تفسير سورة الذاريات

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الذاريات مكية وآياتها ستون، نزلت بعد سورة الأحقاف. وموضوعها كموضوع السور المكية : أصول العقيدة والاعتقاد بوحدانية الله، وأنه هو الخالق الرازق، المحيي والمميت، والمتصرف في الكون بما يشاء.
وتبدأ السورة بالقسَم بأربعة أشياء هي : الرياح، والسحب، والسفن، والملائكة، على صِدق البعث ووقوع الجزاء. ثم تردف بقسم آخر على اضطراب المنكرين فيما يقولونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن القرآن الكريم. فيُقسم تعالى بالسماء ذات الحُبُك المنسّقة المحكمة البناء والتركيب- كتنسيق الزرَد المتشابك المتداخل الحلقات- على اضطراب أقوالهم، وأنهم يعيشون في أوهام وظنون في أمر البعث.
ثم تنتقل السورة إلى إنذار المنكرين بسوء مآلهم في الآخرة، وتصوير ما أعد الله للمتقين فيها جزاء ما قدّموا من أعمال صالحة في الدنيا.
ثم توجه الأنظار إلى التأمل في آيات الله في هذا الكون الكبير العجيب، وفي الأنفس وما فيها من عجائب الصنع ولطائف الخلق، وأن الرزق مؤمّن للجميع، ﴿ فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ﴾ لا شك في ذلك ولا ريب.
ثم تحدثت عن قصة إبراهيم مع ضيوفه من الملائكة الذين بعثهم الله لإهلاك المكذبين من قوم لوط، وبشروا إبراهيم بغلام عليم من زوجته التي كانت عقيما. ثم تعرض السورة لأحوال بعض الأمم وما أصابهم من الهلاك بتكذيبهم لأنبيائهم، مثل قوم نوح وعاد وفرعون وثمود. وتشير بعد ذلك بإجمال إلى بعض الآيات الكونية لتحث الناس على الرجوع إلى الله، وإفراده بالعبادة، وتخاطب الرسول الكريم ﴿ فتولّ عنهم ما أنت بمَلوم، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ﴾. وفي هذا تسلية للرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه. وفي الختام تذكر السورة الغاية من خلق الجن والإنس، وهي العبادة، وأن الله غني عنهم جميعا ﴿ ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يُطعمون ﴾. ثم يجيء الإنذار للمكذبين ﴿ فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ﴾.

الذاريات : الرياح تذرو الترابَ وغيره، وهي تحمل معها الحياة لأنها تسوق السحاب، كما تحمل الدمار أحيانا.
أقسَم الله تعالى بهذه الأشياء : بالرياح المثيراتِ للتراب وغيره.
فالحاملات وقرا : الوقر هو السحاب، تحمله الرياح موقَرة بالغيث يسوقها الله إلى حيث يشاء.
وبحملها للسُحب فالحاملات منها ثقلاً عظيما من الماء.
فالجاريات يُسرا : السفن تجري في يسر على سطح الماء.
وبالسفن الجارية تمخرُ البحار.
فالمقسّمات أمرا : الملائكة التي تحمل أوامرَ الله لتبليغها إلى رسُله.
وبالملائكة تقسِم أوامرَ الله وتبلّغُها إلى رسله الكرام.
إنما توعَدون : هو البعث وهو صدق،
إنّ البعث لحقٌّ صادق.
والدين : هنا الحساب والجزاء.
وإن الدّين ( وهو الجزاء على أعمالكم ) لحاصِل.
والسماءِ ذات الحبك : السماء ذات الطرق المحكمة النظام.
وأقسم الله تعالى بالسماء ذاتِ الجمال والبهاء، المحكَمةِ البنيانِ والنظام.
إنكم لفي قول مختلف : مضطرِب متناقض.
إنكم أيّها المشرِكون المكذِّبون للرسولِ لَفي قولٍ متناقضٍ مضطرب
يؤفكُ عنه مَن أُفك : يُصرف عنه من صرف عن الإيمان.
أي يُصرف عن الدين والحق، من صرَفَه عنه جهلُه وهواه.
الخرّاصون : الكذابون.
هلك الكذّابون القائلون في شأن القيامة بالظنّ،
في غمرة : في جهل يغمرهم.
ساهون : غافلون عما أُمروا به.
الذين هم مغمورون في الجَهل، غافِلون عما أُمروا به.
أيان يوم الدين : متى يوم الجزاء.
وهم يسألون استهزاءً فيقولون : متى يومُ الجزاء ؟
يفتنون : يحرقون.
قل لهم يا محمد إن يومَ الدّين ﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ ﴾ أيْ في جهنمَ يُحرقون،
فتنتكم : عذابكم المعدّ لكم.
ويُقال لهم :﴿ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ ذوقوا هذا العذاب الذي كنتم تظنون أنه غير كائن وتستعجلون وقوعه مستهزئين.
بعد أن ذكر الكفارَ المنكرين للبعث والجزاءِ وما ينتظرهم يومَ القيامة، ذكَرَ هنا حالَ المؤمنين المتقين وما يتمتعون به من النعيم المقيم في جَنّة الخُلد.
لأنهم آمنوا وكانوا محسِنين في الدنيا.
ما يهجعون : ما ينامون.
وكانوا يقيمون صلاةَ الليل ويتهجّدون في معظمِه.
الأسحار : أواخر الليل.
ويستغفِرون اللهَ تعالى في وقت الأسحار
وفي أموالهم حق : نصيب.
للسائل : للطالب.
المحروم : المتعفف الذي لا يسأل. يُطلق على الواحد والجمع.
كما جعلوا في أموالِهم جزءاً للفقراءِ والمساكين، والذين لا يَجِدون ولا يَسالون.
ثم ذَكرَ بعد ذلك بعضَ الآيات الكونية في الأرض والنفس. وفي الأرضِ دلائلُ على وجود الخالق العظيم.
وفي أنفسِكم أيها الناسُ كذلك آياتٌ واضحةٌ أفلا تُبصِرون دلالتها ؟.
وفي السماء أسبابُ رِزقكم، وكذلك ما توعَدون من كل شيء، فاعملوا وتوكّلوا على اللهِ الرزاقِ الكريم ولا تخافوا.
ثم أقسمَ اللهُ تعالى بعزّته وجلاله أن البعثَ حقٌّ ﴿ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴾ فلا تشكّوا فيه، يعني أن بَعْثَ الناسِ يومَ القيامة حقٌّ كأنكم تسمعون وترون.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : إنه لحقٌّ مثلُ ما أنكم تنطقون برفع مثل، والباقون : مثلَ بالنصب.
ثم تطرّقَ إلى قصة إبراهيم مع ضيوفه، تسليةً لرسوله الكريم. وقد تكرر ذكر إبراهيم كثيراً لأن النبيَّ على دينه، ولأنّ قريش كانت تقول إنّهم على دِين إبراهيم.
هل علمَت يا محمد قصةَ الملائكة، ضيوفِ إبراهيم ؟
قوم منكَرون : مجهولون غير معروفين.
الذي وفدوا عليه فأكرمهم وهو لا يعرفُهم، ولذلك قال لهم :﴿ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾ مجهولون لنا لا نعرفهم.
فراغَ إلى أهله : فذهب إلى أهله خفية وسرا.
ثم أسرع إبراهيم إلى أهله خِفية وقدّم لضيوفه عجْلا سمينا مشويّا،
فقرّبه إليهم : وضعه بين أيديهم.
فقرّبه إليهم، فلم يأكلوا منه، فقال منكِرا لحالهم : ألا تأكلون ؟
فأوجس منهم خيفة : أضمر في نفسه الخوف منهم.
خافَ منهم في نفسِه، ظناً منه أن امتناعَهم عن الأكل إنما كان لشرّ يريدونه.
﴿ قَالُواْ لاَ تَخَفْ ﴾ وطمأنوه بقولهم : لا تخفْ منا، إنا رسُل ربك إلى قوم لوطٍ، كما جاء في قوله تعالى :﴿ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ [ هود : ٧٠ ].
ثم زادوا طمأنتهم له : فقالوا : أبْشِر يا إبراهيم بغلامٍ عليم. هذا هو ابنه إسحاق من زوجته سارة.
امرأته : سارة.
في صرة : في ضجة.
فصكت وجهها : ضربت بيدها على جبهتها.
وقالت : عجوز عقيم : أنا كبيرة السن لا ألد.
فلمّا أقبلت سارة وفوجئت بالبِشارة صاحت وضربت بيدها على جبينها، وقالت : أنا عجوز عقيم فكيف ألِد ؟ كما جاء واضحاً في سورة هود ٧٢ ﴿ قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً ﴾
كذلك قضى ربك بحكمتِه، إنه هو الحكيم في كل ما يقضي، العليم الذي لا يخفى عليه شيء.
ما خطبكم : ما شأنكم الذي أُرسلتم من أجله، والخطب : الشأن الخطير.
قال إبراهيمُ يخاطب الضيوفَ بعد أن سلَّم عليهم وهو لا يعرفهم : ما شأنُكم، وفيم أُرسِلتم ؟
إلى قوم مجرمين : هم قوم لوط.
فقالوا له : إنّا أُرسِلنا إلى قومِ لوطٍ المجرِمين، ومعنا أوامرُ من الله تعالى بإهلاكهم.
مسوَّمة : معلّمة، عليها علامة خاصة.
للمسرفين : الذين جاوزوا الحد في الفجور.
ولم يجِدوا فيها غيرَ أهلِ بيتٍ من المسلمين.
آية : علامة.
وجعلنا بَلَدهم عِبرةً بما أنزلنا بِها من العذابِ والدّمارِ، وذِكرى للّذين يخافون الله.
بسلطان مبين : بحجّة واضحة.
وكذلك أرسل اللهُ موسى إلى فرعونَ وقومه بحجّةٍ واضحة ومعجزاتٍ باهرة.
فتولى بركنه : فتولى بقوته معتزاً بها وبجنوده.
فأعرض فرعونُ عن الإيمان برسالة موسى معتدّاً بقوّته وما عندَه من جنودٍ ومُلكٍ، وقال عن موسى : إنه ساحر أو مجنون.
نبذناهم : طرحناهم، ألقيناهم في البحر.
مُليم : فعلَ ما يلام عليه من الكفر والعناد.
فأغرقه الله هو وجنودَه في البحر ﴿ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ أيْ مقترفٌ من الأعمال ما يُلام عليه.
الريح العقيم : التي لا خير فيها، لا تلقح شجرا، ولا تحمل مطرا.
وكذلك في قصة عادٍ عبرةٌ وعظةٌ، حيث أهلكهم اللهُ بالرِيح العقيمِ العاتية.
كالرميم : كالبالي من كل شيء.
ومثلُهم قومُ ثمودٍ.
فعتَوا : فاستكبروا عن امتثال الأوامر.
الصاعقة : نار تنزل من السحاب بالاحتكاكات الكهربائية.
أهلكهم اللهُ بالصاعقة.
قراءات :
قرأ الكسائي : فأخذتهم الصعقة : والباقون : الصاعقة.
وقبلَهم قومُ نوحٍ أغرقَهم الله بذُنوبهم، . وقد تقدمت قصة الجميع أكثر من مرة في سورة الأعراف وهود بأوسعَ من ذلك.
والسماءَ بنيناها بأيدٍ : بنيناها بقوة.
وإنا لموسِعون : يعني أن هذا الكون فيه أمور تذهل لما يتسع فيه من المجرّات والأجرام السماوية التي تتمدد وتتسع دائما.
بعد إشارات سريعة إلى قصصِ بعضِ الأنبياء الكرام، وذِكر شيءٍ من أفعال أقوامهم - يأتي ذِكرُ قدرة الله تعالى على خلْق هذا الكون ببناءِ السماء بهذا الإحكام المنفرد، وبأن التوسِعةَ مستمرةٌ على الزمن، وأن في الكون أجراماً من السُدُم والمجرّات تتمدَّد وتتوسّع دائما إلى ما شاء الله.. وهذه أبحاثٌ في عِلم الفلك مذهلةٌ لمن شاءَ أن يطّلع عليها، فإنه سيجدُ العَجَبَ العُجاب..
والأرضَ فرشناها : مهّدناها كالفراش ليعيش الناس عليها.
فنِعم الماهدون : فنعم المهيّئون لها نحن.
وإن الله تعالى فرشَ لنا هذه الأرضَ ومدّها لنا لنعيشَ عليها بأمانٍ وسلام،
ومن كل شيء خلقنا زوجين : ذكراً وأنثى.
وخلَق من كل شيء ذكراً وأنثى لاستمرار الحياة وبقائها إلى أن يشاءَ خالقُها.
ففِروا الى الله : التَجِئوا اليه، واعتصموا به.
ولذلك ينصحنا الله تعالى أن نلجأ إليه، ونسارعَ إلى طاعته.
كما نصَح من أرسَل رسله إليهم من المشركين.
كذلك شأن الأمم مع رسلهم، ما جاء رسولٌ إلى قومه إلا قالوا عنه ساحر أو مجنون.
أتواصَوا به : هل أوصى بعضهم بعضا بهذا القول ؟
أأوصى بعضُهم بعضاً بهذا القول ؟ بل هم قوم طاغون تجاوزوا كلَّ حدٍّ في طعنِهم على الرسُل والأنبياء.
فما أنتَ بملوم : ما أنت بمسئول عن عدم استجابتهم.
ثم خاطب الرسولَ الكريم مسلّياً له بقوله :
﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ ﴾ أَعرِض عن هؤلاء المعانِدين المنكِرين يا محمد، فما أنتَ بملومٍ على عدَم استجابتهم ولا بمسئول،
وداوِم على التذكير فإن الذِكرى تنفع مَن في قلوبهم استعدادٌ للهداية من المؤمنين.
ثم بين بعد ذلك كلّه ما هو المرادُ من خلْق الجِنّ والإنس فقال :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾
لا أريدُ منهم رِزقاً لأني غنيٌّ عن العالمين، ولا أريدُ أن يطعموني لأني أطعِم ولا أطعَم.
إن الله وحدَه هو المتكفّل برزقِ هذا الخلق ﴿ إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين ﴾.
فإن للذين ظلموا ذنوبا : نصيبا.
مثلَ ذَنوبِ أصحابهم : مثل نصيب أصحابهم من الكفار من الأمم الماضية.
ثم بيّن أن للذين ظلموا أنفسَهم بالكفر نصيباً من العذاب مثلَ نصيبِ أصحابهم من الأمم الماضية، فلا يستعجلني قومُك أيها الرسول، بإنزالِ العذاب قبل أوانه.
ختم السورة الكريمة بهذا الإنذار الشديد الذي سينالهم يوم القيامة.
Icon