تفسير سورة الزخرف

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الزخرف
آياتها تسع وثمانون وهي مكية

﴿ حم { ١ ﴾ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿ ٢ ﴾ } أي القرآن الذي هو مبين أي مظهر بإعجازه طريق الهدى من الضلالة فإنه يقتضي الإيمان به والإيمان به يوجب العلم بما يحتاج إليه الناس من الشرائع المثمرة للفلاح في الدنيا والآخرة، الواو للقسم أو للعطف إن كان حم مقسما به وجواب القسم ﴿ إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ﴾
﴿ إنا جعلناه ﴾ أي ذلك الكتاب ﴿ قرآنا عربيا ﴾ أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآنا عربيا وهو من البدائع لتناسب المقسم به والمقسم عليه كقول أبي تمام، وثناك أنها أعريض ولعل إقسام الله تعالى بالأشياء استشهاد بما فيها من الدلالة عليه ﴿ لعلكم ﴾ أي لكي ﴿ تعقلون ﴾ أي صيرناها مقروءا بلغتكم لتفهموا معانيه وإلا فالقرآن من صفاته تعالى غير مخلوق
﴿ وإنه ﴾ أي القرآن عطف على إنا ﴿ في أم الكتاب ﴾ أي اللوح المحفوظ فإنه أصل كل كتاب لقوله تعالى ﴿ بل هو قرآن مجيد ٢١ في لوح محفوظ ٢٢ ﴾١ قال ابن عباس أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب بما يريد أن يخلق فالكتاب عنده ثم قرأ وإنه في أم الكتاب ﴿ لدينا ﴾ أي عندنا عندية وقربا غير متكيف ولا مكاني، قيل تقديره محفوظا لدينا من التغير ﴿ لعلي ﴾ رفيع شأنه من أن يدركه أحد أو رفيع شأنه في الكتب السماوية لكونه معجزا من بينها، قال المجدد للألف الثاني رضي الله عنه القرآن في سائر الكتب السماوية بمنزلة المركز من الدائرة يرى كذلك بنظر الكشف فالمركز أصل وإجمال للدائرة بل هو أفضل وأوسع من تمام الدائرة وإنما يظهر بنظر الكشف أخصر لكونه أرفع وأبعد من الناظر كما أن القمر يظهر للناظر مركزا لدائرة الهالة مع كونه أوسع منها ﴿ حكيم ﴾ ذو حكمة بالغة أو محكم لا ينسخه غيره وهما خبران لأن وفي أم الكتاب متعلق بعلي واللام لا يمنعه أو ظرف مستقر حال منه، ولدينا بدل منه أو حال من أم الكتاب أو من المستكن في قوله في أم الكتاب.
١ سورة البروج الآية ٢١-٢٢..
﴿ أفنضرب عنكم الذكر صفحا ﴾ الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقدير أنهملكم فنضرب عنكم الذكر أي القرآن يقال ضربت عنه وأضربت عنه إذا تركت وأمسكت عنه، وصفحا مصدر من غير لفظه يقال صفحت عنه إذا أعرضت عنه والترك والإبعاد إعراض أو مفعول له أو حال بمعنى صافحين وأصله أن توفي الشيء صفحة عنقك والإنكار راجع إلى الإهمال وترك الذكر وهو إنكاره يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب على لغتهم ليفهموه ويمكن أن يكون العطف على جملة أنه في أم الكتاب لعلي حكيم والإنكار راجع إلى معنى الفاء أي بعد كون القرآن كذلك فضرب عنكم الذكر ﴿ أن كنتم قوما مسرفين ﴾ قرأ نافع وحمزة والكسائي إن بكسر الهمزة على إن الجملة الشرطية مخرجة للمحق مخرج المشكوك استجهالا لهم وإشعارا بأن الإسراف أمر لا يجوز العقل إتيانه فكأنه محال مفروض والجزاء محذوف دل عليه ما قبله والمعنى إن كنتم قوما مسرفين وهو في الحقيقة علة للإعراض وأورد عليها همزة الإنكار والمعنى أفنترك عنكم الوحي ونمسك من إنزال القرآن فلا نأمركم ولا ننهاكم من أجل إسرافكم في الكفر، قال البغوي قال قتادة والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل لهذه الأمة لهلكوا ولكن الله عاد عليهم لعائدته ورحمته فكرره عليهم عشرين سنة أو ما شاء، وقال مجاهد والسدي معناه أفنعرض عنكم ونترككم فلا نعاقبكم بكفركم.
﴿ وكم أرسلنا من نبي في الأولين { ٦ ﴾ } يعني أرسلنا فيهم كثيرا من الأنبياء
﴿ وما يأتيهم ﴾ أي وما كان يأتيهم على حكاية الحال الماضية عطف أو حال ﴿ من نبي ﴾ من زائدة ونبي في محل الرفع ﴿ إلا كانوا به يستهزؤون ﴾ المستثنى المفرغ منصوب على الحال من المفعول أي الإكائنين على صفة الاستهزاء أو على أنه صفة لمصدر محذوف أي ما يأتيهم من نبي إتيانا إلا إتيانا كانوا به يستهزؤون أو على الظرف أي ما يأتيهم نبي في زمان إلا كانوا فيه يستهزؤون به كاستهزاء قومك بك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
﴿ فأهلكنا أشد منهم ﴾ أي من المسرفين يعني أهل مكة فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة أشد حال من مفعول أهلكنا المحذوف. . . . . . . تقديره فأهلكنا الأولين حال كونهم أشد من مشركي مكة ﴿ بطشا ﴾ أي قوة تميز نسبة أشد أو مفعول مطلق لأهلكنا من غير لفظه ﴿ ومضى مثل الأولين ﴾ أي سبق في القرآن قصتهم العجيبة في إهلاكهم التي حقها أن يسير مسير المثل، وفيه وعد للرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد للمستهزئين بمثل ما جرى على الأولين.
﴿ ولئن سألتهم ﴾ أي كفار مكة جواب قسم محذوف ﴿ من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ﴾ لعله لازم لقولهم أو ما دل عليه إجمالا أقيم مقامه تقديرا لإلزام الحجة عليهم فإنهم قالوا الله كما حكى عنهم في مواضع أخرى وهو الذي من صفته ما ذكر من الصفات ويجوز أن يكون هذا مقر لهم وما بعده استئناف
﴿ الذي جعل لكم الأرض مهدا ﴾ أي فراشا كالمهد للصبي ﴿ وجعل لكم فيها سبلا ﴾ يسلكونها ﴿ لعلكم تهتدون ﴾ أي لكي تهتدوا إلى مقاصدكم أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك
﴿ والذي نزل من السماء ماء بقدر ﴾ أي بمقدار ينفع ولا يضر ﴿ فأنشرنا ﴾ التفات من الغيبة إلى التكلم أي حيينا ﴿ به بلدة ميتا كذلك ﴾ أي إخراجا وإنشاء مثل ذلك الإنشاء أي إنشاء الأرض بالمطر ﴿ تخرجون ﴾ تنشرون من قبوركم أحياء أي كذلك تخرجون جملة معترضة، روى الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما بين النفختين أربعون، قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما ؟ قال أبيت، قالوا أربعون شهرا ؟ قال أبيت، قالوا أربعون عاما ؟ قال أبيت ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق )١ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن جرير عن سعيد بن جبير قال يسيل واد من أصل العرش فتنبت منه كل دابة على وجه الأرض ثم يطير الأرواح فيؤمر أن يدخل الأجساد فهو قوله تعالى :﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك ﴾ وأخرج أحمد وأبو يعلى عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يبعث الناس يوم القيامة والسماء طش عليهم ).
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: (يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا (١٨)) (٤٩٣٥)، و أخرجه مسلم في كتاب: الفتن و أشراط الساعة، باب: ما بين النفختين (٢٩٥٥)..
﴿ والذي خلق الأزواج ﴾ أي أصناف الخلائق ﴿ كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ﴾ أي ما تركبونه على تغليب المتعدى بنفسه على المتعدي بغيره إذ يقال ركبت الدابة وركبت في السفينة أو المخلوق للركوب على المصنوع له أو الغالب على النادر ولذلك قال ﴿ لتستووا على ظهوره ثمّ تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الّذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين ١٣ ﴾
﴿ لتستووا على ظهوره ﴾ أي ظهور ما تركبون وجمعه للمعنى ﴿ ثم تذكروا ﴾ بقلوبكم ﴿ نعمة ربكم إذا استويتم عليه ﴾ بتمليك المركب في البر والبحر وتسخيرها ﴿ وتقولوا ﴾ بألسنتكم حامدين على النعمة ﴿ سبحان ﴾ أي أسبح سبحان ﴿ الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ﴾ مطيقين من أقرن الشيء إذا أطاقه وأصله وجده قرينه إذ الصعب لا يكون قرينا للضعيف جملة ﴿ وما كنا له مقرنين ﴾ حال من هذه أو من ضمير لنا.
جملة ﴿ وما كنا له مقرنين ﴾ حال من هذه أو من ضمير لنا ﴿ وإنا إلى ربنا لمنقلبون { ١٤ ﴾ أي راجعون، وجه اتصاله بما سبق أن الركوب للنقل والنقلة العظمى هو الإنقلاب إلى الله أو لأنه مخطر فينبغي أن لا يغفل عنه ويستعد للقاء الله هذه الجملة حال آخر، روى أبو داود والترمذي والنسائي والبغوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوي قال الحمد لله ثم قال ﴿ سبحان الله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ﴾ ثم حمد الله ثلاثا وكبر ثلاثا ثم قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك فقيل له ما يضحكك يا أمير المؤمنين ؟ قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت وقال مثل ما قلت ثم ضحك، فقلنا ما يضحكك يا نبي الله ؟ قال :( عجبت لعبد إذا قال لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )١، قوله ﴿ الذي جعل لكم الأرض ﴾ مع ما عطف عليه من الموصولات ومع صلاتها صفات للعزيز العليم وعلى تقدير الاستئناف أخبار لمبتدأ محذوف أو مفعول لأعني.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: ما جاء ما يقول إذا ركب الناقة (٣٤٤٦). و أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: ما يقول الرجل إذا ركب (٢٦٠٠)..
﴿ وجعلوا له من عباده جزءا ﴾ أي وصفوه بأن له جزءا معطوف على قوله ﴿ ولئن سألتهم ﴾ وجه اتصاله به أن بين الكلامين تناقض فإنهم بعدما اعترفوا أنه خالق السماوات والأرض وصفوه بأن له جزء وما يتجزى يستحيل أن يكون واجبا ويستحيل أن يكون خالقا، والمراد به قولهم الملائكة بنات الله إذ لاشك أن الولد ما يخلق من نطفة الوالد والنطفة جزء منه ولذلك سمي الولد جزء أو بضعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني " ١ رواه البخاري عن المسور بن مخرمة وعند أحمد والحاكم بلفظ ( فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها ويبسطني ما يبسطها وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وصهري ) ﴿ إن الإنسان لكفور ﴾ رأي جهول ﴿ مبين ﴾ ظاهر الكفران ومفرط الجهل حيث لم يعرف ما ينبغي أن يسب إلى الله سبحانه وما لا ينبغي.
١ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، باب: مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه و سلم و منقبة فاطمة عليها السلام (٣٧١٤)..
﴿ أم اتخذ ﴾ الله سبحانه ﴿ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ﴾ عطف على ما يخلق أو حال من فاعله والجملة مستأنفة مقدرة بالقول تقديره قل لهم أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين، ومن ثم جاز الخطاب وأصفاكم وإلا فهو واقع بين كلامين مسندين إلى الغيب أعني ﴿ وجعلوا له من عباده جزءا وإذا بشر أحدهم ﴾ وأم منقطعة بمعنى الهمزة للتوبيخ والإنكار والتعجب، بل للإضراب عن قولهم إن لله ولدا يعني أنهم لم يقنعوا على إن جعلوا الله جزءا حتى جعلوا له من مخلوقاته أجزاء خسيسة مما اختير لهم وأبغض الأشياء إليهم بحيث إذا بشر أحدهم بها اشتد غمهم كما قال ﴿ وإذا بشّر أحدهم بما ضرب للرّحمن مثلا ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم ﴾
﴿ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ﴾ أي بالجنس الذي جعل له مثلا إذ الولد لابد أن يماثل الوالد أو المراد بالمثل الوصف والحال والمعنى إذا بشر أحد بالوصف الذي جعل للرحمان وصفا أي كونه أما أنثى ﴿ ظل وجهه مسودا ﴾ شديد السواد من غاية الكآبة ﴿ وهو كظيم ﴾ مملوء قلبه من الكرب الجملة الشرطية بتقدير المبتدأ حال من ضميرهم في المقدر تقديره وقل لهم أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وهم إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم
﴿ أو من ينشأ في الحلية ﴾ قرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين أي يربي، والباقون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين أي ينبت ويكبر في الحلية، يعني النساء فإن حسنهن منحصر في الصورة فيتزين بالحلية ليزددن حسنهن بخلاف الرجال فإن حسنهم غالبا بالمعاني والأوصاف وذلك غير محتاج إلى الحلية، وفيه إشمام بأن النشأ في الزينة من المعايب فعلى الرجال أن يجتنبوا من ذلك ويتزينون بلباس التقوى ﴿ وهو في الخصام ﴾ أي في المحاجة باللسان وبالسنان ﴿ غير مبين ﴾ أي غير مظهر حجتهن لنقصان عقلهن وضعف أبدانهن وقلوبهن، قال قتادة ما يتكلم امرأة تريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها، من ينشأ منصوب معطوف على بنات والهمزة كررت لتأكيد الإنكار والتوبيخ والتعجيب والمغايرة وإنما هي لاختلاف الصفات والمعنى أم اتخذ من مخلوقاته بنات مغبوضات مكروهات موجبات لسواد الوجه ناشئات في الحلية ضعيفات قلبا وقالبا وعقلا، وجاز أن يكون مرفوعا مبتدأ محذوف الخبر معطوف على مبتدأ محذوف تقديره أمن كان شأنه ما ذكر ومن ينشأ في الحلية ومن هو في الخصام غير مبين ولد الله سبحانه.
﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا ﴾ قرأ نافع وابن كثير عند بالنون ساكنة وفتح الدال على الظرف والباقون بالباء المفتوحة والألف، وضم الدال على أنه جمع عبد والجملة عطف على قوله وجعلوا له من عباده جزءا يعني أنهم وصفوا الله سبحانه بما لا يليق به تعالى من أنه له ولد من خلقه، وذلك تحقير لشأنه تعالى ووصفوا الملائكة الذين هم خيار عباد الله ومقربوه قربا غير متكيف بكونهم إناثا وذلك تحقير لشأنهم ﴿ أشهدوا خلقهم ﴾ قرأ أهل المدينة أشهدوا بهمزتين الأولى للإنكار وتعليل التشنيع المذكور والثانية همزة الأفعال مضمومة مسهلة وسكون الشين على ما لم يسم فاعله وقالون من رواية أبي نشيط بخلاف عنه يدخل بين الهمزتين ألفا والباقون بهمزة واحدة مفتوحة للاستفهام وفتح الشين، والمعنى على القراءة الأولى أحضروا خلقهم وعلى الثانية حضروا خلقهم حين خلقوا إناثا ﴿ ستكتب شهادتهم ﴾ على الملائكة أنهم بنات الله ﴿ ويسألون ﴾ عنها يوم القيامة توبيخا، وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال : قال ناس من المنافقين إن الله صاهر الجن فخرجت بينهم الملائكة فنزلت فيهم ﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا ﴾ وقال البغوي قال الكلبي ومقاتل لما قال أهل مكة هذا القول سألهم النبي صلى الله عليه وسلم ما يدريكم أنهم بنات الله قالوا سمعنا من آبائنا ونحن نعلم أنهم لم يكذبوا فقال الله تعالى :﴿ ستكتب شهادتهم ويسألون ﴾ عنها في الآخرة.
﴿ وقالوا ﴾ عطف قوله وجعلوا الملائكة ﴿ ولو شاء الرحمان ﴾ أن لا نعبد الملائكة ﴿ ما عبدناهم ﴾ يعنون الملائكة قال قتادة ومقاتل والكلبي، وقال مجاهد يعنون الأوثان استدلوا بنفي مشيئة عدم العبادة على امتناع النهي أو على حسنها وذلك باطل لأن المشية يرجح بعض الممكنات على بعض مأمورا كان أو منهيا حسنا كان أو قبيحا ولذلك جهلهم فقال ﴿ ما لهم بذلك ﴾ أي بما يدعون من أنها بنات الله أو أنها راض بعبادتها ﴿ من علم ﴾ مستند إلى حس أو عقل موجب للعلم ﴿ إن هم إلا يخرصون ﴾ تأكيد لما سبق أي يقولون قولا باطلا بالظن والتخمين، أبدى الله سبحانه وجوه فساد زعمهم وحكى شبهتهم المزيفة ثم نفي أن يكون لهم ها علم من طريق الحسن أو العقل ثم أضرب عنه إلى إنكار أن يكون لهم سند من جهة النقل فقال ﴿ أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون ﴾
﴿ أم آتيناهم كتابا ﴾ أم متصلة معادلة بقوله ﴿ أشهدوا خلقهم ﴾ يعني أشهدوا وقت خلقهم أم علموا بكتاب سماوي آتيناهم ﴿ من قبله ﴾ أي من قبل القرآن أو قبل إدعائهم ينطق على صحة ما قالوه ﴿ فهم به مستمسكون ﴾ أي بذلك الكتاب عطف على قول أم أتيناهم يعني ما شهدوا خلقهم وما أتيناهم كتابا بل يتفوهون هذا القول تقليدا حيث قالوا ﴿ بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مهتدون ﴾
﴿ بل قالوا إنّا إنا وجدنا آباءنا على أمة ﴾ على دين وملة سميت أمة لأنها يؤم كالرحلة للمرحول إليه وقال مجاهد على إمام ﴿ وإنا على آثارهم مهتدون ﴾ يعني لا حجة لهم عقلية ولا نقلية وإنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة وسموا ذلك التقليد اهتداء
﴿ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال ﴾ استثناء مفرغ صفة لقرية أي إلا في قرية قال ﴿ مترفوها ﴾ أي منعموها ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم وإن مقدميهم أيضا لم يكن لهم علم مستند إلى شيء من أسباب العلم، وفي تخصيص المترفين إشعار بأن التنعم سبب للبطالة والصرف عن النظر الصحيح إلى التقليد
﴿ قال ﴾ قرأ حفص قال بصيغة الماضي على أنه خبر عما قاله النذير والباقون بصيغة الأمر حكاية لأمر ماض أوحى من قبل إلى النذير أو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤيد الأول سياق الكلام حيث قال ﴿ فانتقمنا منهم ﴾ بلفظ الماضي ﴿ أو لو جئتكم ﴾ قرأ أبو جعفر جئناكم على الجمع والباقون جئتكم على الإفراد والهمزة لاستفهام الإنكار والواو للحال تقديره أتتبعون آباءكم ولو جئتكم ﴿ بأهدى ﴾ أي بدين وطريقة أهدى ﴿ مما وجدتم عليه آباءكم قالوا ﴾ أي قال الكافرون في جواب المنذرين ﴿ إنا بما أرسلتم به ﴾ أي بما أرسلتم به أنت ومن قبلك ﴿ كافرون ﴾ وإن كان ذلك أهدى إقناطا للنذير من أن ينظروا أو يتفكروا فيه
﴿ فانتقمنا منهم ﴾ بالاستئصال ﴿ فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ وكذلك ننتقم ممن كذبك فلا تهتم بتكذيبهم.
﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء ﴾ أي بريء مصدر وضع موضع النعت مبالغة ولذا لا يثني ولا يجمع ﴿ مما تعبدون ﴾ أي من عبادتكم أو من معبودكم يعني أذكر وقت قوله ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالبرهان أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد فإنهم يعترفون به أشرف آبائهم
﴿ إلا الذي فطرني ﴾ أي خلقني استثناء منقطع أو متصل على أن يعم أولى العلم وغيرهم فإنهم كانوا يعبدون الأوثان أو صفة على أن ما موصوفة أي إنني برآء من آلهة تعبدونها غير الذي خلقني ﴿ فإنه سيهدين ﴾ أي سيثبتني على الهداية أو يرشدني فوق ما أرشدني إليه
﴿ وجعلها ﴾ أي جعل إبراهيم هذه الكلمة أي كلمة التوحيد المفهومة من قوله إنني برآء إلى سيهدين ﴿ كلمة باقية في عقبه ﴾ أي ذريته، قال قتادة لا يزال في ذريته من يعبد الله وحده وقال القرطبي جعل الله وصية إبراهيم باقية في نسله وذريته وقال ابن زيد يعني قوله ﴿ أسلمت لرب العالمين ﴾١ وقرأ ﴿ هو سماكم المسلمين ﴾٢ ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ أي أذكر قول إبراهيم لعل أهل مكة يرجعوا إلى دين إبراهيم ووصيته
١ سورة البقرة، الآية: ١٣١..
٢ سورة الحج، الآية: ٧٨..
﴿ بل متعت ﴾ إضراب عن قوله ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ ﴿ هؤلاء ﴾ يعني كفار مكة المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وآباءهم ﴾ الذين ماتوا على الشرك يعني لم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم ﴿ حتى جاءهم الحق ﴾ أي القرآن، وقال الضحاك الإسلام ﴿ ورسول مبين ﴾ أي ظاهر الرسالة بالمعجزات أو مظهر التوحيد بالحجج والآيات أو مظهر أحكام الله سبحانه
﴿ ولما جاءهم الحق ﴾ أي القرآن قالوا هذا أي القرآن ﴿ سحر ﴾ سموه سحرا لعجزهم عن معارضته ﴿ وإنا به كافرون ﴾.
أخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس قال لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنكرت العرب ذلك وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فأنزل الله تعالى :﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ﴾ وأنزل ﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ﴾ فلما كررت الآية عليهم قالوا وإن كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة وحينئذ ﴿ قالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين ﴾ أي من إحدى القريتين مكة والطائف ﴿ عظيم ﴾ بالجاه والمال فإن الرسالة من الله منصب عظيم لا يليق إلا لعظيم ولم يعلموا أنها رتبة روحانية يستدعي عظم النفس بالتجلي بالفضائل والكمالات القدسية وكما الاستعداد للتجليات الذاتية والصفاتية لا التزخرف بالزخارف الدنيوية، وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال : قال الوليد بن المغيرة لو كان ما يقول محمد حقا أنزل علي هذا القرآن وابن مسعود الثقفي فنزلت هذه الآية، وقال البغوي قال مجاهد يعنون عتبة بن ربيعة من مكة وعبد يا ليل بالطائف وقيل الوليد من مكة ومن الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي ويرى هذا عن ابن عباس قال الله تعالى ردا عليهم ﴿ أهم يقسمون رحمة ربّك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضا سخريّا ورحمة ربّك خير ممّا يجمعون ﴾
﴿ أهم يقسمون رحمة ربك ﴾ يعني النبوة استفهام إنكار فيه تجهيل وتوبيخ وتعجيب من تحكمهم ﴿ نحن قسمنا بينهم معيشتهم ﴾ أي ما به عيشهم من الأرزاق ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ تعليل للتجهيل والتوبيخ ﴿ ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ﴾ تميز عن النسبة، يعني رفعنا درجات بعضهم فوق بعض بالمال والجاه فجعلنا بعضهم غنيا وبعضهم فقيرا وبعضهم مالكا وبعضهم مملوكا ﴿ ليتخذ ﴾ متعلق برفعنا ﴿ بعضهم بعضا سخريا ﴾ مسخرا في العمل له والياء للنسبة، قال قتادة والضحاك أي يملك بعضهم بما لهم بعضا بالعبودية والملك ولا يقدر أحدهم أن يزيد في معيشته وينقص في معيشة غيره ولا أن يعترض على الله فيما فعل من القبض ﴿ ورحمة ربك ﴾ يعني النبوة وما يتبعها ﴿ خير مما يجمعون ﴾ من حطام الدنيا فإذا لم يقدر أحدهم أن يختار لنفسه الرفعة في الدنيا فأنى لهم أن يجعلوا النبوة التي هي أعلى مراتب الإنسانية حيث شاءوا والعظيم عند الله من رزق النبوة لا من يرزق متاع الدنيا والجملة عطف أو حال.
ولما كانت العظمة عند الكفار بكثرة حطام الدنيا بين الله سبحانه كون الدنيا عند الله حقيرا مبغوضا بقوله ﴿ ولولا أن يكون الناس ﴾ كلهم ﴿ أمة واحدة ﴾ يعني كفارا لحبهم الدنيا العاجلة وغفلتهم عن الأخرى الآجلة أن مع صلته مبتدأ وخبره محذوف أي حاصل وجواب لولا قوله ﴿ لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم ﴾ بدل اشتمال من قوله ﴿ لمن يكفر ﴾ أو علة كقولك وهبت له ثوبا لقميصه ﴿ سقفا ﴾ قرأ ابن كثير وأبو جعفر بفتح السين وسكون القاف على الواحد بإرادة الجنس والباقون بضم السين والقاف على الجمع للسقف مثل رهن ودهن، قال أبو عبيدة ولا ثالث لهما وقيل جمع سقيف وقيل جمع سقوفي جمع الجمع ﴿ من فضة ومعارج ﴾ أي مصاعد ودرج من فضة لم يذكر الصفة هاهنا اكتفاء بذكرها في المعطوف عليه أعني سقفا ﴿ عليها يظهرون ﴾ أي يعلون السطوح
﴿ ولبيوتهم أبوابا وسررا ﴾ جمع سرير أي وجعلنا لهم سررا من فضة
﴿ عليها يتكؤن وزخرفا ﴾ أي زينة عطف على سقف أو ذهبا كما في قوله تعالى :﴿ أو يكون لك بيت من زخرف ﴾١ فهو معطوف على محل من فضة، وذلك أي تخصيص الدنيا بالكفار لكونها مبغوضة عند الله والكافر مبغوضا فيعطى المبغوض للمبغوض.
﴿ عليها يتكؤن وزخرفا ﴾ أي زينة عطف على سقف أو ذهبا كما في قوله تعالى :﴿ أو يكون لك بيت من زخرف ﴾١ فهو معطوف على محل من فضة، وذلك أي تخصيص الدنيا بالكفار لكونها مبغوضة عند الله والكافر مبغوضا فيعطى المبغوض للمبغوض.
﴿ وإن كل ذلك ﴾ المذكورات من سقف الفضة ومعارجها وأبوابها وسررها وزخرفها ﴿ لما متاع الحياة الدنيا ﴾ قرأ عاصم وحمزة وهشام بخلاف عنه لما مشددة فإن نافية ولما بمعنى إلا والمعنى وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا لا بقاء لها ولا اعتداد لها عند الله الباقون بتخفيف لما فإن مخففة من الثقيلة واللام فارقة وما زائدة و﴿ الآخرة ﴾ أي الدار الآخرة متحققة ﴿ عند ربك ﴾ أي في علمه وقضائه ﴿ للمتقين ﴾ من الشرك والمعاصي فيه دلالة على أن العظيم هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا وإشعارا بما لأجله لم تجعل زخارف الدنيا كلها للمؤمنين وجعل بعضها لأعداء الله وذلك أنها مبغوضة لله تعالى حرية أن تجعل كلها للكافرين لولا مخافة اجتماع الناس على الكفر ولو كانت حسنة مرضية لله تعالى يعط الكافر منها شيئا.
عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء وفي رواية قطرة ماء " ١ رواه الترمذي والضياء، وعن المستورد بن شداد أحد بني فهر قال كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها ؟ فقالوا من هوانها ألقوها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها " ٢ رواه البغوي، وأخرج أبو نعيم عن داود بن هلال الضبي قال مكتوب في صحف إبراهيم عليه السلام يا دنيا ما أهونك على الأبرار الذين تزينت لهم إني قد قذفت في قلوبهم بغضك والصدود عنك ما خلقت أهون علي منك كل شأنك صغير وإلى الغنا تصير قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومي لأحد ولا يدوم لك أحد وإن بخل بك صاحبك وشح عليك طوبى للأبرار الذين أطلعوني عن قلوبهم على الرضاء وأطلعوني من ضميرهم على الصدق والاستقامة طوبى لهم ما عندي من الجزاء إذا وفدوا إلي من قبورهم يسعى إمامهم والملائكة حافون بهم حتى أبلغ بهم إلى ما يرجون من رحمتي، وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ما كان من الله عز وجل " رواه الضياء، وروى ابن ماجه عن أبي هريرة والطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن مسعود مرفوعا نحوه بلفظ " إلا ذكر الله وما والاه أو عالما أو متعلما " ٣ والبزار عن ابن مسعود نحوه بلفظ " إلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو ذكر الله " والطبراني في الكبير بسند صحيح عن أبي الدرداء مرفوعا نحوه بلفظ " إلا ما ابتغى به وجه الله عز وجل " وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له ) رواه أحمد والبيهقي بسند صحيح ورواه البيهقي عن ابن مسعود موقوفا، وعن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الدنيا سجن المؤمن وسنته فإذا فارق الدنيا فارق السجن والسنة " رواه أحمد والطبراني والحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " ٤ رواه أحمد ومسلم في الصحيح والترمذي وروى البيهقي والحاكم عن سلمان والبزار عن ابن عمر، يعني أن المؤمن وإن كان في نعيم فالدنيا بالنسبة إلى ما أعد له في الآخرة من الثواب سجن وسنة والكافر وإن كان في ضر وبلاء فالدنيا بالنسبة إلى ما أعد له في الآخرة من العذاب جنة والله أعلم.
فإذا قيل روى صاحب مسند الفردوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الدنيا حرام على أهل الآخرة والآخرة حرام على أهل الدنيا والدنيا والآخرة حرام أهل الله " ما معنى ذلك قلت معناه عندي والله أعلم أن حب الدنيا حرام على أهل الآخرة يعني على المؤمنين لا الانتفاع بمتاع الدنيا حيث قال الله تعالى :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " ٥ فمن ارتكب بحب الدنيا أضر بآخرته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى " رواه أحمد والحاكم في المستدرك بسند صحيح عن أبي موسى والآخرة يعني حظوظ الآخرة حرام على أهل الدنيا يعني من همه الدنيا لا غير يعني الكفار وفيهم قال الله تعالى :{ منهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ﴾٦ والدنيا والآخرة يعني حبهما حرام على أهل الله وهم الذين امتلأ قلوبهم من حب الله تعالى لا تلتفت قلوبهم إلى شيء من الدنيا والآخرة غير الله سبحانه، روي أن رابعة البصرية أخذت في إحدى يديها ظرفا من ماء وفي الأخرى قطعة من نار فقيل لها أين تريدين قالت أريد أن أطفأ نار جهنم وأحرق الجنة كيلا يعبد الناس الله تعالى طمعا في الجنة ولا خوفا من النار بل خالصا لوجهه تعالى، قال المجدد للألف الثاني رضي الله عنه وكان هذا مبنيا على السكر منها بل لابد للمؤمن أن يطمع في الجنة لا لنفسها بل لكونها محلا لرحمة الله تعالى ويتعوذ من النار لكونها محلا بسخط الله تعالى ولا لحق العبد جائز لما ذكرنا وطلب المعاش جائز بل فريضة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" طلب الحلال فريضة بعد الفريضة " رواه الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود فما معنى الدنيا وحبها قلت معنى حب الدنيا إيثارها على الآخرة والانهماك في اكتسابها ولذاتها بحيث يغفل عن اكتساب الثواب واجتناب العذاب والحرص على جمع المال وطول الأمل وزعم الأغنياء خير من الفقراء وتعظيم الأغنياء فوق تعظيم الفقراء لأجل غناه لا لدفع مضرة أو مكافأة إحسان أو لغير ذلك من غرض مشروع أو أن يريد علوا في الأرض أو فسادا، وأما طلب المعاش وكسب الأموال من ﴿ رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار { ٣٧ ﴾ }٧ للإنفاق على نفسه حتى يتقوى على عبادة ربه وعلى عياله أداء لحقوقهم وللإنفاق في سبيل الله فليس بمكروه بل منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ومنها ما هو مباح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما رجل كسب مالا من حلال فأطعم نفسه أوكساها فمن دونه من خلق الله كان له به زكاة " رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد ولكن المسنون الإجمال في طلب الدنيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أجملوا في طلب الدنيا فإن كلا ميسر لما خلق له " ٨ رواه ابن ماجه والحاكم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل (٢٣٢٠)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل (٢٣٢١). و أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب: مثل الدنيا (٤١١١)..
٣ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: مثل الدنيا (٤١١٢)..
٤ أخرجه مسلم في أول كتاب: الزهد و الرقائق (٢٩٥٦)، و أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر (٢٣٢٤)..
٥ سورة الأعراف، الآية: ٣٢..
٦ الآية هي: (فمن الناس من يقول). سورة البقرة، الآية: ٢٠٠..
٧ سورة النور، الآية: ٣٧..
٨ أخرجه ابن ماجه في كتاب: التجارات، باب: الاقتصاد في طلب المعيشة (٢١٤٢)، في الزوائد: في إسناده يزيد الرقاشي و الحسن بن محمد بن عثمان و إسماعيل بن مهرام..
﴿ ومن يعش عن ذكر الرحمان ﴾ أي من يعرض عن القرآن ويتعامى عنه لفرط اشتغاله باللذات وانهماكه في الشهوات يقال عشوت إلى فلان عشوا إذا قصدته مهتديا وعشوت عنه إذا أعرضت عنه كما يقال عدلت إلى فلان وعدلت عنه أي ملت إليه وعنه ورغبت فيه ورغبت عنه، قال الخليل بن أحمد أصل العشو النظر ببصر ضعيف ﴿ نقيض له شيطانا ﴾ قرأ يعقوب يقيض بالياء التحتانية على صيغة الغائب والضمير فيه راجع إلى الرحمن والباقون بالنون على التكلم والتعظيم أي نصبته له شيطانا ونضمه إليه ونسلط عليه ﴿ فهو ﴾ أي الشيطان ﴿ له قرين ﴾ لا يفارقه ويزين له السيئات ويخيل إليه أنه على الهدى
﴿ وإنهم ﴾ أي الشياطين ﴿ ليصدونهم ﴾ أي يمنعونهم جمع الضمير نظرا إلى معنى من الموصولة وهم العاشين ﴿ عن السبيل ﴾ أي سبيل الهدى جملة معترضة ﴿ ويحسبون ﴾ أي العاشون ﴿ أنهم مهتدون ﴾ أي على الهداية الجملة حال من الضمير المنصوب من ليصدونهم
﴿ حتى إذا جاءنا ﴾ غاية لحسبانهم، قرأ أهل العراق غير أبي بكر جاءنا على الإفراد يعني إذا جاء العاشي والباقون جاءنا على التثنية يعني إذا جاء العاشي وشيطانه وقد جعلا في سلسلة واحدة ﴿ قال ﴾ أي العاشي لشيطانه ﴿ يا ﴾ للتنبيه أو المنادي محذوف تقديره يا قرين ﴿ ليت بيني وبينك بعد المشرقين ﴾ أي بعد المشرق من المغرب فغلب المشرق وثنى وأضيف البعد إليهما أو المراد مشرق الصيف ومشرق الشتاء ﴿ فبئس القرين ﴾ أنت لي، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشيطان فلا يفارقه حتى يصير إلى النار
قال الله تعالى ﴿ ولن ينفعكم اليوم ﴾ أي في الآخرة ﴿ إذا ظلمتم ﴾ إذ تبين لكم أنكم أشركتم وظلمتم أنفسكم في الدنيا وإذ بدل من اليوم ﴿ أنكم في العذاب مشتركون ﴾ لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في موجبه ويجوز أن يسند الفعل إليه يعني لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في أمر صعب معاونتهم في تحمل إعيائه وتقسمهم بمكائده شدائده لأن لكل واحد منكم ومن شياطينكم الحظ الأوفى والأوفر من العذاب وجاز أن يكون جملة ﴿ ولن ينفعكم ﴾ حالا من فاعل قال يا ليتني ويكون فيها التفاتا من الغيبة إلى الخطاب.
﴿ أفأنت ﴾ يا محمد ﴿ تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال ﴾ عطف على العمى باعتبار تغاير الوصفين والاستفهام للإنكار والتعجب والفاء للعطف على محذوف تقديره أنت تريد أن تهديهم فأنت تسمع الصم يعني لست تقدر على هداية هؤلاء الكفار بعد تمرنهم على الكفر واستغراقهم في الضلال بحيث صار ظلمة الكفر عليهم غشاوة على أعينهم ووقرا في آذانهم كأنهم لا يسمعون كلامك ولا يبصرون طريقا تهديهم إليه
﴿ فإما نذهبن بك ﴾ إن شرطية اتصلت بما الزائدة المؤكدة بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة والمعنى فإن نقبضك قبل تعذيبهم ﴿ فإنا منهم منتقمون ﴾ بعدك في الدنيا وفي الآخرة علة لجزاء محذوف أقيم مقامه يعني لا تحزن ﴿ فإنا منهم منتقمون ﴾
﴿ أو نرينك ﴾ في الدنيا ﴿ الذي وعدناهم ﴾ من العذاب ﴿ فإنا عليهم مقتدرون ﴾ نحو ما ذكر يعني لا تعجب فإنا على تعذيبهم مقتدرون لا يفوتوننا نعذبهم متى شئنا والمراد به مشركو مكة انتقم الله منهم يوم بدر وهذا قول أكثر المفسرين وقال الحسن وقتادة عنى به أهل الإسلام من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نقمة شديدة فأكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذهب به ولم يره في أمته إلا الذي يقر عينه وأبقى النقمة بعده وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرى ما يصيب أمته بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله، قلت : لعل ذلك مقتل حسين عليه السلام وما فعل بعد ذلك بنو أمية، وعن عبد الرحمن بن مسعود العبدي قال قرأ علي بن أبي طالب هذه الآية فقال قد ذهب نبيه وبقيت نقمته في عدوه
﴿ فاستمسك بالذي أوحي إليك ﴾ من الوحي المتلو وغير المتلو فاحفظه وأعمل به الفاء للسببية والجملة متصلة بقوله :﴿ إنا جعلناه قرآنا عربيا ﴾١ وبينهما معترضات ﴿ إنك على صراط مستقيم ﴾ لا عوج له، هذه الجملة في مقام التعليل للأمر بالاستمساك.
١ سورة الزخرف، الآية: ٣..
﴿ وإنه ﴾ أي القرآن ﴿ لذكر لك ﴾ أي شرف لك ﴿ ولقومك ﴾ قريش الجملة حال من فاعل استمسك قال البغوي روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك لم يجب بشيء حتى نزلت هذه الآية وكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك قال لقريش، وكذا روي عن علي رضي الله عنه وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي اثنان )١ وعن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " ٢ وقال مجاهد القوم هم العرب والقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص عن العرب حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم، وقيل ذلك شرف لك بما أعطاك من الحكمة ولقومك المؤمنين بما هداهم الله ﴿ وسوف تسألون ﴾ يوم القيامة عن القرآن وعما يلزمكم من القيام بحقه جملة معترضة
١ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: مناقب قريش (٣٥٠١)، و أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: الناس تبع لقريش و الخلافة في قريش (١٨٢٠)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: مناقب قريش (٣٥٠٠)..
﴿ واسأل ﴾ عطف على فاستمسك ﴿ من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمان آلهة يعبدون ﴾ قال البغوي اختلف العلماء في هذا المسؤول ؟ قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنها أنه لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم بعث الله آدم وولده من المرسلين فأذن جبرئيل قم أقام وقال يا محمد تقدم فصل بم فلما فرغ من الصلاة قال جبرئيل سل يا محمد ﴿ من أرسلنا قبلك من رسلنا ﴾ الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أسأل قد اكتفيت، وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد قالوا جمع له الرسل ليلة أسرى به أن يسألهم فلم يشك ولم يسأل وقال أكثر المفسرين معناه وأسأل أمم من أرسلنا من قبلك وعلماء دينهم يعني مؤمني أهل الكتاب وهذا قول ابن عباس في سائر الروايات ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن والمقاتلين ويدل عليه قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب وسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعباده غير الله عز وجل.
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فقال إني رسول رب العالمين ﴾ يريد باقتصاص تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقضة قولهم :﴿ لولا نزل على رجل من القريتين عظيم ﴾١ والاستشهاد بدعوة موسى إلى التوحيد
١ سورة الزخرف، الآية: ٣١..
﴿ فلما جاءهم بآياتنا ﴾ الدالة على رسالته منها العصا واليد البيضاء ﴿ إذا هم منها يضحكون ﴾ استهزاء بها أول ما رأوها بلا تأمل فيها لما ظرف مضاف إلى جملة بعدها متعلقة بمعنى المفاجأة الذي هو عامل في إذا يعني لما جاءهم بآياتنا فوجئ وقت كونهم يضحكون وجملة فوجئ عطف على قوله ﴿ فقال إني رسول رب العالمين ﴾
﴿ وما نريهم من آية ﴾ من آيات العذاب كالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس فإنها كانت آيات على صدق موسى عليه السلام ﴿ إلا هي ﴾ أي إلا آية هي ﴿ أكبر من أختها ﴾ أي من قرينه التي كانت قبلها وجملة ما نريهم حال من ضمير منها والأظهر أن يقال أن كل واحدة منها كانت بالغة أقصى درجات الإعجاز بحيث يحسب الناظر على كل واحدة منها أنها أكبر من غيرها والمراد وصف الكل بالكبر كقولك رأيت رجالا كل واحد منهم أفضل من غيره، وكقول الشاعر :
من تلق منهم فقد لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
أو يقال بأن كل واحد منها مختصة بنوع من الإعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار ﴿ وأخذناهم ﴾ يعني آل فرعون ﴿ بالعذاب لعلهم يرجعون ﴾ أي لكي يرجعوا عن كفرهم وجملة وأخذناهم عطف على ﴿ ولقد أرسلنا ﴾
﴿ وقالوا ﴾ يعني قال فرعون وقومه لموسى ﴿ يا أيها الساحر ﴾ قرأ ابن عامر بضم الهاء في آية وصلا والباقون بفتحها على الأصل وقرأ أبو عمرو والكسائي بالألف وقفا على الأصل والباقون آية بغير ألف، أطمعوا موسى عليه السلام في إيمانهم وعلقوا بهدايته على دعائه وكشف الضر عنهم ومع ذلك لم يسموه نبيا وسموه ساحرا كما كانوا يسمونه قبل ذلك وذلك من شدة شكيمتهم على الكفر وفرط حماقتهم، قال الزجاج دعوة بذلك الاسم لما تقدم له عندهم من التسمية، وقيل إنما قالوا هذا تعظيما وتوقيرا له لأن السحر كان عندهم علما عظيما وصفة ممدوحة كأنهم قالوا يا أيها العالم الكامل الحاذق وهذا عندي غير سديد لأنهم اتهموه بالسحر أول مرة حين أنكروا نبوته و﴿ قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون ﴾١ وقيل معناه يا أيها الذي غلبنا بسحره ﴿ ادع لنا ربك ﴾ أن يكشف عنا العذاب ﴿ بما عهد عندك ﴾ متعلق بأدع أي بما أخبرتنا عن عهده إليك بكشف العذاب إذا دعوته ﴿ إننا لمهتدون ﴾ إن كشف عنا العذاب هذه جملة مستأنفة فدعا موسى عليه السلام بكشف العذاب عنهم فكشف الله العذاب
١ سورة يونس، الآية: ٧٦-٧٧..
قال الله تعالى :﴿ فلما كشفنا عنهم العذاب ﴾ بدعاء موسى عليه السلام ﴿ إذا هم ينكثون ﴾ فاجئوا نقض عهدهم بالإيمان وأصروا على كفرهم حين كشفنا عنهم العذاب.
﴿ ونادى فرعون في قومه ﴾ في مجمعهم وفيما بينهم بعد كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمن بعضهم، ﴿ قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار ﴾ أي أنهار النيل ومعظمها أربعة نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس عطف على ملك مصر ﴿ تجري من تحتي ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو والبزي بفتح الياء والباقون بإسكانها يعني من تحت قصوري أو تحت أمري أو بين يدي في البساتين حال وجاز أن يكون هذه مبتدأ والأنهار صفة له وتجري خبره والجملة حال ﴿ أفلا تبصرون ﴾ ذلك
﴿ أم أنا خير ﴾ بهذه المملكة والبسطة من ﴿ هذا ﴾ يعني موسى عليه السلام ﴿ الذي هو مهين ﴾ ضعيف حقير لا يستعد للرياسة من المهانة وهي القلة ﴿ ولا يكاد يبين ﴾ يفصح كلامه للثقة التي كانت في لسانه عليه السلام بعدما زالت معظمها بدعائه عليه السلام حين قال :﴿ واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ﴾١ وأم منقطعة ومعنى الهمزة فيها للتقرير إذ قدم من أسباب فضيلته، وقال البغوي أو بمعنى بل على قول أكثر المفسرين، وقال الفراء الوقف على قوله أم وفيه إضمار تقديره أفلا تبصرون أم تبصرون وبعده كلام مبتدأ فلم على هذا متصلة، وقيل أم متصلة على إقامة المسبب مقام السبب فإن قوله ﴿ أفلا تبصرون ﴾ أم تبصرون فتعلمون أني خير
١ سورة طه، الآية: ٢٧_٢٨..
﴿ فلولا ألقي عليه ﴾ أي على موسى ﴿ أسورة من ذهب ﴾ الفاء للسببية فإن طعن فرعون في موسى عليه السلام بالحقارة كان سببا لتنديهم على فوات العز والجاه قرأ حفص ويعقوب أسورة جمع سوار والباقون أساورة جمع الجمع قيل أصله أساوير عوض التاء من الياء وقد قرئ به، قال مجاهد كانوا إذا سودوا رجلا سودوه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته فقال فرعون فهلا ألقي رب موسى على موسى أسورة من ذهب إن كان سيدا يجب علينا طاعة ﴿ أو جاء معه الملائكة مقترنين ﴾ متتابعين يتابع بعضهم بعضا يشهدون له بصدقه ويعينونه على أمره.
﴿ فاستخف ﴾ أي فرعون عطف على نادى ﴿ قومه ﴾ القبط أي وجدهم جهالا، وقيل حملهم على الخفة والجهل يقال استخف رأيه إذا حمله على الجهل وأزاله عن الصواب، وقيل أي طلب منهم الخفة في مطاوعته ﴿ فأطاعوه ﴾ فيما أمرهم به من نقض العهد مع موسى عليه السلام ﴿ إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾ فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق
﴿ فلما آسفونا ﴾ أي أغضبونا بالإفراط في العناد والعصيان يقال أسف فلان إذا اشتد غضبه الظرف متعلق بقوله ﴿ انتقمنا منهم ﴾ وهو معطوف على أطاعوه وعطف عليه قوله ﴿ فأغرقناهم ﴾ في بحر النيل ﴿ أجمعين ﴾
﴿ فجعلناهم سلفا ﴾ قرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام قال الفراء هو جمع سليف كرغف ورغيف من سلف يسلف بضم اللام فيهما أي تقدم أو جمع سالف كصبر جمع صابر أو جمع سلف كخشب والباقون بفتحهما مصدر نعت به أو جمع سالف كخدم وجمع خادم يعني جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون ﴿ ومثلا ﴾ عبرة وعظة ﴿ للآخرين ﴾ وقيل سلفا لكفار هذه الأمة إلى النار ومثلا لمن بقي بعدهم وقيل مثلا للآخرين أي قصة عجيبة يسير مسير الأمثال لهم فيقال مثلكم مثل قوم فرعون والله أعلم.
أخرج أحمد بسند صحيح والطبراني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش :" إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير "، فقالوا ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا صالحا وقد عبد من دون الله فأنزل الله تعالى :﴿ ولما ضرب ابن مريم مثلا ﴾ أي ضربه قريش مثلا، وأخرج ابن مردويه والضياء في المختار عن ابن عباس قال جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنك تزعم أن الله قد أنزل إليك ﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون { ٩٨ ﴾ } قال نعم قال عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير فكل هؤلاء في النار مع آلهتهم فنزلت ؟ ﴿ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون { ١٠١ ﴾ } ونزلت ﴿ ولما ضرب ابن مريم مثلا ﴾ إلى قوله ﴿ خصمون ﴾ ﴿ إذا قومك منه يصدون ﴾ قرأ أهل المدينة والشام والكسائي يصدون بضم الصاد أي يعرضون عنه ويكون لازما ومتعديا أي يعرضون عنه ويمتنعون أو يمنعون الناس عنه والباقون بكسر الصاد وقيل معناه مثل معنى مضموم العين، قال الكسائي هما لغتان مثل يعرشون بضم الراء وكسرها أي يصيحون كذا قال سعيد بن المسيب، وقال الضحاك يتعجبون، وقال قتادة يجزعون وقال القرطبي يضجرون، قال قتادة لما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون يقولون ما يريد منا محمد إلا أن نعبده ونتخذه إلها كما عبدت النصارى عيسى.
﴿ وقالوا آلهتنا ﴾ قرأ الكوفيون بتحقيق الهمزتين وألف بعدهما والباقون بتسهيل الثانية وبعدهما ألف ولم يدخل أحدهم الفا بين المحققة والمسهلة ﴿ خير أم هو ﴾ يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا، وقال ابن زيد والسدي أم هو يعنون عيسى عليه السلام قالوا يزعم محمد أن كل من عبد من دون الله في النار نرضى أن يكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار ﴿ ما ضربوه ﴾ هذا المثل ﴿ لك إلا جدلا ﴾ أي للجدل والخصومة بالباطل لا للتميز بين الحق والباطل لأنهم قد علموا أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يريد عبادة نفسه أوقد علموا أن قوله ما تعبدون من دون الله حصب جهنم المراد منه الأصنام فإن ما لغير ذوي العقول ﴿ بل هم قوم خصمون ﴾ شداد الخصومة حراص على اللجاج اعتادوا بالخصومة، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما منك قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ ﴿ ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ﴾١ رواه البغوي وكذا روى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم في المستدرك.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: و من سورة الزخرف (٣٣٧٣). و أخرجه ابن ماجه في افتتاح الكتاب، باب: اجتناب البدع و الجدل (٤٨)..
﴿ إن هو ﴾ أي عيسى ﴿ إلا عبد ﴾ لله ليس ابنه ﴿ أنعمنا عليه ﴾ بالنبوة والزلفى ﴿ وجعلناه مثلا ﴾ أي أمرا عجيبا كالمثل السائر وآية وعبرة يعرفون به قدرة الله على ما يشاء حيث خلقه من غير أب
﴿ لبني إسرائيل ولو نشاء ﴾ إلى آخره جملة معترضة لبيان قدرة الله تعالى.
﴿ لبني إسرائيل ولو نشاء ﴾ إلى آخره جملة معترضة لبيان قدرة الله تعالى.
﴿ لجعلنا منكم ﴾ أي لخلقنا منكم أي من الإنس أو المعنى لأهلكناكم وجعلنا بذلك ﴿ ملائكة في الأرض يخلفون ﴾ أي يخلفونكم في الأرض يعمرون الأرض ويعبدونني ويطيعوني، وقيل يخلف بعضهم بعضا يعني أن حال عيسى وإن كان عجيبا فنحن قادرون بما هو أعجب منه وإن الملائكة مثلكم من حيث أنها ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليدا كما جاز خلقها إبداعا فمن أين لها استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله تعالى.
﴿ وإنه ﴾ يعني عيسى عليه السلام ﴿ لعلم الساعة ﴾ أي نزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها قرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة ﴿ وإنه لعلم الساعة ﴾ بفتح العين واللام أي أمارة وعلامة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " ١ رواه الشيخان في الصحيحين، وعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال :" اطلع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون ؟ قالوا نذكر الساعة قال إنها لن تقوم حتى تروا عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم، وفي رواية وفي العاشرة وريح تلقى الناس في البحر " رواه مسلم، وعن النواس بن سمعان قال " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال فذكر حديثا طويلا في قصته إلى أن قال :" إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كتفه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ " ٢ " الحديث " رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكما عدة فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبل أحد حتى يكون السجدة الواحد خيرا من الدنيا وما فيها " رواه الشيخان في الصحيحين وأخرجه مسل من حديثه أيضا " لينزلن ابن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وترك القلاص فلا يسعى عليها وليذهبن الباغض وليد عن إلى المال فلا يقبله أحد "، روى مسلم من حديث جابر " فيقول أميركم تعال صل لنا فيقول إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة " وذكر البغوي " فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به "، وقال الحسن وجماعة الضمير راجع إلى القرآن يعني أن القرآن لعلم الساعة يعلم بقيامها ويخبركم بأحوالها وأهوالها ﴿ فلا تمترن بها ﴾ الفاء للسببية يعني لما كان عيسى سببا للعلم بقيام الساعة أي فلا تشكن فيها قال ابن عباس لا تكذبوا بها ﴿ وأتبعون ﴾ قرأ أبو عمرو بالياء وصلا فقط والباقون بحذفها وصلا ووقفا يعني إتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي وقيل هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يقوله تقديره وقل إتبعوني ﴿ هذا ﴾ الذي أدعوكم إليه ﴿ صراط مستقيم ﴾ لا يضل سالكه تعليل لقوله أتبعوني
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: نزول عيسى بن مريم عليهما السلام (٣٤٤٩)، و أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: نزول عيسى ابن مريم حاكما مبشرا بنبينا محمد صلى الله عليه و سلم (١٥٥)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الفتن و أشراط الساعة، باب: ذكر الدجال و صفته و ما معه '٢٩٣٧)..
﴿ ولا يصدنكم ﴾ أي لا يمنعكم ﴿ الشيطان ﴾ عن متابعتي، الجملة معطوفة على قوله اتبعون ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾ ظاهر عداوته حيث أخرجكم عن الجنة وعرضكم على البلية ويصدكم عن إتباع الحق والوصول إلى الجنة.
﴿ ولما جاء عيسى بالبينات ﴾ أي بالمعجزات أو بآيات الإنجيل أو بالشرائع الواضحات ﴿ قال قد جئتكم بالحكمة ﴾ أي بالعلوم الحقة الباء بمعنى مع أو للتعدية ﴿ ولأبين لكم ﴾ متعلق بمحذوف تقديره وجئتكم لا بين لكم ﴿ بعض الذي تختلفون فيه ﴾ وذلك أن اليهود صاروا بعد موسى عليه السلام إحدى وسبعين فرقة باختلاف الأهواء فلما جاء عيسى عليه السلام صدهم عن العقائد الباطلة وهداهم إلى الحق والصواب، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " ١ رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بسند صحيح، قال الزجاج الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه ﴿ فاتقوا الله ﴾ الفاء للسببية فإن مجيء عيسى بالحكمة سبب للتقوى ﴿ وأطيعون ﴾ فيما أبلغه عنه
١ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: شر ح السنة (٤٥٨٤)، و أخرجه الترمذي في كتاب: الإيمان باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (٢٦٤٠).
و أخرجه ابن ماجه في كتاب: الفتن، باب: افتراق الأمم (٣٩٩١)..

﴿ إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه ﴾ دون غيره بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع ﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ إشارة إلى مجموع الأمرين وهذا تتمة كلام عيسى أو استئناف من الله تعالى يدل على المقتضى للطاعة في ذلك.
﴿ فاختلف الأحزاب ﴾ الفرق المتحزبة عطف على قال قد جئتكم ﴿ من بينهم ﴾ أي بين قوم عيسى كما مر في الحديث أنهم تفرقوا إلى اثنين وسبعين فرقة أومن بين النصارى واليهود ﴿ فويل ﴾ أي هلاك عظيم ﴿ للذين ظلموا ﴾ أنفسهم بإتباع الهوى ورفض ما نطق به الكتاب والسنة من المتحزبين ﴿ من عذاب يوم أليم ﴾ أي من نار جهنم، الفاء للسببية فإن اختلافهم سبب للويل والهلاك عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى أن من كان منهم من أتى أمه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله ؟ قال ما أنا عليه وأصحابي " ١رواه الترمذي وفي رواية أحمد وأبي داود عن معاوية " ثنتان وسبعون في النار واحدة في الجنة وهي الجماعة "
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الإيمان باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (٢٦٤١)..
﴿ هل ينظرون ﴾ يعني قريشا أو الذين ظلموا يعني لا ينتظرون شيئا ﴿ إلا الساعة أن تأتيهم ﴾ بدل من الساعة أي إتيانها يعني أنها آتية لا محالة فكأنهم ينتظرون إتيانها ﴿ بغتة ﴾ فجاءه ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ أي غافلون عنها لاشتغالهم بالدنيا وإنكارهم لها والجملة حال من فاعل ينظرون أو مفعول تأتيهم
﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا ﴾ المتحابين ﴿ المتقين ﴾ روى البغوي عن علي رضي الله عنه قال في هذه الآية خليلان مؤمنان وخليلان كافران فمات أحد المؤمنين فقال يا رب إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني إني ملاقيك يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول ليثن أحدكما على صاحبه فيقول نعم الأخ ونعم الخليل ونعم الصاحب، قال ويموت أحد الكافرين فيقول يا رب إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك فيقول بئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب "، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي " ١
رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو أن عبدين تحابا في الله عز وجل واحد في المشرق وآخر في المغرب لجمع الله بينهما يوم القيامة يقول هذا الذي كنت تحبه في " رواه البيهقي في شعب الإيمان والله أعلم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: البر و الصلة و الآداب، باب: في فضل الحب في الله (٢٥٦٦)..
﴿ يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون { ٦٨ ﴾ } هذه الجملة بتقدير القول مستأنفة أخرى تقديره يقول الله للمتحابين المتقين يومئذ ﴿ يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ﴾ روى البخاري عن المعتمر بن سليمان عن أبيه قال سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع فنادى مناد ﴿ يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ﴾، فيرجوا الناس فيتبعها ﴿ الذين آمنوا بآياتنا ﴾
﴿ الذين آمنوا بآياتنا ﴾ صفة للمنادى ﴿ وكانوا مسلمين ﴾ حال من فاعل آمنوا أي الذين آمنوا مخلصين غير أن هذه العبارة آكد فيئس الناس كلهم منها غير المسلمين
﴿ أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم ﴾ أي نساؤكم المؤمنات ﴿ تحبرون ﴾ أي تسرون سرورا يظهر حباره أي أثره على وجوهكم أو تزينون من الحبر وهو حسن الهيئة أو تكرمون إكراما بليغا والحبرة فيما وصف مجمل، وهذه الجملة أيضا خطاب للمنادى أنتم مبتدأ وأزواجكم معطوف عليه وتحبرون خبره وجاز أن يكون أنتم تأكيدا للضمير المستتر في ادخلوا وأزواجكم معطوف على الضمير المستتر وجملة تحبرون حال من ﴿ يطاف عليهم ﴾
﴿ يطاف عليهم ﴾ أي يطوف عليهم ولدان مخلدون ﴿ بصحاف ﴾ جمع صحفة وهي القصاع الواسعة ﴿ من ذهب وأكواب ﴾ جمع كوب وهو إناء مستدير مدور الرأس لا عرى به، الجملة مستأنفة وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة ﴿ وفيها ﴾ أي في الجنة عطف على يطاف ﴿ ما تشتهيه الأنفس ﴾ قرأ أهل المدينة والشام وحفص هكذا وكذا هو في مصاحفهم والباقون تشتهي بحذف ضمير المفعول ﴿ وتلد الأعين ﴾ أي لكل واحد منهم ما تشتهيه نفسه فالصوفي الذي مشتهاه الوصل والعريان بلا كيف ودوام رؤية الله سبحانه فله ذلك وأما غيره فله من نعماء الجنة ما يشتهيه، روى البغوي عن عبد الرحمان بن سابط قال : قال رجل يا رسول الله أفي الجنة خيل فإني أحب الخيل ؟ فقال " إن يدخلك الله الجنة أصبت فلا تشاء تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير في أي جنة شئت ولا فعلت، قال أعرابي يا رسول الله في الجنة إبل فإني أحب الإبل، فقال يا أعرابي إن يدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك " ١ وروى الترمذي والبيهقي عن بردة نحوه، وأخرج الطبراني والبيهقي بسند جيد عن عبد الرحمن بن ساعدة والترمذي عن أبي أيوب الفصل الأول أعني ذكر الخيل ﴿ وأنتم فيها خالدون ﴾ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب
١ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة خيل الجنة (٢٥٤٤)..
﴿ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ﴾ الجنة خبر للمبتدأ والموصول صفة لها أو الجنة صفة للمبتدأ والموصول خبره والجملة حال من فاعل أدخلوا، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل من أهل النار يرى به منزلته من الجنة حسرة فيقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين وكل من أهل الجنة يرى منزلته من النار فيقول ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله يقول شكرا " قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة فذلك قوله تعالى ﴿ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ﴾ "
﴿ لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون { ٧٣ ﴾ } الجملة الظرفية حال، أخرج البزار والطبراني عن ثوبان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا ينزع رجل من أهل الجنة من ثمرها إلا أعيد في مكانها مثلها " أخرج البزار عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله تبارك وتعالى لما أخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة وعلمه كل شيء فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير " وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن مسعود أنه كان بالشام فذكروا الجنة فقال إن العنقود من عناقيدها من هاهنا إلى صنعاء وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس قال إن الثمرة من ثمار الجنة طولها إثنى عشر ذراعا ليس لها عجم.
﴿ إن المجرمين ﴾ أي الكاملين في الإجرام وهم الكافرون لأنهم جعلوا قسيما للمؤمنين ﴿ في عذاب جهنم خالدون ﴾ هذه الجملة وما بعده مستأنفتان.
﴿ لا يفتر عنهم ﴾ أي لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا ﴿ وهم فيه ﴾ أي في العذاب ﴿ مبلسون ﴾ أي أيسون من النجاة
﴿ ونادوا ﴾ عطف على خبر إن ﴿ يا مالك ﴾ اسم لخازن النار ﴿ ليقض علينا ﴾ أي ليمتنا ربك فنستريح ﴿ قال ﴾ الله تعالى أو قال مالك بعد ألف سنة ﴿ إنكم ماكثون ﴾ مقيمون في العذاب لا خلاص لكم بموت ولا غيره، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا والبيهقي عن ابن عباس في هذه الآية قال يمكث عنهم ألف سنة ثم يجيبهم ﴿ إنكم ماكثون ﴾ وأخرج هناد والطبراني وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال إن أهل النار ينادون مالكا " يا مالك ليقض علينا ربك " فيذرهم أربعين عاما لا يجيبهم ثم يرد عليهم ﴿ إنكم ماكثون ﴾ ثم ينادون ربهم " ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " فيذرهم مثل الدنيا مرتين لا يجيبهم ثم يجيبهم ﴿ اخسئوا فيها ولا تكلمون ﴾ قال فما يتكلم القوم بعدها بكلمة وما هو إلا الزفير والشهيق، وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن محمد بن كعب إنه قال لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون ﴿ ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ﴾ فيجيبهم ﴿ ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير ﴾ ثم يقولون :﴿ ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ﴾ فيجيبهم الله ﴿ فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا أنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون { ١٤ ﴾ } ثم يقولون :﴿ ربنا أخرجنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ﴾ فيجيبهم ﴿ أولم تكونوا أقسمتم ما لكم من زوال ﴾، ثم يقولون :﴿ ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ﴾ فيجيبهم الله ﴿ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ﴾ ثم يقولون :﴿ ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ﴾ فيجيبهم الله ﴿ اخسئوا فيها ولا تكلمون ﴾ فلا يتكلمون بعدها.
﴿ لقد جئناكم بالحق ﴾ بالإرسال والإنزال وهذا تتمة الجواب إن كان في قال ضمير الله وإلا فجواب عنه فكأنه تعالى تولى جوابهم بعد جواب الملائكة ﴿ ولكن أكثركم للحق كارهون ﴾ لما في إتباعه خلاف النفس
﴿ أم أبرموا ﴾ أم منقطعة بمعنى الهمزة للإنكار والإضراب عن كراهة الحق والترقي فيه يعني بل أحكموا ﴿ أمرا ﴾ مكرا برسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمرا في تكذيب الحق ورده ولم تقتصروا على كراهيته ﴿ فإنا مبرمون ﴾ محكمون أمرا في مجازاتهم.
أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي فقال واحد منهم ترون الله يسمع كلامنا ؟ فقال الآخر إذا جهرتم سمع وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت ﴿ أم يحسبون ﴾ أم منقطعة للإنكار والإضراب يعني بل أيحسبون ﴿ أنا لا نسمع ﴾ سرهم أي حديث نفسهم بذلك ﴿ ونجواهم ﴾ أي تناجيهم ﴿ بلى ﴾ نسمعها ﴿ ورسلنا ﴾ أي الملائكة الحفظة أيضا ﴿ لديهم ﴾ ملازمون ﴿ يكتبون ﴾ ذلك.
﴿ قل إن كان للرحمن ولد ﴾ قرأ حمزة والكسائي بضم الواو وسكون الدال ﴿ فأما أول العابدين ﴾ منكم فإن النبي أعلم بالله وبما يصح له وبما لا يصح وأولي بتعظيم ما يوجب تعظيمه ومن يعظم الوالد يعظم ولده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها " وفي رواية " فمن أغضبها رأربعة أغضبني " ١ رواه البخاري عن مسور، ولا يلزم من ذلك جواز النبوة لله سبحانه وعبادته له إذ المحال قد يستلزم المحال بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه كقوله تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾٢ غير أن لو مشعرة بانتفاء الطرفين وإن لا يشعر به ولا بنقيضه فإنها لمجرد الشرط، والمقصود أن إنكاره صلى الله عليه وسلم للولد ليس العناد بل لو كان لكان أولى الناس بالاعتراف به كذا قال السدي، وقيل معناه إن كان لله ولد في زعمكم فأنا أول العابدين لله الموحدين له من أهل مكة يعني لست قائلا كما زعمتم، وقيل العابدين بمعنى الآنفين أي الجاحدين المنكرين لما زعمتم، وقيل معناه أنا أول من غضب للرحمان أن يقال له ولد، في القاموس عبد بالتحريك الغضب والحرب الشديد والندامة وملامة النفس والحرص والإنكار، عبد كفرح في الكل والمناسب في المقام الغضب والإنكار، قال البغوي وروى ابن عباس إن كان بمعنى ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الشاهدين بذلك يعني أن نافية ليست بشرطية
١ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل أصحاب النبي، باب: مناقب فاطمة عليها السلام (٣٧٦٧)..
٢ سورة الأنبياء، الآية: ٢٢..
﴿ سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون ﴾ من كونه ذا ولد فإن هذه الأجسام لطول بقائها براء عما يتصف به سائر الأجسام من توليد المثل فما ظنك بمبدعهما وخالقهما
﴿ فذرهم ﴾ يا محمد ﴿ يخوضوا ﴾ في باطلهم مجزوم في جواب الأمر ﴿ ويلعبوا ﴾ في دنياهم ﴿ حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ﴾ فيه العذاب يعني يوم القيامة وهو دليل على أن قولهم جهل وإتباع هوى وإنهم مطبوع على قلوبهم يعذبون في الآخرة.
﴿ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ﴾ قال قتادة يعني يعبد في السماء والأرض لا إله غيره أي لا مستحق لأن يعبد فيهما غيره والظرف متعلق به لأنه بمعنى المعبود أو متضمن لمعناه كقولك هو حاتم في البلد ﴿ وهو الحكيم ﴾ في تدبير خلقه ﴿ العليم ﴾ بمصالحهم هذا بمنزلة الدليل على استحقاقه العبادة وهذه جملة معترضة مؤكدة لما سبق وكذا ما عطف عليه
﴿ وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما ﴾ من كائنات الجو ﴿ وعنده علم الساعة ﴾ أي العلم بوقت قيامها ﴿ وإليه ترجعون ﴾ للجزاء، قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء التحتية على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب
﴿ ولا يملك الذين يدعون ﴾ أي يدعونه الكفار وهم الأصنام ﴿ من دونه ﴾ أي دون الله ﴿ الشفاعة ﴾ كما زعموا أنهم شفعاء عند الله ﴿ إلا من شهد ﴾ منهم ﴿ بالحق ﴾ أي يقول لا إله إلا الله استثناء منقطع، وجاز أن يكون متصلا والمراد بهم الملائكة فإنهم كانوا يعبدون الملائكة أيضا ويقولون أنها بنات الله ﴿ وهم يعلمون ﴾ أي يعتقدون بقلوبهم ما يشهد ألسنتهم
﴿ ولئن سألتهم ﴾ أي الكفار العابدين لغير الله ﴿ من خلقهم ليقولن الله ﴾ لتعذر إسناد الخلق إلى الجمادات ﴿ فأنى يؤفكون ﴾ يعني إذا اعترفوا بأن الله خالقهم لا غير فأين يصرفون عن عبادته إلى غيره
﴿ وقيله ﴾ قرأ عاصم وحمزة بالجر وكسر الباء عطفا على الساعة يعني عنده علم الساعة وعلم قوله والباقون بالنصب وضم الباء عطفا على سرهم أو على محل الساعة أو بإضمار فعله يعني قال محمد صلى الله عليه وسلم شاكيا إلى ربه قيله ﴿ يا رب إن هؤلاء ﴾ ويعني كفار مكة
﴿ قوم لا يؤمنون ﴿ ٨٨ ﴾ فاصفح عنهم ﴾ أي فأعرض عن دعوتهم آيسا عن إيمانهم
﴿ قوم لا يؤمنون ﴿ ٨٨ ﴾ فاصفح عنهم ﴾ أي فأعرض عن دعوتهم آيسا عن إيمانهم
﴿ وقل سلام ﴾ يعني بيننا وبينكم متاركة تسلمون منا ونسلم منكم ﴿ فسوف يعلمون ﴾ جزاء عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قرأ أهل المدينة والشام بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة، قال مقاتل نسختها آية السيف.
Icon