضاف. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة للمنادي وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة ﴿الَّذِينَ﴾، ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول قُلْ: على كونها جواب النداء. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، وجملة ﴿أَحْسَنُوا﴾: صلة الموصول، ﴿فِي هذِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَحْسَنُوا﴾، ﴿الدُّنْيا﴾: بدل من اسم الإشارة. ﴿حَسَنَةٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِنَّما﴾: أداة حصر، ﴿يُوَفَّى الصَّابِرُونَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل، ﴿أَجْرَهُمْ﴾: مفعول به ثان، ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ حال من الأجر، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿أُمِرْتُ﴾: فعل مغير، ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ والتقدير: إني مأمور، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿أَعْبُدَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾،
511
وفاعله ضمير يعود على محمد - ﷺ -، ﴿اللَّهَ﴾ مفعول به، وجملة ﴿أن﴾: المصدرية مع صلتها، في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: أمرت بعبادة الله تعالى، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أُمِرْتُ﴾. ﴿مُخْلِصًا﴾ حال من فاعل ﴿أَعْبُدَ﴾. ﴿لَهُ﴾:
متعلق بـ ﴿مُخْلِصًا﴾. ﴿الدِّينَ﴾: مفعول به لـ ﴿مُخْلِصًا﴾. ﴿وَأُمِرْتُ﴾: فعل، ونائب فاعل، معطوف على أمرت الأول، ﴿لِأَنْ أَكُونَ﴾: اللام: حرف جر بمعنى الباء، ﴿أن﴾: حرف نصب، ﴿أَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص، منصوب بـ ﴿أن﴾، واسمها ضمير يعود على محمد - ﷺ -، ﴿أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ خبرها، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: وأمرت بكوني أول المسلمين من هذه الأمة. ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَخافُ﴾ خبره، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿عَصَيْتُ﴾: فعل، وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وجوابها محذوف تقديره: إن عصيت ربي، أخاف عذابه، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية معترضة بين الفعل ومفعوله على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾، ﴿عَذابَ﴾: مفعول أخاف، ﴿يَوْمٍ﴾: مضاف إليه، ﴿عَظِيمٍ﴾: صفة ﴿يَوْمٍ﴾.
﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)﴾.
﴿قُلِ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. ﴿اللَّهَ﴾: مفعول مقدم، ﴿أَعْبُدُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿مُخْلِصًا﴾: حال من فاعل أعبد، ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿مُخْلِصًا﴾، ﴿دِينِي﴾: مفعول ﴿مُخْلِصًا﴾، ومضاف إليه. ﴿فَاعْبُدُوا﴾: الفاء: عاطفة، أو فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم عبادتي الله، وأردتم بيان ما أقول لكم.. فأقول لكم: اعبدوا. ﴿أعبدوا﴾: فعل أمر، وفاعل مبني على حذف النون. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب مفعوله، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب
512
مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿شِئْتُمْ﴾: فعل، وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما شئتموه. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: جار ومجرور، حال من العائد المحذوف. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ الْخاسِرِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به صلة الموصول. ﴿وَأَهْلِيهِمْ﴾: معطوف على أنفسهم، ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿خَسِرُوا﴾ أو حال من أهليهم، يعني: أزواجهم وخدمهم. ﴿أَلا﴾: حرف استفتاح، ﴿ذلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْخُسْرانُ﴾: خبر، ﴿الْمُبِينُ﴾: صفة لـ ﴿الْخُسْرانُ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾: حال من ﴿ظُلَلٌ﴾، و ﴿ظُلَلٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مِنَ النَّارِ﴾ صفة لـ ﴿ظُلَلٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿وَمِنْ تَحْتِهِمْ﴾: خبر مقدم، ﴿ظُلَلٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على الجملة الاسمية قبلها. ﴿ذلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿يُخَوِّفُ اللَّهُ﴾ فعل، وفاعل، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُخَوِّفُ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر عن اسم الإشارة، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿عِبادَهُ﴾ مفعول به لـ ﴿يُخَوِّفُ﴾، ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿عباد﴾: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، اجتزاء عنها بالكسرة، وجملة النداء إما مستأنفة أو مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿فَاتَّقُونِ﴾: الفاء: زائدة لتأكيد الربط بين النداء وجوابه، ﴿اتقون﴾: فعل أمر، وفاعل مبني على حذف النون، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب، أو في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ﴾ ﴿أَلا﴾ (١): من حروف التنبيه، وهي: ها، وألا،
(١) درويش.
513
وأما، والفرق بين أما، وألا: أن أما: للحال أو للماضي، وألا: للاستقبال، تقول: أما إن زيدا عاقل، تريد أنه عاقل في الحال، ولا تقول: ألا، وتقول: ألا إن زيدا لا يخاف؛ أي: في المستقبل، ولا تقول: أما، والفرق بينهما وبين ها، أنهما لا يدخلان إلا أول الكلام على الجملة بخلاف ها، فتدخل على الضمير وأسماء الإشارة، وإن لم تكن في أول الكلام، وتدخل أما على القسم كثيرا، وألا كثيرا على النداء، إذا تقرر هذا، فهل تكون هنا للاستقبال، مع أن كون الدين لله هو في كل زمان؟ والجواب: أن المراد هنا الاستقبال، بالنسبة لمن يعتنقون الدين الخالص على أنهما يتعاوران؛ أي: تأتي ألا لمجرد الاستفتاح، ولا يكون التنبيه مقصودًا.
﴿زُلْفى﴾؛ أي: تقريبًا. فهو مصدر مؤكد على غير لفظ العامل، ملاق له في المعنى. وعبارة «السمين»: زلفى مصدر مؤكد على غير العامل، ولكنه ملاق لعامله في المعنى، والتقدير: ليزلفوننا زلفى؛ أي: ليقربونا قربى، وجوز أبو البقاء أن يكون حالًا مؤكدة، انتهى.
﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ﴾ التكوير في الأصل: اللف، واللي، من كار العمامة على رأسه، وكورها، وفي تكويرهما أوجه، كما قاله الزمخشري:
١ - جعلهما خلفة، يذهب هذا ويغشي مكانه هذا، فكأنما ألبسه، ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس.
٢ - كون كل منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر، لف عليه ما غيّبه من مطامح الأبصار.
٣ - إن هذا يكر على هذا كرورًا متتابعًا، فشبه ذلك، بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض، وهو أوفق للاشتقاق، من أشياء قد ذكرت، وقال الراغب: كور الشيء: إدارته، وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة، وقوله: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ إشارة إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار، وازديادهما، اهـ.
514
﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها﴾ إن قلت: كيف (١) عطف بـ ﴿ثُمَّ﴾ مع أن خلق حواء من آدم سابق على خلقنا منه؟ أجيب: بأن ﴿ثُمَّ﴾ هنا للترتيب في الإخبار، لا في الإيجاد، أو المعطوف متعلق بمعنى واحد، فـ ﴿ثُمَّ﴾ عاطفة لا على ﴿خَلَقَكُمْ﴾، فمعناه: خلقكم من نفس أفردت بالإيجاد، ثم شفعت بزوج، أو هو معطوف على ﴿خَلَقَكُمْ﴾ لكن المراد بـ ﴿خلقهم﴾: خلقهم يوم أخذ الميثاق دفعة، لا على هذا الخلق الذي هم فيه الآن بالتوالد والتناسل، وذلك لأن الله تعالى، خلق آدم عليه السلام ثم أخرج أولاده من ظهره كالذر، وأخذ عليهم الميثاق، ثم ردهم إلى ظهره ثم خلق منه حواء، اهـ كرخى.
﴿سُبْحانَهُ﴾ مصدر (٢) من سبح إذا بعد؛ أي: تنزه تعالى بالذات عن ذلك الاتخاذ، وعما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء، وعلم للتسبيح مقول على ألسنة العباد؛ أي: أسبحه تسبيحًا لائقًا به، أو سبحوه تسبيحًا حقيقًا بشأنه.
﴿ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ﴾ ويقال لها: الأزواج الثمانية؛ لأن ذكر كل واحد من هذه الأنواع زوج بأنثاه، وأنثاه زوج بذكره، فيكون مجموع الأزواج ثمانية بهذا الاعتبار، من الضأن: اثنين، ومن المعز: اثنين، ومن الإبل: اثنين، ومن البقر: اثنين. والخيل، والبغال، والحمير خارجة من الأنعام، قال في «بحر العلوم»: الواحد إذا كان وحده فهو فرد، وإذا كان معه غيره، من جنسه، سمي كل واحد منهما زوجًا، فهما زوجان، بدليل قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى﴾، وعند الحساب: الزوج خلاف الفرد، كالأربعة والثمانية في خلاف الثلاثة والسبعة.
﴿فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ﴾؛ أي: في أرحامهن. جمع أم، زيدت الهاء فيه كما زيدت في أهراق من أراق. ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾؛ أي: فكيف تصرفون، وتردون عن ملازمة بابه بالعبودية، إلى باب عاجز مثلكم من الخلق. ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ أصله: يرضاه على أن الضمير عائد إلى الشكر، حذف الألف علامة للجزم. وهو باختلاس ضمة الهاء، عند أهل المدينة وعاصم وحمزة، وبإسكان الهاء، عند أبي
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
515
عمرو، وبإشباع ضمة الهاء عند الباقين. لأنها صارت بخلاف الألف موصولة بمتحرك.
﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ والوزر: الحمل الثقيل، ووزره: حمله، والمعنى: ولا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى من الذنب والمعصية. ﴿وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ﴾ قال الراغب: المس يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى، والضر يقابل بالسراء والنعماء، والضرر بالنفع.
﴿ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ﴾ من التخول، وهو التعهد؛ أي: المحافظة والمراعاة؛ أي: جعله خائل مال من قولهم: فلان خائل ماله إذا كان متعهدا له حسن القيام به. ومن شأن الغني الجواد، أن يراعي أحوال الفقراء. أو من الخول، وهو الافتخار؛ لأن الغني يكون متكبرًا طويل الذيل؛ أي: جعله يخول؛ أي: يختال ويفتخر بالنعمة.
﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدادًا﴾ جمع ند، وهو يقال لما يشارك في الجوهر فقط، كما في «المفردات»، وقال في «بحر العلوم»: هو المثل المخالف؛ أي: أمثالًا يعتقد أنها قادرة على مخالفة الله سبحانه، ومضادته.
﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ الذي هو التوحيد، والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك، استعير للتوحيد، لأنه موصل إلى الله تعالى ورضاه، قرىء: ﴿ليضل﴾ بفتح الياء؛ أي: ليزداد ضلالًا أو يثبت عليه، وإلا فأصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور، واللام: لام العاقبة، فإن النتيجة قد تكون غرضا في الفعل، وقد تكون غير غرض، والضلال والإضلال ليسا بغرضين، بل نتيجة الجعل وعاقبته.
﴿آناءَ اللَّيْلِ﴾ جمع إني بكسر الهمزة والقصر كمعي وأمعاء، اهـ شيخنا. وفي «المصباح»: الآناء على أفعال هي الأوقات، وفي واحدها لغتان: أنى مثل: معى بكسر الهمزة والقصر، وأنى بفتح الهمزة والنون، وهو الساعة، وقيل: مفردها إنْيٌ وإنْوٌ، بكسر الهمزة وسكون النون فيهما، يقال: مضى أنوان وأنيان من الليل؛ أي: ساعتان.
516
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ وفي «بحر العلوم»: الفعل منزل منزلة اللازم، ولم يقدر له مفعول؛ لأن المقدر كالمذكور كما سبق، والمعنى: لا يستوي من يوجد فيه حقيقة العلم ومن لا يوجد.
﴿إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ﴾ قال في «المفردات»: توفيةُ الشيء: بذلُه وافيًا كاملًا، واستيفاؤه: تناوله وافيًا. والمعنى: يعطون أجرهم وافيًا بمقابلة ما كابدوا من العسر.
﴿إِنَّ الْخاسِرِينَ﴾؛ أي: الكاملين في الخسران الذي هو عبارة عن إضاعة ما يهمه، وإتلاف ما لا بد منه. وفي «المفردات»: الخسران: انتقاص رأس المال، يستعمل في المال، والجاه، والصحة، والسلامة، والعقل، والإيمان، والثواب، وهو الذي جعل الله سبحانه الخسران. ﴿وَأَهْلِيهِمْ﴾ أصله: أهلين لهم، فحذفت النون للإضافة، واللام للتخفيف، جمع أهل، وأهل الرجل: عشيرته، وذوو قرابته، كما في «القاموس». ويفسر بالأزواج، والأولاد، والعبيد والإماء، وبالأقارب، وبالأصحاب، وبالمجموع كما في «شرح المشارق لابن الملك».
﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ﴾ والظلل: جمع ظلة كغرف جمع غرفة، وهي سحابة، تظل، وشيء كهيئة الصفة، وفي «كشف الأسرار»: الظلة: ما أظلك من فوقك.
﴿إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ﴾؛ أي (١): أصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل، والوهم، وفي «المفردات»: الألباب: جمع لب، واللب: العقل الخالص من الشوائب، وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من قواه، كاللباب من الشيء، وقيل: هو ما زكا من العقل، فكل لب عقل، وليس كل عقل لبًا، ولذا علّق الله سبحانه الأحكام، التي لا تدركه إلا العقول الذكية، بأولي الألباب، نحو قوله: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ﴾، ونحو ذلك من الآيات، انتهى.
(١) روح البيان.
517
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ﴾ بعد قوله: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)﴾ لتعظيمه، ومزيد الاعتناء بشأنه، ولا تكرار فيه؛ لأن الأول في بيان شأن المنزل، وكونه من عند الله، وهذا في بيان شأن المنزل إليه، وما يجب عليه.
ومنها: الإتيان بـ ﴿أَلا﴾ التي للتنبيه والاستفتاح في قوله: ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ﴾ إشعارًا بأهمية ما بعدها، وطلبًا للإصغاء إليه.
ومنها: التأكيد بالمصدر الملاقي لعامله في المعنى في قوله: ﴿إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى﴾؛ أي: قربى.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾؛ لأن الأصل يحكم بينهم وبين المسلمين، فحذف المقابل إيجازا للكلام، أو اكتفاء بالمذكور.
ومنها: الطباق بين ﴿تكفروا، وتشكروا﴾ وبين ﴿يرجو، ويحذر﴾ وبين ﴿فوقهم، وتحتهم﴾ وبين ﴿ضر، ونعمة﴾.
ومنها: أسلوب التدريج في قوله: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ﴾. فإنه عبر (١) عن الأزواج بالإنزال؛ لأنها تكونت بالنبات، والنبات بالماء المنزل، وهذا يسمى التدريج، ومنه: قوله تعالى: ﴿قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا﴾ الآية.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ﴾، وفي قوله: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾، وفي قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذف، لدلالة السياق عليه، في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ
(١) الفتوحات.
518
آناءَ اللَّيْلِ}؛ أي: كمن هو كافر جاحد بربه.
ومنها: الأمر بالذي يراد به التهديد في قوله: ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا﴾، وفيه إشعار بأن الكفر نوع تشبه لا سند له، وإقناط للكافرين من التمتع في الآخرة، ولذلك علله بقوله: ﴿إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ﴾ على سبيل الاستئناف للمبالغة، اهـ «بيضاوي».
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ﴾؛ أي: لا يستوي القانت والكافر.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾؛ لأن السبيل حقيقة في الطريق المعتاد سلوكه، فاستعير للتوحيد بجامع الإيصال إلى المقصود في كل؛ لأن التوحيد موصل إلى الله تعالى، وإلى رضاه، كما أن السبيل الحقيقي يوصل إلى المقصد.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾. والإضافة للملك، والخلق في قوله: ﴿وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ﴾.
ومنها: التهويل في قوله: ﴿أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ﴾ ففيه تهويل زاجر، فقد جعل الجملة مستأنفة، وصدرها بحرف التنبيه، ووسط ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر، وعرّف الخسران كأنه مما تعورف أمره، واشتهر هوله، ووصفه بالمبين، فجعل خسرانهم غايةً في الفظاعة ونهاية في الشناعة.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
519
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر وعيده (١) لعبدة الأصنام.. أردف ذلك بوعد من اجتنبوا عبادتها، وابتعدوا عن الشرك، ليكون الوعد مقترنا بالوعيد، ويحصل بذلك كمال الترغيب والترهيب.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً...﴾ الآية، مناسبة
(١) المراغي.
520
هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها، ومزيد الشوق إليها.. أعقب ذلك بذكر صفات للدنيا، توجب النفرة منها، كسرعة زوالها وتقضيها وشيكًا تحذيرًا من الاغترار بزهرتها، والركون إلى لذتها. فمثَّل حالها بحال نبات، يسقى بماء المطر، فيخرج به زرع مختلف الأصناف والأنواع، وبعد قليل تراه يجف ويصير فتاتًا متكسرًا. فما أسرع زواله، وأيسر تقضّيه.
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بالغ في ذكر ما يدل على وجوب الإقبال على طاعته سبحانه، والإعراض عن الدنيا.. أردف ذلك ببيان أنه لا ينتفع بهذا إلا من شرح الله صدره، ونوّر قلبه، وأشعر نفسه حب العمل به، ثم أعقبه بذكر أن من أضله الله، فلا هادي له، وأن من يتقي بيديه المخاوف، صيانة لوجهه عن النار، ليس حاله كحال من هو آمن، لا يفكر في مآل أمره، وعاقبة عمله. وبعدئذٍ، ذكر أن هؤلاء المشركين، ليسوا بدعًا في الأمم، فلقد كذب كثير قبلهم، فأتاهم العذاب بغتة من حيث لا يشعرون، فأصيبوا في الدنيا بالذل، والصغار، والقتل، والخسف، ولعذاب الآخرة أشد نكالًا ووبالًا، ثم ذكر أن القرآن قد ضرب الأمثال للناس، بلسان عربي مبين، لعلهم يرعوون، ويزدجرون.
قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر الحكمة في ضرب الأمثال للناس، وهي أن تكون عظة، وذكرى لهم، ليتقوا ربهم، ويرعووا عن غيّهم وضلالهم.. أردفه بذكر مثل يرشد إلى فساد مذهب المشركين، وقبح طريقتهم، ووضوح بطلانها، ثم أعقبه ببيان أن الناس جميعًا سيموتون، ثم يعرضون على ربهم، وهناك يستبين المحق والمبطل، والضال والمهتدي، فلا داعي إلى الجدل والخلاف بينك - رضي الله عنه - وبينهم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...﴾ الآية،
521
سبب نزولها (١): ما أخرجه جويبر، بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت: ﴿لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ...﴾ الآية، أتى رجل من الأنصار إلى النبي - ﷺ - فقال: يا رسول الله إن لي سبعة مماليك، وإني قد أعتقت لكل باب منها مملوكًا، فنزلت فيه هذه الآية: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم، أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر، كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله، زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي.
التفسير وأوجه القراءة
١٧ - ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ﴾ والشياطين، وابتعدوا عنها، وتحرجوا ﴿أَنْ يَعْبُدُوها﴾ بدل اشتمال من الشيطان، فإن عبادة غير الله عبادة للشيطان، إذ هو الآمر بها، والمزين لها. قال في «كشف الأسرار»: كل من عبد شيئًا غير الله فهو طاغ، ومعبوده طاغوت. وفي «التأويلات النجمية»: طاغوت كل أحد نفسه، وإنما يجتنب الطاغوت من خالف هواه، وعانق رضى مولاه، ورجع إليه بالخروج عما سواه بالكلية، وقرأ الحسن: ﴿الطواغيت﴾ جمعًا. وفي «القاموس»: الطاغوت: اللات، والعزى، والكاهن، والشيطان، وكل رأس ضلال، والأصنام، وكل ما عبد من دون الله، ومردة أهل الكتاب، انتهى. وقال سهل (٢): الطاغوت: الدنيا، وأصلها الجهل، وفرعها المآكل والمشارب، وزينتها التفاخر، وثمرتها المعاصي، وميراثها القسوة والعقوبة، ويستعمل لفظ الطاغوت في الواحد والجمع، كما يفهم من «القاموس». قال في «بحر العلوم»: وفي قوله: ﴿أَنْ يَعْبُدُوها﴾ إشارة، إلى أن المراد بالطاغوت هاهنا الجمع.
﴿وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه، وأقبلوا عليه معرضين عما سواه إقبالًا كليًا، قال في «البحر»: واعلم أن المراد باجتناب الطاغوت: الكفر بها، وبالإنابة إلى الله:
(١) لباب النقول.
(٢) روح البيان.
الإيمان بالله، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى﴾. وقدم اجتناب الطاغوت على الإنابة إلى الله، كما قدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله، على وفق كلمة التوحيد «لا إله إلا الله»، حيث قدم نفي وجود الإلهية على إثبات الألوهية لله تعالى، فقوله: ﴿وَالَّذِينَ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿أَنْ يَعْبُدُوها﴾ بدل اشتمال من الطاغوت، وقوله: ﴿وَأَنابُوا﴾ معطوف على ﴿اجْتَنَبُوا﴾.
وجملة ﴿لَهُمُ الْبُشْرى﴾ خبر المبتدأ؛ أي (١): والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، ورجعوا إلى عبادة الله تعالى، وأقبلوا عليه معرضين عما سواه، لهم البشرى في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فالثناء عليهم بصالح أعمالهم، وعند نزول الموت، وعند الوضع في القبر، وأما في الآخرة فعند الخروج من القبر، وعند الوقوف للحساب، وعند جواز الصراط، وعند دخول الجنة، وفي الجنة، ففي كل موقف من هذه الموافق، تحصل لهم البشارة بنوع من الخير، والراحة، والروح، والريحان، وقيل: لهم البشرى بالثواب والرضوان الأكبر على ألسنة الرسل، بالوحي في الدنيا، أو على ألسنة الملائكة عند حضور الموت، وحين يحشرون، وبعد ذلك، وقال بعضهم: لهم البشرى بأنهم من أهل الهداية والفضل من الله، وهي الكرامة الكبرى.
والمعنى (٢): أي والذين اجتنبوا عبادة الأصنام، وأقبلوا إلى ربهم معرضين عما سواه، لهم البشرى، بالثواب العظيم من الله تعالى، على ألسنة رسله حين الموت، وحين يحشرون من قبورهم للحساب.
ثم مدحهم، بأنهم نقّاد في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل، فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ﴾ والأصل عبادي بالياء، فحذفت
١٨ - ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ﴾ الحق من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - ﷺ - ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾؛ أي: محكمه، ويعملون به؛ أي: فبشر يا محمد عبادي الذين اجتنبوا عبادة
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
523
الطاغوت، وأنابوا إلى ربهم، وسمعوا القول فاتبعوا أولاه بالقبول، بالنعيم المقيم في جنات النعيم، وفيه (١) تصريح بكون التبشير من لسان الرسول - ﷺ -، وهو تبشير في الدنيا، وأما تبشير الملك فتبشير في الآخرة، كما قال: ﴿لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ﴾، وبالجملة فتبشير الآخرة مرتب على تبشير الدنيا. فمن استأهل الثاني استأهل الأول.
قال السدي (٢): يتبعون أحسن ما يؤمرون به، فيعملون بما فيه، وقيل: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن، وينكف عن القبح فلا يتحدث، وقيل: يستمعون القرآن وغيره، فيتبعون القرآن، وقيل: يستمعون الرخص والعزائم فيتبعون العزائم ويتركون الرخص، وقيل: يأخذون بالعفو، ويتركون العقوبة، وقيل: إن الآية نزلت في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، حين جاؤوا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فسألوه فأخبرهم بإيمانه، فآمنوا، حكاه المهدوي في «التكملة». فيكون المعنى: يستمعون القول من أبي بكر، فيتبعون أحسنه، وهو قول: «لا إله إلا الله».
وفي «كشف الأسرار»: مثال هذا (٣) الأحسن في الدين أن ولي القتيل، إذا طالب بالدم فهو حسن، وإذا عفا ورضي بالدية فهو أحسن، ومن جزى السيئة بالسيئة مثلها فهو حسن، وإن عفا وغفر فهو أحسن، وإن وزن أو كال فهو حسن، وإن أرجح فهو أحسن، وإن اتزن وعدل فهو حسن، وإن طفف على نفسه فهو أحسن، وإن رد السلام فقال: وعليكم السلام فهو حسن، وإن قال عليكم السلام ورحمة الله فهو أحسن، وإن حج راكبًا فهو حسن، وإن فعله راجلًا فهو أحسن، وإن غسل أعضاءه في الوضوء مرة مرة فهو حسن، وإن غسلها ثلاثًا ثلاثًا فهو أحسن، وإن جزى من ظلمه بمثل مظلمته فهو حسن، وإن جازاه بحسنة فهو
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
524
أحسن، وإن سجد أو ركع ساكتًا فهو جائز، وإن فعلهما مسبحًا فهو أحسن. ونظير هذه الآية قوله تعالى لموسى عليه السلام: ﴿فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها﴾، وقوله: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، انتهى ما في «الكشف».
وهذا (١) معنى ما قال بعضهم: يستمعون قول الله فيتبعون أحسنه، ويعملون بأفضله، وهو ما في القرآن من عفو، وصفح، واحتمال على أذى، ونحو ذلك، فالقرآن كله حسن، وإنما الأحسن بالنسبة إلى الآخذ والعامل، قال السيوطي رحمه الله في «الإتقان» (٢): اختلف الناس، هل في القرآن شيء أفضل من شيء؟. فذهب الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله، وبعض الأئمة الأعلام إلى المنع؛ لأن الجميع كلام الله تعالى، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه، وذهب آخرون من المحققين، وهو الحق: كلام الله في الله أفضل من كلامه في غيره، فـ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ أفضل من ﴿تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ﴾؛ لأن فيه فضيلة الذكر، وهو كلام الله، وفضيلة المذكور، وهو اسم ذاته وتوحيده وصفاته الإيجابية والسلبية، وسورة ﴿تَبَّتْ﴾ فيها فضيلة الذكر فقط، وهو كلام الله تعالى، والأخبار الواردة في فضائل القرآن، وتخصيص بعض السور والآيات بالفضل، وكثرة الثواب في تلاوتها لا تُحصى.
قال الإمام الغزالي في «جوهر القرآن» (٣): كيف يكون بعض الآيات والسور أشرف من بعض، مع أن الكل كلام الله؟ فاعلم نوّرك الله بنور البصيرة، وقلّد صاحب الرسالة عليه السلام. فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقال: ﴿يس (١)﴾ قلب القرآن، وفاتحة الكتاب أفضل سور القرآن، وآية الكرسي سيدة القرآن ﴿وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ تعدل ثلث القرآن». ومن توقف في تعديل الآيات، أول قوله - ﷺ -، أفضل سورة وأعظم سورة، أراد في الأجر والثواب. لا أن بعض القرآن أفضل من بعض، فالكل في فضل الكلام واحد، والتفاوت في الأجر لا في كلام
(١) روح البيان.
(٢) الاتقان في علوم القرآن.
(٣) جواهر القرآن.
525
الله، من حيث هو كلام الله القديم، القائم بذاته.
واعلم (١): أن استماع القول عند العارفين، يجري في كل الأشياء. فالحق تعالى، يتكلم بكل لسان من العرش إلى الثرى، ولا يتحقق بحقيقة سماعه، إلا أهل الحقيقة، وعلامة سماعهم انقيادهم إلى كل عمل مقرب إلى الله من جهة التكليف، المتوجه على الأذن، من أمر أو نهي، كسماعه للعلم والذكر والثناء على الحق تعالى، والموعظة الحسنة، والقول الحسن، والتصامم عن سماع الغيبة والبهتان، والسوء من القول، والخوض في آيات الله، والرفث، والجدل، وسماع القيان، وكل محرم وملاه حجر الشارع عليه سماعه، فإذا كان كذلك كان مفتوح الأذن إلى الله تعالى.
﴿أُولئِكَ﴾ المنعوتون بالمحاسن الجميلة، وهو مبتدأ، خبره قوله: ﴿الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه للدين الحق، والاتصاف بمحاسنه؛ أي: هؤلاء الموصوفون بما ذكرهم، الذين وفقهم الله تعالى للرشاد وإصابة الصواب، لا الذين يعرضون عن سماع الحق، ويعبدون ما لا يضر ولا ينفع. ﴿وَأُولئِكَ﴾ المذكورون ﴿هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ﴾؛ أي: أصحاب العقول السليمة، والفطر المستقيمة التي لا تطيع الهوى، ولا يغلبها الوهم، المستحقون للهداية لا غيرهم، فتختار خير الأمرين في دينها ودنياها.
وفي الكلام (٢): دلالة على أن الهداية تحصل بفضل الله تعالى، وقبول النفس لها، يعني: أن لكسب العبد مدخلًا فيها بحسب جري العادة، وفيه إشارة إلى أن أولئك القوم، هم الذين عبروا عن قشور الأشياء، ووصلوا إلى لباب حقائقها.
١٩ - ثم بيّن أضداد المذكورين أولًا، وسجل عليهم الحرمان من الهداية، فقال: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ﴾ ووجب ﴿عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ﴾ وقضاؤه ﴿أَفَأَنْتَ﴾ يا محمد ﴿تُنْقِذُ﴾ وتخرج ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ وهذا بيان لأحوال عبدة الطاغوت بعد بيان أحوال
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
526
المجتنبين عنها، والهمزة للاستفهام الإنكاري (١) داخلة على محذوف دل عليه السياق، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، و ﴿مَنْ﴾ شرطية و ﴿حَقَّ﴾ بمعنى: وجب، وثبت، وكلمة العذاب قوله تعالى لإبليس: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)﴾، وكررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الإنكار، والفاء فيه فاء الجزاء، ثم وضع موضع الضمير ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد، والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب، بمنزلة الواقع في النار، وأن اجتهاده - ﷺ - في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار؛ أي: تخليصهم، فإن الإنقاذ: التخليص من الورطة، كما في «المفردات».
والمعنى: أأنت يا محمد مالك أمر الناس، فمن حق وثبت عليه من الكفار عدلًا في علم الله تعالى، كلمة العذاب، فأنت تنقذه من النار بهدايتك ودعوتك؛ أي: لا تقدر أن تهديه، وتنقذه من النار، فالآية جملة واحدة من شرط وجزاء، وفيه (٢) إشارة إلى، أن من حق عليه في القسمة الأولى، أن يكون مظهرًا لصفات قهره إلى الأبد لا تنفعه شفاعة الشافعين، ولا يخرجه من جهنم وسخط الله وطرده وبعده جميع الأنبياء والمرسلين، وإنما الشفاعة للمؤمنين بدليل قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها﴾.
ومعنى الآية (٣): التسلية لرسول الله - ﷺ -؛ لأنه كان حريصًا على إيمان قومه، فأعلمه الله تعالى، أن من سبق عليه القضاء وحقت عليه كلمة الله، لا يقدر رسول الله - ﷺ - أن ينقذه من النار، بأن يجعله مؤمنًا، قال عطاء: يريد: أبا لهب، وولده، ومن تخلف من عشيرة النبي - ﷺ - عن الإيمان، وفي الآية تنزيل لمن يستحق العذاب منزلة من قد صار فيه، وتنزيل دعائه إلى الإيمان، منزلة الإخراج له من عذاب النار.
والمعنى (٤): أي أأنت مالك شؤون الناس ومصرف أمورهم، فمن حقت
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
527
عليه كلمة العذاب لعدم أهليته للكمال، وتدسيته نفسه بولوغها في الآثام والمعاصي، فأنت تنقذه من النار، كلا ليس أمرهم إليك بل أمرهم إلى ربهم، يجازيهم بحكمته وعدله.
٢٠ - ولما ذكر سبحانه فيما سبق، أن لأهل الشقاوة ظللًا من النار من فوقهم، ومن تحتهم ظللًا، استدرك عنهم من كان من أهل السعادة، فقال: ﴿لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ اليوم باجتنابهم عن الشرك والمعاصي، والزلات، والشهوات، وعبادة الهوى، والركون إلى غير المولى سبحانه، فقد أنقذهم الله تعالى في القسمة الأولى، من أن يحق عليهم كلمة العذاب، وحق لهم أن يكونوا مظهر صفات لطفه، وفضله إلى الأبد، بأن يكون ﴿لَهُمْ غُرَفٌ﴾؛ أي: عُلالي متفاوتة بحسب مقاماتهم في التفوى، جمع غرفة، وهي علّيّة من البناء، وسمي منازل الجنة غرفًا، كما في «المفردات»، لعلوها وارتفاعها ﴿مِنْ فَوْقِها﴾؛ أي: من فوق تلك الغرف ﴿غُرَفٌ﴾؛ أي: علالي أخر؛ أي: لهم علالي ومنازل بعضها فوق بعض، بيّن (١) أن لهم درجات عالية في جنات النعيم، بمقابلة ما للكفرة من دركات سافلة في الجحيم ﴿مَبْنِيَّةٌ﴾ تلك الغرف، الموصوفة بناء المنازل على الأرض الرصانة والإحكام، وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها. وفي «بحر العلوم»: ﴿مَبْنِيَّةٌ﴾ بنيت من زبرجد وياقوت ودر، وغير ذلك من الجواهر، وفيه إشارة بأنها مبنية بأيدي أعمال العاملين، وأحوال السالكين ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت تلك الغرف المنخفضة والمرتفعة ﴿الْأَنْهارُ﴾ الأربعة من غير تفاوت بين العلو والسفل، وفي ذلك كمال لبهجتها، وزيادة لرونقها، وانتصاب ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾ على المصدرية المؤكدة لمضمون الجملة قبلها؛ لأن قوله: ﴿لَهُمْ غُرَفٌ﴾ في معنى الوعد؛ أي: وعدهم الله سبحانه تلك الغرف والمنازل وعدًا، وجملة قوله: ﴿لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ﴾ مقررة للوعد؛ أي: لا يخلف الله ما وعد الفريقين من الخير والشر، والخلف: نقض العهد، وهو على الله محال، والميعاد بمعنى الوعد.
(١) روح البيان.
والمعنى (١): أي لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه، واجتناب محارمه لهم في الجنة غرف؛ أي: طباق فوق طباق، مبنيات محكمات تجري من تحتها الأنهار الأربعة، الجارية في الجنة الماء، واللبن، والخمر، والعسل المصفى، ثم أكد حصول ذلك لهم بقوله: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ﴾؛ أي: وعد الله هؤلاء المتقين بذلك، ووعده الحق، فهو لا يخلف ما وعدهم، بل يفي بوعده.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - ﷺ - قال: «إن أهل الجنة يتراؤون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراؤون الكوكب الدرّي، الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم»، فقالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم؟ قال: «بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» متفق عليه. قوله: «الغابر»؛ أي: الباقي في ناحية المشرق أو المغرب.
وفي الآية دقيقة شريفة (٢): وهي أنه تعالى، لم يذكر في آيات الوعيد البتة، مثل هذا التأكيد، وذلك يدل على أن جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد، أما قوله تعالى: ﴿ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ ليس تصريحا بجانب الوعيد، بل هو كلام عام، يتناول الوعد والوعيد، فثبت أن ترجيح الوعد حق، خلافًا للمعتزلة.
٢١ - ولما ذكر سبحانه الآخرة، ووصفها بوصف يوجب الرغبة فيها والشوق إليها.. أتبعه بذكر الدنيا، ووصفها بوصف يوجب الرغبة عنها، والنفرة منها، فذكر تمثيلًا لها في سرعة زوالها، وقرب اضمحلالها، مع ما في ذلك من ذكر نوع من أنواع قدرته الباهرة، وصنعه البديع، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾؛ أي: ألم تعلم يا محمد، أو أيها المخاطب، أو ألم تر أيها الناظر، والاستفهام فيه تقريريّ، والرؤية إما بصرية أو قلبية، والخطاب إما للنبي - ﷺ - أو عام، وهو أولى؛ أي: ألم تعلم أيها المخاطب ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ﴾؛ أي: من
(١) المراغي.
(٢) المراح.
529
السحاب ﴿ماءً﴾؛ أي: مطرًا ﴿فَسَلَكَهُ﴾؛ أي: فسلك ذلك الماء، وأدخله في الأرض؛ أي: أدخل ذلك الماء النازل من السماء في الأرض، وأسكنه فيها، وجعله ﴿يَنابِيعَ﴾؛ أي: عيونًا، وركايًا، ومجاري كائنات ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ كالعروق في الأجساد. قال الشعبي: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل. والمعنى (١): أدخل الماء النازل من السماء في الأرض، وجعله فيها عيونًا جارية، أو جعله في ينابيع؛ أي: في أمكنة ينبع منها الماء، فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض، قال مقاتل: فجعله عيونًا، وركايًا في الأرض. ونصب ﴿يَنابِيعَ﴾ إما على الظرفية، أو على الحال، أو على أنه مفعول ثان، لجعل المقدر.
﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ﴾؛ أي: يخرج بذلك الماء من الأرض، وكلمة (٢) ﴿ثُمَّ﴾ للتراخي في الرتبة، أو الزمان ﴿زَرْعًا﴾؛ أي: نباتًا ﴿مُخْتَلِفًا﴾؛ أي: متنوعًا ﴿أَلْوانُهُ﴾؛ أي: صفاته، وكيفياته من الطعوم والروائح، من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر وأغبر وأسود، من المر والحالي والطيّب، وغيره، قال في «المفردات»: اللون معروف، وينطوي على الأبيض، والأسود، وغيرهما، وقد يعبر بالألوان عن الأجناس والأنواع؛ أي: مختلفًا أجناسه من بر، وشعير، وأرز، وذرة، أو أنواعه كأنواع الحنطة، والشعير، والذرة. ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ ذلك الزرع النابت بالماء، وييبس، يقال: هاج النبت إذا تم جفافه؛ لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور من منبته. ﴿فَتَراهُ﴾؛ أي: فتبصر أيها المخاطب ذلك النبت من يبسه ﴿مُصْفَرًّا﴾ بعد خضرته، ونضرته؛ أي: تراه ذا صفرة، والصفرة: لون بين البياض والسواد، كما سيأتي في مبحث اللغة، ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ﴾؛ أي: يجعل الله سبحانه ذلك النبت اليابس ﴿حُطامًا﴾؛ أي: فتاتًا متكسرًا، كأن لم يغن بالأمس، يقال: تحطم العود إذا تفتت من اليبس، ولكون هذه الحالة من الآثار القوية، علّقت بجعل الله تعالى كالإخراج، وعبّر هنا بلفظ ﴿يَجْعَلُهُ﴾، وفي الحديد بلفظ (يكون) موافقةً في كل منهما لما قبله، اهـ من «فتح الرحمن».
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
530
وقرأ الجمهور (١): ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ﴾ بالرفع عطفًا على ما قبله، وقرأ أبو بشر: بالنصب بإضمار ﴿أن﴾، ولا وجه لذلك.
﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور مفصلًا ﴿لَذِكْرى﴾؛ أي: لتذكيرًا عظيمًا ﴿لِأُولِي الْأَلْبابِ﴾؛ أي: لأصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل، وتنبيهًا لهم على حقيقة الحال، يتذكرون بذلك، أن حال الحياة الدنيا في سرعة التقضي والإنصرام، كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام، فلا يغترون ببهجتها، ولا يفتنون بفتنها.
قال في «كشف الأسرار»: الإشارة في هذه إلى أن الإنسان يكون طفلًا، ثم شابًا ثم كهلًا، ثم شيخًا ثم يصير إلى أرذل العمر، ثم آخره يحترم، ويقال: إن الزرع ما لم يؤخذ منه الحب الذي هو المقصود منه، لا يكون له قيمة، كذلك الإنسان ما لم يخل من نفسه، لا يكون له قدر ولا قيمة، انتهى.
فالمعنى (٢): إنك أيها الرسول لتشاهد الماء، وقد نزل من السماء، فجرى عيونًا في الأرض، فسُقيت به أنواع مختلفة، من النبات من بر إلى شعير إلى أرز إلى نحو ذلك، ثم نضجت وجفت وصارت مصفرة بعد خضرة ونضرة، ثم صارت فتاتًا متكسرةً، فما أشبه حال الدنيا بحالها، فهي سريعة التقضي، وشيكة الزوال، فليعتبر بذلك أولو الحجا، وليعلموا أن الدنيا كسوق قام ثم انفض، ولا يغتروا ببهجتها، ولا يفتنوا بزخرفها، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥)﴾.
٢٢ - ثم لما ذكر سبحانه، أن في ذلك لذكرى لأولي الألباب، ذكر شرح الصدر للإسلام؛ لأن الانتفاع الكامل لا يحصل إلا به، فقال: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ﴾ والهمزة (٣) فيه للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف دل عليه
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
531
السياق، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، و ﴿مِنْ﴾ شرطية، جوابها قوله: ﴿فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ أو موصولة خبرها محذوف، دل عليه قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ﴾. والتقدير: أكل الناس سواء، فمن وسّع الله صدره للإسلام فقبله، واهتدى بهديه ﴿فَهُوَ﴾ بسبب ذلك الشرح ﴿عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ يفيض عليه كمن قسا قلبه لسوء اختياره، فصار في ظلمات الضلالة، وبليات الجهالة، والمراد بشرح الصدر: خلقه متسع الصدر مستعدًا للإسلام، فبقي على الفطرة الأصلية، ولم يتغير بالعوارض المكتسبة القادمة فيها، فهو بسبب ذلك، مستقر على نور عظيم من ربه، والمراد بالنور: اللطف الإلهي الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية، والتوفيق للاهتداء بها إلى الحق؛ أي: كمن قسا قلبه، وحرّج صدره، بسبب تبديل فطرة الله بسوء اختياره، واستولت عليه ظلمات الغي، والضلالة، فأعرض عن تلك الآيات بالكلية، حتى لا يتذكر بها، ولا يغتنمها كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾. يعني ليس من هو على نور، كمن هو على ظلمة، فلا يستويان كما لا يستوي النور والظلمة، والعلم والجهل.
واعلم (١): أنه لا نور ولا سعادة لمسلم، إلا بالعلم والمعرفة، ولكل واحد من المؤمنين معرفة تختص به، وإنما تتفاوت درجاتهم بحسب تفاوت معارفهم، والإيمان والمعارف أنوار، فمنهم من يضيء نوره جميع الجهات، ومنهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه، فإيمان آحاد العوام نوره كنور الشمع، وبعضهم نوره كنور السراج، وإيمان الصديقين نوره كنور القمر، والنجوم على تفاوتها، وأما الأنبياء فنور إيمانهم كنور الشمس وأزيد، فكما ينكشف في نورها كل الآفاق مع اتساعها، ولا ينكشف في نور الشمع إلا زاوية ضيقة من البيت، كذلك يتفاوت انشراح الصدور بالمعارف، وانكشاف سعة الملكوت لقلوب المؤمنين، ولهذا جاء في الحديث: أنه يقال يوم القيامة: أخرجوا من النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ونصف مثقال، وربع مثقال، ففيه تنبيه على تفاوت درجات الإيمان،
(١) روح البيان.
532
وبقدره تظهر الأنوار يوم القيامة في المواقف، خصوصًا عند المرور على الصراط.
والمعنى (١): أي أفمن دخل نور الإسلام قلبه، وانشرح صدره له، لما رأى فيه من البدائع والعجائب، المهيئة للحكمة الممهدة لقبول الحق، والموصلة إلى الرشاد، كمن طبع على قلبه لغفلته وجهالته، وقد روي: أن علامة ذلك الانشراح الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل حلول الموت.
والخلاصة: هل يستوي من أنار الله بصيرته، ومن هو قاسي القلب بعيد عن الحق؟. ونحو الآية قوله: ﴿أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها﴾.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود، قال: تلا النبي - ﷺ - هذه الآية، فقلنا: يا نبي الله، كيف انشراح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب، انشرح وانفسح»، قلنا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت». وأخرج الترمذي عن ابن عمر، أن رجلا قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم ذكرا للموت، وأحسنهم له استعدادا، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع»، فقالوا: ما آية ذلك يا نبي الله؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت».
ثم ذكر ما يدل على المحذوف الذي قدّر في الجملة السابقة، فقال: ﴿فَوَيْلٌ﴾ شديد، وهلاك عظيم، وخسران مبين، كائن وثابت ﴿لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾؛ أي: للذين قست، وغلظت قلوبهم ﴿مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: من أجل ذكره الذي حقه أن تنشرح له الصدور، وتطمئن به القلوب؛ أي: إذا ذكر الله تعالى عندهم، وآياته اشمأزوا من أجله، وازدادت قلوبهم قساوة، كقوله تعالى:
(١) المراغي.
533
﴿فَزادَتْهُمْ رِجْسًا﴾.
فإن قلت (١): كيف يقسو القلب عن ذكر الله، وهو سبب لحصول النور والهداية؟.
قلت: إنهم كلما تلي ذكر الله على الذين يكذبون به.. قست قلوبهم عن الإيمان به، قيل: إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر، كدرة العنصر بعيدة عن قبول الحق، فإن سماعها لذكر الله لا يزيدها إلا قسوة، وكدورة، كحر الشمس، يلين الشمع ويعقد الملح، فكذلك القرآن يلين المؤمنين عند سماعه، ولا يزيد الكافرين إلا قسوةً، قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة، وقرىء ﴿عن ذكر الله﴾؛ أي: فويل للذين غلظت قلوبهم عن قبول ذكر الله، وقال الزجاج، والفراء: ﴿مِنْ﴾ في القراءة المشهورة بمعنى، عن أي: عن ذكر الله، يقال: أتخمت عن طعام: أكلته، ومن طعام أكلته، وهذا الأخير أوضح، وأولى، كما قاله الشوكاني، وقال الله سبحانه وتعالى، لموسى عليه السلام في مناجاته: يا موسى لا تطل في الدنيا أملك فيقسو قلبك، والقلب القاسي مني بعيد، وكن خلق الثياب، جديد القلب، تخف على أهل الأرض، وتعرف في أهل السماء، وفي الحديث: تورث القسوة في القلب ثلاث خصال حب الطعام، وحب النوم، وحب الراحة. وفي الحديث أيضًا: «أفضلكم عند الله أطولكم جوعًا وتفكرًا، وأبغضكم إلى الله كل أكول شروب نؤوم، كلوا واشربوا في أنصاف البطون، فإنه جزء من النبوة».
﴿أُولئِكَ﴾ البعداء الموصوفون، بما ذكر من قساوة القلب ﴿فِي ضَلالٍ﴾ بعيد عن الحق ﴿مُبِينٍ﴾ ظاهر كونه ضلالًا للناظر بأدنى نظر.
واعلم (٢): أنّ الآية عامة فيمن شرح صدره للإسلام، بخلق الإيمان فيه، وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأبي لهب، وولده، فحمزة وعلي ممن شرح الله صدرهما للإسلام، وأبو لهب
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
534
وولده من الذين قست قلوبهم، فالرحمة للمشروح صدره، والغضب للقاسي قلبه.
٢٣ - ثم ذكر سبحانه بعض أوصاف كتابه العزيز، فقال: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ هو القرآن الكريم الذي لا نهاية لحسنه، ولا غاية لجمال نظمه وملاحة معانيه، وهو أحسن مما نزل على جميع الأنبياء والمرسلين، وأكمله وأكثره أحكامًا، وأيضا أحسن الحديث لفصاحته وإعجازه، وأيضا لأنه كلام الله، وهو قديم، وكلام غيره مخلوق محدث، وأيضًا لكونه صدقًا كله إلى غير ذلك، سمي حديثًا لأن النبي - ﷺ - كان يحدث به قومه، ويخبرهم بما ينزل عليه منه، فلا يدل على حدوث القرآن، فإن الحديث في عرف العامة: الخبر، والكلام. والمعنى: إن فيه مندوحةً عن سائر الأحاديث، وعبر بنزل دون أنزل إشعارًا بأنه متكرر النزول بحسب الوقائع.
﴿كِتابًا﴾ بدل من ﴿أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾، ويحتمل أن يكون حالًا منه ﴿مُتَشابِهًا﴾ معانيه في الصحة، والحسن، والإحكام، والابتناء على الحق والصدق، واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش، وتناسب ألفاظه في الفصاحة، وتجاوب نظمه في الإعجاز، وبلوغه إلى أعلى درجات البلاغة، وقال قتادة: يشبه بعضه بعضًا في الآي، والحروف، وقيل: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه. ﴿مَثانِيَ﴾ صفة أخرى لكتابًا؛ أي: تثنى فيه القصص، وتتكرر فيه المواعظ والأحكام، وقيل: يثنى في التلاوة، فلا يمل سامعه، ولا يسأم قارئه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مَثانِيَ﴾ بفتح الياء، وهشام، وابن عامر، وأبو بشر بسكون الياء، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف، واحتمل أن يكون منصوبًا، وسكنت الياء على قول من سكن الياء، في كل الأحوال، لانكسار ما قبلها استثقالًا للحركة عليها، ووصف (٢) الواحد، وهو الكتاب بالجمع، وهو المثاني باعتبار تفاصيله، كما يقال: القرآن سور وآيات، والإنسان عروق وعظام وأعصاب، وهو جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون، بمعنى مردد ومكرر، لما
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
535
ثني من قصصه، وأنبائه، وأحكامه، وأوامره، ونواهيه، ووعده، ووعيده، ومواعظه، أو لأنه ثني في التلاوة فلا يمل، كما جاء في نعته: لا يخلق على كثرة التردد؛ أي: لا يزول رونقه، ولذة قراءته، واستماعه من كثرة ترداده على ألسنة التالين، وتكراره على آذان المستمعين، وأذهان المتفكرين، على خلاف ما عليه كلام المخلوق، وفي القصيدة البردية:
فَلا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى عَجَائِبُهَا وَلا تُسَامُ عَلَى الإِكْثَارِ بالسَّأَمِ
أي: لا تقابل آيات القرآن مع الإكثار بالملال.
وقوله: ﴿تَقْشَعِرُّ﴾؛ أي: تتقبض، وتتجمع؛ أي: تضطرب، وترتعد ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من استماعه ﴿جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ﴾ ويخافون ﴿رَبَّهُمْ﴾؛ أي: عذابه عند استماع وعيده، كلام مستأنف، مسوق لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه، بعد بيان أوصافه في نفسه، وتقرير كونه أحسن الحديث، يقال: اقشعر جلده: أخذته قشعريرة؛ أي: رعدة، كما في «القاموس». والجلد: قشر البدن كما في «المفردات». وقال بعضهم: أصل الاقشعرار تغير، كالرعدة يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف. وفي «الإرشاد»: الاقشعرار: التقبض. يقال: اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضًا شديدًا، وتركيبه من القشع، وهو الأديم اليابس، قد ضم إليه الراء ليكون باعثًا ودالًا على معنى زاد، يقال: اقشعر جلده ووقف شعره إذا عرض له خوف شديد، من منكر حائل وهمه بغتةً.
والمراد: إما بيان إفراط خشيتهم بطريق التمثيل والتصوير، أو بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق، وهو الظاهر، إذ هو موجود عند الخشية محسوس يدركه الإنسان من نفسه، وهو يحصل من التأثر القلبي فلا ينكر.
والمعنى: إنهم إذا سمعوا بالقرآن، وقوارع آيات وعيده أصابتهم هيبة وخشية، تقشعر منها جلودهم؛ أي: يعلوها أي: يعلوها قشعريرة ورعدة.
﴿ثُمَّ﴾ إذا ذكروا رحمة الله سبحانه، وعموم مغفرته عند سماع وعده {تَلِينُ
536
جُلُودُهُمْ}؛ أي: لانت أبدانهم ﴿وَقُلُوبُهُمْ﴾؛ أي: نفوسهم ﴿إِلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، واللين: ضد الخشونة، ويستعمل ذلك في الأجسام، ثم يستعار للخلق ولغيره من المعاني، والجلود: عبارة عن الأبدان والقلوب عن النفوس؛ أي: ثم إذا ذكروا رحمة الله، وعموم مغفرته لانت أبدانهم، واطمأنت قلوبهم إلى ذكر الله ووعده للمؤمنين، وزال عنها ما كان بها من الخشية، والقشعريرة، بسبب سماع وعيده، بأن تبدلت خشيتهم رجاء، ورهبتهم رغبة، وتعدية اللين بـ ﴿إِلى﴾ لتضمنه معنى السكون والاطمئنان، كأنه قيل: تسكن وتطمئن إلى ذكر الله، لينة غير منقبضة، راجية غير خاشعة، أو تلين ساكنة مطمئنة إلى ذكر الله، على أن المتضمن بالكسر يقع حالًا من المتضمن بالفتح، وإنما أطلق ﴿ذِكْرِ اللَّهِ﴾، ولم يصرح بالرحمة إيذانًا بأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى.
فإن قلت (١): لم ذكرت الجلود وحدها أولًا، ثم قرنت بها القلوب ثانيًا؟.
قلت: لتقدم الخشية التي هي من عوارض القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم من آيات الوعيد، وتخشى قلوبهم من أول وهلة، فإذا ذكروا الله، ومبنى أمره على الرأفة والرحمة، استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، والقشعريرة لينا في جلودهم، فالجملتان إشارة إلى الخوف والرجاء أو القبض والبسط.
والمعنى (٢): أي الله أنزل أحسن الحديث قرآنًا كريمًا يشبه بعضه بعضًا، في الصدق والبيان والوعظ والحكمة، كما تتشابه أجزاء الماء والهواء، وأجزاء النبات والزهر، تثني وتردد قصصه وأنباءه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده إذا تليت منه آيات العذاب اقشعرت الجلود، ووجلت القلوب، وإذا تليت آيات الرحمة والوعد لانت الجلود، وسكنت القلوب، واطمأنت النفوس، قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب، اقشعرت جلود الخائفين لله، وقال العباس بن عبد المطلب: قال النبي - ﷺ -: «من اقشعر جلده من خشية الله، تحاتت عنه ذنوبه، كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها»، وقال ابن عمر: وقد رأى ساقطا من
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
537
سماع القرآن فقال: إنا لنخشى الله، وما نسقط هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم، وقالت أسماء بنت أبي بكر: كان أصحاب رسول الله - ﷺ - تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيل لها: إن قومًا اليوم إذا سمعوا القرآن، خر أحدهم مغشيًا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن، أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن كله، فإن رمى بنفسه فهو صادق والإشارة في قوله ﴿ذلِكَ﴾ إلى الكتاب الموصوف بتلك الصفات، و ﴿هُدَى اللَّهِ﴾ خبره؛ أي: ذلك الكتاب الذي شرح أحواله هدى الله سبحانه ﴿يَهْدِي بِهِ﴾؛ أي: بذلك الكتاب ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ أن يهديه من المؤمنين المتقين كما قال: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ لصرف مقدوره إلى الاهتداء، بتأمله فيما في تضاعيفه من الشواهد الخفية، ودلائل كونه من عند الله تعالى، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين؛ أي: ذلك المذكور أثر هداية الله تعالى؛ أي: ذلك الخوف من عذاب الله، والرجاء في رحمته علامة هداية الله، وتوفيقه للإيمان.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾؛ أي: يخلق فيه الضلالة لصرف قدرته إلى مباديها، وإعراضه عما يرشده إلى الحق بالكلية، وعدم تأثره بوعده ووعيده أصلًا ﴿فَما لَهُ﴾؛ أي: لذلك الضال ﴿مِنْ هادٍ﴾ يهديه إلى الحق، ويخلصه من ورطة الضلال. وفي «التأويلات النجمية»: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ بأن يكله إلى نفسه وعقله، ويحرمه من الإيمان بالأنبياء ومتابعتهم، وقرأ الجمهور: ﴿مِنْ هادٍ﴾ بغير ياء. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن بالياء.
٢٤ - والهمزة (١) في قوله: ﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ﴾ للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف معلوم من السياق، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، و ﴿مَنْ﴾ موصولة، والخبر محذوف، والتقدير: أكل الناس سواء، فمن شأنه وهو الكافر أن يتقي نفسه، ويحفظها بوجهه الذي هو أشرف أعضائه. ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾؛ أي:
(١) روح البيان.
العذاب السيء الشديد ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ لكون يده التي بها كان في الدنيا يتقي المكاره، والمخاوف مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن من العذاب لا يعتريه مكروه، ولا يحتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه؛ أي: لا يستويان، فإن الأول في النار، والثاني في الجنة، قال الزجاج: المعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب، كمن يدخل الجنة، قال عطاء، وابن زيد: يُرمى به مكتوفًا في النار، فأول شيء تمس النار منه وجهه، وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار، وقال الأخفش: المعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل أمّن سعد.
ثم ذكر ما ينال الكفار والعاصين، من الإهانة في ذلك اليوم. فقال: ﴿وَقِيلَ﴾ تهكمًا واستهزاءً ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾؛ أي: تقول الخزنة لمن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي: ﴿ذُوقُوا﴾؛ أي: باشروا ﴿ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾؛ أي: وبال ما كسبت في الدنيا، ودسيتم به أنفسكم، حتى أوقعتموها في الهاوية النار الحامية، وجملة ﴿قِيلَ﴾ معطوفة على جملة ﴿يَتَّقِي﴾، وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم، والإشعار بعلة الأمر في قوله: ﴿ذُوقُوا﴾.
وعبارة «المراح» هنا: وتقدير (١) الكلام: أكل الناس سواء، فمن يجعل وجهه قائما مقام الدرقة، يقي به نفسه العذاب الشديد يوم القيامة، وتقول لهم خزنة النار: ذوقوا عذاب ما كنتم تكسبونه في الدنيا، كمن هو آمن من العذاب؛ أي: لا يستويان.
قيل (٢): يلقى الكافر في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة من كبريت، مثل الجبل العظيم، فتشتعل النار فيها وهي في عنقه، فحرها على وجهه، لا يطيق دفعها عنه، للأغلال التي في يديه وعنقه، قيل: نزلت هذه الآية في أبي جهل، وأضرابه.
٢٥ - ثم أخبر سبحانه عن حال من قبلهم من الكفار، فقال: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
(١) المراح.
(٢) المراح.
قَبْلِهِمْ}؛ أي: من قبل الكفار المعاصرين لمحمد - ﷺ -، من الأمم السابقة؛ أي: كذبوا أنبياءهم كما كذبك قومك ﴿فَأَتاهُمُ الْعَذابُ﴾ المقدر لكل أمة منهم ﴿مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾؛ أي: من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم إتيان العذاب والشر، منها بيناهم آمنون رافهون، إذ فوجئوا من مأمنهم. فمعنى: من حيث لا يشعرون آتاهم العذاب، وهم آمنون في أنفسهم غافلون عن العذاب، وقيل: معناه: لا يعرفون له مدفعًا ولا مردًا. وفي «التأويلات النجمية»؛ أي: أتاهم العذاب في صورة الصحة والنعمة، والسرور وهم لا يشعرون أنه العذاب، وأشد العذاب ما يكون غير متوقع
٢٦ - ﴿فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: أذاق الله سبحانه، الذين من قبلهم ﴿الْخِزْيَ﴾؛ أي: الذل والهوان والصغار، يعني: أحسوا به إحساس الذائق المطعوم ﴿فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ بيان لمكان إذاقة الخزي، وذلك الخزي كالمسخ، والخسف، والغرق، والقتل، والسبي، والإجلاء، ونحو ذلك من فنون النكال، وهو العذاب الأدنى ﴿وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ﴾ المعد لهم ﴿أَكْبَرُ﴾ وأشد وأنكى من عذاب الدنيا، لعظمه ودوامه ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: لو كانوا ممن يعلم الأشياء، ويتفكر فيها، ويعمل بمقتضى علمه، لعلموا (١) ذلك، واعتبروا به، وما عصوا الله ورسوله، وخلصوا أنفسهم من العذاب، فعلى العاقل أن يرجع إلى ربه بالتوبة والإنابة، كي يتخلص من عذاب الدنيا والآخرة، وعبارة «أبي السعود»: لو كانوا يصدقون، ويوقنون بعذاب الآخرة، ما كذبوا رسلهم في الدنيا، اهـ. وعن الشبلي - رحمه الله - قال: قرأت أربعة آلاف حديث، ثم اخترت منها واحدًا، وعملت به، وخليت ما سواه، لأني تأملته فوجدت خلاصي ونجاتي فيه، وكان علم الأولين والآخرين مندرجًا فيه، وذلك أن رسول الله - ﷺ - قال لبعض أصحابه: «اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها، واعمل لله بقدر حاجتك إليه، واعمل للنار بقدر صبرك عليها»، فإذا كان الصبر على النار غير ممكن للإنسان الضعيف.. فليسلك طريق النجاة، المبعدة عن النار، الموصلة إلى الجنات، وأعلى الدرجات.
(١) روح البيان.
٢٧ - ثم بيّن أن فيما قصه القرآن عليهم من الأمثال، والمواعظ، عبرة لهم لو كانوا يعقلون، فقال: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد بيّنا، وأوضحنا ﴿لِلنَّاسِ﴾؛ أي: لأهل مكة، والمراد (١) بالناس: أهل مكة، كما في «الوسيط»، ويعضّده ما قاله بعضهم: من أن الخطاب بقوله: ﴿يا أيها الناس﴾ في كل ما وقع في القرآن لأهل مكة، والظاهر: التعميم لهم، ولمن جاء بعدهم إلى يوم القيامة؛ أي: أوضحنا وبيّنا لهم ﴿فِي هذَا الْقُرْآنِ﴾ الكريم الحكيم ﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾؛ أي: كل صفة غريبة عجيبة، هي في غرابتها وحسنها كالمثل السائر، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كقصة الأولين وقصة المبعوثين يوم القيامة، وغير ذلك. ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ به، ويتعظون
٢٨ - وقوله: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾؛ أي: نزل بلغة العرب، حال مؤكدة من ﴿هذَا الْقُرْآنِ﴾ على أن مدار التأكيد هو الوصف؛ أي: المؤكد في الحقيقة هو الوصف، ومفهومه. وبعضهم جعل القرآن توطئة للحال التي هي عربيًا، والحال الموطئة اسم جامد، موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة، ويجوز أن ينتصب على المدح؛ أي: أريد بهذا القرآن قرآنًا عربيًا ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾؛ أي: لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، ولا تناقض، ولا عيب، ولا خلل، والفرق (٢) بينه بالفتح وبينه بالكسر: أن كل ما ينتصب كالحائط، والجدار، والعود فهو عوج بفتح العين، وكل ما كان في المعاني والأعيان الغير المنتصبة فهو بكسرها، ولذا قال أهل التفسير: لم يقل مستقيمًا أو غير معوج مع أنه أخصر لفائدتين:
إحداهما: نفي أن يكون فيه عوج ما بوجه من الوجوه لما قال: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾.
والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان، وقيل: غير ذي لبس، وقيل: غير ذي لحن، وقيل: غير ذي شك. كما قال الشاعر:
وَقَدْ أَتَاكَ يَقِيْنٌ غَيْرُ ذِيْ عِوَجٍ مِنْ الإِلَهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوْبِ
(١) روح البيان.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: غير ذي عوج؛ أي: غير مخلوق، وذلك لأن كونه مقروءًا بالألسنة، ومسموعًا بالآذان، ومكتوبًا في الأوراق، ومحفوظًا في الصدور لا يقتضي مخلوقيته، إذ المراد: كلام الله القديم القائم بذاته. وفي حقائق البقلي: قرآنًا قديمًا ظهر من الحق على لسان حبيبه، لا يتغير بتغير الزمان، ولا يرهقه غبار الحدثان، لا تعوجه الحروف، ولا تحيط به الظروف، وفي «بحر الحقائق»: صراطًا مستقيمًا إلى حضرتنا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾؛ أي: لكي يتقوا بالقرآن عما نهاهم الله تعالى، علة أخرى مترتبة على الأولى، فإن المصلحة في ضرب الأمثال هو التذكر والاتعاظ بها أولًا، ثم تحصيل التقوى، والمعنى: لعلهم يعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على حدود الله تعالى في القرآن، والاعتبار بأمثاله.
والمعنى: وعزتي وجلالي، قد بينا (١) لهؤلاء المشركين بالله، أمثال القرون الخالية، تخويفا لهم، وتحذيرا ليتعظوا، ويزدجروا، ويقلعوا عما هم عليه، مقيمون من الكفر بربهم، بكلام عربي لا لبس فيه، ولا اختلاف ليفهموا ما فيه من مواعظ، ويعتبروا بما فيه من حكم، فيتقوا ما حذرهم فيه من بأسه وسطوته، وينيبوا إليه، ويفردوه بالعبادة، ويتبرؤوا من الآلهة والأنداد.
٢٩ - ثم أورد سبحانه مثلًا من تلك الأمثال، فقال: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾؛ أي: بيّن الله تمثيل حالةٍ عجيبة، بأخرى مثلها، ثم بيّن المثل، فقال: ﴿رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ﴾ والمراد (٢) بضرب المثل هنا: تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها، كما مر في أوائل سورة يس. و ﴿مَثَلًا﴾ مفعول ثان لضرب، و ﴿رَجُلًا﴾ مفعوله الأول، أخر عن الثاني للتشويق إليه، وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل. و ﴿فِيهِ﴾ خبر مقدم لقوله: ﴿شُرَكاءُ﴾، والجملة في حيز النصب على الوصفية لرجلا، ومعنى ﴿مُتَشاكِسُونَ﴾؛ أي: مختلفون عسروا الأخلاق سيئوها. والمعنى: جعل الله تعالى للمشرك مثلا، حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء كل من معبوديه
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
542
عبوديته، عبدًا يتشارك فيه جماعة يتجاذبونه، ويتعاورونه في مهماتهم المتباينة في تحسره، وتوزع قلبه. ﴿وَرَجُلًا﴾؛ أي: وجعل للموحد مثلا رجلًا ﴿سَلَمًا﴾؛ أي: خالصًا ﴿لِرَجُلٍ﴾ فردٍ وسيدٍ واحدٍ، ليس لغيره عليه سبيل أصلًا، فالتنكير في كل منهما للإفراد؛ أي: فردًا من الأشخاص لفرد من الأشخاص، والسلم: بفتحتين وكقتل وفسق مصدر من سلم له كذا؛ أي: خلص له واختص به كما سيأتي، وُصف به مبالغةً كرجل عدل؛ أي: سالمًا أو ذو سلامة واختصاص به، والرجل ذكر من بني آدم جاوز حد الصغر، وتخصيص الرجل لأنه أنطق، وأفطن وأعرف لما يجرى عليه من الضر والنفع، لأن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك.
والاستفهام في قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ﴾ للإنكار؛ أي: ما يستوي الرجلان المذكوران المشترك والمختص ﴿مَثَلًا﴾؛ أي: من جهة الصفة والحال، نصب على التمييز، والوحدة حيث لم يقل: مثلين لبيان الجنس وإرادته، فيعم؛ أي: هل يستوي حالهما وصفاتهما، يعني: لا يستويان.
والحاصل: أن الكافر كالعبد الأول، في كونه حيران متفرق البال؛ لأنه يعبد آلهة مختلفة؛ أي: أصنامًا لا يجيء منها خير، بل يكون سببًا لوقوعه في أسفل سافلين، كما أن العبد يخدم ملاكا متعاسرين، مختلفي الأهوية، لا يصل إليه منهم منفعة أصلًا. والمؤمن كالعبد الثاني، في انضباط أحواله واجتماع باله، حيث يعبد ربًا واحدًا يوصله إلى أعلى عليين، كما أن العبد يخدم سيدًا واحدًا يرضى عنه، ويصل إليه بالعطاء الجزيل.
وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والزهري، والحسن بخلاف عنه، والجحدري، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب (١): ﴿سالما﴾ بالألف وكسر اللام، اسم فاعل من سلم؛ أي: خالصًا عن الشركة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو رجاء، وطلحة، والحسن: بخلاف عنه، وباقي السبعة ﴿سلما﴾ بفتح السين وسكون
(١) البحر المحيط.
543
اللام، وهذه أيضًا مصدر وصف به، مبالغة في الخلوص من الشركة، وقرىء ﴿ورجل سالم﴾ برفعهما، وقال الزمخشري؛ أي: وهناك رجل سالم لرجل، انتهى. فجعل الخبر ﴿هناك﴾، وقرىء ﴿هل يستويان مثلين﴾، فطابق حال الرجلين، ذكره أبو حيان.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ حيث خصمهم، كما قال مقاتل؛ أي: قطعهم بالخصومة، وغلبهم، وأظهر الحجة عليهم، ببيان عدم الاستواء بطريق ضرب المثل، وقال الشوكاني: وجملة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ تقرير لما قبلها، من نفي الاستواء، وللإيذان للموحدين، بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة، المستحقة لتخصيص الحمد به.
ثم أضرب سبحانه، عن نفي الاستواء، المفهوم من الاستفهام الإنكاري، إلى بيان أن أكثر الناس، وهم المشركون، لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره، فيبقون في ورطة الشرك، والضلال من فرط جهلهم، فقال: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ وهم المشركون ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ عدم استوائهما مع ظهوره، ووضوحه لفرط جهالتهم، أو لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره، فيشركوا به سواه.
وعبارة «المراح» في معنى الآية: أي (١): واضرب يا أشرف الرسل لقومك مثلا، وقل لهم: ما تقولون في رجل مملوك، قد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع، فكل واحد منهم يدعي أنه عبده، فهم يتجاذبونه في حوائجهم، وهو متحير في أمره، فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون، وإذا احتاج في مهم إليهم، فكل واحد منهم يرده إلى الآخر، فهو يبقى متحيرًا لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه، وأيهم يعينه في حاجاته، فهو بهذا السبب يلقى منهم التعب العظيم، وفي رجل آخر له مخدوم واحد، يخدمه على سبيل الإخلاص، وذلك السيد يعينه على حاجاته، فإن أطاعه عرف له، وإن أخطأ صفح عن خطئه، فأي هذين العبدين أحسن حالًا، وأحمد شأنا، وأقل تعبًا؟ وهذا مثل ضربه الله للكافر، الذي يعبد
(١) المراح.
544
آلهة شتى، والمؤمن الذي يعبد الله وحده، انتهى. وقوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا﴾؛ أي: هل تستوي صفتاهما، وحالاهما؟ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾؛ أي: بعد أن بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد، وثبت أن لا إله إلا هو ثبت أن الحمد لله لا لغيره ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي: أكثر الناس لا يعلمون اختصاص الحمد بالله، فيشركوا به غيره.
وفي الآية (١): إشارة إلى بيان عدم الاستواء، بين الذي يتجاذبه شغل الدنيا، وشغل العيال، وغير ذلك من الأشياء المختلفة، والخواطر المتفرقة، وبين الذي هو خالص لله، ليس للخلق فيه نصيب، ولا للدنيا نصيب. وهو من الآخرة غريب، وإلى الله قريب منيب.
والحاصل: أن الراغب في الدنيا شغلته أمور مختلفة، فلا يتفرغ لعبادة ربه، وإذا كان في العبادة يكون قلبه مشغولًا بالدنيا، والزاهد قد تفرّغ من جميع أشغال الدنيا، فهو يعبد ربه خوفًا وطمعًا، والعارف قد تفرغ من الكونين، فهو يعبد ربه شوقًا إلى لقائه، فلا استواء بين البطّالين والطالبين، وبين المنقطعين والواصلين الحمد لله، والثناء له خاصةً. فعلى العاقل الرجوع إلى الله، والعمل بما في القرآن، والاعتبار بأمثاله حتى يكون من الذين يعلمون حقيقة الحال.
٣٠ - ولما لم يلتفتوا إلى الحق، ولم ينتفعوا بضرب المثل.. أخبر سبحانه بأن مصير الجميع إلى الله تعالى، وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه تعالى، وهو الحاكم العادل، وهناك يتميز المحق من المبطل، فقال: ﴿إِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿مَيِّتٌ﴾؛ أي: ستموت لا محالة ﴿وَإِنَّهُمْ﴾؛ أي: وكفار مكة الذين يتربصون بك الموت ﴿مَيِّتُونَ﴾؛ أي: سيموتون؛ أي: إنكم جميعًا بصدد الموت، والموت يعمكم، ولا معنى للتربص والشماتة، بل هو عين الجهالة.
وقرأ الجمهور: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)﴾ بالتشديد، وهي تُشعر بالثبوت واللزوم كالحي، وقرأ ابن محيصن، وابن الزبير، وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، واليماني، وابن غوث، وابن أبي عبلة ﴿مائت ومائتون﴾. وهي تُشعر
(١) روح البيان.
بحدوث الصفة. قال الفراء والكسائي: الميت بالتشديد: من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف: من قد مات وفارقته الروح، قال قتادة: نُعيت إلى النبي - ﷺ - نفسه، ونعيت إليهم أنفسهم.
٣١ - ووجه هذا الإخبار الإعلام للصحابة بأنه - ﷺ - سيموت، فقد كان بعضهم يعتقد أنه لا يموت، مع كونه توطئة وتمهيدًا لما بعده، حيث قال:
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ﴾؛ أي: إنك، وإياهم على تغليب ضمير المخاطب، على ضمير الغائب. وأكد بـ ﴿إن﴾ وإن كان الاختصام مما لا ينكر، لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الاختصام لانهماكهم في الغفلة عنه ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: عند مالك أمركم ﴿تَخْتَصِمُونَ﴾؛ أي: تخاصمهم يا محمد، فتحتج أنت عليهم، بأنك بلغتهم ما أرسلت به إليهم من الأحكام والمواعظ، واجتهدت في الدعوة إلى الحق، حق الاجتهاد، وهم قد لجوا في المكابرة والعناد، ويعتذرون بما لا طائل تحته، وبما لا يدفع عنهم لومًا ولا تقريعًا، ويقول التابعون للرؤساء: أطعناكم فأضللتمونا، ويقول السادة: أغوانا الشيطان، وآباؤنا الأولون، وفي «بحر العلوم»: الوجه الوجيه: أن يراد الاختصام العام، وأن يخاصم الناس بعضهم بعضا، مؤمنًا أو كافرًا، فيما جرى بينهم في الدنيا بدلائل:
منها: قوله - ﷺ -: «أول من يختصم يوم القيامة الرجل والمرأة، والله ما يتكلم لسانها، ولكن يداها تشهدان، ورجلاها عليها بما كانت تعيّب لزوجها، وتشهد عليه يداه ورجلاه بما كان يؤذيها».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - ﷺ - قال: «من كان عنده مظلمة لأخيه، من عرض أو مال، فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار، ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحمّلت عليه»، رواه البخاري.
وعن أبي هريرة قال: إن رسول الله - ﷺ - قال: «أتدرون من المفلس»؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله - ﷺ -: «إن المفلس، من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت
546
عليه، ثم طُرح في النار»، أخرجه مسلم.
فإن قلت: قال في آية أخرى: ﴿لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾، وبينهما معارضة.
قلت: إن في يوم القيامة ساعات كثيرة، وأحوالها مختلفة، مرة يختصمون، ومرة لا يختصمون، كما أنه قال: ﴿فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ﴾، وقال في آية أخرى: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧)﴾. يعني: في حال يتساءلون، وفي حال لا يتساءلون، وكما أنه قال: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩)﴾، وفي موضع آخر ﴿فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢)﴾، ونحو هذا كثير في القرآن.
فائدة: قال ابن مسعود رضي الله عنه: لما دنا فراق رسول الله - ﷺ -، جمعنا في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها ثم نظر إلينا، فدمعت عيناه، وقال: «مرحبًا بكم، حياكم الله، رحمكم الله، أوصيكم بتقوى الله وطاعته، قد دنا الفراق، وحان المنقلب إلى الله تعالى، وإلى سدرة المنتهى، وجنة المأوى، يغسلني رجال أهل بيتي، ويكفنوني في ثيابي هذه إن شاؤوا، أو في حلة يمانية، فإذا غسلتموني وكفنتموني، ضعوني على سريري في بيتي هذا، على شفير لحدي، ثم اخرجوا عني ساعة، فأول من يصلي عليّ، حبيبي جبرائيل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنودهم، ثم ادخلوا عليّ فوجًا فوجًا، فصلوا عليّ»، فلما سمعوا فراقه صاحوا وبكوا، وقالوا: يا رسول الله، أنت رسول ربنا، وشمع جمعنا، وبرهان أمرنا، إذا ذهبت عنا فإلى من نرجع في أمورنا؟ قال: «تركتكم على المحجة البيضاء»؛ أي: على الطريق الواضح «ليلها كنهارها»؛ أي: في الوضوح «ولا يزيغ بعدها إلا هالك، وتركت لكم واعظين، ناطقًا وصامتًا، فالناطق القرآن، والصامت الموت، فإذا أشكل عليكم أمر، فارجعوا إلى القرآن والسنّة، وإذا قست قلوبكم، فليّنوها بالاعتبار في أحوال الموت»، فمرض رسول الله - ﷺ - من يومه ذلك، من صداع عرض له، وكان مريضًا ثمانية عشر يومًا، يعوده الناس، ثم مات يوم الإثنين، ما بعثه الله فيه، فغسله علي رضي الله عنه وصب الماء - أي: ماء بئر غرس - الفضل بن عباس رضي الله عنهما، ودفنوه ليلة الأربعاء وسط الليل، وقيل: ليلة الثلاثاء في حجرة
547
عائشة رضي الله عنها. وفي الحديث: «من أصيب بمصيبة، فليذكر مصيبته بي، فإنها أفظع المصائب». وأنشد بعضهم:
اصْبِر لِكُلِّ مُصِيْبَةٍ وَتَجَلَّدِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيَرُ مُخَلَّدِ
وَإِذَا اعْتَرَتْكَ وَسَاوِسٌ بِمُصِيْبَةٍ فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ
الإعراب
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿اجْتَنَبُوا﴾: صلة الموصول. ﴿الطَّاغُوتَ﴾: مفعول به. ﴿أَنْ﴾: حرف مصدر، ﴿يَعْبُدُوها﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، منصوب بأن المصدرية، والجملة في تأويل مصدر، منصوب على أنه بدل اشتمال، من ﴿الطَّاغُوتَ﴾، تقديره: والذين اجتنبوا الطاغوت عبادتها. ﴿وَأَنابُوا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على الصلة ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَنابُوا﴾، ﴿لَهُمُ﴾: خبر مقدم، ﴿الْبُشْرى﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع، خبر المبتدأ أعني: الموصول، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿فَبَشِّرْ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت يا محمد ثبوت البشرى لهم، وأردت تبليغ البشارة إليهم.. فأقول لك: بشر عبادي؛ أي: بلّغ بشارتي إليهم. ﴿بشر﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، ﴿عِبادِ﴾: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه، فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، اتباعًا لرسم المصحف، وهو مضاف، والياء المحذوفة مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب صفة لـ ﴿عِبادِ﴾. ﴿يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به صلة الموصول، ﴿فَيَتَّبِعُونَ﴾: الفاء: عاطفة. {يتبعون
548
أحسنه}: فعل، وفاعل، ومفعول به معطوف على الصلة، ﴿أُولئِكَ﴾: مبتدأ، ﴿الَّذِينَ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿هَداهُمُ اللَّهُ﴾: فعل، ومفعول به، وفاعل، والجملة صلة الموصول والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَأُولئِكَ﴾: مبتدأ، ﴿هُمْ﴾: ضمير فصل، ﴿أُولُوا الْأَلْبابِ﴾: خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)﴾.
﴿أَفَمَنْ﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه كلمة العذاب، فأنت تنقذه، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، والأظهر في ﴿من﴾ كونها شرطية في محل رفع بالابتداء، والخبر الجواب الآتي، أو فعل الشرط، أو هما على الخلاف المذكور في محله. ﴿حَقَّ﴾: فعل ماض، في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بحق، ﴿كَلِمَةُ الْعَذابِ﴾: فاعل، وذكّر الفعل لوجود الفاصل، أو لكون الفاعل مؤنثًا مجازيًا، ﴿أَفَأَنْتَ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، كررت لتأكيد الأولى، لطول الفصل، والفاء رابطة لجواب الشرط وجوبًا، لكون الجواب جملة اسمية، ﴿أنت﴾ مبتدأ، ﴿تُنْقِذُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملد الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية، معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. والآية جملة واحدة، مركبة من شرط وجواب، معطوفة على جملة محذوفة. ﴿مَنْ﴾: من اسم موصول في محل النصب، مفعول تنقذ، ﴿فِي النَّارِ﴾: جار ومجرور صلة من الموصولة، وهو إظهار في مقام الإضمار، والأصل: فأنت تنقذه من النار. ﴿لكِنِ﴾: حرف عطف وإضراب، بمعنى بل، وليست للاستدراك؛ لأنه لم يسبقها نفي، فالكلام إضراب
549
من موضوع إلى موضوع مغاير للأول. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿اتَّقَوْا﴾: فعل، وفاعل، صلة الموصول، ﴿رَبَّهُمْ﴾: مفعول به، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿غُرَفٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل الرفع خبر عن الموصول، وجملة الموصول، معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿مِنْ فَوْقِها﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿غُرَفٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مَبْنِيَّةٌ﴾: صفة غرف، والجملة في محل الرفع، صفة لـ ﴿غُرَفٌ﴾ الأولى، ﴿مَبْنِيَّةٌ﴾: صفة لـ ﴿غُرَفٌ﴾ الثانية، وجملة ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾: صفة ثانية لـ ﴿غُرَفٌ﴾ أو حال من ﴿غُرَفٌ﴾. ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾: مصدر مؤكد لفعل محذوف، دل عليه قوله: ﴿لَهُمْ غُرَفٌ﴾؛ لأنه في معنى: وعدهم الله ذلك، والجملة المحذوفة مستأنفة، مسوقة لتأكيد ما قبلها. ﴿لا﴾: نافية، ﴿يُخْلِفُ اللَّهُ﴾: فعل، وفاعل، ﴿الْمِيعادَ﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب حال من لفظ الجلالة، لوجود شرط مجيء الحال، من المضاف إليه.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطامًا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: الهمزة فيه للاستفهام التقريري، ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم، ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، أو أي مخاطب، والجملة مستأنفة مسوقة لتمثيل الحياة الدنيا، وسرعة زوالها. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿أَنْزَلَ﴾: خبره، وجملة ﴿أَنَّ﴾: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي تر، ﴿مِنَ السَّماءِ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾، ﴿ماءً﴾: مفعول به، ﴿فَسَلَكَهُ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿سلكه﴾: فعل، وفاعل يعود على الله، ومفعول به، معطوف على أنزل، ﴿يَنابِيعَ﴾: حال من مفعول سلكه. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿سلك﴾ أو منصوب بنزع الخافض، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: صفة له، على أنه اسم مكان. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ. ﴿يُخْرِجُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على سلكه، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُخْرِجُ﴾، ﴿زَرْعًا﴾: مفعول به، ﴿مُخْتَلِفًا﴾ صفة ﴿زَرْعًا﴾، ﴿أَلْوانُهُ﴾: فاعل، مختلفًا، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿يَهِيجُ﴾: فعل مضارع، وفاعل
550
مستتر يعود على زرع، معطوف على ﴿يُخْرِجُ﴾، ﴿فَتَراهُ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿تراه﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على ﴿يَهِيجُ﴾، ﴿مُصْفَرًّا﴾: حال من الضمير، لأن الرؤية بصرية. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف، ﴿يَجْعَلُهُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول، ﴿حُطامًا﴾: مفعول ثان، معطوف على تراه، ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب، ﴿فِي ذلِكَ﴾: خبر مقدم لها، ﴿لَذِكْرى﴾: اللام: حرف ابتداء، ﴿ذكرى﴾: اسمها مؤخر، ﴿لِأُولِي الْأَلْبابِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿ذكرى﴾؛ لأنه بمعنى التذكرة، وجملة ﴿أَنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)﴾.
﴿أَفَمَنْ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف معلوم من السياق، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أكل الناس سواء، فمن شرح الله صدره إلخ، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿من﴾ اسم موصول في محل الرفع، مبتدأ، ﴿شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿لِلْإِسْلامِ﴾: متعلق بـ ﴿شَرَحَ﴾، ﴿فَهُوَ﴾: الفاء، عاطفة، ﴿هو﴾: مبتدأ، ﴿عَلى نُورٍ﴾: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة، أعني: ﴿شَرَحَ﴾. ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾: صفة لـ ﴿نُورٍ﴾، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: كمن قسا قلبه، وحرج صدره، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة. ﴿فَوَيْلٌ﴾: الفاء: استئنافية، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت عدم استوائهما، وأردت بيان حكم القاسي.. فأقول لك: ويل للقاسية قلوبهم. ﴿ويل﴾: مبتدأ، سوّغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء، ﴿لِلْقاسِيَةِ﴾ خبر المبتدأ. ﴿قُلُوبُهُمْ﴾: فاعل القاسية، ﴿مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿لِلْقاسِيَةِ﴾ ﴿مِنْ﴾: إما للتعليل؛ أي: من أجل ذكره. وقيل: ﴿مِنْ﴾ بمعنى: عن، والمعنى: غلظت عن قبول الذكر، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، أو مستأنفة. ﴿أُولئِكَ﴾: مبتدأ ﴿فِي ضَلالٍ﴾: خبر. ﴿مُبِينٍ﴾: صفة
551
﴿ضَلالٍ﴾، والجملة مستأنفة.
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿نَزَّلَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿كِتابًا﴾ بدل من أحسن الحديث، ويجوز أن يكون حالًا منه. ﴿مُتَشابِهًا﴾: صفة لـ ﴿كِتابًا﴾، ﴿مَثانِيَ﴾: صفة ثانية له، ﴿تَقْشَعِرُّ﴾: فعل مضارع، ﴿مِنْهُ﴾: متعلق به، ﴿جُلُودُ الَّذِينَ﴾: فاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب، صفة ثالثة لـ ﴿كِتابًا﴾. ﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخ، ﴿تَلِينُ جُلُودُهُمْ﴾: فعل، وفاعل، معطوف على تقشعر، و ﴿قُلُوبُهُمْ﴾: معطوف على جلودهم، ﴿إِلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَلِينُ﴾ ﴿ذلِكَ هُدَى اللَّهِ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة. ﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من لفظ الجلالة، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب، مفعول ﴿يَهْدِي﴾، وجملة ﴿يَشاءُ﴾: صلة من الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاؤه. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جواب الشرط، أو الجواب أو هما، ﴿يُضْلِلِ اللَّهُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، ﴿فَما﴾: الفاء: رابطة الجواب، ﴿ما﴾: نافية، أو حجازية، ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم، أو خبر ﴿ما﴾: مقدم على اسمها، ﴿مَنْ﴾: زائدة، ﴿هادٍ﴾: مبتدأ مؤخر أو اسمها مؤخر. والجملة الاسمية في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، والجملة الشرطية مستأنفة.
﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾.
﴿أَفَمَنْ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة
552
على ذلك المحذوف، والتقدير: أكل الناس سواء، فمن يتقي بوجهه إلخ. والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿من﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿يَتَّقِي بِوَجْهِهِ﴾: صلة الموصول، ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾: مفعول به، ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾: ظرف، متعلق بـ ﴿يَتَّقِي﴾، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: كمن أمن من العذاب، والجملة الاسمية معطوفة على تلك المحذوفة.
﴿وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)﴾.
﴿وَقِيلَ﴾: الواو: عاطفة، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾: متعلق به، ﴿ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَتَّقِي﴾، ويصح أن تكون جملة ﴿قِيلَ﴾: حالًا من فاعل ﴿يَتَّقِي﴾، وإن شئت قلت: ﴿ذُوقُوا﴾: فعل، وفاعل، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، ولكنه على تقدير مضاف، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾، وجملة ﴿كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ﴾: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول، ﴿فَأَتاهُمُ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿أتاهم العذاب﴾: فعل، وفاعل، ومفعول، معطوف على كذّب، ﴿مِنْ حَيْثُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أتى﴾، وجملة ﴿لا يَشْعُرُونَ﴾: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾، ﴿فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ماض، ومفعول أول مقدم على الفاعل، وفاعل مؤخر، ﴿الْخِزْيَ﴾: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة ﴿أتاهم﴾. ﴿فِي الْحَياةِ﴾: متعلق بـ ﴿أذاقهم﴾، ﴿الدُّنْيا﴾ صفة للحياة ﴿وَلَعَذابُ﴾ الواو: استئنافية، اللام: حرف ابتداء، ﴿عذاب الآخرة﴾: مبتدأ، ﴿أَكْبَرُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على مقدر تقديره: وهذا هو العذاب الأدنى. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط، وجملة ﴿كانُوا يَعْلَمُونَ﴾: فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾، وجوابه محذوف تقديره: لو كانوا يعلمون شدة عذاب الآخرة.. لآمنوا بالله ورسوله، وجملة ﴿لَوْ﴾: الشرطية مستأنفة.
553
﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿ضَرَبْنا﴾: فعل، وفاعل، ﴿لِلنَّاسِ﴾ متعلق بـ ﴿ضَرَبْنا﴾ على أنه مفعول ثان لـ ﴿ضَرَبْنا﴾؛ لأنه بمعنى: جعلنا وبيّنا. ﴿فِي هذَا الْقُرْآنِ﴾: حال من كل مثل، أو متعلق بـ ﴿ضَرَبْنا﴾، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿كُلِّ مَثَلٍ﴾: مفعول أول لـ ﴿ضَرَبْنا﴾ أو ﴿مِنْ﴾: أصلية صفة لمفعول أول محذوف، تقديره: مثلًا كائنًا من كل مثل، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه وجملة ﴿يَتَذَكَّرُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿لعل﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿قُرْآنًا﴾: حال موطئة من القرآن؛ لأنها ذكرت توطئة للنعت بالمشتق، لما كانت جامدة، والاعتماد فيها على الصفة. ﴿عَرَبِيًّا﴾: صفة لـ ﴿قُرْآنًا﴾، ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾: صفة ثانية لـ ﴿قُرْآنًا﴾، ومضاف إليه. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَتَّقُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩)﴾.
﴿ضَرَبَ اللَّهُ﴾: فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿مَثَلًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿ضَرَبَ﴾؛ لأنه بمعنى: جعل. ﴿رَجُلًا﴾: مفعوله الأول أخر عن الثاني، للتشويق إليه، وليتصل به، ما هو من تتمته، التي هي العمدة في التمثيل. ﴿فِيهِ﴾: خبر مقدم. ﴿شُرَكاءُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مُتَشاكِسُونَ﴾: صفة لـ ﴿شُرَكاءُ﴾، والجملة الاسمية صفة لـ ﴿رَجُلًا﴾. ﴿وَرَجُلًا﴾: معطوف على ﴿رَجُلًا﴾. ﴿سَلَمًا﴾: صفة ﴿رَجُلًا﴾، نعت بالمصدر على سبيل المبالغة على حد: مررت برجل عدل. ﴿لِرَجُلٍ﴾: متعلق بـ ﴿سَلَمًا﴾، ﴿هَلْ﴾: حرف للاستفهام الإنكاري، ﴿يَسْتَوِيانِ﴾: فعل، وفاعل، ﴿مَثَلًا﴾: تمييز محول عن الفاعل؛ أي: هل يستوي مثلهما؟. والجملة الفعلية، جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: مبتدأ
554
وخبر، والجملة الاسمية معترضة؛ لأن قوله ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾: إضراب انتقالي، مرتبط بقوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ﴾. ﴿بَلْ﴾: حرف عطف وإضراب، ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾: خبره، والجملة معطوفة على جملة ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ﴾.
﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)﴾.
﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿مَيِّتٌ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾: ناصب واسمه، وخبره، معطوف على ما قبله. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف للترتيب مع التراخي. ﴿إِنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿تَخْتَصِمُونَ﴾، ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من اسم ﴿إن﴾، أو من فاعل ﴿تَخْتَصِمُونَ﴾: أو متعلق بـ ﴿تَخْتَصِمُونَ﴾، وجملة ﴿تَخْتَصِمُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ﴾ والطاغوت: يطلق على الواحد والجمع، كما في «المختار»، ويذكر ويؤنث كما في «المصباح». قال الأخفش: الطاغوت: جمع ويجوز أن يكون مفردة مؤنثة؛ أي: تباعدوا عن الطاغوت، وكانوا منها على جانب فلم يعبدوها، وقال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان. وقال الضحاك والسدي: هي الأوثان، وقيل: إنه الكاهن، وقيل: إنه اسم أعجمي مثل: طالوت، وجالوت، وهاروت، وماروت. وقيل: إنه اسم عربي مشتق من الطغيان، وعبارة الروح: قوله: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ﴾ من الاجتناب، وهو الابتعاد يقال: اجتنبه إذا بعد عنه، والطاغوت: البالغ أقصى غاية الطغيان، وهو تجاوز الحد في العصيان، فلعوت من الطغيان بتقديم اللام على العين، لأن أصله: طغيوت، بني للمبالغة كالرحموت والعظموت، ثم وصف به للمبالغة في النعت، كأن عين الشيطان طغيان؛ لأن المراد به هو الشيطان، وتاؤه زائدة دون التأنيث، كما قال في «كشف الأسرار»: التاء ليست بأصلية، هي في الطاغوت كهي في الملكوت والجبروت، واللاهوت والناسوت والرحموت والرهبوت. قال
555
الراغب: هو عبارة عن كل متعد، وكل معبود من دون الله. وفي «القاموس»: الطاغوت: اللات، والعزى، والكاهن، والشيطان، وكل رأس ضلال، والأصنام، وكل ما عبد من دون الله، ومردة أهل الكتاب، وقال في «كشف الأسرار»: كل من عبد شيئًا غير الله فهو طاغ، ومعبوده طاغوت. وفي «التأويلات النجمية»: طاغوت كل أحد نفسه، وإنما يتجنب الطاغوت من خالف هواه، وعانق رضى مولاه، ورجع إليه بالخروج عما سواه، رجوعًا كليًا.
﴿لَهُمْ غُرَفٌ﴾ جمع غرفة، وهي علية من البناء، وسمي منازل الجنة غرفًا، كما في «المفردات».
﴿فَسَلَكَهُ﴾؛ أي: أدخله ﴿يَنابِيعَ﴾ وفي زاده: الينابيع: جمع ينبوع، وهو إما الموضع الذي يجري فيه الماء من خلال الأرض، أو نفس الماء الجاري، والينبوع يفعول من نبع الماء إذا خرج، وسال. ومضارعه: ينبع بالحركات الثلاث في عين المضارع، فإن كان الينبوع بمعنى المنبع، كان نصب ينابيع على المصدر؛ أي: سلكه سلوكا في ينابيع، وأدخله إدخالًا فيها، على أن يكون ﴿يَنابِيعَ﴾ ظرفًا للمصدر المحذوف، فلما أقيم مقام المصدر، جعل انتصابه على المصدر، وإن كان بمعنى النابع كان انتصابه على الحال؛ أي: نابعات، اهـ. وفي «المختار»: نبع الماء إذا خرج، وبابه: قطع، ودخل، ونبع ينبع نبعانًا بفتح الباء لغة أيضًا، والينبوع: عين الماء، ومنه: قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾. والجمع ينابيع، اهـ. فما يقوله العامة وهو نبع مولد غير معروف، وإنما النبع مصدر، وشجر تتخذ منه السهام والقسي، يقال: فزعوا النبع بالنبع؛ أي: تلاقوا، وتطاعنوا، وما رأيت أصلب منه نبعًا؛ أي: أشد منه.
﴿زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ﴾؛ أي: من أصفر، وأحمر، وأخضر، وأبيض، وشمل لفظ الزرع جميع ما يستنبت من مقتات وغيره، والزرع في الأصل: مصدر بمعنى الإنبات، عبّر به عن المزروع؛ أي: مزروعا. ﴿فَتَراهُ مُصْفَرًّا﴾؛ أي: زالت خضرته، ونضارته، اهـ من «النهر». ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾؛ أي: ييبس، ويتم جفافه؛ لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور وينتشر عن منابته، ويذهب. وفي «المختار»: وهاج
556
النبت يهيج هياجًا بالكسر وهيجًا وهيجانًا: يبس. وفي المصباح: وهاج البقل يهيج: اصفر. ﴿فَتَراهُ مُصْفَرًّا﴾ قال الراغب: الصفرة: لون من الألوان التي بين السواد والبياض، وهي إلى البياض أقرب، ولذلك قد يعبر بها عن السواد. ﴿حُطامًا﴾؛ أي: فتاتًا. وفي «المصباح»: حطم الشيء حطمًا من باب تعب، فهو حطم إذا تكسر، ويقال للدابة إذا أسنّت: حطمة، ويتعدى بالحركة فيقال: حطمته حطما من باب ضرب فانحطم، وحطمته بالتشديد مبالغة، وتحطم العود إذا تفتت من اليبس.
﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ﴾ وأصل الشرح: بسط اللحم، ونحوه. يقال: شرحت اللحم، وشرحته. ومنه: شرح الصدر بنور إلهي وسكينة من جهته وروح، كما في «المفردات». وشرح الصدر للإسلام: الفرح به، والطمأنينة إليه، والنور البصيرة، والهدى.
﴿لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ والقسوة: جمود، وصلابة في القلب. يقال: قلب قاس؛ أي: لا يرق ولا يلين، وأصله من حجر قاس، والمقاساة: معالجة ذلك.
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ قال في «المفردات»: كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع، أو الوحي في يقظته أو منامه، يقال له: حديث، وفي عرف العامة: الخبر والكلام، وأحسنيته لفصاحته وإعجازه. ﴿مُتَشابِهًا﴾؛ أي: يشبه بعضه بعضا في الحسن، والإحكام.
﴿مَثانِيَ﴾ جمع مثنى بضم الميم وفتح الثاء والنون المشددة على خلاف القياس. إذ قياسه مثنيات. أو جمع مثنى بالفتح مخففًا. وعلى الأول فهو من التثنية بمعنى التكرير والإعادة، وعلى الثاني مفعل بفتح الميم وإسكان الفاء من التثنية بمعنى التكرير أيضًا، بحذف الزوائد، أو جمع مثنى بضم الميم وإسكان الثاء وفتح النون، من أثنى الرباعي؛ أي: مثني عليه بالبلاغة والفصاحة حتى قال بعضهم لبعض: ألا سجدت لفصاحته، ويجوز أن يكون بكسر النون؛ أي: مثن عليّ بما هو أهله من صفاته العظمى، وفي «المفردات»: وسمي سور القرآن مثاني، لأنها تثنى على مرور الأيام، وتكرر، فلا تدرس ولا تنقطع دروس سائر
557
الأشياء التي تضمحل وتبطل على مرور الأيام، وإنما تدرس الأوراق، كما روي أن عثمان رضي الله عنه حرق مصحفين لكثرة قراءته فيهما. ويصح أن يقال للقرآن: مثاني لما يثنى ويتجدد حالًا فحالًا من فوائده، كما جاء في نعته، ولا تنقضي عجائبه، ويجوز أن يكون ذلك من الثناء، تنبيهًا على أنه أبدًا يظهر منه، ما يدعو إلى الثناء عليه، وعلى من يتلوه ويعلمه، ويعمل به، وعلى هذا الوجه وصفه بالكرم في قوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧)﴾، وبالمجد في قوله: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١)﴾. قال ابن بحر: لما كان القرآن مخالفًا لنظم البشر، ونثرهم حول أسماءه، بخلاف ما سموا به كلامهم على الجملة والتفصيل، فسمى جملته قرآنًا، كما سموا ديوانًا، وكما قالوا: قصيدةٌ وخطبةٌ ورسالةٌ، قال: سورة، وكما قالوا: بيت قال: آية، وكما سميت الأبيات لاتفاق أواخرها قوافي سمى الله القرآن لاتفاق خواتيم الآي فيه مثاني.
﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ﴾؛ أي: تضطرب، وتتحرك، وتشمئز. يقال: اقشعر جلده: أخذته قشعريرة؛ أي: رعدة، كما في «القاموس»، والجلد: قشر البدن، كما في «المفردات»، ويقال: اقشعر جلده إذا تقبّض، وتجمع من الخوف، ووقف شعره كما مر، والمصدر: الاقشعرار، والقشعريرة أيضًا، ووزن اقشعر افعلل، ووزن القشعريرة: فَعْلَليلة، اهـ «سمين».
﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ﴾ يقال: اتقى فلان بكذا، إذا جعله وقايةً لنفسه، والتركيب يدل على دفع شيء عن شيء يضره. ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ تقدم معنى العوج في الكهف، وأن العوج بالكسر مختص بالمعاني دون الأعيان، والسر فيه فارجع إليه هناك، وقيل: المراد بالعوج: الشك، واللبس. قال:
وَقَدْ أَتَاكَ يَقِيْنٌ غَيْرُ ذِيْ عِوَجٍ مِنَ الإِلَهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوْبِ
﴿مُتَشاكِسُونَ﴾؛ أي: متنازعون مختلفون. قال الزمخشري: التشاكس، والتشاخس: الاختلاف. تقول: تشاكست أحواله، وتشاخست أسبابه، وفي «المختار»: رجل شكس بوزن فلس؛ أي: صعب الخلق، وقوم شُكس بوزن قفل، وبابه: سلم. وحكى الفراء: رجل شكس بكسر الكاف، وهو القياسُ. وفي
558
«الصحاح»: رجل شكس بالتسكين؛ أي: صعب الخلق، وقوم شكس مثل: رجل صدق وقوم صدق، وقد شكس بالكسر من باب سلم شكاسة. وفي «السمين»: والتشاكس: التخالف، وأصله سوء الخلق، وعسره. وهو سبب التخالف، والتشاجر. وفي «القرطبي» ﴿مُتَشاكِسُونَ﴾ من شكس يشكس شكسًا، بوزن قفل، فهو شكس مثل: عسر يعسر عسرًا فهو عسر. يقال: رجل شكس، وشرس، وضرس.
﴿وَرَجُلًا﴾ والرجل: ذكر من بني آدم جاوز حد الصغر. ﴿سَلَمًا﴾ بفتحتين، وكقتل، وكفسق: مصدر من سلم له من كذا. ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ وضرب المثل: تشبيه حال عجيبة بأخرى، وجعلها مثلًا لها. ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ﴾ قال الفراء: الميت بالتشديد: من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف: من فارقته الروح. ولذلك لم يخفف في الآية. قال الخليل: أنشد أبو عمرو:
إِنْ تَسْأَلْنِي تَفْسِيْرَ مَيْتٍ وَمَيِّتِ فَدُونَكَ قَدْ فَسَّرْتُ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ
فَمَنْ كَانَ ذَا رُوْحٍ فَذَلِكَ مَيِّتٌ وَمَا الْمَيْتُ إِلّا مَنْ إِلَى الْقَبْرِ يُحْمَلُ
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المبالغة في قوله: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ﴾، ففي تشبيه الشيطان بالطاغوت، وجوه ثلاثة من المبالغة.
١ - تسميته بالمصدر، كأنه نفس الطغيان.
٢ - بناؤه على فعلوت، وهي صيغة مبالغة كالرحموت، وهي الرحمة الواسعة، والملكوت، وهو الملك الواسع.
٣ - تقديم لامه على عينه، ليفيد اختصاصه بهذه التسمية.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ﴾. فوضع الظاهر
559
موضع ضميرهم، تشريفًا لهم بالإضافة، ودلالة على أن مدار اتصافهم بالاجتناب والإنابة: كونهم نقادًا في الدين، يميزون الحق من الباطل، ويؤثرون الأفضل فالأفضل، اهـ من «الإرشاد».
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ أوقع الظاهر وهو ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ موقع المضمر؛ لأن حقه: أفأنت تنقذه، وفيه أيضًا مجاز مرسل، علاقته السببية، فقد أطلق المسبب وأراد السبب؛ لأن الضلال سبب لدخول النار، والمعنى: أفأنت تهديه بدعائك له إلى الإيمان، فتنقذه من النار، وفيه أيضًا تكرير همزة الاستفهام الإنكاري، فالأولى لإفادته، والثانية لتأكيده لطول الكلام، ولولا طوله لم يجز الإتيان بها؛ لأنه لا يصلح في العربية أن يؤتى بألف الاستفهام في اسم الشرط، وبأخرى في الجزاء، وقيل: الاتقاء بالوجه، كناية عن عدم ما يتقي به، إذ الاتقاء بالوجه لا وجه له على حد قوله:
وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم
ومنها: الإتيان بصيغة الماضي في قوله: ﴿وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ﴾ للدلالة على تحقق وقوع القول، وفيه أيضًا وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلًا عليهم بالظلم، والإشعار بعلة الأمر في قوله: ﴿ذُوقُوا...﴾ إلخ، اهـ «أبو السعود».
ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا﴾ لاستحضار الصورة الماضية.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ﴾ لدلالة السياق عليه حذف خبره، تقديره: كمن طبع الله على قلبه. وفيها أيضًا الاستفهام الإنكاري.
ومنها: وصف الواحد بالجمع في قوله: ﴿مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ﴾. فإنه وصف الواحد وهو الكتاب بالجمع، وهو المثاني باعتبار تفاصيله؛ لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، فإنه يقال: القرآن أسباع، وأخماس، وسور، وآيات، وأقاصيص وأحكام، ومواعظ مكررات، كما مر.
560
وفائدة التكرير: فيه ترسيخ الكلام في الأذهان، فإن النفوس تمل عادة من الوعظ والتنبيه، وتسأم النصيحة بادىء الأمر، ففي تكرير النصح والموعظة تعويد لها على استساغة ذلك، والعمل به، وقد ثبت: أن رسول الله - ﷺ - كان يكرر عليهم ما يعظ وينصح به، ثلاثًا وسبعًا أحيانًا، ليركز ذلك في نفوسهم، والمعلم النابه لا يفتأ يردد ما يلقيه على طلابه من دروس، حتى يصبح مستساغًا إليهم، هشًا في نفوسهم، بعد أن كان صعبًا ممجوجًا.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ﴾؛ لأن الذوق إنما يكون في المطعوم الحالي، فعبر عن إيصال الصغار والعذاب إليهم بالإذاقة، تهكمًا بهم.
ومنها: ضرب المثل في قوله: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ...﴾ الآية. وهو نوع من التشبيه، فقد شبه حال من يعبد آلهة شتى بمملوك اشترك فيه شركاء، شجر بينهم خلاف شديد وخصام مبين، وهم يتجاذبونه، ويتعاورونه في شتى آرابهم، ومتباين أهوائهم، فهو يقف متحيرًا لا يدري لأيهم ينحاز؟، ولأيهم ينصاع، وأيهم أجدر بأن يطيعه؟. وحال من يعبد إلهًا واحدًا، فهو متوفر على خدمته، يلبي كل حاجاته، ويصيخ سمعًا لكل ما ينتدبه إليه، ويطلبه منه.
ومنها: تنكير ﴿رجل﴾ في الموضعين للإفراد؛ أي: فردًا من الأشخاص لفرد من الأشخاص.
ومنها: تخصيص الرجل؛ لأنه أفطن لما يجرى عليه من الضر والنفع؛ لأن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا﴾.
ومنها: الاعتراض بجملة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ في قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ فإن جملة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ اعتراضية، لاعتراضها بين الكلامين، المرتبط أحدهما بالآخر، فإن قوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ إضراب انتقالي، مرتبط بقوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا﴾، فإنه انتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور، إلى بيان أن أكثرهم لا يعلمون ذلك، مع كمال ظهوره، فيبقون
561
في ورطة الشرك والضلال، لفرط جهالتهم.
ومنها: التمهيد بقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)﴾، فإنه تمهيد لما يعقبه من الخصام يوم القيامة.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
* * *
(١) وكان الفراغ من تسويد هذا المجلد، أوائل ليلة الخميس، الإثني عشر من شهر الجمادي الثانية، من شهور سنة ألف وأربع مئة، وأربعة عشر سنة ١٢/ ٦/ ١٤١٤ هـ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، بحول الله تعالى وتيسيره. ويتلوه المجلد الخامس والعشرون بتوفيقه، وأوله قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾، نسأل الله سبحانه الإعانة على التمام والإكمال، كما أعان على الابتداء والافتتاح، والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، دائمًا إلى يوم الدين، آمين.
562
شعرٌ
إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتٍ نَسْجُهُ مِنْ عَنْكَبُوت
وَكُلُّ ذِيْ غَيْبَةٍ يَؤوْبُ وَغَائِبُ الْمَوْتِ لا يَؤُوْبُ
إِذَا رَأَيْتَ لَحِيْنَا كُنْ سَاتِرًا حَلِيْمَا
يَا مَنْ يُقَبِّحُ سَطْرِيْ لِمْ لاَ تَمُرُّ كَرِيْمَا
آخرُ
الْعَبْدُ ذُو ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُو قَدَرٍ وَالدَّهْرُ ذُوْ دُوَلٍ وَالرِّزْقُ مَقْسُومُ
وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيْمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا وَفِيْ اخْتِيَارِ سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشُّومُ
آخرُ
رَأيْتُ أَخَا الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ ثَاوِيَا أَخَا سَفَرٍ يُسْرَى بِهِ وَهْوَ لَا يَدْرِيْ
آخرُ
563
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الخامس والعشرون»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[٢٥]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الكبير المتعال، واسع الكرم والجود والفضل والنَّوال، وأشهد أن لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأَشهد أن سيّدنا محمدًا عبده ورسوله، المرسل رحمةً للأنام، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان عليه، ﷺ وعلى آله وأصحابه الكرام، والتابعين لهم وكل من تمسّك بدين الهدى والسلام، واهتدى بهدي القرآن.
أمّا بعد: فلما فرغت من تفسير الجزء الثالث والعشرين من القرآن الكريم بمعونة الله سبحانه وتعالى.. تفرغت للشروع في تفسير الجزء الرابع والعشرين منه، قاصدًا الشروع فيه بتوفيق الله سبحانه وتعالى، فقلت مستمدًا من الله تعالى التوقيق والهداية لأصوب الطرق وأرجح الأقاويل في تفسير كتابه، وقولي هذا:
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ
5
شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤٨) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)}.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه (١) لما ذكِر فيما سلف بعض هنات المشركين، وبعض قبائحهم، وأعقبه بمثل يشرح حالهم.. أردف ذلك بنوع آخر منها، وهو أنَّهم يكذبون فيثبتون لله ولدًا، ويثبتون له شركاء، ويكذبون القائل المحقّ، فيكذبون محمدًا - ﷺ - بعد قيام الأدلة القاطعة على صدقه، وبعد أن ذكر وعيد هؤلاء، أعقبه بوعد الذي جاء بالصدق ووعد المصدّقين له، فذكر أن الله يؤتيهم من فضله الثواب، ويمنع عنهم العقاب.
قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ....﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف أنه يؤتي المؤمنين ما يشاؤون في الجنة، ويكفر سيئاتهم.. أردف ذلك ببيان أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمّهم، ولا يضرهم ما يخوّفونهم به من غضب الأوثان والأصنام، فإن الأمور كلها بيده تعالى، فمن يضلله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضلّ له، وهو ذو العزّة المنتقم الجبّار.
(١) المراغي.
6
ثم ذكر أن قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم من خلق السموات والأرض يقولون: الله، وهم مع ذلك يعبدون غيره، ثمّ سألهم سؤال تعجيز: هل ما تعبدونه من صنم أو وثن يستطيع أن يكشف ضرًّا أراده الله بأحدٍ، أو يمنع خيرًا قدّره الله لأحد؟ إذًا فالله حسبي وعليه أتوكّل.
وبعد أن أعيت رسوله الحيلة في أمرهم، أمره الله سبحانه أن يقول لهم: اعملوا كما تشاؤون، وعلى نحو ما تحبّون، إنّي عامل على طريقتي، ويوم الحساب ترون المحقّ من المبطل، ومن سيحلّ به العذاب المقيم الذي سيخزيه يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر محاجّة الرسول - ﷺ - إياهم بالأدلّة القاطعة، والبراهين الساطعة على وحدانيته تعالى (١).. سلّاه على إصرارهم على الكفر الذي كان يعظم عليه وقعه، كما قال: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ وقال: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ وأزال عن قلبه الخوف، فأعلمه أنه أنزل عليه الكتاب بالحق، وأنه ليس عليه إلّا إبلاغه، فمن اهتدى فنفع ذلك عائد إليه، ومن ضلّ فضير ضلاله عليه، وما وكل عليهم ليجبرهم على الهدى.
ثمّ ذكر أنّه تعالى يقبض الأرواح حين انقضاء آجالها، ويقطع صلتها بها، ظاهرًا وباطنًا، أو ظاهرًا فقط حين النوم، فيمسك الأولى ولا يردّها إلى البدن، ويرسل الثانية إلى البدن حين اليقظة، وفي ذلك دلائل على القدرة لمن يتفكر ويتدبر.
ثُمَّ أبان أنّ هذه الأصنام التي اتخذت شفعاء لا تملك لنفسها شيئًا، ولا تعقل شيئًا، فكيف تشفع؟ وبعدئذ ذكر مقابحهم ومعايبهم، وأنه إذا قيل: لا إله إلّا الله وحده.. ظهرت آثار النفرة في وجوههم، وإذا ذكرت الأصنام.. ظهرت علامات الفرح والسرور فيها، وهذا منتهى الجهل والحمق الشديد.
(١) المراغي.
7
قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ....﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر حبّ المشركين للشرك، ونفرتهم من التوحيد.. أمر رسوله - ﷺ - بالالتجاء إليه، لما قاساه في أمر دعوتهم من شديد مكابرتهم وعنادهم، تسلية له - ﷺ -، وبيانًا بأنّ سعيه مشكور، وجدّه معلوم لديه، وتعليمًا لعباده أن يلجؤوا إليه حين الشدّة، ويدعوه بأسمائه الحسنى.
ثمّ ذكر أحوالهم يوم القيامة حين يرون الشدائد والأهوال، وما ينتظرهم من العذاب.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا...﴾ الآيات، مناسبة هذه لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن المشركين بعض هنواتهم الفاسدة.. حكى عنهم هناةً أخرى، هي: أنهم حين الوقوع في الضرّ من فقر وضرّ يفزعون إلى الله تعالى، ويلجؤون إليه، علمًا منهم أنه لا دافع له إلَّا هو، وإذا نالتهم بعض النعم من فضله.. زعموا أن ذلك بكسبهم وحسن صنيعهم وجميل تدبيرهم، وفي الحقيقة أنّ ما أُوتوه إنما هو فتنة لهم، واختبار لحالهم، ليعلم أيشكرون على ما حباهم به من النعم أم يكفرون؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك، وما هذه المقالة ببدع منهم، بل قالها كثير قبلهم، فلم ينفعهم ذلك شيئًا.
ثمَّ ذكر أن بسط الرزق وتقتيره بيد الله، يبسطه تارةً ويقبضه أخرى، وليس ذلك لسعة الحيلة وحسن التدبير وحدهما، فإنا نرى كثيرًا من العقلاء وأرباب التدبير للمال وحسن تصريفه في ضيق شديد، وكثيرًا من الجهلاء والحمقى في بحبوحة من العيش، ورغد عظيم منه.
أسباب النزول
قول تعالى: ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ....﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر، قال لي رجل: قالوا للنبيّ - ﷺ -: لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو لنأمرنّها فلتخيلنك، فنزلت: ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر عن مجاهد: أنها نزلت في قراءة النبي - ﷺ - سورة النجم عند الكعبة، وفرحهم عند ذر الآلهة.
8
التفسير وأوجه القراءة
٣٢ - ثمّ بيّن سبحانه وتعالى، حالى كل فريق من المختصمين، فقال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ و (الفاء): فاء الفصيحة؛ أو استئنافية، والاستفهام فيه، للإنكار، والتقدير: إذا عرفت أنه يقع التخاصم بين المحق والمبطل يوم القيامة، وأردت بيان حالهما.. فأقول لك: لا أحد أشدّ ظلمًا من الكاذبين، وأقبح افتراءً من المفترين ممن كذب على الله سبحانه، فزعم أنّ له ولدًا أو شريكًا أو صاحبةً، وفي "بحر العلوم": فيه دلالة بينة على أن الاختصام واقعٌ يوم القيامة بين الظالمين والمظلومين.
والمعنى: أظلم كل ظالم من الكاذبين من افترى على الله سبحانه، بأن أضاف إليه الشرك والولد. ﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ﴾ وهو الحق؛ أي: بالأمر الذي هو عين الحقّ ونفس الصدق، وهو كل ما جاء به النبي - ﷺ - من التوحيد، والأوامر والنواهي والبعث والنشور والثواب والعقاب. ﴿إِذْ جَاءَهُ﴾ ذلك الصدق على لسان الرسول - ﷺ -؛ أي: فاجأَه بالتكذيب ساعة مجيئه، وأوّل ما سمعه من غير تدبّر فيه ولا تأمّل.
والمعنى: أي لا أحد من الكاذبين يبلغ ظلمهُ ظلم من افترى على الله الكذب، فجعل معه آلهة أخرى، أو ادَّعى أنّ الملائكة بنات الله، وهو أيضًا كذّب بالحق الذي جاء به رسوله - ﷺ -، من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع، ونهيهم عن محرّماته، وإخبارهم بالبعث والنشور، وفي قوله: ﴿إِذْ جَاءَهُ﴾ بيان بأنهم كذّبوا به من غير وقفة ولا إعمال روية في التمييز بين الحقّ والباطل، كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون.
وبعد أن ذكر حالهم.. أردفه بذكر وعيدهم على طريق الاستفهام الإنكاري، فقال: ﴿أَلَيْسَ﴾ لهؤلاء المفترين على الله سبحانه، المكذبين بالصدق حين جاءهم، ﴿فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى﴾؛ أي: منزل ومسكن في نار جهنم، وقوله: ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ إظهار في مقام الإضمار.
والاستفهام (١) في ﴿أَلَيْسَ﴾ إنكاري، وإنكار النفي نفي له، ونفي النفي إثبات.
(١) روح البيان.
والمعنى: إن جهنّم منزل ومقام للكاذبين المكذبين، المذكورين وغيرهم من الكفار، جزاءً لكفرهم وتكذيبهم.
٣٣ - ثمَّ ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدِّقين، فقال: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ﴾ مبتدأ، والموصول عبارة عن رسول الله - ﷺ - ومن تبعه من المؤمنين، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)﴾ فإنّ المراد موسى عليه السلام وقومه، وخبر المبتدأ: قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالصدق والتصديق، ﴿هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾؛ أي: المنعوتون بالتقوى التي هي أجلُّ الرغائب وعنوان النجاة، فقال الإِمام السهيلي (١) رحمه الله: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ﴾ رسول الله - ﷺ -، والذي صدّق به، أبو بكر الصديق، وقال مجاهد: الذي جاء بالصدق: رسول الله - ﷺ -، والذي صدّق به عليُّ بن أبي طالب، وقال السدي: الذي جاء بالصدق: جبريل، والذي صدّق به: رسول الله - ﷺ -، وقال قتادة ومقاتل وابن زيد: الذي جاء بالصدق: النبيُّ - ﷺ -، والذي صدّق به: المؤمنون، وقال النخعي: الذي جاء بالصدق وصدّق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة، وقيل: إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله، وأرشد إلى ما شرعه لعباده، واختار هذا القول ابن جرير، وهو الذي اختاره من هذه الأقوال، ويؤيده قراءة ابن مسعود: والذين جاؤوا بالصدق وصدقوا به ولفظ ﴿الَّذِي﴾ كما وقع في قراءة الجمهور، وإن كان مفردًا فمعناه: الجمع؛ لأنه يراد به الجنس، كما يفيده قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.
ودلّت الآية (٢) على أنّ النبي - ﷺ - يصدّق أيضًا بما جاء به من عند الله، ويتلقاه بالقبول، كما قال الله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ ومن هنا قال بعضهم: إن النبي - ﷺ - مرسل إلى نفسه أيضًا، وقرأ أبو صالح: ﴿وصدَقَ به﴾ مخفّفًا؛ أي: صدق به الناس.
٣٤ - ثمّ ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين المصدِّقين في الآخرة، بقوله: ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء المتقين بمقابلة محاسن أعمالهم في الدنيا. ﴿مَا يَشَاءُونَ﴾ في الآخرة مدّخرًا لهم، ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: كل ما يشاؤونه من جلب المنافع، ودفع المضارّ في الآخرة لا في الجنة فقط، لما أنّ بعض ما يشاؤونه من تكفير السيئات، والأمن
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
من الفزع الأكبر، وسائر أهوال يوم القيامة، إنما يقع قبل دخول الجنة، ويقال أجمع العبارات لنعيم الجنة قوله: ﴿وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ وأجمع العبارات لعذاب الآخرة قوله: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾.
وفي "التأويلات النَّجمية": ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾؛ لأنهم تقرّبوا إلى الله تعالى بالاتّقاء به عما سواه، فأوجب الله سبحانه في ذمة كرمه أن يتقرّب إليهم بإعطاء ما يشاؤون من عنده، بحسب حسن استعدادهم. ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: حصول ما يشاؤونه، وهو مبتدأ، خبره: ﴿جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: ثواب الذين أحسنوا أعمالهم، بأن عملوها على مشاهدة الحق، وقد ثبت في "الصحيح" عن رسول الله - ﷺ - أن: "الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه.. فإنه يراك".
٣٥ - ثم بين سبحانه ما هو الغاية مما لهم عند ربهم، فقال: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ﴾ سبحانه ويستر، ﴿عَنْهُمْ أَسْوَأَ﴾ وأقبح وأفحش العمل ﴿الَّذِي عَمِلُوا﴾، من الذنوب والسيئات، فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم؛ لأنَّ الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم.. غفر لهم ما دونه بطريق الأولى، و (اللام) (١): إما متعلقة بـ ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾؛ يعني الذين أحسنوا رجاء أن يكفّر الله عنهم، أو بالجزاء؛ يعني جزاهم كي يكفّر عنهم، كذا في "كشف الأسرار". وقال أبو السعود - رحمه الله -: (اللام): متعلق بقوله: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ﴾، باعتبار فحواه الذي هو الوعد؛ أي: وعدهم الله تعالى جميع ما يشاؤونه من زوال المضار وحصول المسارّ؛ ليكفر عنهم بموجب الوعد أسوأ الذي عملوا، دفعًا لمضارهم، أو بمحذوف تقديره: يسّر لهم ذلك ليكفر.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا﴾، والظاهر أنه اسم تفضيل، وقيل: إنّ أفعل هنا ليس للتفضيل، وهو كقولك: الأشجّ أعدل بني مروان؛ أي: عادل، فكذلك هذا؛ أي: سيّىء الذي عملوا، ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم وحامد بن يحيي عن ابن كثير: ﴿أسواء﴾ هنا وفي حم السجدة بألف بين الواو والهمزة بزنة أجمال، جمع سوء، ولا تفضيل فيه.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
11
والمعنى (١): لهم من الكرامة عند ربهم ما تشتهيه أنفسهم، وتقرّ به أعينهم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذلك جزاء من أحسن عملًا، فأخلص لربه في السرّ والنجوى، وراقبه في أقواله وأفعاله، وعلم أنه محاسب على النقير والقطمير والجليل والحقير. ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ وذلك أعظم ما يرجونه من دفع الضرّ عنهم، والنفس: إذا علمت زوال المكروه عنها.. كان لها في ذلك سرور ولذّة تعدل السرور واللذة بجلب المنافع لها.
ولما ذكر سبحانه ما يدلّ على دفع المضارّ عنهم.. ذكر ما يدلّ على جلب أعظم المنافع إليهم، فقال: ﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ﴾؛ أي: ويعطيهم ثوابهم ﴿بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: على حسن ما كانوا يعملونه؛ أي: ويثيبهم بمحاسن أعمالهم ولا يجزيهم بمساوئها، فهو معطوف على ﴿يُكَفِّرَ﴾، والظاهر: أنّ الأسوأ والأحسن بمعنى السيء والحسن، فأفعل التفضيل ليس (٢) على بابه، فبهذا الاعتبار عمّ الأسوأ جميع معاصيهم، والأحسن جميع حسناتهم، ولولا هذا التاوبل.. لاقتضى النظم أنه يكفّر عنهم أقبح السيئات فقط، ويجزيهم على أفضل الحسنات فقط، هذا مراده، والله أعلم بمعاني كتابه. اهـ شيخنا، وقال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوىء، وقدّم تكفير السيئات على إعطاء الثواب؛ لأنّ دفع المضارّ أهمُّ من جلب المسارّ، وفي ذكر تكفير الأسوأ؛ إشارة إلى استعظامم للمعصية مطلقًا، لشدّة خوفهم من الله تعالى، وإلى أنّ الحسن الذي يعملونه هو الأحسن عند الله تعالى لحسن إخلاصهم فيه.
واعلم (٣): أنّ سبب اِلتكفير والأجر الأحسن هو الصدق، وهو من المواهب لا من المكاسب في الحقيقة، وإن كان حصول أثره منوطًا بفعل العبد، ويجري في القول والفعل والوعد والعزم.
والصدق: وديعة الله في عباده، ليس للنفس فيه نصيب؛ لأنّ الصدق سبيل إلى الحق، وأبى الله أن يكون لصاحب النفس إليه سبيل.
(١) المراغي.
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.
12
٣٦ - قال النبي - ﷺ - لمعاذ - رضي الله عنه -: "يا معاذ، أخلص دينك يكفك القليل من العمل". ولما قالت قريش: لئن لم تنته يا محمد عن تعييب آلهتنا.. لنسلّطنّها عليك فتصيبك بخبل وتعتريك بسوء.. أنزل الله سبحانه قوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾.
قرأ الجمهور (١): ﴿عَبْدَهُ﴾، بالإفراد، والمراد به: النبي - ﷺ -، أو الجنس، ويدخل فيه رسول الله - ﷺ - دخولًا أوّليًّا، وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر ومجاهد وابن وثّاب وطلحة والأعمش: ﴿عباده﴾ بالجمع والمراد بهم: الأنبياء أو المؤمنون أو الجميع، واختار أبو عبيد قراءة الجمهور؛ لقوله عقبه: ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ﴾. وقرىء ﴿بكافي عبده﴾ على الإضافة، و ﴿يكافي عباده﴾ مع نصب ﴿عباده﴾، بصيغة المضارع.
والهمزة فيه للاستفهام التقريري؛ لأنّه أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي، فأفادت معنى إثبات الكفاية وتقريرها، وكونها للتقرير معناه: طلب الإقرار بما بعد النفي، وكونها للنفي معناه: نفي النفي الذي دخل عليه، ونفي النفي إثبات، فمآل المعنيين واحد، اهـ "كرخي". والكفاية: ما فيه سدّ الخلّة وبلوغ المراد في الأمر؛ أي: هو تعالى كافٍ عبده محمدًا - ﷺ - أمر من يعاديه، وناصره عليه، وفيه تسلية له - ﷺ -.
وقيل: المراد بالعبد والعباد: ما يعمّ المسلم والكافر، قال الجرجاني: إنّ الله كاف عبده المؤمن، وعبده الكافر، هذا بالثواب، وهذا بالعقاب اهـ.
والمعنى (٢): أي الله وحده هو الذي يدفع عن عباده الآفات، ويزيل عنهم المصائب والويلات، ويعطيهم جميع المشتهيات، والمراد أنه يكفي من عبَدَه، وتوكّل عليه، وأتى بالكلام على طريق الإنكار للإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه، كأنها من الظهور بحيث لا يتيسّر لأحد أن ينكرها.
ثمّ رتّب على ذلك ما هو كالنتيجة لما سلف، فقال: ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ﴾؛ أي: يخوفك المشركون يا محمد، ﴿بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾؛ أي: بالأوثان التي اتخذوها آلهة من دون الله تعالى، ويقولون: إنّك تعيبها، وإنها لتصيبك بسوء كالهلاك أو
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
الجنون أو فساد الأعضاء، وقال بعض المفسرين: إنّ هذه الآية؛ أعني: قوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ نزلت مرة في حق النبي - ﷺ -، ومرة في شأن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - كسورة الفاتحة حيث نزلت مرةً بمكة ومرةً بالمدينة.
أي (١): ويخوّفك المشركون بغير الله تعالى من الأوثان والأصنام عبثًا وباطلًا، لأنّ كل نفع أو ضرّ فلا يصل إلّا بإرادته تعالى، وقد روي أنهم خوّفوا النبي - ﷺ - مضرّة الأوثان، فقالوا: أتسبّ آلهتنا، لئن لم تكفّ عن ذكرها.. لتخبلنّك أو تصيبنّك بسوءٍ، وقال قتادة: مشى خالد بن الوليد إلى العزّى ليكسرها بالفأْس، فقال له سادنها: أحذّركها يا خالد، فإن لها شدّة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس، وفي الآية إيماء إلى أنّه سبحانه يكفي نبيّه - ﷺ - دينه ودنياه، ويكفي أتباعه أيضًا، ويكفيهم شرّ الكافرين، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾، وقوله تعالى: حكايةً عن إبراهيم: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾. ثم بيّن شديد جهلهم لتوعّدهم بما لا يضرّ ولا ينفع فقال: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾؛ أي: ومن يجعله الله ضالًا عن الطريق القويم والفهم المستقيم، حتى غفل عن كفايته تعالى وعصمته للنبي - ﷺ -، وخوفه بما لا ينفع ولا يضرّ أصلًا. ﴿فَمَا لَهُ﴾؛ أي: لذلك الضالّ ﴿مِنْ هَادٍ﴾، يهديه إلى خير ما،
٣٧ - ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ﴾ سبحانه؛ أي: ومن يرشده إلى الصراط المستقيم ﴿فَمَا لَهُ﴾؛ أي: لذلك الهادي ﴿مِنْ مُضِلٍّ﴾ يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يخلّ بسلوكه طريق الهدى، إذ لا رادّ لفعله. ولا معارض لإرادته.
والمعنى: أي ومن يضلله الله لتدسيته نفسه، وحبّه للإثم والفسوق ومعصية الرسول.. فما له من هاد يهديه إلى الرشاد، ويخلّصه من الضلال ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ﴾؛ أي: ومن يوفّقه الله إلى أسباب السعادة بتزكية نفسه، وتحبيبها إلى صالح العمل.. فلا مضلّ له يصرفه عن مقصده، أو يصيبه بسوء يغيّر سلوكه، إذ لا معقّب لحكمه، ولا معارض لإرادته.
وفي "التأويلات النجمية": فيه إشارة إلى أن رؤية الخير والشر من غير الله تعالى ضلالة، والتخويف بمن دون الله غاية الجهالة.
(١) المراغي.
والاستفهام في قوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿بِعَزِيزٍ﴾؛ أي: بغالب منيع يعزّ من يعبده ﴿ذِي انْتِقَامٍ﴾ من أعدائه لأوليائه.. للتقرير (١)؛ لأن الاستفهام إذا دخل على النفي.. أفاد تحقيقًا وتقريرًا، كما مرّ.
والمعنى: أنَّ الله عزيز لا يغالب، ومنيع لا ينازع ولا يمانع، وذو انتقام وعقوبة ينتقم من عصاته بما يصبّه عليهم من عذابه، وما ينزله بهم من سوط عقابه، فهو الذي لا يضام من استند إلى جنابه، أو لجأ إلى بابه.
٣٨ - ثمّ أقام الدليل على غفلتهم وشديد جهلهم في عبادتهم للأصنام والأوثان، مع تفرّده تعالى بالخالقية لكل شيء، وعدم خلقها شيئًا، فقال: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ يا محمد؛ أي: وعزّتي وجلالي، لئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين الذين يخوّفونك بآلهتهم، فقلت لهم: ﴿مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: من اخترع هذين الجنسين المعبّر عنهما بالعالم.. ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ هؤلاء الكفرة في الجواب خلقهنّ ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ لوضوح الدليل على اختصاصه بالخالقية. و ﴿اللام﴾ الأولى: توطئة وتمهيد للقسم، والثانية تأكيد له، وهو سادّ مسدّ جوابين.
وفي هذا (٢) أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة، وجهالة عظيمة؛ لأنهم إذا علموا أنَّ الخالق لهم ولما يعبدون من دون الله هو الله سبحانه فكيف استَحْيَنَتْ عقولهم عبادة غير خالق الكل وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول، وكمال الإدراك، والفطنة التافة، ولكنهم لمَّا قلدوا أسلافهم، وأحسنوا الظن بهم.. هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى إنّ الإيمان الفطري مركوز في جبلة الإنسان من يوم الميثاق، إذ أشهدهم الله على أنفسهم، فقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ كما قال تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾. وقال - ﷺ -: "كل مولود يولد على الفطرة"، فلا يزال يوجد في الإنسان وإن كان كافرًا أثر ذلك الإقرار، ولكنّه غير نافع إلَّا مع الإيمان الكسبيّ بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاؤوا به. انتهى.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
15
ثمّ أمر الله سبحانه رسوله أن يبكّتهم ويوبِّخهم بعد هذا الاعتراف، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد تبكيتًا وتوبيخًا لهم: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني، جعل الرؤية وهو العلم الذي هو سبب الإخبار مجازًا عن الإخبار، ﴿مَا تَدْعُونَ﴾؛ أي: تعبدون، و ﴿مَا﴾: عبارة عن الآلهة، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه، ﴿إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ والضرّ: سوء الحال أيًّا كان، من مرض وضيق معيشة وشدّة وبلاء، و ﴿الهمزة﴾ في ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾: للاستفهام الإنكاريّ، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفكّرتم ما أقررتم فرأيتم... إلخ.
والظاهر (١): أن ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا لم يكن خالق سواه تعالى.. فأخبروني عن آلهتكم التي تعبدونها، أنَّه إن أرادني الله بضرّ.. هل من كاشفات ضُرّه، ﴿أَوْ﴾ أنه إن ﴿أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ﴾؛ أي: بنفع من صحةٍ أو غنًى أو غير ذلك من المنافع، ﴿هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾؛ أي: أخبروني عن آلهتكم هذه، هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر، أو منع ما أراده الله لي من الخير، وإذا لم تكن لها قدرة على شيء.. فلا ينبغي التعويل عليها، ولا الكدُّ في عبادتها، بل نعبد الإله القادر الذي تكون عبادته كافية في جلب السرّاء ودفع الضراء، والضرّ: سوء الحال أيًّا كان من مرضٍ وضيق معيشةٍ وشدةٍ؛ والكشف: الإظهار والإزالة ورفع شيء عما يواريه ويغطيه.
وحاصل المعنى (٢): أي إذا حققتم وأيقنتم أن خالق العالم العلويّ والسفلي هو الله تعالى.. فأخبروني أنّ آلهتكم إن أرادني الله بضرّ هل هنّ يكشفن عنّي ذلك الضرر والبلاء ويدفعنه عنّي؛ أي: لا تقدر على دفعه وإزالته، أو أرادني برحمة ونفعٍ من المنافع، هل من ممسكات رحمته فيمنعنها عنّي؟ أي: لا تقدر على إمساك تلك الرحمة ومنعها، وتعليق إرادة الضُّرِّ والرحمة بنفسه - ﷺ - للردّ في نحورهم، حيث كانوا خوّفوه مضرّة الأوثان، ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصح، وإنما قال: ﴿كَاشِفَاتُ﴾ و ﴿مُمْسِكَاتُ﴾ إبانةً لكمال ضعفها، وإشعارًا بأنوثتها، كما قال: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾ وهم كانوا يصفونها بالأُنوثة، مثل العزى
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
16
واللات ومناة، فكأنه قال: كيف أشركتم به تعالى هذه الأشياء الجماديّة البعيدة من الحياة والعلم والقدرة والقوّة والتمكّن من الخلق؟ هلّا استحييتم من ذلك؟ وجواب هذا الاستخبار محذوف، تقديره: فإنهم سيقولون لا تقدر على شيء من ذلك.
وقرأ الجمهور (١): ﴿كَاشِفَاتُ﴾ و ﴿مُمْسِكَاتُ﴾ على الإضافة، وقرأ شيبة والأعرج وعمرو بن عبيد وعيسى بخلاف عنه وأبو عمرو وأبو بكر: بتنوينهما، ونصب ما بعدهما، واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة أبي عمرو؛ لأنّ ﴿كَاشِفَاتُ﴾ اسم فاعل في معنى الاستقبال، وما كان كذلك فتنوينه أجود، وبها قرأ الحسن وعاصم.
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية.. سألهم النبيّ - ﷺ - فسكتوا، وقال غيره: قالوا لا تدفع شيئًا من قدر الله، ولكنها تشفع، فنزل قوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم ﴿حَسْبِيَ اللَّهُ﴾؛ أي: الله كافيّ في جميع أموري من جلب نفع أو دفع ضرّ، فلا أخاف شيئًا من أصنامكم التي تخوّفونني بها ﴿عَلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى لا على غيره أصلًا ﴿يَتَوَكَّلُ﴾ ويعتمد ﴿الْمُتَوَكِّلُونَ﴾؛ أي: المعتمدون لعلمهم بأنّ ما سواه تحت ملكوته تعالى، وفيه إشارة إلى أن من تحول عن الكافي إلى غير الكافي.. لم يتمّ أمره، فلا بدّ من التوكّل على رب العباد، والتسليم له والانقياد، وفي الحديث: "من أحبّ أن يكون أقوى الناس.. فليتوكّل على الله، ومن أحبت أن يكون أغنى الناس.. فليكن بما في يد الله عزّ وجلّ أوثق منه بما في يديه، ومن أحبّ أن يكون أكرم الناس.. فليتق الله عزّ وجلّ.
وفي الحديث الصحيح: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت.. فاسأل الله، وإذا استعنت.. فاستعن بالله، واعلم أنّ الناس لو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يكتبه الله عليك.. لم يضرُّوك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك.. لم ينفعوك، رفعت الأقلام، وجفّت الصحف، واعلم أنَّ في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأنَّ النصر مع الصبر، وأنَّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العسر يسرا".
(١) البحر المحيط.
17
ونحو الآية قول هود عليه السلام: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)﴾ حين قال له قومه: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾. فالعصمة من الله تعالى.
حكي: أن سفينة مولى رسول الله - ﷺ -، أخطأ الجيش بأرض الروم، وأسر، فانطلق هاربًا يلتمس الجيش، فإذا بأسدٍ فقال له: يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى رسول الله - ﷺ -، فكان مرادي كيت وكيت، فأقبل الأسد يتبصبص حتى قام إلى جنبه، فركب عليه، فكان كلما سمع صوتًا أهوى إليه فلم يزل كذلك حتى بلغ الجيش، ثم رجع الأسد.
وفيه إشارات:
منها: أن الحيوان المفترس لا يقدر على الإضرار إذا كان المرء في عصمة الله، فكيف الجماد؟
ومنها: أنَّ طاعة الله تعالى والتوكل عليه سبب النجاة من المهالك.
ومنها: أنَّ الاستشفاع برسول الله والتقرب إليه بالإيمان والتوحيد والعمل بسنّته، يهدي إلى سواء الصراط، كما هدى سفينة - رضي الله عنه -.
فعلى العاقل إخلاص التوحيد، والإعراض عما سواه تعالى، فإنّه تعالى كاف لعبده في كل حال من الأحوال، وفي كل أمر من الأمور.
٣٩ - ولمَّا أورد عليهم الحجة التي لا دافع لها.. أمر رسوله أن يقول لهم على وجه التهديد بقوله: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿يَا قَوْمِ﴾ ـي ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾؛ أي: على حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتم فيها، فإن (١) المكانة تستعار من العين للمعنى، كما استعير هنا، وحيث: للزمان مع كونهما للمكان. وقرأ أبو بكر: ﴿مكاناتكم﴾ بالجمع. ﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾ على مكانتي وحالتي التي أنا عليها، وتمكنت منها، ولا يزيد حالي إلا قوةً ونصرةً وحذف ذلك للعلم به مما قبله.
٤٠ - ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ﴾ بسوء أعماله، و ﴿مَنْ﴾ مفعول ﴿تَعْلَمُونَ﴾. ﴿عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ ويذلّه
(١) روح البيان.
ويهينه في الدنيا، فيظهر عند ذلك أنّه المبطل، وخصمه المحقّ. والمراد بهذا العذاب، عذاب الدنيا، وما حلّ بهم من القتل والأسر والقهر والذلّة وخزي أعدائه، دليل على غلبته، فقد نصره الله سبحانه، وعذَّب أعداءه، وأخزاهم يوم بدر.
ثم ذكر عذاب الآخرة فقال: ﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ﴾؛ أي: ينزل عليه من أفعاله من الحلول بمعنى النزول، ﴿عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾؛ أي: دائم إلى الأبد، لا يفارقه ولا ينقطع عنه، وهو عذاب النار.
يعني: أنتم الهالكون؛ بسبب كونكم على البطلان، ونحن الناجون؛ بسبب كوننا على الحق، فسوف ينكشف ربحنا وخسرانكم، وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم، وسوف يغالبكم الله، ولا جواب لكم، ويعذّبكم ولا شفيع لكم، ويدمّر عليكم ولا صريخ.
والمعنى (١): اعملوا على ما أنتم تعتقدون في أنفسكم من القوّة والشدّة واجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم، فإني عامل أيضًا في تقرير ديني، والسعي في نشره بين الناس، فسوف تعلمون أنّ العذاب والخزي في الدنيا يصيبني أو يصيبكم، فيظهر حينئذ أيُّنا المبطل، أنا أو أنتم، ويحل علي العذاب المقيم الدائم في الآخرة أو عليكم.
٤١ - ثمّ لمّا كان يعظم على رسول الله - ﷺ - إصرارهم على الكفر.. أخبره بأنه لم يكلّف إلَّا بالبيان، لا بأنه يهدي من ضلّ فقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾؛ أي؛ القرآن ﴿لِلنَّاسِ﴾؛ أي: لأجل نفعهم واهتدائهم به، فإنه مناط لمصالحهم في المعاش والمعاد، وفيه بيان ما كُلّفوا به، و ﴿بِالْحَقِّ﴾ إما حال من فاعل ﴿أَنْزَلْنَا﴾؛ أي: حال كوننا محقّين في إنزاله، أو من مفعوله؛ أي: حال كون ذلك الكتاب متلبسًا بالحق والصدق؛ أي: كل ما فيه حقٌّ وصواب لا ريب فيه، موجب للعمل به حتمًا. ﴿فَمَنِ اهْتَدَى﴾ بأن عمل بما فيه ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾؛ أي: إنما نفع به نفسه ﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾ بأن لم يعمل بما فيه ﴿فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ لما أن وبال ضلاله مقصور عليها ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾؛ أي: بمكلف بهدايتهم مخاطب، بل ليس عليك إلا البلاغ،
(١) المراغي.
وقد فعلت؛ أي: وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى، وما وظيفتك إلا البلاغ، وقد بلّغت أيّ بلاغ، وفي "فتح الرحمن" قوله: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ﴾ قاله هنا بحذف فإنما يهتدي المذكور في يونس والإسراء، اكتفاءً بما ذكره بقوله قبل: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾، انتهى.
وفي الآية (١): إشارة إلى أنّ القرآن مذكّر جوار الحق للناس الذين نسوا الله وجواره، فمن تذكّر بتذكيره، واتَّعظ بوعظه، واهتدى بهدايته.. كانت فوائد الهداية راجعةً إلى نفسه، بأن تنوّرت بنور الهداية، فانمحى عنها آثار ظلمات صفاتها الحيوانيّة السبعية الشيطانية الموجبة لدخول النار. ﴿وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ فإنه يوكله إلى نفسه وطبيعته، فتغلب عليه الصفات الذميمة، فيكون حطب النار. ﴿وَمَا أَنْتَ﴾ يا محمد عليهم بوكيل تحفظهم من النار، إذا كان في استعدادهم الوقوع فيها.
وحاصل معنى الآية (٢): إنّا أنزلنا إليك يا محمد القرآن بالحقّ؛ لتبلّغه للإنس والجنّ مبشّرًا برحمة الله، ومنذرًا بعقابه، وفيه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم، والهادي لهم إلى الصراط المستقيم. ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ﴾؛ أي: فمن عمل بما فيه واتّبعه.. فإنما بغى الخير لنفسه، إذ أكسبها رضا خالقها، وفاز بالجنة ونجا من النار. ﴿وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾؛ أي: ومن حاد عن البيان الذي بيناه لك، فضل عن المحجة.. فإنما يجور على نفسه، وإليها يسوق العطب والهلاك؛ لأنّه يكسبها سخط الله، وأليم عقابه في دركات الجحيم. ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)﴾ ﴿وَمَا أَنْتَ﴾ أيّها الرسول ﴿عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾؛ أي: برقيب على من أرسلت عليهم ترقب أعمالهم، وتحفظ عليهم أفعالهم، إنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب، ونحو الآية قوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ وقوله: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)﴾.
وهذه الآيات منسوخة بآية السيف (٣)، فقد أمر الله رسوله - ﷺ - بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويعملوا بأحكام الإِسلام.
٤٢ - ثمّ ذكر سبحانه وتعالى نوعًا من أنواع قدرته البالغة، وصنعته العجيبة، فقال:
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
20
﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ﴾؛ أي (١): يقبض الأرواح الإنسانية عن الأبدان، بأن يقطع تعلّقها عنها، وتصرُّفها فيها ظاهرًا وباطنًا، وذلك عند الموت، فيزول الحسّ والحركة عن الأبدان، وتبقى كالخشب اليابس، ويذهب العقل والإيمان والمعرفة مع الأرواح؛ أي: يقبض الأنفس التي بها الحياة، والأنفس التي بها الإدراك جميعًا.
﴿حِينَ مَوْتِهَا﴾؛ أي: حين موت أبدانها وأجسادها، فالكلام على حذف مضاف، كما في "الوسيط". والموت: زوال القوّة الحسّاسة. كما أنّ الحياة وجود هذه القوة، ومنه سمِّي الحيوان حيوانًا، ومبدأ هذه القوّة هو الروح الحيواني، الذي محلّه الدماغ، كما أنّ محلّ الروح الإنساني القلب الصنوبري، ولا يلزم من ذلك تحيزه فيه، وإن كانت الأرواح البشرية متحيزة عند أهل السنة، ثمّ إنّ الإنسان ما دام حيًّا فهو إنسان بالحقيقة، فإذا مات.. فهو إنسان بالمجاز؛ لأنَّ إنسانيته في الحقيقة إنما كانت بتعلُّق الروح الإنسانيّ وقد فأرقه. ﴿و﴾ يتوفى الأنفس ﴿الَّتِي لَمْ تَمُتْ﴾؛ أي: ويقبض الأرواح المدركة التي لم تمت أجسادها. ﴿فِي مَنَامِهَا﴾؛ أي: حين نومها، بأن يقطع تعلُّقها عن الأبدان، وتصرّفها فيها ظاهرًا وباطنًا، فالنائم يتنفّس ويتحرّك ببقاء الروح الحيوانيّ، ولا يعقل ولا يميّز بزوال الروح الإنساني. وقوله: ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾ راجع إلى قوله: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾؛ أي: فيمسك الله الأنفس التي قضى وحكم عليها موت أجسادها عنده، ولا يردُّها إلى أجسادها، وذلك الإمساك إنما هو في عالم البرزخ، التي تكون الأرواح فيه بعد المفارقة من النشأة الدنيوية، وهو غير البرزخ بين الأرواح المجرّدة والأجسام التي قبل النشأة الدنيويّة، ويسمّى عالم المثال؛ أي: يمسك أنفس الإماتة عنده، ولا يردها إلى البدن، وأسند القبض إليه تعالى؛ لأنّه الآمر للملائكة القابضين، وفي "زهرة الرياض" التوفي من الله تعالى: الأمر بخروج الروح من البدن، ولو اجتمعت الملائكة.. لم يقدروا على إخراجها، فالله يأمرها بالخروج، كما أمرها بالدخول، ومن الملائكة المعالجة.
وقوله: ﴿وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى...﴾ إلخ، راجع إلى قوله: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا
(١) روح البيان.
21
مَنَامِهَا}؛ أي: ويرسل أنفس الإدراك، وهي النائمة إلى أبدانها عند اليقظة، والنّزول من عالم المثال المقيّد، ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: إلى وقت معلوم، وهو الوقت المضروب لموتها، وهو غاية لجنس الإرسال؛ أي: لا لشخصه، حتى يرد لزوم أن لا يقع نوم بعد اليقظة الأولى، فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الإدراك، وخلق الغفلة، والآفة في محل الإدراك، وتوفيها في حالة النوم بخلق الموت، وإزالة الحس بالكلية، فيمسك التي قضى عليها الموت، بأن لا يخلق فيها الإدراك، ويرسل الأخرى بأن يعيد إليها الإحساس، اهـ "جمل".
وقرأ الجمهور: ﴿قَضَى عَلَيْهَا﴾ مبنيًّا للفاعل، ﴿الْمَوْتَ﴾ نصبًا، وقرأ ابن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى وحمزة والكسائي: مبنيًّا للمفعول، ﴿الْمَوْتَ﴾ رفعًا.
وعبارة النسفي هنا: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ وتوفّيها: إماتتها. ، وهو: أن يسلب ما هي به حيّة حسّاسة درّاكة. ﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾؛ أي: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها؛ أي: يتوفّاها حين تنام تشبيهًا للنائمين بالموتى، حيث لا يميِّزون ولا يتصرفون، كما أنّ الموتى كذلك، ومنه قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ ﴿فَيُمْسِكُ﴾ الأنفس ﴿الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾ الحقيقيّ؛ أي: لا يردُّها في وقتها حيّةً. ﴿وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى﴾ النائمة ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: إلى وقت ضربه لموتها، وقيل: ﴿يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ﴾؛ أي: يستوفيها ويقبضها، وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وهي أنفس التمييز.
قالوا: فالتي تتوفّى في المنام، هي نفس التمييز لا نفس الحياة، إذْ لو زالت.. زال معها النفَس، بفتح الفاء، والنائم يتنفس، ولكل إنسان نفسان، إحداهما: نفس الحياة، وهي التي تفارقه عند الموت، والأخرى: نفس التمييز، وهي التي تفارقه إذا نام، اهـ.
وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف.
وعبارة المراغي: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾؛ أي (١): الله هو الذي
(١) المراغي.
22
يقبض الأنفس حين انقضاء آجالها بالموت، ويقطع تعلّقها بالأجساد تعلق المتصرّف فيه، ﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾؛ أي: ويتوفى الأنفس التي لم يحضر أجلها، فيقبضها من التصرّف في الأجساد مع بقاء الأرواح متصلة بها. ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾ فلا يردّها إلى الأجساد، ﴿وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: ويرسل النائمة إلى الأجساد حين اليقظة إلى أجل مسمى، وهو وقت الموت.
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "إنّ في ابن آدم نفسًا وروحًا، بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي هي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها النفَس - بفتح الفاء والتحرُّك - فيتوفيان عند الموت، وتتوفى النفس وحدها حين النوم.
وأخرج أحمد والبخاريّ وأبو داود وابن أبي شيبة عن أبي قتادة: أنّ النبي - ﷺ - قال لهم ليلة الوادي: "إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء، وردّها عليكم حين شاء".
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور من توفي الأنفس مائتة ونائمة، وإمساكها وإرسالها إلى أجل مسمّى. ﴿لَآيَاتٍ﴾ عجيبة، دالّة على كمال قدرته تعالى، وحكمته وشمول رحمته ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في كيفية تعلق الأرواح بالأبدان، وتوفيها (١) عنها تارةً بالكلية، كما عند الموت وإمساكها باقية بعد الموت لا تفنى بفناء الأبدان، وأخرى عن ظواهرها فقط، كما عند النوم، وإرسالها حينًا بعد حين إلى انقضاء آجالها، وانقطاع أنفاسها؛ أي: لآيات عظيمة دالة على قدرته لقوم يُجيلون فيه أفكارهم فيعتبرون.
٤٣ - ثمّ أنكر سبحانه على المشركين اتخاذ الأصنام شفعاء، فقال: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا﴾ فـ ﴿أَمِ﴾ منقطعة تقدر ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: أبل اتخذ هؤلاء المشركون من أهل مكة ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: من دون إذنه تعالى ﴿شُفَعَاءَ﴾ تشفع لهم عنده تعالى في جلب منفعة أو دفع مضرّة، هي الأصنام، جمع شفيع، وهو من يطلب الخير من الغير للغير.
(١) روح البيان.
واجمال المعنى: أنّه لا ينبغي لهم ذلك إذ لا يخطر على بال عاقل فائدة لهذا، ومن ثم أمر رسوله - ﷺ - أن يتهكم بهم، ويحمقهم على ما يفعلون، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم أيها الرسول ﴿أَ﴾ تتخّذونهم شفعاء كما تزعمون، ﴿وَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ﴾ لكم ﴿شَيْئًا﴾ من حوائجكم ﴿وَلَا يَعْقِلُونَ﴾ أنكم تعبدونهم، فـ ﴿الهمزة﴾ (١): لإنكار الواقع واستقباحه. والتوبيخ عليه، دالة على محذوف كما قدّرنا، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أيشفعون ولو كانوا إلخ، وجواب ﴿لَوْ﴾: محذوف، تقديره: تتخذونهم؛ أي: وإن كانوا بهذه المنزلة تتخذونهم شفعاء.
ومعنى (٢) ﴿لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا﴾: أنهم غير مالكين لشيء من الأشياء، وتدخل الشفاعة في ذلك دخولًا أوليًا، ولا يعقلون شيئًا من الأشياء؛ لأنها جمادات لا عقل لها، وجمعهم بالواو والنون جمع العقلاء؛ لاعتقاد الكفار فيهم أنهم يعقلون.
والمعنى: قل لهم يا محمد: أفتتخذون الأصنام شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئًا ولا يعقلونه، فضلًا عن أن يملكوا الشفاعة عند الله سبحانه، ويعقلوا أنكم تعبدونهم.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن اتخاذ الأشياء للعبادة أو للشفاعة بالهوى والطبع، لا بأمر الله تعالى ووفق الشرع يكون ضلالةً على ضلالة، وأن المقبول من العبادة والشفاعة ما يكون بأمر الله ومتابعة نبيّه - ﷺ - على وفق الشرع.
٤٤ - ثم أمر سبحانه رسوله أن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد، بعد تبكيتهم وتجهيلهم بما ذكر تحقيقًا للحق؛ ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه، لا لغيره ﴿الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ نصب على الحال من الشفاعة، فليس لأحد منها شيء إلا أن يكون بإذنه لمن ارتضى، كما في قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه﴾ وقوله: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ وأكد الشفاعة بما يؤكد به الاثنان فصاعدًا؛ لأنها مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة.
والخلاصة (٣): أنه تعالى مالك الشفاعة كلها، لا يستطيع أحد أن يشفع لديه
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
24
إلا أن يكون المشفوع له مرتضى، والشفيع مأذونًا له، وكلاهما مفقود هاهنا. قال البقلي: بين أنه تعالى، مرجع الكل: الشافع والمشفوع فيه، حتى يرجع العبد العارف إليه بالكلّية، ولا يلتفت إلى أحد سواه، فلا يصل إليه أحد إلا به تعالى.
ونِعْمَ ما قالت رابعة العدوية - رحمها الله تعالى -: محبّة الله تعالى ما أبقت محبة غيره، ومحبّة الرسول - ﷺ - مندرجة في محبة الله تعالى.
وفي "فتح الرحمن": إن قلت: كيف قال ذلك مع أن للأنبياء والعلماء والشهداء والأطفال شفاعة؟
قلت: معناه: أن أحدًا لا يملكها إلا بتحليلها من الله تعالى، كما قال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾.
ثمّ بين العلة في أن الشفاعة جميعًا له تعالى، فقال: ﴿لَهُ﴾ تعالى، وحده ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: له السلطان في السموات والأرض، وكل من فيهما ملك له، ومنه ما تعبدون من دونه، فاعبدوا مالك الملك كله، الذي لا يتصرّف أحد في شيء منه إلَّا بإذنه ورضاه، وفيه إشارة (١) إلى أن الله تعالى هو المالك حقيقةً، فإن ما سواه عبد ولا ملك للعبد، ولو ملّكه مولاه، وإنما هو عارية عنده، والعارية مردودة إلى مالكها. ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ﴾ تعالى لا إلى غيره ﴿تُرْجَعُونَ﴾ يوم القيامة؛ أي: إليه مصيركم بعد البعث لا إلى أحد سواه، لا استقلالًا ولا اشتراكًا، فيفعل يومئذ ما يريد، وهو معاقبكم على إشراككم به سواه، إن أنتم متم على هذه الحال.
وفي "الكواشي": يحيى أعمالكم، ثم إلى حسابه ترجعون؛ أي: تردّون فيجازيكم، فاحذروا سخطه، واتّقوا عذابه، فيا ربح الموحّدين يومئذ، ويا خسارة المشركين.
وخلاصة ذلك: اعبدوا من يقدر على نفعكم في الدنيا، وعلى ضرّكم فيها، وفي الآخرة بعد مماتكم يجازيكم بما قدّمتم من عمل خيرًا كان أو شرًّا، ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد، الذي تقشعر منه الجلود خشيةً.
واعلم: أن افتخار الخلق في الدنيا بعشرة، ولا ينفع ذلك يوم القيامة:
(١) روح البيان.
25
الأول: المال، فلو نفع المال لأحدٍ.. لنفع قارون، قال الله تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾.
والثاني: الولد، فلو نفع الولد لأحد.. لنفع إبراهيم عليه السلام أباه آزر، قال تعالى: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾.
والثالث: الجمال، فلو نفع الجمال.. لنفع أهل الروم؛ لأنّ لهم تسعة أعشار الجمال، قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾.
والرابع: الشفاعة، فلو نفعت الشفاعة.. لنفع الرسول - ﷺ - من أحبّ إيمانه، قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ كأنه قال: أنت شفيعي في الجنايات، لا شريكي في الهدايات.
والخامس: الحيلة، فلو نفعت الحيلة.. لنفع الكفار مكرهم، قال تعالى: ﴿وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾.
والسادس: الفصاحة، فلو نفعت الفصاحة.. لنفعت العرب، قال تعالى: ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾.
والسابع: العزّ، فلو نفع العزّ.. لنفع أبا جهل، قال تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)﴾.
والثامن: الأصدقاء، فلو نفع الأصدقاء.. لنفعوا الفسّاق، قال تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِين (٦٧)﴾.
والتاسع: الأتباع، فلو نفع التبع.. لنفع الرؤساء، قال تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾.
والعاشر: الحسب، فلو نفع الحسب.. لنفع يعقوب اليهود؛ لأنهم أولاد يعقوب، قال تعالى: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
فإذا عرفت هذه الأمور المذكورة.. فارجع يا أخي إلى الله تعالى من الأسباب الغير النافعة، وذلك بكمال الإيمان والتقوى.
٤٥ - ثم ذكر سبحانه هفوة من هفواتهم التي تصدر منهم، وتدل على غفلة عظيمة، وتناقض بين الاعتراف بالألوهية، والإنكار لها، فقال: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ﴾ سبحانه
26
حال كونه ﴿وَحْدَهُ﴾؛ أي: منفردًا، دون آلهة المشركين، وانتصاب ﴿وَحْدَهُ﴾ على الحال عند يونس، وعلى المصدر عند الخليل وسيبويه، والعامل في ﴿إِذَا﴾: جوابها، وهو قوله: ﴿اشْمَأَزَّتْ﴾؛ أي: انقبضت ونفرت وذعرت وأنكرت ﴿قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾؛ أي: قلوب الذين لا يصدّقون بيوم القيامة. ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾؛ أي: من الله تعالى؛ يعني الأوثان فرادى، أو مع ذكر الله. ﴿إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾؛ أي: يفرحون ويظهر في وجوههم البشر، وهو أثر السرور لفرط افتتانهم بها ونسيانهم الحق، والاشمئزاز (١): أن يمتلىء القلب غيظًا وغمًا، ينقبض عنهما أديم الوجه، كما يرى في وجه العابس المحزون، وهو غاية ما يمكن من الانقباض، ففيه مبالغة في بيان حالهم القبيحة، والاستبشار: أن يمتلىء القلب سرورًا، فتنبسط له بشرة الوجه، وهو غاية ما يمكن من الانبساط، ففيه مبالغة أيضًا في بيان حالهم القبيحة، والعامل في ﴿إِذَا﴾ الشرطية: هو العامل في ﴿إِذَا﴾ المفاجأة على القول بأنها ظرف، تقديره: وقت ذكر الذين من دونه، فاجَؤُوا وقت الاستبشار.
والمعنى (٢): أي إنه إذا قيل: لا إله في الكون إلا الله وحده.. نفرت قلوب أولئك المشركين، الذين لا يؤمنون بالبعث والمعاد بعد الموت، وإذا ذكرت الآلهة التي يدعونها من دون الله تعالى، فقيل: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى.. استبشروا وفرحوا لفرط افتتانهم بهنّ، ونسيانهم حق الله تعالى.
قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في الآية: ﴿اشْمَأَزَّتْ﴾: قست ونفرت قلوب هؤلاء الأربعة الذين لا يؤمنون بالآخرة، أبو جهل بن هشام والوليد بن عتبة وصفوان وأبي بن خلف، ونحو الآية قوله تعالى حكايةً عنهم: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾.
واعلم (٣): أن هؤلاء المشركين كأمثال الصبيان، فكما أنهم يفرحون بالأفراس الطينية، والأسود الخشبية، وبمذاكرة ما هو لهو ولعب، فكذا أهل الأوثان، لكون نظرهم مقصورًا على الصور والأشباح، فكل قلب لا يعرف الله، فإنه لا يأنس بذكر الله، ولا يسكن إليه، ولا يفرح به، فلا يكون مسكن الحق.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
27
قال السيد الألوسي في "تفسيره" ناعيًا حال المسلمين اليوم: وقد رأينا (١) كثيرًا من الناس على نحو هذه الصفة، التي وصف الله تعالى بها المشركين، يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم، ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم، توافق أهواءهم ومعتقداتم فيهم، ويعظمون من يحكم لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده، ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة، وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يومًا لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات، وينادي: يا فلان أغثني، فقلت له: قل يا الله، فقد قال سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ فغضب وبلغني أنّه قال: فلان منكر على الأولياء، وسمعت من بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل، وهذا من الكفر بمكان، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان. انتهى.
٤٦ - فعلى العاقل أن لا ينقطع عن الذكر، ويستبشر به، فالله تعالى معه معينه، ولما لم يقبل المتمردون من الكفار ما جاءهم به النبي - ﷺ - من الدعاء إلى الخير، وصمموا على كفرهم.. أمره الله سبحانه أن يرد الأمر إليه، فقال: ﴿قُلِ﴾ محمد: ﴿اللَّهُمَّ﴾ والميم فيه عوض عن حرف النداء، والمعنى: قل يا محمد: يا الله يا ﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ نصب بالنداء؛ أي: يا خالق السموات والأرض على أسلوب بديع ﴿عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾؛ أي: يا عالم كل ما غاب عن العباد وكل ما شهدوه؛ أي: التجىء يا محمد إليه تعالى بالدعاء حين تحيّرت في أمر الدعوة، وضجرت من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد، فإنه القادر على الأشياء بجملتها، والعالم بأحوالها برمتها. ﴿أَنْتَ﴾ وحدك ﴿تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ﴾؛ أي: بيني وبين قومي، وكذا بين سائر العباد ﴿فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾؛ أي: فيما يختلفون فيه من أمر الدين؛ أي: تحكم حكمًا يسلمه كل مكابر، ويخضع له كل معاند، وهو العذاب الدنيوي أو الأخروي، والثاني أنسب بما بعد الآية.
والمعنى: أي قل يا محمد: يا الله، يا مبدع السموات والأرض، ويا عالم ما غاب عنّا، وما تشهده العيون والأبصار، أنت تحكم بين عبادك، فتفصل بينهم
(١) الألوسي.
بالحق يوم تجمعهم لفصل القضاء فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا، من القول فيك، وفي عظمتك وسلطانك، فتقضي بيننا وبين المشركين الذين إذا ذكر الله وحده.. اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر من دونه.. استبشروا وفرحوا، فتجازي المحسن بإحسانه، وتعاقب المسيء بإساءَتِهِ، فإنه بذلك يظهر من هو المحق ومن هو المبطل، ويرتفع عنده خلاف المختلفين، وتخاصم المتخاصمين.
أخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن عائشة - رضي الله تعالى عنهما - قالت: كان رسول الله - ﷺ - إذا قام من الليل.. افتتح صلاته: "اللهم ربّ جبريل وميكائيل واسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
٤٧ - ثمّ لما حكى الله سبحانه عن الكفار ما حكاه من الاشمئزاز عند ذكر الله، والاستبشار عند ذكر الأصنام.. ذكر ما يدل على شدة عذابهم، وعظيم عقوبتهم، فقال: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالشرك والمعاصي ﴿مَا فِي الْأَرْضِ﴾ من الأموال والذخائر حال كونه ﴿جَمِيعًا﴾ حال من ﴿مَا﴾ الموصولة؛ أي (١): لو أن لهم جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر. ﴿و﴾ ملكوا ﴿مِثْلَهُ﴾؛ أي: مثل ما في الأرض، ﴿مَعَهُ﴾؛ أي: مع ما في الأرض ﴿لَافْتَدَوْا بِهِ﴾؛ أي: لجعلوا كل ذلك فداءً لأنفسهم. ﴿مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ﴾؛ أي: من العذاب الشديد المعد لهم، ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لكن لا مال يوم القيامة، ولو كان لم يقبل الافتداء به، وهذا وعيد شديد، وإقناط لهم من الخلاص، والظرف متعلق بـ ﴿افْتَدَوْا﴾، كما في "الجمل".
وفي "التأويلات النجمية": يشير سبحانه إلى أن هذه الجملة لا تقبل يوم القيامة لدفع العذاب، واليوم هاهنا تقبل ذرّة من الخير، ولقمة من الصدقة، وكلمة من التوبة والاستغفار، كما أنهم لو تابوا وبكوا في الآخرة بالدماء.. لا يرحم بكاؤهم، وبدمعة واحدة اليوم يمحى كثيرٌ من ذنوبهم.
والمعنى (٢): أي ولو أن هؤلاء المشركين ملكوا كل ما في الأرض من
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
الأموال، وملكوا مثله معه، وقبل ذلك منهم يوم القيامة.. لافتدوا به أنفسهم من أهوال ذلك العذاب الشديد، الذي سيعذبون به، وقد تقدم إيضاح هذا في سورة آل عمران.
٤٨ - ﴿وَبَدَا لَهُمْ﴾؛ أي: وظهر لهم في ذلك اليوم الرهيب ﴿مِنَ﴾ عذاب ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه وفنون العقوبات. ﴿مَا لَمْ يَكُونُوا﴾ في الدنيا. ﴿يَحْتَسِبُونَ﴾ به ويظنونه؛ أي: بدا لهم يوم القيامة من فنون العذاب، ما لم يكن في حسابهم وظنهم في الدنيا أنه نازل بهم يومئذ؛ أي: وظهر لهم من عذاب الله، الذي أعدّه لهم ما لم يكن في حسبانهم، ولم يحدّثوا به أنفسهم، وفي هذا وعيد عظيم لهم، وتهديد بالغ غايةً لا غاية وراءها، قال مجاهد: عملوا أعمالًا توهموا أنها حسنات، فإذا هي سيئات، وعن سفيان الثوري: أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء من هذه الآية. ﴿وَبَدَا لَهُمْ﴾؛ أي: ظهر لهم في ذلك اليوم حين تعرض عليهم صحائف أعمالهم. ﴿سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ في الدنيا؛ أي: ظهر لهم جميع ما اجترحوه من السيئات، وارتكبوه من الآثام، وعلموا أنهم مجازون على النقير والقطمير ﴿وَحَاقَ بِهِمْ﴾؛ أي: نزل وأصاب وأحاط بهم ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾؛ أي: وبال استهزائهم، وجزاء مكرهم، وكانوا يستهزئون بالكتاب، ويسخرون من المسلمين، ويهزؤون بالبعث والعذاب، ونحو ذلك؛ أي: أحاط بهم العذاب من كل الجوانب، وأيقنوا أنهم مواقعوه لا محالة؛ لاستهزائهم بما كانوا ينذرهم به الرسول - ﷺ -.
٤٩ - قوله: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ﴾ المراد بالإنسان هنا (١): الجنس، باعتبار بعض أفراده أو غالبها، وقيل: المراد به: الكفار فقط، والأول أولى، ولا يمنع حمله على الجنس خصوص سبَبِه؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ وفاءً بحق النظم القرآني، ووفاءً بمدلوله، و ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنّ المشركين ليشمئزّون عن ذكر الله وحده، ويستبشرون بذكر الآلهة، وأردت بيان حالهم فيما إذا أصابهم الضر.. فأقول لك. إن شأن غالب نوع الإنسان أنه إذا مسه ﴿ضُرٌّ﴾ من مرض أو فقر أو غيرهما، ﴿دَعَانَا﴾ وتضرع إلينا في رفعه ودفعه؛ أي: دعوا لدفعه من اشمأزوا عن ذكره، وهو الله سبحانه وتعالى، فيا
(١) الشوكاني.
30
عجبًا لحالهم مع الله سبحانه لمناقضتهم وتعكيسهم في التسبب، حيث جعلوا الكفر سببًا في الالتجاء إلى الله، بأن أقاموه مقام الإيمان مع أن الواجب أن يجعل الإيمان سببًا فيه، وإنما أتى هنا بـ ﴿الفاء﴾ في قوله: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ﴾، وعطف بـ ﴿الواو﴾ في أول السورة في قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ﴾؛ لأن ما هنا كلام مرتب على ما قبله؛ لأنه ترتب على قوله: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ﴾ إلخ، وأما ما في أول السورة فلم يترتب على ما قبله، وإنما هو ذكر كلامٍ اقتضى عطفه على ما قبله بالواو لمناسبة ما قبله.
﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ﴾؛ أي: أعطيناه ﴿نِعْمَةً﴾ صادرة ﴿مِنَّا﴾ تفضلًا وإحسانًا، فإن التخويل مختص بما كان بطريق التفضل، لا يطلق على ما أعطي بطريق الجزاء، أي: إذا أعطيناه مالًا أو عافيةً في البدن تفضلًا منا ﴿قَالَ﴾ ذلك الإنسان ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ﴾؛ أي: إنما أوتيت هذه النعمة والضمير للنعمة، إن قلنا ﴿ما﴾ كافة في ﴿إِنَّمَا﴾ وتذكير (١) الضمير: نظرًا لكونها بمعنى الفضل أو الإنعام أو الشيء، أو لـ ﴿ما﴾ إن قلنا إنها موصولة، والأول أولى. ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾؛ أي: بسبب علم منى بوجوه المكاسب، أو على علم منى بأني ساعطاه، لما لي من الفضل والاستحقاق، أو على علم من الله سبحانه باستحقاقي وبفضلي، أو ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾؛ أي: على خير علمه الله منى، فإن كانت النعمة سعةً في المال.. قال: إنما حصل هذا بكسبي واجتهادي، وإن كات صحةً.. قال: إنما حصلت هذه الصحة بسبب العلاج الفلاني، وقوله: ﴿بَلْ هِيَ﴾؛ أي: تلك النعمة ﴿فِتْنَةٌ﴾ ومحنة وابتلاء لذلك الإنسان، أيشكر أم يكفر، رد لما قاله ذلك الإنسان، أي: ليس ذلك الذي أعطيناك لما ذكرت، بل هو محنة لك، واختبار لحالك أتشكر أم تكفر، قال الفراء: أنث الضمير في قوله: ﴿هِيَ﴾؛ لتأنيث الفتنة، ولو قال: بل هو فتنة.. لجاز، وقال النحاس: بل عطيته فتنة، وقيل: تأنيث الضمير: باعتبار لفظ الفتنة، وتذكير الأوّل في قوله: ﴿أُوتِيتُهُ﴾ باعتبار معناها ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾؛ أي: أكثر الناس وهم الكفار ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ أنّ التخويل والإعطاء والبسط استدراج وامتحان.
والمعنى (٢): أي إن أمر المشرك عجيب، يدعو إلى الدهشة والحيرة، فإذا هو
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
31
أصيب بضر من فقر أو مرض.. جأر إلى الله، واستعان به لكشف ذلك الضرّ عنه، وإذا تغيرت الحال، ونال شيئًا من الرخاء، أو زال عنه ما به من العلة.. قال: إنما أوتيت هذا لعلمي بوجوه المكاسب، وجدّي واجتهادي، أو لذهابي إلى الأطباء واهتمامي بالعلاج، فلم أدخر دواء نافعًا إلا بذلت نفيس المال للحصول عليه.
وهذا منه تناقض عجيب، ففي الحال الأولى يستغيث بربه، وفي الحال الثانية ينسب السلامة إلى نفسه، ويقطع صلتها عن المنعم بها، الذي أوجدها وأرادها، وفي الحق أن ما أعطيه من النعم، إنما هو فتنة واختبار لحاله، أيشكر أم يكفر، أيطيع أم يعصي، ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك استدراج من الله، وامتحان لم، ومن ثم يقولون ما يقولون، ويدعون من الدعاء ما لا يفقهون.
٥٠ - ثم بين أن هذه مقالة ليست وليدة أفكارهم، بل سبقهم بها كثير ممن قبلهم، فقال: ﴿قَدْ قَالَهَا﴾؛ أي: قد قال (١): تلك الكلمة أو الجملة، وهي قوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: قد قال الذين من قبل قومك يا محمد مثل هذه المقالة، وهم قارون وقومه، حيث قال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ وهم راضون به؛ يعني لما رضي قوم قارون بمقالته.. جمعوا معه، وقال بعضهم: يجوز أن يكون المراد بالذين من قبلهم: جميع من تقدمنا من الخيار والشرار، فيجوز أن يوجد في الأمم المتقدمة من يقول تلك الكلمة غير قارون أيضًا، ممن أبطرته النعمة، واغترّ بظاهرها. ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ﴾؛ أي: فما دفع عن أولئك القائلين من الأمم المتقدمة ﴿مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ من متاع الدنيا، ويجمعون منه شيئًا من عذاب الله تعالى؛ يعني أن النعمة لم تدفع عنهم النقمة والعذاب ولم ينفعهم ذلك، ويجوز أن تكون ﴿ما﴾ في قوله: ﴿فَمَا أَغْنَى﴾: نافية، كما فسرناها، وأن تكون استفهامية؛ أي: أيّ شيء أغنى عنهم ذلك.
٥١ - ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾؛ أي: جزاء سيئات كسبهم، أو أصابهم سيئات هي جزاء كسبهم، وسمّي الجزاء سيئات؛ لوقوعه في مقابلة سيئاتهم، فهو من باب المشاكلة، كقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، ففيه رمز إلى أن جميع أعمالهم من قبيل السيئات.
(١) روح البيان.
والمعنى: أنهم ظنوا أن ما آتيناهم لكرامتهم علينا، ولم يكن كذلك؛ لأنهم وقعوا في العذاب ولم تنفعهم أموالهم، وهذا كما قال اليهود: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾.
والمعنى (١): أي قد زعم مثل هذا الزعم، وادعى مثل هذه الدعوى كثير ممن سبقهم من الأمم، فلم يغن عنهم شيئًا ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا، ويجمعون من حطامها، حين جاءهم أمر ربهم على تكذيبهم رسله، واستهزائهم بهم.
ثم بين ما سلف بقوله: ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾؛ أي: فحل بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال، فعوجلوا بالخزي في الدنيا، كالخسف الذي لحق قارون، والصاعقة التي نزلت بقوم لوط، وسيصيبهم النكال الدائم في الآخرة، ثم أوعد سبحانه مشركي قومه - ﷺ - على ما سينالهم في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿وَالَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالشرك ﴿مِنْ هَؤُلَاءِ﴾ المشركين المعاصرين لك يا محمد؛ أي: أفوطوا في الظلم والعتو، و ﴿مِنْ﴾ للبيان، أو للتبعيض. ﴿سَيُصِيبُهُمْ﴾؛ أي: سيحل بهم، ﴿سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ من الكفر والمعاصي، كما أصاب أولئك، و ﴿السين﴾: للتأكيد، وقد أصابهم في الدنيا ما أصابهم من القحط والقتل والأسر والقهر؛ أي: والذين كفروا بالله من قومك، وظلموا أنفسهم سيصيبهم أيضًا وبال السيئات التي اكتسبوها، كما أصاب الذين من قبلهم، فأصابهم القحط سبع سنين متوالية، وقتل صناديدهم يوم بدر، وأسر منهم العدد الكثير. ﴿وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ الله تعالى؛ أي: وما هم بفائتين الله هربًا يوم القيامة، بل مرجعهم إليه، ويصنع بهم ما شاء من العقوبة؛ يعني يدركهم العذاب، ولا ينجون منه بالهرب.
٥٢ - ثم أقام سبحانه الدليل على عظيم قدرته، وبديع حكمته، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُوا﴾ و ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف معلوم من السياف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير (٢): أقالوا تلك الكلمة؛ يعني قوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾؛ أي: أقالوا ذلك ولم يعلموا، أو أغفلوا عن فضل الله ولم يعلموا ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ ويوسّعه ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أن يوسّع عليه، ليختبره أيشكر أم يكفر. ﴿وَيَقْدِرُ﴾ الرزق ويقبضه عمن يشاء القبض
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
33
عنه، ويضيّقه عليه، ليمتحنه أيصبر أم يقنط؛ أي: يبسط ويقبض من غير أن يكون لأحد مدخل ما في ذلك، حيث حبس عنهم الرزق سبع سنين، ثم بسط لهم سبعًا، روي: أنهم أكلوا في سنين القحط الجيف والجلود والعظام والعلهز، وهو: الوبر: بأن يخلط الدم بأوبار الإبل، ويشوى على النار، وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان من الجوع، فلم ينفعهم ذلك، حيث أصرّوا على الكفر والعناد.
والمعنى (١): أي أو لم ير هؤلاء المشركون أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارةً، ويضيق على من يريد أخرى، كما يشاهد من اختلاف الناس في سعة الرزق وضيقه، وليس ذلك لجهل في الكاسب أو علم لديه، فربما كان العاقل القادر ضيق الرزق، والجاهل أو المريض ذا سعةٍ وبسطةٍ في المال.
فائدة: ويرد بهذه الآية على من يرى الغنى من الكيس، والفقر من العجز، أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: "أتدري لم رزقت الأحمق" قال: يا رب لا، قال: "ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال، فالكل بيد الله تعالى" ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُور﴾ وبه ظهر فساد قول ابن الراوندي:
السِّبَاقَ السِّبَاقَ قَوْلًا وَفِعْلًا حَذِّرِ النَّفْسَ حَسْرَةَ الْمَسْبُوقِ
كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوْقَا
هَذَا الَّذِيْ تَرَكَ الأَوْهَامَ حَائِرَةً وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيْرَ زِنْدِيْقَا
أي: كافرًا نافيًا للصانع العدل الحكيم، قائلًا: لو كان له الوجود.. لما كان الأمر كذلك، ولقد أحسن من قال:
كَمْ مِنْ أَدِيْبٍ فَهِمٍ عَقْلُهُ مُسْتَكْمِلِ الْعَقْلِ مُقِلٍّ عَدِيْمِ
وَمِنْ جَهُوْلٍ مُكْثِرٍ مَالُهُ ذَلِكَ تَقْدِيْرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيْمِ
يعني: أن من نظر إلى التقدير.. علم أن الأمور الجارية على أهل العالم كلها على وفق الحكمة، وعلى مقتضى السلمة، ففيه إرشاد إلى إثبات الصانع الحكيم، لا إلى نفي وجوده. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور من البسط والقبض ﴿لَآيَاتٍ﴾ دالةً على أن الحوادث كافةً من الله تعالى بوسطٍ عاديٍّ، أو غيره؛ أي: لدلالات {لِقَوْمٍ
(١) المراغي.
34
يُؤْمِنُونَ} بالله تعالى، ويقرّون بوحدانيته، وهم الذين يعلمون أن الذي يفعل ذلك هو الله لا سواه، وإنما خص المؤمنين بذلك؛ لأنهم المنتفعون بالآيات، المتفكّرون فيها، والمستدلون بها على مدلولاتها.
الإعراب
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٣٢)﴾.
﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، أو فصيحة، كما مر في بحث التفسير. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ومعناه النفي؛ أي: لا أحد ﴿أَظْلَمُ﴾ خبره، والجملة: مستأنفة. ﴿مِمَّنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾. ﴿كَذَبَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿كَذَبَ﴾، ﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ﴾: معطوف على ﴿كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، في محل النصب على الظرفية، مبني على السكون، والظرف: متعلق بـ ﴿كَذَبَ﴾. ﴿جَاءَهُ﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الصدق، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه. ﴿إِذْ﴾. ﴿أَلَيْسَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للإستفهام التقريري. ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص، ﴿فِي جَهَنَّمَ﴾: خبرها مقدم على اسمها. ﴿مَثْوًى﴾: اسمها مؤخر. ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾: صفة لـ ﴿مَثْوًى﴾، أو متعلق بـ ﴿مَثْوًى﴾؛ لأنه اسم مكان من ثوى؛ أي: أقام، وجملة ﴿لَيْسَ﴾: جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب.
﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤)﴾.
﴿وَالَّذِي﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الَّذِي﴾: مبتدأ، وجملة ﴿جَاءَ بِالصِّدْقِ﴾: صلة الموصول. ﴿وَصَدَّقَ بِهِ﴾ معطوف على الصلة و ﴿الَّذِي﴾: جنس، المراد به بالنسبة للصلة الأولى: محمد - ﷺ -، وبالنسبة للصلة الثانية: المؤمنون، ولذلك روعي معنى: ﴿الَّذِي﴾ في: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان، ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْمُتَّقُونَ﴾: خبر ﴿أُولَئِكَ﴾. وجملة المبتدأ الثاني مع خبره: خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول: مستأنفة. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَا﴾: اسم موصول
35
في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: خبر ثان لـ ﴿الَّذِي﴾. ﴿يَشَاءُونَ﴾: فعل وفاعل، صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة والعائد: محذوف، تقديره: لهم ما يشاؤونه ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من العائد المحذوف؛ أي: لهم ما يشاؤونه حال كونه مدّخرًا لهم عند ربهم. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية: حال ثانية من العائد المذكور؛ أي: حال كون ذلك جزاء المحسنين.
﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)﴾.
﴿لِيُكَفِّرَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جرّ وتعليل. ﴿يُكَفِّرَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ الجار والمجرور: متعلق بمحذوف تقديره: يسر لهم ذلك لتكفير الله عنهم، أو متعلق بـ ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ و ﴿اللام﴾: للعاقبة؛ أي: الذين أحسنوا؛ لتكون عاقبتهم التكفير ﴿عَنْهُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُكَفِّرَ﴾، ﴿أَسْوَأَ﴾ مفعول به. ﴿الَّذِي﴾ مضاف إليه. ﴿عَمِلُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة وليس المراد هنا باسم التفضيل معناه على بابه، وإنما هي من إضافة الشيء إلى بعضه من غير تفضيل. ﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي﴾ عطف على ما تقدم ﴿أَجْرَهُمْ﴾ مفعول به ثانٍ لـ ﴿يَجْزِيَ﴾، وجملة ﴿كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾: صلة الموصول، والعائد: محذوف تقديره: بأحسن الذي كانوا يعملونه، واسم التفضيل في قوله: ﴿أَسْوَأَ﴾ و ﴿أَحْسَنِ﴾: ليس على بابه، لئلا يلزم علينا أنه يكفّر عنهم أقبح السيئات فقط، ويجزيهم أفضل الحسنات فقط، كما مرّ في بحث التفسير.
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (٣٧)﴾.
﴿أَلَيْسَ﴾: ﴿الهمزة﴾: فيه للاستفهام التقريري. ﴿لَيْسَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِكَافٍ﴾: ﴿الباء﴾: زائدة، ﴿كَافٍ﴾: خبر ﴿لَيْسَ﴾، ﴿عَبْدَهُ﴾: مفعول ﴿بِكَافٍ﴾، والمراد به: النبي - ﷺ - أو الجنس عامة، كما مر، وجملة ﴿لَيْسَ﴾: إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، أو استئنافية.
36
﴿يُخَوِّفُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿بِالَّذِينَ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ﴿عَبْدَهُ﴾: إن كان المراد به النبي - ﷺ -، والمعنى: أليس الله كافيك حال تخويفهم إيّاك، أو مستأنفة مسوقة لتفنيد ما يعمدون إليه من التخويف بالأصنام، إن كان المراد بالعبد الجنس. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: جار ومجرور، صلة ﴿الَّذِينَ﴾. ﴿وَمِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مِنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يُضْلِلِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل. ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب الشرط، ﴿مَا﴾ تميمية، أو حجازية. ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم أو خبر ﴿مَا﴾ مقدم. ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿هَادٍ﴾: مبتدأ مؤخر، أو اسمها مؤخر، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ ﴿مِنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مِنْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يَهْدِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿مِنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها. ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب، ﴿ما﴾: حجازية، ﴿لَهُ﴾: خبرها مقدم، ﴿مِنْ﴾ زائدة، ﴿مُضِلٍّ﴾: اسمها مؤخر، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ ﴿مِنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مِنْ﴾ الشرطية: معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى. ﴿أَلَيْسَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لَيْسَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِعَزِيزٍ﴾: خبر ﴿لَيْسَ﴾: و ﴿الباء﴾ زائدة ﴿ذِي انْتِقَامٍ﴾ صفة لـ ﴿عَزِيزٍ﴾ تابع لِلَفْظِهِ وجملة ﴿لَيْسَ﴾ جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب.
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿سَأَلْتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام، في محل الرفع مبتدأ. ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿مَنْ﴾ الاستفهامية، والجملة الاسمية: في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿سَأَل﴾ المعلقة عن العمل فيه بالاستفهام. ﴿لَيَقُولُنَّ﴾
37
و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، مؤكدة للأولى. ﴿يَقُولُنَّ﴾: فعل مضارع معرب لعدم مباشرة نون التوكيد له مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة؛ لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة للالتقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل. ﴿اللَّهُ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو الله، أو مبتدأ والخبر: محذوف؛ أي: الله خلقها، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿لَيَقُولُنَّ﴾: وجملة ﴿يَقُولُنَّ﴾: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابها: مستأنفة، وجواب الشرط: محذوف، دلّ عليه جواب القسم، جريًا على القاعدة المشهورة فيما إذا اجتمع شرط وقسم، والتقدير: إن سألتهم من خلق السموات والأرض.. يقولوا: الله، وجملة الشرط: معترضة بين القسم وجوابه. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم -، والجملة: مستأنفة. ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: فيه للاستفهام التوبيخي، و ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا لم يكن خالق سواه تعالى.. فأقول لكم: أخبروني عن آلهتكم التي تعبدونها، أنه إن أرادني الله بضرّ إلخ. ﴿رَأَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل، بمعنى أخبروني. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ ﴿رَأَيْتُمْ﴾. ﴿تَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل وصلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد: محذوف تقديره: ما تدعونه ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: حال من العائد المحذوف، وجملة ﴿رَأَيْتُمْ﴾: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ويجوز أن تكون ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفكّرتم ما أقررتم به، فرأيتم ما تدعون من دون الله... إلخ.
﴿إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.
﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم ﴿أَرَادَنِيَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل ونون وقاية، ومفعول به في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿بِضُرٍّ﴾: متعلق بـ ﴿أَرَادَنِيَ﴾، وجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية: محذوف، تقديره: إن أرادني الله بضر.. فهل يكشفن عني ضرّه، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية: معترضة بين الفعل ومفعوله، لا محل لها من الإعراب. ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام، ﴿هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿رَأَيْتُمْ﴾ علق عنها بالاستفهام،
38
﴿أَوْ أَرَادَنِي﴾: فعل وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعول به معطوف على ﴿أَرَادَنِي﴾ الأول. ﴿بِرَحْمَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَرَادَنِي﴾. ﴿هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾: مبتدأ وخبر في محل النصب معطوف على ﴿هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ على كونها مفعولًا ثانيًا لـ ﴿رَأَيْتُمْ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. ﴿حَسْبِيَ﴾ مبتدأ ﴿اللَّهُ﴾: خبر، أو بالعكس، والجملة: مقول لـ ﴿قُلْ﴾، و ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَتَوَكَّلُ﴾. ﴿يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾: فعل مضارع وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة الاسمية.
﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٤٠)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. ﴿يَا قَوْمِ﴾: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿اعْمَلُوا﴾: فعل أمر وفاعل. ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾: حال من فاعل ﴿اعْمَلُوا﴾، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾: ناصب واسمه وخبره، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿فَسَوْفَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿سَوْفَ﴾: حرف تنفيس. ﴿تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، وجملة العلم: معطوفة على جملة ﴿اعْمَلُوا﴾: على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿تَعْلَمُونَ﴾. ﴿يَأْتِيهِ عَذَابٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿يُخْزِيهِ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾. ﴿وَيَحِلُّ﴾: فعل مضارع. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَحِلُّ﴾، ﴿عَذَابٌ﴾: فاعل. ﴿مُقِيمٌ﴾: صفة ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة: معطوفة على جملة ﴿يَأْتِيهِ﴾ على كونها صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة.
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق به، ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول به، ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنَا﴾، ﴿بِالْحَقِّ﴾: حال من فاعل ﴿أَنْزَلْنَا﴾؛ أي: حالة كوننا متلبسين بالحق، أو من المفعول؛ أي: حالة كونه متلبسًا
39
بالحق، وجملة ﴿أَنْزَلْنَا﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة، ﴿فَمَنِ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿مَنِ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿اهْتَدَى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لا. ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا، ﴿لِنَفْسِهِ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهدايته لنفسه، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية: معطوفة على جملة ﴿إن﴾. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط على الخلاف السابق. ﴿ضَلَّ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾، على كونه فعل شرط لها. ﴿فَإِنَّمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب جوازًا، ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿يَضِلُّ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿عَلَيْهَا﴾ متعلق بـ ﴿يَضِلُّ﴾، والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وإنما جزمت المضارع المحل لا اللفظ؛ مشاكلة للماضي الواقع شرطًا، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية: معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية حجازية، ﴿أَنْتَ﴾: في محل الرفع اسمها. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿وَكِيلٍ﴾، و ﴿بِوَكِيلٍ﴾: خبر لـ ﴿ما﴾ الحجازية منصوب بفتحة مقدرة، و ﴿الباء﴾: زائدة، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِنَّمَا يَضِلُّ﴾ على كونها جوابًا لـ ﴿مَن﴾ الشرطية، وجمع ضمير ﴿عَلَيْهِمْ﴾ نظرًا لمعنى ﴿مَنْ﴾ الشرطية.
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾، مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿حِينَ مَوْتِهَا﴾: متعلق بـ ﴿يَتَوَفَّى﴾ ﴿وَالَّتِي﴾: معطوف على ﴿الْأَنْفُسَ﴾، وجملة ﴿لَمْ تَمُتْ﴾: صلة التي الموصولة. ﴿فِي مَنَامِهَا﴾: جار ومجرور متعلق ﴿يَتَوَفَّى﴾ والمعنى: الله يتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها؛ أي: يتوفّاها حين تتام ﴿فَيُمْسِكُ﴾. ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿يُمْسِكُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود
40
على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿الَّتِي﴾: مفعول به لـ ﴿يُمْسِكُ﴾. ﴿قَضَى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق بـ ﴿قَضَى﴾. ﴿الْمَوْتَ﴾: مفعول به لـ ﴿قَضَى﴾ وجملة ﴿قَضَى﴾: صلة الموصول. ﴿وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿يُمْسِكُ﴾. ﴿إِلَى أَجَلٍ﴾ متعلق بـ ﴿يرسل﴾ أو بـ ﴿يُمْسِكُ﴾. ﴿مُسَمًّى﴾: نعت لـ ﴿أَجَلٍ﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبر مقدم لها. ﴿لَآيَاتٍ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿آيَاتٍ﴾: اسمها مؤخر. ﴿لِقَوْمٍ﴾: صفة ﴿لَآيَاتٍ﴾ وجملة ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾: صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة.
﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (٤٣)﴾.
﴿أَمِ﴾: منقطعة، بمعنى بل الإضرابية، وهمزةِ الاستفهام الانكاري. ﴿اتَّخَذُوا﴾: فعل ماض وفاعل. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، متعلق به على كونه مفعولًا ثانيًا له ﴿شُفَعَاءَ﴾: مفعول أول له، والجملة: مستأنفة. ﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة ﴿أَوَلَوْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، تقديره: أيشفعون، ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط مهمل، بمعنى قد. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿لَا يَمْلِكُونَ﴾ خبر ﴿كَانُ﴾، ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، أو مفعول مطلق، كما مر مرارًا. ﴿وَلَا يَعْقِلُونَ﴾: معطوف على ﴿لَا يَمْلِكُونَ﴾. و ﴿لَوْ﴾: مهملة لا جواب لها؛ أي: أيشفعون حال كونهم لا يملكون شيئًا ولا يعقلون شيئًا، ويجوز أن تكون ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿لَوْ﴾ على معناها، وجوابها، محذوف، تقديره: تتخذونهم شفعاء، وجملة ﴿لَوْ﴾ معطوفة على تلك المحذوفة.
﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. ﴿لِلَّهِ﴾: خبر مقدم، ﴿الشَّفَاعَةُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿جَمِيعًا﴾: حال من ﴿الشَّفَاعَةُ﴾ على رأي سيبويه، أو
41
من الضمير المستقر في الخبر على مذهب الجمهور، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مُلْكُ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب وتراخ، ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾، و ﴿تُرْجَعُونَ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على محذوف معلوم من السياق، تقديره: يتصرف فيكم في الدنيا كيف يشاء، ثم إليه ترجعون في الآخرة. ﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿ذُكِرَ اللَّهُ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿وَحْدَهُ﴾: حال من الجلالة؛ أي: حالة كونه منفردًا في الذكر دون الشركاء، ومنصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه؛ أي: ذُكَر ذِكْر انفراد، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾ على كونها فعل شرط لها. ﴿اشْمَأَزَّتْ﴾: فعل ماض. ﴿قُلُوبُ﴾: فاعل، ﴿الَّذِينَ﴾: مضاف إليه، والجملة الفعلية: جواب ﴿إِذَا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾: مستأنفة، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: صلة الموصول. ﴿بِالْآخِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾، ﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿وَإِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿ذُكِرَ الَّذِينَ﴾: فعل ونائب فاعل، فعل شرط لـ ﴿إِذَا﴾. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: جار ومجرور، صلة الموصول، ﴿إِذَا﴾: فجائية، خلف عن ﴿الفاء﴾ الرابطة، حرف لا محل لها من الإعراب، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية: جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾: معطوفة على جملة ﴿إِذَا﴾ الأولى.
﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)﴾.
﴿قُلِ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿اللَّهُمَّ﴾: منادى مفرد العلم في محل النصب على المفعولية، مبني على الضم، والميم المشددة: عوض عن حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ﴾: منادى ثان، حذف منه حرف النداء، مضاف إلى ما بعده، منصوب؛ أي: يا فاطر السموات، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، وجملة النداء: معطوفة بعاطف مقدر على جملة النداء الأول، على كونها مقولًا لـ ﴿قُلِ﴾، وهناك أعاريب أخرى، سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. وكذلك {عَالِمَ الْغَيْبِ
42
وَالشَّهَادَةِ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، معطوف على النداء الأول ومضاف إليه. ﴿أَنْتَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿تَحْكُمُ﴾: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿بَيْنَ عِبَادِكَ﴾: متعلق بـ ﴿تَحْكُمُ﴾، ﴿فِي مَا﴾: متعلق بـ ﴿تَحْكُمُ﴾ أيضًا. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾: خبر ﴿كَانُوا﴾، ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾، وجملة ﴿كَانُ﴾ من اسمها وخبرها: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة.
فائدة في ﴿اللَّهُمَّ﴾: مذهب الخليل وسيبويه: أن هذا الاسم لا يوصف؛ لأنه صار عندهم مع الميم بمنزلة الصوت؛ أي: غير متمكن في الاستعمال. وذهب المبرد والزجاج: إلى جواز وصفه بمرفوع على اللفظ، ومنصوب على المحل، وجعل ﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: صفة له. قال أبو حيان: والصحيح مذهب سيبويه؛ لأنه لم يسمع مثل اللهم الرحمن الرحيم ارحمنا، والآية ونحوها محتملة للنداء. وقال ابن هشام: وإنما قال في ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إنه على تقدير (يا)، ولم يجعله صفة على المحل؛ لأنّ عنده أن اسم الله سبحانه وتعالى لما اتصلت به الميم المعوضة عن حرف النداء.. أشبه الأصوات، فلم يجز نعته؛ أي: فقد صار مثل هلا، إذ الميم بمنزلة صوت مضموم إلى اسم الله، مع بقائهما على معنييهما.
﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤٨)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم لـ ﴿أَنَّ﴾ وجملة ﴿ظَلَمُوا﴾: صلة الموصول، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب، اسم ﴿أَنَّ﴾ مؤخر عن خبرها. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، ﴿جَمِيعًا﴾: حال من اسم ﴿أَنَّ﴾، ﴿وَمِثْلَهُ﴾: معطوف على ﴿مَا﴾، ﴿مَعَهُ﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿مِثْلَهُ﴾؛ أي: حال كون ذلك المثل منضمًا إلى ﴿مَا فِي الْأَرْضِ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لفعل محذوف، هو فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾، تقديره: ولو ثبت كون ما في الأرض للذين ظلموا، ومثله معه.. لافتدوا به من سوء
43
العذاب. ﴿لَافْتَدَوْا﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية، ﴿افْتَدَوْا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿افْتَدَوْا﴾. و ﴿مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ﴾: متعلق به أيضًا. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف متعلق به أيضًا، أو حال من فاعل ﴿افْتَدَوْا﴾؛ أي: حال كونهم في ذلك اليوم العصيب، والجملة الفعلية: جواب ﴿لو﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية؛ مستأنفة. ﴿وَبَدَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿بَدَا﴾: فعل ماض، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: حال من فاعل ﴿بَدَا﴾. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية. ﴿لَمْ يَكُونُوا﴾: جازم وفعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَحْتَسِبُونَ﴾: في محل النصب خبر ﴿يَكُونُوا﴾؛ أي: لم يكونوا محتسبين، وجملة ﴿يَكُونُوا﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿بَدَا﴾: فعل ماض. ﴿لَمْ﴾: متعلق به. ﴿سَيِّئَاتُ مَا﴾: فاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية: معطوفة على ما قبلها، ولك أن تجعل الكلامين مستأنفًا مسوقًا لإِبراز وعيدهم في أبلغ ما يكون الوعيد والتهديد. ﴿كَسَبُوا﴾: فعل وفاعل، صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: سيئات ما كسبوه. ﴿وَحَاقَ﴾: فعل ماض، معطوف على ﴿بَدَا﴾، ﴿بِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿حَاقَ﴾، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل ﴿وَحَاقَ﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾، وجملة ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾: خبر ﴿كَانُوا﴾، وجملة ﴿كَانُوا﴾: صلة الموصول.
﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٩)﴾.
﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن المشركين ليشمأزّون عن ذكر الله وحده، ويستبشرون بذكر آلهتهم، وأردت بيان حالهم فيما إذا أصابهم الضرّ.. فأقول لك: إن شأن غالب نوع الإنسان، أنّه إذا مسّه ضرّ إلخ. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿مَسَّ﴾: فعل ماض. ﴿الْإِنْسَانَ﴾: مفعول به. ﴿ضُرٌّ﴾: فاعل، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾ على كونها فعل شرط لها. ﴿دَعَانَا﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة الفعلية: جواب ﴿إِذَا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا
44
المقدرة: مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يسسّقبل من الزمان. ﴿خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً﴾: فعل وفاعل، ومفعولان. ﴿مِنَّا﴾: صفة لـ ﴿نِعْمَةً﴾، والجملة الفعلية، في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾، والظرف: متعلق بالجواب. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: جواب ﴿إِذَا﴾ وجملة ﴿إِذَا﴾: معطوفة على جملة ﴿إِذَا﴾ الأولى. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر ﴿أُوتِيتُهُ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل ومفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿عَلَى﴾ ﴿عِلْمٍ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من تاء المتكلم في ﴿أُوتِيتُهُ﴾، حالة كوني عالمًا أني سأعطاه، لما أتمتع به من جدارةٍ واستحقاق. ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب للإضراب الانتقالي. ﴿هِيَ فِتْنَةٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾: ناصب واسمه. وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾: خبره، والجملة الاستدراكية: معطوفة على الجملة الإضرابية، ويصح أن تكون حالية.
﴿قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١)﴾.
﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿قَالَهَا﴾: فعل ومفعول. ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل، و ﴿الهاء﴾: عائدة على مقالتهم، وهي ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾؛ لأنها كلمة. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: صلة الموصول، والجملة الفعلية: مستأنفة. ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَغْنَى﴾: فعل ماض. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به ﴿مَا﴾: فاعل، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة ﴿قَدْ قَالَهَا﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْسِبُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كَانُوا﴾: صلة الموصول. ﴿فَأَصَابَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أَصَابَهُمْ﴾: فعل ومفعول ﴿سَيِّئَاتُ﴾: فاعل، و ﴿مَا﴾: مضاف إليه، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة قوله: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ﴾. ﴿كَسَبُوا﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد: محذوف؛ أي سيئات ما كسبوه. ﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿ظَلَمُوا﴾: صلة الموصول. ﴿مِنْ هَؤُلَاءِ﴾: جار ومجرور حال من واو ﴿ظَلَمُوا﴾. ﴿سَيُصِيبُهُمْ﴾: فعل ومفعول به، ﴿سَيِّئَاتُ﴾: فاعل. و ﴿مَا﴾ مضاف إليه، والجملة الفعلية، في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة قوله: ﴿قَدْ قَالَهَا﴾، وجملة ﴿كَسَبُوا﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿ما﴾: نافية حجازية. ﴿هُمْ﴾: اسمها. ﴿بِمُعْجِزِينَ﴾:
45
خبرها، و ﴿الباء﴾: زائدة، والجملة: في محل النصب حال من مفعول ﴿سَيُصِيبُهُمْ﴾.
﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أقالوها ولم يعلموا؟ والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿لَمْ يَعْلَمُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة: على تلك المحذوفة. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾: خبره. وجملة ﴿أَنَّ﴾: في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي ﴿يَعْلَمُوا﴾. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَبْسُطُ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿وَيَقْدِرُ﴾: معطوفة على جملة ﴿يَبْسُطُ﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدّم. ﴿لَآيَاتٍ﴾: اسمها مؤخر، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿لِقَوْمٍ﴾ صفة ﴿لَآيَاتٍ﴾. وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ أصله: مثوي بوزن مفعل، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، مشتق من ثوى بالمكان: إذا أقام به، يثوى ثويًا وثواءً، مثل مضى يمضي مضيًا ومضاءً، ولو كان من أثوى الرباعي.. لكان مثوًى بضم الميم، وهذا يدل على أن ثوى هي اللغة الفصحى.
وحكى أبو عبيدة: أثوى، اهـ "قرطبي" بزيادةٍ. ومعنى المثوى: المقام والمستقر.
والمعنى: أنّ جهنم منزل ومقام للكاذبين المكذبين المذكورين وغيرهم من الكفار جزاءً لكفرهم وتكذيبهم.
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾؛ أي: يكفيه وعيد المشركين وكيدهم، والكفاية: ما فيه سد الخلة، وبلوغ المراد في الأمر.
﴿يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ مكانتكم: اسم مكان من مادة كان، ووزنه
46
مفعلة، أصله: مكونة نقلت حركة الواو إلى الكاف، ثم أبدلت ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن، وقيل: إن الميم أصلية، فهي من مادّة مكن وعليه فهو مصدر ميمي.
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ﴾ أصله. يتوفي، قلبت ياؤه ألفًا؛ لتحركها بعد فتح.
﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ﴾ أصله: تموت بوزن تفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم، فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مد، ثم دخل الجازم على الفعل فسكن آخره، فصار اللفظ تموت، فالتقى ساكنان، فحذفت الواو، فوزنه تفل، ويقال توفاه الله: قبض روحه، كما في "القاموس". والأنفس: جمع نفس بسكون الفاء، وهي النفس الناطقة المسماة عند أهل الشرع بالروح الإضافي الإنساني السلطاني فسميت نفسًا باعتبار تعلقها بالبدن، وانصياعها بأحكامه، والتلبس بغواشيه، وروحًا باعتبار تجردها في نفسها، ورجوعها إلى الله تعالى، فالنفس: ناسوتية سفلية، والروح: لاهوتية علوية.
﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ والموت: زوال القوة الحساسة، كما أن الحياة وجود هذه القوة، ومنه سمي الحيوان حيوانًا، ومبدأ هذه القوة هو الروح الحيواني، الذي محله الدماغ، كما أن محل الروح الإنساني القلب الصنوبري، ولا يلزم من ذلك تحيزه فيه، وإن كانت الأرواح البشرية متحيزة عند أهل السنة. اهـ من "الروح".
والمنام والنوم واحد، وهو استرخاء أعصاب الدماغ برطبات البخار الصاعد إليه، وقيل: النوم؛ هو أن يتوفى الله النفس من غير موت، كما في الآية، وقيل: النوم: موت خفيف، والموت: نوم ثقيل، وهذه التعريفات كلها صحيح بنظرات مختلفة. اهـ. منه ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾ إمساك الشيء: التعلق به وحفظه، والقضاء: الحكم.
﴿شُفَعَاءَ﴾ جمع شفيع، والشفع: ضم الشيء إلى مثله، والشفاعة: الانضمام إلى آخر مسائلًا عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى رتبةً إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة يوم القيامة.
﴿اشْمَأَزَّتْ﴾ من الشمز، والشمز: نفور النفس مما تكره، وتَشمّز وجهه:
47
تقبض، والاشمئزاز؛ هو أن يمتلىء القلب غيظًا وغمًا، ينقبض منه أديم الوجه، وهو غاية ما يمكن من الانقباض، ففيه مبالغة في بيان حالهم القبيحة، كما مر.
﴿إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾؛ أي: يفرحون ويظهر في وجوههم البشر، وهو أثر السرور لفرط افتتانهم بها، ونسيانهم الحق، والاستبشار: هو أن يمتلىء القلب سرورًا حتى تنبسط له بشرة الوجه، ويتهلل، ففيه مبالغة أيضًا في بيان حالهم القبيحة.
﴿لَافْتَدَوْا﴾ أصله: لافتديوا، قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، يقال افتدى: إذا بذل المال عن نفسه، فإن الفداء: حفظ الإنسان من النائبة بما يبذله عنه؛ أي: لجعلوا كل ذلك فديةً لأنفسهم من العذاب الشديد، لكن لا مال يوم القيامة، كما مر.
﴿وَبَدَا لَهُمْ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: بدو، بوزن فعل، قلبت واوه ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ﴾ فيه من مباحث الصرف الادغام، أصله: مسس، أدغمت السين في السين. ﴿دَعَانَا﴾ أصله: دعونا، قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ﴾ أصله: أؤتي، أبدلت الهمزة الثانية واوًا حرف مد مجانسًا لحركة الأولى، وسكنت الياء، فصارت حرف مد لتطرفها إثر كسرة.
﴿بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ﴾؛ أي: محنة وابتلاء له، أيشكر أم يكفر، تقول فتنت الذهب: إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته وتختبره.
﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ﴾ أصله: أغني بوزن أفعل؛ لأنه رباعي، فقلبت الياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها.
﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ أصله: فأصوبهم، بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى الصاد، ثم قلبت ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن.
﴿سَيُصِيبُهُمْ﴾ فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: سيصوبهم، نقلت حركة الواو إلى الصاد، فسكنت إثر كسرة، ثم قلبت ياءً حرف مد، وقوله:
48
﴿سَيِّئَاتُ﴾ أصله سوءات بوزن فيعلات، قلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء، لما اجتمعتا، وسبقت إحداهما ساكنةً.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين قوله: ﴿مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ﴾ وقوله: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾.
ومنها: الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني؛ أعني قوله: ﴿بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ دون الأول، أعني قوله: ﴿أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة بخلاف السيئة، كذا في "الإرشاد".
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ حيث أدخل همزة الإنكار على كلمة النفي. فأفادت معنى إثبات الكفاية وتقريرها، فصار الاستفهام تقريريًا، وكذا الحكم في قوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ﴾ وبين قوله: ﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ وقوله: ﴿فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿يُضْلِلِ﴾ و ﴿مُضِلٍّ﴾ وقوله: ﴿يَهْدِ اللَّهُ﴾ و ﴿هَادٍ﴾.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿بِضُرٍّ﴾ وقوله: ﴿بِرَحْمَةٍ﴾، وفي قوله: ﴿إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ وقوله: ﴿أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ﴾.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾ حيث جعل الرؤية، وهو العلم الذي هو سبب الإخبار مجازًا عن الإخبار، كما في "الروح".
ومنها: التهديد في قوله: ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾؛ لأنه أمر تهديد.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ حيث استعار اسم
49
المكان للحال، فشبهت الحال بالمكان القارّ فيه، ووجه الشبه: ثباتهم في تلك الحال ثبات المتمكن في مكانه.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾؛ أي: على مكانتي.
ومنها: المجاز في الإسناد في قوله: ﴿عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾؛ أي مقيم فيه صاحبه، كما في "الشهاب".
ومنها: الطباق بين الإمساك والإرسال في قوله: ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾ وقوله: ﴿وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى...﴾.
ومنها: المقابلة الرائعة في قوله: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ...﴾ الآية. فقد قابل بين الله والأصنام، وبين السرور والإشمئزاز.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾. وكذلك بين الغيب والشهادة في قوله: ﴿عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
50
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٧٥)﴾.
51
المناسبة
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا.....﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) أوعد الكافرين فيما سلف أردفه بذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين، بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه، وأخلصوا له العمل، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين، ومنبهة لهم من ضلالهم.
وعبارة "أبي حيان" هنا (٢): ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما شدّد على الكفار، وذكر ما أعدّ لهم من العذاب، وأنهم لو كان لأحدهم ما في الأرض ومثله معه.. لافتدى به من عذاب الله.. ذكر ما في إحسانه من غفران الذنوب، إذا آمن العبد ورجع إلى الله، وكثيرًا تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة، ليرجو العبد ويخاف، وهذه الآية عامة في كل كافر يتوب، ومؤمن عاص يتوب، تمحو الذنب توبته، وقال عبد الله وعليّ وابن عمر: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أوعد المشركين فيما سلف بما سيكون لم من الأهوال يوم القيامة، ووعد المتقين بما يمنحهم من الفوز والنعيم في ذلك اليوم.. أردف ذلك ذكر حالٍ لكل منهما تبدو للعيان، ويشاهدها كل إنسان يوم العرض والحساب.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٣) بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك.. عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام، ثم بين أن الأنبياء جميعًا أوحي إليهم أن لا يعبدوا إلا الله وحده، وأن لا يشركوا به سواه، وأنهم إن فعلوا غير ذلك.. حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين، ثم كرر النعي عليهم مرةً أخرى، بأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته، إذ لو عرفوه.. لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركةً له في العبودية.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
52
قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر عظمته، بأنه خالق كل شيء وهو الوكيل على كل شيء، وبيده مقاليد السموات والأرض.. أردف ذلك بذكر دلائل أخرى، تدل على كمال قدرته، وعظيم لسلطانه، فذكر مقدمات يوم القيامة، من نفخ الصور النفخة الأولى، التي يموت بها أهل الأرض جميعًا، ثم النفخة الثانية، التي يقوم بها الناس جميعًا من قبورهم، ثم ذكر الفصل بينهم للجزاء والحساب، فتوفى كل نفس جزاءً ما عملت من خير أو شر، وهو سبحانه العلم بأفعالهم جميعًا.
قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أحوال يوم القيامة على سبيل الإجمال، بقوله: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ﴾.. فصل ذلك، فذكر ما يحل بالأشقياء من الأهوال، وما يلقونه من التأنيب والتوبيخ من خزنة جهنم على طريق السؤال والجواب التهكمي، وهو أشد وقعًا على الأبي العيوف، الذي تأبى نفسه الهوان والاحتقار.
قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما ذكر أحوال الأشقياء، وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال.. أردفها بذكر أحوال السعداء، وما يلاقونه إذ ذاك من النديم، وما يقال لهم وما يقولون، ثم أخبر بأن ملائكته محدقون حول العرش، يسبّحون بحمد ربهم، ويعظّمونه، وينزهونه عن النقائص، وأنه سيقضي بين الخلائق بالعدل، وأن أولئك المتقين سيقولون: الحمد لله رب العالمين، على ما تفضّل به علينا وأنعم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما تقدم في سورة الفرقان من حديث الشيخين، وما أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أنزلت هذه الآية في مشركي أهل مكة.
(١) المراغي.
(٢) لباب النقول.
53
وأخرج الحاكم والطبراني عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا نقول ما لمفتتن توبة إذا ترك دينه بعد إسلامه ومعرفته، فلما قدم رسول الله - ﷺ - المدينة.. أنزل فيهم ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا...﴾ الآية.
وأخرج الطبراني بسند فيه ضعف، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بعث رسول الله - ﷺ - إلى وحشي قاتل حمزة، يدعوه إلى الإِسلام، فأرسل إليه: كيف تدعوني، وأنت تزعم أن من قتل، أو زنى، أو أشرك.. ﴿يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (٦٩)﴾ وأنا صنعت ذلك، فهل تجد لى من رخصة، فأنزل الله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ الآية. فقال وحشي: هذا شرط شديد، فلعلّي لا أقدر على هذا، فأنزل الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ فقال وحشيّ: هذا أرى بعده مشيئة، فلا أدري أيغفر لي أم لا، فهل غير هذا، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ...﴾ الآية. فقال وحشي: هذا نعم فأسلم.
قوله: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ...﴾ الآية، سيأتى سبب نزولها في سورة الكافرون، وأخرج البيهقي في "الدلائل" عن الحسن البصري قال. قال المشركون للنبي - ﷺ -: أتضلل آباءك وأجدادك يا محمد، فأنزل الله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ﴾ إلى قوله: ﴿مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: مر يهودي بالنبي - ﷺ -، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم: إذا وضع الله السموات على ذه، والأرضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، فأنزل الله سبحانه: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ...﴾ الآية. والحديث في "الصحيح" بلفظ: فتلا، دون فأنزل.
وأخرج أحمد بسنده، عن علقمة عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي - ﷺ - من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم، أبلغك أنَّ الله عزّ وجل يحمل الخلائق على إصبع، والسموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، فضحك النبي - ﷺ - حتى بدت نواجده، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ والحديث رجاله رجال الصحيح.
54
وأخرج ابن المنذر عن الربيع بن أنس قال: لما نزلت آية: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾... قالوا: يا رسول الله، هذا الكرسي هكذا، فكيف العرش، فأنزل الله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ﴾ الآية. قال الحافظ السيوطي في "الإتقان" ج ١ ص ٣٤: الحديث في "الصحيح" بلفظ: فتلا رسول الله - ﷺ - وهو أصوب، فإنَّ الآية مكية.
وأقول: لفظ تلا، الواقع في "الصحيح": لا ينافي أنها نزلت، ثم تلاها الرسول - ﷺ -، وأما كونها مكيةً، فإن ثبت نزولها؛ أعني هذه الآية بمكة.. فلا مانع من نزولها مرتين، وإن لم يثبت نزولها بمكة بالسند الصحيح.. فقد تكون السورة مكية، إلا آية. والله أعلم.
التفسير وأوجه القراءة
٥٣ - ولما ذكر سبحانه ما ذكره من الوعيد.. عقّبة بذكر سعة رحمته، وعظيم مغفرته، وأمر رسوله - ﷺ - أن يبشرهم بذلك، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد، تبشيرًا لعبادي بسعة رحمتي: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا﴾ وأفرطوا وجاوزوا الحد في الجناية. ﴿عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ بالانهماك في المعاصي، وارتكاب الكبائر والفواحش: ﴿لَا تَقْنَطُوا﴾ ولا تيأسوا ﴿مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ سبحانه ومغفرته، فهو يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب إليه، ولجأ إلى جنابه، وإن كثرت ذنوبه، وكانت كزبد البحر.
وقرأ الجمهور: ﴿يَا عِبَادِيَ﴾ بإثبات الياء وصلًا ووقفًا. وروى أبو بكر عن عاصم: أنه يقف بغير ياء، وقرأ الجمهور: ﴿تَقْنَطُوا﴾ بفتح النون، وقرأ أبو عمرو والكسائي: بكسرها، وتعدية (١) الإسراف بـ ﴿عَلَى﴾؛ لتضمين معنى الجناية، قال البيضاوي ومن وافقه: إضافة العبادة تخصّصه بالمؤمن على ما هو عرف القرآن، يقول الفقير: قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ ينادى على خلافه؛ لأن العباد فسر هناك ببختنصر وقومه، وكانوا كفارًا بالاتفاق، إلا أن يدعى الفرق بين الإضافة بالواسطة وبغيرها، وقال في "الوسيط": المفسرون كلهم قالوا: إن هذه الآية نزلت في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام، كالشرك، وقتل النفس والزنا ومعاداة النبي - ﷺ - والقتال معه،
(١) روح البيان.
55
فأنزل الله هذه الآية، ورآها أصحابه من أوسع الآيات في مغفرة الذنوب. انتهى. وعلى كل تقدير، فخصوص السبب لا ينافي عموم اللفظ، فدخل فيه كل مسرف.
واعلم (١): أن هذه الآية أرجى آيةٍ في كتاب الله سبحانه؛ لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أولًا أضاف العباد إلى نفسه، لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي، والاستكثار من الذنوب، ثم عقّب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين، من باب الأولى، وبفحوى الخطاب.
وبعد أن نهاهم عن القنوط.. أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه، فيحل الرجاء مكانه، وجاء بما لا يبقى بعده شك، ولا يخالج القلب عند سماعه ظن، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ﴾؛ أي: أفراد جنس الذنوب حال كونها، ﴿جَمِيعًا﴾ فالألف واللام فيه: لاستغراق أفراد الجنس؛ أي: إن الله سبحانه يغفر كل ذنب، كائنًا ما كان، إلا ما أخرجه النص القرآني، وهو الشرك بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.
فيا لها من بشارةٍ ترتاح لها قلوب المؤمنين، المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه، الخالعين ثياب القنوط، البعيدين عن سوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده، المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم.
ثم ذكر علة ذلك، فقال: ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه ﴿هُوَ﴾ وحده ﴿الْغَفُورُ﴾ بمحو ما يوجب العقاب عمن تاب ﴿الرَّحِيمُ﴾ بالتفضّل بالثواب له؛ أي: كثير المغفرة والرحمة، عظيمهما وبليغهما واسعهما، وصيغة (٢) المبالغة: راجعة إلى كثرة الذنوب، وكثرة المغفور والمرحوم.
فمن أبى هذا الفضل العظيم، والعطاء الجسيم، وظن أن تقْنيط عباد الله، وتَأْيِيْسهم من رحمته، أولى بهم مما بشرهم الله به.. فقد ركب أعظم الشطط، وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير هو الذي جاءت به نصوص الكتاب، وهو المسلك
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
56
الذي سلكه رسول الله - ﷺ -، كما صح عنه من قوله: "يسروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا".
وروى أحمد عن ثوبان مولى رسول الله - ﷺ -: قال: "ما أحب أن لى الدنيا وما فيها بهذه الآية": ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ إلى آخر الآية، فقال رجل: يا رسول الله، فمن أشرك، فسكت رسول الله - ﷺ -، ثم قال: "ألا ومن أشرك" ثلاثَ مرات.
وروى أحمد أيضًا عن عمرو بن عنبسمة - رضي الله عنه - قال: جاء إلى النبي - ﷺ - شيخ كبير، يتوكأ على عصًا له، فقال: يا رسول الله، إن لي غدراتٍ وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال - ﷺ -: "ألست تشهد أن لا إله إلا الله"؟ قال: بلى، وأشهد أنه رسول الله، فقال - ﷺ -: "قد غفر لك غدراتك وفجراتك".
وروى البخاري عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن ناسًا من أهل الشرك، كانوا قد قتلوا وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدًا - ﷺ -، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾ ونزل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ والمراد من الآية الأولى قوله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا...﴾ الآية.
فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد: أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، والإخلاص في العمل، ولا يقنطنّ عبد من رحمة الله، فإن باب الرحمة واسع، كما قال عز وجل: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
وروى الطبراني من طريق الشعبي عن سنيد بن شكل، أنه قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أعظم آيةٍ في كتاب الله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، وإن أجمع آيةٍ في القرآن بخير وشر: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾، وإن أكثر آيةٍ في القرآن فرجًا في سورة الغرف: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ وإن أشد آيةٍ في كتاب الله تفويضًا: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ فقال له مسروق: صدقت.
57
فإن قلت (١): حمل هذه الآية على ظاهرها يكون إغراء بالمعاصي، وإطلاقًا في الإقدام عليها، وذلك لا يمكن.
قلت: المراد منها: على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنّه لا مخلص له من العذاب، فإن من اعتقد ذلك.. فهو قانط من رحمة الله تعالى، إذ لا أحد من العصاة إلا ومتى تاب.. زال عقابه، وصار من أهل المغفرة والرحمة، فمعنى أن الله يغفر الذنوب جميعًا؛ أي: إذا تاب، وصحت التوبة.. غفرت ذنوبه، ومن مات قبل أن يتوب.. فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى، فإن شاء.. غفر له، وعفا عنه، وإن شاء.. عذّبه بقدر ذنوبه، ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته، فالتوبة واجبة على كل أحد، وخوف العذاب مطلوب، فلعل الله تعالى يغفر مطلقًا، ولعله يعذّب ثم يعفو بعد ذلك، والله أعلم.
قال الشوكاني (٢): وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين، من تقيد هذه الآية بالتوبة، وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين، وزعموا أنهم قالوا ذلك: للجمع بين الآيات.. فهو جمع بين الضب والنون، وبين الملاح والحادي، ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة.. لم يكن لها كثير موقع، فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين، وقد قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (٤٨)﴾. فلو كانت التوبة قيدًا في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة، وقال سبحانه: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ انتهى.
وقال البروسوي في "الروح": واعلم (٣): أن أهل السنة لم يشترطوا التوبة في غفران الذنوب مطلقًا؛ أي: سواء كانت كبائر أو صغائر، سوى الشرك. ودل عليه آثار كثيرة.
روي: أن الله تعالى يقول يوم القيامة لبعض عصاة المؤمنين: "سترتها عليك في الدنيا"؛ أي: الذنوب "وأنا أغفرها لك اليوم" فهذا وأمثاله يدل على المغفرة بلا توبة. والفرق بين الشرك وسائر المعصية: هو أن الكافر لا يطلب العفو والمغفرة
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
58
لمعاصيه، اهـ.
٥٤ - وبعد أن وعد سبحانه بالمغفرة أمر بشيئين:
١ - الإنابة إليه بقوله: ﴿وَأَنِيبُوا﴾ يا عبادي وارجعوا ﴿إِلَى رَبِّكُمْ﴾ سبحانه، بالتوبة من المعاصي ﴿وَأَسْلِمُوا﴾؛ أي: أخلصوا العمل ﴿لَهُ﴾؛ أي: لوجهه طلبًا لمرضاته، فإن السالم بمعنى الخالص، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾؛ أي: لا تمنعون من عذاب الله إن لم تتوبوا قبل نزوله، والظاهر من آخر الآية: أن الخطاب للكفار، فالمعنى: فارجعوا أيها الناس من الشرك إلى الإيمان، وأخلصوا له تعالى التوحيد.
وفي "الأسئلة المقحمة": الفرق بين التوبة والإنابة: أن التائب يرجع إلى الله تعالى خوفًا من العقوبة، والمنيب يرجع حياءً منه، وشوقًا إليه، قال إبراهيم بن أدهم - رحمه الله -: إذا صدق العبد في توبته.. صار منيبًا؛ لأن الإنابة ثاني في درجة التوبة.
وفي "التأويلات النجمية": التوبة لأهل البداية، وهي الرجوع من المعصية إلى الطاعة، والأوبة للمتوسط، وهي الرجوع من الدنيا إلى الآخرة، والإنابة لأهل النهاية، وهي الرجوع مما سوى الله إلى الله، بالفناء في الله تعالى، وقال الجنيد رحمه الله: معنى أنيبوا إلى الله: انقطعوا عن الكل بالكلية، فما يرجع إلينا بالحقيقة أحد، ولا للغير عليه أثر، وللأكوان على سره خطر، ومن كان لنا كان حرًا مما سوانا. اهـ.
والظاهر: أن الله سبحانه جمع لعباده بين التبشير العظيم، والأمر بالإنابة إليه، والإخلاص له، والاستسلام لأمره والخضوع لحكمه.
والمعنى (١): أيها الناس، أنيبوا إلى ربكم بالتوبة، وارجعوا إليه بالطاعة، واستجيبوا إلى ما دعاكم إليه من توحيده، وافراده بالألوهية، قبل أن يأتيكم العذاب، ثم لا تجدوا نصيرًا ولا معينًا من عذابه النازل بكم.
٢ - ٥٥ اتباع الأحسن بقوله: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾؛ أي: أحكم
(١) المراغي.
ومحكم ما أنزل إليكم ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ سبحانه، دون منسوخه ومتشابهه، أو عزائمه دون رخصه.
وقيل: العفو دون الانتقام، وقيل: أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية، وقال الحسن: الزموا طاعته، واجتنبوا معصيته، فإن الذي أنزل عليكم من ثلاثة أوجه، ذكر القبيح لتجتنبوه، وذكر الأحسن لتؤثروه، وذكر الأوسط لئلا يكون عليكم جناح في الإقبال عليه، أو الإعراض عنه، وهو المباحات.
وفي "فتح الرحمن" (١): إن قلت: كيف قال: ذلك مع أن القرآن كله حسن؟.
قلت: معناه أحسن وحي، أو أحسن كتاب أنزل إليكم، وهو القرآن كله، أو أحسن القرآن آياته المحكمات، أو آياته التي تضمنت أمر طاعة، أو إحسان انتهى. أي: واتبعوا ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم عنه فيه ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ﴾؛ أي: البلاء والعقوبة ﴿بَغْتَةً﴾؛ أي: فجأة، ويجوز أن يكون المراد بالعذاب الآتي بغتة هو الموت؛ لأنه مفتاح العذاب الأخروي، وطريقه، ومتصل به ﴿وَأَنْتُمْ﴾ لغفلتكم؛ أي: والحال أنكم لغفلتكم ﴿لَا تَشْعُرُونَ﴾؛ أي: لا تدركون بالحواس مجيئه؛ لتتداركوا وتتأهّبوا؛ أي: من قبل أن يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه، لا تشعرون به، وقيل (٢): أراد أنهم يموتون بغتة فيقعون في العذاب، والأول أولى؛ لأنّ الذي يأتيهم بغتة هو العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والقهر والخوف والجدب، لا عذاب الآخرة ولا الموت؛ لأنه لم يسند الإتيان إليه،
٥٦ - ولما خوّفهم بالعذاب.. ذكر علّة ذلك فقال:
١ - ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ﴾ مفعول لأجله (٣) للأفعال السابقة، التي هي الإنابة والإخلاص واتباع القرآن، والتنكير في ﴿نَفْسٌ﴾؛ لأن القائل بعض الأنفس، أو للتكثير والتعميم؛ ليشيع في كل النفوس.
والمعنى: افعلوا ما ذكر من المأمورات؛ يعني أمرتكم به كراهية أن تقول كل
(١) فتح الرحمن.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
نفس أو بعض الأنفس ﴿يَا حَسْرَتَا﴾ بالألف بدلًا من ياء الإضافة؛ إذ أصله يا حسرتي، تقول العرب: يا حسرتي يا لهفي، ويا حسرتا ويا لهفا، ويا حسرتاي ويا لهفاي، بالجمع بين العوضين، تقول هذه الكلمة في نداء الاستغاثة، كما في "كشف الأسرار" والحسرة: الغم على ما فاته، والندم عليه، كأنه انحسر الجهل عنه، الذي حمله على ما ارتكبه، وقال بعضهم الحسرة: أن تاسف النفس أسفًا تبقى منه حسيرة؛ أي: منقطعة.
والمعنى: يا حسرتي ويا ندامتي احضري، فهذا أوان حضورك لأتعجب منك.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَا حَسْرَتَا﴾ بالألف بدلًا من الياء المضاف إليها، والأصل: يا حسرتي، وقرأ أبو جعفر: ﴿يا حسرتي﴾ بالياء على الأصل، وقرأ ابن كثير: ﴿يا حسرتاه﴾ بهاء السكت وقفًا.
﴿عَلَى مَا فَرَّطْتُ﴾؛ أي: على تفريطي وتقصيري، فـ ﴿مَا﴾ مصدرية. ﴿فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾؛ أي: في جانبه وحقه، وهو طاعته وإقامة حقه، وسلوك طريقه، وقيل في أمره، وحدّه الذي حده لنا. ﴿وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ ﴿إنَّ﴾ هي (٢) المخففة، و ﴿اللام﴾: هي الفارقة، والسخر: الاستهزاء، ومحل الجملة: النصب على الحال، والمعنى: فرطت، والحال أني كنت في الدنيا من المستهزئين بدين الله، وأهله، قال قتادة: لم يكفهم ما ضيعوا من طاعة الله تعالى، حتى سخروا بأهل طاعته.
والخلاصة (٣): بادروا إلى العمل، واحذروا أن تقول بعض الأنفس يا حسرتا على تقصيري في طاعة الله، وسخريتي واستهزائي بدين الله وكتابه وبرسوله وبالمؤمنين.
٢ - ٥٧ ﴿أَوْ تَقُولَ﴾ نفس ﴿لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي﴾ بالإرشاد إلى الحق، ﴿لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ من الشرك والمعاصي.
والمعنى: أي أو تقول لو أن الله أرشدني إلى دينه وطاعته.. لكنت ممن اتقى
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
الله، فترك الشرك والمعاصي، وفي الخبر: "ما من أحد من أهل النار يدخل النار حتى يرى مقعده من الجنة، فيقول: ﴿لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ فيكون عليه حسرةً، وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة، ويتعلّلون به من العلل الباطلة، كما في قوله: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ فهي كلمة حق يريدون بها باطلًا.
٣ - ٥٨ ﴿أَوْ تَقُولَ﴾ نفس ﴿حِينَ تَرَى الْعَذَابَ﴾ عيانًا ومشاهدةً ﴿لَوْ﴾ للتمني ﴿أَنَّ لِي كَرَّةً﴾؛ أي: رجعة إلى الدنيا ﴿فَأَكُونَ﴾ بالنصب في جواب التمني؛ أي: أتمنى كون كرة ورجعة لى إلى الدنيا، فكوني ﴿مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ في العقيدة والعمل.
وخلاصة ذلك: أنّ هذا المقصر تحسر على التفريط في الطاعة، وفقد الهداية، ثم تمنى الرجعة إلى الدنيا؛ لتدارك ما فات، وكلمة أو في مواضعها للدلالة على أنها لا تخلو النفس عن هذه الأقوال، تحيرًا وتعللًا بما لا طائل تحته، وندمًا حيث لا ينفع الندم، وقيل: إن قومًا يقولون هذا، وقومًا يقولون ذاك.
٥٩ - فأجابها سبحانه بقوله: ﴿بَلَى...﴾ الخ.
فإن قلت (١): كلمة ﴿بَلَى﴾ مختصة بإيجاب النفي، ولا نفي في واحدة من تلك المقالات.
قلت: إنها رد للثانية، وكلمة ﴿لَوْ﴾ تتضمن النفي؛ لأنها لامتناع الثاني لامتناع الأول؛ أي: لو أن الله هداني.. لكنت من المتقين، ولكن ما هداني، فقال تعالى: بلى قد هديتك.
﴿قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي﴾ التنزيلية القرآنية، وهي سبب الهداية، وفصله عن قوله: ﴿لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي﴾ لما أن تقديمه على الثالث يفرّق القرائن الثلاث التي دخلها ﴿أَوْ﴾، وتأخير ﴿لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي...﴾ إلخ. يخل بالترتيب الوجودىّ؛ لأنه يتحسر بالتفريط عند تطاير الكتب، ثم يتعلل بفقد الهداية عند مشاهدة أحوال المتقين واغتباطهم، ثم يتمنّى الرجعة عند الاطلاع على النار، ورؤية العذاب، وتذكير (٢)
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
الخطاب في قوله: ﴿جَاءَتْكَ﴾ و ﴿كَذَّبْتَ﴾ و ﴿اسْتَكْبَرْتَ﴾ و ﴿كُنْتَ﴾ باعتبار معنى النفس، وهو الإنسان؛ لأن النفس تطلق على المذكر والمؤنث، قال المبرّد: تقول العرب: نفس واحد؛ أي: إنسان واحد، وبفتح التاء في هذه المواضع قرأ الجمهور، وقرأ الجحدري وأبو حيوة ويحيى بن يعمر والزعفراني وابن مقسم ومسعود بن صالح والشافعي عن ابن كثير ومحمد بن عيسى باختياره ونصير والعبسي: بكسرها في جميعها، وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة وأم سلمة، ورويت عن ابن كثير، وروت القراءَتين أم سلمة عن النبي - ﷺ -، وقرأ الحسن والأعرج والأعمش: ﴿جَاءَتْكَ﴾ بالهمزة من غير مد، وهو مقلوب من ﴿جاءتك﴾، قدمت لام الكلمة وأخرت العين، فسقطت الألف، كما سقطت في رمت ﴿فَكَذَّبْتَ بِهَا﴾؛ أي: قلت: إنها ليست من عند الله تعالى ﴿وَاسْتَكْبَرْتَ﴾؛ أي: تعظمت عن الإيمان بها ﴿وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ والجاحدين بها.
والمعنى (١): أي إنه لا فائدة في شيء من تلك المقالات، فقد جاءتك آياتي في الدنيا على لسان رسولي الذي أرسلته إليك، وفي كتابي الذي يتلوه عليك، ويذكّرك بما فيه من وعد ووعيد، وتبشير وإنذار، فكذبت بها واستكبرت عن قبولها، وكنت ممن يعمل عمل الكافرين، ويستنّ بسنّتهم، ويتّبع مناهجهم.
وفي "التأويلات النجمية": ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي﴾ من الأنبياء ومعجزاتهم، والكتب وحكمها ومواعظها وأسرارها وحقائقها ودقائقها وإشاراتها ﴿فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ﴾ عن اتباعها، والقيام بشرائطها ﴿وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: كافري النعمة، بما أنعم الله به عليك من نعمة وجود الأنبياء، وإنزال الكتب، وإظهار المعجزات.
٦٠ - ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لرب العالمين ﴿تَرَى﴾ وتبصر أو تعلم يا محمد ﴿الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه، كاتخاذ الولد والصاحبة والشريك حال كونهم ﴿وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ لما أحاط بهم من العذاب، وشاهدوه من غضب الله ونقمته، وقوله: ﴿وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: حال (٢) قد اكتفي فيها بالضمير عن الواو، على أن الرؤية بصرية، أو مفعول ثان لها على أنها
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
عرفانية.
والمعنى: تراهم يا محمد، أو أيها المخاطب حال كونهم مسودّي الوجوه، أو تراهم مسودّي الوجوه بما ينالهم من الشدة، أو بما يتخيّل من ظلمة الجهل والكفر سوادًا مخالفًا لسائر أنواع السواد، هو سواد يدل على الجهل بالله، والكفر به، والكذب عليه.
وقرىء ﴿وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ بنصبهما فـ ﴿وُجُوهُهُمْ﴾: بدل بعض من كل، وقرأ أبي: ﴿أجوههم﴾ بإبدال الواو همزة.
وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن يوم القيامة تكون الوجوه بلون القلب، فالقلوب الكاذبة لما كانت مسودة بسواد الكذب، وظلمة الكفر.. تلونت وجوههم بلون القلوب. انتهى.
والاستفهام في قوله: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى﴾؛ أي: مقام ومنزل، ﴿لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ عن الإيمان والطاعة، للتقرير؛ أي: لهم مقام ومنزل في نار جهنم، خالدين مخلدين فيها أبد الآباد، وهو إشارة إلى قوله: ﴿وَاسْتَكْبَرْتَ﴾. والكبر: هو بطر الحق، وغمط الناس، كما ثبت في الحديث الصحيح.
ومعنى الآية (١): أي وترى أيها الرسول يوم القيامة وجوه الذين كذبوا على الله، فزعموا أن له ولدًا، وأن له شريكًا، وعبدوا آلهةً من دونه، مجللةً بالسواد، لما أحاط بها من الكآبة والحزن الذي علاها، والغم الذي لحقها.
ثم علل هذا وأكده بقوله: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾؛ أي: أليست النار كافيةً لهم سجنًا وموئلًا، ولهم فيا الخزي والهوان بسبب تكبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق، وعن عبد الله بن عمرو عن النبي - ﷺ -: "يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذر، يلحقهم الصغار، حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم".
٦١ - ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى من عذاب جهنم ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الشرك والمعاصي حال كونهم متلبسين ﴿بِمَفَازَتِهِمْ﴾ وظفرهم بالمطلوب الذي هو النعيم المقيم، والمفازة (٢): مصدر ميمي بمعنى الفوز، كما سيأتي، والفوز: الظفر
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
64
بالمطلوب مع السلامة من المكروه، و ﴿الباء﴾: متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول، مفيدة لمفازة تنجيتهم من العذاب لنيل الثواب؛ أي: ينجيهم الله سبحانه من مثوى المتكبرين، حال كونهم متلبسين بفوزهم بمطلوبهم الذي هو الجنة.
وروي عن النبي - ﷺ - تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "يحشر الله مع كل امرىءٍ عمله، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب ريح، فكلما كان رعب أو خوف.. قال له: لا ترع، فما أنت بالمراد به، ولا أنت المعني به، فإذا كثر ذلك عليه.. قال: فما أحسنك، فمن أنت؟ فيقول: أما تعرفني، أنا عملك الصالح، حملتني على ثقلي، فوالله لأحملنك ولأدفعنّ عنك، فهي التي قال الله: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)﴾.
ثم بين هذه المفازة بقوله: ﴿لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والجملة: حال أخرى من الموصول، مفيدة لكون نجاتهم وفوزهم بالجنة غير مسبوقة بمساس العذاب والحزن؛ أي: ينجيهم الله سبحانه من مثوى المتكبرين، حال كونهم متلبسين بفوزهم بمطلوبهم الذي هو الجنة، وحالة كونهم غير مسبوقين بمساس السوء والعذاب في أبدانهم، وبمساس الحزن والغمّ في قلوبهم أي: لا يمسهم (١) أذى جهنم، ولا يحزنون على ما فاتهم من مآب الدنيا، إذ هم قد صاروا إلى ما هو خير منه؛ نعيم مقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار، ورضوان من الله أكبر.
وخلاصة ذلك: أنهم أمِنوا من كل فزع، وبعدوا من كل شرّ، وفازوا بكل خير ومسرة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿بِمَفَازَتِهِمْ﴾ على الإفراد، والسلمي والحسن والأعرج والأعمش وحمزة والكسائي وأبو بكر: على الجمع، من حيث إن النجاة أنواع والأسباب مختلفة، وقال أبو علي: المصادر تجمع إذا اختلفت أجناسها، كقوله تعالى: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾، وقال الفراء: كلا القراءتين صواب، تقول قد تبين أمر الناس، وأمور الناس.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
65
٦٢ - ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ومبدع كل مخلوق من خير وشر، وإيمان وكفر، لكن لا بالجبر، بل بمباشرة الكاسب لأسبابها.
قال في "التأويلات النجمية": دخل أفعال العباد وأكسابهم في هذه الجملة، ولا يدخل هو وكلامه فيها؛ لأن المخاطب لا يدخل تحت الخطاب، ولأنه تعالى يخلق الأشياء بكلامه، وهو كلمة ﴿كن﴾ الموجودة في الدنيا والآخرة، كائنًا ما كان، من غير فرق بين شيء وشيء.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ يتولى التصرف فيه كيفما يشاء؛ أي: الأشياء كلها موكولة إليه تعالى، فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير مشارك له، والوكيل (١): هو القائم على الأمر، الزعيم بإكماله، والله تعالى هو المستكفل بمصالح عباده، والكافي لهم في كل أمر، ومن عرف أنه الوكيل.. اكتفى به في كل أمره، فلم يدبر معه، ولم يعتمد إلا عليه.
وخاصية هذا الاسم: نفي الجوائح والمصائب، فمن خاف ريحًا أو صاعقة أو نحوهما فليكثر من ذكره، فإنه يصرف عنه، ويفتح له أبواب الخير والرزق.
والمعنى: أي وهو سبحانه القائم على كل الأشياء، يتولاها بحراسته وحفظه بحسب ما تقتضيه المصلحة، فهي محتاجة إليه في بقائها، كما هي محتاجة إليه في وجودها.
٦٣ - ثم فصل ذلك بعض التفصيل، فقال: ﴿لَهُ﴾ سبحانه وحده لا لغيره ﴿مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ جمع مقليد، أو مقلاد، كما سيأتي. وهو المفتاح؛ أي: له تعالى وحده مفاتيح خزائن العالم العلوي والسفلي، لا يتمكن من التصرف فيها غيره؛ أي: هو حافظ الخزائن ومدبّرها ومالك مفاتيحها، فله التصرف في كل شيء مخزون فيها.
والخلاصة: هو القادر عليهما، والحافظ لهما.
وقال قتادة ومقاتل: له مفاتيح السموات والأرض، بالرزق والرحمة، وقال الكلبي: له خزائن السموات بالمطر، وخزائن الأرض بالنبات، وروي أنه سأل
(١) روح البيان.
عثمان - رضي الله عنه - رسول الله - ﷺ - عن تفسير قوله تعالى: ﴿مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، فقال: "يا عثمان، ما سألني عنها أحد قبلك، مقاليد السموات والأرض: "لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير".
والمعنى على هذا: إن لِلَّه هذه الكلمات، يوحد بها ويمجد بها، وهي مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلم بها.. أصابَهُ خيرهما، أخرجه أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ - سبحانه - التنزيلية والتكوينية، المنصوبة في الآفاق والأنفس، الناطقة بكونه تعالى خالقًا للأشياء كلها، وكونه مالكًا مقاليد السموات والأرض بأسرها. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ خسرانًا (١) لا خسران وراءه؛ لأنهم اختاروا العقوبة على الثواب، وفتحوا أبواب نفوسهم بمفتاح الكفر والنفاق، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا ممن ربحت تجارته، لا ممن خسرت صفقته.
قال البيضاوي (٢): وهذا كلام متصل بقوله: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ وما بينهما: اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد، مطلع على أفعالهم، مجاز عليها، وتغيير النظم للأشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل الله، وفي هلاك الكافرين بأن خسروا أنفسهم، وللتصريح بالوعد، والتعريض بالوعيد قضية للكرم، أو بما يليه، والمراد بآيات الله، دلائل قدرته واستبداده بأمر السموات والأرض، أو كلمات توحيده وتمجيده، وتخصيص الخسار بهم؛ لأن غيرهم ذو حظ من الرحمة والثواب. انتهى.
٦٤ - والهمزة في قوله: ﴿قُلْ﴾ أيها الرسول ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ للاستفهام الإنكاري (٣) التوبيخي، داخلة على محذوف، كنظائره فيما سبق، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على المحذوف، و ﴿غَيْرَ اللَّهِ﴾: منصوب بـ ﴿أَعْبُدُ﴾، و ﴿أَعْبُدُ﴾: معمول لـ ﴿تَأْمُرُونِّي﴾ على تقدير أن المصدرية، فلما حذفت.. بطل عملها،
(١) روح البيان.
(٢) البيضاوي.
(٣) الشوكاني.
67
والتقدير: قل يا محمد لمشركي قومك، الداعين لك إلى عبادة الأصنام، القائلين لك: هو دين آبائك: أتدعونني إلى عبادة الأصنام بعد مشاهدة هذه الآيات، وتأمرونني أن أعبد غير الله أيها الجاهلون، ويجوز أن يكون ﴿غير﴾ منصوبًا بفعل مقدر؛ أي: فتلزمونني غير الله؛ أي: عبادة غير الله، أو أعبد غير الله أعبد، ويجوز أن يكون ﴿غير﴾ منصوبًا بـ ﴿تَأْمُرُونِّي﴾، و ﴿أَعْبُدُ﴾ بدل اشتمال منه، وأن مضمرة معه أيضًا، أمره الله سبحانه أن يقول هذا للكفار، لما دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام، وقالوا: هو دين آبائك.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تَأْمُرُونِّي﴾ بإدغام النون في نون الوقاية، وسكون الياء وفتحها ابن كثير، وقرأ ابن عامر: ﴿تأمرونني﴾ بنونين على الأصل. ونافع: ﴿تأمروني﴾ بنون واحدة مكسورة وفتح الياء، قال ابن عطية: وهذا على حذف النون الواحدة، وهي الموطئة لياء المتكلم، ولا يجوز حذف النون الأولى، وهو لحن؛ لأنها علامة رفع الفعل. انتهى. وفي المسألة خلاف: منهم من يقول: المحذوفة نون الرفع، ومنهم من يقول: نون الوقاية، وليس بلحن؛ لأن التركيب متفق عليه. والخلاف جرى في أيهما حذف، ونختار أنها نون الرفع، ولما كان الأمر بعبادة غير الله لا يصدر إلا من غبي جاهل.. ناداهم بالوصف المقتضي ذلك، فقال: ﴿أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾.
والمعنى (٢): أي قل أيها الرسول الكريم لمشركي قومك، الداعين لك إلى عبادة الأصنام، والقائلين لك: هو دين آبائك: أفتأمروني أيها الجاهلون بعد مشاهدتي الآيات الدالة على تفرده سبحانه وتعالى بالألوهية، أن أعبد غيره، والعبادة لا تصلح لشيء سواه.
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن قريشًا دعت رسول الله - ﷺ - أن يعطوه مالًا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطَؤُوون عقبه؛ أي: يغطون دعوته ويزيلونها، وقالوا: هذا لك يا محمد، وتكف عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، قال: حتى انظر ما يأتيني من ربي، فنزل: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ إلى آخر السورة، ونزل: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي﴾.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
68
إلى قوله: ﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾. وعنه أيضًا: أن المشركين من جهلهم، دعوا رسول الله - ﷺ - إلى عبادة آلهتهم، وهم يعبدون معه إلهه.
٦٥ - ثم بين أنه حذّر وأنذر عباده من الشرك، بلسان جميع الأنبياء، فقال: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ أيها الرسول ﴿وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ أي: من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام.
﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾ فرضًا، وإفراد (١) الخطاب، باعتبار كل واحد من الأنبياء، كأنه قيل: أوحي إليك وإلى كل واحد من الأنبياء هذا الكلام، وهو: لئن أشركت ﴿لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾؛ أي: ليبطلن ثواب عملك، وإن كنت كريمًا علي. ﴿وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ في صفقتك، بسبب حبوط عملك، و ﴿اللام﴾: الأولى: موطئة للقسم، والأخريان: للجواب، وهو كلام وارد على طريقة الفرض، لتهِييج الرسل، وإقناط الكفرة، والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه، وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره، فكيف بمن عداه؟! وعطف الخسران على الحبوط من عطف المسبب على السبب، قال التفتازاني: فالمخاطب هو النبي - ﷺ -، وعدم إشراكِه مقطوع به، لكن جيء بلفظ الماضي إبرازًا للإشراك في معرض الحاصل على سبيل الفرض والتقدير، تعريضًا لمن صدر عنهم الإشراك، بأنه قد حبطت أعمالهم، وكانوا من الخاسرين.
وقال في "كشف الأسرار": هذا خطاب مع الرسول - ﷺ -، والمراد به غيره، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: هذا أدب من الله لنبيه - ﷺ -، وتهديد لغيره؛ لأن الله تعالى قد عصمه من الشرك، ومداهنة الكفار، قال في "فتح الرحمن": إن قلت: كيف قال ذلك مع أن الموحى إليهم جمع، ولما أوحى إلى من قبله لم يكن في الوحي إليهم خطابه؟. قلت: معناه: ولقد أوحي إلى كل واحد منك ومنهم: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾، أو فيه إضمار نائب الفاعل، تقديره: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك التوحيد، ثم ابتدأ فقال: و ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾، أو فيه تقديم وتأخير، تقديره: ولقد أوحي إليك: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾ وكذلك أوحي إلى الذين من قبلك اهـ "فتح الرحمن".
(١) روح البيان.
وقال الشوكاني: هذا الكلام (١) من باب التعريض لغير الرسل؛ لأن الله سبحانه قد عصمهم من الشرك، ووجه إيراده على هذا الوجه: التحذير والإنذار للعباد من الشرك؛ لأنه إذا كان موجبًا لإحباط عمل الأنبياء على الفرض والتقدير.. فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق الأولى، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولقد أوحي إليك: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾ وأوحي إلى الذين من قبلك كذلك، قال مقاتل؛ أي: أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد، والتوحيد: محذوف، ثم قال: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾ يا محمد ﴿لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾، وهو خطاب للنبي - ﷺ - خاصة. انتهى.
وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن الإنسان ولو كان نبيًا، لئن وكل إلى نفسه.. ليفتحن بمفتاح الشرك والرياء أبواب خزائن قهر الله على نفسه، وليحبطن عمله، بأن يلاحظ غير الله بنظر المحبة، ويثبت معه في الإبداع سواه.
ومعنى الآية (٢): أي ولقد نزل عليك الوحي من ربك، بأنه إذا حصل منك إشراك به، بعبادة صنم أو وثن.. ليبطلنّ كل عمل لك من أعمال الخير، كصلة رحم وبر ببائس فقير، ولا تنالنَّ به ثوابًا ولا جزاءً، ولتكونن ممن خسروا حظوظهم في الدنيا والآخرة، وأوحي إلى الرسل من قبلك بمثل هذا.
وقرأ الجمهور: ﴿لَيَحْبَطَنَّ﴾ بالبناء للفاعل ﴿عَمَلُكَ﴾ رفع به، وقرىء: ﴿لُيحبِطن﴾ بضم الياء من أحبط علمه ﴿عملَك﴾ بالنصب؛ أي: ليحبطن الله عملك، أو الإشراك عملك، وقرىء ﴿لنُحبطن﴾ بالنون ﴿عملك﴾ بالنصب، فاحذر أن تشرك بالله شيئًا، فتهلك، وهذا كلام سيق على سبيل الفرض والتقدير، لتهييج المخاطب المعصوم، وللإيذان بشناعة الإشراك وقبحه، حتى لينهى عنه من لا يكاد يفعله، فكيف بغيره؟ والحكم بحبوط عمل المشرك في الآخرة، مقيّد بما إذا مات وهو كذلك، بدليل قوله في الآية الأخرى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾.
٦٦ - ثم رد عليهم ما أمروه به من عبادة الأصنام، وأمره بعبادته وحده، فقال: {بَلِ
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
اللَّهَ فَاعْبُدْ} و ﴿الفاء﴾ فيه واقعة في جواب الشرط المحذوف، تقديره؛ لا تعبد ما أمرك الكفار بعبادته، بل إن عبدت فاعبد الله دون ما سواه من الأنداد والأوثان، فحذف الشرط، وأقيم المفعول مقامه، ووجه الرد: ما يفيده التقديم من القصر، قال الزجاج: و ﴿الفاء﴾ في ﴿فَاعْبُدْ﴾ للمجازاة، وقال الأخفش: زائدة، وقال عطاء ومقاتل: معنى ﴿فَاعْبُدْ﴾: وحد؛ لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده. ﴿وَكُنْ﴾ يا محمد ﴿مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ ربك على إنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والعبادة والدعاء إلى دينه، وكذا النبوة والرسالة الحاصلتان بفضله وكرمه، لا بسعيك وعملك.
وقرأ عيسى: ﴿بل اللهُ﴾ بالرفع، والجمهور: بالنصب.
واعلم: أن الشكر على ثلاث درجات (١):
الأولى: الشكر على المحابِّ، وقد شاركت المسلمين في هذا الشكر اليهود والنصارى والمجوس.
والثانية: الشكر على المكارهِ، وهذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره.
والثالثة: أن لا يشهد غير المنعم، فلا يشهد النعمة ولا الشدة، وهذا الشهود والتلذذ به أعلى اللذات؛ لأنه في مقام السر، فالعاقل يجتهد في الإقبال على الله والتوجه إليه، من غير التفات إلى يمين وشمال.
٦٧ - ثم أكد ما سلف بقوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾؛ أي: ما عظموه سبحانه وتعالى حق تعظيمه، حيث جعلوا له شريكًا، وأمروا رسوله - ﷺ - بأن يكون مثلهم في الشرك، قال أبو حيان؛ أي: ما عظموه حق تعظيمه، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره؛ إذ أشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدره، ولما (٢) كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته، وقدّره في نفسه حق تقديره، وعظمه حق تعظيمه. قيل: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾.
(١) روح البيان.
(٢) النسفي.
71
وقرأ الأعمش (١): ﴿حق قدَره﴾ بفتح الدال، وقرأ الحسن وعيسى وأبو نوفل وأبو حيوة: ﴿وما قدَّروا﴾ بتشديد الدال، ﴿حق قدره﴾ بفتح الدال؛ أي: ما عظموه حقيقة تعظيمه، والضمير في ﴿قَدَرُوا﴾: قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: إلى كفار قريش، كانت هذه الآية كلها محاورةً لهم، وردًّا عليهم، وقيل: نزلت في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله وجلاله، فألحدوا وجسموا، وجاؤوا بكل تخليط.
روى البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - ﷺ -، فقال: يا محمد: إنا نجد في كتابنا أن الله عَزَّ وَجَلَّ يجعل السموات على إِصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله - ﷺ - حتى بدت نواجذه لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله - ﷺ -: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ الآية.
وأخرج الشيخان والنسائي وابن ماجه في جماعة آخرين عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: أن رسول الله - ﷺ -: قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ وهو يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله - ﷺ - المنبر، حتى قلنا: ليَخِرَّنَّ به.
وفي "التأويلات النجمية" (٢): ما عرفوا الله حق معرفته، وما وصفوه حق وصفه، وما عظموه حق تعظيمه، فمن وصفه بتمثيل أو جنح إلى تعطيل. فقد حاد عن الألسنة المثلى، وانحرف عن الطريقة الحسنى، وصفوا الحق بالأعضاء، وتوهموا في نعته الأجزاء، فـ ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾. انتهى.
ثم نبههم سبحانه على عظمته وجلالة شأنه، فقال: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا﴾: حال لفظًا، وتأكيد معنى، ولذا قال أهل التفسير: تأكيد الأرض بالجميع؛ لأن المراد بها الأرضون السبع، أو جميع أبعاضها البادية والغائرة؛ أي: الظاهرة وغير
(١) البحر المحيط.
(٢) التأويلات النجمية.
72
الظاهرة من باطنها وظاهرها ووسطها، وقوله: ﴿وَالْأَرْضُ﴾: مبتدأ، خبره، قوله: ﴿قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ والجملة الاسمية: حال من لفظ الجلالة في قوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ﴾؛ أي: ما قدروا الله وعظموه حق قدره وعظمته؛ أي: ما عظموه التعظيم اللائق به تعالى، حيث عبدوا معه غيره، حالة كون جميع الأرض مقبوضة، ومملوكة يوم القيامة؛ أي: في ملكه (١) وتصرّفه من غير منازع، يتصرف فيها تصرف الملاك في ملكهم، وأنها؛ أي: جميع الأرضين، وإن عظمن.. فما هنّ بالنسبة إلى قدرته تعالى، إلا قبضة واحدة، ففيه تنبيه على غاية عظمته، وكمال قدرته، وحقارة الأفعال العظام بالنسبة إلى قدرته، ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل، من غير اعتبار القبضة حقيقةً ولا مجازًا على ما في "الإرشاد" ونحوه.
وقيل: القبضة (٢) المرة من القبض بالكف، والكلام حينئذ على حذف مضاف.
والمعنى: والأرضون جميعًا قبضته؛ أي: ذوات قبضته يقبضهنّ قبضة واحدة؛ يعني أن الأرضين مع عظمهن وبسطهنّ، لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة واحدة بكف واحد، وإذا أريد معنى القبضة فظاهر؛ لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة؛ أي: ما عظموه حق تعظيمه، والحال أنه متصف بهذه الصفة، الدالة على كمال القدرة، التي هي غاية العظمة والجلال، فالأرض مع سعتها وبسطها في قبضة الرحمن يوم القيامة.
وقرأ الجمهور: برفع ﴿قَبْضَتُهُ﴾ على أنها خبر المبتدأ، وقرأ الحسن: بنصبها، ووجهه ابن خالويه بأنه على الظرفية؛ أي في قبضته، وقدم الأرض لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها، ولما كان في دار الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة دون دار الآخرة فالأمر فيها لله وحده ظاهرًا وباطنًا.. قال ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ اهـ "خطيب".
وفي "القرطبي": إنما خص يوم القيامة بالذكر، وإن كانت قدرته عامة وشاملة لدار الدنيا أيضًا؛ لأن الدعاوى تنقطع ذلك اليوم، كما قال: ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾. انتهى.
(١) روح البيان.
(٢) النسفي.
73
وقوله: ﴿وَالسَّمَاوَاتُ﴾ مبتدأ ﴿مَطْوِيَّاتٌ﴾ خبره ﴿بِيَمِينِهِ﴾ متعلق بـ ﴿مَطْوِيَّاتٌ﴾؛ أي: مجموعات وملفوفات ومدرجات بيمينه تعالى يوم القيامة؛ أي: والسموات على سعتها وعظمها مطويات بيمينه، من طويت الشيء طيًّا؛ أي: أدرجته إدراجًا.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ما السموات السبع والأرضون السبع في يد الله، إلا كخردلة في يد أحدكم.
والمعنى: أن الأرض جميعًا تحت ملكه يوم القيامة، يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يتصرف فيها سواه، والسموات مطويات طي السجل للكتب، بقدرته التي لا يتعاصى معها شيء، وفي هذا رمز إلى أن ما يشركونه معه في الأرض أو في السماء مقهور تحت سلطانه جل شأنه، روى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض".
وقال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته، والسكوت عليه، وقال ابن كثير: وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف.
وقال بعضهم: المعنى: والأرض جميعًا قبضته تعالى، يقبضها بشماله يوم القيامة، والسموات مطويات يطويها بيمينه، بدليل مقابلة السماء بالأرض، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يقبض الله السموات بيمينه، والأرضين بيده الأخرى، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أين ملوك الأرض". وفيه إشعار بطلاق اسم الشمال على اليد الأخرى، وهما صفتان ثابتتان لله تعالى، نثبتهما ونعتقدهما بلا تكييف ولا تمثيل، وخص يوم القيامة بالذكر، وإن كانت قدرته شاملة؛ لأن الدعاوى تنقطع فيه، كما قال تعالى: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ كما مر. وقرأ الجمهور (١): ﴿مَطْوِيَّاتٌ﴾ بالرفع، على أنها خبر المبتدأ، والجملة في محل نصب على الحال، كالتي قبلها، وقرأ عيسى والجحدري؛ بنصب ﴿مطويات﴾،
(١) البحر المحيط.
74
ووجه ذلك: أن ﴿السموات﴾ معطوفة على ﴿وَالْأَرْضُ﴾، وتكون ﴿قَبْضَتُهُ﴾ خبرًا عن ﴿الأرضُ﴾ ﴿وَالسَّمَاوَاتُ﴾ وتكون ﴿مَطْوِيَّاتٌ﴾ حالًا أو تكون ﴿مطويات﴾ منصوبة بفعل مقدر، و ﴿بِيَمِينِهِ﴾ الخبر.
ثم نزه سبحانه نفسه فقال: ﴿سُبْحَانَهُ﴾؛ أي: تنزيهًا له تعالى عن كل ما ينسبونه إليه من الصاحبة والولد، ﴿وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾؛ أي: وترفع عن شركة ما يشركونه به من المعبودات التي يعبدونها ويجعلونها شركاء له، مع هذه القدرة العظيمة، والحكمة الباهرة، أي: ما أبعد وما أعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم، أو عما يشركونه به من الشركاء، فما على الأول مصدرية، وعلى الثاني موصولة.
٦٨ - ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾؛ أي: نفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، التي هي للإماتة، فالمراد بها: النخفة الأولى، بقرينة النفخة الآتية، التي هي للبعث، والنفخ: نفخ الريح في الشيء، يقال: نفخ بفمه: أخرج منه الريح.
والنفخ في القرآن على خمسة أوجه (١):
الأول: نفخ جبرائيل عليه السلام في حبيب مريم عليها السلام، كما قال تعالى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾؛ أي: نفخ جبرائيل في الجيب بأمرنا، فسبحان من أحبل رحم امرأة، وأوجد فيها ولدًا بنفخ جبرائيل.
والثاني: نفخ عيسى عليه السلام في الطين، كما قال تعالى: ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وهو الخفاش، فسبحان من حول الطين طيرًا بنفخ عيسى عليه السلام.
والثالث: نفخ الله تعالى في طين آدم عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾؛ أي: أمرت الروح بالدخول فيه، والتعلق به، فسبحان من أنطق لحمًا، وأبصر شحمًا، وأسمع عظمًا، وأحيا جسدًا بروح منه.
والرابع: نفخ ذي القرنين الحديد في النار، كما قال تعالى حكاية عنه: ﴿قَالَ انْفُخُوا﴾ الآية، فسبحان من حول قطعة حديد نارًا بنفخ ذي القرنين.
(١) روح البيان.
75
والخامس: نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور، كما قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ فسبحان من أخرج الأرواح من الأبدان بنفخ واحد، كما يطفأ السراج بنفخ واحد، وتوقد النار بنفخ واحد، وسبحان من ردّ الأرواح إلى الأبدان بنفخ واحد، وهذا كله دليل على قدرته التامة العامة.
والصور: قرن من نور، ألقمه الله تعالى إسرافيل، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى، وله جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، والعرش على كاهله، وإن قدميه قد خرجتا من الأرض السفلى، حتى بعدتا عنها مسيرة مائة عام، على ما رواه وهب، وعظم دائرة القرن، مثل ما بين السماء والأرض، وفي "الدرة الفاخرة" للإمام الغزالي: الصور: قرن من نور، له أربع عشرة دائرة، الدائرة الواحدة كاستدارة السماء والاْرض، فيه ثقب بعدد أرواح الخلائق، وباقي ما يتعلق بالنفخ والصور قد سبق في سورة الكهف والنمل، فارجع.
وقرأ الجمهور (١): الصور، بسكون الواو، وقرأ قتادة وزيد بن علي: بفتحها، جمع صورة، قال ابن عطية: والصور هنا: القرن، ولا يتصور هنا غير هذا المعنى، ومن يقول: الصور: جمع صورة، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث، انتهى.
﴿فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: خرَّ (٢) وسقط ومات جميع من في السموات السبع، وجميع من في الأرضين السبعة؛ أي: خروا أمواتًا من الفزع وشدة الصوت.
وقرىء: ﴿فصُعق﴾ بضم الصاد، والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ متصل وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، فإنهم يموتون من بعد، قال السدي: وضم بعضهم إليهم ثمانية من حملة العرش، فيكون المجموع اثني عشر ملكًا، وآخرهم موتًا ملك الموت، وروى النقاش: أنه جبريل، كما جاء في الخبر: "إن الله تعالى يقول حينئذ: يا ملك الموت، خذ نفس إسرافيل، ثم يقول من بقي، فيقول: بقي جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول خذ نفس ميكائيل، حتى يبقى ملك الموت وجبرائيل، فيقول تعالى: مت يا ملك الموت، فيموت، ثم
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
76
يقول يا جبرائيل من بقي، فيقول: تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، وجهك الدائم الباقي وجبرائيل الميت الفاني، فيقول: يا جبرائيل لا بد من موتك، فيقع ساجدًا يخفق بجناحيه، فيموت، فلا يبقى في الملك والملكوت حي من إنس وجن، وملك وغيرهم، إلا الله الواحد القهار".
وقال بعض المفسرين: المستثنى الحور والولدان وخزنة الجنة والنار وما فيهما؛ لأنهما وما فيهما خلقًا للبقاء، والموت لقهر المكلّفين، ونقلهم من دار إلى دار، ولا تكليف على أهل الجنة، فتركوا على حالهم بلا موت، وهذا الخطاب بالصعق: متعلق بعالم الدنيا، والجنة والنار عالمان بانفرادهما، خلقا للبقاء، فهما بمعزل عما خلق للفناء، فلم يدخل أهلهما في الآية، فتكون آية الاستثناء مفسرة لقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه﴾ و ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ وغيرهما من الآيات، فلا تناقض. انتهى.
قلت: وليس في القرآن ولا في صحيح الأخبار ما يدل على تعيين من استثناهم الله تعالى من الصعق والفزع، ومن ثم قال قتادة: لا ندري من هم.
فإن قلت (١): فما الفرق بين الصعق الذي في هذه الآية، وبين الفزع الذي في آية النمل، وهي قوله تعالى ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾؟
قلت: لا شك أن الصعق بمعنى الموت غير الفزع، وكذا بمعنى الغشي، إذ ليس كل من له فزع مغشيًا عليه، هذا ما تيسر لي في هذا المقام، والله أعلم باسرار كتابه.
﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ﴾؛ أي: في الصور نفخة ﴿أُخْرَى﴾؛ أي: غير الأولى، وهي النفخة الثانية، وهي نفخة البعث، ﴿فَإِذَا هُمْ﴾؛ أي: جميع الخلائق ﴿قِيَامٌ﴾ جمع قائم؛ أي (٢): قائمون من قبورهم على أرجلهم أو متوقفون، فالقيام بمعنى الوقوف والجمود في مكانهم لتحيرهم ﴿يَنْظُرُونَ﴾؛ أي يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ماذا يُفعلُ بهم وقيل: ينظرون إلى السماء، كيف غيرت،
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
77
وإلى الأرض كيف بدلت، وإلى الداعي كيف يدعوهم إلى الحساب، وإلى الآباء والأمهات كيف ذهبت شفقتهم عنهم، واشتغلوا بأنفسهم، وإلى خصمائهم ماذا يفعلون بهم.
وقرأ الجمهور: ﴿قِيَامٌ﴾ بالرفع على أنه خبر و ﴿يَنْظُرُونَ﴾، في محل النصب على الحال وقرأ زيد بن علي بالنصب على أنه حال، والخبر ﴿يَنْظُرُونَ﴾ والعامل في الحال ما عمل في ﴿إِذَا﴾ الفجائية، قال الكسائي: كما تقول: خرجت فإذا زيد جالسًا.
قال في "المدارك" (١): دلت الآية على أن النفخة اثنتان، الأولى: للموت والثانية: للبعث، والجمهور على أنها ثلاث، الأولى للفزع، كما قال: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ﴾، والثانية: للموت، والثالثة: للإعادة، انتهى. فإن كانت النفخة اثنتين يكون معنى ﴿فَصَعِقَ﴾: خروا أمواتًا، وإن كانت ثلاثًا يكون معناه: مغشيًا عليهم، فتكون هذه النفخة؛ أي: الثالثة بعد نفخة الإحياء يوم القيامة، كما ذهب إليه البعض، هذا والذي (٢) يظهر من "خريدة العجائب" أن نفخة الفزع هي أول النفخات، فإنه إذا وقعت أشراط الساعة، ومضت.. أمر الله صاحب الصور أن ينفخ نفخة الفزع، ويديمها ويطولها فلا يبرح كذا عامًا يزداد الصوت كل يوم شدةً، فيفزع الخلائق، وينحازون إلى أمهات الأمصار، وتعطل الرعاة السوائم، وتأتي الوحوش والسباع، وهي مذعورة من هول الصيحة، فتختلط بالناس، ويؤول الأمر إلى تغير الأرض والسماء عما هما عليه، وبين نفخة الفزع والنفخة الثانية أربعون سنة، ثم تقع النفخة الثانية والثالثة، وبينهما أربعون سنة، أو شهرًا أو يومًا أو ساعة.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ما بين النفختين أربعون، قالوا: أربعون يومًا" قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون شهرًا، قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون سنةً، قال: أبيت، ثم ينزل من السماء ماء فينبتون، كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظم واحد، وهو عجيب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة، متفق عليه.
(١) النسفي.
(٢) روح البيان.
78
قال الإِمام الغزالي - رحمه الله -: اختلف الناس في أمد المدة التي بين النفختين، فاستقر جمهورهم على أنها أربعون سنة، وحدّثني من لا أشك في علمه: أن أمد ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لأنه من أسرار الربوبية، فإذا أراد الله إحياء الخلق يفتح خزانة من خزائن العرش، فيها بحر الحياة، فتمطر به الأرض، فإذا هو كمنيّ الرجال، بعد أن كانت عطشى فتحيى وتهتز، ولا يزال المطر عليها حتى يعمها، ويكون الماء فوقها أربعين ذراعًا، فإذا الأجسام تنبت من عجيب الذنب، وهو أول ما يخلق من الإنسان، بدىء منه، ومنه يعود، وهو عظم على قدر الحمصة، وليس له مخ، فإذا نبت كما نبت البقل.. تشتبك بعضها في بعض، فإذا رأس هذا على منكب هذا، ويد هذا على جنب هذا، وفخذ هذا على حجر، هذا لكثرة البشر، والصبي صبي والكهل كهل، والشيخ شيخ، والشاب شابّ، ثم تهب ريح من تحت العرش، فيها نار، فتنسف ذلك عن الأرض وتبقى الأرض بارزة مستوية، كأنها صحيفة واحدة، ثم يحيي الله سبحانه إسرافيل، فينفخ في الصور من صخرة بيت المقدس، فتخرج الأرواح لها دوي كدوي النحل، فتملأ الخافقين، ثم تذهب كل نفس إلى جثتها بإعلام الله تعالى، حتى الوحش والطير وكل ذي روح، فإذا الكل قيام ينظرون، ثم يفعل بهم ما يشاء سبحانه وتعالى.
قلت: ولكن ليس فيما نقلنا من ذلك نص صريح، ولا حديث صحيح، كأنه من الإسرائيليات. والله أعلم.
٦٩ - ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ﴾؛ أي: صارت عَرجَات القيامة مشرقةً ومضيئةً، وذلك حين ينزل الله إلى كرسيه لفصل القضاء بين عباده؛ أي: أضاءت إضاءةً عظيمةً، حتى تميل إلى الحمرة، والمراد بالأرض: الأرض الجديدة التي يوجدها الله تعالى ذلك الوقت، ليحشر الناس عليها، وليس المراد بها أرض الدنيا؛ لقوله: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ﴾ ﴿بِنُورِ رَبِّهَا﴾؛ أي: عدل ربها؛ أي: بما أقام فيها من العدل، استعير له النور؛ لأنه يزين البقاع، ويظهر الحقوق، كما يسمى الظلم ظلمةً، وفي الحديث: "الظلم ظلمات يوم القيامة" يعني شدائده؛ يعني الظلم سبب لشدائد صاحبه، ولكون المراد بالنور العدل، أضيف الاسم الجليل إلى ضمير الأرض، فإن تلك الإضافة إنما تحسن إذا أريد به تزين الأرض بما ينشر فيها من الحكم والعدل، أو المعنى: أشرقت بنورٍ خلقه الله في الأرض يوم القيامة، بلا توسط أجسام مضيئة، كما في
79
الدنيا، يعني: يشرق بذلك النور وجه الأرض المبدلة، بلا شمس ولا قمر ولا غيرهما من الأجرام المنيرة، ولكون المعنى ذلك أضيف النور إلى الاسم الجليل، وفي الحديث الصحيح: "يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس بها علم أحد".
قرأ الجمهور: ﴿أشرقت﴾ مبنيًا للفاعل؛ أي: أضاءت، وقرأ ابن عباس وأبو الجوزاء وعبيد بن عمير: على البناء للمفعول، من شرقت بالضوء: تشرق إذا امتلأت به.
﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾؛ أي: وضع الكتاب للحساب والجزاء، من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال في الأيمان والشمائل، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله، واكتفي باسم الجنس عن الجمع، إذ لكل أحد كتاب على حدة، وقيل: المعنى: وضع الكتاب في الأرض بعدما كان في السماء، قال بعضهم: هذا على إطلاقه غير صحيح؛ لأن كتاب الأبرار في عليين، وكتاب الفجار في سجين، فالذي في السماء يوضع في الأرض حتى اللوح المحفوظ، وأما ما في الأرض فعلى حاله.
﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ﴾؛ أي: جيء بهم إلى الموقف، فسئلوا عمّا أجابتهم به أممهم، ﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾ الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد - ﷺ -، كما في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ وقيل: الشهداء للأمم، وعليهم من الحفظة والمؤمنين، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١)﴾ وقيل: المراد بالشهداء: الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله تعالى، وفيه (١) إشارة إلى أن النبيين والشهداء إذا دعوا للقضاء والحكومة والمحاسبة فكيف يكون حال الأمم، وأهل المعاصي والذنوب.
﴿وَقُضِيَ﴾؛ أي: حكم ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين العباد ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالعدل ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم لا ينقصون من ثوابهم، ولا يزاد على ما يستحقونه من عقابهم؛ أي: لا يظلمون بنقص ثواب، وزيادة عقاب على ما جرى به
(١) روح البيان.
80
الوعد والوعيد،
٧٠ - وكما فتح الآية بإثبات العدل.. ختمها بنفي الظلم، فقال ﴿وَوُفِّيَتْ﴾؛ أي: وفرت وأعطيت ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النفوس المكلفة ﴿مَا عَمِلَتْ﴾؛ أي: جزاء ما عملت من الخير والشر، والطاعة والمعصية. ﴿وَهُوَ﴾ تعالى ﴿أَعْلَمُ﴾ منهم ومن الشهداء ﴿بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ في الدنيا، لا يحتاج إلى كاتب ولا حاسب وشاهد، إذ هو خالق الأفعال، فلا يفوته شيء من أفعالهم، وإنما ﴿وضع الكتاب وجيءَ بالنبيين والشهداء﴾؛ لتكميل الحجة، وقطع المعذرة، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إذا كان يوم القيامة.. بدّل الله الأرض غير الأرض، وزاد في عرضها وطولها كذا وكذا، فإذا استقر عليها أقدام الخلائق، برهم وفاجرهم أسمعهم الله تعالى كلامه، يقول: "إن كتابي كانوا يكتبون ما أظهرتم، ولم يكن لهم علم بما أسررتم، فأنا عالم بما أظهرتم وبما أسررتم، ومحاسبكم اليوم على ما أظهرتم وعلى ما أسررتم، ثم أغفر لمن أشاء منكم".
٧١ - ثم ذكر سبحانه تفصيل ما ذكره من توفية كل نفس ما كسبت فقال: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مع إمامهم ومعبوداتهم ﴿إِلَى جَهَنَّمَ﴾ حال كونهم ﴿زُمَرًا﴾؛ أي: جماعة جماعةً متفرقةً بعضها إثر بعض؛ أي: سيقوا إليها بعد إقامة الحساب بأمر يسير من قبلنا، وذلك بالعنف والإهانة، حال كونهم أفواجًا متفرقة بعضها في إثر بعض، مترتبةً حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة، وتتلقاهم جهنم بالعبوسة، كما تلقوا الأوامر والنواهي والآمرين والناهين بمثل ذلك، ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا﴾؛ أي: جاؤوا جهنم وقربوا إليها، و ﴿حَتَّى﴾ هذه (١) هي الابتدائية، التي تبتدِىء الجمل بعدها كما في "أبي السعود"، وجواب ﴿إِذَا﴾ قوله: ﴿فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾؛ أي: فتحت أبواب جهنم السبعة؛ ليدخلوها، كما قال تعالى: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ﴾ وفائدة (٢) إغلاقها إلى وقت مجيئهم: تهويل شأنها، وإيقاد حرّها، قال في "أسئلة الحكم": أهل النار يجدونها مغلقة الأبواب، كما هي حال السجون في الدنيا، فيقفون هنالك، حتى يفتح لهم إهانةً وتوبيخًا.
يقول الفقير: هذا من قبيل العذاب الروحاني، وهو أشد من العذاب الجسماني، فليس وقوفهم عند الأبواب أولى لهم من تعجيل العذاب، يؤيده أن
(١) الارشاد.
(٢) روح البيان.
81
الكافر حين يطول قيامه في شدة وزحمة وهول، يقول: يا رب أرحني ولو كان بالنار، وفيه إشارة إلى الأوصاف الذميمة النفسانية السبعة، وهي الكبر والبخل والحرص والشهوة والحسد والغضب والحقد، فإنها أبواب جهنم، وكل من يدخل فيها لا بدّ له من أن يدخل من باب من أبوابها، فلا بد من تزكيتها وتخلية النفس عنها. ﴿وَقَالَ لَهُمْ﴾؛ أي: للذين كفروا ﴿خَزَنَتُهَا﴾؛ أي: خزنة جهنم وزبانيتها وحرّاسها تقريعًا، وتوبيخًا لهم، وزيادة في الإيلام والتوجيع، واحدها خازن، وهو حافظ الخزانة وما فيها، والمراد: حفظة جهنم وزبانيتها، وهم الملائكة الموكّلون بتعذيب أهلها ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ أيها الكفرة ﴿رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾؛ أي: من جنسكم، آدميون مثلكم؛ ليسهل عليكم مراجعتهم وفهم كلامهم. وقرىء: ﴿نذر﴾، كما في "المراح" ﴿يَتْلُونَ﴾؛ أي: يتلو أولئك الرسل، ويقرؤون ﴿عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ﴾ التي أنزلها عليهم؛ لتبليغها إليكم ﴿وَيُنْذِرُونَكُمْ﴾؛ أي: يخوفونكم ﴿لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾؛ أي: لقاء وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار، لا يوم القيامة، وذلك لأن الإضافة اللامية تفيد الاختصاص، ولا اختصاص ليوم القيامة بالكفار، وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضًا في أوقات الشدة، فلذلك حمل على الوقت.
وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع، من حيث أنهم علّلوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب، فأجابوا بالاعتراف، ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعلّلون به في الدنيا؛ لانكشاف الأمر وظهوره، ولهذا ﴿قَالُوا بَلَى﴾ قد أتونا، وتلوا علينا، وأنذرونا، فأقرّوا في وقت لا ينفعهم الإقرار والاعتراف ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ﴾ ووجبت ﴿كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ وهي قوله تعالى لإبليس: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)﴾ وقد كنا ممن تبع إبليس، فكذبنا الرسل، وقلنا ما نزل الله من شيء، إن أنتم إلا تكذبون.
ومعنى الآية: أي وسيق الكافرون بربهم، المشركون به الأصنام والأوثان، إلى جهنم سوقًا عنيفًا، أفواجًا متفرقةً بعضها في إثر بعض، بحسب ترتب طبقاتهم في الضلال والشرُّ، بزجرٍ وتهديدٍ ووعيدٍ، كما يساق المجرمون في الدنيا إلى السجون جماعاتٍ جماعات، مع الإهانة والتحقير على ضروب شتى، ونحو الآية قوله: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣)﴾؛ أي: يدفعون إليها دفعًا.
﴿إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾؛ أي: حتى إذا وصلوا إليها.. فتحت لهم
82
أبوابها سريعًا؛ ليدخلوها، كأبواب السجون، لا تزال مغلقة حتى يأتي أرباب الجرائم، الذين يسجنون فيها، فتفتح؛ ليدخلوها، فإذا دخلوها.. أغلقت عليهم.
ثم ذكر سؤال الخزنة لهم على طريق التوبيخ والإهانة، فقال: ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ إلخ؛ أي: ألم يأتكم رسل من جنسكم، تفهمون ما ينبئونكم به من طاعة ربكم، والاعتراف بوحدانيته، وترك الشرك به، ويسهل عليكم مراجعتهم حين يقيمون عليكم الحجج والبراهين، مبينين صدق ما دعوكم إليه، وينذرونكم أهوال هذا اليوم، فأجابوهم معترفين، ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا، لوضوح السبل أمامهم، ولا سبيل حينئذ إلى الإنكار والجحود، قالوا: بلى، قد أتانا رسل ربنا، فأنذرونا وأقاموا الحجج والبراهين، ولكنا كذبناهم وخالفناهم، لما سبق لنا من الشقوة والضلالة، فعدلنا بسوء اختيارنا عن الحق إلى الباطل، وفعلنا الشر دون الخير، وعبدنا ما لا يضر ولا ينفع، وتركنا عبادة الواحد القهار، ونحو الآية قوله: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (٩)﴾.
٧٢ - وبعد أن اعترفوا هذا الاعتراف ﴿قِيلَ﴾ لهم؛ أي: قالت لهم الملائكة الموكلون بعذابهم ﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾ التي قد فتحت لكم، فتدخلوها حالة كونكم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: ماكثين فيها أبدا؛ أي: مقدرًا خلودكم فيها مدة لا نهاية لها، ولا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها.
وفيه (١): إشارة إلى أن الحكمة الإلهية اقتضت إظهارًا لصفة القهر، أن يخلق النار، ويخلق لها أهلًا، كما أنه تعالى خلق الجنة، وخلق لها أهلًا، إظهارًا لصفة اللطف، فلهذه الحكمة قيل: في الأزل قهرًا وقسرًا: ﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾، وهي الصفات الذميمة السبع التي مرّ ذكرها، خالدين فيها، بحيث لا يمكن الخروج من هذه الصفات الذميمة بتبديلها، كما يخرج المتقون منها. ﴿فَبِئْسَ﴾ وقبح ﴿مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾؛ أي: منزل المتكبرين عن الإيمان والطاعة والحق، والمخصوص بالذم
(١) روح البيان.
محذوف وجوبًا، تقديره: بئس مثواهم جهنم.
والمعنى: أي فبئس المصير، وبئس المقيل لكم، بسبب تكبّركم في الدنيا، وإبائكم عن اتباع الحق، فهو الذي صيّركم إلى ما أنتم فيه، فبئس الحال وبئس المآل.
و ﴿اللام﴾: فيه للجنس، ولا يقدح ما فيه من الإشعار بأن كون مثواهم جهنم، لتكبرهم عن الحق، مع أن دخولهم النار بسبق كلمة العذاب عليهم، فإنها إنما حقت عليهم بناءً على تكبرهم وكفرهم، فتكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عن ذلك السبق، وفيه (١) إشارة إلى أن العصاة صنفان، صنف منهم متكبرون، وهم المصرون متابعو إبليس، فلهم الخلود في النار، وصنف منهم متواضعون، وهم التائبون متابعو آدم، فلهم النجاة، وبهذا الدليل ثبت أن ليس ذنب أكبر بعد الشرك من الكبر، بل الشرك أيضًا يتولد من الكبر، كما قال تعالى: ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾.
٧٣ - ولما ذكر فيما تقدم حال الذين كفروا وسوقهم إلى جهنم.. ذكر هنا حال المتقين، وسوقهم إلى الجنة، فقال: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ﴾؛ أي: ساقتهم الملائكة سوق إعزاز وتشريف وتكريم بلا تعب ولا نصب، بل بروح وطرب للإسراع إلى دار الكرامة، وذلك قبل الحساب، أو بعده يسيرًا أو شديدًا، وهو الموافق لما قبل الآية من قوله: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ حال كونهم ﴿زُمَرًا﴾؛ أي: جماعات متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل وعلو الطبقة، والمراد: المتقون عن الشرك، فهؤلاء عوام أهل الجنة، وفوق هؤلاء من قال الله تعالى فيهم: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وفوقهم من قال فيهم: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥)﴾.
والمعنى (٢): أي وسيق المتقون إلى الجنة جماعة إثر جماعة على النجائب، وفودًا إلى الجنة، المقربون فالأبرار ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، كل طائفة منهم مع من يشاكلهم، الأنبياء مع الأنبياء، والصدّيقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
84
والمراد بالسوق هنا: الإسراع بهم إلى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يكرم من الوافدين على بعض الملوك، وبالسوق المتقدم: طردهم إلى العذاب والهوان، كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل، فشتان ما بين السوقين.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا﴾؛ أي: الجنة ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ وقرأ الكوفيون: ﴿وَفُتِحَتْ﴾ بالتخفيف؛ أي: والحال أنه قد فتحت أبوابها الثمانية قبل مجيئهم؛ لئلا يصيبهم وصب الانتظار، مع أن دار الفرح والسرور لا تغلق للأضياف والوافدين باب الكرم، فـ ﴿الواو﴾: واو الحال، وجواب ﴿إذا﴾ محذوف دل عليه السياق، والتقدير؛ أي: حتى إذا وصلوا إليها، وقد فتحت لهم أبوابها قبل مجيئهم، كما تفتح الخدم باب المنزل للضيف قبل قدومه، وتقف منتظرةً حضوره فرحًا بمقدمه، فرحوا بما أفاء الله به عليهم من النعيم، وبما شاهدوا مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فإن قلت (١): يرد على كون أبواب الجنان مفتحةً لهم قبل مجيئهم إليها، قوله - ﷺ -: "أنا أول من يستفتح باب الجنة".
قلت: قد حصل الفتح المقدم على الوصول بدعوته - ﷺ - الاستفتاح، ولو لم يكن دعاؤه قد سبق.. لما فتحت، ثم تبقى الأبواب بدعائه مفتوحةً ببركة دعائه المقدم على ذلك، وفي الحديث: "أنا أول من يقرع باب الجنة، والجنة محرمة على جميع الأمم، حتى أدخلها أنا وأمتي، الأول فالأول".
وقيل: تقدير الجواب: حتى إذا جاؤوها، وقد فتحت أبوابها.. كان ما كان مما يقصر عنه البيان.
وفي "الخازن": فإن قلت (٢): قال في أهل النار: ﴿فُتِحَتْ﴾ بغير واو، وهنا زاد حرف ﴿الواو﴾ فما الفرق بين الموضعين؟
قلت: فيه وجوه:
أحدها: أنها زائدة عند الأخفش والكوفيين، وهو خطأ عند البصريين؛ لأن
(١) روح البيان.
(٢) الخازن. بزيادة وتصرف.
85
الواو من حروف المعاني، فلا تزاد عندهم، وزيدت الواو على القول بزيادتها للإيذان بأنها كانت مفتحةً قبل مجيئهم إليها، وحذفت الواو في الآية الأولى؛ لبيان أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل مجيئهم إليها، والحكمة في ذلك: أن الجنة إذا جاؤوها، ووجدوا أبوابها مفتحة.. حصل لهم السرور والفرح بذلك، وأهل النار إذا رأوها مغلقة.. كان ذلك نوع ذل وهوان لهم.
والثاني: أنها واو الحال، بتقدير: قد؛ أي: حتى إذا جاؤوها وقد فتحت، أبوابها فرحوا بها، كما مر في حلنا.
والثالث: أنها واو الثمانية، زيدت هنا لبيان أن أبواب الجنة ثمانية، ونقصت فيما سبق؛ لأن أبواب جهنم سبعة، والعرب تعطف فيما فوق السبعة، تقول ستة سبعة وثمانية وتسعة، وفيه أن واو الثمانية غير مطردة مقصورة على السماع. فإن قلت: على هذا إن قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا﴾ شرط، فأين جوابه؟
قلت: فيه وجوه:
أحدها: أنه محذوف، والمقصود أن يدل على أنه بلغ من الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره، ولا يحتاج إلى ذكره.
والثاني: أن الجواب هو قوله: ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ بجعل ﴿الواو﴾ فيه زائدةً.
والثالث: الجواب محذوف دل عليه قوله: ﴿فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ والتقدير: حتى إذا جاؤوها، وفتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها: سلام عليكم، طبتم فادخلوها خالدين، دخلوها، فحذف دخلوها لدلالة الكلام عليه.
قلت: والأوضح الأخصر: أن تكون ﴿الواو﴾ في قوله: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ عاطفة على جواب محذوف، دل عليه السياق، والتقدير: حتى إذا جاؤوها فرحوا بمجرد رؤيتها، وفتحت لهم أبوابها ازديادًا في سرورهم، وقال لهم خزنتها: سلام علكيم إلخ. تكرمةً لهم، والله أعلم بمراده في كتابه.
فائدة: في ذكر أحاديث مناسبة للآية:
86
منها: ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ما منكم أحد يتوضأ، فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله.. إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء" أخرجه مسلم وغيره.
وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة".
وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله - ﷺ - قال: "في الجنة ثمانية أبواب، منها: باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون". وقد ثبت كون أبواب الجنة ثمانية بالأحاديث الصحيحة، منها: ما ذكر آنفًا، ومنها: قوله - ﷺ -: "إن للجنة لثمانية أبواب، ما منها بابان إلا بينهما يسير الراكب سبعين عامًا، وما بين كل مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة". وفي رواية: "كما بين مكة وبصرى". وكون أبواب جهنم سبعة فمذكور بقوله تعالى: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)﴾.
ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين، فقال: ﴿وَقَالَ لَهُمْ﴾؛ أي: للمتقين عند دخولهم الجنة ﴿خَزَنَتُهَا﴾؛ أي: حفظة الجنة، رضوان وغيره من الملائكة: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ من جميع المكاره والآلام، فلا يعتريكم مكروه، وهذا لعوام أهل الجنة، وأما خواصهم، فيقول الله لهم: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)﴾. فإن السلام في الجنة من وجوه:
فالسلام الأول: وإن كان سلام الله، ولكن بالواسطة.
والثاني: سلام خاص بلا واسطة بعد دخولهم الجنة ﴿طِبْتُمْ﴾ نفسًا بما أتيح لكم من النعيم المقيم، وقد يكون المعنى: طبتم في الدنيا، فلم تدنسوا أنفسكم بالشرك والمعاصي، وطاب سعيكم وطاب جزاؤكم ﴿فَادْخُلُوهَا﴾؛ أي: الجنة حالة كونكم ﴿خَالِدِينَ﴾ فيها؛ أي: ماكثين فيها أبدًا، لا زوال ولا فناء ولا تحول عنها.
و ﴿الفاء﴾: للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم، سواء كان طيبًا بعفو أو بتعذيب، إذ كل منهما مطهر، وإنما طهر ظاهرهم؛ لحسن إقرارهم
87
وأعمالهم البدنية، وباطنهم؛ لحسن نياتهم وعقائدهم.
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إذا سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها.. وجدوا عند بابها شجرة، يخرج من تحتها عينان، فيغتسل المؤمن من أحدهما فيطهر ظاهره، ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه، وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة، يقولون: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾.
٧٤ - ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: وقال المؤمنون إذا عاينوا ذلك النعيم المقيم، والعطاء العظيم في الجنة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ بالبعث والثواب بالجنة؛ أي: صدقنا وأعطانا ما وعدنا به على ألسنة رسله الكرام، كما دعوا بذلك في الدنيا، وقالوا: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وقالوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ ﴿وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ﴾ معطوف على الصلة؛ أي (١): أورثنا وأعطانا أرض الجنة، يريدون المكان الذي استقروا فيه من أرض الجنة، على الاستعارة، وإيراثها: إعطاؤها وتمليكها، مخلفةً عليهم من أعمالهم، أو تمكينهم من التصرف فيما فيها تمكين الوارث فيما يرثه، كأنها صارت من غيرهم إليهم، فملكوها وتصرفوا فيها، وقيل: إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار، لو كانوا مؤمنين، قاله أكثر المفسرين، وقيل: إنها أرض الدنيا، وعلى هذا: ففي الكلام تقديم وتأخير، وقيل: أورثنا من آدم؛ لأنها كانت في أول الأمر له لقوله تعالى: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ فلما عادت إلى أولاده.. كان ذلك إرثًا لهم منه. اهـ شيخنا. حالة كوننا ﴿نَتَبَوَّأُ﴾ ونتخذ ﴿مِنَ الْجَنَّةِ﴾ منازل ﴿حَيْثُ نَشَاءُ﴾؛ أي: يتبوأ كل واحد منا في أي مكان أراده من جنته الواسعة، لا من جنة غيره، على أن فيها مقاماتٍ معنوية، لا يتمانع واردوها، كما قال في "التفسير الكبير": قال حكماء الإِسلام: الجنة نوعان: جسمانية، وروحانية، فالجنات الجسمانية: لا تحتمل المشاركة، وأما الروحانية: فحصولها لواحد لا يمنع حصولها لآخر، انتهى.
وقيل: معنى ﴿حَيْثُ نَشَاءُ﴾ أن أمة محمد - ﷺ - يدخلون الجنة قبل الأمم،
(١) روح البيان.
فينزلون فيها حيث شاؤوا؛ أي: يتخير كل واحد منهم أين ينزل تكرمةً له، وإن كان لا يختار إلا ما قسم له، وأما بقية الأمم، فيدخلون بعد أمة محمد - ﷺ -، فينزلون فيما فضل عنهم، اهـ "خازن" و"خطيب".
والمعنى (١): أي وجعلنا نتصرف في أرض الجنة تصرف الوارث فيما يرث، فنتخذ منها مباءةً ومسكنًا حيث شئنا، قال تعالى: ﴿فَنِعْمَ﴾ وحسن ﴿أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾؛ أي ثواب المطيعين في الدنيا الجنة في العقبى، وقيل: من تمام قول أهل الجنة، والمعنى عليه؛ أي: فنعم الأجر أجرنا على عملنا، وثوابنا الذي أعطيتنا، والمخصوص بالمدح الجنة.
٧٥ - ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أعطيه المؤمنون من الدرجات.. أتبعه بذكر أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات، وبيان مستقرهم في الجنة، وهم الملائكة، فقال صارفًا الخطاب لأشرف الخلق؛ لأنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره: ﴿وَتَرَى﴾ يا محمد في ذلك اليوم ﴿الْمَلَائِكَةَ﴾؛ أي: القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق، حالة كونهم ﴿حَافِّينَ﴾؛ أي: محدقين ﴿مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾؛ أي: حوله، و ﴿مِن﴾: مزيدة، أو لابتداء الحفوف، يقال: حفوا حوله حفوفًا: طافوا به واستداروا حوله، ومنه الآية؛ أي: تراهم يا محمد أو أيها المخاطب، الملائكة حالة كونهم محيطين بجوانب العرش، التي يمكن الحفوف بها، فيسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتمجيد والتقديس، وإدخال ﴿مِن﴾: يفهم أنهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله، لا يملؤون حوله، وهذا أولى من قول البيضاوي: إن ﴿مِن﴾ زائدة. اهـ "خطيب"؛ أي: فهي ابتدائية، كما حكاه البيضاوي أيضًا، حالة كونهم ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ الجملة: حال ثانية، أو مقيدة (٢) للأولى؛ أي: ينزهونه تعالى عما لا يليق به حال كونهم متلبسين بحمده، ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه، تلذذًا به، يعني: يقولون: سبحان الله وبحمده، تلذذًا لا تعبدًا وتكليفًا؛ لأن التكليف يزول في ذلك اليوم، وذلك يشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التسبيح، وأفهم أن منتهى درجات العلّيين، ولذاتهم، الاستغراق في صفاته تعالى، اهـ "كرخي".
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
89
والمعنى (١): أي ترى يا محمد، أو أيها الرائي، الملائكة محيطين بجوانب العرش، قائمين بجميع ما يطلب منهم، فيسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتقديس، ويصلون حول العرش شكرًا لربهم، وتنزيهًا له عن كل نقص. ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: حكم بين العباد ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالعدل، بإدخال بعضهم الجنة، وبعضهم النار، أعاذنا الله منها، أو بين الملائكة، بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم في درجاتهم، والأول أولى.
﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: على ما قضى بيننا بالحق، وأنزل كلا منا منزلته التي هي حقه، والقائلون (٢): هم المؤمنون، حمدوا الله على قضائه بينهم، وبين أهل النار بالحق، وقيل: القائلون: هم الملائكة، حمدوا الله تعالى على عدله في الحكم، وقضائه بين عباده بالحق، والمقصود من هذا الإبهام: التنبيه على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة ذي الجلال والكبرياء، ليس إلا أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين.
والمعنى: أي وختمت خاتمة القضاء بينهم، بالشكر للذي بدأ خلقهم، وصورهم فأحسن صورهم، ومن له ملك السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات، التي لا يعلم عددها إلا هو، وقد بدأ سبحانه هذه الآية بالحمد، وختمها بالحمد للتنبيه إلى تحميده، في بداية كل أمر ونهايته.
وقال قتادة: افتتع الخلق بالحمد في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)﴾ واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٧٥)﴾.
وعلم مما ذكر: أنهم يقدمون التسبيح على التحميد، فالتسبيح: عبارة عن إقرارهم بكونه تعالى موصوفًا بصفات الإكرام، ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة، فالمؤمنون والملائكة يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله تعالى وتمجيده وتسبيحه، فكان ذلك سببًا لمزيد التذاذهم، والله تعالى أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
90
الإعراب
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم -، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان: أن الإنابة مطلوبة؛ لأن الفسحة عظيمة للمسرف. ﴿يَا عِبَادِيَ﴾: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المفتوحة، وقرىء ﴿يا عباد﴾ بحذفها. ﴿الَّذِينَ﴾ نعت لـ ﴿عِبَادِيَ﴾. ﴿أَسْرَفُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَسْرَفُوا﴾ ﴿لَا﴾: ناهية. ﴿تَقْنَطُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تَقْنَطُوا﴾، والجملة الفعلية: في محل النصب وقول ﴿قُلْ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهَ﴾، ومفعول به، ﴿جَمِيعًا﴾: حال من ﴿الذُّنُوبَ﴾، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل النهي عن القنوط. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، أو مبتدأ ﴿الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ خبران لـ ﴿إنَّ﴾ أو لـ ﴿هُوَ﴾، والجملة: خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل غفران الله الذنوب جميعًا. ﴿وَأَنِيبُوا﴾: فعل أمر وفاعل. ﴿إِلَى رَبِّكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَنِيبُوا﴾، والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا تَقْنَطُوا﴾. ﴿وَأَسْلِمُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَأَنِيبُوا﴾، ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿أَسْلِمُوا﴾. ﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور حال من واو الفاعل في الفعلين، ﴿أن﴾ حرف مصدر ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية وجملة ﴿أن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من قبل إتيان العذاب إياكم. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع التراخي. ﴿لَا﴾: نافية، ﴿تُنْصَرُونَ﴾: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة: معطوفة على جملة ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ﴾: على كونها مضافًا إليه للظرف؛ أي: من قبل إتيان العذاب إياكم، ثم عدم نصركم.
﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥)﴾.
91
﴿وَاتَّبِعُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿اتبعوا﴾: فعل أمر وفاعل معطوف على ﴿أَنِيبُوا﴾. ﴿أَحْسَنَ﴾: مفعول به، وهو مضاف و ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على ﴿مَا﴾ ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق به ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾ أيضًا، والجملة: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿اتَّبِعُوا﴾، وجملة ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ﴾: في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه. ﴿بَغْتَةً﴾: حال من ﴿الْعَذَابُ﴾؛ أي: باغتًا. ﴿وَأَنْتُمْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿أنتم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا تَشْعُرُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من ضمير المخاطبين.
﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)﴾.
﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ﴾: فعل وفاعل، منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، والجملة: في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول لأجله، ولكنه على تقدير مضاف، والتقدير: واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم، كراهية قول نفس، أو مخافة قول نفس. ﴿يَا حَسْرَتَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿حَسْرَتَا﴾: منادى مضاف، منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، المنقلبة ألفًا للتخفيف ﴿حسرة﴾ مضاف، وياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف؛ في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء: في محل النصب مقول لـ ﴿تَقُولَ﴾. ﴿عَلَى﴾ حرف جر ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿فَرَّطْتُ﴾: فعل وفاعل، ﴿فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿فَرَّطتُ﴾، وجملة ﴿فَرَّطْتُ﴾: صلة ﴿مَا﴾ المصدرية ﴿مَا﴾ مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلَى﴾ تقديره: على تفريطي في جنب الله، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿حسرتى﴾. ﴿وَإِنْ كُنْتُ﴾: ﴿الواو﴾: حالية ﴿إن﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن، تقديره: وإنه ﴿كُنْتُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿من الساخرين﴾: جار ومجرور خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ المخففة، وجملة ﴿إن﴾ المخففة: في محل النصب حال من فاعل ﴿فَرَّطْتُ﴾؛ أي: حال كوني من الخاسرين. ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتفصيل. ﴿تَقُولَ﴾: معطوف على ﴿تَقُولَ﴾ الأول، منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، وفاعله: ضمير مستتر يعود على ﴿نَفْسٌ﴾. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿هَدَانِي﴾: فعل وفاعل مستتر
92
ونون وقاية ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الوفع خبر ﴿أنَّ﴾ وجملة ﴿أنَّ﴾: في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف، وقع شرطًا لـ ﴿لو﴾ الشرطية، والتقدير: لو ثبت هداية الله إياي.. ﴿لَكُنْتُ﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَّوْ﴾ الشرطية. ﴿كنت﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾: جواب ﴿لَّوْ﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَّوْ﴾ الشرطية: في محل النصب مقول ﴿تَقُولَ﴾.
﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٥٩)﴾.
﴿أَوْ تَقُولَ﴾: معطوف على ﴿تَقُولَ﴾ الأول ﴿حِينَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ ﴿تَقُولَ﴾، ﴿تَرَى الْعَذَابَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، ورأى هنا: بصرية، تتعدى لمفعول واحد، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حِينَ﴾. ﴿لَوْ﴾ حرف تمنٍّ، ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب، ﴿لِي﴾: خبرها مقدم على اسمها. ﴿كَرَّةً﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لفعل محذوف، تقديره: أتمنى كون كرة لي إلى الدنيا. ﴿فَأَكُونَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد ﴿الفاء﴾ العاطفة على اسم خالص؛ لأنها عطفت مصدرًا مؤولًا على اسم خالص، واسمها: ضمير يعود على ﴿نَفْسٌ﴾. ﴿مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾: خبرها، وجملة ﴿أَنَّ﴾: في تأويل مصدر معطوف على ﴿كَرَّةً﴾؛ أي: لو أن لي كرة فكوني من المحسنين، أو ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية ﴿أَكُونَ﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿الفاء﴾ السببية الواقعة في جواب التمنى، وجملة ﴿أَكُونَ﴾: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: أتمنى كون كرة لي، فكوني من المحسنين. والفرق بين الوجهين: أنه على الأول يكون من جملة المتمني، ويكون إضمار ﴿أَنْ﴾ جائزًا، لا واجبًا، وعلى الثاني: يكون مترتبًا على التمني، ويكون إضمار ﴿أَنْ﴾ واجبًا. اهـ شيخنا. ﴿بَلَى﴾: حرف جواب، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿جَاءَتْكَ آيَاتِي﴾: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة الفعلية: جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَكَذَّبْتَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿كذبت﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿جَاءَتْكَ﴾. ﴿بِهَا﴾: متعلق
93
به. ﴿وَاسْتَكْبَرْتَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كذبت﴾، ﴿وَكُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿مِنَ الْكَافِرِينَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾: معطوفة على جملة ﴿كذبت﴾.
فائدة: ألف الفصل تزاد بعد واو الجماعة، مخافة التباسها بواو النسق، مثل: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾، ومثل ﴿كَفَرُواْ﴾، و ﴿رُدُّواْ﴾ ألا ترى أنهم لو لم يدخلوا الألف بعد الواو، ثم اتصلت بكلام بعدها.. ظنّ القارىء أنها كفر، ورد، فحيزت الواو لما قبلها بألف الوصل، ولما فعلوا ذلك في الأفعال التي تنقطع واوها من الحروف قبلها، نحو ساروا، وجاؤوا فعلوا ذلك في الأفعال التي تتصل واوها بالحروف قبلها. نحو كانوا وباتوا؛ ليكون حكم هذه الواو في كل موضع حكمًا واحدًا، اهـ "إعراب القرآن".
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف زمان متعلق بـ ﴿تَرَى﴾. ﴿تَرَى الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب، ومفعول به، والجملة الفعلية: مستأنفة. ﴿كَذَبُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿كَذَبُوا﴾. ﴿وُجُوهُهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿مُسْوَدَّةٌ﴾: خبر، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من الموصول. ﴿أَلَيْسَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري؛ لأنها دخلت على النفي، ونفي النفي: إثبات، فصار تقريريًا. ﴿فِي جَهَنَّمَ﴾: خبر ﴿ليس﴾: مقدم. ﴿مَثْوًى﴾: اسمها مؤخر. ﴿لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾: صفة لـ ﴿مَثْوًى﴾، وجملة ﴿ليس﴾: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، مسوقة لتعليل اسوداد وجوههم، كأنه قال: لأن لهم في جهنم مقرًا ومقامًا. اهـ شيخنا.
﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)﴾.
﴿وَيُنَجِّي﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مستأنفة. ﴿اتَّقَوْا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِمَفَازَتِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُنَجِّي﴾، ﴿لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ﴾: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة الفعلية: مفسرة للمفازة، لا محل لها من الإعراب، كأنه قيل: ما مفازتهم؟ فقيل: لا يمسهم السوء. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: نافية ﴿هُمْ﴾: مبتدأ وجملة
94
﴿يَحْزَنُونَ﴾: خبره، والجملة: معطوفة على جملة ﴿لَا يَمَسُّهُمُ﴾ على كونها مفسرة، ويمكن أن تكون حالًا من الذين اتقوا، و ﴿الواو﴾: حينئذ واو الحال، وأجاز الزمخشري أن تكون مستأنفة.
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٣)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ، ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿وَكِيل﴾، و ﴿وَكِيل﴾: خبر ﴿هُوَ﴾، والجملة: مستأنفة ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة مستأنفة أيضًا. ﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿الذين﴾: مبتدأ أول، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول، ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان، ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْخَاسِرُونَ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة المتبدأ الثاني، مع خبره: خبر المبتدأ الأول، وجملة المبتدأ الأول مع خبره معطوفة على جملة قوله: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ عطف أحد المتقابلين على الآخر، ولا يمنع من هذا العطف كون المعطوف جملةً اسمية، والمعطوف عليه جملة فعليه.
﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: قل يا محمد، لمشركي قومك: أتدعونني إلى عبادة آلهتهكم، فتأمرونني أن أعبد غير الله ﴿غيرَ اللهِ﴾: مفعول مقدم لـ ﴿أَعْبُدُ﴾، ﴿تَأْمُرُونِّي﴾: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول به مرفوع، وعلامة رفعة النون المدغمة في نون الوقاية، والجملة الفعلية: معطوفة على تلك المحذوفة، على كونها معترضة بين الفعل ومفعوله، والجملة المحذوفة: مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿أَعْبُدُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، وجملة ﴿أَعْبُدُ﴾: في تأويل مصدر بأن المصدرية المقدرة، منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿تَأْمُرُونِّي﴾، والتقدير: أتدعونني إلى عبادة آلهتكم، فتأمرونني عبادة غير الله سبحانه. ﴿أَيُّهَا﴾: ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة،
95
و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. ﴿الْجَاهِلُونَ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾: أو بدل منه، أو عطف بيان له، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب، أعرضنا عنها خوفًا للإطالة.
﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أُوحِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿إِلَيْكَ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب الفاعل، وقيل: نائب الفاعل محذوف، يدل عليه سياق الكلام؛ أي: أوحي إليك التوحيد. ﴿وَإِلَى الَّذِينَ﴾: معطوف على ﴿إِلَيْكَ﴾. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: صلة الموصول، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. ﴿لَئِنْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، مبني على الفتح. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿أَشْرَكْتَ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: يحبط عملك، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين القسم وجوابه. ﴿لَيَحْبَطَنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم موكدة للأولى. ﴿يَحْبَطَنَّ﴾: فعل مضارع في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، ونون التوكيد: حرف لا محل له من الإعراب. ﴿عَمَلُكَ﴾: فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وهذا القسم مع جوابه: جواب للقسم الأول. ﴿وَلَتَكُونَنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿تَكُونَنَّ﴾: فعل مضارع ناقص في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير مستتر يعود على محمد. ﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾: خبرها، وجملة ﴿تَكُونَنَّ﴾: معطوفة على جملة ﴿يَحْبَطَنَّ﴾.
﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)﴾.
﴿بَلِ﴾: حرف عطف وإضراب، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهَ﴾ مفعول لفعل محذوف. ﴿الفاء﴾: واقعة في جواب الشرط المحذوف، تقديره: لا تعبد ما أمرك الكفار
96
بعبادته، بل إن عبدت فاعبد الله دون ما سواه من الأنداد والأوثان، ﴿اعْبُدْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، مبني على السكون، والجملة الفعلية: في محل الجزم بالشرط المحذوف، وجملة الشرط: معطوفة على جملة النهي المحذوف، كما قدرناه آنفًا، وقال الأخفش: ﴿الفاء﴾: زائدة، كما مر البسط فيه في مبحث التفسير. ﴿وَكُنْ﴾: فعل أمر ناقص معطوف على ﴿اعْبُدْ﴾، واسمه: ضمير مستتر يعود على محمد، ﴿مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾: خبره.
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿قَدَرُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿حَقَّ قَدْرِهِ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: ما علموا كنهه، وما عرفوه حق معرفته. ﴿وَالْأَرْضُ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿الْأَرْضُ﴾: مبتدأ، ﴿جَمِيعًا﴾: حال من ﴿الْأَرْضُ﴾ ﴿قَبْضَتُهُ﴾: خبر المبتدأ ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: متعلق بـ ﴿قَبْضَتُهُ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب حال من لفظ الجلالة؛ أي: ما عظموه حق عظمته، والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة. ﴿وَالسَّمَاوَاتُ﴾: مبتدأ، ﴿مَطْوِيَّاتٌ﴾: خبر ﴿بِيَمِينِهِ﴾: متعلق بـ ﴿مَطْوِيَّاتٌ﴾ والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿وَالْأَرْضُ﴾. ﴿سُبْحَانَهُ﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبحه سبحانًا، وجملة التسبيح: مستأنفة. ﴿وَتَعَالَى﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير مستتر يعود على الله. ﴿عَمَّا﴾: متعلق بـ ﴿تَعَالَى﴾، والجملة: معطوفة على جملة التسبيح، وجملة ﴿يُشْرِكُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة؛ أي: عما يشركونه به، أو لـ ﴿ما﴾ المصدرية؛ أي: عن إشراكهم.
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)﴾.
﴿وَنُفِخَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿نفخ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿فِي الصُّورِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿فَصَعِقَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿صعق﴾: فعل ماض. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع
97
فاعل، والجملة: معطوفة على جملة ﴿نفخ﴾. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: صلة لـ ﴿مَن﴾ الموصولة، ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء. ﴿شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، والعائد: محذوف؛ أي: إلا من شاء الله بقاءَهُ. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿نُفِخَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿نُفِخَ﴾. ﴿أُخْرَى﴾: نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿نفخ في الصور﴾. ﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: حرف فجأة، مبني على السكون. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿قِيَامٌ﴾: خبر، وجملة ﴿يَنْظُرُونَ﴾: خبر ثان أو صفة لـ ﴿قِيَامٌ﴾، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة قوله ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى﴾ عطف اسمية على فعلية؛ لأنها في تأويل الفعل؛ أي: ثم نفخ فيه أخرى، ففاجأهم القيام من قبورهم.
﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٩)﴾.
﴿وَأَشْرَقَتِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿ثُمَّ نُفِخَ﴾، ﴿بِنُورِ رَبِّهَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَشرقت﴾ ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿وُضِعَ الْكِتَابُ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿أَشْرَقَتِ﴾، ﴿وَجِيءَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿بِالنَّبِيِّينَ﴾: نائب فاعل، ﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾: معطوف عليه، والجملة الفعلية: معطوفة على ما قبلها. ﴿وَقُضِيَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿قضي﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿بَيْنَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿قضي﴾. ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قُضِيَ﴾، ويجوز العكس، ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير ﴿بَيْنَهُمْ﴾.
﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (٧٠)﴾.
﴿وَوُفِّيَتْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿قُضِيَ﴾، ﴿مَا﴾: اسم موصول بمعنى الذي، في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿وُفِّيَتْ﴾، وجملة ﴿عَمِلَتْ﴾: صلته، والعائد: محذوف؛ أي: جزاء ما عملته، ولك أن تجعل ﴿مَا﴾: مصدرية؛ أي: عملهم، ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر،
98
و ﴿الواو﴾: حالية، أو عاطفة، والجملة في محل النصب حال من ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾؛ أي: وفي الله تعالى جزاء عمل كل نفس حال كونه عالمًا بما عملت، أو معطوفة على جملة ﴿وُفِّيَتْ﴾، ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾؛ وجملة ﴿يَفْعَلُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة.
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾.
﴿وَسِيقَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿سِيقَ الَّذِينَ﴾: فعل ونائب فاعل، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿إِلَى جَهَنَّمَ﴾: متعلق بسيق. ﴿زُمَرًا﴾: حال من الموصول، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة ﴿وُفِّيَتْ﴾ مسوقة لتفصيل توفية الحقوق. ﴿حَتَّى﴾ ابتدائية، أو حرف جر وغاية، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الخفض مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾ على كونها فعل شرط لها. ﴿فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة: جواب ﴿إِذَا﴾، لا محل لها من الإعراب، والظرف: متعلق بالجواب، وجملة ﴿إِذَا﴾: مستأنفة، أو مجرورة بـ ﴿حَتَّى﴾ والجار والمجرور: متعلق بـ ﴿سيق﴾؛ أي: وسيق الذين كفروا إلى جهنم، إلى فتح أبوابها وقت مجيئهم إياها، والأول أولى.
﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢)﴾.
﴿وَقَالَ﴾: فعل ماض، ﴿لَهُم﴾: متعلق به، ﴿خَزَنَتُهَا﴾: فاعل، والجملة: معطوفة على جملة ﴿فُتِحَتْ﴾. ﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري ﴿لَمْ﴾: حرف جزم ﴿يَأْتِكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿رُسُلٌ﴾: فاعل ﴿مِنْكُمْ﴾: صفة لـ ﴿رُسُلٌ﴾، والجملة الاستفهامية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿يَتْلُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿آيَاتِ رَبِّكُمْ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿رُسُلٌ﴾، ﴿وَيُنْذِرُونَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على ﴿يَتْلُونَ﴾، ﴿لِقَاءَ يَوْمِكُمْ﴾: مفعول ثان ومضاف إليه. ﴿هَذَا﴾: نعت لـ ﴿يَوْمِكُمْ﴾ أو بدل منه أو عطف بيان له. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة:
99
مستأنفة. ﴿بَلَى﴾: حرف جواب لإثبات النفي؛ أي: بلى أتونا وتلوا علينا. ﴿وَلَكِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة على الجواب المحذوف، ﴿لَكِنْ﴾: حرف استدراك مهملة. ﴿حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾: فعل وفاعل معطوف على الجواب المحذوف. ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾: متعلق بـ ﴿حَقَّتْ﴾. ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿ادْخُلُوا...﴾ إلى آخر الآية، نائب فاعل محكي ومقول له، والجملة: مستأنفة، وإن شئت قلت: ﴿ادْخُلُوا﴾: فعل أمر وفاعل، ﴿أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾: مفعول به، على السعة، والجملة: في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾، ﴿خَالِدِينَ﴾: حال مقدرة من فاعل ﴿ادْخُلُوا﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿فَبِئْسَ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿بئس﴾: فعل ماض لإنشاء الذم. ﴿مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾: فاعل ومضاف إليه، والمخصوص بالذم، محذوف، تقديره: هي، وجملة الذم: مستأنفة.
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾.
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿سيق﴾ الأول، ﴿اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿إِلَى الْجَنَّةِ﴾: متعلق بـ ﴿سيق﴾، ﴿زُمَرًا﴾: حال من فاعل ﴿اتَّقَوْا﴾ وجملة ﴿اتَّقَوْا﴾: صلة الموصول، ﴿حَتَّى﴾: حرف ابتداء، أو حرف جر وغاية ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان متعلق بالجواب المحذوف. ﴿جَاءُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها. ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾: فعل مغير ونائب فاعل، معطوف على ﴿جَاءُوهَا﴾، وجواب ﴿إِذَا﴾: محذوف دلالةً على أنه شىء لا يكتنه ولا يحيط به الوصف، تقديره: حتى إذا جاؤوها، وفتحت أبوابها.. رأوا بهجتها، وجملة ﴿إِذَا﴾: مستأنفة، أو مجرورة بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، والتقدير: وسيق الذين اتقوا إلى الجنة، إلى رؤيتهم بهجتها وقت مجيئها، وفتح أبوابها، والجار والمجرور: متعلق بـ ﴿سِيقَ﴾، ﴿وَقَالَ﴾: فعل ماض، ﴿لَهُم﴾: متعلق به، ﴿خَزَنَتُهَا﴾: فاعل والجملة: معطوفة على جواب ﴿إِذَا﴾ المحذوف، وقيل: ﴿الواو﴾: في ﴿وَفُتِحَتْ﴾: زائدة في جواب ﴿إِذَا﴾.
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٧٤)﴾.
100
﴿سَلَامٌ﴾: مبتدأ، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبره، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿طِبْتُمْ﴾: فعل ماض وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿فَادْخُلُوهَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿ادْخُلُوهَا﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿طِبْتُمْ﴾. ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من فاعل ﴿ادخلوا﴾. ﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على مقدر، تقديره: فدخلوها وقالوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿الَّذِي﴾: صفة للجلالة. ﴿صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، ومفعولان، والجملة: صلة الموصول، ﴿وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعولان معطوف على ﴿صَدَقَنَا﴾. ﴿نَتَبَوَّأُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة: في محل النصب حال من مفعول ﴿وَأَوْرَثَنَا﴾ الأول. ﴿مِنَ الْجَنَّةِ﴾: متعلق بمحذوف حال من ﴿حيث﴾ المذكورة بعده. ﴿حَيْثُ﴾: ظرف مكان متعلق بـ ﴿نَتَبَوَّأُ﴾، أو مفعول به لـ ﴿نَتَبَوَّأُ﴾؛ أي: نتبوأ أيَّ مكان شئنًا حال كونه من الجنة، ﴿نَشَاءُ﴾ فعل مضارع مرفوع بالضمة والفاعل مستتر تقديره نحن والجملة في محل جر بالإضافة. ﴿فنَعْمَ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿نعم﴾: فعل ماض من أفعال المدح ﴿أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾: فاعل، والجملة: مستأنفة، والمخصوص بالمدح: محذوف، تقديره: هي أي الجنة في محل رفع مبتدأ وجملة ﴿نعم﴾ في محل رفع خبر؛ أي: الجنة.
﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٧٥)﴾.
﴿وَتَرَى﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿تَرَى الْمَلَائِكَةَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: مستأنفة، و ﴿ترى﴾ بصرية. ﴿حَافِّينَ﴾: حال من ﴿الْمَلَائِكَةَ﴾ ﴿مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حَافِّينَ﴾، وجملة ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾: حال ثانية من ﴿الْمَلَائِكَةَ﴾، ﴿وَقُضِيَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة أو استئنافية، ﴿قُضِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف نائب عن الفاعل أو متعلق بـ ﴿قُضِيَ﴾، ونائب الفاعل: مصدر مفهوم من الفعل؛ أي: قضي القضاء. ﴿بِالْحَقِّ﴾: حال من المصدر المحذوف الواقع نائب فاعل، ولك أن تعلق الظرف بـ ﴿قضي﴾. و ﴿بِالْحَقِّ﴾: نائب فاعل، وجملة ﴿قضي﴾: معطوفة على جملة ﴿ترى﴾، أو مستأنفة، ﴿وَقِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾:
101
نائب فاعل محكي لـ ﴿قيل﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿قضي﴾ وإن شئت ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ مبتدأ أو خبر ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ صفة للجلالة، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا﴾ الإسراف: تجاوز الحد في كل ما يفعله المرء، وكثر استعماله في إنفاق المال وتبذيره، والمراد هنا: الإفراط في المعاصي. قال الراغب: السرف: تجاوز الحد في كل ما يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر، وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾: يتناول الإسراف في الأموال وفي غيرها. انتهى.
﴿لَا تَقْنَطُوا﴾؛ أي: لا تيأسوا، من قنط يقنط بكسر النون، من باب جلس، وبفتحها من باب طرب وسلم، وقرىء: بضمها شاذًا من باب دخل، وفي "المختار": القنوط: اليأس، وبابه: جلس ودخل وطرب وسَلم، فهو قنوط وقنط وقانط. اهـ. وفي "المفردات": القنوط: اليأس من الخير. ﴿مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ والرحمة من الله: الإنعام والإعطاء والتفضل.
﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ﴾ من الإنابة، وهو: الرجوع إلى الله بالطاعة، فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: أنوبوا، نقلت حركة الواو إلى النون فسكنت الواو إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مد فصار ﴿أنيبوا﴾. ﴿وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ من الإِسلام وهو: الانقياد والإخلاص له.
﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ صيغة المبالغة فيهما راجعة إلى كثرة الذنوب، وكثرة المغفور والمرحوم. اهـ من "الروح". ﴿أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وهو القرآن، فإن ما أنزل إلينا من ربنا كتب كثيرة، أحسنها القرآن. اهـ. شيخنا.
﴿يَا حَسْرَتَا﴾ بالألف بدلًا عن ياء المتكلم، إذ أصله: يا حسرتي، تقول العرب: يا حسرتي يا لهفي، ويا حسرتا ويا لهفا، ويا حسرتاي ويا لهفاي، بالجمع بين العوض والمعوّض، تقول هذه الكلمة في نداء الاستغاثة، كما في "كشف الأسرار". وقد أوضحنا إعراب هذه الكلمة أي إيضاح في رسالتنا "هدية أولي العلم
102
والإنصاف في إعراب المنادى المضاف" فراجعها إن شئت. والحسرة: الغم على ما فاته، والندم عليه، كأنه انحسر الجهل عنه الذي حمله على ما ارتكبه، وقال بعضهم: الحسرة: أن تأسف النفس أسفًا، تبقى منه حسيرًا؛ أي: منقطعةً، وقال الخازن: الحسرة: الاغتمام والحزن على ما فات. اهـ.
﴿عَلَى مَا فَرَّطْتُ﴾ قال الراغب: الإفراط: أن يسرف في المتقدم، والتفريط: أن يقصر فيما هو المراد، فإن الفرط المتقدم.
﴿فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾؛ أي: في عبادته وطاعته، والجنب والجانب: كلاهما بمعنى جهة الشيء المحسوسة، وإطلاق الجنب على الطاعة مجاز بالاستعارة، كما سيأتي في مبحثه إن شاء الله تعالى، يقال هو في جنب فلان وفي جانبه؛ أي: في جهته وناحيته، ثم اتسع فيه، فقيل: فرط في جنبه؛ أي: في حقه، اهـ "سمين". وقال الراغب: أصل الجنب: الجارحة، جمعه جنوب، ثم استعير في الناحية التي تليها، كاستعارة سائر الجوارح لذلك، نحو اليمين والشمال، وقوله: ﴿فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾؛ أي: في أمره وحده الذي حده لنا. ﴿لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾؛ أي: من المستهزين بدين الله تعالى وأهله. ﴿كَرَّةً﴾؛ أي: رجعةً إلى الدنيا، يقال: كر عليه عطف، وعنه رجع، والكرة: المرة والحملة، كما في "القاموس".
﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ﴾ المفازة: إما مصدر ميمي أو اسم مكان، وعلى كل حال أصله مفوزة، بوزن مفعلة، نقلت حركة الواو إلى الفاء، ثم قلبت ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن، فصار مفازة.
﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾؛ أي: قيم بالحفظ والحراسة، فيتولى التصرف بحسب الحكمة والمصلحة.
﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: مفاتيح، لفظ فارسي معرب، واحده إقليد، معرب إكليد، وهو في الفارسي بمعنى: المفتاح في العربي، وإن كان شائعًا بين الناس بمعنى الفعل، جمع جمعًا شاذًا، كالمذاكير، جمع ذكر، وإلا فحقه أن يجمع على أقاليد، وهو إما جمع مقلاد بوزن مفعال، فالياء فيه: منقلبة عن الألف في المفرد، أو جمع مقليد، ولا قلب فيه، أو لا واحد له من لفظه، كأساطير وأخواته، ويقال أيضًا: إقليد وأقاليد.
103
﴿لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ في "المصباح": حبط العمل يحبط، من باب تعب، حبطًا بالسكون وحبوطًا: فسد وهدر، وحبط يحبط من باب ضرب لغةً، وقرىء بها في الشواذ، وحبط دم فلان حبطًا، من باب تعب: هدر، وأحبطت العمل والدم بالألف: أهدرته. اهـ.
﴿تَأْمُرُونِّي﴾ أصله: تأمرونني، بإظهار النونين، ثم أدغمت أولاهما، وهي علم الرفع في الثانية، وهو للوقاية، وقد قرأ ابن عامر: على الأصل؛ أي: بإظهارهما، ونافع: بحذف الثانية، فإنها تحذف كثيرًا.
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ القدر: التعظيم، كما في "القاموس". فالمعنى: ما عظموا الله حق تعظيمه، حيث جعلوا له شريكًا، ويقال: قدر الشيء قدره: من التقدير، كما في "المختار". وقال الراغب في "المفردات": ما عرفوا كنهه.
﴿قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ القبضة: المرة من القبض؛ أطلقت بمعنى القبضة، وهي: المقدار المقبوض بالكف، تسميةً بالمصدر، أو بتقدير ذات قبضته، وفي "المفردات": القبض: التناول بجميع الكف، نحو قبض السيف وغيره، ويستعار القبض لتحصيل الشيء، وإن لم يكن فيه مراعاة الكف، كقولك: قبضت الدار من فلان؛ أي: حزتها.
﴿مَطْوِيَّاتٌ﴾: جمع مطوية، اسم مفعول من طوى الثلاثي، أصله: مطوُيات، اجتمعت الواو الثانية والياء، وسبقت إحداهما ساكنة، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت في الياء، ثم كسرت الواو، مناسبة الياء. ﴿فَصَعِقَ﴾ يقال: صعق الرجل: إذا فزع فأغمي عليه، وربما مات منه، ثم استعمل في الموت كثيرًا، كما في "المشارق". ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ والكتاب في الأصل: اسم للصحيفة مع المكتوب فيه.
﴿قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ أصله: قوام، قلبت الواو ياءً؛ لوقوعها بعد كسرة وقبل ألف. ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ﴾ أصله: جيء بوزن فعل، مبني للمجهول، استثقلت الكسرة على الياء حيث ينتقل من ضمة إلى كسرة، فحذفت حركة الياء فسكنت، ثم حركت الفاء بالكسر؛ لمناسبة الياء، فقيل جيء؛ لان الياء صارت حرف مدّ لما سكنت إثر كسرة، ﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾ جمع شهيد، ككرماء جمع كريم، وشرفاء جمع شريف.
104
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾ وأصل ﴿سيق﴾: سوق بوزن فعل، مبني للمجهول، استثقلت الكسرة على الواو فنقلت إلى فاء الكلمة فسكنت الواو بعد كسرة، فقلبت ياءً حرف مد، والسوق: الحث على السير بعنف وإزعاج، علامةً على الإهانة والاحتقار، والزمر: الأفواج المتفرقة بعضها في إثر بعض، والزمر: جمع زمرة، وهي الجمع القليل، ومنه قيل شاة زمرة: قليلة الشعر، واشتقاقها من الزمر؛ وهو الصوت، إذ الجماعة لا تخلو عنه. ﴿خَزَنَتُهَا﴾ واحدهم خازن، نحو سدنة وسادن.
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ﴾ أصله: طيب، بوزن فعل من باب باع، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، ثم أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك، فصار اللفظ: طابتم، فالتقي الساكنان فحذفت الألف فصار طبتم، فاحتيج إلى معرفة عين الفعل المحذوفة، هل هي واو أو ياء؟ فحذفت حركة الفاء، وعوض عنها شكلة مجانسة لتلك العين المحذوفا، التي هي ياء، والمجانس لها هو الكسرة، فقيل ﴿طِبْتُمْ﴾ بوزن فلتم، بكسر الفاء. ﴿نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ يقال بوأت له مكانًا: سويته وهيأته.
﴿حَافِّينَ﴾؛ أي: محدقين محيطين بالعرش، مصطفين بحافته وجوانبه. اهـ "خازن". وعبارة السمين: قوله: حافين: جمع حاف، وهو المحدث بالشيء، من حففت بالشيء: إذا أحطت به، وهو مأخوذ من الحفاف وهو الجانب، وقال الفراء، وتبعه الزمخشري: لا واحد لـ ﴿حَافِّينَ﴾ من لفظه، وكأنهما رأيا أن الواحد لا يكون حافًا، إذ الحفوف هو الإحداق بالشيء والإحاطة به، وهذا لا يتحقق إلا في جمع. اهـ. وأصله: حاففين، أدغمت عينه في لامه، فقيل: حافين.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
واعلم: أنه قال علماء البيان: اشتمل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)﴾ على سبعة فنون من علمي البيان والبديع، نلخصها فيما يأتي.
١ - إقباله تعالى على عباده، وفي ذلك منتهى الاطمئنان لهم، لمحو ما سبق
105
من الذنوب والأوضار، والإشعار بأن أمامهم مندوحة من الوقت لاستدراك ما فرّط، ورأب ما انصدع.
٢ - نداؤهم، وفي ذلك من التودد إليهم، والتلطف بهم ما يهيب بذوي المسكة من العقول منهم إلى المبادرة بالإنابة، والرجوع بالتوبة.
٣ - إضافتهم إليه إضافة تشريف لهم.
٤ - إضافة الرحمة إلى لفظ الجلالة، الجامع لجميع الأسماء والصفات، إشعارًا بأنها هي الأصل في معاملته لعباده.
٥ - إعادة الظاهر بلفظه في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾.
٦ - الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: ﴿مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ لتخصيص الرحمة بالاسم الكريم، والأصل لا تقنطوا من رحمتي.
٧ - الاتيان بالجملة المعرّفة الطرفين، المؤكدة بأن وضمير الفصل والصفتين الموضوعتين للمبالغة.
﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ فهذه سبعة فنون كاملة في آية واحدة.
ومنها: إطلاق الخاص، وإرادة العام في قوله: ﴿أَسْرَفُوا﴾ لأن الإسراف في الأصل: خاص بالإفراط في صرف المال، والمراد: ما يعم الإسراف في الأموال وغيرها.
ومنها: إطلاق العموم بمعنى الخصوص في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾؛ لأن الشرك ليس بداخل في الآية.
ومنها: التنكير لإفادة التقليل في قوله: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ﴾ لأن المراد بها بعض الأنفس، وهي الكافر؛ لأنها التي تقول ذلك، وقيل للتكثير والتعميم؛ ليشيع في كل النفوس.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ حيث شبهت الطاعة بالجنب بمعنى الجهة المحسوسة، بجامع تعلق كل بصاحبه، فالطاعة
106
لها تعلق بالله، كما أن الجهة لها تعلق بصاحبها.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: مفاتيح خيراتهما، ومعادن بركاتهما، فشبّه الخيرات والبركات بخزائن، واستعار لها لفظ المقاليد بمعنى المفاتيح.
ومعنى الآية: خزائن رحمته وفضله بيده سبحانه.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ مثّل عظمته وكمال قدرته، وحقارة الأجرام العظام، التي تتحير فيها الأوهام بالنسبة لقدرته تعالى بمن قبض شيئًا عظيمًا بكفه، وطوى السموات بيمينه، بطريق الاستعارة التمثيلية، قال في "تلخيص البيان": وفي الآية استعارة، ومعنى ذلك أن الأرض في مقدوره، كالذي يقبض عليه القابض، فتستولي عليه كفه، ويحوزه ملكه ولا يشاركه غيره، والسموات مجموعات في ملكه، مضمومات بيمينه.
ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير، وهو نهاية في الروعة والجمال، في قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (٧٠)﴾.
ومنها: الاتيان بصيغة الماضي في قوله: ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾ إشعارًا بتحقق وقوعه.
ومنها: تقديم المعمول على عامله؛ لإفادة القصر في قوله: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ﴾.
ومنها: عطف المسبب على السبب في قوله: ﴿لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ فإن عطف الخسران على الحبوط، من عطف المسبب على السبب.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿بِنُورِ رَبِّهَا﴾ فإنه شبه العدل بالنور، بجامع الإظهار في كل، فإن العدل يظهر الحقوق، كما أن النور يظهر ما خفي في الظلام، فاستعار اسم المشبّه به للمشبه على طريقة الاستعارة التصريحية.
107
ومنها: إبهام القائل في قوله: ﴿قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾؛ لتهويل المقول.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
* * *
108
مجمل موضوعات هذه السورة الكريمة
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - وصف الكتاب الكريم.
٢ - الأمر بعبادة الله وحده، والنعي على المشركين في عبادتهم للأوثان والأصنام.
٣ - إقامة الأدلة على وحدانية الله.
٤ - طبيعة المشرك في السرّاء والضراء.
٥ - ضرب الأمثال في القرآن، وفائدة ذلك.
٦ - تمني المشركين الفداء حين يرون العذاب.
٧ - الوعد بغفران ذنوب من أسرفوا على أنفسهم إذا تابوا.
٨ - ما يرى على وجوه أهل النار من الكآبة والحزن.
٩ - ذكر أحوال يوم القيامة.
١٠ - وصف ذهاب أهل النار إلى المحشر، وما يشاهدونه من الأهوال.
١١ - وصف ذهاب أهل الجنة وما يشاهدونه فيها من النعيم المقيم.
١٢ - بعد فصل القضاء يقول أهل الجنة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
109
سورة غافر
سورة غافر، وتسمى سورة المؤمن وسورة الطول، مكية نزلت بعد الزمر قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين نزلتا بالمدينة، وهما قوله: ﴿يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ والتي بعدها، وقال الزجاج: وذكر أن الحواميم كلها نزلت بمكة. وآيها: خمس وثمانون، وقيل: اثنتان وثمانون آية. وكلماتها: ألف ومئة وتسع وتسعون. وحروفها: أربعة آلاف وتسع مئة وستون حرفًا.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة المؤمن كلها محكم، غير آيتين:
أولاهما: قوله: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ الآية (٥٥). نسخ الأمر بالصبر بآية السيف.
والآية الثانية: قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ الآية (٧٧)، نسخت أيضًا بآية السيف، انتهى.
تسميتها: سميت سورة غافر؛ لأن الله سبحانه ذكر هذا الوصف الجليل، الذي هو من صفات الله الحسنى في مطلع السورة الكريمة ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ وكرر ذكر المغفرة في دعوة الرجل المؤمن: ﴿وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ﴾. وتسمى سورة المؤمن لذكر قصة مؤمن آل فرعون فيها.
المناسبة لما قبلها:
١ - أنه (١) ذكر في سابقتها ما يؤول إليه حال الكافر وحال المؤمن، وذكر هنا أنه غافر الذنب؛ ليكون ذلك استدعاءً للكافر إلى الإيمان، والإقلاع عن الكفر.
٢ - أنه ذكر في كل منهما أحوال يوم القيامة، وأحوال الكفار فيه، وهم في
(١) المراغي.
110
المحشر، وهم في النار.
وقال أبو حيان (١): مناسبة أول هذه السورة لآخر الزمر: أنه تعالى لما ذكر ما يؤول إليه حال الكافرين وحال المؤمنين.. ذكر هنا أنه تعالى غافر الذنب وقابل التوب؛ ليكون ذلك استدعاءً للكافر إلى الإيمان، وإلى الإقلاع عما هو فيه، وأن باب التوبة مفتوح، وذكر شدة عقابه وصيرورة العالم كلهم إليه؛ ليرتدع عما هو فيه، وأن رجوعه إلى ربه فيجازيه بما يعمل من خير أو شر. انتهى.
فضلها: ومن فضائلها:
ما أخرجه (٢) محمد بن نصر وابن مردويه عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل، وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور، وفضّلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي".
وأخرج أبو عبيد في "فضائله" عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: إن لكل شيء لبابًا، ان لباب القرآن آل حم.
وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن المنذر والحاكم والبيهقي في "الشعب" عن ابن مسعود قال: الحواميم ديباج القرآن.
وأخرج أبو عبيد ومحمد بن نصر وابن المنذر عنه قال: إذا وقعت في آل حم.. وقعت في روضات دمثات، أتأنق فيهن.
وأخرج أبو الشيخ وأبونعيم والديلميّ عن أنس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "الحواميم ديباج القرآن".
وأخرج البيهقي في "الشعب" عن خليل بن مرة أن رسول الله - ﷺ - قال: "الحواميم سبع، وأبواب النار سبع، تجيء كل حم منها تقف على باب من هذه الأبواب، تقول: اللهم، لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني".
وأخرج أبو عبيد وابن سعد ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
111
"الشعب" عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قرأ حم المؤمن إلى ﴿إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ وآية الكرسي حين يصبح.. حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي.. حفظ بهما حتى يصبح.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال (١): إن مثل صاحب القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلًا، فمر بأثر غيث، فبينما هو يسير فيه ويتعجّب منه؛ إذ هبط على روضات دمثات، فقال: عجبت من الغيث الأول، فهذا أعجب منه وأعجب، فقيل له: إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن، وإن مثل هذه الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن، وقال سعيد بن ابن إبراهيم: كل آل حم تسمى العرائس.
وروي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "لكل شيء ثمرة، وإن ثمرة القرآن ذوات حم، هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحبّ أن يرتع في رياض الجنة.. فليقرأ الحواميم".
وعنه أيضًا: "مثل الحواميم في القرآن، كمثل الحبرات في الثياب". ذكرهما الثعلبيّ، اهـ "قرطبي". وقال الجوهري وأبو عبيد: وآل حم سور في القرآن، فأما قول العامة: الحواميم فليس من كلام العرب، وقال أبو عبيد: الحواميم سور في القرآن على غير قياس، قال: والأولى أن تجمع بذوات حم.
فتلخص من مجموع هذه الأخبار (٢): أن هذه السور السبع تسمى الحواميم، وتسمى آل حم، وتسمى ذوات حم، فلها جموع ثلاثة، خلافًا لمن أنكر الأول منها. تأمل.
وقال محمد بن القاسم الأنباري (٣): العرب تقول: وقع في الحواميم وفي آل حميم، أنشد أبو عبيدة:
حَلفْتُ بِالسَّبْعِ اللَّوَاتِيْ طُوِّلَتْ وَبِمِئِيْنَ بَعْدَهَا قَدْ أُمِئِيَتْ
وَبِمَثَانٍ ثُنيَتْ فَكُرِّرَتْ وَبِاالطَّوَاسِيْنِ اْللَّوَاتِيْ ثُلِّثَتْ
وَبِالْحَوَامِيْمِ اللَّوَاتِيْ سُبِّعَتْ وَبِاْلْمُفَصَّلِ اللَّوَاتِيْ فُصِّلَتْ
(١) الخازن.
(٢) الفتوحات.
(٣) زاد المسير.
112
فمن قال وقع في آل حميم.. جعل حاميم اسمًا لكلهن، ومن قال: وقع في الحواميم جعل حم، كأنه حرف واحد بمنزلة قابيل وهابيل، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: قال: من الخطأ أن تقول: قرأت الحواميم، وليس من كلام العرب، والصواب أن تقول: قرأت آل حاميم.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
113

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٥) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (١٨) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٢١) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢)﴾.
114
المناسبة
لقد قدمنا لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة وآخر سابقتها، وأما قوله تعالى: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الآيات، فمناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) بين أن القرآن كتاب أنزله لهداية الناس، وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم، إذا هم عملوا بهديه.. ذكر أحوال من يجادل فيه لغرض إبطاله، وإخفاء نوره، ثم أرشد رسوله أن لا يغتر بأحوال أولئك المجادلين، وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم، يتصرفون في البلاد للتجارة لسعة الرزق، والتمتع بزخرف الدنيا، فإنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية، ممن كذبوا رسلهم، فحل بهم البوار في الدنيا، وسينزل بهم النكال في الآخرة، في جهنم وبئس القرار.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أبان ما أظهره المشركون للمؤمنين من العداوة ومجادلتهم للرسل بالباطل؛ لإطفاء نور دعوتهم.. أردف ذلك ببيان أن أشرف المخلوقات، وهم الملائكة الذين يحملون العرش، والحافون حول العرش، يحبون المؤمنين، ويطلبون لهم ولآبائهم وأزواجهم وذريّاتهم المغفرة من ربهم، فلا تبال أيها الرسول بهؤلاء المشركين، ولا تقم لهم وزنًا، وكفاك نصرة حملة العرش والحافين حوله.
وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها (٢): أنه تعالى لما ذكر جدال الكفار في آيات الله وعصيانهم.. ذكر طاعة هؤلاء المصطفين من خلقه، وهم حملة العرش ومن حوله، وهم الحافون به من الملائكة. انتهى.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف أحوال المشركين المجادلين في آيات الله.. أردف ذلك ببيان أنهم يوم القيامة يعترفون بذنوبهم، وباستحقاقهم ما سيحل بهم من النكال والوبال، ويسألون الرجوع
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
115
Icon