تفسير سورة النساء

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة النساء من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

سورة النساء
مدنية٢
وآياتها ١٧٦ آية

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿النَّاسُ﴾ : البشر، واحد الناس من غير لفظه وهو إنسان.
﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ : خافوه إن يعذبكم فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه.
﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ٣﴾ : هي آدم عليه السلام.
﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ : خلق حواء من آدم من ضلعه٤.
﴿وَبَثَّ﴾ : نشر وفرق في الأرض من آدم وزوجه رجالاً ونساء كثيراً.
﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ : كقول الرجل لأخيه: أسألك بالله أن تفعل لي كذا.
﴿وَالأَرْحَامَ﴾ : الأرحام: جمع رحم، والمراد من اتقاء الأرحام صلتها وعدم قطعها.
﴿رَقِيباً﴾ : الرقيب: الحفيظ العليم.
٢ الآية: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ فإنها مكية، فإنها نزلت يوم الفتح في مكة في شأن عثمان بن طلحة الحجي.
٣ لفظ النفس: مؤنث قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ أي: النفس، ولذا وصفت هنا بواحدة لا بواحد.
٤ قال قتادة: "خلقت حواء من قصيراء آدم، وفي الحديث: "المرأة من ضلع... ".
432
معنى الآية الكريمة:
ينادي الرب تبارك وتعالى عباده بلفظ عام يشمل مؤمنهم وكافرهم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ ويأمرهم بتقواه عز وجل وهي اتقاء عذابه في الدنيا والآخرة بالإسلام التام إليه ظاهراً وباطناً. واصفاً نفسه تعالى بأنه ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة وهي آدم الذي خلقه من طين، وخلق من تلك النفس زوجها١ وهي حواء، وأنه تعالى بث منهما أي: نشر منهما في الأرض رجالاً كثيراً ونساء كذلك ثم كرر الأمر بالتقوى، إذ هي ملاك الأمر، فلا كمال ولا سعادة بدون الالتزام بها قائلاً: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ٢ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ٣﴾ أي: اتقوا الله ربكم الذي آمنت به قلوبكم فكنتم إذا أراد أحدكم من أخيه شيئاً قال له أسألك بالله إلا أعطيتني كذا... واتقوا الأرحام٤ أن تقطعوها فإن في قطعها فساداً كبيراً وخللاً عظيما يصيب حياتكم فيفسدها عليكم، وتوعدهم تعالى إن لم يمتثلوا أمره بتقواه ولم يصلوا أرحامهم بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ مراعياً لأعمالكم محصياً لها حافظاً يجزيكم بها ألا أيها الناس فاتقوه.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
١- فضل هذه الآي إذ كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب في حاجة تلا آية آل عمران: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون﴾. وتلا هذه الآية، ثم آية الأحزاب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾، ثم يقول: أما بعد ويذكر حاجته.
٢- أهمية الأمر بتقوى الله تعالى إذا كررت في آية واحدة مرتين في أولها وفي آخرها.
٣- وجوب صلة الأرحام وحرمة قطعها.
٤- مراعاة الأخوة البشرية بين الناس واعتبارها في المعاملات.
١ الفصيح هو: لفظ زوج، ولذا لم يرد في القرآن بالتاء قط، وتساهل فيه الفقهاء لأجل التفرقة بين الرجل والمرأة، ولهذا يقولون للزوج كذا، وللزوجة كذا.
٢ الإتيان باسم الجلالة هنا: ﴿واتقوا الله﴾ بدل: اتقوا ربكم من أجل تربية المهابة في نفس السامعين لأن المقام مقام تشريع فلا بد من إعداد النفوس لقبوله والنهوض به.
٣ الأرحام: معطوف على اسم الجلالة منصوب، أي: اتقوا الله أن تعصوه، والأرحام أن تعطعوها. وقرئ: الأرحام بالجر عطفاً على الضمير في به، وهو قبيح. إذ لا يعطف على الضمير المجرور إلا إذا أعيد حرف الجر إلا ما كان ضرورة الشعر؛ كقول القائل:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
وعظم القبح؛ لأن في ذلك حلف بالرحم، والحلف بغير الله حرام.
٤ الأرحام: اسم لكل الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره، وصلة الرحم واجبة إجماعاً، وفي الحديث: "صلي أمك" أمر لأسماء، وأمها كانت يومئذ كافرة. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه".
433
﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الْيَتَامَى﴾ : جمع يتيم ذكراً كان أو أنثى، وهو من مات والده وهو غير بالغ الحلم.
﴿وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ : الخبيث: الحرام، والطيب: الحلال، والمراد بها هنا الرديء والجيد.
﴿حُوباً كَبِيراً﴾ : الحوب: الإثم العظيم.
﴿أَلا تُقْسِطُوا١﴾ : أن لا تعدلوا.
﴿مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ : أي: اثنتين أو ثلاث، أو أربع إذ لاتحل الزيادة على الأربع٢.
﴿أَدْنَى أَلا تَعُولُوا﴾ : أقرب أن لا تجوروا بترك العدل بين الزوجات.
﴿صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً٣﴾ : جمع صدقة، وهي الصداق والمهر، ونحلة بمعنى فريضة واجبة.
﴿هَنِيئاً﴾ : الهنيء: ما يستلذ به عند أكله.
﴿مَرِيئاً﴾ : المريء: ما تحسن عاقبته بأن لا يعقب آثاراً سيئة.
١ روى مسلم عن عائشة في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَرُبَاعَ﴾، قالت لعروة: "يا ابن أختي: هى اليتيمة، تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا ويبلغوا بهن سنتهن من الصداق، وأمره أن ينكحوا ما طاب لهم" الحديث.
٢ استبنط من إباحة أربع أن الزوج عليه أن يبيت مع زوجته ليلة من أربع، ولا يجوز التقصير في ذلك إلا برضاها.
٣ وبنو تميم، يقولون: صُدقة بضم الصاد، والجمع: صدقات. والنحلة: بكسر النون وضمها، أصلها: العطاء، يقال: نحلة نحله كذا أعطاه. فالصداق عطية من الله للمرأة، وما دام عطية الله، فهي إذاً فريضة واجبة.
434
معنى الآيات:
لما أمر تعالى بصلة الأرحام وحرم قطعها في الآية السابقة أمر في هذه الآية أوصياء اليتامى أن يعطوا اليتامى١ أموالهم إذا هم بلغوا سن الرشد وآنسوا منهم الرشد، فقال تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾. ونهاهم محرماً عليهم أن يستبدلوا أموال اليتامى الجيدة بأموالهم الرديئة فقال تعالى: ﴿وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ﴾، أي: الرديء من أموالكم بالطيب من أموالهم، ملا في ذلك من أذية اليتيم في ماله، ونهاهم أيضاً أن يأكلوا أموال يتاماهم مخلوطة مع أموالهم لما في ذلك من أكل مال التيم بغير حق فقال تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ٢ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، وعلل ذلك بأنه إثم عظيم فقال عز وجل: ﴿إنه﴾ أي: الأكل ﴿كَانَ حُوباً كَبِيراً﴾ والحوب الإثم. هذا معنى الآية الأولى (٢) ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى٣ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً٤ كَبِيراً﴾، وأما الآية الثانية (٣) فقد أرشد الله تعالى أولياء اليتيمات أن هم خافوا أن لا يعدلوا معهن إذا تزوج أحدهم وليته أرشدهم أن يتزوجوا ما طاب لهم من النساء غير ولياتهم مثنى، وثلاث ورباع٥. يريد اثنتين أو ثلاث أو أربع كل بحسب قدرته، فهذا خير من الزواج بالولية فيهضم حقها وحقها آكد لقرابتها. هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾. وقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يريد تعالى وإن خاف المؤمن ألا يعدل بين زوجاته لضعفه فليكتف بواحدة ولا يزد عليها غيرها أو يتسرى بمملوكته إن كان له مملوكة فإن هذا أقرب إلى أن لا يجور المؤمن ويظلم نساءه. هذا معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا﴾. وفي الآية الرابعة والأخيرة يأمر تعالى بأن يعطوا النساء مهورهن فريضة منه تعالى فرضها على
١ هذا باعتبار ما كانوا عليه، أما اليوم فليسوا يتامى، إذ لا يتم مع البلوغ.
٢ قيل: إلى هنا بمعنى مع، وهو سائغ إلى أنها على بابها أولى والتقدير ولا تأكلوا أمواله مضافة إلى أموالكم.
٣ أي: أعطوا، يقال: أتاه كذا، أعطاه إياه والإيتاء مصدر الإعطاء، ويقال لفلان: أتوا، أي: عطاء، ويقال: أتوت الرجل أتوه إيتاوه وهي الرشوة، ولإيتاء اليتامى أموالهم صورتان: الأولى: غذائهم وكساؤهم ما داموا تحت الولاية، والثانية: دفع أموالهم إليهم، وذلك عند البلوغ والرشد.
٤ الحوب: الإثم، وفيه لغات: الحوب بضم الحاء، والحوب بفتحها، والحيابة والحاب أيضاً، وهو مصدر كالقال من قال: قولاً وقالاً، ويكون الحوب بالضم بمعنى الوحشة، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي أيوب: "إن طلاق أم أيوب لحوب"، والحوبة: الإثم ومنه: اللهم اغفر حوبتي، والحوبة: الحاجة، ومنه: إليك أرفع حوبتي، أي: حاجتي. هذا في الدعاء.
٥ الإجماع على أن المراد من قوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ أن ينكح الرجل اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً على التخيير، وليس معناه الجمع بين تسع نساء، ومن فعل وهو عالم يحد بالرجم، وإن كان جاهلاً يحد بالجلد.
435
الرجل لامرأته، فلا يحل له ولا لغيره أن يأخذ منها شيئاً إلا يرضى الزوجة فإن هي رضيت فلا حرج في الأكل من الصداق لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً﴾.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١-كل مال حرام فهو خبيث، وكل حلال فهو طيب.
٢-لا يحل للرجل أن يستبدل جيداً من مال يتيمه بمال رديء من ماله؛ كأن يأخذ شاة سمينة ويعطيه هزيلة أو يأخذ تمراً جيداً ويعطيه رديئاً خسيساً.
٣-لا يحل خلط مال اليتيم مع مال الوصي ويؤكلان جميعاً لما في ذلك من أكل مال اليتيم ظلما.
٤-جواز نكاح أكثر من واحدة إلى أربع مع الأمن من الحيف والجور.
٥-وجوب مهور النساء وحرمة الأكل منها بغير طيب نفس صاحبة المهر وسواء في ذلك الزوج، وهو المقصود في الآية أو الأب والأقارب.
﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً (٦) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَلا تُؤْتُوا١﴾ : لا تعطوا.
١ في الآية دليل على مشروعية الحجر على السفيه، وسواء كان السفه لصغر أو لخفة عقل أو عدم رشيد.
436
﴿السُّفَهَاءَ﴾ : جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال.
﴿قِيَاماً١﴾ : القيام: ما يقوم به الشيء، فالأموال جعلها الله تعالى قياماً، أي: تقوم عليها معايش الناس ومصالحهم الدنيوية والدينية أيضاً.
﴿قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾ : أي: قولاً تطيب٢ به نفسه فلا يغضب ولا يحزن.
﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ : أي: اختبروهم كي تعرفوا هل أصبحوا يحسنون التصرف في المال.
﴿بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ : أي: سن الزواج، وهي البلوغ.
﴿آنَسْتُمْ﴾ : أبصرتم الرشد في تصرفاتهم٣.
﴿إِسْرَافاً وَبِدَاراً﴾ : الإسراف: الإنفاق في غير الحاجة الضرورية، والبدار: المبادرة والمسارعة إلى الأكل منه قبل أن ينقل إلى اليتيم بعد رشده.
﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ : أي: يعف بمعنى يكف عن الأكل من مال يتيمه.
﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ : أي: بقدر الحاجة الضرورية.
﴿وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً﴾ : شاهداً لقرينة فأشهدوا عليهم.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في إرشاد الله تعالى عباده المؤمنين إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا، ونجاتهم وفلاحهم في الآخرة فقال تعالى في الآية الأولى (٥) ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ٤ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾، فنهاهم تعالى أن يعطوا أموالهم التي هي قوام معاشهم السفهاء من امرأة وولد أو رجل قام به وصف السفه، وهو قلة البصيرة بالأمور المالية، والجهل بطرق التصرف الناجحة مخافة أن ينفقوها في غير وجوهها، أو يفسدوها بأي نوع من الإفساد، كالإسراف ونحوه، وأمرهم أن يرزقوهم فيها ويكسوهم، وقال فيها ولم يقل منها إشارة إلى أن المال ينبغي في تجارة أو صناعة أو
١ قياماً: أصلها: قواماً، فكسر ما قبل الواو فقلبت ألفاً قياماً وقواماً بمعنى واحد، والقيام والقوام ما يقيم غيره، فالأموال بها يتقوم المعاش، ولذا قيل: الأموال قوام الأعمال.
٢ كقوله لولد: مالي إليك صائر، وكأن يدعو لهم: بارك الله فيكم، أو يقول: هذا مالكم احفظه لكم لتأخذوه يوم ترشدون.
٣ دفع مال اليتيم إليه يتم بشرطين: الرشد والبلوغ. فإن وجد أحدهما دون الآخر فلا يتم تسليم المال.
٤ في هذه الآية دليل على مشروعية الوصاية والولاية والكفالة على الأيتام وبها دليل على وجوب النفقة على الزوجة والأولاد، وفي الصحيح: "إفضل الصدفة ما ترك غني، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول" وهم الزوجة والولد والعبد.
437
زراعة فيبقى رأس المال والكل يكون من الربح فقط، كما أمرهم أن يقولوا لسفائهم الذين منعوهم المال أن يقولوا لهم قولاً معروفاً؛ كالعدة الحسنة والكلمة الطيبة، هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الثانية (٦) فقد أمرهم تعالى باختبار١ اليتامى إذا بلغوا سن الرشد أو ناهزوا البلوغ٢ بأن يعطوا شيئاً من المال ويطلبوا منهم أن يبيعوا أو يشتروا فإذا وجدوا منهم حسن تصرف دفعوا إليهم أموالهم وأشهدوا عليهم، حتى لا يقول أحدهم في يوم من الأيام ما أعطيتني مالي، ﴿وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً﴾ أي: شاهداً ورقيباً حفيظاً. ونهاهم عز وجل أن يأكلوا أموال اليتامى إسرافاً وبداراً أن يكبروا ويريد لا تأكلوا أموال يتاماكم أيها الولاة والأوصياء٣ بطريق الإسراف، وهو الإنفاق الزائد على قدر الحاجة، والمبادرة هي المسارعة قبل أن يرشد السفيه وينقل إليه المال. ثم أرشدهم إلى أقوم الطرق وأسدها في ذلك، فقال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً﴾ فليكف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئاً، ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وذلك بأن يستقرض منه ثم يرده إليه بعد الميسرة، وإن كان الولي فقيراً جاز له أن يعمل بأجر كسائر العمال، وإن كان غنياً فليعمل مجاناً احتساباً وأجره على الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- مشروعية الحجر على السفيه لمصلحته.
٢- استحباب تنمية الأموال في الأوجه الحلال لقرينة ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾.
٣- وجوب اختبار السفيه قبل دفع ماله إليه، إذ لا يدفع إليه المال إلا بعد وجود الرشد.
٤- وجوب الإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه ورشده.
٥- حرمة أكل مال اليتيم والسفيه مطلقاً.
٦- الوالي على اليتيم إن كان غنياً فلا يأكل من مال اليتيم شيئاً، وإن كان فقيراً استقرض ورد عند الوجد واليسار، وإن كان مال اليتيم يحتاج إلى أجير للعمل فيه جاز للوفي أن يعمل بأجرة المثل.
١ هذا الآية نزلت في ثابت بن رفاعة، وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفى وترك ابنه وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن أبن أخي في حجري، فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
٢ يعرف البلوغ بالاحتلام وإنبات شعر العانة، أو بلوغ ثمانية عشر سنة، هذا للغلام. أما الجارية فتزيد بعلامة أخرى هي الحيض والحمل.
٣ العاجز عن الوصاية لجهل أو عدم قدرته أو ضعف أرادته ينبغي له أن لا يلي مال يتيم أو قاصر لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي ذر: " يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لاتأمرن على اثنين ولا تلينّ مال يتيم" رواه مسلم.
438
﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿نَصِيبٌ﴾ : الحظ المقدر١ في كتاب الله.
﴿الْوَالِدَانِ﴾ : الأب والأم.
﴿وَالأَقْرَبُونَ﴾ : جمع قريب، وهو هنا الوارث بنسب أو مصاهرة أو ولاء.
﴿نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾ : قدراً واجباً لازماً.
﴿أُولُو الْقُرْبَى﴾ : أصحاب القرابات الذين لا يرثون لبعدهم عن عمودي النسب.
﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ : أعطوهم شيئاً يرزقونه.
﴿قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾ : لا إهانة فيه ولا عتاب، ولا تأفيف.
الخشية: الخوف في موضع الأمن.
﴿قَوْلاً سَدِيداً﴾ : عدلاً٢ صائباً.
﴿ظُلْماً﴾ : بغير حق يخول لهم أكل مال اليتيم.
١ هذا النصيب الذي أوجبه الله للورثة مجمل وسيأتي تفصيله في آية: ﴿يُوصِيكُم الله فيِ أَوْلادكم﴾ الآية.
٢ القول السديد هو قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد ابن أبي وقاص، وقد مرض مرضاً شديداً فعاده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، فقال سعد: يا رسول الله إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلث مالي؟ قال: "لا" قال: فشطره؟ قال: "لا" قال: فالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كثير". ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ".
439
﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ : سيدخلون سعيراً ناراً مستعرة يشوون فيها ويحرقون بها.
معنى الآيات:
لقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال بحجة أن الطفل كالمرأة لا تركب فرساً ولا تحمل كلاً ولا تنكي عدواً، يكسب١ ولا تكسب، وحدث وحدث أن امرأة يقال لها: أم كحة، مات زوجها وترك لها بنتين فمنعهما أخو الهالك من الإرث فشكت: أم كحة إلى٢ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزلت هذه الآية الكريمة: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ﴾، ومن ثم أصبحت المرأة؛ كالطفل الصغير يرثان كالرجال، وقوله تعالى: ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ﴾ أي: من المال المتروك ﴿أَوْ كَثُرَ﴾ حال كون ذلك نصيباً مفروضاً لابد من إعطائه الوارث ذكراً كان أو أنثى صغيراً أو كبيراً. والمراد من الوالدين: الأب والأم، الأقربون٣؛ كالأبناء والإخوان والبنات والأخوات، والزوج والزوجات، هذا ما تضمنته٤ الآية الأولى (٧)، وأما الآية الثانية (٨) فقد تضمنت فضيلة جميلة غفل عنها المؤمنون وهي أن من البر والصلة والمعروف إذا هلك هالك، وقدمت تركته للقسمة بين الورثة، وحضر قريب غير وارث لحجبه أو بعده أو حضر يتيم أو مسكين من المعروف أن يعطوا شيئاً من تلك التركة قبل قسمتها وإن تعذر العطاء؛ لأن الورثة يتامى أو غير عقلاء يصرف أولئك الراغبون من قريب ويتيم ومسكين بكلمة طيبة كاعتذار جميل تطيب به نفوسهم هذا ما تضمنته الآية الثانية وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ٥ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ أي: من المال المتروك ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾ إن تعذر إعطاؤهم لمانع يتم أو عقل. أما الآية الثالثة
١ يكسب، أي: الرجل، ولا تكسب، أي: المرأة.
٢ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن". فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليهم وإبطالاً لقولهم وتصرفهم الجاهلي، إذا المفروض أن الصغير والمرأة أولى بالإرث لحاجتهما وخوفهما.
٣ لفظ الأقربون مجمل، ومن هنا أرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سويد وعرفجة: "ألا يفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله جعل لبناته نصيباً ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا". فنزلت: ﴿يوصِيكم الله﴾ الآية، فأرسل إليهما أن أعطي أم محة الثمن مما ترك أوس، ولبناته الثلثين ولكما بقية المال.
٤ قوله تعالى: ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾ اختلف أهل العلم في الشيء يتركه الموروث، وهو لا يقبل كالدار الصغيرة، والجوهرة الواحدة، وما إلى ذلك، فذهب بعض إلى إنه لابد من القسمة، وذهب آخرون، وهو الحق إن شاء الله تعالى: أن مالاً يقبل القسمة لفساده يباع ويقسم ثمنه على الورثة ولا شفعة فيه لأنه لا تأتي فيه الحدود، والشفعة فيما يقسم وتوقع فيه الحدود، وهذا ليس كذلك لتعذر قسمته، ويشهد لهذا الرأي حديث الدارقطني، ونصه: "لا تعضيه" أي: لا تفرقه على أهل الميراث إلا ما حمل القسم، فقرر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مالاً يقبل القسم لا يحوز تعضيته أي: تفريقه على الورثة لأنه يفسد بالقسمة فتعين أن يباع ويقسم ثمنه.
٥ الجمهور على أن هذه الآية منسوخة بأية: ﴿يُوصِيكمْ الله فيِ أَوْلادُكم﴾ الآية، وقال ابن عباس: "إنها محكمة" وعلى إنها غير منسوخة شرحناها في التفسير، فليتأمل.
440
وهي قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً﴾، فقد تضمنت إرشاد الله تعالى للمؤمن الذي يحضر مريضاً على فراش الموت بأن لا يسمح له أن يحيف في الوصية بأن يوصي لوارث أو يوصي بأكثر من الثلث أو يذكر ديناً ليس عليه، وإنما يريد حرمان الورثة. فقال تعالى آمراً عباده المؤمنين ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ أي: من بعد موتهم، ﴿ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾، أي: فليخشوا هذه الحال على أولاد غيرهم ممن حضروا وفاته. كما يخشونها على أولادهم. إذاً فعليهم أن يتقوا الله في أولاد غيرهم. وليقولوا لمن حضروا وفاته ووصيته قولاً سديداً: صائباً لا حيف فيه ولا جور معه. هذا ما تضمنته الآية الثالثة (٩)، أما الآية الرابعة (١٠) فقد تضمنت وعيداً شديداً لمن يأكل مال اليتيم ظلماً، إذ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى١ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ٢ سَعِيراً﴾. والمراد من الظلم أنهم أكلوها بغير حق أباح لهم ذلك كأجرة عمل ونحوه، ومعنى: ﴿يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾ إنهم يأكلون النار يوم القيامة، فقوله إنما يأكلون في بطونهم ناراً هو باعتبار ما يؤول إليه أمر أكلهم اليوم، والعياذ بالله من نار السعير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير مبدأ التوارث في الإسلام.
٢- استحباب إعطاء من حضر قسمة التركة من قريب أو يتيم ومسكين وإن تعذر إعطاؤهم صُرفوا بالكلمة الطيبة، وفي الحديث: "الكلمة الطيبة صدقة".
٣- وجوب النصح والإرشاد للمحتضر حتى لا يجور في وصيته عند موته.
٤- على من يخاف على أطفاله بعد موته أن يحسن إلى أطفال غيره فإن الله تعالى يكفيه فيهم.
٥- حرمة أكل مال اليتامى ظلماً، والوعيد الشديد فيه.
١ الآية دليل على أن أكل مال اليتيم بدون حق من كبائر الذنوب بل هو من الموبقات السبع لحديث الصيحح: "اجتنبوا السبع الموبقات" وذكر الشرك، وعقوق الوالدين، والربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
٢ قرأ أبو حيوة: ﴿وسيُصلّون﴾ بضم الياء وتشديد اللام من التصلية التي هي كثرة الفعل مرة بعد أخرى ومنه: ﴿ثُمّ الْجَحِيم صَلّوه﴾، أي: مرة بعد مرة، وعليه قول الشاعر:
وقد تصليت حر حربهم... كما تصلى المقرور من قرتين
يريد أنه اكتوى بنار حربهم مرة بعد مرة كما يفعل من به البرد الشديد فإنه يستدفئ مرة بعد مرة.
441
﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿يُوصِيكُمُ﴾ : يعهد إليكم.
﴿فِي أَوْلادِكُمْ﴾ : في شأن أولادكم والولد يطلق على الذكر والأنثى.
﴿حَظِّ﴾ : الحظ: الحصة أو النصيب.
﴿نِسَاءً﴾ : بنات كبيرات أو صغيرات.
﴿ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ : الثلث: واحد من ثلاثة، والثلثان: اثنان من ثلاثة.
﴿السُّدُسُ﴾ : واحد من ستة.
﴿إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ : ذكراً كان أو أنثى، أو كان له ولد ولدٍ أيضاً ذكراً أو أنثى، فالحكم واحد.
﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ : اثنان فأكثر.
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ : أي يُخرجُ الدين١ ثم الوصية ويقسم الباقي على الورثة.
﴿لا تَدْرُونَ﴾ : لا تعلمون.
﴿فَرِيضَةً٢﴾ : فرض الله ذلك عليكم فريضة.
١ يرى الإمام الشافعي أن من مات وعليه زكاة أو حج الفرض أن يخرج ذلك من ماله قبل قسمة التركة، وقال مالك: إن أوصى به تنفذ تنفذ وصيته، وإن لم يوص فالمال للورثة، وهو أمره إلى الله تعالى.
٢ الفرائض ست: وهي النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.
442
﴿عَلِيماً حَكِيماً﴾ : عليماً بخلقه وما يصلح لهم، حكيماً في تصرفه في شؤون خلقه وتدبيره لهم.
معنى الآية الكريمة:
هذه الآية الكريمة (١١) ﴿يُوصِيكُمُ١ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ٢ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ إلخ. والتي بعدها (١٢) وهي قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ إلخ. نزلت لتفصيل حكم الآية (٧) والتي تضمنت شرعية التوارث بين الأقارب المسلمين فالآية الأولى (١١) بين تعالى فيها توارث الأبناء مع الآباء، فقال تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ﴾ أي: في شأن أولادكم ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ يريد إذا مات الرجل وترك أولاداً ذكوراً وإناثاً فإن التركة تقسم على أساس للذكر مثل نصيب الأنثيين، فلو ترك ولداً وبنتاً وثلاثة دنانير فإن الولد يأخذ دينارين، والبنت تأخذ ديناراً، وإن ترك بنات اثنين أو أكثر ولم يترك معهن ذكراً فإن للبنتين فأكثر الثلثين، والباقي للعصبة، إذ قال تعالى: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾. وإن ترك بنتاً واحدة فإن لها النصف والباقي للعصبة، وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾، وإن كان الميت قد ترك أبويه، أي: أمه وأباه وترك أولاداً ذكوراً أو إناثاً فإن لكل واحد من أبويه السدس والباقي للأولاد، وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾، يريد ذكراً كان أو أنثى٣. فإن لم يكن للهالك ولد ولا ولَدْ ولَدٍ فلأمه الثلث٤ وإن كان له أخوة اثنان فأكثر فلأمه السدس٥، هذا معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ﴾. أي: تسقط من الثلث٦ إلى السدس وهذا
١ هذه الآية مبينة لما أجمل في آية: ﴿للرجَال نَصيب..﴾ وتسمى آية المواريث وهي من أعظم الآيات قدراً؛ لأن علم الفرائض يعتبر ثلث العلم لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رواية أبي داود وغيره: "العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة". ومعنى محكمة غير منسوخة، ومعنى قائمة ثابتة صحيحة، ومعنى عادلة لم يخرج بها عن مراد الله تعالى منها، وذلك بإعطاء الوارث ما كتب الله له.
٢ خرج من لفظ: الأولاد الكافر لأنه لا حق له في الإرث؛ لأن الكفر مانع، وذلك لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". كما خرج ميراث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة".
٣ إذا كان الولد خنثى فإنه يورث من حيث يبول، إن بال من حيث يبول الرجال يورث إرث الذكر، وإن بال من حيث تبول النساء يورث إرث النساء، وإن أشكل ذلك يعطي نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى. على هذا الجمهور.
٤ هناك ما يعرف بالثلث الباقي، وهو أن تهلك هالكة وتترك زوجها وأبويها؛ فللزوج النصف، والباقي ثلثه للأم، والثلثان للأب، قرر هذا ابن عباس، وزيد بن ثابت، وقرره كافة الأصحاب، وعليه الأئمة، وحتى لا تأخذ المرأة أكثر من الرجل.
٥ قيل في سر حجب الأخوة لأمهم من الثلث إلى السدس: أن والدهم هو الذي يلي نكاحهم وهو الذي ينفق عليهم دون أمهم. وهو رأي حسن.
٦ الجدة ترث السدس ولا ترث الثلث، كما ترثه الأم إجماعاً.
443
يسمى بالحجب فحجبها إخوة ابنها الميت من الثلث إلى السدس. وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ يريد أن قسمة التركة على النحو الذي بين تعالى يكون بعد قضاء دين الميت وإخراج ما أوصى به إن كان الثلث فأقل وهو معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾. وقوله تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً﴾ معناه: نفذوا هذه الوصية المفروضة كما علمكم الله ولا تحاولوا أن تفضلوا أحداً على أحد فإن هؤلاء الوارثين آباؤكم وأبناؤكم ولا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً في الدنيا والآخرة، ولذا فاقسموا التركة كما علمكم بلا محاباة فإن الله تعالى هو القاسم والمعطي عليم بخلقه وبما ينفعهم أو يضرهم حكيم في تدبيره لشؤونهم فليفوض الأمر إليه، وليرض بقسمته فإنها قسمة عليم حكيم.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
١- أن الله تعالى تولى قسمة التركات بنفسه فلا يحل لأحد أن يغر منها شيئاً.
٢- الاثنان يعتبران جمعاً.
٣- ولد الولد١ حكمه حكم الولد نفسه في الحجب.
٤- الأب عاصب فقد يأخذ فرضه مع أصحاب الفرائض وما بقي يرثه بالتعصيب لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فالأولى رجل ذكر.
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ
١ لفظ: الولد، يشمل المولود فعلاً، والجنين في بطن أمه دنيا أو بعيداً من الذكور أو الإناث على حد سواء.
444
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) }
شرح الكلمات:
﴿أَزْوَاجُكُمْ﴾ : الأزواج هنا: الزوجات.
﴿وَلَدٌ﴾ : المراد هنا بالولد: ابن الصلب ذكراً كان أو أنثى، وولد الولد مثله.
﴿الرُّبُعُ﴾ : واحد من أربعة.
﴿كَلالَةً١﴾ : الكلالة أن يهلك هالك ولا يترك ولداً ولا والداً ويرثه إخوته لأمه.
﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ٢﴾ : أي: من الأم.
﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ : بهما –أي: الوصية والدين- أحداً من الورثة.
﴿حَلِيمٌ﴾ : لا يعاجل بالعقوبة على المعصية. معنى الآية الكريمة:
كانت الآية قبل هذه في بيان الوراثة بالنسب وجاءت هذه في بيان الوراثة بالمصاهرة، والوارثون بالمصاهرة: الزوج والزوجات، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾، فمن ماتت وتركت مالاً ولم تترك ولداً ولا ولد ولدٍ ذكراً كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها النصف، وإن تركت ولداً أو ولد ولد ذكراً كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها الربع لا غير لقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾. وهذا من بعد سداد الدين إن كان على الهالكة دين، وبعد إخراج الوصية إن أوصت الهالكة بشيء، لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ
١ من يكلله النسب إذا أحاط به وبه سمي الإكليل؛ لإحاطته بالرأس، وسمي القرابة: كلالة؛ لإحاطتهم بالميت من جوانبه، وليسوا منه، ولا هو منهم.
٢ أخ: أصله أخو بدليل تثنيته على أخوين نصباً وجراً وأخوان رفعاً.
445
بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. هذا ميراث الزوجة من زوجها فهو الربع إن لم يترك الزوج ولداً ولا ولد ولد ذكراً كان أو أنثى فإن ترك ولداً أو ولد ولد فللزوجة الثمن، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾. هذا وإن كان للزوج الهالك زوجتان أو أكثر فإنهن يشتركن في الربع بالتساوي إن لم يكن للهالك ولد، وإن كان له ولد فلهن الثمن يشتركن فيه بالتساوى وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾ أي تورث كلالة أيضاً، والموروث كلالة وهو من ليس له والد ولا ولد، وإنما يرثه إخوته لأمه كما في هذه الآية أو إخوته لأبيه وأمه كما في آي الكلالة في آخر هذه السورة، فإن كان له أخ من أمه فله السدس، وكذا إن كانت له أخت فلها السدس، وإن كانوا اثنين فأكثر فلهم الثلث١ لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ٢ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ٣﴾ بأن يوصى بأكثر من الثلث، أو يقر بدين وليس عليه دين وإنما حسد للورثة أو بغضاً لهم لا غير، فإن تبين ذلك فلا تنفذ الوصية ولا يسدد الدين وتقسم التركة كلها على الورثة، وقوله تعالى: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللهِ﴾ أي: وصاكم أيها المؤمنون بهذا وصية فهي جديرة بالإحترام والامتثال. والله عليم بنياتكم وأحوالكم وما يضركم وما ينفعكم فسلموا قسمته وأطيعوه فيها وهو حليم لا يعاجل بالعقوبة فلا يغركم حلمه أن بطشه شديد وعذابه أليم.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- بيان ميراث الزوج من زوجته، والزوجة والزوجات من زوجهن.
٢- بيان ميراث الكلالة وهو من لا يترك والداً ولا ولداً فيرثه إخوته فقط٤ يحوطون به إحاطة
١ وهو ما يعرف بالحجرية، أو الحمارية، أو المشتركة وهي: أن تموت امرأة وتترك زوجها وأمها وأخوة لأمها وأخاً لأبيها وأمها، فللزوج النصف، والأم السدس، والباقي للأخوة للأم، ولا شيء للأخ للأب، أو لهما معا. وسميت بالحمارية: لأنهم لما منعوا قالوا للقاضي بينهم: هب أبانا حماراً أليست أمنا واحدة، وقالوا هب أبانا حجراً أليست أمنا واحدة، وطالبوا بتشريكهم في الإرث فسميت المشتركة.
٢ ذكرت الوصية قبل الدين، والإجماع على تقديم الدين على الوصية لحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك وقيل في السر في ذلك: أن تقديم الوصية في اللفظ كان بسبب أنه لا يوجد من يطالب بها فقد تنسى، وأما الدين فأهله يطالبون به فلا ينسى ولا يترك.
٣ مضار: اسم فاعل، أي: مضارر، فأدغمت الراء في الراء فصارت مضار، أي: حال كون الموصي غير مريد الإضرار بالورثة.
٤ أي: لأمه، ولهذا خالف أخوة الأم الورثة في ثلاث مسائل: الأولى: أنهم يرثون مع من يدلون به وهو أمهم. والثانية: إن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء. والثالثة: أنهم لا يرثون إلا إذا كان ميتهم يورث كلالة.
446
الإكليل بالرأس فلذا سُميت الكلالة.
٣- إهمال الوصية أو الدين إن علم إن الغرض منها الإضرار بالورثة فقط.
٤- عظم شأن المواريث فيجب معرفة ذلك وتنفيذه كما وصى الله تعالى.
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٤) ﴾
شرح الكلمات:
﴿تِلْكَ حُدُودُ١ اللهِ﴾ : تلك اسم إشارة أشير به إلى سائر ما تقدم من أحكام النكاح وكفالة اليتامى وتحريم أكل مال اليتيم، وقسمة التركات. وحدود الله هي ما حده لنا وبينه من طاعته وحرم علينا الخروج عنه والتعدي له.
﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ : هو النجاة من النار ودخول الجنة.
العذاب المهين: ما كان فيه إهانة للمعذب بالتقريع والتوبيخ ونحو ذلك.
معنى الآيتين:
لما بين تعالى ما شاء من أحكام الشرع وحدود الدين أشار إلى ذلك بقوله: ﴿تِلْكَ٢ حُدُودُ اللهِ﴾ قد بينها لكم وأمرتكم بالتزامها، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ فيها وفي غيرها من الشرائع والأحكام فجزاؤه أنه يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، أنهار العسل واللبن والخمر والماء، وهذا هو الفوز العظيم، حيث نجاه من النار وأدخله الجنة يخلد فيها أبداً. ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ بتعد تلك الحدود وغيرها من الشرائع والأحكام ومات على ذلك فجزاؤه أن
١ الحدود: جمع حد، وهو ظرف مكان يميز عن مكان آخر يمنع تجاوزه. هذا هو الحد لغة وشرعاً، ما منع الله تجاوزه مما أحل إلى ما حرم فأحكام الشرع هي حدوده.
٢ يرى بعضهم أن الإشارة لأقرب مذكور، وهو قسمة المواريث وما فسرنا به أولى لأنه أعم يشمل كما تقدم من أحكام الشريعة.
447
يدخله ناراً يخلد فيها١ وله عذاب مهين. والعياذ بالله من عذابه وشر عقابه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- بيان حرمة تعدي حدود الله تعالى.
٢- بيان ثواب طاعة الله ورسوله وهو الخلود في الجنة.
٣- بيان جزاء معصية الله ورسوله وهو الخلود في٢ النار والعذاب المهين فيها.
﴿وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (١٨) ﴾
١ إن أريد بالعصيان هنا: الكفر، فالخلود على بابه. وإن أريد بها الكبائر: فالخلود مستعار لمدة ما كقولنا: خلد الله ملكك. وكقول زهير: ولا أرى خالداً إلا الجبال الرواسيا.
٢ هذا الخلود لمن كانت معصيته مكفرة له، أما من لم يكفر بمعصيته فإنه لا يخلد في النار، بل يخرج منها بإيمانه كما بينت ذلك السنة الصحيحة.
448
شرح الكلمات:
﴿وَاللاتِي١﴾ : جمع التي، اسم موصول للمؤنث المفرد، واللاتي للجمع المؤنث.
﴿الْفَاحِشَةَ٢﴾ : المراد بها هنا: الزنا.
﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ : المحصنات٣.
﴿سَبِيلاً﴾ : طريقاً للخروج من سجن البيوت.
﴿يَأْتِيَانِهَا﴾ : الضمير عائد إلى الفاحشة المتقدم ذكرها.
﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ : اتركوا آذيتهما بعد أن ظهرت توبتهما.
﴿التَّوْبَةُ﴾ : أصل التوبة الرجوع وحقيقتها الندم على فعل القبيح مع تركه، والعزم على عدم العودة إليه.
﴿السُّوءَ﴾ : كل ما أساء إلى النفس والمراد به هنا: السيئات.
﴿بِجَهَالَةٍ﴾ : لا مع العمد والإصرار وعدم المبالاة.
﴿أَعْتَدْنَا﴾ : أعددنا وهيأنا.
﴿أَلِيماً﴾ : موجعاً شديد الإيجاع.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى بحدوده وذكر جزاء متعديها، ذكر هنا معصية من معاصيه وهي فاحشة الزنا، ووضع لها حداً في البيوت حتى الموت أو إلى أن ينزل حكماً آخر يخرجهن من الحبس وهذا بالنسبة إلى المحصنات. فقال تعالى: ﴿وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ٤﴾ أي: من المسلمين بشهدون بأن فلانة زنت بفلانة
١ ومثل اللاتي: اللائي، وجمع اللاتي، اللواتي، وجمع اللائي: اللوائي.
٢ سمي الزنا: فاحشة لأنه تجاوز الحد في الفساد، إذ به يفسد الخلق والعرض والنسب والدين والمجتمع، وكفى بهذا فساداً عظيماً.
٣ النساء: اسم جمع واحدة من غير لفظ: "امرأة" والمحصنات: جمع محصنة وهي التي تزوجت زواجاً شرعياً، وسواء بقيت عليه أو تأيمت بموت أو طلاق.
٤ منكم: أي من المسلمين، إذ لا بد من أربعة شهود من المسلمين يشهدون بأنهم رأوا الفرج في الفرج. مثل: الميل في المكحلة، لحديث أبي داود عن جابر قال: "جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ي بأعلم رجل منكم، فأتوه بابن صوريا، فناشدهما: كيف تجدان أمر هذين في التوراة. قالا: نجد في التوراة إذا شاهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها، مثل الميل في المكحلة رجماً. قال: فما يمنعمكا أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطانناً فكرهنا القتل. فدعا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشهود فحضروا وشهدوا فأمر برجمهما فرجما".
449
فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن١ أو يجعل الله لهن سبيلا. أما غير المحصنات وهن الأبكار فقد قال تعالى في شأنهن، ﴿وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ فآذوها، أي: بالضرب الخفيف والتقريع والعتاب، مع الحبس للنساء، أما الرجال فلا يحبسون وإنما يكتفى بآذاهم إلى أن يتوبوا ويصلحوا فحين إذ يعفو عنهم ويكفوا عن أذيتهم هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذَانِ٢ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾.
ولم يمض على هذين الحدين إلا القليل من الزمن حتى أنجز الرحمن ما وعد وجعل لهن سبيلاً، فقد صح أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان جالساً بين أصحابه حتى أنزل الله تعالى عليه الحكم النهائي في جريمة الزنا فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام". والمراد من الثيب بالثيب، أي: إذا ثيب بثيب، وكذا البكر بالبكر. وبهذا أوقف الحد الأول من النساء والرجال معاً ومضى الثاني، أما جلد البكرين فقد نزل فيه آية النور: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾، وأما رجم المحصنين فقد مضت فيه السنة، فقد رجم ماعز، والغامدية بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حد قائم إلى يوم القيامة. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (١٥) والثانية (١٦)، وأما الآيتان بعدهما وهما (١٧) و (١٨) فقد أخبر تعالى أن الذين يستحقون التوبة وثبتت لهم من الله تعالى هم المذنبون الذين يرتكبون المعصية بسب جهالة منهم، ثم يتوبون من قريب لا يسوفون التوبة ولا يؤخرونها أما الذين يجترحون السيئات مع علم منهم وإصرار، ولا يتوبون إثر غشيان الذنب فلا توبة تضمن لهم فقد يموتون بلا توبة شأنهم شأن الذين يعملون السيئات ولا يتوبون حتى إذا مرض أحدهما وظهرت عليه علامات الموت وأيقن إنه ميت لا محالة قال إنه تائب كشأن الكافرين إذا تابوا عند٣ معاينة الموت فلا تقبل
١ يتوفاهن: يتقاضاهن. يقال: توفى فلان حقه من فلان بمعنى استوفاه، أي: أخذه كاملا لم يبقى منه شيئاً ولما كان العمر أياماً تمر يوماً بعد يوم حتى ينقضي العمر ويموت الإنسان، قيل في الموت: الوفاة، ويقال: توفى فلان؛ لأن أيامه أخذت يوماً فيوماً حتى انقضت على طريقة تسديد الدين جزءاً فجزءاً حتى كمل. قال الشاعر:
إذ ما تقاضى المرء يوم وليلة تقاضاه شيء لا يمل التقضيا
٢ المراد من هذان: الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل؛ لأن الرجل يعمل فلا يحبس، فلذا غلب جانب النساء في قوله: ﴿واللاتي يأتِيَا الفَاحِشَة﴾، وغلب الرجل على المرأة في قوله: ﴿واللَذان يَأْتْيانَها منكم﴾ لأن الأذى صالح للمرأة والرجل معاً، وهو عبارة عن السب والجفاء والتوبيخ باللسان لاغير.
٣ وعليه، فقوله تعالى: ﴿وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ ليس على ظاهره، وإنما معناه يشرفون على الموت، ومن أشرف على الموت، وحضره، فحكمه حكم من مات وهو سائغ في اللغة.
450
منهم توبة أبداً. هذا معنى الآيتين الكريمتين الأولى ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِم﴾ أي: يقبل توبتهم لأنه عليم بضعف عباده حكيم يضع كل شيء في موضعه اللائق به، ومن ذلك قبول توبة من عصوه بجهالة لا بعناد ومكابرة وتحدٍ، ثم تابوا من قريب لم يطيلوا١ مدة المعاصي، والثانية: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾، كما هي ليست للذين يعيشون على الكفر فإذا جاء أحدهم الموت قال تبت كفرعون فإنه لما عاين الموت بالغرق ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. فرد الله تعالى عليه: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾. وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾. إشارة إلى كل من مات على غير توبة بارتكابه كبائر الذنوب أو بكفر وشرك إلى أن المؤمن الموحد يخرج من النار بإيمانه والكافر يخلد فيها. نعوذ بالله من النار وحال أهلها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- عظم قبح فاحشة الزنى.
٢- بيان حد الزنى قبل نسخه بآية سورة النور، وحكم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رجم المحصن والمحصنة.
٣- التوبة التي تفضل الله بها هي ما كان صاحبها أتى ما أتى من الذنوب بجهالة لا بعلم وإصرار ثم تاب من قريب زمن.
٤- الذين يسوفون التوبة ويؤخرونها يخشى عليهم أن لا يتوبوا حتى يدركهم الموت وهم على ذلك فيكونون من أهل النار، وقد يتوب أحدهما، لكن بندرة وقلة وتقبل توبته إذا لم يعاين أمارات الموت لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر". رواه الترمذي وأحمد وغيرهما وإسناده حسن.
٥- لا تقبل توبة من حشرجت نفسه وظهرت عليه علامات الموت، وكذا الكافر من باب أولى لا تقبل له توبة بالإيمان إذا عاين علامات الموت كما لم تقبل توبة فرعون.
١ لأن سنة الله تعالى: أن المرء إذا أدمن على معصية بطول فعلها يشربها قلبه فتحسن في نظره وتجمل في طبعه، فلا يقوى على تركها، وليس أدل على ذلك من فاحشة اللواط، فهي من أقبح الفواحش، ومع هذا من زينت له لا يقدر على تركها.
451
﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (٢١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿كَرْهاً﴾ : بدون رضاهن.
العضل: المنع بشدة كأنه إمساك بالعضلات أو من العضلات.
﴿بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ : أي: من المهور.
الفاحشة: الخصلة القبيحة الشديدة القبح؛ كالزنا.
﴿مُبَيِّنَةٍ١﴾ : ظاهرة واضحة ليست مجرد تهمة أو مقالة سوء.
﴿بِالْمَعْرُوفِ٢﴾ : ما عرفه الشرع واجباً أو مندوباً أو مباحاً.
﴿قِنْطَاراً﴾ : أي: من الذهب أو الفضة مهراً وصداقاً.
١ قرئت: ﴿مبينة﴾ بفتح الياء، وقرئت بكسرها ﴿مبينة﴾، وقرأ ابن عباس ﴿مبينة﴾ بكسر الباء، اسم فاعل من أبان يبين، فهو مبين، وهي مبينة. والمعنى واحد.
٢ من المعاشرة بالمعروف: أن لا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً، ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها.
452
﴿بُهْتَاناً وَإِثْماً﴾ : أي: كذباً وافتراء، وإثماً حراماً لا شك في حرمته؛ لأنه ظلم.
﴿أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ : أي: خلص الزوج إلى عورة زوجته والزوجة كذلك.
﴿مِيثَاقاً غَلِيظاً﴾ : هو العقد وقول الزوج: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
معنى الآيات:
تضمنت هذه الآية: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا١ النِّسَاءَ كَرْهاً﴾ إبطال ما كان شائعاً بين الناس قبل الإسلام من الظلم اللاحق بالنساء، فقد كان الرجل إ ذا مات والده على زوجته ورثها أكبر أولاده من غيرها فإن شاء زوجها وأخذ مهرها وإن شاء استبقاها حتى تعطيه ما يطلب منها من مال فأنزل الله تعالى قوله: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً﴾. فبطل ذلك الحكم الجاهلي بهذه الآية الكريمة وأصبحت المرأة إذا مات زوجها اعتدت في بيت زوجها فإذا انقضت عدتها ذهبت حيث شاءت ولها ما لها وما ورثته من زوجها أيضاً وقوله تعالى: ﴿وَلا تَعْضُلُوهُنَّ٢ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾. فهذا حكم آخر وهو أن يحرم على الزوج إذا كره٣ زوجته أن يضايقها ويضارها حتى تفتدي منه ببعض مهرها، إذ من معاني العضل المضايقة والمضارة، هذا ما لم ترتكب الزوجة فاحشة الزنا أو تترفع عن الزوج وتتمرد عليه وتبخسه حقه في الطاعة والمعاشرة بالمعروف أما إن أتت بفاحشة مبينة لا شك فيها أو أنشزت نشوزاً بيناً فحينئذ للزوج أن يضايقها حتى تفتدي منه بمهرها أو بأكثر حتى يطلقها، وذلك لقوله تعالى: ﴿إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بمعاشرة الزوجات بالمعروف وهو العدل والإحسان، فقال: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وإن فرض أن أحداً منكم كره زوجته وهي لم تأتي بفاحشة مبينة فليصبر عليها ولا يطلقها فلعل الله تعالى يجعل في بقائها في عصمته خيراً كثيراً له نتيجة الصبر عليها وتقوى الله تعالى فيها وفي غيرها، فقد يرزق منها ولداً ينفعه، وقد يذهب من نفسه ذلك الكره ويحل محله الحب والمودة. والمراد أن الله تعالى أرشد المؤمن
١ روى البخاري في سند نزول هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن لم يشاءوا لم يزوجها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ﴾... إلخ. ".
٢ جائز أن يكون فعل: ﴿وتَعْضلوهن﴾ في محل نصب على تقدير ولا تعضلون كما هي قراءة ابن مسعود، وجائز أن يكون في محل جزم على أن لا ناهية.
٣ كرها: لدمامة، أو سوء خلق أو سلاطة لسان على ذلك، فإن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر". رواه مسلم.
453
إن كره زوجته أن يصبر ولا يطلق لما في ذلك من العاقبة الحسنة، لأن الطلاق بغير موجب غير صالح ولا مرغوب للشارع وكم من أمر يكرهه العبد ويصبر عليه فيجعل الله تعالى فيه الخير الكثير. هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٩)، أما الآيتان بعدها فقد تضمنتا: تحريم أخذ شيء من مهر المرأة إذا طلقها الزوج لا لإتيانها بفاحشة ولا لنشوزها، ولكن لرغبة منه في طلاقها ليتزوج غيرها في هذه الحال لا يحل له أن يضارها لتفتدي منه بشيء ولو قل، ولو كان قد أمهرها قنطاراً فلا يحل أن يأخذ منه فلساً فضلاً عن دينار أو درهم هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً١ فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً﴾ أتأخذونه بهتاناً، أي: ظلماً بغير حق وكذباً وافتراء وإثماً، أي: ذنبا ًعظيماً، ثم قال تعالى منكراً على من يفعل ذلك: وكيف تأخذونه أي: بأي وجه يحل لكم ذلك، والحال أنه قد أفضى٢ بعضهم إلى بعض أي: بالجماع، إذ ما استحل الزوج فرجها إلا بذلك المهر فكيف إذا يسترده أو شيئاً منه بهتاناً وإثماً مبيناً، فقال تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ ؟ وقوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً﴾ يعني: عقد النكاح فهو عهد مؤكد يقول: الزوج نكحتها على مبدأ: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فأين التسريح بإحسان إذا كان يضايقها حتى تتنازل عن مهرها أو عن شيء منه، هذا ما أنكره تعالى بقوله: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ إذ هو استفهام إنكاري٣.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إبطال قانون الجاهلية القائم على أن ابن الزوج يرث امرأة أبيه.
٢- حرمة العضل من أجل الافتداء بالمهر وغيره.
٣- الترغيب في الصبر.
١ روى أصحاب السنن، وصححه الترمذي: أن عمر بن الخطاب كان يخطب فقال: "ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله ما أصدق قط امرأة من نساؤه ولا بناته فوق اثنتي عشر أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت له يا عمر: أيعطينا الله وتحرمنا؟ أليس الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً﴾ ؟ قال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر".
٢ اختلف في الإفضاء الذي يجب به المهر، قال عمر: "إن أغلق باباً وأرخى ستراً ورأى عورة فقد وجب الصداق وعليها العدة، ولها الميراث وهو قول فصل. أما الإفضاء الذي تحل به المطلقة ثلاثاً من الوطء لحديث: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" والإفضاء في هذه الآية: الجماع أيضاً. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
٣ نعم إنكاري، وفيه معنى التعجب أيضاً؛ لأنه أمر مستنكر ومتعجب منه لفظاعته وخروجه عن اللياقة والأدب.
454
٤- جواز أخذ الفدية من الزوجة بالمهر أو أكثر أو أقل إن هي أتت بفاحشة ظاهرة لا شك فيها؛ كالزنى أو النشوز.
٥- جواز غلاء المهر فقد يبلغ القنطار١ غير أن التيسير فيه أكثر بركة.
٦- وجوب مراعاة العهود والوفاء بها.
﴿وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ : لا تتزوجوا امرأة الأب أو الجد.
﴿إِلا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ : إلا ما قد مضى قبل هذا التحريم.
١ لا خلاف في أن أكثر الصداق لا حد له، وإنما الخلاف في أقله، والذي عليه أكثر أهل العلم: أنه لا يقل عن ربع دينار أو ما يعادله دارهم قياساً على ما تقطع فيه يد السارق لأن الفرج محرم كاليد.
455
﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ : أي: زواج نساء الآباء فاحشة شديدة القبح.
﴿وَمَقْتاً١﴾ : ممقوتاً مبغوضاً للشارع، ولكل ذي فطرة سليمة.
﴿وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ : أي: قبح نكاح أزواج الآباء طريقاً يسلك.
﴿أُمَّهَاتُكُمْ﴾ : جمع٢ أم، فالأم محرمة ومثلها الجدة وإن علت.
﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾ : الربائب: جمع ربيبة هي بنت الزوجة.
﴿وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ : الحلائل٣: جمع حليلة وهي امرأة الابن من الصلب.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالإرث والنكاح وعشرة النساء. وفي هاتين الآيتين ذكر تعالى محرمات النكاح من النسب والرضاع والمصاهرة، فبدأ بتحريم امرأة الأب وإن علا فقال: ﴿وَلا تَنْكِحُوا٤ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾، ولم يقل من ليشمل التحريم منكوحة الأب والطريقة التي كانت متبعة عندهم في الجاهلية. ولذا قال إلا ما قد سلف في الجاهلية فإنه معفو عنه بالإسلام بعد التخلي عنه وعدم المقام عليه، وبهذه اللفظ حرمت امرأة الأب والجد على الابن وابن الابن ولو لم يدخل بها الأب، ثم ذكر محرمات النسب فذكر الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ، وبنات الأخت فهؤلاء سبع محرمات من النسب٥ قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْت﴾، ثم ذكر المحرمات بالرضاع فقال: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ فمن رضع من امرأة خمس٦ رضعات وهو في سن الحولين، تحرم عليه ويحرم عليه أمهاتها وبناتها وأخواتها وكذا بنات زوجها وأمهاته حتى
١ سأل ابن الأعرابي عن نكاح المقت، فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها، ويقال لمن تزوج امرأة أبيه: الضيزن.
٢ الصواب: جمع أمهه، الأم تجمع على: أمات وأقل ما يقول به. والآية نص في تحريم كل انثى لها على الرجل ولادة فتدخل الأم فيه، وأمها، وجداتها.
٣ سميت امرأة الابن: حليلة؛ لأنها تحل معه حيث حل فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وقيل: سميت حليلة؛ لأنها محللة له.
٤ روي أن أبا قيس توفى وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنة قيس امرأة أبيه، فقالت له: إني أعدك ولداً، ولكني آتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأستمره، فأتته فأخبرته، فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاء﴾.
٥ وحرم بالسنة المتواترة: الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها.
٦ خالف مالك رحمه الله تعالى ومن وافقه، فقالوا: لا فرق بين قليل الرضاع وكثيره، إذا وصل اللبن إلى الأمعاء ولو مصة واحدة مع أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تحرم المصة ولا المصتان" رواه مسلم.
456
قيل: يحرم١ من الرضاعة ما يحرم من النسب، ثم ذكر تعالى المحرمات بالمصاهرة، فقال: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾، فأم امرأة الرجل محرمة عليه بمجرد أن يعقد على بنتها تصبح أمها حراماً. وقال: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾، فالربيبة: هي بنت الزوجة إذا نكح الرجل امرأة وبنى بها لا يحل له الزواج من ابنتها، أما إذا عقد فقط ولم يبين فإن البنت تحل له لقوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، أي: لا إثم ولا حرج٢.
ومن المحرمات بالمصاهرة امرأة الابن بنى بها أم لا يبن، لقوله تعالى: ﴿وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ﴾ أي: ليس ابناً بالتبني، أما الابن من الرضاع فزوجته كزوجة الابن من الصلب؛ لأن اللبن الذي تغذ به هو السبب فكان إذاً كالولد للصلبن، ومن المحرمات بالمصاهرة أيضاً: أخت الزوجة، فمن تزوج امرأة لا يحل له أن يتزوج أختها حتى تموت أو يفارقها وتنتهي عدتها لقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ في الجاهلية فإنه عفو بشرط عدم الإقامة عليه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- تحريم مناكح الجاهلية إلا ما وافق الإسلام منها، وخاصة أزواج الآباء، فزوجة الأب محرمة على الابن ولو لم يدخل بها الأب وطلقها أو مات عنها.
٢- بيان المحرمات من النسب وهن سبع: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت.
٣- بيان المحرمات من الرضاع وهن: المحرمات من النسب؛ فالرضيع يحرم عليه٣ أمه المرضع له وبناته، وأخواتها، وعماته وخالاته، وبنات أخيه، وبنات أخته.
٤- بيان المحرمات من المصاهرة، وهن سبع أيضاً: زوجة الأب بنى بها أو لم يبن، أم امرأته بنى بابنتها أو لم يبن، وبنت امرأته وهي الربيبة إذا دخل بأمها، وامرأة الولد من الصلب
١ القائل: هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحديث متفق عليه.
٢ ولحديث الصحيحين: "إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت".
٣ هذا إذا كان الرضاع في الحولين، أما بعدهما فلا يحل إجماعاً.
457
بنى بها الولد أو لم يبن١، وكذا ابنه٢ من الرضاع، وأخت امرأته ما دامت اختها تحته لم يفارقها بطلاق أو وفاة. والمحصنات٣ من النساء، أي: المتزوجات قبل طلاقهن أو وفاة أزواجهن وانقضاء عدتهن.
١ حكى القرطبي: الإجماع على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وعلى ابنه وعلى أجداده وأحفاده.
٢ في عد المحصنات من المحرمات بالصهر تجوزاً.
٣ لحديث: "حرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وهو دليل الجمهور على أن امرأة الابن من الرضاع تحرم كما تحرم امرأة الابن من الصلب.
458
الجزء الخامس
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ﴾ : جمع محصنة١، والمراد بها هنا: المتزوجة.
﴿إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ : المملوكة بالسبي والشراء، ونحوهما.
﴿مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ : أي: ما عداه، أي: ما عدا ما حرم عليكم.
﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ : المسافح: الزاني، لأن السفاح هو الزني.
١ وسميت المتزوجة: محصنة لأن الرجل، أي: الزوج قد أحصنها، أي: حفظها باستقلاله بها عن غيره.
459
﴿أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ : مهورهن نحلة.
﴿طَوْلاً١﴾ : سعة وقدرة على المهر.
﴿الْمُحْصَنَاتِ﴾ : العفيفات.
﴿أُجُورَهُنَّ﴾ : مهورهن.
﴿وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ : الخدين: الخليل الذي يفجر بالمرأة سراً تحت شعار الصداقة.
﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ﴾ : بأن أسلمن أو تزوجن، إذ الإحصان يكون بهما.
﴿الْعَنَتَ﴾ : العنت: الضرر في الدين والبدن.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في بيان ما يحرم من النكاح وما يجوز، ففي الآية الأولى (٢٤) عطف تعالى على المحرمات في المصاهرة المرأة المتزوجة فقال: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ﴾ أي: ذوات الأزواج، فلا يحل نكاحهن إلا بعد مفارقة الزوج بطلاق أو وفاة، وبعد انقضاء العدة أيضاً واستثنى تعالى من المتزوجات المملوكة باليمين، وهي: المرأة تسبى في الحرب الشرعية، وهي الجهاد في سبيل الله، فهذه من الجائز أن يكون زوجها لم يمت في الحرب وبما أن صلتها قد انقطعت بدار الحرب وبزوجها وأهلها وأصبحت مملوكة، أذن الله تعالى رحمة بها في نكاحها ممن ملكها من المؤمنين.
ولذا ورد أن الآية نزلت في سبايا أوطاس وهي وقعة كانت بعد موقعة حنين فسبى فيها المسلمون النساء والذراري، فتحرج المؤمنون في غشيان أولئك النسوة، ومنهم المتزوجات، فأذن لهم في غشيانهن بعد أن تسلم إحداهن وتستبرأ بحيضة، أما قبل إسلامها فلا تحل؛ لأنها مشركة، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، وقوله: ﴿كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾، يريد ما حرمه تعالى من المناكح، قد كتبه على المسلمين كتاباً وفرضه فرضاً لا يجوز إهماله أو التهاون به. فكتاب الله منصوب على المصدرية٢.
وقوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ٣ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ٤﴾، أي: ما بعد الذي حرمه من المحرمات بالنسب
١ الطول: مصدر طال يطول طولاً، بمعنى: قدر على التناول من بعد، ولذا فسر: بالقدرة على المهر.
٢ ويجوز الرفع نحو: هذا كتاب الله وفرضه.
٣ قرئ: أحل، بالبناء للمعفول، وأحل: للبناء للفاعل.
٤ لابد من مراعاة ما حرم بالسنة، وهو الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة خالتها، ولا الالتفات إلى مذهب الخوراج: إذ يبيحون ذلك كما يبيحون الجمع بين الأختين، وعلة المنع هي: أن الجمع يسبب قطعية الرحم.
460
وبالرضاع، وبالمصاهرة على شرط أن لا يزيد المرء على أربع كما هو ظاهر قوله تعالى في أول السورة: ﴿مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾، وقوله تعالى: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾، أي: لا حرج عليكم أن تطلبوا بأموالكم من النساء غير ما حرم عليكم فتتزوجوا ما طاب لكم حال كونكم محصنين غير مسافحين، وذلك بأن يتم النكاح بشروطه من الولي والصداق والصيغة والشهود، إذ أن نكاحاً بغير هذه الشروط فهو السفاح، أي: الزنا، وقوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ١ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ يريد تعالى: أيما رجل تزوج امرأة فأفضى إليها، أي: وطئها إلا وجب لها المهر كاملاً، أما التي لم يتم الاستمتاع بها بأن طلقها قبل البناء فليس لها إلا نصف المهر المسمى، وإن لم يكن قد سمى لها إلا المتعة، فالمراد من قوله: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ٢﴾ أي: بنيتم بهن ودخلتم عليهن. وقوله تعالى: ﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ﴾ يريد إذا أعطى الرجل زوجته ما استحل به فرجها، وهو المهر كاملاً فليس عليهما بعد ذلك من حرج في أن تسقط المرأة من مهرها لزوجها، أو تؤجله أو تهبه كله له أو بعضه إذ ذاك لها وهي صاحبته كما تقدم ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً﴾ [النساء/٤].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ المراد مه إفهام المؤمنين بأن الله تعالى عليم بأحوالهم حكيم في تشريعه فليأخذوا بشرعة ورخصه وعزائمه، فإنه مراعى فيه الرحمة والعدل، ولنعم تشريع يقوم على أساس الرحمة والعدل.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٤)، أما الآية الثانية (٢٥) وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً... ٣﴾ فقد تضمنت بيان رحمة الله بعباده المؤمنين إذ رخص لمن لم يستطع نكاح الحرائر لقلة ذات يده، مع خوفه العنت الذي هو الضرر في دينه بالزنى، أو في بدنه
١ استدل الروافض بهذه الآية: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ﴾ على جواز نكاح المتعة، وهو استدلال فاسد وباطل، ويكفي في بطلانه؛ إجماع أهل السنة والجماعة على بطلانه، وإنه زنا إلى أنه لا يقام على صاحبه حد الرجم بالشبهة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ادرءوا الحدود بالشبهات". ونكاح المتعة رخص فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة ثم أعلن عن حرمته. أعلن ذلك في حجة الوداع ليعلم كل إنسان ذلك، ومن الأدلة على حرمة المتعة: أن المتمتع بها لا ترث، والزوجة الشرعية ترث الربع والثمن.
٢ الاستمتاع: التلذذ، والأجور: هي المهور، وسمي المهر: أجراً؛ لأنه أجر الاستمتاع، وهذا دليل على أنه في مقابلة البضع، إذ كل ما يقابل المنفعة يسمى أجراً.
٣ اختلف في تحديد معنى الطول وأرجح الأقوال أنه: سعة المال، وعليه فلا يباح نكاح الأمة إلا بشرطين: عدم السعة في المال، وخوف العنت. فلا يصح نكاح الأمة إلا باجتماعهما، ومن كانت تحت حرة لا يجوز أن ينكح عليها أمة؛ لأن الحرة تدفع الحرة تدفع العنت عنه. وحكى الإجماع على من كانت له أمة لا يحل له أن يتزوجها، بل يطئها بملك اليمين، وذلك لتعارض حق الملك مع حق الزوجية، وإذا أعتقها فأصبحت حرة فله؛ حينئذ أن يتزوجها.
461
بإقامة الحد عليه، رخص له أن يتزوج المملوكة بشرط أن تكون مؤمنة، وأن يتزوجها بإذن١ مالكها، وأن يؤتيها صداقها وأن يتم ذلك على مبدأ الإحصان الذي هو الزواج بشروطه لا السفاح، الذي هو الزنى العلني المشار إليه بكلمة: ﴿غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ﴾، ولا الخفي المشار إليه بكلمة: ﴿وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ أي: أخلاء، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً﴾، أي: قدرة مالية أن ينكح المحصنات، أي: العفائف من ﴿فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾، أي: من إمائكم المؤمنات لا الكافرات بحسب الظاهر، أما الباطن فعلمه إلى الله، ولذا قال: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ﴾، وقوله: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ فيه تطييب لنفس المؤمن إذ تزوج للضرورة الأمة فإن الإيمان أذهب الفوارق بين المؤمنين، وقوله: ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ﴾ فيه ببيان الشروط التي لا بد منها وقد ذكرناها آنفاً.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ﴾ –أي: الإماء- بالزواج وبالإسلام ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ﴾ أي: زنين فعليهن حد هو نصف ما على المحصنات من العذاب وهو جلد خمسين جلدة وتغريب ستة أشهر؛ لأن الحرة إن زنت٢ وهي بكر تجلد مائة جلدة وتغرب سنة. أما الرجم والذي هو الموت فإنه لا ينصف، فلذا فهم المؤمنون في تنصيف العذاب أنه الجلد لا الرجم وهو إجماع لا خلاف فيه وقوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ﴾ يريد أبحت لكم ذلك لم خاف على نفسه الزنى، إذا لم يقدر على الزواج من الحرة لفقره واحتياجه وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا... ﴾ أي: على العزوبة خير لك من نكاح الإماء. وقوله ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي: غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين، ولذا رخص لهم في نكاح الإماء عند خوف العنت، وأرشدهم إلى ما هو خير منه وهو الصبر٣. فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- تحريم المرأة المتزوجة حتى يفارقها زوجها بطلاق أو موت وحتى تنقضي عدتها.
١ وأجمعوا على أنه لا يجوز للملوك أن يتزوج بغير إذن سيده، وإن تزوج فسخ زواجه، وهل عليه الحد؟ خلاف.
٢ دليل حد الأمة إن زنت قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا زنت أمة أحدكم فليحدها الحد"، وقال علي في خطبته: "أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهن ومن لم يحصن". الحديث رواه مسلم.
٣ قال أبو هريرة: "سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لحرائر صلاح البيت، والإيماء هلاك البيت" أو قال: " فساد البيت".
462
٢- جواز نكاح المملوكة باليمين وإن كان زوجها حياً في دار الحرب إذا أسلمت؛ لأن الإسلام فصل بينهما.
٣- وجوب المهور، وجواز إعطاء المرأة مهرها لزوجها شيئاً.
٤- جواز التزوج من المملوكات لمن خاف العنت وهو عادم للقدرة على الزواج من الحرائر.
٥- وجوب إقامة الحد على من زنت من الإماء إن أحصن بالزواج والإسلام.
٦- الصبر على العزوبة خير من١ الزواج بالإماء لإرشاد الله تعالى إلى ذلك.
﴿يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً (٢٨) ﴾
شرح الكلمات:
﴿يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ٢﴾ : يريد الله أن يبين لكم بما حرم عليكم وأحل لكم ما يكملكم ويسعدكم في دنياكم وأخراكم.
﴿سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ٣﴾ : طرائق الذين من قبلكم من الأنبياء والصالحين لتنهجوا نهجهم فتطهروا وتكملوا وتفلحوا مثلهم.
﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ : يرجع بكم عما كنتم عليه من ضلال الجاهلية إلى هداية الإسلام.
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ٤﴾ : من اليهود والنصارى والمجوس والزناة.
١ يشهد لذلك قول عمر رضي الله عنه: "أيما رجل تزوج أمة فقد أرق نصفه، يعني يصير ولده رقيقاً، فالصبر على عدم التزوج بالإماء أفضل، لكي لا يرق الولد.
٢ الأصل: يريد أن يبين لكم فحذفت أن ودخلت اللام على الفعل والتقدير يريد الله البيان لكم، والهدى والتوبة، فاللام إذن لتوكيد معنى الفعل، ومثلها في قوله: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ﴾ في آية، وفي آية أخرى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ﴾، قال النحاس: سمى بعضهم هذه اللام: لام "أن".
٣ فيكون معنى هذه الآية، كما في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكمْ مِنَ الدِين ما وصَّى به نُوح﴾.
٤ أي: تغلبهم شهواتهم مع مخالفة شرع الله لعباده من أمور الدين التي عليها مدار سعادة الإنسان وكماله.
463
﴿أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً﴾ : تحيدوا عن طريق الطهر والصفاء إلى طريق الخبث والكدر بارتكاب المحرمات من المناكح وغيرها فتبتعدوا عن الرشد بعداً عظيماً.
﴿وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾ : لا يصبر عن النساء، فلذا رخص تعالى لهم في الزواج من الفتيات المؤمنات.
معنى الآيات:
لما حرم تعالى ما حرم من المناكح وأباح ما أباح منها علل لذلك بقوله: ﴿يُرِيدُ اللهُ١﴾ أي: بما شرع ليبين ما هو نافع لكم مما هو ضار بكم فتأخذوا النافع وتتركوا الضار، كما يريد أن يهديكم طرائق الصالحين من قبلكم من أنبياء ومؤمنين صالحين لتسلكوها فتكملوا وتسعدوا في الحياتين، كما يريد بما بين لكم أن ﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ أي: يرجع بكم من ضلال الجاهلية إلى هداية الإسلام فتعيشوا على الطهر والصلاح، وهو تعالى عليم بما ينفعكم ويضركم حكيم في تدبيره لكم فاشكروه بلزوم طاعته، والبعد عن معصيته.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٦)، أما الآية الثانية (٢٧) فقد تضمنت الإخبار بأن الله تعالى يريد بما بينه من الحلال والحرام في المناكح وغيرها أن يرجع بالمؤمنين من حياة الخبث والفساد التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام إلى حياة الطهر والصلاح في ظل تشريع عادل رحيم. وأن الذين يتبعون الشهوات من الزناة والنصارى وسائر المنحرفين عن سنن الهدى فإنهم يريدون من المؤمنين أن ينحرفوا مثلهم فينغمسوا في الملاذ والشهوات البهيمية حتى يصبحوا مثلهم لا فضل لهم عليهم، وحينئذ لا حق لهم في قيادتهم أو هدايتهم.
هذا معنى الآية الثانية، أما الآية الثالثة (٢٨) فقد أخبر تعالى أنه بإباحته للمؤمنين العاجزين عن نكاح الحرائر نكاح الفتيات المؤمنات يريد بذلك التخفيف والتيسير٢ عن المؤمنين رحمة بهم وشفقة عليهم لما يعلم تعالى من ضعف الإنسان وعدم صبره عن النساء بما غرز فيه من غريزة
١ سيقت هذه الآية تذييلاً لما سبقها لغرض استئناس المسلمين واستنزال نفوسهم إلى امتثال أوامر الله تعالى المتقدمة في أول السورة، وهي إحكام النكاح والإرث والمعاشرة.
٢ شاهده الكتاب في قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، ومن السنة: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن هذا الدين يسر ولا يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه"، وقوله لمعاذ وأبي موسى: "يسرا ولا تعسرا"، وبذا كان التيسير من أصول الشريعة الإسلامية ويشهد لهذا وجود الرخص في مسائل الدين.
464
الميل إلى أنثاه لحفظ النوع ولحكم عالية، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ١ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً٢﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- منة الله تعالى علينا في تعليله الأحكام لنا لتطمئن نفوسنا ويأتي العمل بانشراح صدر وطيب خاطر.
٢- منة الله على المؤمنين بهدايتهم إلى طرق الصالحين وسبيل المفلحين ممن كانوا قبلهم.
٣- منته تعالى في تطهير المؤمنين من الأخباث وضلال الجاهليات.
٤- الكشف عن نفسية الإنسان، إذ الزناة يرغبون في كون الناس كلهم زناة، والمنحرفون يودون أن ينحرف الناس مثلهم، وهكذا كل منغمس في خبث أو شر أو فساد يود أن يكون كل الناس مثله، كما أن الطاهر يود أن يطهر ويصلح كل الناس.
٥- ضعف الإنسان أمام غرائزه لا سيما غريزة الجنس.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) ﴾
١ أي: في جميع الأحكام، وبخاصة في نكاح الإماء، لما علم من ضعف الإنسان في أمر النساء.
٢ معنى: ضعيفاً، أن هواه يستميله وشهوته وغضبه يستخفانه، وهذا أشد الضعف، ولذا احتاج إلى التخفيف، فخفف الله عنه والحمد لله.
465
شرح الكلمات:
﴿آمَنُوا﴾ : صدقوا الله والرسول.
﴿بِالْبَاطِلِ﴾ : بغير حق يبيح أكلها.
﴿تِجَارَةً١﴾ : بيعاً وشراءً فيحل لصاحب البضاعة أن يأخذ النقود ويحل لصاحب النقود أخذ البضاعة، إذاً لا باطل.
﴿تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ : أي: تزهقوا أرواح بعضكم بعضاً.
﴿عُدْوَاناً وَظُلْماً﴾ : اعتداء يكون فيه ظالماً.
﴿نُصْلِيهِ نَاراً﴾ : ندخله نار جهنم يحترق فيها. معنى الآيتين:
ما زال السياق في بيان ما يحل وما يحرم من الأموال والأعراض والأنفس ففي هذه الآية (٢٩) ينادي الله تعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل بالسرقة أو الغش أو القمار أو الربا وما إلى ذلك من وجوه التحريم٢ العديدة فيقول: ﴿لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، أي: بغير عوض مباح، أو طيب نفس، ثم يستثنى ما كان حاصلاً عن تجارة قائمة على مبدأ التراضي بين البيعين لحديث: "إنما البيع عن تراض" و" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فقال تعالى: ﴿إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ٣ مِنْكُمْ﴾ فلا بأس بأكله فإنه حلال لكم. هذا ما تضمنته الآية كما قد تضمنت حرمة قتل المؤمنين لبعضهم بعضاً، فقال تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ والنهي شامل لقتل الإنسان نفسه وقتله أخاه المسلم؛ لأن المسلمين كجسم واحد، فالذي يتقل مسلماً منهم كأنما قتل نفسه. وعلل تعالى هذا التحريم لنا فقال: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾، فلذا حرم عليكم قتل بعضكم بعضاً.
١ كل معاوضة في مباح فهي تجارة حتى إن الله تعالى سمى ثمن طاعته وطاعة رسوله تجارة في قوله تعالى: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ... ﴾ الآية.
٢ كبيع العربون بأن يقول لأخيه: خذ هذه العشرة دنانير إن أخذت السلعة، وإلا فهي لك. هذا بيع باطل؛ لأنه لاحق له في أخذ العربون إن عجز أخوه عن أخذ السلعة له.
٣ لم يختلف في بيع الخيار، وذلك بأن يقول المسلم لأخيه: بعني كذا، أو بعت كذا، أو اعطني مهلة يوم أو يومين أفكر فيها. فهذا البيع جائز إن تم وإن لم يتم واختلف في معنى قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا". هل التفرق بالأبدان، أو بالكلام؟ والصحيح: أنه بالأبدان، فلكل منهما الفسخ والإمضاء ماداما في المجلس فإن تفرقا مضى البيع.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٩)، أما الآية الثانية (٣٠) فقد تضمنت وعيداً شديداً بالإصلاء بالنار والإحراق فيها كل من يقتل مؤمناً عدواناً وظلماً، أي: بالعمد١ والإصرار والظلم المحض، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أي: القتل ﴿عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ﴾ أي: الإصلاء والإحراق في النار ﴿عَلَى اللهِ يَسِيراً﴾ لكمال قدرته بهذا العذاب إذا لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه بحال من الأحوال.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- حرمة مال المسلم، وكل مال حرام وسواء حازه بسرقة أو غش أو قمار أو ربا.
٢- إباحة التجارة والترغيب٢ فيها والرد على جهلة المتصوفة الذين يمنعون الكسب بحجة التوكل.
٣- تقرير مبدأ " إنما البيع عن تراض"، و"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا".
٤- حرمة قتل المسلم نفسه أو غيره من المسلمين؛ لأنهم أمة واحدة.
٥- الوعيد الشديد لقاتل النفس٣ عدواناً وظلماً بالإصلاء بالنار.
٦- إن كان القتل غير عدوان بأن كان خطأ، أو كان غير ظلم بأن كان عمداً ولكن بحق كقتل من قتل والده وابنه أو أخاه فلا يستوجب هذا الوعيد الشديد.
﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا﴾ : تبتعدوا لأن الاجتناب ترك الشيء عن جنب بعيداً عنه لا يقبل عليه ولا يقربه.
١ أي: لم يكن سهواً منه ولا خطأ، وهو معنى: ﴿عدوانا﴾، ولا بحق؛ كقصاص وهو معنى: ﴿ظلماً﴾.
٢ يكفي في الرد عليهم ثناء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على التاجر الأمين في قوله: "التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبين والصديقين والشهداء يوم القيامة". إلى أنه يحرم على التاجر أن يروج سلعته بالإيمان الكاذبة كما يكره أن يصلي على النبي عند عرض سلعته؛ كقوله: صلي على محمد، ما أجود هذا، كما يكره له أن تشغله التجارة عن صلاة الجماعة.
٣ ورد الوعيد الشديد في قاتل نفسه من ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة". رواه الجماعة. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلدا أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو متردٍ في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً".
467
﴿كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ : الكبائر: ضد الصغائر، والكبيرة تعرف بالحد لا بالعد، فالكبيرة ما توعد الله ورسوله عليهما، أو لعن الله ورسوله فاعلها أو شرع لها حد يقام على صاحبها، وقد جاء في الحديث الصحيح بيان العديد من الكبائر، وعلى المؤمن أن يعلم ذلك ليجتنبه.
﴿نُكَفِّرْ﴾ : نغطي ونستر فلا نطالب بها ولا نؤاخذ عليها.
﴿مُدْخَلاً كَرِيماً﴾ : المدخل الكريم هنا: الجنة دار المتقين.
معنى الآية الكريمة:
يتفضل الجبار جل جلاله وعظم إنعامه وسلطانه فيمن على المؤمنين من هذه الأمة المسلمة بأن وعدها وعد الصدق بأن من اجتنب منها كبائر الذنوب كفر عنه صغائرها وأدخله الجنة دار السلام وخلع عليه حلل الرضوان فقال تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ١ عَنْهُ﴾، ما أنهاكم عنه أنا ورسولي ﴿نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ التي هي دون الكبائر٢ وهي الصغائر، ﴿وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً﴾ الذي هو الجنة، ولله الحمد والمنة. لهذا كانت هذه الأية مبشرات القرآن لهذه الأمة.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- وجوب الابتعاد عن سائر الكبائر، والصبر على ذلك حتى الموت.
٢- الذنوب قسمان: كبائر، وصغائر. ولذا وجب العلم بها لاجتناب كبائرها وصغائرها ما أمكن ذلك، ومن زل فليتب فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له٣.
٣- الجنة لا يدخلها إلا ذوو النفوس الزكية الطاهرة باجتنابهم المدنسات لها من كبائر الذنوب والآثام والفواحش٤.
١ اجتناب الكبائر إن كان المراد به: كبائر الذنوب فلابد من ضميمة أداء الفرائض، فإن اجتناب الكبائر مع تضييع الفرائض غير مجد، وإن أريد باجتناب الكبائر تحاشي ترك الفرائض والاحتماء من فعل الكبائر فذاك ويشهد لهذا حديث الصحيح: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر".
٢ اختلف في تحديد الكبيرة وفي عددها: أما العدد فقد قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: "هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع" وقد ورد النص في بعضها كحديث مسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات" فعد منها ستاً. وفي أحاديث صحاح أخرى ذكر عدداً آخر، والذي عليه أهل العلم أنها لا تعد ولكن تحد كما في التفسير، وأما الصغيرة: فهي نسبية فالنظرة إلى اللمسة صغيرة، واللمسة إلى القبلة صغيرة وهكذا.
٣ شاهده في حديث ابن عباس رضي الله عنهما غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار، بعد قوله: "هي إلى السبعمائة أقرب".
٤ أهل الكبائر الذين ماتوا يزاولونها ولم يغفر لهم ويشفع لهم فإنهم يطهرون وتزكوا نفوسهم بعذاب النار ثم يغسلون أيضاً في نهر عند باب الجنة، يقال له: نهر الحيوان، فيدخلون الجنة بنفوس زكية وأرواح طاهرة نقية.
468
﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَلا تَتَمَنَّوْا﴾ : التمني: التشهي والرغبة في حصول الشيء، وأداته: ليت، ولو، فإن كان مع زوال المرغوب فيه عن شخص ليحصل للمتمني فهو الحسد.
﴿مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ﴾ : أي: ما فضل الله به أحداً منكم فأعطاه علماً أو مالاً أو جاهاً أو سلطاناً.
﴿نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا﴾ : أي: حصة وحظ من الثواب والعقاب بحسب الطاعة والمعصية.
﴿مَوَالِيَ﴾ : الموالي: من يلون التركة ويرثون الميت من أقارب.
﴿عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ : أي: حالفتموهم وتآخيتم معهم مؤكدين ذلك بالمصافحة واليمين.
﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ : من الرفادة والوصية والنصرة لأنهم ليسوا ورثة.
معنى الآيتين:
صح أو لم يصح أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ليتنا كنا رجالاً فجاهدنا وكان لنا مثل أجر الرجال فإن الله سميع عليم، والذين يتمنون١ حسداً وغير حسد ما أكثرهم ومن هنا نهى
١ التمني: نوع إرادة يتعلق بالمستقبل، وعلى خلافه التلهف؛ لأنه يتعلق بالماضي، وسر النهي عنه: أن فيه تعلق البال بالمتمني ونسيان الأجل، ولذا حرم التمني الذي هو الحسد، وهو نوعان: تمني زوال النعمة من غيره لتحصل له، وتمني زوال النعمة من غيره ولو لم تحصل له، وهو شر الحسد. وهل الغبطة من الحسد؟ والجواب: لا. والغبطة هي: أن يرى العبد نعمة علم أو مال لأحد فيغتبط ويسأل الله تعالى أن يكون له ذلك العلم ليعلمه ويعمل به، أو يكون له ذلك المال ليتصدق به. فهذه الغبطة محمودة لحديث البخاري: "لا حسد إلا في اثنتين، رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، فيقول الرجل: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثله فهم في الأجر سواء ".
469
الله تعالى في هذه الآية الكريمة (٣٢) عباده المؤمنين عن تمني ما فضل الله تعالى به بعضهم على بعض فأعطى هذا وحرم ذاك لحكم اقتضت ذلك، ومن أظهرها الابتلاء بالشكر والصبر، فقال تعالى: ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ﴾ –من علم أو مال. أو صحة أو جاه أو سلطان- ﴿بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ وأخبر تعالى أن سنته في الثواب والعقاب الكسب والعمل، فليعمل من أراد الأجر والمثوبة بموجبات ذلك من الإيمان والعمل الصالح، ولا يتمنى ذلك تمنياً، وليكف عن الشرك والمعاصي من خاف العذاب والحرمان ولا يتمنى النجاة تمنياً كما على من أراد المال والجاه فليعمل له بسنته المنوطة به، ولا يتمنى فقط فإن التمني كما قيل بضائع النوكى، أي: الحمقى، فلذا قال تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾، فرد القضية إلى سنته فيها وهي كسب الإنسان. كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ ثم بين تعالى سنة أخرى في الحصول على المرغوب: وهي دعاء الله تعالى فقال: ﴿وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ فمن سأل ربه وألح١ عليه موقناً بالإجابة أعطاه فيوفقه للإتيان بالأسباب، ويصرف عنه الموانع، ويعطيه بغير سب إن شاء، وهو على كل شيء قدير، بل ومن الأسباب المشروعة الدعاء والإخلاص فيه.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (٣٣) فإن الله تعالى يخبر مقرراً حكما ً شرعياً قد تقدم في السياق، وهو أن لكل من الرجال والنساء ورثة يرثون إذا مات فقال: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا٢ مَوَالِيَ﴾ أي: أقارب يرثونه إذا مات، وذلك من النساء والرجال، أما الذين هم موالي بالحلف أو الإخاء فقط، أي: ليسوا من أولي الأرحام، فالواجب إعطاؤهم نصيبهم من النصرة والرفادة. والوصية لهم بشيء إذ لاحظ لهم في الإرث، لقوله تعالى: ﴿وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾، ولما كان توزيع المال وقسمته تتشوق له النفوس وقد يقع فيه حيف أو ظلم أخبر تعالى أنه على كل شيء شهيد فلا يخفى عليه من أمر الناس شيء فليتق ولا يُعص.
١ لحديث الترمذي وغيره، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سلوا الله من فضله، فإنه يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج" أي: من الله تعالى، وهو تعلق القلب بالرب تعالى.
٢ هذه الآية ناسخة لكل من الإرث بالتحالف والمؤاخاة، وهي كقوله تعالى: ﴿وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾، وهو المقصود بقوله تعالى: ﴿والَّذين عَقَدت أيمَانكم﴾ فقد كان الرجل في الجاهلية يقوله لمن أراد محالفته: دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثي وأرثك. وأما المؤاخاة: فقد كانت بين المهاجرين والأنصار بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتوارثوا بها حتى نسخت بهذه الآية، وآية الأنفال: ﴿وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾.
470
فقال: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً﴾ لا يخفى عليه من أمركم شيء فاتقوه وأطيعوه ولا تعصوه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- قبح التمني وترك العمل.
٢- حرمة الحسد.
٣- فضل الدعاء وأنه من الأسباب التي يحصل بها المراد.
٤- تقرير مبدأ التوارث في الإسلام.
٥- من عاقد أحداً على حلف أو آخى أحداً وجب عليه أن يعطيه حق النصرة والمساعدة وله أن يوصي له بما دون الثلث١، أما الإرث فلا حق له لنسخ ذلك.
٦- وجوب مراقبة الله تعالى؛ لأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء شهيد.
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥) ﴾
١ يدخل في هذا المتبني فإن لمن تبناه بمعنى: رباه أن يوصي له بما دون الثلث، أما أن ينسبه إليه فلا لأنه محرم بالكتاب والسنة.
471
شرح الكلمات:
﴿قَوَّامُونَ﴾ : جمع قوام١: وهو من يقوم على الشيء رعاية وحماية وإصلاحاً.
﴿بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ﴾ : بأن جعل الرجل أكمل في عقله ودينه وبدنه فصلح للقوامة.
﴿وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ٢﴾ : وهذا عامل آخر مما ثبتت به القوامة للرجال على النساء فإن الرجل بدفعه المهر وبقيامه بالنفقة على المرأة كان أحق بالقوامة التي هي الرئاسة.
﴿فَالصَّالِحَاتُ٣﴾ : جمع صالحة: وهي المؤدية لحقوق الله تعالى وحقوق زوجها.
﴿قَانِتَاتٌ﴾ : مطيعات لله ولأزواجهن.
﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ : حافظات لفروجهن وأموال أزواجهن.
﴿نُشُوزَهُنَّ﴾ : النشوز: الترفع عن الزوج وعدم طاعته.
﴿فَعِظُوهُنَّ﴾ : بالترغيب في الطاعة والتنفير من المعصية.
﴿فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ : أي: لا تطلبوا لهن طريقاً تتوصلون به إلى ضربهن بعد أن أطعنكم.
﴿شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ : الشقاق: المنازعة والخصومة حتى يصبح كل واحد في شق مقابل.
﴿حَكَماً﴾ : الحكم: الحاكم، والمحكوم في القضايا للنظر والحكم فيها. معنى الآيتين:
يروى في سبب نزول هذه الآية أن: سعد٤ بن الربيع رضي الله عنه أغضبته امرأته فلطمها، فشكاه وليها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأنه يريد القصاص فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾. فقال ولي المرأة: أردنا أمراً وأراد الله غيره، وما أراده الله خير. ورضي بحكم الله تعالى وهو أن الرجل
١ قوام: ومثله، قيام، وقيوم، وقيم. كلها بمعنى واحد مشتقة من القيام؛ لأن من شأن من يهتم بالشيء وتدبيره أن يقف عليه ويقوم.
٢ أخذ من هذه الجملة الفقهاء: أن من عجز عن النفقة كان للزوجة فسخ النكاح لانعدام القوامة لها، التي بها استحق الرجل العصمة، وخالف أبو حنيفة: فلم يرَ الطلاق بالإعسار.
٣ أثنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هؤلاء الصالحات بقوله: "خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتك أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك". وهو تفسير لقوله تعالى: ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ... ﴾.
٤ ذكر في سبب نزولها عدة أسباب. وما ذكرناه أولى بالصحة والقبول.
472
ما دام قواماً على المرأة يرعاها ويربيها ويصلحها بما أوتى من عقل أكمل من عقلها، وعلمه أغرز من علمها غالباً، وبعد نظر في مبادئ الأمور ونهايتها أبعد من نظرها يضاف إلى ذلك أنه دفع مهراً لم تدفعه، والتزم بنفقات لم تلتزم هي بشيء منها فلما وجبت له الرئاسة عليها، وهي رئاسة شرعية كان له الحق أن يضربها بما لا يشين جارحة أو كيسر عضواً فيكون ضربه لها؛ كضرب المؤدب لمن يؤدبه ويربيه، وبعد تقرير هذا السلطان للزوج على زوجته أمر الله تعالى بإكرام المرأة والإحسان إليها والرفق بها لضعفها وأثنى عليها فقال: ﴿فَالصَّالِحَاتُ﴾، وهن: اللائي يؤدين حقوق الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحقوق أزواجهن من الطاعة والتقدير والاحترام ﴿قَانِتَاتٌ﴾ : أي: مطيعات لله تعالى، وللزوج، ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ أي: حافظات مال الزوج وعرضه لحديث: "وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله١" ﴿بِمَا حَفِظَ اللهُ﴾ أي: بحفظ الله تعالى لها وإعانته لها إذ لو وكلت إلى نفسها لا تستطيع حفظ شيء وإن قل. وفي سياق الكلام ما يشير إلى محذوف يفهم ضمناً، وذلك أن الثناء عليهن من قبل الله تعالى يستوجب من الرجل إكرام المرأة الصالحة والإحسان إليها والرفق بها لضعفها، وهذا ما ذكرته أولاً نبته عليه هنا ليعلم أنه من دلالة الآية الكريمة، وقد ذكره غير واحد من السلف.
وقوله تعالى: ﴿وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾. فإنه تعالى يرشد الأزواج إلى كيفية علاج الزوجة إذا نشزت، أي: ترفعت على زوجها ولم تؤدي إليه حقوقه الواجبة له بمقتضى العقد بينهما، فيقول: ﴿وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ أي: ترفعهن بما ظهر لكم من علامات ودلائل كأن يأمرها فلا تطيع ويدعوها فلا تجيب وينهاها فلا تنتهي، فاسلكوا معهن السبيل الآتي: ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾ أولاً، والوعظ تذكيرها بما للزوج عليها من حق يجب أداؤه وما يترتب على إضاعته من سخط الله تعالى وعذابه، وبما قد ينجم من إهمالها في ضربها أو طلاقها، فالوعظ ترغيب بأجر الصالحات القانتات، وترهيب من عقوبة المفسدات العاصيات فإن نفع الوعظ فيها وإلا فالثانية وهي: أن يهجرها٢ الزوج في الفراش فلا يكلمها وهو نائم معها على فراش واحد وقد
١ رواه أبو داود الطيالسي، وقد تقدم في النهر آنفاً، وهو حديث صحيح.
٢ هذا الهجر في الفراش شهر فلا يزيد عليه كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أسر إلى حفصة فأفشته لعائشة، ولا يكون كالإيلاء أربعة أشهر.
473
أعطاها ظهره فلا يكلمها ولا يجامعها وليصبر على ذلك حتى تؤوب إلى طاعته وطاعة الله ربهما معاً، وإن أصرت ولم يجد معها الهجران في الفراش، فالثالثة وهي: أن يضربها١ ضرباً غير مبرح لا يشين جارحة ولا يكسر٢ عضواً. وأخيراً فإن هي أطاعت زوجها فلا يحل بعد ذلك أن يطلب الزوج طريقاً إلى أذيتها لا يضرب ولا بهجران لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ﴾ أي: الأزواج ﴿فَلا تَبْغُوا﴾ أي: تطلبوا ﴿عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ لأذيتهن باختلاف الأسباب وإيجاد العلل والمبررات لأذيتهن. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾ تذييل الكلام بما يشعر من أراد أن يعلو٣ على غيره بما أوتي من قدرة بأن الله أعلى منه وأكبر فليخش الله وليترك من علوه وكبريائه.
هذا ما تضمنته هذه الآية العظيمة (٣٤)، أما الآية الثانية (٣٥) فقد تضمنت حكماً اجتماعياً آخر وهو إن حصل شقاق بين زوج وامرأته فأصبح الرجل في شق والمرأة في شق آخر فلا تلاقي بينهما ولا وفاق ولا وئام ذلك لصعوبة الحال، فالطريق إلى حل هذا المشكل ما أرشد الله تعالى إليه، وهو أن يبعث ولي الزوجة حكماً من قبله، ويبعث ولي الزوج حكماً من قبله، أو يبعث الزوج نفسه حكماً وتبعث الزوجة أيضاً حكماً من قبلها، أو يبعث القاضي كذلك، الكل جائز لقوله تعالى: ﴿فَابْعَثُوا﴾ وهو يخاطب المسلمين على شرط أن يكون الحكم عدلاً عالماً بصيراً حتى يمكنه الحكم والقضاء بالعدل. فيدرس الحكمان القضية أولاً مع طرفي النزاع ويتعرفان إلى أسباب الشقاق وبما في نفس الزوج من رضى وحب، وكراهية وسخط ثم يجتمعان على إصلاح ذات البين، فإن أمكن ذلك فيها وإلا فرقا بينهما برضى الزوجين. مع العلم أنهما إذا ثبت لهما ظلم أحدهما فإن عليهما أن يطالبا برفع الظلم، فإن كان الزوج هو الظالم فليرفع ظلمه وليؤد ما وجب عليه، وإن كانت المرأة هي الظالمة فإنها ترفع ظلمها أو تفدي نفسها بمال فيخالعها به زوجها، هذا معنى قوله تعالى: {وَإِنْ
١ لم يصرح الله تعالى بالضرب في كتابه إلا في الحدود، وهنا في ضرب الناشر، وهذا دليل على أن عصيان الزوجة لزوجها حرام، ويشهد لهذا حديث: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح". رواه مسلم.
٢ لحديث مسلم في خطبة الوداع، إذ فيه: "واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوام ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
٣ روى أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، أنه لما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تضربوا إماء الله". فجاء عمر وقال: يا رسول الله ذئرت النساء على أزواجهن فرخص صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله نساء كثير يشتكين أزواجهن. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن ليس أولئك بخياركم" ومعنى ذئرت النساء: أي: نشزت وتغير خلقهن، أي: نشزن وأجترأن، والإجتراء هنا أولى بالمعنى.
474
خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}، والخوف هنا بمعنى: التوقع الأكيد بما ظهر من علامات ولاح من دلائل فيعالج الموقف قبل التأزم الشديد ﴿فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا﴾، لأنهما أعرف بحال الزوجين من غيرهما وقوله تعالى: ﴿إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً﴾ فإنه يعني الحكمين، ﴿يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا﴾، أي: إن كان قصدهما الإصلاح والجمع بين الزوجين وإزالة الشقاق والخلاف بينهما فإن الله تعالى يعينهما على مهمتهما ويبارك في مسعاهما ويكلله بالنجاح. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾. ذكر تعليلاً لما واعد به تعالى من التوفيق بين الحكمين، إذ لو لم يكن عليماً خبيراً ما عرف نيات الحكمين وما يجري في صدورهما من إرادة الإصلاح أو الإفساد.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- تقرير مبدأ القيومية للرجال على النساء وبخاصة الزوج على زوجته.
٢- وجوب إكرام الصالحات والإحسان إليهن.
٣- بيان علاج مشكلة نشوز١ الزوجة وذلك بوعظها أولاً ثم هجرانها في الفراش ثانياً.
٤- لا يحل اختلاف الأسباب وإيجاد مبررات لأذية المرأة بضرب وبغيره.
٥- مشروعية التحكيم في الشقاق بين الزوجين وبيان ذلك.
﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ
١ النشوز: العصيان، مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض، ويقال: نشز الرجل ينشز إذا كان قاعداً فنهض قائماً. ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾، أي: ارتفعوا وقوموا. فنشوز المرأة: ترفعها عن طاعة الزوج.
475
النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً (٣٨) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) }
شرح الكلمات:
﴿وَاعْبُدُوا اللهَ١﴾ : الخطاب للمؤمنين ومعنى: اعبدوا: أطيعوه في أمره ونهيه مع غاية الذل والحب والتعظيم له عز وجل.
﴿وَلا تُشْرِكُوا بِهِ٢ شَيْئاً﴾ : أي: لا تعبدوا معه غيره بأي نوع من أنواع العبادات التي تعبد الله تعالى بها عباده من دعاء وخشية وذبح ونذر وركوع وسجود وغيرها.
﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ : أصحاب القرابات.
﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ : المسافر استضاف أو لم يستضف.
﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى٣﴾ : أي: القريب لنسب أو مصاهرة.
﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ : أي: الأجنبي مؤمناً كان أو كافراً.
﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ : الزوجة، والصديق الملازم؛ كالتلميذ والرفيق في السفر.
﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ : من الأرقاء العبيد فتيان وفتيات.
﴿مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ : الاختيال: الزهو في المشي، والفخر والافتخار بالحسب والنسب والمال بتعداد ذلك وذكره.
١ هذه الآية محكمة إجماعاً لا نسخ فيها البتة، وتسمى آية الحقوق العشرة.
٢ الشرك ثلاثة أنواع: شرك في ربوبية الله تعالى للعالمين. شرك في أسماؤه تعالى وصفاته. وشرك في عبادته تعالى. والشرك بأنواعه الثلاثة من الذنب الذي لا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة الصادقة منه. ومن شرك العبادة: الرياء.
٣ قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي. فقال: "إلى أقربهما منك باباً" والجيران الثلاثة: جار له ثلاثة حقوق. وجار له حقان. وجار له حق واحد. فالجار الذي له ثلاثة حقوق: فالجار المسلم القريب؛ حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام. والجار الذي له حقان: فالجار المسلم له حق الجوار، وحق الإسلام. والجار الذي له حق واحد: هو الكافر له حق الجواز.
476
﴿يَبْخَلُونَ﴾ : يمنعون الواجب بذله من المعروف مطلقاً.
﴿وَيَكْتُمُونَ﴾ : يجحدون ما أعطاهم الله من علم ومال تفضلاً منه عليهم.
﴿قَرِيناً﴾ : القرين: الملازم الذي لا يفارق صاحبه مشدود معه بقرن، أي بحبل.
﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ١﴾ : أي: أي شيء يضرهم أو ينالهم بمكروه إذا هم آمنوا؟. معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هداية المؤمنين، وبيان الأحكام الشرعية لهم ليعملوا بها فيكملوا ويسعدوا، ففي الآية الآولى (٣٦) يأمر تعالى المؤمنين بعبادته وتوحيده٢ فيها وبالإحسان٣ إلى الوالدين وذلك بطاعتهم في المعروف وإسداء الجميل لهم، ودفع الأذى عنهم، وكذا الأقرباء، واليتامى، والمساكين، والجيران٤ مطلقاً أقرباء أو أجانب، والصاحب الملازم الذي لا يفارق؛ كالزوجة والمرافق في السفر والعمل والتلمذة والطلب، ونحو ذلك من الملازمة التي لا تفارق إلا نادراً، إذ الكل يصدق عليه لفظ الصاحب بالجنب. وكذا ابن السبيل وما ملكت اليمين من أمة أو عبد والمذكورون الإحسان إليهم آكد وإلا فالإحسان معروف يبذل لكل الناس كما قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾، وقال ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ دال على أن منع الإحسان الذي هو كف الأذى وبذل المعروف ناتج عن خلق البخل والكبر وهما من شر الأخلاق هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٦).
وأما الآية الثانية (٣٧) وقد تضمنت بمناسبة ذم البخل والكبر والتنديد ببخل بعض أهل الكتاب وكتمانهم الحق وهو ناتج عن بخلهم أيضاً قال تعالى: ﴿الَّذِينَ٥ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِه﴾ أي: من مال وعلم وقد كتموا نُعوت النبي
١ تفهام هنا إنكاري توبيخي.
٢ التوحيد ضد الشرك، وقد ورد في الشرك تحذيراً منه أحاديث صحاح منها حديث مسلم يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".
٣ قرن تعالى في غير آية عبادته بالإحسان إلى الوالدين نظراً إلى أن الله تعالى خلق ورزق فهو أحق بالطاعة، وأن الوالدين تكون الولد منهما وربياه في صغره، فكانت المنة لهما بعد الله تعالى.
٤ صح في الإحسان إلى الجار العديد من الأحاديث منها: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"، ومنها: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيكرم جاره"، ومنها: "والله لا يؤمن. فقيل من: قال: من لا يؤمن جاره بوائقه".
٥ البخل المذموم شرعاً: هو الامتناع من أداء الحقوق الواجبة. والشح: بخل مع حرص، وهو شر من مجرد البخل.
477
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته الدالة عليه في التوراة والإنجيل، وبخلوا بأموالهم وأمروا بالبخل بها، إذ كانوا يقولون للأنصار لا تنفقوا أموالكم على محمد فإنا نخشى عليكم الفقر، وخبر الموصول الذين محذوف تقديره هم الكافرون حقاً دل عليه قوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا١ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً﴾. هذا ما جاء في هذه الآية الثانية.
أما الآيتان الثالثة (٣٨) والرابعة (٣٩) فإن الأولى منهما قد تضمنت بيان حال أناس آخرين غير اليهود وهم المنافقون فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ أي: مراءاة لهم ليتقوا بذلك المذمة ويحصلوا على المحمدة. ﴿وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾. لأنهم كفار مشركون وإنما أظهروا الإسلام تقية فقط، ولذا كان إنفاقهم رياء لا غير. وقوله: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً﴾ أي: بئس القرين له الشيطان وهذه الجملة: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ... ﴾ دالة على خبر الموصول المحذوف اكتفى بها عن ذكره كما في الموصول الأول وقد يقدر بمثل: الشيطان٢ قرينهم، هو الذي زين لهم الكفر بالله واليوم الآخر.
هذا ما تضمنته الآية الثانية (٣٩) وهي قوله تعالى ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ ٣ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ﴾ فقد تضمنت الإنكار والتوبيخ لأولئك المنافقين الذين ينفقون رياء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر بسب فتنة الشيطان لهم وملازمته إياهم، فقال تعالى: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: أي شيء يضرهم أو أي أذى يلحقهم في العاجل أو الآجل، لو صدقوا الله ورسوله وأنفقوا في سبيل الله مما رزقهم الله، وفي الخطاب دعوة ربانية لهم لتصحيح إيمانهم واستقامتهم بالخروج من دائرة النفاق التي أوقعهم فيها القرين عليه لعائن الله، فلذا لم يذكر تعالى وعيداً لهم، وإنما قال: ﴿وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً﴾ وفي هذه تخويف لهم من سوء حالهم إذا استمروا على نفاقهم فإن علم الله بهم يستوجب الضرب على أيديهم إن لم يتوبوا.
١ أصل: ﴿اعتدن﴾ أعددن، أبدلت الدال الأولى تاء لثقل الدالين عند فك الإدغام، أما مع الإدغام فلا إبدال، نحو: أعد، ومنه العتاد الحربي، وهو عدة السلاح.
٢ أو فقرينهم الشيطان.
٣ ماذا: اسم استفهام بمعنى: أي شيء، ويجوز أن تكون ما مبتدأ، وذا خبره، وهو بمعنى: الذي.
478
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عشرة حقوق والأمر بأدائها فوراً وهي عبادة الله وحده والإحسان بالوالدين، وإلى كل المذكورين١ في الآية الأولى.
٢- ذم الاختيال٢ الناجم عن الكبر وذم الفخر وبيان كره الله تعالى لهما.
٣- حرمة البخل٣ والأمر به وحرمة كتمان العلم وخاصة الشرعي منه.
٤- حرمة الرياء وذم صاحبها.
٥- ذم قرناء السوء لما يأمرون به ويدعون إليه قرنائهم حتى قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدى
﴿إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ٤ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثا (٤٢) ﴾
شرح الكلمات:
الظلم: وضع شيء في غير موضعه.
١ أخص المملوك بذكر ما ورد فيه، ففي مسلم يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "للمملوك طعامه وشرابه وكسوته، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق"، وقال: "لا يقل أحدكم: عبدي، وأمتي. بل يقل: فتاي، وفتاتي"، وفي هذا مراعاة لجانب التوحيد، ومراعاة لشعور المملوك حتى لا يرى أنه مهان مستضعف. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فضل العبد الصالح: " للعبد المملوك المصلح أجران"
٢ الاختيال من أكبر الذنوب، وفي الحديث الصحيح: "أن الله لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء ".
٣ شاهده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وأي داء أدوأ من البخل "، وقال: "إ ياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا"، وفي رواية: " حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم".
٤ نصب ﴿مِثْقَال﴾ على المفعولية المطلقة، إذ التقدير: "لا يظلمون ظلماً مقدراً بمثقال ذرة، والمثقال: ما يظهر به الثقل، فهو كاسم الإله "مفعال" والمراد به المقدار، والذرة بيضة النملة".
479
﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ : المثقال: الوزن مأخوذ من الثقل فكل ما يوزن فيه ثقل، والذرة أصغر حجم في الكون حتى قيل إنه الهباء أو رأس النملة.
الحسنة: الفعلة الجميلة من المعروف.
﴿يُضَاعِفْهَا﴾ : يريد فيها ضعفها.
﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ : من عنده.
﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ : جزاء كبيراً وثواباً عظيماً.
الشهيد: الشاهد على الشيء لعلمه به.
﴿يَوَدُّ﴾ : يحب.
﴿تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ﴾ : يكونون تراباً مثلها.
﴿وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً﴾ : أي: لا يخفون كلاماً.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى في الآيات السابقة بعبادته والإحسان إلى من ذكر من عباده. وأمر بالإنفاق في سبيله، وندد بالبخل والكبر والفخر، وكتمان العلم، وكان هذا يتطلب الجزاء بحسبه خيراً أو شراً ذكر في هذه الآية (٤٠) ﴿إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ١ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾، ذكر عدله في المجازاة ورحمته، فأخبر أنه عند الحساب لا يظلم عبده وزن ذرة وهي أصغر شيء وذلك بأن لا ينقص من حسناته حسنة، ولا يزيد في سيئاته سيئة، وإن توجد لدى مؤمن حسنة واحدة يضاعفها بأضعاف يعلمها هو ويعط من عنده بدون مقابل أجراً عظيماً لا يقادر قدره، فلله الحمد والمنة. هذا ما تضمنته الآية الأولى (٤٠)، أما الآية الثانية (٤١) فإنه تعالى لما ذكر الجزاء والحساب الدال عليه السياق ذكر ما يدل على هول يوم الحساب وفظاعة الأمر فيه، فخاطب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً: ﴿فَكَيْف ٢ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً﴾ ؟ ومعنى الآية: فكيف تكون حال أهل الكفر والشر والفساد إذا جاء الله تعالى بشهيد من كل أمة ليشهد٣ عليهما فيما أطاعت وفيما عصت
١ روى عن ابن مسعود، وابن عباس: "أن هذه الآية إحدا آيات هي خير مما طلعت عليه الشمس" ووجه ذلك في حديث الشفاعة في صحيح مسلم، إذ فيه: "ثم يقول لهم ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها، -أي: النار – خيراً".
٢ كيف فتحت فاؤها لالتقاء الساكنين، إذ المفروض فيها أنها ساكنة وهي هنا في محل نصب، إذ التقدير: تكون حالهم كيف.
٣ هو رسولها الذي أرسل إليها.
480
ليتم الحساب بحسب البينات والشهود والجزاء بحسب الكفر والإيمان والمعاصي والطاعات، وجئنا بك أيها الرسول الخليل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهيداً على هؤلاء، أي: على أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آمن به ومن كفر، إذ يشهد أنه بلغ رسالته وأدى أمانته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذا ما تضمنته الآية الثانية، أما الآية الثالثة (٤٢) فإنه تعالى لما ذكر ما يدل على هول يوم القيامة في الآية (٤١) ذكر مثلاً لذلك الهول وهو أن الذين كفروا يودون وقد عصوا الرسول لو يسوون بالأرض فيكونون تراباً حتى لا يحاسبوا ولا يجزوا بجهنم. وأنهم في ذلك اليوم لا يكتمون الله كلاماً؛ إذ جوارحهم تنطق فتشهد عليهم. قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي: يوم يؤتى من كل أمة بشهيد ﴿يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى١ بِهِمُ الأَرْضُ﴾ فيكونون تراباً مثلها٢. مرادهم أن يسووا هم بالأرض فيكونون تراباً وخرج الكلام على معنى: أدخلت رأسي في القلنسوة، والأصل: أدخلت القلنسوة في رأسي، وقوله ﴿وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً﴾ إخبار عن عجزهم عن كتمان شيء عن الله تعالى؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم بعد أن يختم على أفواههم، كما قال تعالى من سورة يس ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- بيان عدالة الله تعالى ورحمته ومزيد فضله.
٢- بيان هول يوم القيامة حتى إن الكافر ليود أن لو سويت به الأرض فكان تراباً.
٣- معرفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بآثار الشهادة على العبد بيوم القيامة إذ أخبر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً: "اقرأ عليَّ القرآن، فقلت أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: أحب أن أسمعه من غيري. قال: فقرأت: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ حتى وصلت هذه الآية: ﴿فَكَيْفَ٣ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ الآية، وإذا عينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تذرفان الدموع٤ وهو يقول: حسبك. أي: كفاك ما قرأت عليَّ".
١ قرئت: ﴿تسَّوّى﴾ بتشديد كل من السين والواو مع فتح التاء في السبع، وقرئت أيضاً: ﴿تَسوى﴾ بفتح التاء وتخفيف السين وتشديد الواو، وبضم التاء وتشديد الواو.
٢ أي: تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها فتكون الباء بمعنى: على، أي: لو تسوى عليهم، أي: تنشق فتسوى عليهم.
٣ الاستفهام للتعجب من حال الناس في عرصات القيامة، وقد جيء بالشهود: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ* وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾.
٤ إن بكاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنا لسببين: الأول: المسرة التي نالته بتشريف الله تعالى له في هذا المشهد العظيم، حيث يؤتى به شهيداً على أمته، لا يعرف عدد أفرادها إلا الله خالقها، ويدخل الجنة بشهادته عدد لا يحصى. والثاني: الأسى والأسف الذي يلحقه من رؤيته أعداداً هائلة من أمته يدخلون النار بشهادته عليهم. واليكاء: يكون للمسرة والحزن معاً.
481
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (٤٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿لا تَقْرَبُوا﴾ : لا تدنوا كناية عن الدخول فيها، أو لا تدنوا من مساجدها.
﴿سُكَارَى﴾ : جمع سكران، وهو من شرب مسكراً فستر عقله وغطاه.
﴿تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ : لزوال السكر عنكم ببعد شربه عن قوت الصلاة، وهذا كان قبل تحريم الخمر وسائر المسكرات.
﴿وَلا جُنُباً١﴾ : الجنب: من به جنابة وللجنابة سببان جماع، أو احتلام.
﴿عَابِرِي٢ سَبِيلٍ﴾ : مارين بالمسجد مروراً بدون جلوس فيه.
﴿الْغَائِطِ﴾ : المكان المنخفض للتغوط: أي: التبرز فيه.
﴿لامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ : جامعتموهن.
﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾ : اقصدوا تراباً طاهراً.
﴿عَفُوّاً غَفُوراً﴾ : عفواً: لا يؤاخذ على كل ذنب، غفوراً: كثير المغفرة لذنوب عباده التائبين إليه.
معنى الآية الكريمة:
لا شك أن لهذه الآية سبباً نزلت بمقتضاه، وهو أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
١ ﴿ولا جُنباً﴾ هذا معطوف على محل جملة: ﴿حتى تَعْلَموُا﴾ أي: لا تصلوا، وقد أجنبتم، لفظ: الجنب، لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع؛ لأنه على وزن المصدر؛ كالقرب والبعد، يقال: هو جنب، وهي جنب، وهم جنب، وهن جنب، بلا فرق.
٢ يقال: عبرت الطريق. إذا قطعته من جانب إلى جانب آخر، وعبرت النهر كذلك، والمعبر: ما يعبر عليه من سفينة ونحوها، وناقة عبر أسفار، لا يزال يسافر عليها ويقطع بها الفلاة، والهاجرة: لسرعة مشيها.
482
حسب رواية الترمذي أقام مأدبة لبعض الأصحاب فأكلوا وشربوا وحضرت الصلاة فقاموا لها وتقدم أحدهم يصلي بهم، فقرأ بسورة الكافرون، وكان ثملان فقراً: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، وهذا باطل قراءته بحذف حروف النفي فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ١ آمَنُوا....﴾ أي: يا من صدقتكم بالله ورسوله، ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاة﴾ أي: لا تدخلوا فيها، والحال أنكم سكارى من الخمر إذ كانت يومئذ حلالاً غير حرام، حتى تكون عقولكم تامة تميزون بها الخطأ من الصواب فتعلموا ما تقولون في صلاتكم. ولا تقربوا مساجد الصلاة للجلوس فيها، وأنتم جنب حتى تغتسلوا اللهم إلا من كان منكم عابر سبيل، إذ كانت طرق بعضهم إلى منازلهم على المسجد النبوي. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ بجراحات يضرها الماء أو مرضى مرضاً لا تقدرون معه على استعمال الماء للوضوء أو الغسل، أو كنتم ﴿عَلَى سَفَرٍ٢ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ بمضاجعهن أو مستموهن بقصد الشهوة ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ تغتسلون به إن كنتم جنباً أو تتوضأون به إن كنتم محدثين حدثاً أصغر ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾ أي: اقصدوا تراباً طاهراً ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ مرة واحدة فإن ذلك مجزئ لكم عن الغسل والوضوء، فإن صح المريض أو وجد الماء فاغتسلوا أو توضأوا ولا تيمموا لانتفاء الرخصة بزوال المرض أو وجود الماء. وقوله تعالى في ختام الآية ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾ يخبر تعالى عن كماله المطلق فيصف نفسه بالعفو عن عباده المؤمنين إذا خالفوا أمره، وبالمغفرة لذنوبهم إذا هم تابوا إليه، ولذا هو عز وجل لم يؤاخذهم لما صلوا وهم سكارى لم يعرفوا ما يقولون، وغفر لهم وأنزل هذا القرآن تعليماً لهم وهداية لهم.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
١- تقرير مبدأ النسخ للأحكام الشرعية في القرآن والسنة.
٢- حرمة مكث٣ الجنب في المسجد، وجواز العبور والاجتياز بدون مكث.
١ روى أبو داود في سننه: "أنه لما نزلت أية البقرة: ﴿يَسْألوُنَك عَنْ الخَمر والمَيِسْر﴾ قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، ولما نزلت هذه الآية من النساء قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، ولما نزلت آية المائدة: ﴿فَهلْ أنْتم مُنتَهون﴾ قال: انتهينا يا ربنا".
٢ هل السفر مبيح للتيمم، وإن وجد الماء؟ الجواب: لا. وإنما ذكر السفر؛ لأن الغالب فيه أنه لا يوجد ماء. أما الحضر: فالماء فيه قلما ينقطع ولا يوجد.
٣ يحرم قراءة القرآن على الجنب لحديث ابن ماجة وغيره: "لا يقرأ الجنب والحائض شيئاً من القرآن"، وحديث الدارقطني: "كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنباً".
483
٣- وجوب الغسل على الجنب وهو من قامت به جنابة بأن احتلم فرأى الماء، أجامع أهله فأولج ذكره١ في فرج امرأته ولم لم ينزل ماء.
وكيفية الغسل: أن يغسل كفيه قائلاً: بسم الله ناوياً رفع الحدث الأكبر ثم يستنجي فيغسل فرجيه وما حولهما، ثم يتوضأ فيغسل كفيه ثلاثاً، ثم يتمضمض ويستنشق الماء، ويستثره ثلاثاً، ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه وأذنيه مرة واحدة ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثم يغمس كفيه في الماء ثم يخلل أصول شعر رأسه، ثم يحثو الماء على رأسه بغسله بكل حثوة، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن يغسله، ثم على شقه الأيسر يغسله. من أعلاه إلى أسفله، ويتعهد بالماء إبطيه وكل مكان من جسمه ينبو عنه الماء كالسرة وتحت الركبتين٢.
٤- إذا لم يجد المرء التراب لمطر ونحوه تيمم بكل أجزاء الأرض٣ من رمل وسبخة وحجارة والتيمم هو أن يضرب بكفه الأرض ثم يمسح وجهه وكفيه بهما لحديث عمار رضي الله عنه في الصحيح.
٥- بيان عفو الله وغفرانه لعدم مؤاخذة من صلوا وهم سكارى.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ
١ لحديث مسلم: " إذا جلس شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل"، أما حديث مسلم: " إنما الماء من الماء" فمنسوخ بالحديث المذكور أعلاه، وعلى هذا جماهير الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة.
٢ لحديث: "تحت كل شعرة جنابة اغلسوا الشعر وأنفقوا البشرة". قال ابن عيينة: "المراد وأنفقوا البشرة: غسل الفرجين وتنظيفهما".
٣ الإجماع على جوا ز التيمم بالتراب المنبت الطاهر غير المنقول ولا المغصوب. والإجماع على عدم الجواز على الذهب والفضة والياقوت والزمرد والأطعمة؛ كالخبز واللحم وغيرهما. وكذا النجاسات واختلف فيه غير ما ذكر؛ كالحجارة والسبخة والرمل وما إلى ذلك.
484
وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً (٤٦) }
شرح الكلمات:
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ : ألم تبصر، أي: بقلبك، أي: تعلم.
﴿نَصِيباً﴾ : حظاً وقسطاً.
﴿يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ﴾ : أي: الكفر بالإيمان.
﴿الأعداء﴾ : جمع عدو، وهو يقف بعيداً عنك يود ضرك ويكره نفعك.
﴿هَادُوا﴾ : أي: اليهود، قيل لهم ذلك لقولهم: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾، أي: تبنا ورجعنا.
﴿يُحَرِّفُونَ﴾ : التحريف: الميل بالكلام عن معناه إلى معنى باطل للتضليل.
﴿الْكَلِمَ﴾ : الكلام، وهو كلام الله تعالى في التوراة.
﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ : أي: اسمع ما تقول لا أسمعك الله. وهذا كفر منهم صريح.
﴿وَطَعْناً فِي الدِّينِ﴾ : سبهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الطعن الأعظم في الدين.
﴿وَانْظُرْنَا﴾ : وأمهلنا حتى تسمع فتفهم.
﴿وَأَقْوَمَ﴾ : أعدل وأصوب.
﴿لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ : طردهم من رحمته وأبعدهم من هداه بسبب كفرهم برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
معنى الآيات:
روي أن هذه الآيات نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت أحد عظماء اليهود بالمدينة، كان إذا كلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوى لسانه، وقال: راعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعليه فأنزل الله تعالى هذه الآيات الثلاث إلى قوله ﴿فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً﴾، وهذا شرحها: قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ١ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ
١ جملة: {يَشْتَروُن﴾ في محل نصب حالية، وهي بضميمة جملة: ﴿وأُوتوا نَصِيباً مِنَ الكِتاب﴾ فيكون مثار العجب في نفس السامع لأن اشتراء العالم الضلالة أمر عجب بلا شك.
485
تَضِلُّوا السَّبِيلَ} أي: ألم ينته إلى علمك وإلى علم أصحابك ما يحملكم على التعجب: العلم بالذين أتوا نصيباً من الكتاب وهم: رفاعة بن زيد وإخوانه من اليهود، أعطوا حظاً من التوراة فعرفوا صحة الدين الإسلامي، وصدق نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ﴾ وهو الكفر يشترونها بالإيمان، حيث جحدوا نعوت النبي وصفاته في التوراة للإبقاء على مركزهم بين قومهم يسودون ويتفضلون، ويريدون مع ذلك أن تضلوا أيها المؤمنون السبيل سبيل الحق والرشد، وهو الإيمان بالله ورسوله والعمل بطاعتهما للإسعاد والإكمال. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ١ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ الذين يودون ضركم ولا يودون نفعكم، ولذا أخبركم بهم لتعرفوهم وتجتنبوهم فتنجوا من مكرهم وتضليلهم. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَلِيّاً﴾ لكم تعتمدون عليه وتفوضون أموركم إليه ﴿وَكَفَى بِاللهِ نَصِيراً﴾ ينصركم عليهم وعلى غيرهم فاعبدوه وتوكلوا عليه. ﴿مِنَ٢ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ أي: هم من اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، والكلام هو كلام الله تعالى في التوراة، وتحريفه بالميل به عن القصد، أو بتبديله وتغييره تضليلاً للناس وإبعاداً لهم عن الحق المطلوب منهم الإيمان به والنطق والعمل به. ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلك كفراً وعناداً ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا٣ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ٤﴾، أي: لا أسمعك الله ﴿وراعنا﴾ وهي كلمة ظاهرها أنها من المراعاة وباطنها الطعن في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ اليهود يعدونها من الرعونة يقولونها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سباً وشتماً له قبحهم الله ولعنهم وقطع دابرهم، وقوله تعالى: ﴿لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ﴾ أي: يلوون ألسنتهم بالكلمة التي يسبون بخا حتى لا تظهر عليهم، ويطعنون بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا﴾ أي: انتظرنا بدل راعنا لكان خيراً لهم وأقوم، أي: أعدل وأكثر لياقة وأدباً، ولكن لا يقولون هذا؛ لأن الله تعالى لعنهم وحرمهم من كل توفيق بسبب كفرهم فهم لا يؤمنون إلا قليلاً. أي: إيماناً لا ينفعهم لقلته فهو لا يصلح أخلاقهم ولا يطهر نفوسهم ولا يهيئهم للكمال في الدنيا ولا في الآخرة.
١ جملة إعتراضية، وهي تحمل التعريض بأن إرادة اليهود تضليل المسلمين ناجمة عن عداوة وحسد للمسلمين.
٢ ﴿مِنَ الّذينَ هَادُوا﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا، جماعة يحرفون الكلم عن مواضعه، و"من" تبعيضية.
٣ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنهم كانوا يقولون: سمعنا قولك وعصينا أمرك".
٤ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن مرادهم من قولهم: ﴿واسْمَع غَيرْ مُسْمع﴾ اسمع لا سمعت".
486
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان مكر اليهود بالمؤمنين بالعمل على إضلالهم في عهد النبوة وإلى اليوم.
٢- في كفاية الله للمؤمنين ونصرته ما يغنيهم أن يطلبوا ذلك من أحد غير ربهم عز وجل.
٣- الكشف عن سوء نيات وأعمال اليهود إزاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٤- الإيمان١ القليل لا يجدي صاحبه ولا ينفعه بحال.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) ﴾
شرح الكلمات:
﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ : اليهود والنصارى، والمراد بهم هنا اليهود لا غير.
﴿بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً﴾ : القرآن.
﴿نَطْمِسَ وُجُوهاً﴾ : نذهب آثارها بطمس الأعين وإذهاب أحداقها.
﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ : نجعل الوجه قفا، والقفا وجهاً.
﴿كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ : لعنهم: مسخهم قردة خزياً لهم وعذاباً مهيناً.
﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً﴾ : أمر الله: مأموره كائن لا محالة لأنه تعالى لا يعجزه شيء. معنى الآية الكريمة:
ما زال السياق في اليهود المجاورين للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي هذه الآية ناداهم الله تبارك٢
١ شاهده قوله تعالى: ﴿فَلا يؤمنون إلا قَليلا﴾ هذا يصح إن كانت الجملة دالة على شيء من الإيمان، أما على رأي من يرى أن الكلام دال على نفي الإيمان بالكلية فلا دليل في الآية على أن قليل الإيمان لا ينفع.
٢ قال القرطبي: قال ابن إسحاق: كلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رؤساء من أحبار يهود منهم: عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد، وقال لهم: "يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق". قالوا: ما نعرف ذاك يا محمد. وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر. فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾.
487
وتعالى بعنوان العلم والمعرفة وهو نسبتهم إلى الكتاب الذي هو التوراة آمراً إياهم بالإيمان بكتابه، أي: القرآن الكريم وبمن أنزله عليه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ الإيمان بالمنزل إيمان بالمنزل عليه ضمنا. فقال: ﴿آمنوا﴾ بالفرقان المصدق لما معكم من أصول الدين ونعوت الرسول والأمر بالإيمان به ونصرته خفوا إلى الإيمان واتركوا التردد من قبل أن يحل بكم ما حل ببعض أسلافكم حيث مسخوا قردة وخنازير ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً١﴾ فنذهب حدقة أعينها وشاخص أنوفها ونُغلق أفواهها فتصبح الوجوه أقفاء، والأقفاء وجوهاً يمشون القهقراء وهو معنى قوله: ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ أي: الذين اعتدوا منكم في السبت حيث صادوا فيه، وهو محرم عليهم فمسخهم قردة خاسئين. ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ﴾ أي: مأموره ﴿مَفْعُولاً﴾ ناجزاً، لا يتخلف ولا يتأخر لأن الله تعالى لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- المفروض أن ذا العلم يكون أقرب إلى الهداية، ولكن من سبقت شقوته لما يعلم الله تعالى من اختياره الشر والإصرار عليه لا ينفعه العلم، ولا يهتدي به هؤلاء اليهود الذين دعاهم الله تعالى إلى الإيمان فلم يؤمنوا.
٢- وجوب تعجيل التوبة قبل نزول العذاب وحلول ما لا يحب الإنسان من عذاب ونكال.
٣- قد يكون المسخ في الوجه بمسخ الأفكار والعقول فتفسد حياة المرء وتسوء، وهذا الذي حصل ليهود المدينة. فنقضوا عهودهم فهلك من هلك منهم وأجلى من أجلى نتيجة إصرارهم على الكفر وعداء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين.
﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ٢ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾
١ قال مالك رحمه الله تعالى: "كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية: ﴿يَا أهْل الكتاب... ﴾ إلخ. فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقري إلى بيته فأسلم مكانه، وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي".
٢ روى الترمذي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ "، قال هذا حديث حسن غريب.
488
شرح الكلمات:
﴿لا يَغْفِرُ﴾ : لا يمحو ولا يترك للمؤاخذة.
﴿أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ : أي: يعبد معه غيره تأليها له بحبه وتعظمه وتقديم القرابين له، وصرف العبادات له كدعائه والاستعانة به والذبح والنذر له.
﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ : أي ما دون الشرك والكفر من سائر الذنوب والمعاصي التي ليست شركاً ولا كفراً.
﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ : أي: لمن يشاء المغفرة له من سائر المذنبين بغير الشرك والكفر.
﴿افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾ : افترى: اختلق وكذب كباً بنسبته العبادة إلى غير الرب تعالى، والإثم: الذنب العظيم الكبير.
معنى الآية الكريمة:
يروى أنه لما نزل قول الله تعالى من سورة الزمر: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ قام رجل فقال: والشرك يا نبي الله؟ فكره ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ١ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فأخبر تعالى عن نفسه بأنه لا يغفر الذنب المعروف بالشرك والكفر، وأما سائر الذنوب كبيرها وصغيرها فتحت المشيئة إن شاء غفرها لمرتكبها فلم يعذبه بها، وإن شاء آخذه بها وعذبه، وأن من يشرك به تعالى فقد اختلق الكذب العظيم إذ عبد من لا يستحق العبادة وأنه من لا حق له في التأليه فلذا هو قائل بالزور وعامل بالباطل، ومن هنا كان ذنبه عظيماً.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
١- عظم ذنب٢ الشرك والكفر وأن كل الذنوب دونهما.
٢- الشرك ذنب٣ لا يغفر لمن مات بدون توبة منه.
١ ومع ظهور سبب النزول فإن الآية تحمل تهديداً ووعيداً للناس شديدين يفهم ذلك من حرف التعليل، وهو: ﴿إن الله﴾ كأنه يقول: يا أيها الناس ادخلوا في الإسلام إن الله لا يغفر أن يشرك به.
٢ وجه عظم ذنب الشرك يدرك بما يلي: أولاً: أنه ذنب لا يغفر إلا لمن تاب منه. ثانياً: إنه محبط للعمل مهما كثر وعظم لقوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
٣ يعرف الشرك: بأنه عبادة غير الله مع الله. ومن أنواع العبادة: التعظيم، والرغبة، والرهبة، والدعاء، والذبح، والنذر، والركوع، والسجود، والصيام، والحلف، وهو من التعظيم.
٣- سائر الذنوب دون الشرك والكفر لا ييأس فاعلها من مغفرة الله تعالى له وإنما يخاف.
٤- الشرك زور وفاعله قائل بالزور فاعلٌ به.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ١ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) ﴾
شرح الكلمات:
تزكية النفس: تبرئتها من الذنوب والآثام.
﴿يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ : يطهر من الذنوب من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل بما يزكي النفس، وإعانته عليه.
الفتيل: الخيط الأبيض يكون في وسط النواة، أو ما يفتله المرء بأصبعيه من الوسخ في كفه أو جسمه وهو أقل الأشياء وأتفهها.
﴿الْكَذِبَ﴾ : عدم مطابقة الخير للواقع.
معنى الآيتين:
عاد السياق إلى الحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى لرسوله والمؤمنين: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ وهو أمر يحمل على العجب والاستغراب إذ المفروض أن المرء لا يزكي نفسه حتى يزكيه غيره، فاليهود والنصارى قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾. وقالوا: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى﴾. وقالت اليهود: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ٢ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ﴾، إلى غير ذلك من الدعاوي الباطلة، ولما أنكر تعالى عليهم هذا الباطل الذي يعيشون عليه فعاقهم عن الإيمان والدخول في الإسلام وأخبر تعالى أنه عز وجل هو الذي يزكي من يشاء من عباده، وذلك بتوفيقه إلى الإيمان وصالح العمال التي تزكو عليها النفس البشرية، فقال تعالى: ﴿بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ أي: أقل قليل فلا يزاد
١ لا خلاف في أن المراد بالذين يزكون أنفسهم في هذه الآية هم اليهود.
٢ ومن جملة أقوالهم في تزكية نفوسهم بأفواههم قولهم: "لا ذنب لنا وما فعلناه نهاراً يغفر لنا ليلاً"، وما فعلناه ليلاً يغفر لنا نهاراً" وقولههم: "نحن كالأطفال في عدم الذنوب". وثناء بعضهم على بعض.
490
في ذنوب العبد ولا ينقص من حسناته. ثم أمر الله تعالى رسوله أن يتعجب من حال هؤلاء اليهود والنصارى وهم يكذبون على الله تعالى، ويختلقون الكذب بتلك الدعاوي التي تقدمت آنفاً. وكفى بالكذب إثماً مبيناً. يغمس صاحبه في النار.
هداية الآيتين:
من هداية الايتين:
١- حرمة تزكية المرء١ نفسه بلسانه والتفاخر بذلك، إما طلباً للرئاسة، وإما تخلياً عن العبادة والطاعة بحجة أنه في غير حاجة إلى ذلك لطهارته، ورضى الله تعالى عنه.
٢- الله يزكي عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى، ويزكيه بتوفيقه وإيمانه للعمل بما يزكي من صلاة وصدقات وسائر الطاعات المشروعة لتزكية النفس البشرية وتطهيرها.
٣- عدالة الحساب والجزاء يوم القيامة لقوله تعالى: ﴿وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ٢ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤)
١ روى مسلم عن عمر بن عطاء، قال: سميت ابنتي: برة. فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن هذا الاسم، وسميت برة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أتزكون أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم". فقالوا: بما نسميها؟. فقال: "سموها زينب". قال الدارقطني: فدل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه. ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية. من نعت أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية: كزكي الدين، ومحي الدين، وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسلمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئاً.
٢ آل إبراهيم هم: ذريته من أولاد وأحفاد وما تناسل منهم؛ كداود وسليمان ومن بعدهم.
491
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) }
شرح الكلمات:
﴿بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ : الجبت١: اسم لكل ما عبد من دون الله وكذا الطاغون سواء كانا صنمين أو رجلين.
أهدى سبيلا: أكثر هداية في حياتهما وسلوكهما.
﴿نَقِيراً﴾ : النقير: نقرة في ظهر النواة يضرب بها المثل في صغرها.
الحسد: تمني زال النعمة عن الغير والحرص على ذلك.
﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ : السداد في القول والعمل مع الفقه في أسرار التشريع الإلهي.
معنى الآيات:
روي أن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ذهبوا إلى مكة يحزبون الأحزاب لحرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما نزلوا مكة قالت قريش: نسألهم فإنهم أهل كتاب عن ديننا ودين محمد أيهما خير؟ فسألوهم فقالوا لهم دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله ﴿عَظِيماً﴾. وهذا شرحها: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ٢ وَالطَّاغُوتِ﴾ ألم ينته إلى علمك أيها الرسول: أن الذين أوتوا حظاً من العلم بالتوراة يصدقون بصحة عبادة الجبت والطاغوت ويقرون عليها ويحكمون بأفضلية عبادتها على عبادة الله تعالى ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهم مشركوا قريش: دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى طريقاً في حياتكم الدينية والاجتماعية ألم يك موقف هؤلاء اليهود مثار الدهشة والاستغراب والتعجب لأهل العلم والمعرفة بالدين الحق، إذ يقرون الباطل ويصدقون به؟ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ﴾ أولئك الهابطون في حمأة الرذيلة، البعيدون في أغوار الكفر والشر والفساد لعنهم الله فأبعدهم عن ساحة الخير والهدى، {وَمَنْ
١ وقيل: الجبت: الساحر بلغة الحبشة، والطاغوت: الكاهن. عن ابن عباس وأبي جبير وأبي العالية، وقال عمر رضي الله عنه: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. وقال مالك: الطاغوت ما عبد من دون الله. وقيل: هما كل ما عبد من دون الله أو مطاع في معصية الله. وهذا حسن وهو ما ذكرناه في التفسير.
٢ أخرج أبو داود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الطرق والطيرة والعياثة من الجبت" والمراد من الطرق: الخط بخط في الأرض للبحث عن معرفة ما يحدث للإنسان. والعياثة: زجر الطير للتشاؤم والتيمن، والطيرة: التطير. وأصل الجبت: الجبس، وهو مالا خير فيه.
492
يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ} يا رسولنا ﴿نَصِيراً﴾ ينصره من الخذلان الذي وقع فيه والهزيمة الروحية التي حلت به فأصبح وهو العالم يبارك الشرك ويفضله على التوحيد.
ثم قال تعالى في الآية (٥٣) ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا١ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً﴾. أي: ليس لهم نصيب من الملك كما يدعون، فالاستفهام للإنكار عليهم دعوة أن الملك يؤول إليهم، وهم لشدة بخلهم لو آل الملك لهم لما أعطوا أحداً أحقر الأشياء وأتفهها ولو مقدار نواة، وهذا ذم لهم بالبخل بعد ذمهم بلازم الجهل، وهو تفضيلهم الشرك على التوحيد.
وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ٢ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾ أم بمعنى بل كسابقتها للإضراب –الانتقال من حال سيئة إلى أخرى، والهمزة للإنكار ينكر تعالى عليهم حسدهم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين على النبوة والدولة، وهو المراد من الناس وقوله تعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ﴾ ؛ كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل، والحكمة التي هي السنة التي كانت لأولئك الأنبياء يتلقونها وحياً من الله تعالى، وكلها علم نافع وحكم صائب سديد، والملك العظيم هو ما كان لداود وسليمان عليهما السلام كل هذا يعرفه اليهود فلم لا يحسدون محمداً والمسلمين، والمراد من السياق ذم اليهود بالحسد كما سبق ذمهم بالبخل والجهل مع العلم.
وقوله تعالى في الآية (٥٥) :﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ يريد أن من اليهود المعاهدين للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آمن بالنبي٣ محمد ورسالته، وهم القليل، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ أي: انصرف وصرف الناس عنهم وهم الأكثرون ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً﴾ لمن كفر حسداً وصد عن سبيل الله بخلاً ومكراً، أي: حسبه جهنم ذات السعير جزاء له على الكفر والحسد والبخل، والعياذ بالله تعالى.
١ إذاً هنا: ملغاة، فلم تنصب المضارع بعدها، وذلك لدخول فاء العطف عليها، لو نصب وكان في غير القرآن بها لجاز النصب. قال سيبويه: "إذاً في عوامل الأفعال بمنزلة: ظن في عوامل الأسماء، أي: تلغى ولا تعمل. إذا لم يكن الكلام معتمداً عليها".
٢ الحسد: كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأنه اعتراض على الله فيما قسمه بين عباده وورد فيه أنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. قيل فيه: إنه أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي الله به في الأرض. إذ حسد إبليس آدم في السماء. وحسد قابيل هابيل في الأرض.
٣ وجائز أن يكون الضمير عائداً إلى إبراهيم عليه السلام أو إلى الكتاب. وما ذكرناه في التفسير هو الحق.
493
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب الكفر بالجبت والطاغوت.
٢- بيان مكر اليهود وغشهم وأنهم لا يتورعون عن الغش والكذب والتضليل.
٣- ذم الحسد والبخل.
٤- إيمان بعض اليهود بالإسلام، وكفر أكثرهم مع علمهم بصحة الإسلام ووجوب الإيمان به والدخول فيه.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧) ﴾
شرح الكلمات:
﴿نُصْلِيهِمْ نَاراً١﴾ : ندخلهم ناراً يحترقون بها.
﴿نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ٢﴾ : اشتوت فتهرت وتساقطت.
﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ : ليستمر لهم العذاب مؤلماً.
﴿عَزِيزاً حَكِيماً﴾ : غالباً، يعذب من يستحق العذاب.
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ : تجري من خلال أشجارها وقصورها الأنهار.
﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ : من الأذى والقذى مطلقاً.
﴿ظِلاًّ ظَلِيلاً٣﴾ : الظل الظليل: الوارف الدائم لا حر فيه ولا برد به.
١ يقال: صلاه يصليه صليا، وأصلاه إصلاء، أي: اللحم إذا شواه على النار، ويقال: فلان نضج الرأي، أي: محقه.
٢ يقال: نضج الشواء، إذا بلغ حد الشي.
٣ صفة مؤكدة؛ كيوم أيوم، وليل أليل، والظليل هو: السجسج الذي لا حر فيه ولا قر.
494
معنى الآيتين:
على ذكر الإيمان والكفر في الآية السابقة ذكر تعالى في هاتين الآيتين الوعيد والوعد الوعيد لأهل الكفر والوعد لهل الإيمان فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً﴾ يريد يدخلهم نار جهنم يحترقون فيها ويصطلون بها ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ تهرت وسقطت بدلهم١ الله تعالى فوراً جلوداً غيرها ليتجدد ذوقهم للعذاب وإحساسهم به، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ تذييل المقصود منه إنفاذ الوعيد فيهم؛ لأن العزيز الغالب لا يعجز عن إنفاذ ما توعد به أعداءه، كما أن الحكيم في تدبيره يعذب أهل الكفر به والخروج عن طاعته، هذا ما تضمنته الآية الأولى (٥٦) من وعيد لأهل الكفر.
وأما الآية الثانية (٥٧) فقد تضمنت البشرى السارة لأهل الإيمان وصالح الأعمال، مع اجتناب الشرك والمعاصي فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي: بعد تركهم الشرك والمعاصي ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ٢ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ يريد نساء من الحور العين مطهرات من كل ما يؤذي أو يُخل بحسنهن وجمالهن نقيات من البول والغائض ودم الحيض. وقوله تعالى: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً﴾ وارفاً كنيناً يقيهم الحر والبرد. وحدث يوماً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "في الجنة شجرة تسمى٣ شجرة الخلد يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطع ظلها".
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الكفر والمعاصي موجبات٤ للعذاب الأخروي.
٢- بيان الحكمة في تبديل الجلود لأهل النار وهي أن يدوم إحساسهم بالعذاب.
٣- الإيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي موجبات للنعيم الأخروي.
١ روي أن جلودهم تبدل في الساعة مائة مرة، وروي أن هذه الآية تليت عند عمر رضي الله عنه فقال عمر للقارئ: أعدها فأعادها عليه. وعنده كعب فقال: يا أمير المؤمنين أنا عندي تفسير لها. فذكر أنه تبدل في الساعة الواحدة مائة وعشرين مرة.
٢ ذكر هذا الخلود إعظاماً للمنة، و ﴿خالدين﴾ منصوب على الحال المقدرة، أي: حال كون خلودهم مقدراً فيها قبل دخلوهم إياها.
٣ ذكره ابن كثير في تفسير هذه الآية.
٤ وذلك لأن الكفر والشرك والمعاصي التي هي ترك الواجبات وفعل المحرمات تدنس النفس فلا تصبح أهلاً لدخول الجنة لقوله تعالى: ﴿قدْ أَفْلَح مَنْ زَكّاها وَقدْ خَابَ مَنْ دَسّاها﴾.
495
٤- الجنة دار النعيم خالية من كدرات الصفو والسعادة فيها.
﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩) ﴾
شرح الكلمات:
﴿أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ١﴾ : أداء الأمانة: تسليمها إلى المؤتمن، والأمانات جمع أمانة وهي ما يؤتمن عليه المرء من قول أو عمل أو متاع.
﴿الْعَدْلِ٢﴾ : ضد الجور والانحراف بنقص أو زيادة.
﴿نِعِمَّا يَعِظُكُمْ﴾ : نعم شيء يعظكم، أي: يأمركم به أداء الأمانات والحكم بالعدل.
﴿وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ : أولوا الأمر: هم الأمراء والعلماء من المسلمين.
﴿تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ : اختلفتم فيه كل فريق يريد أن ينتزع الشيء من يد الفريق الآخر.
﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ : أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ : أحسن عاقبة، لأن تأويل الشيء ما يؤول إليه في آخر الأمر.
معنى الآيتين:
روي أن الآية الأولى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ٣ أَنْ تُؤَدُّوا٤ الأَمَانَاتِ﴾ نزلت في شأن عثمان بن
١ الإجماع على وجوب رد الأمانات لأصحابها كفاراً أو مؤمنين، فجاراً أو أبراراً.
٢ العدل وسط بين طرفي، فإن مال لأحد الجانبين فقد جار وظلم ولم يعدل.
٣ إن هنا لمجرد الاهتمام بالخبر، إذ مثل هذا الخبر لا يتطرق إليه الشك حتى يؤكد لإزالته؛ لأنه إخبار عن إيجاد شيء لا عن وجوده فهو خبر كالإنشاء.
٤ الأداء: مصدر أدى المخفف المستغنى عنه بالمضعف، أدى يؤدي تأدية. إذا أوصل الشيء إلى طلبه، ويتجوز فيه فيطلق على الاعتراف بالشيء والوفاء به، وذلك كقول الحق، وتبليغ العلم الشرعي، والمراد به هنا: إيصال الشيء إلى صاحبه.
496
طلحة الحجبي١، حيث كان مفتاح الكعبة عنده بوصفه سادناً٢، فطلبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه صبيحة يوم الفتح، فصلى في البيت ركعتين وخرج، فقال العباس رضي الله عنه أعطينيه يا رسول الله، ليجمع بين السقاية والسدانة، فانزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها فقرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآية على الناس، ودعا عثمان بن طلحة وأعطاه المفتاح. غير أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذا فالآية في كل أمانة فعلى كل مؤتمن على شيء أن يحفظه ويرعاه حتى يؤديه٣ إلى صاحبه، والآية تتناول حكام المسلمين أولاً بقرينة ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ الذي هو القسط، وضد الجور ومعناه: إيصال الحقوق إلى مستحقيها من أفراد الرعايا. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ٤ بِهِ﴾ يريد أن أمره تعالى أمة الإسلام حكاماً ومحكومين بأداء الأمانات والحكم بالعدل هو شيء حسن، وهو كذلك إذ قوام الحياة الكريمة هو النهوض بأداء الأمانات والحكم بالعدل وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ فيه الحث على المأمور به بإيجاد ملكة مراقبة الله تعالى في النفس، فإن من ذكر أن الله تعالى يسمع أقواله ويبصر أعماله استقام في قوله فلم يكذب وفي عمله فلم يفرط. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٨).
أما الآية الثانية (٥٩)، فإن الله تعالى لما أمر ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانات التي هي حقوق الرعية، وبالحكم بينهم بالعدل أمر المؤمنين المولي عليهم بطاعته وطاعة رسوله أولاً، ثم بطاعة ولاة الأمور ثانياً، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، والطاعة لأولي الأمر مُقيد بما كان معروفاً للشرع، أما في غير المعروف فلا طاعة في الاختيار لحديث: "إنما الطاعة في المعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ فهو خطاب عام للولاة والرعية، فمتى حصل خلاف في أمر من أمور الدين والدنيا وجب رد ذلك إلى كتاب الله٥ وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما حكما فيه وجب قبوله حلواً كان أو مراً، وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
١ المؤتمن إذا لم يفرط وضاعت الأمانة منه فلا ضمان عليه إجماعاً لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ضمان على مؤتمن" رواه الدارقطني. والعارية مؤداة أيضاً. لحديث خطبة الوداع: "العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم" أي: ضامن.
٢ أصل: نعما: نعم وكتبت معها ما بعد كسر عين نعم وتسكين ميمها وإدغامها في ما: هي إما موصولة أو نكرة موصوفة أو نكرة تامة وأما الجملة بعد نعم فهي تجري حسب ما يناسب معنى "ما".
٣ الحجبي: نسبة إلى حجابة البيت على غير قياس.
٤ السادن: الخادم للبيت، وتسمى هذه المهنة: السدانة.
٥ وذلك يستلزم الرد إلى العلماء الفقهاء إذ هم الذين يعرفون الأحكام ويحسنون استنباطها من الكتاب والسنة.
497
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فيه أن الإيمان يستلزم الإذعان لقضاء الله ورسوله، وهو يفيد أن رد الأمور المتنازع فيها إلى غير الشرع قادح في إيمان المؤمن وقوله: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾، يريد ذلك الرد والرجوع بالمسائل والقضايا المختلف فيها إلى الكتاب والسنة هو خير حالاً ومآلاً، لما فيه من قطع النزاع والسير بالأمة متحدة متحابة متعاونة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- وجوب رد الأمانات بعد المحافظة عليها.
٢- وجوب العدل في الحكم وحرمة الحيف والجور فيه.
٣- وجوب طاعة الله وطاعة الرسول وولاة المسلمين من حكام وعلماء١ فقهاء، لأن طاعة الرسول من طاعة الله، وطاعة الوالي من طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لحديث: "٢من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقط أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أمري فقد عصاني" ٣.
٤- وجوب رد المتنازع فيه عقيدة أو عبادة أو قضاء إلى الكتاب والسنة ووجوب الرضا بقضائهما.
٥- العاقبة الحميدة والحال الحسنة السعيدة في رد أمة الإسلام ما تنازع فيه إلى كتاب ربها وسنة نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ
١ قال سهل بن عبد الله: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وأن استخفوا بهذين فسدت دنياهم وأخراهم.
٢ رواه الشيخان وكذا حديث: "إنما الطاعة في المعروف". إلخ.
٣ روي في الصحيح أن عبد الله بن حذافة الأنصاري البدري، وكان به دعابة، بعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سرية فأمرهم يوماً أن يجمعوا حطباً ويوقدوا ناراً ففعلوا ثم أمرهم أن يدخلوها محتجاً عليهم بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني" فلم يستجيبوا له، وقالوا له: إنما أمنا وأسلمنا لننجو من النار فكيف نعذب أنفسنا بها؟ وذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف".
498
اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ١ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) }
شرح الكلمات:
﴿يَزْعُمُونَ﴾ : يقولون كاذبين.
﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ : القرآن، وما أنزل من قبلك: التوراة.
﴿الطَّاغُوتِ﴾ : كل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة، والمراد به هنا: كعب بن الأشرف اليهودي أو كاهن من كهان العرب.
﴿الْمُنَافِقِينَ﴾ : جمع منافق: وهو من يبطن الكفر، ويظهر الإيمان خوفاً من المسلمين.
﴿يَصُدُّونَ﴾ : يعرضون عنك ويصرفون غيرهم كذلك.
﴿مُصِيبَةٌ﴾ : عقوبة بسبب كفرهم ونفاقهم.
إن يريدون: أي: ما يريدون.
﴿إِلا إِحْسَاناً﴾ : أي: صلحاً بين المتخاصمين.
﴿وَتَوْفِيقاً﴾ : جمعاً وتأليفاً بين المختلفين.
﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ٢﴾ : أي: اصفح عنهم فلا تؤاخذهم.
﴿وَعِظْهُمْ﴾ : مرهم بما ينبغي لهم ويجب عليهم.
﴿قَوْلاً بَلِيغاً﴾ : كلاماً قوياً يبلغ شغاف قلوبهم لبلاغته وفصاحته.
١ فكيف: خبر مبتدأ محذوف تقديره حالهم، كيف تكون حين تصيبهم مصيبة، أي: تكون عجباً لفرط حزنهم وبكاءهم وندمهم.
٢ الإعراض: عدم الالتفات إلى الشيء بقصد التباعد عنه مشتق من العرض بضم العين، وهو الجانب ولعله مأخوذ من إعراض في الشيء إذ دخل فيه؛ كأصبح في الصباح فأعرض فلان عن فلان، أي: تنحى عنه جانباً، أو أعطاه عرضه مدبراً عنه.
499
معنى الآيات:
روي أن منافقاً ويهودياً١ اختلفا في شيء فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلمه أنه يحكم بالعدل ولا يأخذ رشوة، وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي، فتحاكما إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقضى لليهودي فنزلت٢ فيهما هذه الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ والمراد بهذا المنافق، ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾، والمراد به اليهودي، والاستفهام للتعجب. ألم ينته إلى علمك موقف هذين الرجلين ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ "كعب٣ بن الأشرف" أو الكاهن الجهني، وقد أمرهم الله أن يكفروا به ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً﴾، حيث زين لهم لهم التحاكم عند الكاهن أو كعب اليهودي. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ ليحكم بينكم رأيت ياللعجب المنافقين يعرضون عنك اعراضاً هاربين من حكمك غير راضين بالتحاكم إليك لكفرهم بك وتكذيبهم لك ﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ وحلت بهم بسبب ذنوبهم أيبقون معرضين عنك؟ أم ماذا؟ ﴿ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ﴾ قائلين٤، ما أردنا إلا الإحسان في عملنا ذلك والتوفيق بين المتخاصمين. هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث، وأما الرابعة وهو قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾ فإن الله تعالى يشير إليهم بأولئك لبعدهم في الخسة والانحطاط، فيقول: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي: من النفاق والزيغ فهم عرضة للنقمة وسوء العذاب، ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ فلا تؤاخذهم٥، ﴿وَعِظْهُمْ﴾ آمراً إياهم بتقوى الله والإسلام له ظاهراً وباطناً، مخوفاً إياهم من عاقبة سوء أفعالهم بترك التحاكم إليك وتحاكمهم إلى الطاغوت، وقل لهم في خاصة أنفسهم قولاً بليغاً ينفذ إلى قلوبهم فيحركها ويذهب عنها غفلتها علهم يرجعون.
١ صيغة جمع الواردة في الآية مثل: ﴿يُريدون أن يَتَحاكموا﴾ تشير إلى كثرة المنافقين، ومن أمثال اليهودي والمنافق صاحبي القصة التي نزلت الآية فيها.
٢ روي أن المنافق لم يرض بحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذهب باليهودي إلى أبي بكر فحكم بحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يرض المنافق فذهب بخصمه اليهودي إلى عمر، فذكر له اليهودي القصة، فقال عمر للمنافق وهو يشير: أكذا هو؟ قال: نعم. قال: رويدكما حتى أخرج إليكما. فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد، وقال هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله. وهرب اليهودي ونزلت هذه الآية وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر: "أنت الفاروق".
٣ قيل فيه: طاغوت لأنه ذو طغيان زائد في الظلم والشر والفساد.
٤ هؤلاء هم: قوم القتيل المنافق جاءوا يطالبون بدية أخيهم في النفاق، وقالوا: الكثير أكثر مما ذكر في الآية، وكل أقوالهم باطلة أملاها النفاق، ولذا أمر الرسول بالإعراض عنهم.
٥ أي: لا تؤاخذهم فيما يبطنونه من الكفر ما داموا لم يظهروه علناً.
500
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا وُجد عالم بهما.
٢- وجوب الكفر بالطاغوت أياً كان نوعه.
٣- وجوب الدعوة إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ووجوب قبولها.
٤- استحباب الإعراض عن ذوي الجهالات، ووعظهم بالقول البليغ الذي يصل إلى قلوبهم فيهزها.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما (٦٥) ﴾
شرح الكلمات:
﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ : إذن الله: إعلامه بالشيء وأمره به.
﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ : بالتحاكم إلى الطاغوت وتركهم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ﴾ : طلبوا منه أن يغفر لهم بلفظ اللهم اغفر لنا، أو استغفروا الله.
﴿يُحَكِّمُوكَ﴾ : يجعلونك حكماً بينهم ويفوضون الأمر إليك.
﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ١﴾ : أي: اختلفوا لاختلاط وجه الحق والصواب فيه بالخطأ والباطل.
﴿حَرَجاً﴾ : ضيفاً وتحرجاً.
﴿مِمَّا قَضَيْتَ﴾ : حكمت فيه.
﴿وَيُسَلِّمُوا﴾ : أي: يذعنوا لقبول حكمك ويسلمون به تسليماً تاماً.
١ شجر: اختلط واختلف، ومنه سمي الشجر شجراً لاختلاط أغصانه، قال طرفة:
وهم الحكام أرباب الهدى...
وسعاة الناس في الأمر الشجر
501
معنى الآيتين:
بعد تقرير خطأ وضلال من أراد أن يتحاكما إلى الطاغوت، كعب بن الأشرف اليهودي، وهما: اليهودي والمنافق في الآيات السابقة أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما أرسل رسولاً١ من رسله المئات إلا وأمر المرسل إليهم بطاعته واتباعه والتحاكم إليه وتحكيمه في كل ما يختلفون فيه، وذلك أمره وقضاؤه وتقديره فيما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن كما أخبر تعالى أن أولئك الظالمين لأنفسهم بتحاكمهم٢ إلى الطاغوت وصدودهم عن التحاكم إليك أيها الرسول لو جاءوك متنصلين من خطيئتهم مستغفرين الله من ذنوبهم واستغفرت لهم أنت أيها الرسول، أي: سألت الله تعالى لهم المغفرة لو حصل منهم هذا لدل ذلك على توبتهم وتاب الله تعالى عليهم فوجدوه عز وجل ﴿تَوَّاباً رَحِيماً﴾. هذا معنى الآية (٦٤) ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾.
وأما الآية الثانية (٦٥) ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ٣ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما﴾ فإن الله تعالى يقول ﴿فَلا﴾ أي: ليس الأمر كما يزعمون، ثم يقسم تعالى فيقول: ﴿وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾ أيها الرسول، أي: يطلبون حكمك فيما اختلفوا فيه واختلط عليهم من أمورهم ثم بعد حكمك لا يجدون في صدورهم أدنى شك في صحة حكمك وعدالته، في التسليم له والرضا به وهو معنى الحرج المتبقي في قوله، ﴿ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما﴾.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- وجوب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يأمر به وينهى عنه.
٢- بطلان من يزعم أن في الآية دليلاً على جواز طلب الاستغفار٤ من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن
١ من هذه الآية: ﴿وما أرسلنا من رسول﴾ مزيدة لتقوية الكلام وإفادة العموم.
٢ تقدم أن الخطاب بصيغة الجمع وإن كان المتحاكمان اثنين فقط، فإن الحكم فيهم وفي غيرهم، فكل من يصدر عنه هذا النوع من الذنب فتوبته هي: ما ذكر تعالى في هذه الآية.
٣ قيل أن هذه الآية: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ نزلت في الزبير والأنصاري في قضية سقي البستان، إذا اختلفا وأتيا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزبير: "اسقي يا زبير أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك". أي: الأول، فقال الأنصاري: أراك تحابي ابن عمتك. فتلون وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال للزبير: "اسق ثم أحبس الماء حتى يبلغ الجدر"، فنزلت الآية. والحديث في صحيح البخاري.
٤ وذلك أنه لو كان كل مذنب لا يغفر له إلا إذا أتى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستغفر له لما تاب أحد، وللذم أن يبقى الرسول حياً ليستغفر للمذنبين بمثل هذا الذنب، ولا قائل بها ولا يعقل ولم يشرع أبداً، وكل حكاية ذكرت في هذه المسألة فهي باطلة.
502
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ﴾ الآية نزلت في الرجلين اللذين أرادا التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي وإعراضهما عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاشترط توبتهما إتيانهما لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستغفارهما الله تعالى، واستغفار الرسول لهما، وبذلك تقبل توبتهما، وإلا فلا توبة لهما، أما من عداهما فتوبته لا تتوقف على إتيانه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا لاستغفاره له وهذا محل إجماع بين المسلمين.
٣- كل ذنب كبر أو صغر يعتبر ظلماً للنفس وتجب التوبة منه بالاستغفار والندم والعزم على عدم مراجعته بحال من الأحوال.
٤- وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة وحرمة التحاكم إلى غيرهما.
٥- وجوب الرضا١ بحكم الله ورسوله والتسليم به.
﴿وَلَوْ٢ أَنَّا كَتَبْنَا٣ عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ٤ أُولَئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠) ﴾
١ قضى أهل العلم أن السيل إذا كان بسبب مطر فإن الأعلى يقدم على الأسفل، فيسقي من وصل إليه السيل حتى يبلغ الماء الكعبين في أرضه، ثم يرسل السيل كله إلى من تحته فيسقي، ثم يرسل إلى من تحته، وهكذا. وهو قول المالكية مأخوذ من حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قضية الزبير والأنصاري وهو الحق.
٢ لو حرف امتناع لامتناع أي امتناع شيء لامتناع غيره، إذ امتنع القتل لامتناع الكتب له.
٣ روي أنه لما نزلت هذه الآية: ﴿وَلو أنا كَتبْنا﴾ قال أبو بكر الصديق: "لو أمرنا لفعلنا"، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي".
٤ "حسن" مضمن معنى التعجب، فهو كنعم المدح، أي: مدح الحسن فيه، وأولئك فاعلة، ورفيقا: منصوب على التمييز.
503
شرح الكلمات:
﴿كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ﴾ : فرضنا عليهم وأوحينا.
﴿أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ : أي: قتل أنفسهم.
﴿مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ : أي: ما فعل القتل إلا قليل١ منهم.
﴿مَا يُوعَظُونَ بِهِ﴾ : أي: ما يؤمرون به وينهون عنه.
﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ : أي: للإيمان في قلوبهم.
﴿وَالصِّدِّيقِينَ﴾ : جمع صديق: وهو من غلب عليه الصدق في أقواله وأحواله لكثرة ما يصدق ويتحرى الصدق.
﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾ : جمع شهيد: من مات في المعركة ومثله من شهد بصحة الإسلام بالحجة والبرهان.
﴿وَالصَّالِحِينَ﴾ : جمع صالح: من أدى حقوق الله تعالى وأدى حقوق العباد، وصلحت نفسه وصلح عمله وغلب صلاحه على فساده.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أولئك النفر الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به فقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: يقتل بعضكم بعضاً كما حصل ذلك لبني إسرائيل لما فعلوا كما أنا لو كتبنا عليهم أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين في سبيلنا ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ﴾ منهم. ثم قال تعالى داعياً لهم مرغباً لهم في الهداية: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ﴾ أي: ما يذكرون به ترغيباً وترهيباً من أوامر الله تعالى لهم بالطاعة والتسليم لكان ذلك خيراً في الحال والمآل، ﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ للإيمان في قلوبهم وللطاعة على جوارحهم، لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والحسنة تنتج حسنة، والسيئة تتولد عنها سيئة. ويقول تعالى: ﴿وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً﴾ يريد لو أنهم استجابوا لنا وفعلوا ما أمرنا به من الطاعات، وتركوا ما نهيناهم عنه من المعاصي لأعطيناهم من لدنا أجراً يوم يلقوننا ولهديناهم في الدنيا ﴿صِرَاطاً مُسْتَقِيماً﴾ ألا وهو الإسلام الذي هو طريق الكمال والإسعاد في الحياتين وهدايتهم إليه هي توفيقهم للسير فيه
١ قرئ: ﴿إلا قليلا﴾ بالنصب، و ﴿إن لا قليل﴾ بالرفع، وقراءة الرفع مراعى فيها اللفظ وهو أولى، ولذا هي أكثر وأشهر.
504
وعدم الخروج عنه. هذا ما دلت عليه الآيات: (٦٦-٦٧-٦٨).
أما الآية (٦٩) وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ١ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ فقد روى ابن جرير في تفسيره: أنها نزلت حين قال بعض٢ الصحابة يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فلم نرك فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِك﴾ الآية. وما أنعم الله تعالى عليه هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته عز وجل ومعرفة محابه ومساخطه والتوفيق لفعل المحاب وترك المساخط هذا في الدنيا، وأما ما أنعم به عليهم في الآخرة فهو الجوار الكريم في دار النعيم. والصديقين هم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بكل ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبر به والشهداء: جمع شهيد، وهو من قتل في سبيل الله. والصالحون: جمع صالح، وهو من أدى حقوق الله تعالى وحقوق عباده كاملة غير منقوصة، وقوله تعالى: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً٣﴾ يريد وحسن أولئك رفقاء في الجنة يستمتعون برؤيتهم والحضور في مجالسهم، لأنهم ينزلون إليهم، ثم يعودون إلى منازلهم العالية ودرجاتهم الرفيعة، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ٤ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ﴾ يريد أن ذلك الالتقاء مع من ذكرتم لهم بفضل الله تعالى، لا بطاعتهم. وقوله: ﴿وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً﴾ أي: بأهل طاعته وأهل معصيته وبطاعة المطيعين ومعصية العاصين، ولذلك يتم الجزاء عادلاً رحيماً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- قد يكلف الله تعالى بالشاق للامتحان والابتلاء؛ كقتل النفس والهجرة من البلد ولكن لا يكلف بما لا يطاق.
٢- الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعصيات.
١ في هذه الآية إشارة أصرح من عبارة: على خلافة أبي بكر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ ذكر الله تعالى الأنبياء ثم ثنى بالصديقين، وقد أجمع المسلمون على تسمية أبي بكر بالصديق، كما أجمعوا على تسمية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنبي، فدل على تعيين خلافة أبي بكر، إذ لم يقدم عليه أحد في الذكر سوى الأنببياء.
٢ من بين القائلين: ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أُري الآذان في المنام.
٣ روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ما من نبي يمرض إلا خُيّر بين الدنيا والآخرة" ولما كان في مرضه الذي قبض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: " ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم﴾ ". الآية فعلمت أنه خير وكان يقول: "اللهم الرفيق الأعلى"، وهو يعاني سكرات الموت، فصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٤ في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الفَضْل مِنَ الله﴾، رد على المعتزلة، إذ قالوا: إنما ينال العبد ما يناله بعمله، والله قدر رد ذلك الإكرام والإنعام لفضله، وهو كذلك عقلاً وشرعاً، ويلزم اعتقاداً.
505
٥- الطاعات تثمر قوة الإيمان وتؤهل لدخول الجنان.
٤- مواكبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة ثمرة من ثمار طاعة الله والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ : الحذر والحذر: الاحتراس والاستعداد لدفع المكروه بحسبه.
﴿فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ١﴾ : النفور: الخروج في اندفاع وانزعاج، والثبات: جمع ثبت، وهي: الجماعة.
﴿لَيُبَطِّئَنَّ٢﴾ : أي: يتبطأ في الخروج فلا يخرج.
﴿مُصِيبَةٌ﴾ : قتل أو جراحات وهزيمة.
﴿شَهِيداً﴾ : أي: حاضراً الغزوة معهم.
﴿فَضْلٌ﴾ : نصر وغنيمة.
﴿مَوَدَّةٌ﴾ : صحبة ومعرفة مستلزمة للمودة٣.
﴿فَوْزاً عَظِيماً﴾ : نجاة من معرة التخلف عن الجهاد، والظفر بالسلامة والغنيمة.
١ أصل ثبة، ثبي أو ثبوة بالباء والواو، وقد تصغر على ثبية، وهل اشتقاقها من ثبة الحوض، أي محل اجتماع الماء فيه؛ لأن الثبة: الجماعة، وثاب الماء يثوب إذا اجتمع.
٢ حمل مجاهد وقتادة وابن جريج الآية على المنافقين، وحملها بعضهم على ضعفة الإيمان، وحملها على الجميع أقرب إلى الصحة والصواب، والله أعلم.
٣ إذا كان الصاحب من ضعفة الإيمان فهو كذلك، وإن كان منافقاً فإن المودة هنا بمعنى: مجرد الصحبة لا غير لأن المنافق لا يحب المؤمن إلا نادراً.
506
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ١ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً٢﴾ ينادي الله تعالى عباده المؤمنين، وهم في فترة يستعدون فيها لفتح مكة وإدخاله في حظيرة الإسلام، خذوا الأهبة والاستعداد حتى لا تلاقوا عدوكم وأنتم ضعفاء، قوته أشد من قوتكم ﴿فانفروا ثباتٍ﴾ عصابة بعد عصابة وجماعة بعد أخرى ﴿أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً﴾ بقيادتكم المحمدية وذلك بحسب ما يتطلبه الموقف وتراه٣ القيادة ثم أخبرهم وهو العليم أن منهم، أي: من عدادهم وأفراد مواطنيهم لمن والله ليبطئن عن الخروج إلى الجهاد نفسه وغيره معاً؛ لأنه لا يريد لكم نصراً لأنه منافق كافر الباطن وإن كان مسلم الظاهر ويكشف عن حال هذا النوع من الرجال الرخيص فيقول: ﴿فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ﴾ أيها المؤمنون الصادقون ﴿مُصِيبَةٌ﴾ قتل أو جراح أو هزيمة قال في فرح بما أصابكم وما نجا منه: لقد أنعم الله عليَّ إذ لم أكن معهم حاضراً فيصيبني ما أصابهم، ﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ﴾ أي: نصر وغنيمة ﴿لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ﴾ أي: معرفة ولا صلة يا ليتني متمنياً حاسداً –كنت معهم في الغزاة ﴿فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ بالنجاة من معرة التخلف والظفر بالغنائم والعودة سالماً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب أخذ الأهبة والاستعداد التام على أمة الإسلام في السلم والحرب سواء.
٢- وجوب وجود خبرة عسكرية كاملة وقيادة رشيدة مؤمنة حكيمة عليمة.
٣- وجود منهزمين روحياً مبطئين حسدة بين المسلمين وهم ضعاف الإيمان فلا يؤبه لهم ولا يلتفت إليهم.
١ أخذ الحذر هو توقي المكروه بالأسباب الممكنة المشروعة، وجملة: ﴿فَانفروا ثُبات﴾ إلخ. تفريع بذكر بعض أسباب توفي المحذور.
٢ أخذ الحذر واجب لأنه سبب شرعه الله تعالى لتوقي المكروه، ولكنه لا يمنع المقدور، وأخطأت القدرية إذا قالوا: الحذر يرد القدر، ولولا أنه كذلك ما أمروا به، وهو خطأ اعتقادي، فالأسباب تؤتى طاعة لله تعالى، وأما دفع المقدور، أي: ما قدره الله على الإنسان فلابد من وقوعه، وفائدة الأخذ بالأسباب: إبعاد الخوف عن النفس وحصول شعور بالفوز والنجاة.
٣ هل هذه الآية وهي متقدمة في النزول على آية التوبة: ﴿انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ منسوخة بها؟. والجواب: أن فرض الجهاد على الكفاية، ولذا فلا نسخ، وإنما هذه في حال وتلك في أخرى، وهي: أن يرى الإمام النفير العام لا غير.
507
﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (٧٦) ﴾
شرح الكلمات:
﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ : الطريق الموصلة إلى إعلاء كلمة الله تعالى بأن يعبد وحده، ولا يضطهد مسلم في دينه، ولا من أجل دينه.
﴿يَشْرُونَ﴾ : يبيعون، إذ يطلق الشراء على البيع أيضاً.
﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ : المستضعف الذي قام به عجز فاستضعفه غيره فآذاه لضعفه.
﴿الْقَرْيَةِ﴾ : القرية في عرف القرآن: المدينة الكبيرة والجامعة والمراد بها هنا مكة المكرمة.
﴿فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾ : أي: في نصرة الشرك ومساندة الظلم والعدوان، ونشر الفساد.
معنى الآيتين:
بعد ما أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم وهو الأهبة للقتال أمرهم أن يقاتلوا فقال: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالآخِرَةِ﴾ أي: يبيعون الدنيا ليفوزوا بالآخرة وهم المؤمنون حقاً فيقدمون أموالهم وأرواحهم طلباً للفوز بالدار الآخرة يقاتلون من لا يؤمن بالله ولا بلقائه بعد أن يدعوه إلى الإيمان بربه والتوبة إليه، ثم أخبرهم.
508
أن من يقاتل استجابة لأمره تعالى فيقتل، أي: يستشهد أو يغلب وينتصر على كلا الحالين فسوف يؤتيه١ الله تعالى أجراً عظيماً، وهو النجاة من النار ودخول الجنة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٧٤).
أما الآية الثانية (٧٥) فإن الله تعالى بعدما أمر عباده بالجهاد استحثهم على المبادرة وخوض المعركة بقوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ٢ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ليعبد وحده ويعز أولياءه ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ٣ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ الذين يضطهدون من قبل المشركين ويعذبون من أجل دينهم حتى صرخوا وجاروا بالدعاء إلى ربهم قائلين: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً﴾ بلى أمرنا ويكفينا ما أهمنا، ﴿وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً﴾ ينصرنا على أعدائنا، أي: شيء يمنعكم أيها المؤمنون من قتال في سبيل الله، لُيعبد وحده، وليتخلص٤ المستضعفون من فتنة المشركين لهم من أجل دينهم؟
ثم في الآية الثالثة (٧٥) أخبر تعالى عباده المؤمنين حاضاً لهم على جهاد أعدائه وأعدائهم بقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ لأنهم يؤمنون به وبوعده ووعيده ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾ وهو الكفر٥ والظلم لأنهم لا يؤمنون بالله تعالى ولا بما عنده من نعيم، ولا بما لديه من عذاب ونكال ﴿فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ﴾ وهم الكفار، ولا ترهبوهم ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ﴾ وما زال ﴿ضَعِيفاً﴾، فلا يثبت هو وأولياؤه من الكفرة، أمام جيش الإيمان أولياء الرحمن.
١ ظاهر الآية: التسوية بين من قتل شهيداً، وبين من انتصر ورجع بنفسه وهناك حديثان: أحداهما يقتضي التسوية وآخر ينفيها. فالأول: حديث أبي هريرة "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسولي فهو علىَ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر وغنيمة" رواه مسلم. والثاني: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" والجمع بينهما أن من غزا ناوياً الأجر والغنيمة ثم غنم وسلم نقص أجره في الآخرة، فلم تكن درجته كالذي استشهد ولم يغنم، ولا كالذي نوى الأجر دون الغنيمة أيضاً. والسبب الفارق: هو اشتراك النية وعدم خلوصها.
٢ الاستفهام إنكاري؛ أي ينكر عليهم قعودهم على القتال في سبيل الله، أي: لانقاذ المؤمنين من فتنة المشركين وإنقاذ أولادهم من أن يشبوا ويكبروا على أحوال الكفر جاهلين بالإيمان والإسلام.
٣ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كنت أنا وأمي من المستضعفين". وفي رواية البخاري قال: "كنت أنا وأمي ممن عذر الله وأنا من الولدان وأمي من النساء"، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت لهم فيقول: "اللهم أنجي الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة المستضعفين من المؤمنين".
٤ الإجماع على وجوب تخليص الأسرى من المسلمين بالقتال أو بالمال، ولا يحل تركهم تحت الكفر يضطهدهم ويعذبهم من أجل دينهم. وفي الحديث الصحيح: "فكوا العاني" وهو الأسير، وسمي العاني لما يعانية من آلام وأتعاب. والمسلمون اليوم أسرى تحت اليهود في فلسطين، والمسلمون تاركون لهم غير مهتمين بهم، وهو ذنب عظيم.
٥ يطلق الطاغوت على ما عبد من دون الله، ويطلق على من دعا إلى عبادة غير الله؛ كالشيطان وغيره من الجن والإنس الذين يدعون إلى عبادة الأصنام والأشخاص وغيرها، وفي هذه الآية يناسب أن يكون الطاغوت هو الشيطان، لقوله: بعد أولياء الشيطان، وإطلاقنا: الطاغوت على الكفر والظلم مراعاة لحال الناس، فإن أكثرهم يقاتل نصرا للكفر الذي هو عليه أو لإبقاء ظلمه واستعلاؤه في الأرض.
509
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فرضية القتال في سبيل الله ولأجل انقاذ المستضعفين من المؤمنين نصرة للحق وإبطالاً للباطل.
٢- المقاتل في سبيل الله باع دنياه واعتاض عنها الآخرة، ولنعم البيع.
٣- المجاهد يؤوب بأعظم صفقة سواء قتل، أو انتصر وغلب وهي الجنة.
٤- لا يمنع المؤمنين من الجهاد خوف أعدائهم، لأن قوتهم من قوة الشيطان وكيد الشيطان ضعيف.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩) ﴾
شرح الكلمات:
﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ : أي: عن القتال وذلك قبل أن يفرض.
﴿كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ : فرض عليهم.
510
﴿يَخْشَوْنَ﴾ : يخافون.
﴿لَوْلا أَخَّرْتَنَا﴾ : هلا أخرتنا١.
﴿فَتِيلاً﴾ : الفتيل: خيط يكو في وسط النواة.
﴿بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ : حصون مشيدة بالشيد، وهو الجص.
﴿مِنْ حَسَنَةٍ﴾ : الحسنة: ما سر، والسيئة: ما ضر.
معنى الآيات:
روى أن بعضاً من أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طالبوا بالإذن لهم بالقتال ولم يؤذن لهم لعدم توفر أسباب القتال، فكانوا يؤمرون بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ريثما بأذن الله تعالى لرسوله بقتال المشركين، ولما شرع القتال جبن فريق منهم عن القتال وقالوا: ﴿لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ متعللين٢ بعلل واهية، فأنزل الله تعالى فيهم هاتين الآيتين (٧٧) و (٧٨) ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ أي: عن القتال ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ ريثما يأذن الله بالقتال عندما تتوفر إمكانياته، فلما فرض القتال ونزل قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ جبنوا ولم يخرجوا للقتال، وقالوا: ﴿لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ يريدون أن يدافعوا الأيام حتى يموتوا ولم يلقوا عدواً خوراً، فأمر تعالى الرسول أن يقول لهم: ﴿مَتَاعُ الدُّنْيَا٣ قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾ فعيشكم في الدنيا مهما طابت لكم الحياة هو قليل ﴿وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾ الله بفعل أمره وترك نهيه بعد الإيمان به وبرسوله، وسوف تحاسبون على أعمالكم وتجزون بها ﴿وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ لا ينقص حسنة ولا بزيادة سيئة. هذا ما تضمنته الآية الأولى.
أما الآية الثانية فقد قال تعالى لهم ولغيرهم ممن يخشون القتال ويجبنون عن الخروج للجهاد: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾، إذ الموت طالبكم ولابد أن يدرككم، كما قال تعالى لأمثالهم: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ﴾، ولو دخلتم حصوناً٤ ما فيها كوة ولا نافذة
١ المراد من التأخير إلى أجل قريب: هو أن يتم استعدادهم للقتال لتوفر المال والرجال والعتاد لا إلى أجل الموت فإنه غير وارد في قولههم: هذا ولا معنى له، وهل قولهم كان في أنفسهم أو صرحوا به؟ كلاهما وارد وجائز الوقوع.
٢ اختلف هل هذه الآية نزلت في المؤمنين أو المنافقين؟ والصواب أنها نزلت في بعض المؤمنين ممن ضعف إيمانهم، أما كونها نزلت في اليهود فلا معنى له، وكونها شملت المنافقين فهذا حق بدليل سياق الآيات.
٣ يبين قلة متاع الدنيا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثم راح وتركها".
٤ تفسير لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ إذ البرج: البناء المرتفع والقصر العظيم. قال طرفة، يصف ناقة:
كأنها برج رمي يكففها بانٍ بشيد وآجرٍ وأحجار
وفي الآية رد على القدرية القائلين: المقتول لو لم يقتله عاش.
511
فإن الموت يدخلها عليكم ويقبض أرواحكم، ولما ذكر تعالى جبنهم وخوفهم ذكر تعالى سوء فهمهم وفساد ذوقهم فقال: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ﴾ يعني أنه إذا أصابهم خير من غنيمة أخصب ورخاء، قالوا: ﴿هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ لا شكراً لله وإنما لا يريدون أن ينسبوا إلى رسول الله شيئاً من خير كان ببركته وحسن قيادته، وإن تصبهم سيئة فقر أو مرض أو هزيمة يقولون: ﴿هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ١﴾، أي: أنت السبب فيها. قال تعالى لرسوله: قل لهم ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ الحسنة والسيئة، هو الخالق والواضع السنن لوجودها وحصولها. ثم عليهم في نفسياتهم الهابطة، فقال: ﴿فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ هذا ما دلت عليه الآية الثانية.
أما الآية الثالثة والأخيرة في هذا السياق، وهي قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ٢ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ٣﴾ الآية، فإن الله تعالى يخاطب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيخبره بأن الحسنة من الله تعالى، إذ هو الآمر بقولها أو فعلها وموجد أسبابها الموفق للحصول عليها، أما السيئة فمن النفس، إذ هي التي تأمر بها، وتباشرها مخالفة فيها أمر الله أو نهيه، فلذا لا يصح نسبتها إلى الله تعالى. وقوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً﴾ يُسلي به رسوله عما يلاقيه من أذى الناس وما يصادفه من سوء أخلاق بعضهم؛ كالذين ينسبون إليه السيئة تطيراً به فيخبره بأن مهمته أداء الرسالة، وقد أداها والله شاهد على ذلك ويجزيك عليه بما أنت أهله وسيجزي من رد رسالتك وخرج عن طاعتك وكفى بالله شهيداً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- قبح الاستعجال والجبن وسوء عاقبتهما.
٢- الآخرة خير لمن اتقى من الدنيا٤.
١ لقد شارك يهود في هذا القول، فقد روى أنهم لما نزل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة مهاجراً، قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا، ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه!!.
٢ إن الخطاب وإن كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو عام في كل إنسان لاسيما المؤمن، أو هو من باب: إياك أعني، واسمعي يا جارة، وكونه خاصاً بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعناه عام هو الصحيح.
٣ زاد بعضهم جملة: وإنا كتبا عليك، وهي ليست قرآناً إجماعاً، وإنما هي تفسير من بعض الصحابة، ولا التفات لمن طعن في القرآن بمثل هذه الزيادة التفسيرية.
٤ وما أحسن ما قيل في معنى الآية شعراً:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنها...
متاع قليل والزوال قريب
512
٣- لا مفر من الموت ولا مهرب منه بحال١ من الأحوال.
٤- الخير والشر كلاهما بتقدير الله تعالى.
٥- الحسنة من الله والسيئة من النفس، إذ الحسنة أمر الله بأسبابها بعد أن أوجدها وأعان عليها، وأبعد الموانع عنها، والسيئة من النفس؛ لأن الله نهى عنها وتوعد على فعلها، ولم يوفق إليها ولم يعن عليها فهي من النفس٢ لا من الله تعالى.
﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً (٨٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿حَفِيظاً﴾ : تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها.
﴿طَاعَةٌ﴾ : أي: أمرنا طاعة لك.
﴿بَرَزُوا﴾ : خرجوا.
١ قال زهير بن سلمة:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلّم
٢ قال قتادة: رواية لا يصيب رجلاً خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر، وفي الحديث الصحيح: "والذي نفسه بيده لا يصيب هم ولا حزن ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه" فهو دال على حديث قتادة الضعيف.
513
﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ﴾ : تدبر القرآن، قراءة الآية أو الآيات وإعادتها المرة بعد المرة ليفقه مراد الله تعالى منها.
﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ : أفشوه معلنينه للناس.
﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ : يستخرجون معناه الصحيح.
معنى الآيات:
في قوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ١﴾ إنذار إلى الناس كافة في أن من لم يطع الرسول محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أطاع الله تعالى، إن أمر الرسول من أمر الله ونهيه من نهي الله تعالى فلا عذر لأحد في عدم طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَوَلَّى﴾ أي: عن طاعتك فيما تأمر به وتنهى عنه، فدعه ولا تلتفت إليه إذ لم نرسلك لتحصي عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتجزيهم بها، إن عليك إلا البلاغ، وقد بلغت فاعذرت. وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ أي: ويقول أولئك المنافقون المنطيرون بك السيئو الفهم لما تقول: طاعة أي: أمرنا طاعة لك، أي: ليس لنا ما نقول إذا قلت ولا ما نأمر به إذا أمرت، فنحن مطيعون لك ﴿فَإِذَا بَرَزُوا﴾ أي: خرجوا من مجلسك بدل طائفة منهم غير الذي تقول واعتزموه دون الذي وافقوا عليه أمامك، وفي مجلسك، والله تعالى يكتب بواسطة ملائكته الكرام الكاتبين ما يبيتونه٢ من الشر والباطل. وعليه ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ ولا تبال بهم ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً﴾ فهو حسبك وكافيك ما يبيتونه من الشر لك.
وقوله تعالى في الآية الثانية (٨٢) ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ٣ الْقُرْآنَ﴾ يؤتيهم بإعراضهم وجهلهم وسوء فهمهم، إذ لو تدبروا القرآن وهو يُتلى عليهم وسمعوه صباح مساء لعرفوا أن الرسول حق وأن ما جاء به حق فآمنوا وأسلموا وحسن إسلامهم، وانتهى نفاقهم الذي أفسد قلوبهم وعفن آرائهم، إن تدبر القرآن بالتأمل فيه وتكرار آياته مرة بعد أخرى يهدي إلى معرفة الحق
١ مصداقه في صحيح مسلم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعصي الأمير فقد عصاني ".
٢ بيتوا: زوروا وبدلوا، إن التبييت: هو تدبر الأمر بالليل حيث اتساع الوقت والفراغ من العمل وقلة العيون، وبيتوا العدو: أتوه ليلاً، قال الشاعر:
أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
٣ في هذه الآية: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ مع آية سورة القتال: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ دليل على وجوب تدبر القرآن لفهم معانيه، لاعتقاد الحق والعمل به، وفيه رد على من زعم أنه لا يؤخذ من القرآن إلا ما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفسيره، ودليل على وجوب النظر والاستدلال وإبطال التقليد.
514
من الباطل وأقرب ما يفهمونه لو تدبروا القرآن كلام الله تعالى وليس كلام بشر، إذ لو كان كلام بشر لوجد فيه التناقض والاختلاف والتضاد، ولكنه كلام خالق البشر، فلذا هو متسق الكلم متآلف الألفاظ والمعاني محكم الآي هادٍ إلى الإسعاد والكمال، فهو بذلك كلام الله حقاً ومن شرف بإنزاله عليه رسول حق ولا معنى أبداً للكفر بعد هذا والإصرار عليه، ومنافقة المسلمين فيه. هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾.
وقوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ وهي الآية الرابعة (٨٣) فإن الله تعالى يخبر عن أولئك المرضى بمرض النفاق ناعياً عليهم إرجافهم وهزائمهم المعنوية فيقول ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ أي: إذا وصل من سرايا الجهاد خبر بنصر أو هزيمة سارعوا بإفشائه وإذاعته، وذلك عائد إلى مرض قلوبهم لأن الخبر وأطلق عليه لفظ الأمر؛ لأن حالة الحرب غير حالة السلم إذا كان بالنصر المعبر عنه بالأمن فهم يعلنونه حسداً أو طمعاً، وإذا كان بالهزيمة المعبر عنها بالخوف يعلنونه فزعاً وخوفاً؛ لأنهم جبناء كما تقدم وصفهم، قال تعالى في تعليمهم وتعليم غيرهم ما ينبغي أن يكون عليه المجاهدون في حال الحرب. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ﴾ القائد الأعلى، ﴿وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ وهم أمراء السرايا المجاهدة ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ١﴾ أي: لاستخرجوا سر الخبر وعرفوا ما يترتب عليه فإن كان نافعاً أذاعوه، وإن كان ضاراً أخوفه. ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ أيها المؤمنون ﴿لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ٢﴾ في قبول تلك الإشاعات المغرضة والإذاعات المثبطة ﴿إِلا قَلِيلاً﴾ منكم من ذوي الآراء الصائبة والحصافة العقلية، إذ مثلهم لا تثيرهم الدعاوى، ولا تغيرهم الأراجيف، ككبار الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا يطاع لذاته وإنما يطاع لذات الله عز وجل.
١ الاستنباط مأخوذ من: استنبط الماء، إذا استخرجه من الأرض، والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أو ما يحفر. وسمي النبط نبطاً؛ لأنهم يستخرجون ما في الأرض، والاستنباط لغة الاستخراج، وفي هذه الآية دليل على الاجتهاد.
٢ ما فسرنا به الآية أصح مما فسرت به، ولا التفات إلى ما أورد القرطبي من آراء عدة لا طائل تحتها.
515
٢- وجوب تدبر القرآن لتقوية الإيمان١.
٣- آية أن القرآن وحي الله وكلامه سلامته من التناقض والتضاد في الألفاظ والمعاني.
٤- تقرير مبدأ أن أخبار الحرب لا تذاع إلا من قبل القيادة العليا حتى لا يقع الاضطراب في صفوف المجاهدين والأمة كذلك.
٥- أكثر الناس يتأثرون بما يسمعون إلا القليل من ذوي الحصافة العقلية والوعي السياسي.
﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ : حثهم على الجهاد وحرضهم على القتال.
﴿بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ : قوتهم الحربية.
روَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} : أقوى تنكيلاً، والتنكيل: ضرب الظالم بقوة حتى يكون عبرة لمثله فينكل عن الظلم.
الشفاعة٢: الوساطة في الخير أو في الشر فإن كانت في الخير فهي الحسنة وإن كانت في الشر فهي السيئة.
١ واستنباط الأحكام واستخراج أنواع الهدايات فيه، إذ هو كتاب هداية للمؤمنين به، يهتدون إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة.
٢ الشفاعة من الشفع، وهو الزوج ضد الفرد، وسميت شفاعة؛ لأن الشفيع يصير مع المشفوع له شفعاً، أي: زوجاً، والشفعة: ضم ملك إلى ملك.
516
﴿كِفْلٌ مِنْهَا﴾ : نصيب منها.
﴿مُقِيتاً١﴾ : مقتدراً عليه وشاهداً عليه حافظاً له.
﴿بِتَحِيَّةٍ﴾ : تحية الإسلام، هي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ : أي: يقول: وعليكم السلام.
﴿حَسِيباً﴾ : محاسباً على العمل مجازياً به خيراً كان أو شراً.
معنى الآيات:
ما زال السياق في السياسة الحربية، ففي هذه الآية: ﴿فَقَاتِلْ٢ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يأمر تعالى رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقاتل المشركين لأجل إعلاء كلمة الله تعالى بأن يعبد وحده وينتهي اضطهاد المشركين للمؤمنين وهو المراد من قوله ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وقوله: ﴿لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ٣﴾ أي: لا يكلفك ربك إلا نفسك وحدها، أما من عداك فليس عليك تكليفه، ولكن حرض المؤمنين على القتال معك فحثهم على ذلك ورغبهم فيه. وقوله: ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وهذا وعد من عند الله تعالى بأن يكف بأس الذين كفروا فيسلط عليهم رسوله والمؤمنين فيبددوا قوتهم ويهزموهم فلا يبقى لهم بأس ولا قوة وقد فعل٤، وله الحمد والمنة، وهو تعالى ﴿أَشَدُّ بَأْساً﴾ م كل ذي بأس ﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً﴾ من غيره بالظالمين من أعدائه.
هذا ما دلت عليه الآية (٨٤)، أما الآية (٨٥) وهي قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً﴾ فهو إخبار منه تعالى بأن من يشفع شفاعة حسنة بأن يضم صوته مع مطالب بحق أو يضم نفسه إلى سرية تقاتل في سبيل الله، أو يتوسط لأحد في قضاء حاجته فإن للشافع
١ شاهده قول الزبير بن عبد الملطب:
وذي صغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتاً
أي: مقتدراً
٢ هذه الفاء هي الفصيحة، والتقدير: إذا كان الأمر كما علمت من وجود المثبطين والخائفين والمرجوفين فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك.
٣ في الآية دليل على شجاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخارقة للعادة، إذ كلفه الله به على انفراد وأمره بتحريض المؤمنين على القتال، ومعنى هذا: أنه أمره بالجهاد ولو كان وحده، ولذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والله لأقاتلهنم حتى تنفرد سالفتي"، أي: حتى أموت. وتحريض المؤمنين هو أمرهم بالقتال وحثهم عليه لا على سبيل الإلزام، كما ألزم به هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٤ فلم يقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دانت الجزيرة كلها بالإسلام، ولم يمض أكثر من ربع قرن حتى دخلت دولتا: الفرس والروم في الإسلام؛ لأن "عسى" من الله تعالى تفيد وجوب الوقوع.
517
قسطاً من الأجر والمثوبة، كما أن ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً﴾ بأن يؤيد باطلاً أو يتوسط في فعل شر أو ترك معروف يكون عليه نصيب من الوزر، لأن الله تعالى على كل شيء مقتدر وحفيظ عليم. هذا ما دلت عليه الآية المذكورة.
أما الآية الأخيرة (٨٦) فإن الله تعالى يأمر عباده المؤمنين بأن يردوا تحية من يحييهم بأحسن منها فإن لم يكن بأحسن فبالمثل، فمن قال: السلام عليكم، فليقل الراد: وعليكم السلام ورحمة الله، ومن قال: السلام عليكم ورحمة الله. فليرد عليه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً١﴾ فيه تطمين للمؤمنين على أن الله تعالى يثيبهم على إحسانهم ويجزيهم به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان شجاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل أنه كلف بالقتال وحده وفعل.
٢- ليس من حق الحاكم أن يجند المواطنين تجنيداً إجبارياً، وإنما عليه أن يحضهم على التجنيد ويرغبهم فيه بوسائل الترغيب.
٣- فضل الشفاعة في الخير، وقبح الشفاعة في الشر٢.
٤- تأكيد سنة التحية، ووجوب ردها بأحسن أو بمثل٣.
٥- تقرير ما جاء في السنة بأن السلام عليكم: يعطي عليها المسلم عشر حسنات ورحمة الله: عشر حسنات. وبركاته: عشر كذلك.
{اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ
١ حسيب، هنا: بمعنى محاسب، وحفيظ فلا يضيع حسنات العبد.
٢ شاهده من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشفعوا تؤجروا"، وليقضي الله على لسان نبيه ما أحب.
٣ في الآية سنية إلقاء السلام ووجوب رده وقد بينت السنة أن القليل يسلم على الكثير، والقائم على القاعد، والراكب على الماشي، وأن الراد يكون بزيادة: ورحمة الله وبركاته. وأنه لا يسلم على المرأة الصغيرة خشية الفتنة. وأن المصلي إن سلم عليه رد السلام بالإشارة إن شاء الله.
518
أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (٩١) }
شرح الكلمات:
﴿لا إِلَهَ إِلا هُوَ١﴾ : لا معبود بحق إلا هو.
﴿فِئَتَيْنِ٢﴾ : جماعتين الواحدة فئة، أي: جماعة.
﴿أَرْكَسَهُمْ﴾ : الارتكاس: التحول من حال حسنة إلى حال سيئة؛ كالكفر بعد الإيمان، أو الغدر بعد الأمان وهو المراد هنا.
﴿سَبِيلاً﴾ : أي: طريقاً إلى هدايتهم.
١ اسم الجلالة: ﴿الله﴾ مبتدأ، و ﴿لا إله إلا الله﴾ جملة معترضة، وجملة القسم واقعة موقع الخبر.
٢ الفئة: الطائفة، اشتق لفظها من الفيء الذي هو الرجوع، إذ أفرادها يرجع بعضهم إلى بعض، وأصلها فيء، فحذفت الياء من وسطها لكثرة الاستعمال فصارت: فئة، بعد زيادة هاء التأنيث عوضاً عن الياء المحذوفة.
519
﴿وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾ : الولي: من يلي أمرك، والنصير: من ينصرك على عدوك.
﴿يَصِلُونَ﴾ : أي: يتصلون بهم بموجب عقد معاهدة بينهم.
﴿مِيثَاقٌ﴾ : عهد.
﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ : ضاقت.
﴿السَّلَمَ﴾ : الاستسلام والانقياد.
﴿الْفِتْنَةِ﴾ : الشرك.
﴿ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ : وجدتموهم متمكنين منهم.
﴿سُلْطَاناً مُبِيناً﴾ : حجة بين على جواز قتالهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى الآيات قبل هذه أنه تعالى المقيت والحسيب، أي: القادر على الحساب والجزاء، أخبر عز وجل أنه الله الذي لا إله إلا هو، أي: المعبود دون سواه لربوبيته على خلقه، إذ الإله الحق ما كان رباً خالقاً رازقاً مدبراً بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء، وأنه جامع١ الناس ليوم لا ريب في إتيانه وهو يوم القيامة.
هذا ما دلت عليه الآية الكريمة: ﴿اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ﴾، ولما كان هذا خبراً يتضمن وعداً ووعيداً أكد تعالى إنجازه، فقال: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً﴾ اللهم إنه لا أحد أصدق منك.
أما الآيات الأربع الباقية، وهي (٨٨) و (٨٩) و (٩٠) و (٩١) فقد نزلت لسبب معين وتعالج مسائل حربية معينة، أما السبب الذي نزلت فيه فهو اختلاف المؤمنين من أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طائفة من المنافقين أظهروا الإسلام وهم ضليعون في موالاة الكافرين، وقد يكونون في مكة٢، وقد يكونون في المدينة، فرأى بعض الأصحاب أن من الحزم الضرب على أيديهم وإنهاء نفاقهم، ورأى آخرون تركهم والصبر عليهم ما داموا يدعون الإيمان لعلهم
١ قوله تعالى: ﴿ليجمعنكم﴾ جواب قسم، وهذا الجمع دلالة اللفظ أنه في القبور تحت الأرض ليبعثهم يوم القيامة، وقد تكون ﴿إلى﴾ صلة، ويكون الجمع هو جمع يوم القيامة.
٢ السياق الكريم صالح لأن تكون الفئتان المختلف فيهما من مكة أو من المدينة، وقد ورد في الصحيح اختلاف المؤمنين في ابن أبي، ومن وافقه، ورجع من أحد دون قتال حتى قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما يفني الكير خبث الحديد" كما ورد في غير الصحيح: أن جماعة في مكة تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين، وأبوا أن يهاجروا فاختلف في شأنهم المؤمنون، ولا مانع من أن تعنى الآيات منافقي المدينة، ومنافقي مكة. إذ الخلاف وقع في كل منافقي مكة ومنافقي المدينة، ويرجح هذا الرأي صحة الخبر الأول وذكر الهجرة في الثاني.
520
بمرور الأيام يتوبون. فلما اختلفا واشتد الخلاف في شأنهم أنزل الله تعالى هذه الآيات فقال: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ١ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ٢ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ ومعنى الآية، أي: شيء صيركم في شأن المنافقين فئتين؟ والله تعالى قد أركسهم في الكفر بسبب ما كسبوه من الذنوب العظام. أتريدون أيها المسلمون أن تهدوا من أضل الله، وهل يقدر أحد على هداية من أضله الله؟ وكيف، ومن يضلل الله حسب سنته في إضلال البشر لا يوجد له هادٍ، ولا سبيل لهدايته بحال من الأحوال.
ثم أخبر تعالى عن نفسية أولئك المنافقين المختلف فيهم فقال وهي الآية الثالثة (٨٩) ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ أي: أحبوا من قلوبهم كفركم لتكونوا مثلهم، وفيه لازم وهو انتهاء الإسلام، وظهور الكفر وانتصاره.
ومن هنا قال تعالى محرماً موالاتهم إلى أن يهاجروا فقال: ﴿فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ تعولون عليهم في نصرتكم على إخوانهم في الكفر. ظاهر هذا السياق أن هؤلاء المنافقين هم بمكة وهو كذلك. وقوله تعالى: ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ٣﴾، لأن الهجرة إلى المدينة تقطع صلاتهم بدار الكفر فيفتر عزمهم ويراجعوا الصدق في إيمانهم فيؤمنوا فإن هاجروا ثم تولوا عن الإيمان الصحيح إلى النفاق الكفر فأعلنوا الحرب عليهم ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾ ؛ لأنهم بارتكاسهم لا خير فيهم ولا يعول عليهم.
ثم في الآية (٩٠) استثنى لهم الرب تعالى صنفين من المنافقين المذكورين فلا يأخذونهم أسرى ولا يقاتلونهم، الصنف الأول الذين ذكرهم تعالى بقوله ﴿إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ أي: يلجأون ﴿إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ٤ مِيثَاقٌ﴾ فبحكم استجارتهم بهم طالبين الأمان منهم فأمنوهم أنتم حتى لا تنقضوا عهدكم. والصنف الثاني قوم ضاقت صدورهم بقتالكم،
١ جملة: ﴿والله أرْكَسَهم﴾ حالية.
٢ الاستفهام إنكاري، وهو دال على جملة محذوفة تقديرها: أنهم قد أضلهم الله.
٣ الهجرة: هجرتان، هي لمنافقي المدينة. الخروج إلى الغزو مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهجرة لمنافقي مكة، وهي إلى المدينة للإقامة بها. والهجرة أنواع: منها ترك المعاصي، لحديث: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ورسوله" ومنها هجرة الفساق وأهل البدع ليتوبوا من ذنوبهم.
٤ قد اختلف في هؤلاء الذين بينهم وبين المؤمنين ميثاق وما دامت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلا طائل تحت معرفتهم الآن، إذ العبرة أن في الآية دليل على جواز الموادعة بين أهل الحرب والمسلمين للضرورة.
521
وقتال قومهم فهؤلاء الذين يلم يستسيغوا قتالكم ولا قتال قومهم إن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم واصبروا عليهم، إذ لو شاء الله تعالى لسلطهم عليكم فلقاتلوكم هذا الصنف هو المعنى بقوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ فما دام الله تعالى قد كفهم عنكم فكفوا أنتم عنهم. هذا معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾. أي: المسالمة والمهادنة ﴿فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً١﴾. لأخذهم وقتالهم. هذا وهناك صنف آخر ذكر تعالى حكم معاملته في الآية الخامسة والأخيرة (٩١)، وهي قوله تعالى: ستجدون قوماً آخرين٢ غير الصنفين السابقين ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ٣﴾ فهم إذاً يلعبون على الحبلين كما يقال ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ أي: إلى الشرك ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ أي: وقعوا فيها منتكسين، إذ هم منافقون، إذ كانوا معكم عبدوا الله وحده، وإذا كانوا مع قومهم عبدوا الأوثان لمجرد دعوة يدعونها يلبون فيرتدون إلى الشرك، وهو معنى قوله تعالى: ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ أي: إن لم يعتزلوا قتالكم ويلقوا إليكم السلام، وهو الإذعان والانقياد لكم، ويكفوا أيديهم فعلاً عن قتالكم ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً﴾ أي: حجة واضحة على جواز أخذهم وقتلهم حيثما تمكنتم منهم وعلى أي حال. هذا ما دلت عليه الآيات الخمس مع العلم أن الكف عن قتال المشركين قد نسخ بآيات براءة إلا أن لإمام المسلمين أن يأخذ بهذا النظام عند الحاجة إليه فإنه نظام رباني ما أخذ به أحد وخاب أو خسر، ولكن خارج جزيرة العرب إذ لا ينبغي أن يجتمع فيها دينان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب توحيد الله تعالى في عبادته.
٢- الإيمان بالبعث والجزاء.
١ ﴿سبيلا﴾ : أي: إذناً بقتالهم بعد أن أمركم بقتال غيرهم، حيث وجدتموهم ممكنين منهم.
٢ ﴿سَتَجِدوُن﴾ الوجدان هنا، بمعنى الإطلاع والعثور، أي: ستطلعون على قوم آخرين وصفهم كذا أو كذا.
٣ أي: لا هم لهم إلا حظوظ أنفسهم، ولا سعي لهم إلا في خويصيتهم، فهم يظهرون المودة للمسلمين ليأمنوهم ويظهروها لقومهم ليؤمنوا أيضاً، قيل: هم غطفان وبنو أسد، قبل أن يحسن إسلامهم، وبنو عبد الدار بمكة أيضاً. إذ كانوا يأتون المدينة مظهرين الإسلام، ثم إذا عادوا إلى مكة عبدوا الأصنام.
522
٣- خطة حكيمة لمعاملة المنافقين بحسب الظروف والأحوال.
٤- تقرير النسخ في القرآن.
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (٩٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿إِلا خَطَأً﴾ : أي: إلا قتلاً خطأ، وهو أن لا يتعمد قتله؛ كأن يرمي صيداً فيصيب إنساناً.
﴿رَقَبَةٍ﴾ : أي: مملوك عبداً كان أو أمة ١.
﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ : مؤداة وافية٢.
﴿إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ : أي: يتصدقوا بها على القاتل فلا يطالبوا بها ولا يأخذوها منه.
١ لابد أن تكون الرقبة مؤمنة، وهل يجب أن تكون بالغة؟ إذ الإيمان يتم بالبلوغ، والذي عليه مالك: أنها تجزئ إذا كانت سليمة الأعضاء ولو لم تكن بالغة، وهو الراجح.
٢ لقد بينت السنة أن دية الخطأ على العاقلة ولا خلاف فيها.
523
﴿مِيثَاقٌ﴾ : عهداً مؤكد بالأيمان.
﴿مُتَعَمِّداً﴾ : مريداً قتله وهو ظالم له.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة قتال المنافقين متى يجوز ومتى لا يجوز ناسب ذكر قتل المؤمن الصادق في إيمانه خطأ وعمداً وبيان حكم ذلك، فذكر تعالى في الآية الأولى (٩٢) أنه لا ينبغي١ لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا في حال الخطأ، أما في حال العمد فلا يكون ذلك منه ولا يتأتى له وهو مؤمن؛ لن الإيمان نور يكشف عن مدى قبح جريمة قتل المؤمن وما وراءها من غضب الله تعالى وعذابه فلا يقدم على ذلك اللهم إلا في حال الخطأ، فهذا وارد وواقع، وحكم من قتل خطأ أن يعتق رقبة ذكراً كانت أو أنثى مؤمنة وأن يدفع الدية لأولياء القتيل إلا أن يتصدقوا بها فلا يطالبوا بها ولا يقبلونها والدية مائة من٢ الإبل، أو ألف دينار ذهب، أو اثنا عشر ألف درهم فضة. هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً٣ إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ٤ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ فإن كان القتيل مؤمناً ولكن من قوم هم عدو للمسلمين محاربين، فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير، إذ لا تعطى الدية لعدو يستعين بها على حرب المسلمين وإن كان القتيل من قوم كافرين وهو مؤمن أو كافر ولكن بيننا وبين قومه معاهدة، على القاتل تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله، فمن لم يجد الرقبة فصيام شهرين متتابعين، فذلك توبته لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً٥ مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ عليماً بما يحقق المصلحة لعباده
١ فالنفي في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً﴾ ليس نفي الفعل حتى يقال: ما نفاه الله لا يجوز وجوده، وإنما هو نفي الحال والشأن لا الفعل، فليتأمل.
٢ ومن الغنم: ألف شاة، وهل الإبل تخمس خلاف، ومذهب الشافعي ومالك أنها تخمس؛ فعشرون حقه، وعشرون جزعه، وعشرون بنات مخاص، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكور. وتغلظ دية العمد، بأن يكون أربعون منها في بطونها أولاده، وشبه العمد: ما كان بأداة لا تقتل عادة؛ كالعصا ونحوها لحديث: "ألا أن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها".
٣ قيل: نزلت هذه الآية في عياش ابن أبي ربيعة، إذ قتل الحارث بن زيد العامري، لإحنة كانت بينهما، وكان الحارث قد أسلم، ولم يعلم عياش بإسلامه فكان قتله خطأ، وقوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي: فعليه تحرير رقبة.
٤ أكثر أهل العلم: أن دية المرأة على نصف دية الرجل، وإن دية الجنين إذا سقط حياً دية كاملة، وإذا سقط ميتاً فديته غرة عبد أو أمة، ومعنى: غرة: أن يكون أبيض لا أسود فيقوم العبد وتعطي قيمته دية.
٥ ﴿تَوبة﴾ منصوب على المصدر، أي: تاب الله عليه توبة، أي: مشروعية الكفارة في قتل الخطأ كانت توبة من الله على العبد القاتل خطأ. وعلة الكفارة أنه لم يتحرز ولم يتحفظ فلذا وقع منه القتل، فكان لابد من مكفر لما لحقه من الإثم بالتفريط، أما القاتل عمداً فلا كفارة تجزئه. وهل له من توبة؟ عليه أن يتون، ومن توبته أن يعتق أو يتصدق ويصوم رجاء أن يتوب الله عليه.
524
حكيماً في تشريعه فلا يشرع إلا ما كان نافعاً ومحققاً غير ضار، ومحققاً للخير في الحال والمآل.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية (٩٣) فإنها بينت حكم من قتل مؤمناً عمداً عدواناً، وهو أن الكفارة لا تغني عنه شيئاً لما قضى الله تعالى له باللعن والخلود في جهنم إذ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ إلا أن الدية أو القصاص لازمان ما لم يعف أولياء الدم فإن عفوا عن القصاص ورضوا بالدية أعطوها وإن طالبوا بالقصاص اقتصوا، إذ هذا حقهم وأما حق الله تعالى: فإن القتيل عبده خلقه ليعبده، فمن قتله، فالله تعالى رب العبد خصمه وقد توعده بأشد العقوبات وأفظعها، والعياذ بالله تعالى وذلك حقه قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- بيان أن المؤمن الحق لا يقع منه القتل العمد للمؤمن.
٢- بيان جزاء القتل الخطأ وهو تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله.
٣- إذا كان القتيل مؤمناً وكان من قوم كافرين محاربين، فالجزاء تحرير رقبة ولا دية.
٤- إذا كان القتيل من قوم بين المسلمين مثياق، فالواجب الدية وتحرير رقبة.
٥- من لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين١.
٦- القتل العمد العدوان يجب له أحد شيئين: القصاص. أو الدية حسب رغبة أولياء الدم وإن عفوا فلهم ذلك وأجرهم على الله تعالى، وعذاب الآخرة وعيد إن شاء الله أنجزه وإن شاء عفا عنه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ
١ يسقط التتابع بالمرض والحيض، لا بالسفر. ومعنى التتابع: ألا يستأنف من أفطر لمرض، وإنما يبني على ما صامه ويواصل حتى يكمل الشهرين.
525
عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤) }
شرح الكلمات:
﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ : خرجتم تضربون الأرض بأرجلكم غزاة ومسافرين.
﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ : فتثبتوا حتى لا تقتلوا مسلماً تحسبونه كافراً.
﴿السَّلامَ١﴾ : الاستسلام والانقياد.
﴿تَبْتَغُونَ﴾ : تطلبون.
﴿فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ : بالهداية فاهتديتم وأصبحتم مسلمين.
معنى الآية الكريمة:
روي أن نفراً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرجوا فلقوا رجلاً يسوق غنماً من بني سليم، فلما رآهم سلم عليهم قائلاً: السلام عليكم. فقالوا له: ما قلتها إلا تقية لتحفظ نفسك ومالك وقتلوه٢. فنزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ يريد خرجتم مسافرين للغزو والجهاد ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ ممن تلقونهم في طريقكم هل هم مسلمون فتكفوا عنهم، أو كافرين فتقاتلوهم ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ﴾ أعلن إسلامه لكم بالشهادة أو بالسلام ﴿لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ فتكذبونه في دعواه الإسلام لتنالوا منه: ﴿تَبْتَغُونَ﴾ بذلك ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا٣﴾ أي: متاعها الزائل فإن كان قصدكم الغنيمة فإن عند الله مغانم كثيرة فأطيعوه وأخلصوا له النية والعمل يرزقكم ويغنمكم خير ما تأملون وترجون وقوله: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: مثل هذا الرجل الذي قتلتموه رغبة في غنمه كنتم تستخفون بإيمانكم خوفاً من قومكم ﴿فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ بأن أظهر دينه ونصركم فلم تعودوا تخفون دينكم. وعليه فتبينوا
١ السلم: بكسر السين، والسلم: بفتح السين واللام، والسلام واحد. والسلم بالكسر هنا أولى؛ لأنه بمعنى: الانقياد والطاعة.
٢ روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمل ديته إلى أهله ورد غنمه وهو كذلك.
٣ مي متاع الدنيا: عرضاً؛ لأنه عارض زائل، ويطلق العرض بفتح الراء على الدراهم والدنانير، وبإسكان الراء على المتاع من أثاث وغيره، فلذا كل عرض بإسكان الراء، عرض بفتحها ولا ينعكس، وفي الحديث الصحيح: "ليس الغني عن كثرة العرض، إنما الغني غني النفس". رواه مسلم.
مستقبلاً، ولا تقتلوا أحداً حتى تتأكدوا من كفره١ وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ تذييل يحمل الوعد والوعيد، الوعد لمن أطاع، والوعيد لمن عصى، إذ لازم كونه تعالى خبيراً بالأعمال أنه يحاسب عليه ويجزي بها، وهو على كل شيء قدير.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- مشروعية السير في سبيل الله غزواً وجهاداً٢.
٢- وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ.
٣- ذم الرغبة في الدنيا لا سيما إذا كانت تتعارض مع التقوى.
٤- الاتعاظ بحال الغير والاعتبار بالأحداث المماثلة.
﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦) ﴾
شرح الكلمات:
﴿أُولِي الضَّرَرِ﴾ : هم العميان والعرج والمرضى.
﴿دَرَجَةً﴾ : منزلة عالية في الجنة.
﴿الْحُسْنَى﴾ : الجنة.
١ لأن قتل النفس عظيم، ولذا لما أخبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن قتل: من قال لا إله إلا الله ظاناً أنه قالها تقيه، قال: "هلا شققت عن قلبه"، قاله ثلاثاً. ولذا لو أن كافراً صلى معنا ولم يقل: لا إله إلا الله لم نقتله حتى نطلب إليه قولها، فإن قالها وإلا قتل حينئذ، هذا الكافر المحارب لا المعاهد والمستئمن.
٢ بل فضيلة السير في سبيل الله سواء للجهاد أو لطلب علم أو صلة رحم أو حج أو عمرة أو إبلاغ دعوة وتعليم علم، أو زيارة مؤمن لما ورد في ذلك من الأجر العظيم.
527
معنى الآيتين:
روى أن ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية بهذه الصيغة: ﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ... ﴾ الآية. أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: كيف وأنا أعمى يا رسول الله فما برح حتى نزلت ﴿غَيْرُ أُولِي١ الضَّرَرِ﴾ فأدخلت بين جملتي ﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ... ﴾، ومعنى الآية: إن الله تعالى ينفي أن يستوي في الأجر والمنزلة عنده تعالى من يجاهد بماله ونفسه ومن لا يجاهد بخلاً بماله. وضناً بنفسه، واستثنى تعالى أولي الأعذار من مرض ونحوه فإن لهم أجر المجاهدين وإن لم يجاهدوا لحسن نياتهم، وعدم استطاعتهم، فلذا قال: ﴿وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى﴾ التي هي: الجنة، وقوله: ﴿فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ أي: فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين لعذر درجة، وإن كان الجميع لهم الجنة، وهي الحسنى. وقوله تعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ لغير عذر ﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ وهو الدرجات٢ العالية مع المغفرة والرحمة، وذلك لأن الله تعالى كان أزلاً وأبداً غفوراً رحيما، ولذا غفر لهم ورحمهم، اللهم اغفر لنا وارحمنا معهم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- بيان فضل المجاهدين على غيرهم من المؤمنين الذين لا يجاهدون.
٢- أصحاب الأعذار الشرعية ينالون أجر المجاهدين إن كانت لهم رغبة في الجهاد ولم يقدروا عليه لما قام بهم من٣ أعذار وللمجاهدين فعلاً درجة تخصهم دون ذوي الأعذار.
١ قرئ: ﴿غير﴾ بالرفع على أنه نعت للـ ﴿قاعدون﴾، وقرئ: بالنصب على الإستثناء، ويصح أيضاً على الحال.
٢ روي في الصحاح أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من رمى بسهم فله أجره درجة". فقال رجل يا رسول الله: وما الدرجة. قال: "إما إنها ليست بعتبة بابك ما بين الدرجتين مائة عام".
٣ روى البخاري تعليقاً، وغير واحد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قفل عائداَ من إحدى غزواته، قال: "إن بالمدينة رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم، أولئك قوم حبسهم العذر".
528
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿تَوَفَّاهُمُ﴾ : تفيض أرواحهم عند نهاية آجالهم.
﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ١﴾ : بتركهم الهجرة وقد وجبت عليهم.
﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ : في أي شيء كنتم من دينكم؟
﴿مَصِيراً﴾ : مأوى ومسكناً.
﴿حِيلَةً﴾ : قدرة على التحول.
﴿مُرَاغَماً﴾ : مكاناً وداراً لهجرته يرغم ويذل به من كان يؤذيه في داره.
﴿وَسَعَةً﴾ : في رزقه.
﴿وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ : وجب أجره في هجرته على الله تعالى.
معنى الآيات:
لما كانت الهجرة من آثار الجهاد ناسب ذكر القاعدين عنها لضرورة ولغير ضرورة فذكر
١ ظلم النفس: أن يفعل العبد فعلاً يؤول إلى مضرته، فهو بذلك ظالم لنفسه، والمراد به هنا: ترك الهجرة إذ يترتب عليها ترك العبادة فتخبث النفس، وذلك ظلم لها.
529
تعالى في هذه الآيات الهجرة وأحكامها، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ١ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ حيث تركوا الهجرة ومكثوا في دار الهون يضطهدهم العدو ويمنعهم من دينهم ويحول بينهم وبين عبادة ربهم. هؤلاء الظالمون لأنفسهم تقول لهم الملائكة عند قبض أرواحهم ﴿فِيمَ كُنْتُمْ٢﴾ ؟ تسألهم هذا السؤال؛ لأن أرواحهم مدساة مظلمة لأنها لم تزك على الصالحات، فيقولون متعذرين: ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ﴾ فلم نتمكن من تطهير أرواحنا بالإيمان وصالح الأعمال، فترد عليهم الملائكة قولهم: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ وتعبدوا ربكم؟ ثم يعلن الله عن الحكم فيهم بقوله: ﴿فَأُولَئِكَ﴾ البعداء ﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ وساءت جهنم مصيراً يصيرون إليه ومأوى ينزلون فيه. ثم استثنى تعالى أصحاب الأعذار كما استثناهم في القعود عن الجهاد في الآيات قبل هذه فقال عز من قائل: ﴿إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ٣ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ﴾، واستضعاف الرجال يكون بالعلل٤، والنساء والولدان بالضعف الملازم لهم، هؤلاء الذين لا يستطيعون حيلة، أي: لا قدرة لهم على التحول والانتقال لضعفهم، ﴿وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ إلى دار الهجرة لعدم خبرتهم بالدروب والمسالك فطمعهم تعالى ورجاهم بقوله: ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المذكورون ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ فلا يؤاخذهم ويغفر لهم بعض ما قصروا فيه ويرجمهم لضعفهم وكان الله غفوراً رحيماً.
هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث.
أما الآية الرابعة (١٠٠) فقد أخبر تعالى فيها أن من يهاجر في سبيله تعالى لا في سبيل دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها يجد بإذن الله تعالى في الأرض مذهباً يذهب إليه وداراً ينزل بها ورزقاً واسعاً يراغم به عدوه الذي اضطهده حتى هاجر من بلاده، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً﴾ ثم أخبر تعالى أن من خرج مهاجراً
١ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يأتي السهم فيرمي به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ..﴾ الآية.
٢ الاستفهام للتوبيخ والتقريع.
٣ قال ابن عباس: "كنت أنا وأمي من عنى الله بهذه الآية". وأم ابن عباس هي: لبابة، وتكنى أم الفضل، وهي أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنهما.
٤ وهي الزمانة، وتكون بالعرج والعمي والشلل ونحوها.
530
في سبيل الله، أي: لأجل عبادته ونصرة دينه ثم مات في طريق هجرته وإن لم يصل إلى دار الهجرة فقد وجب أجره على الله تعالى، وسيوفاه كاملاً غير منقوص، ويغفر الله تعالى له ما كان من تقصير سابق ويرحمه فيدخله جنته. إذ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ١ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب الهجرة٢ عندما يحال بين المؤمن وعبادة ربه تعالى إذ لم يخلق إلا لها.
٢- ترك الهجرة كبيرة من كبائر الذنوب يستوجب صاحبها دخول النار.
٣- أصحاب الأعذار كما سقط عنهم واجب الجهاد يسقط عنهم واجب الهجرة.
٤- فضل الهجرة في سبيل الله تعالى.
٥- من مات في طريق هجرته أعطى أجر المهاجر كاملاً غير منقوص وهو الجنة.
﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً (٠١) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ
١ روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي تعالى عنهما: "أن ضمرة بن جندب خرج إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فنزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيته﴾.
٢ الهجرة: هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وهي فريضة من فرائض الإسلام، وهي هجر متعددة، منها: الهجرة من بلاد البدعة، قال مالك: "لا يحل لمؤمن أن يقيم بأرض يسب فيها السلف الصالح"، ومنها: الخروج من أرض غلب عليها الحرام، إذ طلب الحلال فريضة، ومنها: أن يؤذى المسلم في دينه أو عرضه أو ماله، ومنها: الخوف من المرض ما لم يكن طاعوناً فإنه يحرم الفرار منه، ومنها: ألا يكون في بلده من يعرف أحكام الشريعة فيها جر لطلب ذلك.
531
كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤) }
شرح الكلمات:
﴿ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾ : أي: مسافرين مسافة قصر، وهي: أربعة برد، أي: ثمانية وأربعون ميلاً.
﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ : بأن تصلوا الظهرين ركعتين ركعتين، والعشاء ركعتين لطولها.
﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ﴾ : هذا خرج مخرج الغالب، فليس الخوف بشرط في القصر وإنما الشرط السفر١.
﴿حِذْرَهُمْ﴾ : الحيطة والأهبة لما عسى أن يحدث من العدو.
﴿أَسْلِحَتِكُمْ﴾ : جمع سلاح ما يقاتل به من أنواع الأسلحة.
﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ : أي: لا تضييق عليكم ولا حرج في وضع الأسلحة للضرورة.
١ من أحكام صلاة السفر: أن المسافر لا يشرع في التقصير حتى يتجاوز مباني المدينة التي يسكنها، وأن المسافر إذا صلى وراء مقيم يتم معه، وأن المسافر إذا أم غيره قصر والمقيم يتم، وأنه يشرع له الجمع بين الظهرين، والعشاءين تقديماً أو تأخيراً.
532
﴿قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ﴾ : أديتموها وفرغتم منها.
﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ : أي: ذهب الخوف فحصلت الطمأنينة بالأمن.
﴿كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾ : فرضاً ذات وقت معين تؤدى فيه لا تتقدمه ولا تتأخر عنه.
﴿وَلا تَهِنُوا﴾ : أي: لا تضعفوا.
﴿تَأْلَمُونَ﴾ : تتألمون.
معنى الآيات:
بمناسبة الهجرة والسفر من لوازمها ذكر تعالى رخصة قصر الصلاة في السفر وذلك بتقصير الرباعية إلى ركعتين فقال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾ أي: سرتم فيها١ مسافرين ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ أي: حرج وإثم في ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وبينت السنة أن المسافر يقصر ولو أمن فهذا القيد غالي فقط، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً﴾ تذييل أريد به تقرير عداوة الكفار للمؤمنين، فلذا شرع لهم هذه الرخصة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٠١)، أما الآيتان بعدها فقد بينت صلاة الخوف وصورتها: أن ينقسم الجيش قسمين قسم يقف تجاه العدو وقسم يصلي مع القائد ركعة، ويقف الإمام مكانه فيتمون لأنفسهم ركعة، ويسلمون ويقفون تجاه العدو، ويأتي القسم الذي كان واقفاً تجاه العدو فيصلي بهم الإمام القائد ركعة ويسلم ويتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون، وفي كلا الحالين هم آخذون أسلحتهم لا يضعونها على الأرض خشية أن يميل عليهم العدو وهم عزل فيكبدهم خسائر فادحة، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ٢ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ
١ اختلف في المسافة التي تقصر فيها الصلاة والجمهور على أنها أربعة برد، واختلفوا في مسافة الميل الذي هو جزء البريد، فالذي رجحه علماء المالكية، هو أن الميل ألفا ذراعاً، وعليه فمسافة القصر ثمانية وأربعون ميلاً، أي: كيلو متر، وهذا قول وسط بين قول من قال لا يقصر في أقل من سبعين ميلاً، وبين من قال كل سفر تقصر فيه الصلاة طال أو قصر ولو كان ثلاثة أميال.
٢ شذ أبو يوسف الحنفي فقال: "صلاة الخوف لا تصلى إلا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناظراً إلى قوله تعالى: {وإذا كُنتَ فيهم﴾، وعليه ما لم يكن فيهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تصلى صلاة الخوف. ورد هذا علماء السلف والخلف وقالوا: بمشروعية صلاة الخوف ما وجد خوف.
533
وَرَائِكُمْ} يريد الطائفة الواقعة تجاه العدو لتحميهم منه ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ١ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ٢ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ سبق هذا الكلام لبيان علة الصلاة طائفة بعد أخرى والأمر بالأخذ بالحذر وحمل الأسلحة في الصلاة، ومن هنا رخص تعالى لهم إن كانوا مرضى وبهم جراحات أو كان هناك مطر فيشق عليهم حمل السلاح أن يضعوا أسلحتهم فقال عز وجل: ﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ٣﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً﴾ تذييل لكلام محذوف ودل عليه السياق قد يكون تقديره فإن الكفار فجرة لا يؤمن جانبهم، ولذا أعد الله لهم عذاباً مهيناً، وإنما وضع الظاهر مكان المضمر إشارة إلى علة الشر والفساد التي هي الكفر.
وقوله تعالى في آية (١٠٣) ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا٤ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ فإنه تعالى يأمر المؤمنين بذكره في كل الأحيان لا سيما في وقت لقاء العدو لما في ذلك من القوة الروحية التي تقهر القوى المادية وتهزمها، فلا يكتفي المجاهدون بذكر الله في الصلاة فقط بل إذا قضوا الصلاة لا يتركون ذكر الله في كل حال وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ يريد إذا ذهب الخوف وحل الأمن واطمأنت النفوس أقيموا الصلاة بحدودها وشرائطها وأركانها تامة كاملة، لا تخفيف فيها كما كانت في حال الخوف إذ قد تصلي ركعة واحد، وقد تصلي إيماء وإشارة فقط وذلك إذا التحم المجاهدون بأعدائهم. وقوله: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾ تعليل للأمر بإقام الصلاة فأخبر أن الصلاة مفروضة على المؤمنين وأنها موقوتة بأوقات لا تؤدى إلا فيها.
وقوله تعالى في آية (١٠٤) ﴿وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أي: لا تضعفوا في طلب العدو
١ قد اختلفت الروايات في صلاة الخوف، واختلف لذلك العلماء، إذ صلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الخوف أربعاً وعشرين مرة. قال الإمام أحمد وهو إمام أهل الحديث: لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث صحيح ثابت، وهو صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله. وذهب مالك إلى حديث سهل بن أبي حثمة، وهو الذي ذكرته في التفسير فهو واضح سهل.
٢ الأمتعة: جمع متاع؛ كالأثاث والعروض وماله علاقة بالسلاح في حالة الحرب.
٣ في طلب الحذر التشريع للأمة بأن تأخذ بأسباب النصر ولا تهملها بحال، فإن الله تعالى ربط المسببات بأسبابها، فمن طلب النصر عليه بإعداد ما يمكنه من العدد والعتاد.
٤ يرى جمهور المفسرين أن هذا الذكر المطلوب يكون بعد صلاة الخوف، كقوله تعالى: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً﴾ تقوية للقلوب وتوسلاً لحصول النصر على العدو المرهوب.
534
لإنزال الهزيمة به. ولا تتعللوا في عدم طلبهم بأنكم تألمون لجراحتكم ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ﴾ من النصر والمثوبة العظيمة ﴿مَا لا يَرْجُونَ﴾ فأنتم أحق بالصبر والجلد والمطالبة بقتالهم حتى النصر عليهم، وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ فيه تشجيع للمؤمنين على مواصلة الجهاد، لأن علمهم بأن الله تعالى عليم بأحوالهم والظروف الملابسة لهم وحكيم في شرعه بالأمر والنهي لهم يطمئنهم على حسن العافية لهم بالنصر على أعدائهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مشروعية صلاة القصر، وهي رخصة١ أكدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله وعمله فأصبحت سنة مؤكدة لا ينبغي تركها.
٢- مشروعية صلاة الخوف وبيان كيفيتها.
٣- تأكد صلاة الجماعة بحيث لا تترك حتى في ساعة الخوف والقتال.
٤- استحباب ذكر الله تعالى بعد الصلاة وعلى كل حال من قيام وقعود واضطجاع.
٥- ةتقرير فريضة الصلاة ووجوب أدائها في أوقاتها الموقوتة لها.
٦- حرمة الوهن والضعف إزاء حرب العدو والاستعانة على قتاله بذكر الله ورجائه.
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ
١ كونها رخصه دل عليه قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ كما دل عليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر رضي الله عنه: "تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"، هذا وقد اختلف العلماء اختلافاً كبيراً هل القصر واجب أم سنة؟ فمن قال بالوجوب: استدل بحديث عائشة: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين"، ومن قال بالسنية وهم الجمهور ووهنوا حديثها لمخالفتها له. حيث كانت تتم في السفر وذهب بعضهم إلى أن المسافر مخير بين القصر والإتمام. والراجح أنها سنة مؤكدة وذلك لكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ترك القصر في أسفاره أبداً.
535
مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) }
شرح الكلمات:
﴿بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ : أي: بما علمكه بواسطة الوحي.
﴿خَصِيماً﴾ : أي: مخاصماً بالغاً في الخصومة مبلغاً عظيماً.
﴿تُجَادِلْ﴾ : تخاصم.
﴿يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ : يحاولون خيانة أنفسهم.
﴿يَسْتَخْفُونَ﴾ : يطلبون إخفاء أنفسهم عن الناس.
﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ : بعلمه تعالى وقدرته.
﴿يُبَيِّتُونَ﴾ : يدبرون الأمر في خفاء ومكر وخديعة.
﴿وَكِيلاً﴾ : الوكيل: من ينوب عن آخر في تحقيق غرض من الأغراض.
معنى الآيات:
روي أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق وإخوته١، وكان قد سرق درعاً من دار جارٍ له يقال له قتادة وودعها عند يهودي، يقال له: يزيد بن السمين، ولما اتهم طعمة وخاف هو وإخوته المعرة رموا بها اليهودي، وقالوا هو السارق، وأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحلفوا على براءة أخيهم فصدقهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم بقطع يد اليهودي لشهادة بني أبيرق عليه وإذا بالآيات تنزل ببراءة اليهودي وإدانة طعمة، ولما افتضح طعمة وكان منافقاً أعلن عن ردته وهرب إلى مكة المكرمة ونقب جدار منزل ليسرق فسقط عليه الجدار فمات تحته كافراً.. وهذا تفسير لآيات قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ أي: القرآن، أيها الرسول {لِتَحْكُمَ بَيْنَ٢
١ هم ثلاثة أنفار: بشر، وبشير، ومبشر. يقال لهم: بنو أبيرق.
٢ يشهد لهذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن حجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار".
536
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ١ اللهُ} أي: بما أعلمك وعرفك به لا بمجرد رأي رآه غيرك من الخائنين وعاتبه ربه تعالى بقوله: ﴿وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾ أي: مجادلاً عنهم، فوصم تعالى بني أبيرق بالخيانة، لأنهم خانوا أنفسهم بدفعهم التهمة عنهم بأيمانهم الكاذبة. ﴿وَاسْتَغْفِرِ٢ اللهَ﴾ من أجل ما هممت به من عقوبة اليهودي، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾ فيغفر لك ما هممت به ويرحمك ﴿وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ حيث اتهموا اليهودي كذباً وزوراً، ﴿إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾ كطعمة بن أبيرق ﴿يَسْتَخْفُونَ٣ مِنَ النَّاسِ﴾ حياء منهم، ﴿وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ﴾ ولا يستحيون منه، وهو تعالى معهم في الوقت الذي كانوا يدبرون كيف يخرجون من التهمة بإلصاقها باليهودي البريء، وعزموا أن يحلفوا على براءة أخيهم واتهام اليهودي هذا القول مما لا يرضاه الله تعالى.. وقوله عز وجل: ﴿وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾ فما قام به طعمة من سرقة الدرع ووضعها لدى اليهودي ثم اتهامهم اليهودي، وحلفهم على براءة أخيهم كل ذلك جرى تحت علم الله تعالى، والله به محيط، فسبحانه من إله عظيم. وقوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ﴾ أي: يا هؤلاء ﴿جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ هذا الخطاب موجه إلى الذين وقفوا إلى جنب بني أبيرق يدفعون عنهم التهمة فعاتبهم الله تعالى بقوله: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ﴾، اليوم في هذه الحياة الدنيا لتدفعوا عنهم تهمة السرقة ﴿فَمَنْ٤ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ يتولى الدفاع عنهم في يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئاً والأمر كله لله فتضمنت الآية تقريعاً شديداً لا يقف أحد بعد موقفاً مخزياً كهذا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢- لا يجوز الوقوف إلى جنب الخونة الظالمين نصرة لهم
١ ﴿بِمَا أَرَاك الله﴾ معناه: على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي.
٢ فيه إرشاد للأمة وتعليم لها، إذ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقارف ذنباً، وكل ما في الأمر أنه هم على ظن منه، ودفع الله عنه ما هم به بنزول الآية، أو استغفاره لما هم به، هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
٣ أي: يستترون.
٤ الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع.
537
٣- وجوب الاستغفار من الذنب كبيراً كان أو صغيراً.
٤- وجوب بغض الخوان الأثيم أياً كان.
٥- استحباب الوعظ والتذكير بأحوال يوم القيامة.
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿سُوءاً﴾ : السوء: ما يسيء إلى النفس أو إلى الغير.
﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ : ظلم النفس: بغشيان الذنوب وارتكاب الخطايا.
﴿إِثْماً﴾ : الإثم: ما كان ضاراً بالنفس فاسداً.
﴿بَرِيئاً﴾ : البريء: من لم يجن جناية قد اتهم بها.
﴿احْتَمَلَ بُهْتَاناً﴾ : تحمل بهتاناً: وهو الكذب المحير لمن رمي به.
﴿الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ : الكتاب: القرآن والحكمة السنة.
معنى الآيات:
هذا السياق معطوف على سابقه في حادثة طعمة بن أبيرق، وهو يحمل الرحمة الإلهية لأولئك الذين تورطوا في الوقوف إلى جنب الخائن ابن أبيرق فأخبرهم تعالى أن من يعمل
538
سوءاً يؤذي به غيره أو يظلم نفسه بارتكاب ذنب من الذنوب ثم يتوب إلى الله تعالى باستغفاره والإنابة إليه يتب الله تعالى عليه ويقبل توبته وهو معنى قوله تعالى في الآية (١١٠) ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ١ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً﴾ يغفر له ويرحمه.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً﴾ أي: ذنباً من الذنوب صغيرها وكبيرها ﴿فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ إذ هي التي تتدسى به وتؤاخذ بمقتضاه إن لم يغفر لها. ولا يؤاخذ به غيرها وكان الله عليماً، أي: بذنوب عباده حكيماً، أي: في مجازاتهم بذنوبهم فلا يؤاخذ نفساً بغير ما اكتسب ويترك نفساً قد اكتسبت (١١٢) يخبر تعالى أن من يرتكب خطيئة ضد أحد، أو يكسب إثماً ويرمي به أحداًً بريئاً منه قد تحمل تبعة عظيمة قد تصليه نار جهنم وهو معنى قوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ٢ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً﴾.
وفي الآية (١١٣) يواجه الله تعالى رسوله بالخطاب ممتنا ًعليه بما حباه به من الفضل والرحمة فيقول: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾، والمراد بالطائفة التي ذكر الله تعالى هم بنو أبيرق أخوة طعمة وقوله: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ٣﴾، فهو كما قال عز وجل ضلالهم عائد عليهم أما الرسول فلن يضره ذلك وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ امتنان من الله تعالى على رسوله بأنه أنزل عليه القرآن أعظم الكتب وأهداها وعلمه الحكمة وهي ما كشف له من أسرار الكتاب الكريم، وما أوحى إليه من العلوم والمعارف التي كلها نور وهدى مبين، وعلمه من المعارف الربانية ما لم يكن يعلم قبل ذلك وبهذا كان فضله على رسوله عظيماً، فلله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير مبدأ التوبة تجب ما قبلها، ومن تاب تاب الله عليه.
٢- عظم ذنب من يكذب على البرآء، ويتهم الأمناء بالخيانة.
١ المراد بالاستغفار: التوبة وطلب العفو من الله تعالى عما مضى من الذنوب قبل التوبة.
٢ أي: ينسبه إليه.
٣ إذ نتائج الضلال وعوائده وهي الخسران عائدة عليهم لا على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
539
٣- تأثير الكلام على النفوس حتى أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاد يضلله بنو أبيرق فيبرئ الخائن ويدين البريء إلا أن الله عصمه.
٤- عاقبة الظلم عائدة على الظالم.
﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (١١٥) ﴾
شرح الكلمات:
﴿نَجْوَاهُمْ١﴾ : النجوى: المسارة بالكلام، وجواهم: أحاديثهم التي يسرها بعضهم إلى بعض.
﴿أَوْ مَعْرُوفٍ٢﴾ : المعروف: ما عرفه الشرع فأباحه، أو استحبه أو أوجبه.
﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ : أي: طلباً لمرضاة الله، أي: للحصول على رضا الله عز وجل.
﴿نُؤْتِيهِ﴾ : نعطيه والأجر العظيم: الجنة وما فيها من نعيم مقيم.
﴿يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ : يحاده ويقاطعه ويعاديه. كمن يقف في شق، والآخر في شق.
﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ : أي: يخرج عن إجماع المسلمين.
﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ : نخذله فتتركه وما تولاه من الباطل والشر والضلال حتى: يهلك فيه.
١ النجوى: مشتقة من نجوت الشيء، أنجوه، إذا خلصته وأفردته، والنجوي من الأرض ما ارتفع منها دون ما حواليه، ومن ناجى أحداً فقد خلصه وأفرده له. وتسمى الجماعة: نجوى نحوهم، عدل. قال تعالى: ﴿وإذْ هُم نَجْوى﴾.
٢ المعروف لفظ يعم جميع ألفاظ البر، أمر الله تعالى في كتابه فقال: ﴿خُذْ العُفوْ وأمر بالعُرف﴾ أي: المعروف. قال الحطيئة:
540
ونصله نار جهنم: أي: ندخله النار ونحرقه فيها.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في بني أبيرق ففي الآية الأولى (١١٤) يخبر تعالى أنه لا خير في كثير من أولئك المتناجين ولا في نجواهم لنفاقهم وسوء طواياهم اللهم إلا في نجوى أمر أصحابها بصدقة تعطى لمحتاج إليها من المسلمين، أو معروف١ استحبه الشارع أو أوجبه من البر والإحسان أو إصلاح بين الناس للإبقاء على الألفة والمودة بين المسلمين. ثم أخبر تعالى أن من يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإصلاح٢ بين الناس طلباً لمرضاة الله تعالى فسوف يثيبه بأحسن الثواب ألا وهو الجنة دار السلام إذ لا أجر أعظم من أجر يكون الجنة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الثانية (١١٥) فإن الله تعالى يتوعد أمثال طعمة بن أبيرق، فيقول جل ذكره: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ أي: يخالفه ويعاديه ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ أي: من بعد ما عرف أنه رسول الله حقاً جاء بالهدى ودين الحق، ثم هو مع معاداته للرسول يخرج من جماعة المسلمين ويتبع غير سبيلهم٣ هذا الشقي الخاسر ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ أي: نتركه لكفره وضلاله خذلاناً له في الدنيا ثم نصله نار جهنم يحترف فيها، وبئس المصير جهنم يصير إليها المرء ويخلد فيها.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- حرمة تناجي اثنين دون الثالث لثبوت ذلك في السنة.
٢- الاجتماعات السرية لا خير فيها إلا اجماعاً كان لجمع صدقة، أو لأمر بمعروف أو إصلاح بين متنازعين من المسلمين مختلفين.
٣- حرمة الخروج عن أهل السنة والجماعة، واتباع الفرق الضالة التي لا تمثل الإسلام إلا في دوائر ضيقة كالروافض ونحوهم.
١ قيل لحكيم ما أعظم المصائب؟ قال: أن تقدر على المعروف فلا تصنعه، حتى يفوت، وقال في هذا المعنى الشاعر:
إذا هبت رياحك فاغتنمها... فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها... فما تدري السكون متى يكون
٢ ورد في إصلاح ذات البين الكثير من الأحاديث، منها: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إصلاح ذات البين" رواه الترمذي وصححه وقال: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً".
٣ هذه الآية هي دليل حرمة الخروج على جماعة المسلمين، روي أن الشافعي طلب دليلاً على صحة الإجماع، فقرئ القرآن مرات حتى عثر على هذه الآية، وقرر أنها دليل الإجماع، وهو كذلك.
541
﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً (١٢٠) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (١٢١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ : أن يعبد معه غيره من مخلوقاته بأي عبادة كانت.
﴿إِنْ يَدْعُونَ﴾ : أي: ما يدعون.
﴿إِلا إِنَاثاً﴾ : جمع أنثى لأن الآلهة مؤنثة، أو أمواتاً لأن الميت يطلق عليه لفظ أنثى بجامع عدم النفع.
﴿مَرِيداً﴾ : بمعنى ما رد على الشر والإغواء للفساد.
﴿نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾ : حظاً معيناً. أو حصة معلومة.
﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ١﴾ : فليقطعن.
﴿خَلْقَ اللهِ﴾ : مخلوق الله: أي: ما خلقه الله تعالى.
﴿الشَّيْطَانُ﴾ : الخبيث الماكر الداعي إلى الشر سواء كان جنياً أو إنسياً.
١ البتك: القطع، يقال: سيف باتك.
542
﴿وَيُمَنِّيهِمْ﴾ : يجعلهم يتمنون كذا وكذا ليلهيهم عن العمل الصالح.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ١ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ إخبار منه تعالى عن طعمة بن أبيرق بأنه لا يغفر له وذلك لموته على الشرك، أما إخوته الذين لم يموتوا مشركين فإن أمرهم إلى الله تعالى إن شاء غفر لهم وإن شاء آخذهم كسائر مرتكبي الذنوب غير الشرك والفكر. وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً﴾ أي: ضل عن طريق النجاة والسعادة ببعده عن الحق بعداً كبيراً وذلك بإشراكه بربه تعالى غيره من مخلوقاته.
وقوله تعالى ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثاً﴾ هذا بيان لقبح الشرك وسوء حال أهله، فأخبر تعالى أن المشركين ما يعبدون إلا أمواتاً لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ولا يعقلون. إذ أوثانهم ميتة وكل ميت فهو مؤنث زيادة على أن أسماءها مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونائلة، كما هم في واقع الأمر يدعون شيطاناً مريداً، إذ هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام فعبدوها فهم إذاً عابدون للشيطان في باطن الأمر لا الأوثان، ولذا قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَرِيداً٢﴾ لعنه الله وأبلسه عن إبائه السجود لآدم، ﴿وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً٣﴾ أي: عدداً كبيراً منهم يعبدونني ولا يعبدونك وهم معلومون معروفون بمعصيتهم إياك، وطاعتهم لي. وواصل العدو تبجحه قائلاً: ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ﴾ يريد عن طريق الهدى ﴿وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ يريد أعوقهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة بأنهم لا يلقون عذاباً أو أنه سيغفر لهم. ﴿وَلآمُرَنَّهُمْ﴾ فيطيعوني ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ٤﴾ أي: ليجعلون لآلهتهم نصيباً مما رزقنهم ويعلمونها بقطع آذانها لتعرف أنها للآلهة؛ كالبحائر والسوائب التي يجعلونها للآلهة، ﴿وَلآمُرَنَّهُمْ﴾ أيضاً فيطيعونني فيغيرون خلق الله بالبدع
١ في هذه الآية رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنب دون الشرك، ويوجبون الخلود في النار لمن مات على كبيرة، قال علي رضي الله عنه: "ما في القرآن أحب إلي من هذه: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ " رواه الترمذي.
٢ أطلق الدعاء وأريد به العبادة، وهو إطلاق شائع في القرآن الكريم؛ لأن الدعاء هو العبادة. إذ طاعتهم للشيطان عبادة في حد ذاتها، إذا المطاع في معصية الله معبود، قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾، أي: ألهة، وذلك لما أطاعوهم في معصية الله تعالى.
٣ قيل: كان نصيبه من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، لحديث مسلم: "أبعث بعث النار فيقول وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين". المخاطب: آدم عليه السلام.
٤ أجاز الجمهور خصاء الغنم لفائدة اللحم، وحرموا خصاء غيرها، وخاصة الآدمي، وأجازوا الوسم في غير الوجه للحيوان ليعرف به، وهو كذلك. أما الوشم: فحرام للأحاديث الصحاح فيه.
543
والشرك، والمعاصي كالوشم والخصي. هذا ما قاله الشيطان ذكره تعالى لنا فله الحمد. ثم قال تعالى ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً﴾ لأن من والى الشيطان عادى الرحمن، ومن عادى الرحمن تم له والله أعظم الخسران يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ﴾ فيعقوهم عن طلب النجاة والسعادة ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً﴾ إذ هو لا يملك من الأمر شيئاً فكيف يحقق لهم نجاة أو سعادة إذاً؟.
وهذا حكم الله تعالى يعلن في صراحة ووضوح فليسمعوه: ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً﴾ أي: معدلاً أو مهرباً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- سائر الذنوب كبائرها وصغائرها قد يغفرها الله تعالى لمن شاء إلا الشرك فلا يغفر لصاحبه.
٢- عبدة الأصنام والأوهام والشهوات والأهواء هم في الباطن عبدة الشيطان إذ هو الذي أمرهم فأطاعوه.
٣- من مظاهر طاعة الشيطان المعاصي كبيرها وصغيرها إذ هو الذي أمر بها وأطيع فيها.
٤- حرمة الوشم والوسم والخصاء إلا ما أذن فيه الشارع١.
٥- سلاح الشيطان العدة الكاذبة والأمنية الباطلة، والزينة الخادعة.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢) ﴾
شرح الكلمات:
﴿آمَنُوا﴾ : صدقوا بالله ورسوله٢.
﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ : الطاعات إذ كل طاعة لله ورسوله هي عمل صالح.
١ أذن الشارع في وسم الماشية، ولكن في غير الوجه، كما أذن وخصي الغنم ضائنًا أو ما عزًا لمصلحة إصلاح لحومها.
٢ وصدقوا بكل ما أخبر الله به ورسوله في شأن الغيب؛ كالملائكة، والبعث، والجزاء في الدار الآخرة.
544
﴿قِيلاً١﴾ : أي: قولاً.
معنى الآية الكريمة:
لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في٢ هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل، وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار وأن خلودهم مقدر فيها بإذن الله ربهم فلا يخرجون منها أبداً وعدهم ربهم بهذا وعد الصدق، وليس هناك من هو أصدق وعداً ولا قولاً من الله تعالى.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- الإيمان الصادق والعمل الصحيح الصالح هما مفتاح الجنة وسبب٣ دخولها.
٢- صدق وعد الله تعالى، وصدق قوله عز وجل.
٣- وجوب صدق الوعد من العبد لأن خلف الوعد من النفاق لحديث٤: "وإذا واعد أخلف".
٤- وجوب صدق القول والحديث لأن الكذب من النفاق لحديث وإذا حدث كذب.
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ
١ القيل، والقول، والقال: بمعنى واحد.
٢ هذا من منهج القرآن الخاص به، وهو الجمع بين الترهيب والترغيب؛ لأنه كتاب هداية وتربية فلذا يجمع بين الوعد والوعيد، وذكر الشيء وضده.
٣ لأنه بالإيمان والعمل الصالح تزكو النفس البشرية وتطهر، وإذا زكت وطهرت تأهلت لدخول الجنة؛ إذ هي دار الأبرار ودار المتقين.
٤ رواه البخاري وغيره: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا واعد أخلف، وإذا أؤتمن خان".
545
أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦) }
شرح الكلمات:
﴿بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ : جمع أمنية: وهي ما يقدره المرء في نفسه ويشتهيه مما يتعذر غالباً تحقيقه.
﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ : اليهود والنصارى.
﴿سُوءاً﴾ : كل ما يسيء من الذنوب والخطايا.
﴿وَلِيّاً﴾ : يتولى أمره فيدفع عنه المكروه.
﴿نَقِيراً﴾ : النقير: نقرة في ظهر النواة.
﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ : عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه الله تعالى.
﴿خَلِيلاً﴾ : الخليل: المحب الذي تخلل حبه مسالك النفس فهو أكبر من الحبيب.
﴿مُحِيطاً﴾ : علماً وقدرة إذ الكون كله تحت قهره ومدار بقدرته وعلمه.
معنى الآيات:
روي أن هذه الآية نزلت١ لما تلاحى مسلم ويهودي وتفاخرا، فزعم اليهودي أن نبيهم وكتابهم ودينهم وجد قبل كتاب ونبي المسلمين ودينهم فهم أفضل، ورد عليه المسلم بما هو الحق فحكم الله تعالى بينهما بقوله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ أيها المسلمون ﴿وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ من يهود ونصارى، أي: ليس الأمر والشأن بالأماني العذاب، وإنما الأمر والشأن في هذه القضية أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب الإرادي على النفس بالتزكية أو التدسية فمن عمل٢ سوءاً من الشرك والمعاصي، كمن عمل صالحاً من التوحيد والطاعات يجز بحسبه،
١ روي أيضاً عن قتادة أنه قال: تفاخرا والمؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم. وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على سائر الكتب. فنزلت، ولا تعارض بين الرأيين.
٢ هذه الآية عامة في الكافر والمؤمن، ويؤكد عمومها رواية مسلم: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت وبلغت من المسلمين مبلغًا، قال: "قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها"، ويفسرها لنا أيضاً قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رواية أحمد لأبي بكر، وقد قال لما نزلت كيف الفلاح يا رسول الله، بعد هذه الآية؟ فكل سوء عملناه جزينا به. "غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ " قال: بلى. قال: "فهو مما تجزون".
546
فالسوء يخبث النفس فيحرمها من مجاورة الأبرار والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها لمجاورة الأبرار، ويبعدها عن مجاورة الفجار. وقوله تعالى: ﴿وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾ لأن سنن الله؛ كأحكامه لا يقدر أحد على تغييرها أو تبديلها بل تمضي كما هي فلا ينفع صاحب السوء أحد، ولا يضر صاحب الحسنات آخر. وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ فإنه تقرير لسنته تعالى في تأثير الكسب على النفس والجزاء بحسب حال النفس زكاة وطهراً وتدسية وخبثاً، فإنه من يعمل الصالحات وهو مؤمن تطهر نفسه ذكراً كان أو أنثى ويتأهل بذلك لدخول الجنة، ولا يظلم مقدار نقير فضلاً عما هو أكثر وأكبر وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ١ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ إشادة منه تعالى وتفضيل للدين الإسلامي على سائر الأديان غذ هو قائم على أساس إسلام الوجه٢ لله وكل الجوارح تابعة له تدور في فلك طاعة الله تعالى مع الإحسان الكامل، وهو إتقان العبادة وأداؤها على نحو ما شرعها الله تعالى واتباع ملة إبراهيم بعبادة الله تعالى وحده والكفر بما سواه من سائر الآلهة. وقوله ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ فيه زيادة تقرير فضل الإسلام الذي هو دين إبراهيم الذي اتخذه ربه خليلاً وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً﴾ زيادة على أنه إخبار بسعة ملك الله تعالى وسعة علمه وقدرته وفضله فإنه رفع لما قد يتوهم من خلة إبراهيم أن الله تعالى مفتقر إلى إبراهيم أو له حاجة إليه، فأخبر تعالى أن له ما في السموات والأرض خلقاً وملكاً، وإبراهيم في جملة ذلك فكيف يفتقر إليه أو يحتاج إلى مثله وهو رب كل شيء وملكه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- ما عند الله لا ينال بالتمني ولكن بالإيمان والعمل الصالح أو التقوى والصبر والإحسان.
٢- الجزاء أثر طبيعي للعمل وهو معنى ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾ {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
١ الاستفهام إنكاري، أي: ينكر أن يوجد من هو أحسن ديناً منه.
٢ أفادت هذه الآية حكماً عظيمًا، وهو أنه: لا يصح عمل بدونه أبدًا. وهو الإخلاص والمتابعة، وهو أن يكون العمل خالصًا لله، وأن يكون صوابًا، أي: وفق ما شرع الله تعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
547
الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}.
٣- فضل الإسلام على سائر الأديان.
٤- شرف إبراهيم عليه السلام باتخاذه ربه١ خليلاً.
٥- غنى الله تعالى عن سائر مخلوقاته، وافتقار سائر مخلوقاته إليه عز وجل.
﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً (١٣٠) ﴾
١ وقد شرف بالخلة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي الصحيحين أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبهم أخر خطبة، فقال: "أما بعد أيها الناس: فلو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً، لاتخذت أبا بكر ابن أبي قحافة خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله".
548
شرح الكلمات:
﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ١﴾ : يطلبون منك الفتيا في شأن النساء وميراثهن.
﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ : يقرأ عليكم في القرآن.
﴿مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ : ما فرض لهن من المهور والميراث.
﴿بِالْقِسْطِ﴾ : بالعدل.
﴿نُشُوزاً﴾ : ترفعاً وعدم طاعة.
﴿وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ : جلبت النفوس على الشح فلا يفارقها أبداً.
﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ : فتركتوها كالمعلقة ما هي بالمزوجة ولا المطلقة.
﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾ : من رزقه الواسع.
﴿وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً﴾ : واسع الفضل حكيماً يعطي فضله حسب علمه وحكمته.
معنى الآيات:
هذه الآيات الأربع كل آية منها تحمل حكماً شرعياً خاصاً فالأولى (١٢٧) نزلت إجابة لتساؤلات من بعض الأصحاب حول حقوق النساء ما لهن وما عليهن لن العرف الذي كان سائداً في الجاهلية كان يمنع النساء والأطفال من الميراث بالمر، وكان اليتامى لا يراعى لهم جانب ولا يحفظ لهم حق كامل، فلذا نزلت الآيات الأولى من هذه السورة وقررت حق المرأة والطفل في الإرث وحضت على المحافظة على مال اليتيم وكثرت التساؤلات لعل قرآناً ينزل إجابة لهم حيث اضطربت نفوسهم لما نزل فنزلت هذه الآية الكريمة تردهم إلى ما في أول السورة وأنه الحكم النهائي في القضية فلا مراجعة بعد هذه، فقال تعالى وهو يخاطب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ أي: وما زالوا يستفتونك في النساء، أي: في شأن مالهن وما عليهن من حقوق؛ كالإرث والمهر وما إلى ذلك. قل لهم أيها الرسول ﴿اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ وقد أفتاكم فيهن وبين لكم مالهن وما عليهن. وقوله تعالى: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ أي: وما يتلى عليكم في يتامى النساء في أول السورة كافٍ لا تحتاجون معه إلى من يفتيكم أيضاً، إذ بين لكم أن من كانت تحته يتيمة دميمة لا يرغب في نكاحها فليعطها مالها وليزوجها غيره وليتزوج هو من
١ روى أشهب عن مالك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي.
549
شاء، ولا يحل له أن يحبسها في بيته لأجل مالها، وإن كانت جميلة وأراد أن يتزوجها فليعطها مهر مثيلاتها ولا يبخسها حقها من مهرها شيئاً. وقوله: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ أي: وقد أفتاكم بما يتلى عليكم من الآيات في أول السورة في المستضعفين من الولدان حيث قد أعطاهم حقهم وافياً في آية ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ الآية.
فلم هذه المراجعات والاستفتاءات؟ وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ أي: وما تلى عليكم في أول السورة كان آمراً إياكم بالقسط لليتامى والعدل في أموالهم فارجعوا إليه في قوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً﴾، وقوله تعالى في ختام الآية ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً﴾ حث لهم على فعل الخير بالإحسان إلى الضعيفين المرأة واليتيم زيادة على توفيتهما حقوقهما وعدم المساس بها. هذا ما دلت عليه الآية الكريمة: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ... ﴾ إلخ.
أما الآية الثانية (١٢٨) ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ١ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ٢ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً﴾ فقد تضمنت حكماً عادلاً رحيماً وإرشاداً ربانياً سديداً وهو أن الزوجة إذا توقعت من زوجها نشوزاً، أي: ترفعاً أو إعراضاً عنها، وذلك لكبر سنها أو لقلة جمالها، وقد تزوج غيرها في هذا الحال في الإمكان أن تجري مع زوجها صلحاً يحفظ لها بقاءها في بيتها عزيزة محترمة فتتنازل له عن بعض حقها في الفراش وعن بعض ما كان واجباً لها وهذا خير لها من الفراق. ولذا قال تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ٣﴾ يريد أن الشح ملازم للنفس البشرية لا يفارقها والمرأة كالرجل في هذا إلا أن المرأة أضمن وأشح بنصيبها في الفراش وبباقي حقها من زوجها. إذاً فليراع الزوج هذا، ولذا قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا﴾ أيها الأزواج إلى نسائكم ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الله تعالى
١ خافت، أي: توقعت وليس بمعنى تيقنت.
٢ روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً﴾، قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول له: أجعلك من شأني في حل. فنزلت هذه الآية. كما روي أن الآية نزلت في سودة أم المؤمنين لما أسنت، أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يطلقها فآثرت الكون معه. فقالت له: امسكني واجعل يومي لعائشة. ففعل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وماتت وهي من أزواجه. رواه الترمذي. قالوا في الفرق بين النشوز والإعراض: أن النشوز هو: التباعد عنها. وأن الإعراض: أن لا يكلمها ولا يأنس بها.
٣ الشح: هو البخل، ومنه الحديث: "أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى"، غير أن الشح يطلق على حرص النفس على الحقوق وقلة التسامح فيها.
550
فيهن فلا تحرموهن ما لهن من حق في الفراش وغيره فإن الله تعالى يجزيكم بالإحسان إحساناً وبالخير خيراً فإنه تعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾.
هذا ما دلت عليه الآية (١٢٨) وأما الآية الثالثة (١٢٩) وهي قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ١ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾ فقد تضمنت حقيقة كبرى وهي عجز الزوج عن العدل بين زوجاته اللائي في عصمته، فمهما حرص على العدل وتوخاه فإنه لن يصل إلى منتهاه أبداً، والمراد بالعدل هنا في الحب والجماع. أما في القسمة والكساء والغذاء والعشرة بالمعروف فهذا مستطاع له، ولما علم تعالى هذا من عبده رخص له في ذلك ولم يؤاخذه بميلة النفس، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم هذا قسمي٢ فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" والمحرم على الزوج هو الميل٣ الكامل إلى إحدى زوجاته عن باقيهن، لأن ذلك يؤدي أن تبقى المؤمنة في وضع لا هي متزوجة تتمنع بالحقوق الزوجية ولا هي مطلقة يمكنها أن تتزوج من رجل آخر تسعد بحقوقها معه، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا﴾ أي: أيها الأزواج في أعمالكم وفي القسم بين زوجاتكم وتتقوا الله تعالى في ذلك فلا تميلوا كل الميل، ولا تجوروا فيما تطيقون العدل فيه فإنه تعالى يغفر لكم ما عجزتم عن القيام به لضعفكم ويرحمكم في دنياكم وأخراكم لأن الله تعالى كان وما زال عفواً للتائبين رحيما ًبالمؤمنين.
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة، أما الآية الرابعة (١٣٠) وهي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ٤ وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً﴾ فإن الله تعالى يعد الزوجين الذين لم يوفقا للإصلاح بينهما لشح كل منهما بماله وعدم التنازل عن شيء من ذلك يعدهما ربهما إن هم تفرقا بالمعروف أن يغني كلا من سعته، وهو الواسع الحكيم. فالمرأة يرزقها زوجاً خيراً من زوجها الذي فارقته، والرجل يرزقه كذلك امرأة خيراً ممن فارقها لتعذر الصلح بينهما.
١ هذا دال على أن المحبة أمر قهري، يعجز الإنسان عن جلبها، كما يعجز عن دفعها، وإن كانت لها أسباب لا يملك توفيرها، فلذا عفي عن هذا الحب القهري وجوداً وعدمًا.
٢ رواه أبو داود بإسناد صحيح، ورواه غيره. والمراد بقوله: "فيما تملك ولا أملك". القلب؛ لأن القلوب بيد الله يقبلها كيف يشاء.
٣ ورد في ذنب الميل إلى إحدى الزوجات وعيد شديد، وذلك فيما رواه أحمد وأصحاب السنن عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من كانت له امرأتان فمال إحداهما جاء يوم القيامة وإحدى شقيه ساقط".
٤ هناك إشارة إلى أن هذا الوعد الإلهي مشروط بمحاولة الصلح أولاً فإن لم يتم وتفرقا على طاعة الله تعالى، أنجز الله تعالى لهما ما وعد.
551
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير مبدأ إرث النساء والأطفال، والمحافظة على مال اليتامى وحرمة أكلها.
٢- استحباب الصلح بين الزوجين عند تعذر البقاء مع بعضهما إلا به.
٣- تعذر العدل بين الزوجين في الحب والوطء استلزم عدم المؤاخذة به واكتفى الشارع بالعدل في الفراش، والطعام والشراب والكسوة والمعاشرة بالمعروف.
٤- الترغيب في الإصلاح والتقوى وفعل الخيرات.
٥- الفرقة بين الزوجين إن كانت على مبدأ الإصلاح والتقوى أعقبت خيراً عاجلاً آجلاً.
﴿وَلِلَّهِ١ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيّاً حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤) ﴾
١ إن قيل ما وجه تكرار جملة: ﴿لله مَا في السمَواتْ ومَا في الأرض﴾ ثلاث مرات؟ فالجواب: أنه تعالى لما ذكر أن الزوجين إذا تفرقا بعد مصالحة، وعلى تقوى يغنيهما الله. برهن على ذلك بأن له ما في السموات وما في الأرض، ومن كان كذلك قهو قادر على إغنائهما، ولما وصى عباده بتقواه وهي طاعته بفعل الأمر وترك النهي، أعلم أنه قادر على عقوبة من عصاه، وأنه لم يوص بالتقوى لحاجة به، إنه يملك ما في السموات وما في الأرض، ومن كان كذلك فلا حاجة به إلى أحد، ولما ذكر غناه وحمده دلل عليهما بأن له ما في السموات ما في الأرض وأنه الحفيظ لعباده المدبر لهم.
552
شرح الكلمات:
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ : أي: خلقاً وملكاً وتصرفاً وتدبيراً.
﴿وَصَّيْنَا﴾ : عهدنا إليهم بذلك أي: التقوى.
﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ : اليهود والنصارى.
الوكيل: من يفوض إليه الأمر كله ويقوم بتدبيره على أحسن الوجوه.
﴿ثَوَابُ الدُّنْيَا﴾ : جزاء العمل لها.
ثواب الآخرة: جزاء العمل لها، وهو الجنة.
﴿سَمِيعاً بَصِيراً﴾ : سمعياً: لأقوال العباد بصيراً: بأعمالهم وسيجزيهم بها خيراً أو شراً.
معنى الآيتين:
لما وعد تبارك وتعالى كلا من الزوجين المتفرقين بالإغناء عن صاحبه ذكر أنه يملك ما في السموات وما في الأرض، ولذا فهو قادر على إنائهما لسعة ملكه وعظيم فضله، ثم واجه بالخطاب الكريم الأمة جمعاً ومن بينها بني أبيرق فقال: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ يريد من اليهود والنصارى وغيرهم أوصاهم بتقواه عز وجل فلا يقدموا على مشاقته ولا يخرجوا عن طاعته بترك ما أوجب أو بفعل ما حرم، ثم أعلمهم أنهم وإن كفروا كما كفر طعمة وارتد فإن ذلك غير ضائره شيئاً، لأنه ذو الغنى والحمد، وكيف وله جميع ما في السموات وما في الأرض من كائنات ومخلوقات وهو ربها ومالكها والمتصرف فيها.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٣١)، أما الآية الثانية (١٣٢) فقد كرر تعالى فيها الإعلان عن استحقاقه الحمد والغنى، وذلك لملكه جميع ما في السموات وما في الأرض ولقيوميته عليهما، وكفى به تعالى حافظاً ووكيلاً. وفي الآية الثالثة (١٣٣) يخبر تعالى أنه قادر على إذهاب كافة الجنس البشري واستبداله بغيره وهو على كل ذلك قدير، فقال تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ١ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ وذلك لعظيم قدرته وكفاية وكالته. وفي الآية الرابعة والأخيرة في هذا السياق (١٣٤) يقول تعالى مرغباً عباده فيما عنده من خير الدنيا والآخرة من كان يريد
١ الآية تحمل تخويفاً إيما تخويف لكل من يقصر في واجبه من أمير، ومأمور، وعالم، وجاهل، وغني، وفقير، إذ لكل واجبات يجب أن يقوم بها كل بحسب ما طولب به وفرض عليه. فالأمير عليه العدل، والعالم أن يعلم، والجاهل أن يتعلم، وهكذا.
553
بعمله ثواب١ الدنيا ﴿فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ فلم يقصر العبد عمله على ثواب الدنيا، وهو يعلم أن ثواب الآخرة عند الله أيضاً، فليطلب الثوابين معاً من الله تعالى، وذلك بالإيمان والتقوى والإحسان، وسيجزيه تعالى بعمله ولا ينقصه له وذلك لعلمه تعالى وقدرته، ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً٢﴾، ومن كان كذلك فلا يخاف معه ضياع الأعمال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الوصية بالتقوى، وذلك بترك الشرك والمعاصي بعد الإيمان وعمل الصالحات.
٢- غنى الله تعالى عن سائر خلقه.
٣- قدرة الله تعالى على إذهاب الناس كلهم والإتيان بغيرهم.
٤- وجوب الإخلاص في العمل لله تعالى وحرمة طلب الآخرة بطلب الدنيا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا
١ في هذه الآية إرشاد عظيم للعباد، لقد علم تعالى أن الإنسان بحكم وجوده في هذه الحياة ورغبته في السعادة فيها، هو يعمل لها جهده غافلاً عن الحياة الآخرة التي هي أعظم لبقاءها وكبر شأنها، فلفت نظره إليها معلمًا إياه أنه لديه تعالى ثواب كل من الحياتين، فليطلب ذلك منه بالإيمان به، وطاعته كما طلب الدنيا بالأعمال الموصلة إلى تحقيق السعادة فيها، وفوق ذلك أن ثواب العملين بديه تعالى لا بيد غيره.
٢ هذا التذييل يربي ملكة مراقبة الله تعالى، إذ من علم أن الله سميع لأقواله عليم بأعماله. راقبه واتقاه.
554
ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) }
شرح الكلمات:
﴿قَوَّامِينَ﴾ : جمع قوام: وهو كثير القيام بالعدل.
﴿بِالْقِسْطِ﴾ : بالعدل وهو الاستقامة والتسوية بين الخصوم.
﴿شُهَدَاءَ﴾ : جمع شهيد: بمعنى شاهد.
﴿الْهَوَى﴾ : ميل النفس إلى الشيء ورغبتها فيه.
﴿تَلْوُوا﴾ : أي: ألسنتكم باللفظ تحريفاً له حتى لا تتم الشهادة على وجهها.
﴿تُعْرِضُوا﴾ : تتركوا الشهادة أو بعض كلماتها ليبطل الحكم.
معنى الآيات:
قوله تعالى في هذه الآية (١٣٥) :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ أي: بالعدل ﴿شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ إذ بشهادتكم ينتقل الحق من شخص إلى آخر حيث أقامكم الله ربكم شهداء له في الأرض تؤدى بواسطتكم الحقوق إلى أهلها، وبناء على هذا فأقيموا الشهادة لله ولو شهادتكم على أنفسكم١ أو والديكم أو أقرب الناس إليكم وسواء كان المشهود عليه غنياً أو فقيراً فلا يحملنكم غنى الغنى ولا فقر الفقير على تحريف الشهادة أو كتمانها، فالله تعالى ربهمها أولى بهما وهو يعطي ويمنع بشهادتكم فأقيموها وحسبكم ذلك واعلموا أنكم إن تلووا٢ ألسنتكم بالشهادة تحريفاً لها وخروجاً بها عن أداء ما يترتب عليها أو تعرضوا عنها فتتركوها أو تتركوا بعض كلماتها فيفسد معناها ويبطل مفعولها فإن الله بعملكم ذلك وبغيره خبير وسوف يجزيكم به فيعاقبكم في الدنيا أو في الآخرة ألا فاحذروا.
هذه الآية الكريمة يدخل فيها دخولاً أولياً من شهدوا لأبناء أبيرق بالإسلام والصلاح كما هي
١ القاعدة العامة منذ عهد بعيد: أن القريب لا يشهد لقريبه، ولكن يشهد عليه. فلا يشهد الأب لابنه، ولا الابن لأبيه، لوجود تهمة المحاباة للقرابة، وكذا لا يجوز شهادة على عدوه، وهذا مذهب عامة الفقهاء، وحتى الخادم في البيت لا يجوز شهادته لأهل البيت، إذ قد يحابيهم لمنفعته.
٢ وفسر ابن عباس: ﴿تلووا﴾ بقوله: هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر، فللي على هذا هو مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي عليه، ويشهد لهذا الحديث: "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته". ولا تنافي بين تفسير ابن عباس وما ذكرناه في التفسير.
555
خطاب للمؤمنين إلى يوم القيامة وهي أعظم آية في هذا الباب فليتق الله المؤمنون في شهاداتهم.
أما الآية الثانية (١٣٦) :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ﴾ فهي في خطاب أهل الكتاب خاصة وفي سائر المؤمنين عامة، فالمؤمنون تدعوهم إلى تقوية إيمانهم ليبلغوا فيه مستوى اليقين، أما أهل الكتاب فهي دعوة لهم للإيمان الصحيح، لأن إيمانهم الذي هم عليه غير سليم، فلذا دعوا إلى الإيمان الصحيح فقيل لهم: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ محمد ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ وهو القرآن الكريم، ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ وهو التوراة والإنجيل، لأن اليهود لا يؤمنون بالإنجيل، ثم أخبرهم محذراً لهم أن ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ﴾ طريق الهدى والسعادة ﴿ضَلالا بَعِيداً﴾ لا ترجى هدايته، وعليه فسوف يهلك ويخسر خسراناً أبدياً.
ثم أخبرهم تعالى في الآية بعد هذه (١٣٧) مقرراً الحكم بالخسران الذي تضمنته الآية قبلها فقال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا١﴾ بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتابه وبما جاء به ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ﴾ أي: لم يكن في سنة الله أن يغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً ينجون به ويسعدون فيه ألا فليحذر اليهود والنصارى هذا وليذكروه، وإلا فالخلود في نار جهنم لازم لهم ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب العدل في القضاء والشهادة.
٢- حرمة شهادة الزور وحرمة التخلي٢ عن الشهادة لمن تعينت عليه.
٣- وجوب الاستمرار على الإيمان وتقويته حتى الموت عليه.
٤- بيان أركان الإيمان وهي الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر٣.
١ في هذه الآية: أن الكافر إذا آمن غفر له كفره، وإذا ارتد يؤاخذ بكفره الأول والأخير سواء. وشاهده حديث مسلم: إذ قال أناس: يا رسول الله أتأخذنا بما عملنا في الجاهلية. قال: "أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء –كفر- أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام ". وفي رواية: "ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخير".
٢ شاهده من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" قلنا بلى يا رسول الله. قال: "الشرك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، وقال: "ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور" وما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. أو كما قال.
٣ وبقي ركن: وهو القضاء والقدر، جاء ذكره في قوله تعالى من سورة القمر: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾.
556
٥- المرتد يستتاب ثلاثة أيام وإلا قتل كفراً أخذاً من قوله: ﴿ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾.
﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ : البشارة: الخير الذي تتأثر به بشرة من يلقى عليه خيراً كان أو شراً. والمنافق: من يبطن الكفر ويظهر الإيمان تقية ليحفظ دمه وماله.
﴿أَوْلِيَاءَ﴾ : يوالونهم محبة ونصرة لهم على المؤمنين.
﴿الْعِزَّةَ﴾ : الغلبة والمنعة.
﴿وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ : يذكونها استخفافاً بها وإنكاراً وجحوداً لها.
﴿يَخُوضُوا﴾ : يتكلموا في موضوع آخر من موضوعات الكلام.
﴿مِثْلُهُمْ﴾ : أي: في الكفر والإثم.
﴿يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ : ينتظرون متى يحصل لكم انهزام أو إنكسار: فيعلنون عن كفرهم.
﴿نَصِيبٌ﴾ : أي: من النصر وعبر عنه بالنصيب القليل لأن انتصارهم على المؤمنين نادر.
557
﴿نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ : أي: نستول عليكم ونمنعكم من المؤمنين إن قاتلوكم.
﴿سَبِيلاً﴾ : أي: طريقاً إلى إذلالهم واستعبادهم والتسلط عليهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ يأمر الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخبر المنافقين بلفظ البشارة؛ لأن المخبر به يسوء وجوههم وهو العذاب الأليم، وقد يكون في الدنيا بالذل والمهانة والقتل، وأما في الآخرة فهو أسوأ العذاب وأشده، وهو لازم لهم لخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم، ثم وصفهم تعالى بأخس صفاتهم وشرها فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ١ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فيعطون محبتهم ونصرتهم وولاءهم للكافرين ويمنعون ذلك المؤمنين وذلك لأن قلوبهم كافرة آثمة لم يدخلها إيمان ولم يُنرها عمل الإسلام، ثم وبخهم تعالى ناعياً عليهم جهلهم فقال: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ أي: يطلبون العزة، أي: المنعة والغلبة من الكافرين أجهلوا أم عموا فلم يعرفوا أن ﴿الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ فمن أعزه الله عز ومن أذله ذل، والعزة تطلب الإيمان وصالح الأعمال لا بالكفر والشر والفساد. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (١٣٨) والثانية (١٣٩).
أما الآية الرابعة (١٤٠) فإن الله تعالى يؤدب المؤمنين فيذكرهم بما أنزل عليهم في سورة الأنعام حيث نهاهم عن مجالسة أهل الباطل إذا خاضوا في الطعن في آيات الله ودينه فقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ هذا الأدب أخذ الله تعالى به رسوله والمؤمنين، وهم في مكة قبل الهجرة لأن سورة الأنعام مكية ولما هاجروا إلى المدينة، وبدأ النفاق وأصبح للمنافقين مجالس خاصة ينتقدون فيها المؤمنين ويخوضون فيها في آيات الله تعالى استهزاء وسخرية ذكر الله تعالى المؤمنين بما أنزل عليهم في مكة فقال: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ٢ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ٣ حَتَّى
١ في الآية دليل على حرمة موالاة الكافرين وأنها من صفات المنافقين، ومن مظاهر الموالاة المحرمة الاستعانة بهم على أمور الدين وعلى أذية المسلمين. وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحق به مشرك ليقاتل معه، فقال له: "ارجع فإنا لا نستعين بمشرك". في الصحيح.
٢ أوقع السماع على الآيات، والمراد سماع الكفر، والاستهزاء بها، كما يقال: سمعت فلانًا يلام، أي: سمعت اللوم فيه.
٣ قوله: {في حديث غيره﴾ أي: في غير الكفر والاستهزاء بالآيات.
558
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً} أي: إذا رضيتم بالجلوس معهم، وهم يخوضون في آيات الله ﴿مِثْلُهُمْ﴾ في الإثم والجريمة١، والجزاء أيضاً، ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾ فهل ترضون أن تكونوا معهم في جهنم، وإن قلتم لا إذا فلا تجالسوهم. ثم ذكر تعالى وصفاً آخر للمنافقين يحمل التنفير منهم والكراهية والبغض لهم فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ أي: ينتظرون بكم الدوائر ويتحينون الفرص ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ﴾ أي: نصر وغنيمة قالوا: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ فأشركونا في الغنيمة، ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ في النصر، قالوا لهم: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ٢ عَلَيْكُمْ﴾ أي: نستول عليكم ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أن يقاتلوكم، فأعطونا مما غنمتم، وهكذا المنافقون يمسكون العصا من الوسط، فأي جانب غلب كانوا معه. ألا لعنة الله على المنافقين وما على المؤمنين إلا الصبر لأن مشكلة المنافقين عويصة الحل، فالله يحكم بينهم يوم القيامة. أما الكافرون الظاهرون فلن يجعل الله تعالى لهم على المؤمنين سبيلاً لا لاستئصالهم وإبادتهم، ولا لاذلالهم والتسلط عليهم ما داموا مؤمنين صادقين في إيمانهم٣. وهذا ما ختم الله تعالى به الآية الكريمة إذ قال: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
٢- الباعث للناس على اتخاذ الكافرين أولياء هو الرغبة في العزة ورفع المذلة وهذا باطل، فالعزة لله ولا تطلب إلا منه تعالى بالإيمان واتباع منهجه.
٣- حرمة مجالسة أهل الباطل إذا كانوا يخوضون في آيات الله نقداً واستهزاء وسخرية.
٤- الرضا بالكفر كفر، والرضا بالإثم إثم.
٥- تكفل الله تعالى بعزة المؤمنين الصادقين ومنعتهم فلا يسلط عليهم أعداءه
١ في الآية دليل على حرمة الجلوس في مجالس المعاصي وغشيان الذنوب إلى أن ينكر ذلك على أصحابها؛ لأن الرضا بالمعصية معيصية، بل الرضا بالكفر كفر بالإجماع. ويدخل في هذا مجالس أرباب الأهواء وأصحاب البدع، والآية محكمة لا نسخ فيها.
٢ أصل الاستحواذ: الحوط، يقال: حاذه يحذه حوذًا، إذ أحاطه، فمعنى: استحوذ: أحاط واستولى وغلب.
٣ يشهد لهذا حديث مسلم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني سألت ربي ألا يهلكها –أي: أمته- بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضاً". وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾.
559
فيستأصلونهم، أو يذلونهم ويتحكمون فيهم.
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿يُخَادِعُونَ اللهَ﴾ : بإظهارهم ما يحب وهو الإيمان والطاعات، وإخفائهم الكفر والمعاصي.
﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ : بالستر عليهم وعدم فضيحتهم، وبعدم إنزال العقوبة بهم.
﴿يُرَاؤُونَ﴾ : أي: يظهرون الطاعات للمؤمنين كأنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين.
﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ : أي: يترددون بين المؤمنين والكافرين فأي جانب عز كانوا معه.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى أن المنافقين في سلوكهم الخاص يخادعون الله تعالى بإظهارهم الإيمان به وبرسوله وهم غير مؤمنين إذ الخداع أن تري من تخادعه ما يحبه منك وتستر عليه ما يكرهه والله تعالى عاملهم بالمثل فهو تعالى أراهم ما يحبونه وستر عليهم ما يكرهونه منه وهو العذاب١ المعد لهم عاجلاً أو آجلاً، كما أخبر تعالى إذا قاموا إلى أداء الصلاة قاموا كسالى٢ متباطئين؛ لأنهم لا يؤمنون بالثواب الأخروي، فلذا هم يراءون بالأعمال الصالحة المؤمنين حتى لا يتهمونهم بالكفر، كما أنهم لا يذكرون الله تعالى إلا ذكراً قليلاً في الصلاة٣ وخارج الصلاة،
١ قال الحسن البصري في الآية: يعطي كل إنسان من مؤمن ومنافق نورًا يوم القيامة، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا فإذا جاءوا إلى السراط طفأ نور كل منافق. فسر به قوله تعالى: ﴿وَهوَ خَادعهم﴾، وما ذكرناه في التفسير أولى، وإن كان هذا حاصل لقوله تعالى: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾.
٢ شاهده من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "إن أثقل صلاة على المنافقين العتمة –العشاء- والصبح"؛ لأن الصلاة تقعان في الظلام، ولأن العتمة يكون المرء فيها تعبًا مرهقًا من أعمال النهار، وأما الصبح فإن غلبة النوم أشد على العبد، ولولا الخوف من السيف ما شاهدوا الصلاتين.
٣ روى مالك في الموطأ: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تلك صلاة المنافقين –ثلاثًا- يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان أو على قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود ". صححه الترمذي.
وذلك لعدم إيمانهم بالله تعالى وعدم حبهم له كما أخبر عنهم بأنهم مذبذبون بين الكفر والإيمان والمؤمنين والكافرين فلا إلى الإيمان والمؤمنين يسكنون، ولا إلى الكفر والمنافقين يسكنون فهم في تردد وحسرة دائمون، وهذه حال من يضله الله فإن من يضلل الله لا يوجد لهدايته سبيل.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- بيان صفات المنافقين١.
٢- قبح الرياء وذم المرائين.
٣- ذم ترك الذكر والتقليل منه لأمر الله تعالى بالإكثار منه في قوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾.
٤- ذم الحيرة والتردد في الأمور كلها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا (١٤٥) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً (١٤٧) ﴾
شرح الكلمات:
﴿سُلْطَاناً مُبِيناً﴾ : حجة واضحة لتعذيبكم.
١ وفي صحيح مسلم وصف بحال المنافقين في تذبذبهم وحيرتهم، إذ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مثل المنافق؛ كمثل الشاة العائرة –المترددة بين قطيعين من الغنم- بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى".
561
﴿الدَّرْكِ الأَسْفَلِ﴾ : الدرك: كالطابق، والدركة كالدرجة.
﴿وَأَصْلَحُوا﴾ : ما كانوا قد أفسدوه من العقائد والأعمال.
﴿وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ﴾ : تمسكوا بدينه وتوكلوا عليه.
﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ : تخلوا عن النفاق والشرك.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في إرشاد الله تعالى المؤمنين إلى ما يعزهم ويكملهم ويسعدهم ففي هذه الآية (١٤٤) يناديهم تعالى بعنوان الإيمان، وهو الروح الذي به الحياة وينهاهم عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ومعنى اتخاذهم أولياء موادتهم ومناصرتهم والثقة فيهم والركون إليهم والتعاون معهم، ولما كان الأمر ذا خطورة كاملة عليهم هددهم تعالى بقوله: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً١﴾ فيتخلى عنكم ويسلط عليكم أعداءه الكافرين فيستأصلوكم، أو يقهروكم ويستذلوكم ويتحكموا فيكم. ثم حذرهم من النفاق أن يتسرب إلى قلوبهم فأسمعهم حكمه العادل في المنافقين الذين هم رؤوس الفتنة بينهم فقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ٢ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾، فأسفل طبقة في جهنم هي مأوى المنافقين يوم٣ القيامة، ولن يوجد لهم ولي ولا نصير أبداً ثم رحمة بعباده تبارك وتعالى يفتح باب التوبة للمنافقين على مصراعيه ويقوله لهم: ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا﴾ إلى ربهم فآمنوا به وبرسوله حق الإيمان ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أعمالهم ﴿وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ﴾ ونفضوا أيديهم من أيدي الكافرين، ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ فلم يبقوا يراءون أحداً بأعمالهم. فأولئك الذين ارتفعوا إلى هذا المستوى من الكمال هم مع المؤمنين جزاؤهم واحد، وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً وهو كرامة الدنيا وسعادة الآخرة.
١ قال القرطبي في تفسيره: ﴿سلطاناً مبينًا﴾ أي: في تعذيبه إياكم وبإقامة الحجة عليكم إذ قد نهاكم.
٢ الدرك بالإسكان والفتح، والنار سبع دركات، يقال فيمن تعالى وارتفع: درجة، وفيما سفل ونزل: دركة. والدركات: هي كالتالي: جهنم، ثم لظي، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد تسمى جميعها باسم الطبقة الأولى: جهنم.
٣ روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: أن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون تصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾، وقال في أصحاب المائدة: ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ﴾، وقال في آل فرعون: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾.
562
وأخيراً في الآية (١٤٧) يقرر تعالى غناه عن خلقه وتنزهه عن الرغبة في حب الانتقام فإن عبده مهما جنى وأساء، وكفر وظلم إذا تاب وأصلح فآمن وشكر. لا يعذبه أدنى عذاب إذا لا حاجة إلى تعذيب عباده فقال عز وجل هو يخاطب عباده ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾ لا يضيع المعروف عنده. لقد شكر لبغي١ سفيهاً كلباً عطشان فغفر لها وأدخلها الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
٢- إذا عصى المؤمنون ربهم فاتخذوا الكافرين أولياء سلط الله عليهم أعداءهم فساموهم الخسف.
٣- التوبة تجب ما قبلها حتى إن التائب من ذنبه كمن لا ذنب له ومهما كان الذنب الذي غشيه.
٤- لا يعذب الله تعالى المؤمن الشاكر لا في الدنيا ولا في الآخرة، فالإيمان والشكر أمان الإنسان.
١ هذا مقتبس من حديث الصحيحين، ونصه: روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له" والشاهد في فضل الشكر والإيمان.
563
الجزء السادس
﴿لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً (١٤٩) ﴾
شرح الكلمات:
﴿بِالسُّوءِ١﴾ : ما يسوء إلى من قيل فيه أو فعل به.
﴿سَمِيعاً عَلِيماً﴾ : سميعاً للأقوال عليماً بالأعمال.
﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ : تظهروا ولا تخفوا.
﴿تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ : أي: لا تؤاخذوا به.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء، ولازم هذا أن عباده المؤمنين يجب أن يكرهوا ما يكره ربهم ويحبوا ما يحب وهذا شرط الولاية وهي الموافقة وعدم المخالفة، ولما حرم تعالى على عباده الجهر بالسوء بأبلغ عبارة وأجمل أسلوب، استثنى المظلوم فإن له أن يجهر٢ بمظلمته لدى الحاكم ليرفع عنه الظلم فقال تعالى: ﴿لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ٣ الْقَوْلِ إِلا مَنْ٤ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ –"وما زال"- سَمِيعاً عَلِيماً﴾ ألا فليتق فلا يعصى بفعل السوء ولا بقوله. ثم انتدب عباده المؤمنين إلى فعل الخير في السر أو العلن، وإلى العفو عن صاحب السوء فقال: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ٥ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً﴾ فسيكسب فاعل الخير خيراً أبداه أو أخفاه وسيعفو عن صاحب العفو حينما تزل قدمه فيجني بيده أو بلسانه ما يستوجب به المؤاخذة فيشكر الله تعالى له عفوه السابق فيعفو عنه ﴿كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً﴾.
١ كاللسب والشتم والغيبة والنميمة، والدعاء بالشر، وألفاظ البذاءة وكلمات الفحش.
٢ روى ابن جرير عن مجاهد أن رجلاً استضاف قومًا، فلم يضيفوه، أي: طلب منهم أن يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه، فنزلت هذه الآية: ﴿لا يُحِبُّ... ﴾ إلخ. ودلت على إن إطعام الضيف وإيواءه ليلة واجب، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليلة الضيف واجبة". رواه أحمد.
٣ ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾ في محل نصب على الحال.
٤ في الآية دليل على جواز الدعاء على الظالم ممن ظلمه، وجواز رد الشتم والسب بمثله إلا أن ترك ذلك أفضل.
٥ شاهده من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "ما نقص مال من صدقة، ولا زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه".
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- حرمة الجهر بالسوء والسر به كذلك فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينطق بما يسوء إلى القلوب والنفوس إلا في حالة الشكوى وإظهار الظلم لا غير.
٢- استحباب فعل الخير وسره كجهره لا ينقص أجره بالجهر ولا يزيد بالسر.
٣- استحباب العفو عن المؤمن إذا بدا منه سوء، ومن يعف يعف الله عنه.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢) ﴾ ١
شرح الكلمات:
﴿وَرُسُلِهِ﴾ : الرسل: جمع رسول وهم جم غفير، قيل: عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً٢.
﴿سَبِيلاً﴾ : أي: طريقاً بين الكفر والإيمان، وليس ثم إلا طريق واحد وهو الإيمان أو الكفر فمن آمن بكل الرسل فهو المؤمن، ومن آمن بالبعض وكفر بالبعض فهو الكافر كمن لم يؤمن بأحد منهم.
١ المناسبة بين هذه الآيات وما سبقها ينظر إليها من حيث أن القرآن كتاب هداية للبشرية، فلذا لما ذكر حال المنافقين مبيناً لهم طريق توبتهم إن أرادوا ذلك ذكر بعض بيان حكم حرمة النطق بالسوء سرًا وجهرًا إلا ما رخص فيه ذكر حال اليهود والنصارى مبينًا كفرهم، وما أعد لهم من العذاب إن أصروا على كفرهم وضلالهم.
٢ جاء ذكر هذا العدد في حديث أبي ذر الغفاري، إذ قال فيه: "قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء، وكم كانوا المرسلون؟ قال: كانت الأنبياء مائة ألف نبي، وأربعة وعشرون ألف نبي. وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر". والحديث ضعيف. ولما لم يوجد غيره قال به أهل العلم قديمًا وحديثًا.
565
﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا﴾ : كما فرق اليهود فأمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكما فرق النصارى آمنوا بموسى وعيسى وكفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم لذلك كفار.
﴿أُجُورَهُمْ﴾ : أجر إيمانهم برسل الله وعملهم الصالح، وهو الجنة دار النعيم.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مقرراً حكمه على اليهود والنصارى بالكفر الحق الذي لا مرية فيه، فيقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ١ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أي: بين الكفر بالبعض والإيمان بالبعض سبيلاً، أي: طريقاً يتوصلون به إلى مذهب باطل فاسد وهو التخير بين رسل الله فمن شاءوا الإيمان به آمنوا، ومن لم يشاءوا الإيمان به كفروا به ولم يؤمنوا وبهذا كفروا كفراً لا ريب فيه، ولهم بذلك العذاب المهين الذي يهانون به ويذلون جزاء كبريائهم وسوء فعالهم، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً﴾ ٢ فسجل عليهم الكفر ثلاث مرات: فالمرة الأولى بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾. والثانية: بقوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً﴾. والثالثة، بقوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً﴾ حيث لم يقل واعتدنا لهم فأظهر في موضع الإضمار لتسجيل الكفر عليهم وللإشارة إلى علة الحكم، وهي الكفر.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥١)، أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا ٣ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ فإنها مقابلة في ألفاظها ومدلولها للآية قبلها، فالأولى تضمنت الحكم بالكفر على اليهود والنصارى، وبالعذاب المهين لهم، والثانية تضمنت الحكم بإيمان المسلمين بالنعيم المقيم لهم وهو ما وعدهم به ربهم بقوله: لهم ذنوبهم ورحمهم بأن أدخلهم دار كرامته في جملة أوليائه. ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾. فغفر لهم ذنوبهم ورحمهم بأن أدخلهم دار كرامته في جملة أوليائه.
١ نسبهم تعالى إلى الكفر به؛ لأن إيمانهم بالله تعالى باطل، وذلك أن اليهود يصفون الله تعالى بصفات المحدثين، ونسبوا إليه الولد، وكثير من صفات تنزه الله عنها. وأن النصارى يكفيهم كفرًا قولهم: أن الله ثالث ثلاثة وهو الكفر بعينه، حسبهم بعد ذلك كفرهم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما جاء به.
٢ توعدوا بالعذاب المهين مقابل ما كانوا يرتكبونه من إهانة المؤمنين وإذلالهم، والجزاء من جنس العمل: و ﴿حقًا﴾ في الآية: منصوب على المصدرية، أي: حقه لهم أيها السامع حقًا.
٣ هذا أسلوب القرآن الكريم، فإنه بعد أن ذكر الكافرين حقًا، وبين جزاءهم ذكر المؤمنين حقًا وبين جزاءهم، وهذا أسلوب الترغيب والترهيب الذي عليه مدار الهداية والإصلاح بإذن الله تعالى.
566
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- تقرير كفر اليهود والنصارى لفساد عقيدتهم وبطلان أعمالهم.
٢- كفر من كذب بالله ورسوله ولو في شيء واحد مما وجب الإيمان به.
٣- بطلان إيمان من يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض.
٤- صحة الدين الإسلامي وبطلان اليهودية١ والنصرانية حيث أوعد تعالى اليهود والنصارى بالعذاب المهين، ووعد المؤمنين بتوفية أجورهم والمغفرة والرحمة لهم.
﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (١٥٤) ﴾
شرح الكلمات:
﴿جَهْرَةً﴾ : عياناً نشاهده ونراه بأبصارنا.
﴿الصَّاعِقَةُ﴾ : صوت حاد ورجفة عنيفة صعقوا بها.
﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ : بسبب ظلمهم بطلبهم ما لا ينبغي.
﴿اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ : أي: إلهاً فعبدوه.
﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ : أي: لم يؤاخذهم به.
﴿سُلْطَاناً مُبِيناً﴾ : حجة واضحة وقدرة كاملة قهر بها أعداءه.
١ وسائر الأديان؛ كالمجوسية والصابئة وغيرهما من سائر الملل والنحل، إذا لا دين حق إلا الإسلام. قال الإسلام تعالى: ﴿إنَّ الدِين عِندَ الله الإسلام﴾.
567
﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ : أي: جبل الطور بسيناء.
﴿ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً﴾ : أي: راكعون متواضعين خاشعين لله شكراً لنعمه عليهم.
﴿لا تَعْدُوا١﴾ : لا تعتدوا، أي: لا تتجاوزوا ما حد لكم فيه من ترك العمل إلى العمل فيه.
﴿مِيثَاقاً غَلِيظاً﴾ : عهداً مؤكداً بالأيمان.
معنى الآيتين:
لما نعى الرب تعالى على أهل الكتاب قولهم نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض حيث آمن اليهود بموسى وكفروا بعيسى وآمن النصارى بعيسى وكفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما كفر به اليهود أيضاً ذكر تعالى لرسوله أن اليهود إذا سألوك أن تنزل عليهم٢ كتاباً من السماء فلا تعجب من قولهم، ولا تحفل به إذ هذه سننهم وهذا دأبهم، فإنهم قد سألوا موسى قبلك أعظم من هذا، فقالوا له: أرنا الله جهرة، فأغضبوا الله تعالى، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون واتخذوا العجل إلهاً يعبدونه في غياب موسى عليهم، وكان ذلك منهم بعد مشاهداتهم البينات حيث فلق الله لهم البحر وأنجاهم وأغرق عدوهم ومع هذا فقد عفا الله عنهم، وآتى نبيهم سلطاناً مبيناً، ولم يؤثر ذلك في طباعهم هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٣) وهي قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً٣ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ٤ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ٥ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً﴾. أما الآية الثانية (١٥٤) فقد أخبر تعالى أنه رفع فوقهم الطور تهديداً لهم ووعيداً وذلك ما امتنعوا أن يتعهدوا بالعمل بما في التوراة، فلما رفع الجبل فوقهم خافوا فتعهدوا معطين بذلك ميثاقاً غير أنهم نقضوه كما سيأتي الإخبار بذلك. هذا
١ قرأ ورش: ﴿لا تعدّوا﴾ بتشديد الدال وهو إدغام التاء في الدال لتقاربهما في المخرج، والأصل: لا تعتدوا من الاعتداء الذي هو العدوان.
٢ ذكر القرطبي بغير إسناد أن اليهود سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصعد إلى السماء وهم يرونه، فينزل عليهم كتابًا مكتوبًا فيما يدعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالألواح تعنتًا منهم فأنزل الله تعالى الآية.
٣ ﴿جَهْرَة﴾ نعت لمصدر محذوف تقديره: رؤية جهرة، ويصح أن يكون حالا، أي: مجاهرة بلا حجاب ساتر.
٤ ﴿بِظلمهم﴾ : الباء سببية، أي: سبب ظلمهم، وليس المراد من ظلمهم طلب رؤية الله تعالى. إذ هذا طلبه موسى أيضاً، ولكن ظلمهم: كونهم اشترطوا لإيمانهم بموسى حتى يريهم الله جهرة.
٥ العطف بثم هنا: هو للتراخي الرتبي لا لإفادة الترتيب الزمني، إذ اتخاذهم العجل كان قبل طلبهم رؤية الله جهرة، إذ المراد من البينات التي جاءتهم انفلاق البحر، وقبله آية العصا، وغيرها من التسع آيات التي أتى الله موسى عليه السلام.
568
معنى قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً﴾ كان هذا عندما دخل يوشع بن نون فتى موسى مدينة القدس فاتحاً أوحى الله تعالى إليه أن يأمر بني إسرائيل أن يدخلوا باب المدينة خاضعين متطامنين شكراً لله تعالى على نعمة الفتح فبدل أن يطيعوا ويدخلوا الباب راكعين متطامنين دخلوه زحفاً على استاهم مكراً وعناداً والعياذ بالله. وقوله: ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ أي: ونهيناهم عن الصيد في السبت فتعدوا نهينا وصادوا عصياناً وتمرداً، وقوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً﴾ أي: على أن يعملوا بما شرعنا لهم تحليلاً وتحريماً في التوراة، ومع هذا فقد عصوا وتمردوا وفسقوا، إذاً فلا غرابة في سؤالهم إياك على رسالتك وليؤمنوا بك أتنزل عليهم كتاباً من السماء. هذا معنى قوله تعالى في الآية (١٥٤) ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ أي: لا تتجاوزا ما أحللنا لكم إلى ما حرمنا عليكم ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً١﴾.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- تعنت أهل الكتاب إزاء الدعوة الإسلامية وكفرهم بها على علم إنها دعوة حق.
٢- بيان قبائح اليهود وخبثهم الملازم لهم طوال حياتهم.
٣- نفض اليهود للعهود والمواثيق أصبح طبعاً لهم لا يفارقهم أبداً، ولذا وجب عدم الثقة في عهودهم ومواثيقهم.
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ
١ كل ما ذكر في هذه الآيات هو تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخفيفاً على نفسه، مما يلاقي من تعنت اليهود، وصلفهم، وقساوة قلوبهم ومعاملاتهم.
569
اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) }
شرح الكلمات:
﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ : الباء سببية: أي: فبسبب نقضهم ميثاقهم، والنقض: الحل بعد الإبرام.
﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ : أي: بدون موجب لقتلهم، ولا موجب لقتل الأنبياء قط.
﴿غُلْفٌ١﴾ : جمع أغلف، وهو ما عليه غلاف يمنعه من وصول المعرفة والعلم إليه.
﴿بُهْتَاناً عَظِيماً﴾ : البهتان: الكذب الذي يحير من قبل فيه، والمراد هنا رميهم لها بالزنى.
﴿وَمَا صَلَبُوهُ﴾ : أيك لم يصلبوه، والصلب شده على خشبة وقتله عليها.
﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ : أي: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن عند حضور الموت أن عيسى عبد الله ورسوله فما هو ابن زنى ولا ساحر كما يقول اليهود، ولا هو الله ولا ابن الله كما يقول النصارى.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن اليهود وبيان الجرائم التي كانت سبباً في لعنهم وذلهم، وغضب الله تعالى عليهم، وهذا تعداد تلك الجرائم الواردة في الآيات الثلاث الأولى في هذا السياق وهي: (١٥٥-١٥٦-١٥٧).
١ ﴿غُلْف﴾ : قد يكون جمع غلاف، ومعناه حينئذ: أن قلوبهم أوعية للعلم فلا حاجة بهم إلى علم سوى ما عندهم ولا منافاة بين المعنيين في النهر وأيسر التفاسير.
570
١- نقضهم العهود والمواثيق وخاصة عهدهم بالعمل بها في التوراة.
٢- كفرهم بآيات الله والمنزلة على عبد الله عيسى ورسوله والمنزلة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٣- قتلهم الأنبياء؛ كزكريا ويحي وغيرهم وهو كثير في عهود متباينة.
٤- قولهم قلوبنا غلف حتى لا يقبلوا دعوة الإسلام، وما أراد الرسول إعلامهم به وكذبهم الله تعالى في هذه الدعوى، وأخبر أن لا أغطية على قلوبهم، ولكن طبع الله تعالى عليها بسبب ذنوبهم فران عليها الران فمنعها من قبول الحق اعتقاداً وقولاً وعملاً، هذا ما تضمنته الآية الأولى، وهي قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ والباء سببية والميم صلة والأصل، فبنقضهم، أي: بسبب نقضهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم. ﴿فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً﴾ أي: إيماناً قليلاً؛ كلإيمانهم بموسى وهارون والتوراة والزبور مثلاً.
٥- كفرهم: أي: بعيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً.
٦- قولهم على مريم بهتاناً عظيماً١ حيث رموها بالفاحشة، وقالوا عيسى ابن مريم ابن زنى لعنهم الله.
٧- قولهم متبجحين متفاخرين أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وهو رسول الله، وأكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي: برحل آخر ظنوه أنه هو فصلبوه وقتلوه، وأما المسيح فقد رفعه الله تعالى إليه وهو عنده في السماء كما قال تعالى في الآية (١٥٨) ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ أي: غالباً على أمره حكيماً في فعله وتدبيره.
وأما قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾، هذا إخبار من الله تعالى بحقيقة أخرى وهي أن الذين طوقوا منزل المسيح وهجموا عليه ليلقوا عليه القبض من أجل أن يقتلوه هؤلاء اختلفوا٢ في هل الرجل الذي ألقي عليه شبه عيسى هو عيسى أو غيره إنهم لم يجزموا أبداً بأن من ألقوا عليه القبض وأخرجوه فصلبوه وقتلوه هو المسيح عليه السلام، ولذا قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ٣ يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللهُ
١ البهتان العظيم الذي قالوه على مريم، هو: رميهم لها بالزنى مع يوسف النجار، وهو عبد صالح.
٢ ذكر القرطبي للاختلاف عدة وجوه، كلها سائغة، وما ذكرناه في التفسير أولى، من بين الوجوه قولهم: إن كان صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟.
٣ ما زال الخلاف قائمًا إلى اليوم، فالجمهور منهم يقولون: صلب عيسى وقتل وبعد ثلاثة أيام رفع. وخلاف الجمهور يقولون: لم يصلب عيسى ولم يقتل.
571
إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} ١.
أما الآية الأخيرة في هذا السياق (١٥٩) فإن الله تعالى أخبر أنه ما من يهودي ولا نصراني يحضره الموت ويكون في انقطاع عن الدنيا إلا آمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، وليس هو ابن زنى ولا ساحر كما يعتقد اليهود، ولا هو الله ولا ابن الله كما يعتقد النصارى، ولكن هذا الإيمان لا نيفع صاحبه لأن حصل عند معاينة الموت قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾ هذا ما دلت عليه الآية الكريمة: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ أي: يشهد على كفرهم به وبما جاءهم به، ووصاهم عليه من الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودين الحق الذي جاء به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان جرائم اليهود.
٢- بطلان اعتقاد النصارى في أن عيسى صلب وقتل، أما اليهود فإنهم وإن لم يقتلوا عيسى فهم مؤاخذون على قصدهم حيث صلبوا وقتلوا من ظنوه أنه عيسى عليه السلام.
٣- تقرير رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ونزوله في آخر أيام الدنيا.
٤- الإيمان؛ كالتوبة عند معاينة ملك الموت لا تنفع ولا تقبل وجودها كعدمها.
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (١٦١) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
١ عزة الله يتنافى معها تسلط اليهود على عبده ورسوله عليسى وقتلهم له وحكمته تتجلى في رفعه إليه وإنزاله آخر أيام الدنيا.
572
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) }
شرح الكلمات:
﴿فَبِظُلْمٍ﴾ : الباء سببية، أي: فبسبب ظلمهم.
﴿هَادُوا﴾ : اليهود إذ قالوا: أنا هدنا إليك.
﴿طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ : هي كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم.
﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبا﴾ : قبوله والتعامل به وأكله.
﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ : أصحاب القدم الثابتة في معرفة الله وشرائعه ممن علومهم راسخة في نفوسهم ليست لنيات بل هي يقينات.
معنى الآيات:
ما زال السياق في اليهود من أهل الكتاب يبين جرائمهم ويكشف الستار عن عظائم ذنوبهم، ففي الآية الأولى (١٦٠) سجل عليهم الظلم العظيم والذي به استوجبوا عقاب الله تعالى حيث حرم عليهم طيبات كثيرة كانت حلالاً لهم، كما سجل عليهم أقبح الجرائم، وهي صدهم أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله تعالى، وذلك بجحودهم الحق وتحريفهم كلام الله، وقبولهم الرشوة في إبطال الأحكام الشرعية. هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الثانية (١٦١) فقد تضمنت تسجيل جرائم أخرى على اليهود وهي أولاً استباحتهم للربا١ وهو حرام، وقد نهوا عنه، وثانياً أكلهم أموال الناس بالباطل؛ كالرشوة والفتاوى الباطلة التي كانوا يأكلون بها. وأما قوله تعالى في ختام الآية: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ فهو زيادة على عاقبهم به في الدنيا أعد لمن كفر منهم ومات على كفره عذاباً أليماً موجعاً يعذبون به يوم القيامة. وأما الآية الثالثة (١٦٢) فقد نزلت في عبد الله بن سلام وبعض العلماء من يهود المدينة فذكر تعالى؛ كالاستثناء من أولئك الموصوفين بأقبح الصفات وهي صفات جرائم
١ أورد القرطبي هنا سؤالاً وهو مع علمنا: أن اليهود يأكلون الربا والسحت وجميع ما حرم الله تعالى، فهل يجوز التعامل معهم؟ وأجاب بالجواز استدلالاً بقول الله تعالى: ﴿وطَعامْ الذين أُوتوا الكِتَاب حلاً لَكُمْ﴾ وبتعامل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم، فقد رهن درعه عند يهودي.
573
اكتسبوها، وعظائم من الذنوب اقترفوها لجهلهم وعمى بصائرهم. إن الراسخين١ في العلم الثابتين فيه الذين علومهم الشرعية يقينية لا ظنية هؤلاء شأنهم في النجاة من العذاب والفوز بالنعيم في دار السلام شأن المؤمنين من هذه الأمة يؤمنون بما أنزل إليك أيها الرسول وما أنزل من قبلك، وخاصة المقيمين٢ للصلاة، وكذا المؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر هؤلاء جميعاً وعدهم الله تعالى بالأجر العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- المعاصي تورث الحرمان من خير الدنيا والآخرة.
٢- حرمة الصد عن الإسلام ولو بالسلوك الشائن والمعاملة الباطلة.
٣- حرمة الربا وأنه موجب للعقوبة في الدنيا والآخرة.
٤- حرمة أكل أموال الناس بالباطل؛ كالسرقة والغش والرشوة.
٥- من أهل الكتاب صلحاء ربانيون وذلك؛ كعبد الله بن سلام وآخرين.
٦- الرسوخ في العلم يأمن صاحبه الزلات والوقوع في المهلكات.
٧- فضل إقام الصلاة لنصب والمقيمي الصلاة في الآية على المدح والتخصيص.
﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ
١ روي أنه لما نزلت آية: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا﴾ الآية. قالت يهود منكرة ما أخبر به تعالى عنهم: أن هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا، فنزل: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾، وهم: عبد الله بن سلام، وأحبار اليهود المسلمون.
٢ قرأه الجمهور بنصب المقيمين على المدح، أي: وأمدح المقيمين، أو أعني المقيمين. والنصب على المدح جائز في كلام فصحاء العرب وبلغائهم، ومن ذلك قول شاعرهم:
574
مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) }
شرح الكلمات:
﴿إِنَّا١ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ : الوحي٢: الإعلام السريع الخفي، ووحي الله تعالى إلى أنبيائه: إعلامهم بما يريد أن يعلمهم به من أمور الدين وغيره.
﴿وَالأَسْبَاطِ﴾ : أولاد يعقوب عليه السلام.
﴿زَبُوراً٣﴾ : الزبور: أحد الكتب الإلهية أنزله على نبيه داود عليه السلام.
﴿قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ﴾ : ورد منهم في سورة الأنعام ثمانية عشر رسولاً وسبعة ذكروا في سور أخرى وهم: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو، وشعيب، وصالح، وذو الكفل، وإدريس، وآدم.
﴿حُجَّةٌ﴾ : عذر يعتذر به إلى ربهم عز وجل.
معنى الآيات:
روى أن اليهود لما سمعوا ما أنزل الله تعالى فيهم في الأية السابقة أنكروا أن يكون هذا وحيا، وقالوا لم يوح الله تعالى إلى غير موسى فرد الله تعالى قولهم بقوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ٤ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ فذكر عدداً من الأنبياء، ثم قال: ورسلاً، أي: وأرسلنا رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل، أي: قص عليه أسماءهم وبعض٥ ما جرى لهم مع أممهم وهم
١ هذا التوقيت بأن تطلبه إنكار اليهود الوحي إلى نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما تطلبه بهذا الخبر العظيم.
٢ الوحي: مصدر وحى يحي وحيًا؛ كرمى يرمي رميًا إليه بكذا أعلمه، وأوحى يوحي إيحاء إليه بكذا أعلمه به بطريق خفي.
٣ في قوله تعالى: ﴿وآتينا داود زبورا﴾ وهي جملة معطوفة على جملة: ﴿إنّا أَوْحَينَا إِليِك﴾ إشارة إلى أن الزبور كتاب، وهو كذلك. إذ هو أحد الكتب الأربعة، ولو لم يرد ذلك لعطف اسمه على من سبقه فقط، كأن يقول: وهارن وسليمان وداود.
٤ قدم نوح في الذكر باعتباره أول رسول حارب الشرك، إذ لم يظهر الشرك على عهد من سبقه؛ كإدريس وشيث من قبله، فلما ظهر الشرك أرسل الله تعالى نوحًا عليه السلام، وهو نوح بن لمك بن متوشلخ، بن أخنوخ.
٥ قوله: ﴿قَصَصناهم عَليك مِنْ قَبْل﴾ يعني في القرآن الكريم، وهم: هود وصالح وشعيب ويحي وإلياس واليسع ولوط.
575
يبلغون دعوة ربهم، وأرسل رسلاً لم يقصصهم عليه، وفوق ذلك أنه كلم موسى تكليماً، فأسمعه كلاماً بلا واسطة، فكيف ينكر اليهود ذلك ويزعمون أنه ما أنزل الله على بشر من شيء، وقد أرسلهم تعالى رسلاً مبشرين من آمن وعمل صالحاً بالجنة، ومنذرين من كفر وأشرك وعمل سوء بالنار وما فعل ذلك إلا لقطع حجة الناس يوم القيامة حتى لا يقولوا ربنا ما أرسلت إلينا رسولاً هذا معنى قوله تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ أي: بعد إرسالهم، ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً﴾ غالباً لا يمانع في شيء أراده ﴿حَكِيماً﴾ في أفعاله وتدبيره، هذا بعض ما تضمنته الآيات الثلاث (١٦٣-١٦٤-١٦٥)، أما الآية الرابعة (١٦٦) وهي قوله تعالى: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً﴾.
فقد روي أن يهوداً جمعهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبلغهم أنه رسول الله صدقاً وحقاً ودعاهم إلى الإيمان وبما جاء به من الدين الحق فقالوا: من يشهد لك بالرسالة إذ كانت الأنبياء توجد في وقت واحد فيشهد بعضهم لبعض، وأنت من يشهد لك فأنزل الله تعالى قوله: ﴿لَكِنِ١ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ يريد إنزال الكتاب إليك شهادة منه لك بالنبوة والرسالة، أنزله بعلمه بأنك أهل للاصطفاء والإرسال، وبكل ما تحتاج إليه البشرية في إكمالها وإسعادها، إذ حوى أعظم تشريع تعجز البشرية لو اجتمعت أن تأتي بمثله، أليس هذا كافياً في الشهادة لك بالنبوة والرسالة، بلى، والملائكة أيضاً يشهدون ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً﴾ فلا تطلب شهادة بعد شهادته تعالى لو كانوا يعقلون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير مبدأ الوحي الإلهي.
٢- أول الرسل٢ نوح عليه السلام وآخرهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
١ توضيح هذا الاستدراك الذي هو رفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه هو إذا رفض اليهود الشهادة لك بالرسالة وطالبوا من يشهد لك. فالله يشهد لك بما أنزله إليك، والملائكة يشهدون كذلك.
٢ ذكر صاحب تفسير التحرير والتنوير: الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى، عند تفسير هذه الآية تاريخ المذكورين من الرسل نقلاً عن أهل الكتاب قطعًا فللإطلاع لا غير. نذكر ذلك كما ذكره، وأما علم صحته فهو إلى الله تعالى لا غير: نوح عليه السلام ولد سنة ٣٩٧٤ قبل الهجرة النبوية. وإبراهيم توفى ببلدة الخليل سنة ٢٧١٩ قبل الهجرة. وإسماعيل توفى بمكة سنة ٢٦٧٦ قبل الهجرة تقريبا. وإسحاق بن إبراهيم توفى سنة ٢٦١٣ قبل الهجرة. ويعقوب إسرائيل توفى سنة ٢٥٨٦ قبل الهجرة. وعيسى بن مريم ولد سنة ٦٢٢ قبل الهجرة، ورفع إلى السماء قبلها سنة ٥٨٩. وأيوب كان بعد إبراهيم وقبل موسى في القرن الخامس عشر قبل المسيح. وهارون توفى سنة ١٩٧٢ قبل الهجرة. وداود توفى سنة ١٦٢٦ قبل الهجرة. وسليمان توفى سنة ١٥٩٧ قبل الهجرة.
576
٣- إثبات صفة الكلام لله تعالى.
٤- بيان الحكمة في إرسال الرسل، وهي الحجة على الناس يوم القيامة.
٥- شهادة الرب تبارك وتعالى والملائكة بنبوة خاتم الأنبياء ورسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٦- ما حواه القرآن من تشريع وما ضمه بين دفتيه من معارف وعلوم أكبر شهادة للنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنبوة والرسالة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿كَفَرُوا وَصَدُّوا﴾ : كفروا: جحدوا بنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصدوا: صرفوا الناس عن الإيمان به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يبذرون من بذور الشك.
﴿كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾ : جحدوا نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وظلموا ببقائهم على جحودهم بغياً منهم وحسداً للعرب أن يكون فيهم رسول يخرجهم من الظلمات إلى النور.
﴿الرَّسُولُ﴾ : هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكامل في رسالته الصادق في دعوته.
﴿فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ﴾ : أي يكون إيمانكم خيراً لكم.
معنى الآيات:
بعد أن أقام الله تعالى الحجة على رسالة نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشهادته له بالرسالة وشهادة ملائكته، وشهادة القرآن لما فيه من العلوم والمعارف الإلهية بعد هذا أخبر تعالى أن الذين
577
كفروا وصدوا عن سبيل١ الله وهم اليهود٢ قد ضلوا ضلالاً بعيداً قد يتعذر معه الرجوع إلى الحق، وهذا ما تضمنته الآية الأولى (١٦٧) كما أخبر في الآية الثانية (١٦٨) أن الذين كفروا وظلموا هم أيضاً اليهود لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً، اللهم إلا طريق جهنم، وهذا قائم على سنته في خلقه وهي أن المرء إذا كفر كفر عناد وجحود وأضاف إلى الكفر الظلم لم يبق له أي استعداد لقبول الهداية الإلهية، لم يبق له من طريق يرجى له سلوكه إلا طريق جهنم يخلد فيها خلوداً أبدياً، وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً﴾ في ختام الآية يقرر فيه أن دخول أصحاب هذه الصفات من اليهود جهنم وخلودهم فيها ليس بالأمر الصعب على الله المتعذر عليه فعله بل هو من السهل اليسير، أما الآية الأخيرة (١٧٠) فهي تتضمن إعلاناً إليهاً موجهاً إلى الناس كافة مشركين وأهل كتاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ٣﴾ الكامل الخاتم جاءكم بالدين الحق من ربكم فآمنوا بخ خيراً لكم، وإن أبيتم وأعرضتم إيثاراً للشر على الخير والضلال على الهدى فاعلموا أن لله ما في السموات٤ والأرض خلقاً وملكاً وتصرفاً وسيجزيكم بما اخترتم من الكفر والضلال جهنم وساءت مصيراً فإنه عليم بمن استجاب لندائه فآمن وأطاع، وبمن أعرض فكفر وعصى حكيم في وضع الجزاء في موضعه اللائق به. فلا يجزي المحسن بالسوء، ولا المسيء بالإحسان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- شر الكفر ما كان مع الصد عن سبيل اله والظلم، وهذا كفر اليهود، العياذ بالله.
٢- سنة الله تعالى في أن العبد إذا أبعد في الضلال، وتوغل في الشر والفساد يتعذر عليه التوبة فيموت على ذلك ويهلك.
١ صدوا عن سبيل الله بقولهم: إنا لا نجد صفة محمد في كتابنا وإنما النبوة في ولد هارون وداود، وأن في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ.
٢ اللفظ يتناول اليهود أولاً ويعم كل من كفر بالله ورسوله وصد عن سبيله الذي هو الإسلام.
٣ التعريف في الرسول للعهد، إذ هو معهود بين المخاطبين معروف لهم، وكونه للعهد لا ينافي ما ذكر في التفسير من أنه الكامل في رسالته؛ كأنه فرد فيها لا نظير له.
٤ إنه لم يدعكم إلى الإيمان لحاجة به إنه عزيز إنه سبحانه وتعالى يملك الكائنات كلها حيها وميتها ظاهرها وباطنها ويتصرف يها كما يشاء وهو الغني الحميد.
578
٣- الرسالة المحمدية عامة لسار الناس أبيضهم وأصفرهم.
إثبات صفتي العلم والحكمة لله تعالى. وبموجبهما يتم الجزاء العادل الرحيم.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (١٧٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ : المراد بهم١ هنا: النصارى.
﴿لا تَغْلُوا٢ فِي دِينِكُمْ﴾ : الغلو: تجاوز الحد للشيء، فعيسى عليه السلام عبد الله ورسوله فغلوا فيه فقالوا هو الله.
١ النصارى غلوا في عيسى فتجاوزوا حد الإفراط حيث ألهوه، أي: جعلوه إلهًا وعبدوه، واليهود غلوا في التفريط في عيسى، إذ قالوا: ساحر وابن زنا والعياذ بالله.
٢ الغلو مشتق من غلوة السهم، وهي منتهى اندفاعه، ويطلق الغلو في الشرع على الزيادة على المطلوب في الاعتقاد والقول والعمل.
579
﴿الْمَسِيحُ﴾ : هو عيسى عليه السلام ولقب بالمسيح لأنه ممسوح من الذنوب، أي: لا ذنب له قط.
﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا﴾ : أي: قول الله تعالى له ﴿كن﴾ فكان –ألقاها إلى مريم: أوصلها لها وأبلغها إياها وهي قول الملائكة لها إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم.
﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ : أي: عيسى كان بنفخة جبريل روح الله في كم درعها.
﴿وَكِيلاً﴾ : حفيظاً وشاهداً عليماً.
﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ﴾ : لا يرفض عبوديته لله تعالى أنفة وكبراً.
﴿وَيَسْتَكْبِرْ﴾ : يرى نفسه كبيرة فوق ما طلب منه أن يقوله أو يفعله إعجاباً وغروراً.
﴿وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾ : أي: لا يجدون يوم القيامة ولياً يتولى الدفاع عنهم ولا نصيراً ينصرهم حتى لا يدخلوا النار ويعذبوا فيها.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع أهل الكتاب، ففي الآية الأولى (١٧١) نادى الرب تبارك وتعالى النصارى بلقب الكتاب الذي هو الإنجيل ونهاهم عن الغلو في دينهم من التنطع والتكلف؛ كالترهب واعتزال النساء وما إلى ذلك من البدع التي حمل عليها الغلو، كما نهاهم عن قولهم على الله تبارك وتعالى غير الحق، وذلك بنسبة الولد إليه تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وأخبرهم بأن عيسى لم يكن١ أبداً غير رسول الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم٢، حيث بعث إليها جبريل فبشرها بأن الله تعالى قد يهبها غلاماً زكياً، ونفخ وهو روح الله في كم درعها فكان عيسى بكلمة التكوين وهي ﴿كن﴾ وبسبب تلك النفخة من روح الله جبريل عليه السلام فلم يكن عيسى الله ولا ابن الله فارجعوا إلى الحق وآمنوا بالله ورسله جبريل وعيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تقولوا زوراً وباطلاً: الله ثالث ثلاثة آلهة٣. انتهوا عن القول الكذب يكن
١ لأن: إنما أداة قصر فمن هنا قصر عيسى عليه السلام على ثلاث صفات، وهي: الرسالة، والكلمة، والروح، أي: هو لم يكون غير رسول الله وكلمته وروح منه، والقصر إضافي كما هو ظاهر.
٢ لم يذكر الله تعالى امرأة في القرآن باسمها العلم سوى مريم، إذ ذكرها في القرآن في نحو من ثلاثين موضعًا، وسر هذا أن العرب يتحاشون أن يذكروا أسماء نساؤهم إنما يكنون عنهن بالعرس والأهل والعائلة. وأما الإماء فيذكرونهن بأسماؤهن، لذا ذكر تعالى مريم وهي أمته باسمها العلم ثلاثين مرة.
٣ قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد من التثليث: الله تعالى وصاحبته وابنه. والأقانيم عند بعضهم هي: الأب والابن وروح القدس. وعند بعضهم هو: الوجود والحياة والعلم.
580
انتهاؤكم خيراً لكم حالاً ومآلاً، إنما الله سبحانه وتعالى إله واحد له ولا ند ولا ولد. سبحانه تنزه وعلا وجل وعظم أن يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة، ولم يكن ذا حاجة وله ما في السموات وما في الأرض خلقاً وملكاً وحكماً وتدبيراً، وكفى به سبحانه وتعالى وكيلاً شاهداً عليماً فحسبكم الله تعالى رباً وإلهاً فإنه يكفيكم كل ما يهمكم فلا تلتفتون إلى غيره ولا تطلبون سواه.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٧١)، وأما الآيتان الثانية (١٧٢) والثالثة (١٧٣) فقد أخبر تعالى أن عبده ورسوله المسيح عليه السلام لن يستنكف أبداً أن يعبد الله وينسب إليه بعنوان العبودية فيقال عبد الله ورسوله، حتى الملائكة المقربون منهم فضلاً عن غيرهم لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى وعن لقب العبودية فهم عباد الله وملائكته، ثم توعد تعالي كل من يستنكف عن عبادته عنها من سائر الناس بأنه سيحشرهم جميعاً ويحاسبهم على أعمالهم فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات آمنوا بألوهيته تعالى وحده وعبدوه وحده بما شرع لهم من أنواع العبادات وهي الأعمال الصالحة فهؤلاء يوفيهم أجورهم كاملة ويزيدهم من فضله الحسنة بعشر أمثالها، وقد يضاعف إلى سبعمائة ضعف. وأما الذين استنكفوا واستكبروا، أي: حملتهم الأنفة والكبر على عدم قبول الحق والرجوع إليه فأصروا على الاعتقاد الباطل والعمل الفاسد فيعذبهم تعالى عذاباً أليماً، أي: موجعاً لا يجدون لهم من دونه ولياً ولا ناصراً فينتهي أمرهم إلى عذاب الخلد جزاء بما كانوا يعملون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة الغلو في الدين إذ هي من الأسباب الموجبة للابتداع١ والضلال.
٢- حرمة القول على الله تعالى بدون علم مطلقاً والقول عليه بغير الحق بصورة خاصة.
٣- بيان المعتقد الحق في عيسى٢ عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله كان بكلمة الله ونفخة
١ قال مطرف بن عبيد الله: والعدل حسنة بين سيئتين: الأولى: الإفراط. والثانية: التفريط. فالغلو: إفراط. والتقصير: تفريط. كلاهما مذموم. قال الشاعر:
وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم إلا نميرًا أطاعت أمر غاويها
وأوف ولا تستوف حقك كله وسامح فلم يستوف قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
٢ ذكر القرطبي عند تفسير هذه الآية قصة طويلة في سب فساد دين المسيح عليه السلام، وأن الذي أفسده هو بولس اليهودي ولعنا نذكرها في تفسير آية المائدة: ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ إن شاء الله تعالى.
581
جبريل١ عليه السلام.
٤- حرمة الاستنكاف عن الحق والاستكبار عن قبوله.
٥- بيان الجزاء الأخروي وهو إما نعيم وإما جحيم.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) ﴾
شرح الكلمات:
﴿بُرْهَانٌ﴾ : البرهان: الحجة، والمراد به هنا: محمد٢ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿نُوراً مُبِيناً﴾ : هو القرآن الكريم.
﴿وَاعْتَصَمُوا﴾ : أي: تمسكوا بالقرآن وبما يحمله من الشرائع.
﴿فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ﴾ : الجنة.
﴿صِرَاطاً﴾ : طريقاً يفضي بهم إلى جوار ربهم في دار الكرامة.
معنى الآيتين:
ينادي٣ الرب تبارك وتعالى سائر الناس مشركين ويهود ونصارى مخبراً إياهم قاطعاً للحجة عليهم بأنه أرسل إليهم رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو البرهان الساطع والدليل القاطع على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته ووجوب الإيمان به وبرسله ولزوم عبادته بطاعته وطاعة رسوله وأنه أنزل عليه كتابه شافياً كافياً هادياً نوراً مبيناً يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجه من الظلمات إلى النور. بهذا قد أعذر الله تعالى إلى الناس كافة وقطع عليهم كل معذرة
١ قال أبي بن كعب رضي الله عنه: "خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام، فلما أراد خلقه أرسل ملك الروح إلى مريم فكان منه عيسى. فلذا قال: ﴿ورُوح مِنه﴾ ". هذا الأثر أحسن ما يقال في قوله تعالى: ﴿ورُوح مِنه﴾ ".
٢ هذا الذي قرره ابن جرير وأن البرهان في هذه الآية هو: النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٣ هذا النداء وما بعده؛ كالفذلكة لما تقدم من دعوة أهل الكتابين إلى الدخول في الإسلام لإقامة الحجة على الجميع. إذ وجه نداءه العام لكل البشر، وهو يتناول أهل الكتابين والمشركين وغيرهم لإقامة الحجة على الجميع.
وحجة ثم هم صنفان مؤمن وكافر، فالذين آمنوا بالله رباً وإلها وبرسوله نبياً ورسولاً واعتصموا بالقرآن فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وصدقوا أنباءه والتزموا آدابه فهؤلاء سيدخلهم في رحمة١ منه وفضل وذلك بأن ينجيهم من النار ويدخهلم الجنان، وذلك هو الفوز العظيم كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾. وأما الذين كفروا به وبرسوله وكتابه فمصيرهم معروف وجزاءهم معلوم فلا حاجة إلى ذكره: إنه الحرمان والخسران.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الدعوة الإسلامية دعوة عامة فهي للأبيض والأصفر على حد سواء.
٢- إطلاق لفظ البرهان على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه بأميته وكماله الذي لا مطمع لبشري أن يساميه فيه برهان على وجود الله وعلمه ورحمته.
٣- القرآن نور لما يحصل به من الإهتداء إلى سبيل النجاة وطرق السعادة والكمال.
ثمن السعادة ودخول الجنة الإيمان بالله ورسوله ولقائه والعمل الصالح وهو التمسك بالكتاب والسنة المعبر عنه بالاعتصام.
﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦) ﴾
شرح الكلمات:
﴿يَسْتَفْتُونَكَ٢﴾ : يطلبون فتياك في كذا.
١ الرحمة: الجنة بعد النجاة من النار. والفضل: ما ينعم به عليهم في دار السلام، وأعظمه النظر إلى وجه الكريم، وقوله تعالى: ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً﴾ أي: يهديهم إلى ما يصل بهم إلى رضاه وجواره، وهو: الإسلام، وذلك بأن يثبتهم عليه حتى الموت.
٢ روي أن هذه الآية وتسمى آية الكلالة نزلت في آخر ما نزل، وسبب نزولها: أن جابر بن عبد الله مرض فعاداه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبي بكر فأغمى على عبد الله فتوضأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم صب عليه من فضل وضوءه فأفاق، فقال يا رسول الله: كيف أقضي في مالي؟ وكان له تسع أخوات، فلم يرد عليه شيئاً حتى نزلت هذه الآية.
583
﴿يُفْتِيكُمْ﴾ : يبين لكم ما أشكل عليكم من أمر الملائكة.
﴿الْكَلالَةِ﴾ : أن يهلك الرجل ولا يترك ولداً ولا يترك ولد ولد، وإنما يترك أخاً أو أختاً.
الحظ: النصيب.
﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾ : كيلا تضلوا، أي: تخطئوا في قسمة التركة.
معنى الآية الكريمة:
هذه الآية تسمى آية الكلالة١، وآيات المواريث أربع: الأولى في شأن الولد والوالد: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ٢﴾. والثانية: في شأن الزوج والزوجة: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ إلخ... وفي شأن الإخوة لأم: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ إلخ.. وهاتان الآيتان تقدمتا في أول سورة النساء. والثالثة، هي هذه: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ إلخ.. وهي في شأن ميراث الأخوة والأخوات عند موت أحدهم ولم يترك ولداً ولا ولد ولد.. وهو معنى الكلالة. والرابعة: في آخر سورة الأنفال وهي في شأن ذوي الأرحام، وهي قوله تعالى: ﴿وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾.
وهذه الآية نزلت عند سؤال بعض الصحابة رضي الله عنهم عن الكلالة، فقال تعالى: يسألونك أيها الرسول عن الكلالة. قل للسائلين: ﴿اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ﴾، وهذه فتواه: إن هلك امرؤ ذكراً كان أو أنثى، وليس له ولد ولا ولد ولد وله أخت شقيقة أو لأب فلها نصف ما ترك، وهو يرثها أيضاً إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد. فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء، أي: ذكوراً وإناثاً فللذكر مثل حظ الأنثيين وبعد أن بين تعالى كيف يورث من مات كلالة قال مبيناً حكمة هذا البيان: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي: كيلا٣ تضلوا في قسمة التركات فتخطئوا الحق وتجوروا في قسمة أموالكم. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ٤﴾ فلا
١ وتسمى آية الصيف لأنها نزلت في زمن الصيف، وقال عمر رضي الله عنه: "إني والله لا أدع شيئاً أهم إليّ من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن في جنبي أو صدري وقال: "يا عمر ألا تكفيك آية الصيف.
٢ الجمهور ما عدا ابن عباس والظاهرية على أن الأخوات عصبة مع البنات، فلو هلك هالك وترك أختًا له وبنتا فإن المال بينهما نصفين، وإن ترك ثلاثًا فالمال بينهما أثلاثًا، وهكذا الأخوات عصبة مع البنات. قضى بهذا معاذ رضي الله عنه.
٣ بعضهم يقدر كراهة أن تضلوا، ولما كان الحذف لازمًا للتخفيف فتقدير: كيلا، أفضل من لفظ: الكراهة. وهو ما ذكرته في التفسير ولم أذكر غيره.
٤ من جملة الأشياء العليم بها: أحوالكم، وما تتطلبه حياتكم في الدنيا والآخرة، وهذا يقتضي الثقة والطمأنينة فيما شرع لكم وتنفيذه في إخلاص وحسن أداء.
584
يجهل شيئاً ولا يخفى عليه آخر، وكيف وقد أحاط بكل شيء علما سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآية
من هداية الآية الكريمة:
١- جواز١ سؤال من لا يعلم من يعلم للحصول على العلم المطلوب له.
٢- إثبات وجود الله تعالى عليماً قديراً سميعاً بصيراً، وتقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ سؤال الأصحاب وإجابة الرب تعالى بواسطة وحيه المنزل على رسوله يقرر ذلك ويثبته.
٣- بيان قسمة تركة من يورث كلالة من رجل أو امرأة؛ فالأخت الواحدة لها من أخيها نصف ما ترك، والاختان لهما الثلثان، والأخوة مع الأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين، والأخ يرث أخته إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد، والإخوة والأخوات يرثون أختهم للذكر مثل حظ الأنثيين إذا لم تترك ولداً ولا ولد ولد.
١ بل الواجب أن يسأل كل من لا يعلم حتى يعلم لقول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾.
585
سورة المائدة٢
مدنية
وآياتها مائة وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ
٢ سورة المائة من آخر ما نزل من السور في القرآن وأحكامها كلها محكمة ما عدا قوله تعالى: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ... ﴾ الآية. وهو قول الشعبي رحمه الله تعالى، وفيها أحكام لم توجد في غيرها من السور، من ذلك حكم: المنخنقة، وما بعدها ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب﴾، والوضوء، وحكم السرقة.
585
Icon