تفسير سورة الأحقاف

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ الأَحقَافِ
مكية، لم يُختلف منها إلا في آيتين، وهو قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾، وقوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ الآية، فقال بعض المفسرين: هاتان آيتان مدنيتان وُضعتا في سورة مكية قاله ابن عطية (١).
وقال الكواشي (٢): ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ الثلاث.
وآيها: خمس وثلاثون آية، وحروفها: ألفان وست مئة حرف، وكلمها: ست مئة وأربع وأربعون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)﴾.
[١ - ٢] ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ تقدم نظيره في الجاثية.
(١) انظر: "المحرر الوجيز" (٥/ ٩١).
(٢) "وقال الكواشي" زيادة من "ت".
﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣)﴾.
[٣] ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا﴾ خَلْقًا ملتبِسًا (١) ﴿بِالْحَقِّ﴾ الواجبِ الذي حقَّ أن يكون.
﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وَقَّتناه وجعلناه موعدًا لفساد هذه البنية، وهو يوم القيامة، ومعنى الآية: موعظة وزجر؛ أي: فانتبهوا أيها الناس، وانظروا ما يراد بكم، ولمَ خُلقتم.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا﴾ به من القرآن.
﴿مُعْرِضُونَ﴾ عن الاهتمام لذلك المقام.
...
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤)﴾.
[٤] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ استفهام على معنى التوبيخ ﴿مَا تَدْعُونَ﴾ تعبدون.
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ﴾ أي: للأصنام ﴿شِرْكٌ﴾ أي: مشاركة ﴿فِي﴾ خلق ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ مع الله حتى تشركوهم في عبادته.
﴿ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ يعني: جاءكم من الله قبل القرآن فيه بيان ما تقولون.
(١) "خلقًا ملتبسًا" زيادة من "ت".
﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ أي: بقية من علم يؤثر عن الأولين.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم.
...
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥)﴾.
[٥] ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ﴾ إنكار أن يكون أحد أضلَّ من المشركين؛ حيث تركوا عبادة الله، وعبدوا الأصنام التي لا تسمع دعاءهم، ولا تجيبهم.
﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ يعني: أبدًا ما دامت الدنيا.
﴿وَهُمْ عَنْ﴾ إجابةِ ﴿دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾ لأنهم جماد لا يعقلون.
...
﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا﴾ أي: الأصنام ﴿لَهُمْ﴾ أي: لعابديها.
﴿أَعْدَاءً وَكَانُوا﴾ أي: الأصنام ﴿بِعِبَادَتِهِمْ﴾ بعبادة عابديهم ﴿كَافِرِينَ﴾ جاحدين، بيانه ﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ [القصص: ٦٣].
...
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ أي: لما يسمع المشركون القرآن.
﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ظاهرٌ بطلانُه.
...
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)﴾.
[٨] ﴿أَمْ﴾ أي: بل (١) ﴿يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ اختلقَ محمدٌ القرآن، إضرابٌ عن ذكر تسميتهم القرآنَ سحرًا، إلى ذكر ما هو أشنعُ منه، وإنكارٌ له.
﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾ فرضًا ﴿فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ﴾ أي: من عذابه ﴿شَيْئًا﴾ أن: تردُّوه عني إن عذبني على افترائي.
﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ﴾ تخوضون ﴿فِيهِ﴾ من التكذيب بآياته، والقدحِ فيها.
﴿كَفَى بِهِ﴾ تعالى ﴿شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ يشهد لي بالصدق، وعليكم بالكذب.
﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ترجية واستدعاء إلى التوبة؛ لأنه في خلال تهديده إياهم بالله تعالى جاءت هاتان الصفتان.
(١) "أي: بل" زيادة من "ت".
﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)﴾.
[٩] ثم أمر تعالى بأن يحتج عليهم، فقال: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ أي: بديعًا؛ أي: لستُ بأولِ مرسَل، قد بُعث قبلي غيري، والبدع والبديع من الأشياء: ما لم ير مثله، المعنى: فكيف تنكرون نبوتي؟.
﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ قال ابن عباس وأنس وغيرهما: "معناه: في الآخرة" (١)، وكان هذا في صدر الإسلام، ثم بعد ذلك عرفه تعالى بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبأن المؤمنين لهم من الله فضل كبير، وهو الجنة، وبأن الكافرين في نار جهنم.
وروي أن رسول الله - ﷺ - رأى في النوم مُهاجَره إلى أرض ذاتِ نخل، فأخبر أصحابه، فسألوه عنها، فسكت، فنزل: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ (٢)، المعنى: وما أدري أأخرُجُ أم أُخْرَج كما أُخرج الأنبياء قبلي، أم أُقتل كما قُتلوا، وأنتم أيها المصدقون ما أدري أتخرجون معي (٣)، أم تتركون، وأنتم أيها المكذبون ما أدري أترمون بالحجارة، أم يخسف بكم كالمكذبين قبلكم.
(١) انظر: "الكشاف" للزمخشري (٤/ ٣٠١)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ٩٤)، وقد روى الطبري في "تفسيره" (٢٢/ ١٠٠) عن الحسن قوله: أما في الآخرة، فمعاذ الله؛ فقد علَّم الله أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ في الدنيا. وهو الصحيح كما قال القرطبي في "تفسيره" (١٦/ ١٨٦).
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" (٥/ ٩٤)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ١٨٧).
(٣) "معي" زيادة من "ت".
﴿إِنْ أَتَّبِعُ﴾ ما أتبع ﴿إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ من القرآن، وما أبتدع من عندي شيئًا.
﴿وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ يبين الإنذار بالمعجزات الظاهرة. قرأ نافع، وأبو جعفر بخلاف عن قالون: (أَنَا إِلَّا) بالمد (١).
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ أخبروني ماذا تقولون ﴿إِنْ كَانَ﴾ القرآن.
﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ هو عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -. قرأ أبو عمرو: (وَشَهِد شَّاهِدٌ) بإدغام الدال في الشين (٢) ﴿عَلَى مِثْلِهِ﴾ أي: القرآن، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة له.
﴿فَآمَنَ﴾ الشاهدُ ﴿وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ عن الإيمان به، وجواب الشرط في (أَرَأَيْتُمْ) محذوف، وهو: ألستم ظالمين؟ لدلالة ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ لدينه.
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص ت ٣٩١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٦٣).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٥١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٦٣).
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)﴾.
[١١] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من اليهود ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ﴾ دينُ محمد.
﴿خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ يعني: عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: نزلت في مشركي مكّة، وقالوا: لو كان ما يدعونا إليه محمّد خيرًا، ما سبقنا إليه عمار وصهيب وبلال ونحوهم ممّن أسلم، وهم دوننا في الشرف.
﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ﴾ بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان، والعامل في ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ﴾ محذوف تقديره: وقتَ عدمِ إيمانهم ظهرَ عنادُهم.
﴿فَسَيَقُولُونَ هَذَا﴾ أي: القرآن ﴿إِفْكٌ﴾ كذب ﴿قَدِيمٌ﴾ ووصفوه بالقدم بمعنى أنّه في أمور متقادمة.
* * *
﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ﴾ أي: القرآن، أو محمد - ﷺ -.
﴿كِتَابُ مُوسَى﴾ التوراة.
﴿إِمَامًا﴾ يؤتَمُّ به في دين الله وشرائعه ﴿وَرَحْمَةً﴾ لمن آمن به، وفي الكلام محذوف تقديره: وتقدمه كتاب موسى إمامًا، ولم يهتدوا به؛ كما قال في الآية الأولى: ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ﴾ ﴿وَهَذَا﴾ أي: القرآنُ ﴿كِتَابٌ مُصَدِّقٌ﴾ للكتب قبله ﴿لِسَانًا عَرَبِيًّا﴾ حال من ضمير (كِتَابٌ) في (مُصدِّقُ)؛
أي: القرآن مصدق لسان محمّد - ﷺ -، وهو عربي ﴿لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بوضع العبادة في غير موضعها، وهم مشركو مكّة. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (لِتُنْذِرَ) بالخطاب للنبي - ﷺ -، وقرأ الباقون: بالغيب؛ يعني: الكتاب، واختلف عن البزي راوي ابن كثير (١) ﴿وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ (وبشرى) في محل الرفع؛ أي: هذا كتاب مصدق وبشرى.
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ على العمل بموجب الإقرار بالتوحيد ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ ممّا يحل بالكفرة ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على أمر ما.
* * *
﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من الأعمال الصالحة.
* * *
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٩)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٣٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٦٤).
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ﴾ ألزمناه (١)، والمراد: النوع، فهي وصية من الله في عباده ﴿بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ أي: ليفعل ذا حسن. قرأ الكوفيون: (إِحْسَانًا) بزيادة همزة مكسورة قبل الحاء، وإسكان الحاء وفتح السين وألف بعدها، وكذلك هو في مصاحف الكوفة، وقرأ الباقون: بضم الحاء وإسكان السين من غير همزة ولا ألف، وكذلك هو في مصاحفهم (٢).
﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا﴾ على مشقة حين تتوقع حوادثه ﴿وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ أي: كارهة، والمراد: شدة الطلق. قرأ الكوفيون، ويعقوب، وابن ذكوان عن ابن عامر: (كُرْهًا) بضم الكاف، والباقون: بالنصب فيهما، وهما لغتان (٣)، وقد عدد تعالى على الأبناء مِنَنَ الأمهات، وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب، والأب في واحدة، جمعها الذكر في قوله: {لَهُمْ
(١) "ألزمناه" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٣٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٦٥).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٩)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٣٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٦٥ - ١٦٦).
287
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} ثمّ ذكر الحمل للأم، ثمّ الوضع لها، ثمّ الرضاع الّذي عبر عنه بالفصال، فهذا يناسب ما قال رسول الله - ﷺ - حين جعل للأم ثلاثة أرباع البرّ، والربعَ للأب، وذلك إذ قال له رجل: يا رسول الله! من أبر؟ قال: "أمك"، ثمّ قال: ثمّ من؟ قال: "ثمّ أمك"، ثمّ قال: ثمّ من؟ قال: "ثمّ أمك"، ثمّ قال: ثمّ من؟ قال: "ثم أباك" (١).
﴿وَحَمْلُهُ﴾ أي: مدة حمله ﴿وَفِصَالُهُ﴾ عن الرضاع، والمراد: فطامه.
قرأ يعقوب: (وَفَصْلُهُ) بفتح الفاء وإسكان الصاد من غير ألف، وقرأ الباقون: بكسر الفاء وفتح الصاد وألف بعدها (٢).
﴿ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ يريد: أقل مدة الحمل، وهي ستة أشهر، وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرًا.
وعن ابن عبّاس قال: "إذا حملت المرأة تسعة أشهر، أرضعت إحدى وعشرين شهرًا، وإذا حملت ستة أشهر، أرضعت أربعة وعشرين شهرًا" (٣).
(١) رواه البخاريّ (٥٦٢٦)، كتاب: الأدب، باب: من أحق النَّاس بحسن الصحبة، ومسلم (٢٥٤٨)، كتاب: البرّ والصلة والآداب، باب: بر الوالدين وأنّهما أحق به، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٣٦ - ١٣٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٦٦).
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٣٧).
288
واتفق الأئمة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، واختلفوا في أكثر مدته، فقال أبو حنيفة: سنتان، والمشهور عن مالك: خمس سنين، وروي عنه: أربع، وسبع، وعند الشّافعيّ وأحمد: أربع سنين، وغالبها: تسعة أشهر، وتقدم نظير ذلك في سورة الرعد.
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ وهو كمال قوته وعقله ورأيه، أقله ثلاث وثلاثون سنة، وأكثره أربعون سنة.
﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ نزلت في أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-[وأبيه أبي قحافةَ عثمانَ بن عمرو، وأُمِّه أم الخير بنتِ صخر بن عمر (١).
وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-] (٢): الآية في أبي بكر، أسلم أبواه جميعًا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، أوصاه الله بهما، ولزم ذلك من بعده (٣)، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- صحب النّبيّ - ﷺ - وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي - ﷺ - ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشّام، فلما بلغ أربعين سنة، ونبُئ النّبيّ - ﷺ -، آمن به، ثمّ دعا ربه، و ﴿قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ ألهمني. قرأ ورش عن نافع، والبزي عن ابن كثير: (أَوْزِعْنِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٤).
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٣٧)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ٩٧)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ١٩٢).
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٣٧)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ١٩٤).
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٦ - ٥٩٧)، و"التيسير" للداني =
289
﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ بها، وهي التوحيد.
﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ قال ابن عبّاس: "هي الصلوات الخمس"، وقيل: أراد نوعًا من الجنس يستجلب رضا الله تعالى.
﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ اجعل الصلاح راسخًا فيهم.
﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ عما لا ترضاه ﴿وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ المخلصين لك، فأجابه - الله عَزَّ وَجَلَّ -، فأعتق تسعة من المؤمنين يُعذبون في الله، ولم يُرِدْ شيئًا من الخير إِلَّا أعانه الله عليه، ولم يكن له ولد إلَّا آمنوا، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعًا، فأدرك أبو قحافة النّبيّ - ﷺ -، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرّحمن بن أبي بكر (١)، وابن عبد الرّحمن هو محمّد يكنى: أبا عتيق، كلهم أدركوا النّبيّ - ﷺ -، ولم يكن ذلك لأحد من الصّحابة.
* * *
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ يعني: طاعاتهم.
﴿وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ فلا يعاقبهم. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف،
= (ص: ٢٠٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٦٦).
(١) "بن أبي بكر" زيادة من "ت".
وحفص عن عاصم: (نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ) (وَنَتَجَاوَزُ) بنون مفتوحة فيهما، وهي النون الّتي للعظمة (أَحْسَنَ) بالنصب، وقرأ الباقون (يُتَقَبَّلُ) (وَيُتَجَاوَزُ) بالياء مضمومة فيهما على بناء الفعل للمفعول (أَحْسَنُ) بالرفع (١).
﴿فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ﴾ يريد: الذين سبقت لهم رحمة الله.
﴿وَعْدَ الصِّدْقِ﴾ نصب على المصدر المؤكد لما قبله؛ فإن يتقبل ويتجاوز وعد.
﴿الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون﴾ في الدنيا.
* * *
﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧)﴾.
[١٧] ونزل في كافر عاقٍّ لوالديه: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ﴾ إذ دعواه للإيمان بالله، والإقرار بالبعث: ﴿أُفٍّ لَكُمَا﴾ وهي كلمةُ كراهية. قرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب: (أُفَّ) بفتح الفاء من غير تنوين، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وحفص عن عاصم: (أُفٍّ) بكسر الفاء مع التّنوين، وقرأ الباقون: بكسر الفاء من غير تنوين (٢).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٩)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٣٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٦٧).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠٦ - ٣٠٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٦٨).
﴿أَتَعِدَانِنِي﴾ قرأ هشام عن ابن عامر: بنون واحدة مشددة، وقرأ الباقون: بنونين مكسورتين، وفتحَ ياءَ الإضافة: نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأسكنها: الباقون (١).
﴿أَنْ أُخْرَجَ﴾ من قبري بعد الموت.
﴿وَقَدْ خَلَتِ﴾ مضت ﴿الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي﴾ فلم يُبعث منهم أحد.
﴿وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ﴾ يستصرخان ﴿اللَّهَ﴾ عليه، ويقولان له:
﴿وَيْلَكَ آمِنْ﴾ بالبعث، وهو دعاء عليه بالويل، والمراد به: الحث على الإيمان.
﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا﴾ القولُ.
﴿إِلَّا أَسَاطِيرُ﴾ أباطيل (٢) ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ الّتي كتبوها.
* * *
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ﴾ أي: وجب ﴿عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ منه تعالى بتعذيبهم.
﴿فِي أُمَمٍ﴾ أي: مع أمم {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٧ - ٥٩٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٩ - ٢٠٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٠٣ و ٢/ ٣٧٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٦٨ - ١٦٩).
(٢) "أباطيل" زيادة من "ت".
خَاسِرِينَ} وزعم بعضهم أنّها نزلت في عبد الرّحمن بن أبي بكر قبل إسلامه (١)، وأنكرته عائشة -رضي الله عنها- (٢)، والصّحيح ما تقدّم أنّها نزلت في رجل كافر، ويدلُّ على فساد قول من زعم أنّها في عبد الرّحمن بن أبي بكر قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ الآية، أعلم الله سبحانه أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب (٣)، وعبد الرّحمن أسلم وحسن إسلامه، وصار من أفاضل المسلمين، فلا يكون ممّن حقت عليه كلمة العذاب، والله أعلم.
* * *
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَلِكُلٍّ﴾ تنوينه عوض من ضمير جنس المؤمن والكافر؛ أي: ولكلِّ الجنسين ﴿دَرَجَاتٌ﴾ منازلُ ومراتبُ عند الله يوم القيامة، فدرج أهل
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٣٧)، و"تفسير ابن كثير" (٤/ ١٦٠). قال الحافظ ابن كثير: هذا عام في كلّ من قال هذا، ومن زعم أنّها نزلت في عبد الرّحمن، فقوله ضعيف؛ لأنّه أسلم بعد وحسن إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه.
(٢) روى البخاريّ (٤٥٥٠)، كتاب: التفسير، باب: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا﴾ عن يوسف بن ماهَك، وقال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية فخطب... فقال مروان: إنَّ هذا الّذي أنزل الله فيه: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي﴾ فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن، إِلَّا أن الله أنزل عذري.
(٣) "العذاب" زيادة من "ت".
النّار يذهب سفالًا، ودرج أهل الجنَّة يذهب علوًا.
﴿مِمَّا عَمِلُوا﴾ فيجازيهم بأعمالهم.
﴿وَلِيُوَفِّيَهُمْ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وابن ذكوان عن ابن عامر: (وَلِنُوَفِّيَهُمْ) بالنون، والباقون: بالياء، واختلف عن هشام (١) ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: جزاء أعمالهم.
﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ بنقص ثواب، ولا زيادة عقاب.
* * *
﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَيَوْمَ﴾ أي: واذكر يوم ﴿يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ وهذا العرض هو بالمباشرة كما تقول عرضت العود على النّار، والجاني على السوط، فيقال لهم:
﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ﴾ المعدَّةَ لكم في الجنَّة لو آمنتم. باشتغالِكم بلذاتكم ﴿فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ قرأ نافع، وأبو عمرو، والكوفيون: (أَذْهَبْتُمْ) بهمزة مفتوحة (٢) واحدة على الخبر، وقرأ الباقون، وهم: ابن عامر، وابن
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٩)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٣٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٧٠).
(٢) "مفتوحة" ساقطة من "ت".
294
كثير، وأبو جعفر، ويعقوب: بهمزتين على الاستفهام، وهم على أصولهم، فابن ذكوان عن ابن عامر يحقق الهمزتين على الأصل، وهشام عنه بهمزة ومدة؛ لأنّها همزة استفهام دخلت على همزة القطع، فجعلت همزة القطع بين الهمزة والألف، والثلاثة يحققون الهمزة الأولى، ويسهلون الثّانية، وأبو جعفر على أصله في إدخال ألف بين الهمزة المحققة والملينة، وكلاهما فصيحان؛ لأنّ العرب تستفهم بالتوبيخ، وتترك الاستفهام فتقول: أَذَهَبْتَ ففعلتَ كذا، وذهبت ففعلت كذا (١).
﴿وَاسْتَمْتَعْتُمْ﴾ تمتعتم ﴿بِهَا﴾ فما بقي لكم منها شيء.
﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ الهوان ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ تخرجون عن طاعة الله.
قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: رأى عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - لحمًا معلقًا في يدي، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحمًا فاشتريته، فقال عمر: أو كلما اشتهيتَ يا جابرُ اشتريت؟ أما تخاف هذه الآية: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ (٢).
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٩)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٣٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٦/ ٣٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٧٠ - ١٧١).
(٢) رواه الإمام مالك في "الموطَّأ" (٢/ ٩٣٦)، وابن أبي شيبة في "المصنِّف" (٢٤٥٢٤) والحاكم في "المستدرك" (٣٦٩٧)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٥٦٧٢).
295
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما شبعَ آلُ محمدٍ خبزَ الشعير يومين متتابعين حتّى قُبِض رسولُ الله - ﷺ - (١).
* * *
﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١)﴾.
[٢١] ثمّ أمر تعالى نبيه بذكر هود وقومه على جهة المثال لقريش، فقال:
﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ﴾ يعني: هودًا -عليه السّلام-، وهذه الأخوة أخوة القرابة، لأنّ هودًا كان من أشراف القبيلة الّتي هي عاد.
﴿إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ الصحيح من الأقوال: أن بلاد عاد كانت في اليمن، ولهم كانت إرم ذات العماد، والأحقاف جمع حقف، وهو الجبل المستطيل المعوَجُّ من الرمل، وكثيرًا ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل في الصحارى؛ لأنّ الريح تصنع ذلك.
﴿وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ﴾ مضت الرسل ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ من قبله ومن بعده، المعنى: خَوَّفَ قومَه وهم بهذا المكان بقوله:
﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ هائل؛ بسبب شرككم. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ أَخَافُ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
(١) رواه مسلم (٢٩٧٠) في أول كتاب: الزهد والرقائق.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٣)، و "معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٧٢).
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا﴾ لتصرِفَنا ﴿عَنْ﴾ عبادة.
﴿آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ من العذاب.
﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في وعدك.
* * *
﴿قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ هو يعلم متى يأتيكم العذاب.
﴿وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ﴾ من الوحي إليكم (١)، ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [النور: ٥٤].
﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ باستعجالكم العذاب. قرأ أبو عمرو: (وَأبلِغُكُمْ) بإسكان الباء وتخفيف اللام، والباقون: بفتح الباء وتشديد اللام (٢)، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عموو، والبزي عن ابن كثير؛ (وَلَكِنِّيَ) بفتح الياء، والبادون: بإسكانها (٣).
(١) "إليكم" ساقطة من "ت".
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١١١)، و "معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٧٢).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٨ - ٥٩٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٧٢).
﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ﴾ أي: العذابَ ﴿عَارِضًا﴾ نصب على الحال؛ أي: سحابًا يعرض في أفق السَّماء؛ لأنّهم لما رأوا العذاب ﴿مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ﴾ ظنوه سحابًا؛ لأنّهم قد حبس عنهم المطر، فخرجت عليهم سحابة سوداء من وادٍ لهم يقال له: المغيث، فلما رأوها، استبشروا.
و ﴿قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ يأتينا بالمطر، فقال لهم هود: ليس الأمرُ كما رأيتم.
﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ﴾ في قولكم: ﴿فَأَتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾.
ثمّ قال: ﴿رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فجعلت (١) الريح تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتّى ترى كأنّها جرادة.
* * *
﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿تُدَمِّرُ﴾ تُهلك ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ مرت به من رجال عاد وأموالهم.
﴿بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ وجلس هود بمؤمنيه في حضيرة لا يصيبهم منها إِلَّا ما يلين أبشارهم، وتلتذ (٢) بها نفوسهم، وروي أن هذه (٣) الريح أمالت عليهم الأحقاف، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيّام، ثمّ كشفت عنهم،
(١) في "ت": "فجعل".
(٢) في "ت": "تلذ".
(٣) في "ت": "هذا".
واحتملتهم الريح، ورمتهم أجمعين في البحر.
﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ قرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب، وخلف: (يُرَى) بياء مضمومة على الغيب مجهولًا، (مَسَاكِنُهُمْ) بالرفع فاعل المجهول، وقرأ الباقون: بالتاء وفتحها على الخطاب معلومًا (١)؛ أي: لا ترى يا محمدُ إِلَّا مساكنَهم، ونصب (مَسَاكِنَهُمْ) مفعولًا صريحًا، وأمال أبو عمرو والكسائي الراء من (تَرَى) (٢)، المعنى: هلكوا بأموالهم، وبقيت مساكنهم. ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾.
كان - ﷺ - إذا رأى الريح، فزع، ويقول: "اللهمَّ إنِّي أسألُك خيرَها وخيرَ ما أُرْسِلَتْ به، وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما أُرْسِلَتْ به" (٣).
* * *
﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ثمّ خاطب تعالى قريشًا على جهة الموعظة، فقال: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ (ما) موصولة بمعنى الّذي، و (إن) نافية بمعنى (ما)
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٠٠)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٤٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٧٣ - ١٧٤).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٧٣).
(٣) رواه مسلم (٨٩٩)، كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: التعوذ عند رؤية الريح والغيم والفرح بالمطر، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
وقعت مكانها؛ ليختلف اللّفظ تخفيفًا؛ لئلا يجمع بين كلمتين بلفظ واحد (١)، المعنى: مكَّنَّا عادًا في الّذي ما مكناكم فيه يا كفار مكّة.
﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً﴾ فكانت أعمارهم (٢) طويلة، وأجسادهم قوية، وأموالهم كثيرة.
﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ فما دفع ذلك عنهم شيئًا ممّا حل بهم من العذاب.
﴿إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ﴾ نزلَ ﴿بِهِمْ﴾ جزاءُ ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ من العذاب، وهذا تهديد للمشركين.
* * *
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ثمّ زادهم تهديدًا بقوله: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ﴾ يا أهل مكّة.
﴿مِنَ﴾ أهل ﴿الْقُرَى﴾ كعاد وثمود وقوم لوط.
﴿وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ﴾ بَيَّناها بالإنذار بالعذاب.
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عن كفرهم، فلم يرجعوا، فأهلكناهم.
* * *
﴿فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)﴾.
(١) "واحد" زيادة من "ت".
(٢) في "ت": "أعمالهم".
[٢٨] ﴿فَلَوْلَا﴾ فهلَّا (١) ﴿نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً﴾ يعني: الأوثان يتقربون بها إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
﴿بَلْ ضَلُّوا﴾ غابوا عند نزول العذاب بهم ﴿عَنْهُمْ﴾ قرأ الكسائي: (بَل ضَّلُّوا) بإدغام اللام في الضاد، والباقون: بالإظهار (٢).
﴿وَذَلِكَ﴾ اتخاذُهم الآلهة واعتقادُهم فيها ﴿إِفْكُهُمْ﴾ كذبُهم ﴿وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾.
﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ولما مات أبو طالب، خرج رسول الله - ﷺ - وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرَ والمنعةَ له من قومه، فلم يطيعوه، فانصرف رسول الله - ﷺ - من الطائف راجعًا إلى مكّة حين يئس من خير ثقيف، حتّى إذا كان بنخلة عند سوق عكاظ، قام من جوف اللّيل يصلّي، فمر به نفر من جن أهل نصيبين اليمن، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته، وَلَّوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا، وأجابوا لما سمعوا، فقصَّ الله خبرهم عليه، فقال: ﴿وَإِذْ﴾ (٣) أي: واذكر إذ ﴿صَرَفْنَا﴾ أَمَلْنا ﴿إِلَيْكَ﴾ قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف: (وَإِذْ صَرَفْنَا) بإظهار
(١) "فهلا" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٥٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٧٤).
(٣) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (١/ ٤١٩) وما بعد.
301
الذال عند الصاد، والباقون: بالإدغام (١) ﴿نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ جن نصيبين اليمن، قال ابن عبّاس: "هم تسعة: سليط، وشاصر، وماصر، وحسا، ومسا، وعليم، والأرقم، والأدرس، وحاصر (٢) " (٣).
﴿يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ منك.
﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ﴾ أي: استماعَ القرآن؛ أي: كانوا منه بحيث يسمعون ﴿قَالُوا﴾ أي: قال بعضهم لبعض: ﴿أَنْصِتُوا﴾ أصغوا لاستماعه، قالوا: صَهْ.
﴿فَلَمَّا قُضِيَ﴾ فُرغ من تلاوته ﴿وَلَّوْا﴾ رجعوا.
﴿إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ مخوِّفين بأمر النّبيّ - ﷺ -.
في الحديث: "الجنُّ ثلاثةُ أصناف: صنفٌ لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف كلاب وحيات، وصنف يحلُّون ويرتحلون" (٤).
* * *
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٥٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٧٦).
(٢) انظر: "الروض الأُنف" (١/ ٣٥٤ و ٢/ ٢٣٥) و"فتح الباري" لابن حجر (٨/ ٦٧٤).
(٣) جاء على هامش النسخة "ت": [أسماء الجن: وفيها، وكذا في عددهم خلاف ذكره السهيلي وغيره، ونصيبين -بفتح النون-: بلدة بالجزيرة بشمال سنجار وفي قرب منها جبل الجودي كما في "تقويم البلدان" وغيره.
(٤) رواه ابن حبّان في "صحيحه" (٦١٥٦)، والطبراني في "المعجم الكبير" (٢٢/ ٢١٤)، والحاكم في "المستدرك" (٣٧٠٢)، من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه. قال ابن كثير في "تفسيره" (٣/ ٥٣٩): رفعه غريب جدًّا.
302
﴿قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠)﴾.
[٣٠] وكان دينهم اليهودية، فلذلك ﴿قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا﴾ هو القرآنُ ﴿أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ قال ابن عبّاس: "إنهم لم يعلموا بعيسى، فلذلك قالوا: من بعد موسى" ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ هي التوراة ﴿يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾ الإسلام ﴿وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ العمل به.
* * *
﴿يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ﴾ محمدًا - ﷺ - إلى الإيمان.
﴿وَآمِنُوا بِهِ﴾ الضمير عائد على (الله).
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ أي: ذنوبكم، وقيل: المراد: يغفر لكم بعض ذنوبكم، وهو ما يكون في خالص حق الله تعالى، لا مظالم العباد؛ لأنّه تعالى لا يغفرها إِلَّا برضا أربابها.
﴿وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ هو مُعَدٌّ للكفار، فاستجاب لهم من قومهم نحو من سبعين رجلًا من الجن، فرجعوا لرسول الله - ﷺ -، فوافوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن، وأمرهم ونهاهم (١)، وفيه دليل على أنّه - ﷺ - كان مبعوثًا (٢)
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٤٨)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ٢١٧).
(٢) "مبعوثًا" زيادة من "ت".
إلى الإنس والجن جميعًا، ولم يبعث قبله نبي إليهما جميعًا.
واختلف الأئمة في حكم مؤمني الجن، فقال أبو حنيفة: لا ثواب لهم إِلَّا النجاة من النار؛ لقوله تعالى: ﴿وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ثم يقال لهم: كونوا ترابًا مثل البهائم (١)، وقال مالك والشّافعيّ وأحمد: لهم الثواب في الإحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة؛ كالإنس، وهم في حكم بني آدم؛ لأنّهم مكلَّفون مثلهم.
ولم يرسل - ﷺ - إلى الملائكة، صرح به البيهقي في الباب الرّابع من "شعب الإيمان"، وصرح في الباب الخامس عشر بانفكاكهم من شرعه، وفي "تفسير الإمام الرازي"، و"البرهان النفسي" حكاية الإجماع، قال ابن حامد من أصحاب أحمد: ومذهب العلماء إخراجُ الملائكة عن التكليف، والوعد والوعيد، وهم معصومون كالأنبياء بالاتفاق، إِلَّا من استثني؛ كإبليس، وهاروت وماروت، على القول بأنّهم من الملائكة.
* * *
﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ﴾ ليس له مهرب.
﴿وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ﴾ من دون عذابه تعالى ﴿أَوْلِيَاءُ﴾ أنصارٌ يمنعونه من الله.
(١) جاء على هامش "ت": "وفي شرح عقائد الطحاوي لابن السراج: أن أبا حنيفة -رحمه الله تعالى- توقف في كيفية ثوابهم؛ حيث لم ينص شيء في القرآن".
﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ واختلف القراء في الهمزتين من (أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ)، ولم يرد في القرآن همزتان متفقتان بالضم في كلمتين إِلَّا في هذا المحل، فقرأ أبو عمرو: بإسقاط الهمزة الأولى منهما بلا عوض منها، وتحقيق الثّانية، وقرأ قالون عن نافع، والبزي عن ابن كثير: بتسهيل الأولى بين الهمزة والواو، وتحقيق الثّانية، وقرأ أبو جعفر، ورويس عن يعقوب: بتحقيق الأولى، وتسهيل الثّانية، واختلف عن قنبل راوي ابن كثير، وورش راوي نافع، فروي عن الأوّل: جعل الهمزة الثّانية بين بين، وروي عنه إسقاط الهمزة الأولى، وهو الّذي عليه الجمهور من أصحابه، وروي عن الثّاني: إبدال الهمزة الثّانية حرف مد، وروي عنه: تسهيلها بين بين، وقرأ الباقون، وهم: الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: بتحقيق الهمزتين (١).
* * *
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ لم يتحير فيه، ولم يعجز عنه ﴿بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ الباء في قوله (بِقَادِرٍ) زائدة مؤكدة، ومن حيث تقدّم نفيٌ في صدر الكلام، حَسُنَ التأكيدُ بالباء، ولم يكن المنفي ما دخلت هي عليه؛ كما في قولك: ما زيدٌ بقائمٍ، كأنَّ بدل (أَوَلَمْ يَرَوْا): أَوَلَيْسَ الّذي خَلَق. قرأ يعقوب: (يَقْدِرُ) بياء مفتوحة
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٧٦ - ١٧٧).
وإسكان القاف من غير ألف وضم الراء، وقرأ الباقون: بالباء وفتح القاف وألف بعدها، وخفضِ الراء منونة (١). قرر القدرة على إحياء الموتى، وأكده بقوله:
﴿بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ كما قرر الربوبية بـ (بلى) في قوله (٢): ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: ١٧٢].
* * *
﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ ويقال (٣) لهم: ﴿أَلَيْسَ هَذَا﴾ التعذيبُ ﴿بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا﴾ وذلك تصديقٌ حيث لا ينفع ﴿قَالَ﴾ أي: فيقول لهم المجاوب من الملائكة عند ذلك: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ بسبب كفركم.
* * *
﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ﴾ أي: الجد والحزم ﴿مِنَ الرُّسُلِ﴾
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٤٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٧٧).
(٢) "في قوله" سقط من "ت".
(٣) في "ت": "فيقال".
306
وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم الصّلاة والسلام، فهم مع محمّد - ﷺ - خمسة، ذكرهم الله تعالى على التخصيص في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [الأحزاب: ٧]، وفي قوله: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: ١٣]، المعنى: اصبر على أذى قريش؛ كصبر الرسلِ قبلَك.
﴿وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ نزولَ العذاب؛ فإنّه نازل.
﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ﴾ من العذاب ﴿لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً﴾ المعنى: إذا عاينوا العذاب، استقصروا من هوله مدةَ لبثهم في الدنيا والبرزخ، فظنوها ساعة.
﴿مِنْ نَهَارٍ﴾ لأنّ ما مضى وإن كان طويلًا كأن لم يكن.
﴿بَلَاغٌ﴾ أي: هذا القرآن وما فيه تبليغٌ من الله إليكم.
﴿فَهَلْ يُهْلَكُ﴾ بالعذاب إذا نزل ﴿إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الخارجون عن أمر الله، وفي هذه الألفاظ وعد محض، وإنذار بَيِّنٌ، والله أعلم.
* * *
307
Icon