ﰡ
مكية، إلا ست آيات فإنها مدنيات، وهي قوله: قُلْ تَعالَوْا إلى آخر الآيات الثلاث وهو:
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ إلى قوله تعالى: وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ، مائة وخمس وستون آية، ثلاثة آلاف وخمس وخمسون كلمة، اثنا عشر ألفا وسبعمائة وسبعة وعشرون حرفا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ والمدح أعم من الحمد لأن المدح للعاقل ولغير العاقل، فكما يمدح العاقل على أنواع فضائله كذلك يمدح اللؤلؤ لحسن شكله والياقوت على نهاية صفائه وصقالته، والحمد لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإحسان.
والحمد أعمّ من الشكر لأن الحمد تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك والشكر تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحصل عندك. والمقصود من هذه الآية ذكر الدلالة وعلى وجود الصانع والفرق بين الجعل والخلق أن كلا منهما هو الإنشاء والإبداع إلا أن الخلق: مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية، والجعل: عام له كما في هذه الآية الكريمة، وللتشريعي أيضا كما في قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة: ١٠٣] الآية وجمع الظلمات دون النور لكثرة محالها إذ ما من جرم إلا وله ظل، والظل: (هو الظلمة) بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار، وهذا إذا حملا على الكيفيتين المحسوستين بحس البصر وإن حمل النور على نور الإسلام والإيمان واليقين والنبوة، والظلمات على ظلمة الشرك والكفر والنفاق فنقول: لأن الحق واحد والباطل كثير وتقديم الظلمات على النور لأن الظلمة عدم النور عن الجسم الذي يقبله وعدم المحدثات متقدم على وجودها ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) أي يشركون به غيره وهذه الجملة إما معطوفة على قوله الحمد لله والباء متعلقة بكفروا فيكون يعدلون من العدول ولا مفعول له. والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه لأنه تعالى ما خلقه إلا نعمة، ثم الذين كفروا بربهم يميلون عنه فيكفرون نعمته أو متعلقة
خَلَقَ السَّماواتِ والباء متعلقة بيعدلون وقدمت لأجل الفاصلة وهي إما بمعنى عن ويعدلون من العدول. والمعنى أن الله تعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ثم الذين
كفروا يعدلون عن ربهم إلى غيره أو للتعدية ويعدلون من العدل وهو التسوية. والمعنى أنه تعالى خلق هذه الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه ثم إنهم يعدلون به جمادا لا يقدر على شيء أصلا فيكون المفعول محذوفا، وكلمة «ثم» لاستبعاد الشرك بعد وضوح آيات قدرته تعالى. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي إن الله خلق جميع الإنسان من آدم وآدم كان مخلوقا من طين فلهذا السبب قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي من جميع أنواعه فلذلك اختلفت ألوان بني آدم وعجنت طينتهم بالماء العذب والملح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم وأيضا إن الإنسان مخلوق من المني، والمني إنما يتولّد من الأغذية وهي إما حيوانية أو نباتية، فحال الحيوانية كالحال في كيفية تولّد الإنسان فبقي أن تكون الأغذية نباتية فثبت أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية، ولا شك أنها متولدة من الطين فثبت أن كل إنسان متولد من الطين.
وقال المهدوي: إن الإنسان مخلوق ابتداء من طين لخبر: «ما من مولود يولد إلا ويذر على النطفة من تراب حفرته وأيا ما كان الإنسان» «١» ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث ما لا يخفى فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي خصص الله موت كل واحد بوقت معين وذلك التخصيص تعلق مشيئته تعالى بإيقاع ذلك الموت في ذلك الوقت وَأَجَلٌ مُسَمًّى أي حد معين لبعثكم جميعا من البرزخ عِنْدَهُ.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الله تعالى قضى لكل أحد أجلين، أجلا من مولده إلى موته، وأجلا من موته إلى مبعثه فإن كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر، وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث. وقال حكماء الإسلام: إن لكل إنسان أجلين.
أحدهما: الآجال الطبيعية.
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ أي أعطينا أولئك الجماعة من البسطة في الأجساد والامتداد في الأعمار، عليهم مدرارا والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا ما لم نعطكم يا أهل مكة وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي المطر عَلَيْهِمْ مِدْراراً أي متتابعا كلما احتاجوا إليه وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي من تحت بساتينهم وزروعهم وشجرهم فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ بتكذيبهم الأنبياء وبكونهم باعوا الدين بالدنيا وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) أي أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن قرنا آخرين بدلا من الهالكين، وهذا تنبيه على أن إهلاك الأمم الكثيرة لم ينقص من ملكه شيئا ولا يتعاظم على الله هلاكهم وخلو بلاده منهم فإنه تعالى قادر على أن ينشئ مكانهم قوما آخرين يعمر بهم بلاده وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أي
وقال ابن إسحاق: والقائلون بالأقوال الآتية، زمعة بن الأسود والنضر بن الحرث بن كلدة، وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف، والعاص بن وائل كما أخرجه ابن أبي حاتم.
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي هلا أنزل على محمد ملك يخبرنا بصدقه في دعوى النبوة ويشهد بما يقول. والمعنى أن منكري النبوات يقولون: لو بعث الله إلى الخلق رسولا لوجب أن يكون ذلك الرسول واحدا من الملائكة، لأن علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم، وامتيازهم عن الخلق أكمل، ووقوع الشبهات في نبوتهم أقل. فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجهين:
الأول: قوله تعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لفرغ من هلاكهم أي لو أنزل الملك على هؤلاء الكفار فربما لم يؤمنوا، وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال فحينئذ ما أنزل الله تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب، وأيضا إنهم إذا شاهدوا الملك زهقت روحهم من هول ما يشاهدون وذلك أن الآدمي إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر. فإن رآه على صورته الأصلية لم يبقى الآدمي حيا فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رأى جبريل على صورته الأصلية غشي عليه وأن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط، وخصم داود وغير ذلك. وحيث كان شأنهم كذلك وهم مؤيدون بالقوى القدسية فما ظنك بمن عداهم من العوام، وأيضا إذا رآه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف فيجب إهلاكهم وذلك مخل بصحة التكليف، وإن رآه على صورة البشر فلا يتفاوت الحال سواء كان هو في نفسه ملكا أو بشرا، وأيضا إن إنزال الملك يقوي الشبهات لأن كل معجزة ظهرت عليه ردوها وقالوا: هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته. ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) أي لا يمهلون بعد نزول الملك طرفة عين وكلمة، «ثم» للتنبيه على أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة وأشق.
والثاني: قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أي ولو جعلنا الرسول ملكا لجعلنا الملك على صورة الرجل، لأن البشر لا يستطيعون أن ينظروا إلى الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها ولو نظر إلى الملك ناظر من الآدميين لصعق عند رؤيته وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) أي ولو صورنا الملك رجلا لصار فعلنا نظيرا لفعلهم في التلبيس وإنما كان ذلك تلبيسا لأن الناس لا يظنون أنه بشر مع أنه ليس بشرا، وإنما كان فعلهم تلبيسا لأنهم يقولون
الآية تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي تخفيف لضيق قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند سماعه من القوم الذين قالوا: إن رسول الله يجب أن يكون ملكا من الملائكة ووعيد أيضا لأهل مكة فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) أي فدار وأحاط بالذين سخروا من أولئك الرسل عليهم السلام العذاب الذي يستهزئون به وينكرونه، فإن الكفار كانوا يستهزئون بالعذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله. أو المعنى فأحاط بمن استهزأ بالشرائع من الرسل عقوبة استهزائهم بالرسول المندرج في جملة الرسل
قُلْ يا أكرم الرسل لأهل مكة: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي قل لهم: لا تغتروا بما وجدتم من الدنيا وطيباتها ووصلتم إليه من لذاتها وشهواتها بل سيروا في الأرض لتعرفوا صحة ما أخبركم الرسول عنه من نزول العذاب على الذين كذبوا الرسل في الأزمنة السالفة. ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) أي ثم تكفروا في أنهم كيف أهلكوا بعذاب الاستئصال فإنكم عند السير في الأرض والسفر في البلاد لا بد وأن تشاهدوا تلك الآثار فيكمل الاعتبار ويقوى الاستبصار. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا وتصرفا فإن أجابوك فذاك، وإلا قُلْ لِلَّهِ لأنه لا جواب غيره كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجب على نفسه إيجاب الفضل والكرم والرحمة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بتأخير العذاب وقبول التوبة لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي والله ليجمعنكم في القبور محشورين إلى يوم القيامة. فيجازيكم على شرككم وسائر معاصيكم، أو ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة فإن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان لا رَيْبَ فِيهِ أي في الجمع الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) أي إن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وترك النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان، وأن سبق قضاء الله بالخسران هو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان بحيث لا سبيل لهم إليه أصلا وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي له تعالى كل ما حصل في الزمان سواء كان متحركا أو ساكنا وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) فيسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا أي قل يا أشرف الخلق أغير الله أجعله معبودا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وقرئ «فاطر السّموات» بالجر صفة لله أو بدل منه بدل المطابق. وبالرفع على إضمار هو، والنصب على المدح. وقرأ الزهري «فطر السموات» وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي وهو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. ويقال ولا يعان على الترزيق. قُلْ يا أكرم الخلق لكفار مكة: إِنِّي أُمِرْتُ أي من حضرة الله تعالى أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ فإنه صلّى الله عليه وسلّم سابق أمته في الإسلام. وقيل لي يا محمد وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) أي في أمر من أمور الدين قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان كان عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) أي عذابا عظيما في يوم عظيم وهو يوم القيامة مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ.
قرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي «يصرف» بفتح الياء وكسر الراء، والمفعول محذوف والتقدير من يصرف ربي عنه يومئذ العذاب فقد أنعم عليه.
والباقون «يصرف» بالبناء للمفعول. والمعنى أيّ شخص يصرف العذاب عنه ذلك اليوم العظيم فقد أدخله الله الجنة وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) أي وذلك الرحمة هو الفوز الظاهر وهو الظفر بالمطلوب وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ أي وإن يصبك الله ببلية أيها الإنسان كمرض وفقر ونحو ذلك فلا رافع له إلا هو وحده وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ أي وإن ينزل الله بك خيرا من صحة وغنى ونحو ذلك فلا راد له غيره فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧).
روي عن ابن عباس أنه قال: أهدي للنبي صلّى الله عليه وسلّم بغلة أهداها له كسرى فركبها بجبل من شعر، ثم أردفني خلفه ثم سار بي ميلا، ثم التفت إليّ فقال: «يا غلام» فقلت: لبيك يا رسول الله فقال:
«احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر، فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا. واعلم أن النصر مع الصبر وإن مع الكرب فرجا وإن مع العسر يسرا»
«١».
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ بالقدرة والقوة وهذا إشارة إلى كمال القدرة وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) فإن أفعاله تعالى محكمة آمنة من وجوه الخلل والفساد وإنه تعالى عالم بما يصح أن يخبر به.
وهذا إشارة إلى كمال العلم اه.
قال العلماء: المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام، ونصّ الشافعي على استحباب ضم التبرؤ إلى الشهادة لأن الله تعالى لما صرح بالتوحيد قال: إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهم علماء اليهود والنصارى الذين كانوا في زمن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون محمدا من جهة الكتابين بصفته المذكورة فيهما كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بصفاتهم فإنهم كذبوا في قولهم إنا لا نعرف محمدا لما روي أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر: إن الله أنزل على نبيه بمكة هذه الآية فكيف هذه المعرفة، قال عبد الله بن سلام: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، فقال عمر: كيف ذلك؟ فقال أشهد أنه رسول الله حقا ولا أدري ما تصنع النساء الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) ومعنى هذا الخسران كما قاله جمهور المفسرين أن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار. فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أجرأ ممن اختلق على الله كذبا كقول كفار مكة هذه الأصنام شركاء لله والله تعالى أمرنا بعبادتها. وقولهم: إن الملائكة بنات الله، ثم قولهم أمرنا الله بتحريم البحائر والسوائب وكقول اليهود والنصارى حصل في التوراة والإنجيل أن هاتين الشريعتين لا يتطرق إليهما النسخ ولا يجيء بعدهما نبي أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أي قدح في معجزات محمد صلّى الله عليه وسلّم وأنكر كون القرآن معجزة قاهرة بينة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا والآخرة بل يبقون في الحرمان والخذلان وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي كافة الناس وهو يوم القيامة ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا
قال ابن عباس: وكل زعم في كتاب الله كذب ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أي افتتانهم بالأوثان إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) أي لم تكن عاقبة افتتانهم بشركهم إلا براءتهم منه فحلفهم أنهم ما كانوا مشركين. ومثاله أن ترى إنسانا يحب صاحبا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه. قرأ ابن عامر وابن كثير وحفص عن عاصم «ثم لم تكن» بالتاء الفوقية و «فتنتهم» بالرفع.
وقرأ حمزة والكسائي «لم يكن» بالياء التحتية و «فتنتهم» بالنصب. وقرأ حمزة والكسائي «ربنا» بنصبه على النداء أو المدح. والباقون بالكسر انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بإنكار صدور الإشراك عنهم في الدنيا وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) أي وكيف زال عنهم افتراؤهم بعبادة الأصنام فلم تغن عنهم شيئا وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ أي وبعض من أهل مكة من يستمع إلى كلامك حين تتلو القرآن وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي وقد ألقينا على قلوبهم أغطية كثيرة كراهة أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن وفي آذانهم صمما وثقلا مانعا من سماعه، فمحل «أن يفقهوه» مفعول معه بحذف المضاف أو مفعول لفعل مقدر أي منعناهم أن يفقهوه مجموع القدرة على الإيمان مع الداعي إليه يوجب الفعل. فالكفر من الله تعالى وتكون تلك الداعية الجارة إلى الكفر كنانا للقلب عن الإيمان ووقرا للسمع عن استماع دلائل الإيمان وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها أي وأن يشاهدوا كل آية من الآيات القرآنية بسماعها كفروا بكل واحدة منها لأجل أن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بلغوا بتكذيبهم الآيات إلى أنهم إذا جاءوا إليك يجادلونك إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) أي ما هذا الذي يقول محمد إلا خرافات الأولين وكذبهم أي إن هذا الكلام من جنس سائر الحكايات المكتوبة للأولين وإذا كان هذا كذلك فلا يكون معجزا خارقا للعادة وجملة قوله تعالى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا تفسير لقوله: يُجادِلُونَكَ أي يناكرونك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: حضر عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأمية وأبيّ ابنا خلف والحرث بن عامر، وأبو جهل واستمعوا إلى القرآن فقالوا للنضر وكان كثير الأخبار للقرون الماضية: يا أبا قتيبة ما يقول محمد؟ قال: ما أدري ما يقول، لكني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدثكم به عن أخبار القرون الأولى. فقال أبو سفيان: إني أرى بعض ما يقول حقا، فقال أبو جهل: كلا أي لا تقرّ بشيء من هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وأولئك الكفار ينهون الناس عن استماع القرآن لئلا يقفوا على حقيته فيؤمنوا به وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي ويتباعدون عنه
وقرئ «إذ وقفوا» بالبناء للفاعل أي لو تراهم حين يكونون في جوف النار وتكون النار محيطة بهم ويكونون غائصين فيها لعرفوا مقدار عذابها، وإنما صح على هذا التقدير أن يقال:
وقفوا على النار لأنها دركات وطبقات بعضها فوق بعض فيصح هناك معنى الاستعلاء فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ إلى الدنيا لنؤمن وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا أي بآياته الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بها كي لا نرى هذا الموقف.
قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع «نكذب» ونصب «نكون» أي ولا يكون منا تكذيب مع كوننا من المؤمنين. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم بنصبهما والتقدير يا ليتنا لنا رد وانتفاء تكذيب بآيات ربنا، وكون من المؤمنين فهذه الأشياء الثلاثة متمناة بقيد الاجتماع. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير والكسائي برفعهما واتفقوا على الرفع في قوله «نرد». والمعنى أنهم تمنوا الرد إلى دار الدنيا وعدم تكذيبهم بآيات ربهم وكونهم من المؤمنين. أو المعنى يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين فيكون تمني الرد مقيدا بهاتين الحالتين بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ أي ليس التمني الواقع منهم لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأنه ظهر لهم في موقفهم ما كانوا يخفونه في الدنيا من تكذيبهم بالنار فإن التكذيب بالشيء إخفاء له بلا شك أي فلخوفهم منها ومن العقاب الذي عاينوه قالوا ما قالوا وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ أي ولو ردهم الله تعالى من موقفهم ذلك إلى الدنيا كما سألوا وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال لم يحصل منهم فعل الإيمان وترك التكذيب بل كانوا يستمرون على الكفر والتكذيب وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) في تمنيهم ووعدهم بفعل الإيمان وترك التكذيب فإن دينهم الكذب، لأنه قد جرى عليهم قضاء الله تعالى في الأزل بالشرك وَقالُوا أي كفار مكة إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي ما حياتنا إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) بعد أن فارقنا هذه الحياة وليس لنا بعد هذه الحياة ثواب وعقاب وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ أي حبسوا عند ربهم لأجل السؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده للعقاب لرأيت أمرا عظيما، والمعنى وقفوا على جزاء ربهم أي على ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين، وعلى ما أخبرهم به من أمر الآخرة قالَ أَلَيْسَ هذا أي البعث بعد الموت
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي أنكروا البعث والقيامة حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أي أنهم كذبوا ذلك إلى أن ظهرت القيامة باغتة فلا يعلم أحد متى يكون مجيئها وفي أي وقت يكون حصولها قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها أي يا ندامتنا على تفريطنا في تحصيل الزاد للساعة في الدنيا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أي والحال أنهم يحملون ثقل ذنوبهم عليهم أي إنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل عليهم فلا تفارقهم ذنوبهم.
وقال قتادة والسدي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحا ويقول: أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني فذلك قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم: ٨٥] أي ركبانا. وأن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحا فيقول: أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم، فذلك قوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) أي بئس شيئا يحملونه آثامهم وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي وما اللذات والمستحسنات الحاصلة في هذه الدنيا إلا فرح يشغل النفس عمّا تنتفع به، وباطل يصرف النفس عن الجد في الأمور إلى الهزل وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة أو التمسك بعمل الآخرة أو نعيم الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ من المعاصي والكبائر.
وقرأ ابن عامر «ولدار الآخرة» بإضافة دار إلى الآخرة. أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢). وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب أي قل لهم ألا تتفكرون أيها المخاطبون فلا تعقلون أن الدنيا فانية والآخرة باقية. وقرأ الباقون بالباء على الغيبة أي أيغفل الذين يتقون فلا يعقلون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار فيعملون لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ إنهم لا يؤمنون بك ولا يقبلون دينك وشريعتك أو يقولون إنك ساحر وشاعر وكاهن ومجنون. قرأ نافع «ليحزنك» بضم الياء وكسر الزاي. والباقون بفتح الياء وضم الزاي فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قرأ نافع والكسائي بسكون الكاف.
والباقون بفتحها وتشديد الذال أي لا يجدونك كاذبا لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة ولا ينسبونك إلى الكذب بالاعتقاد واللسان وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ
يَجْحَدُونَ
(٣٣) أي ولكن جحدوا صحة نبوتك ورسالتك أو المعنى أنهم يقولون في كل معجزة أنها سحر وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق. أو المعنى إن القوم ما كذبوك وإنما كذبوني لأنك رسولي
روي أن الحرث بن عامر من قريش قال: يا محمد والله ما كذبتنا قط ولكنا إن اتبعناك نتخطف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب.
وروي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له: والله إن محمدا لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا لسائر قريش، فنزلت هذه الآية.
وعن علي بن أبي طالب أن أبا جهل قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نكذبك فإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به، فنزلت هذه الآية:
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا أي ولقد كذب الرسل قومهم كما كذبك قومك فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم حتى أتاهم النصر بهلاك قومهم، فاصبر يا أشرف الخلق كما صبروا تظفر كما ظفروا، بل أنت أولى بالتزام الصبر لأنك مبعوث إلى جميع العالمين وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ بالنصرة فإن وعد الله إياك بالنصر حق وصدق ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) أي خبرهم في القرآن كيف كذبهم قومهم وكيف أنجيناهم ودمرنا قومهم وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي وإن كان شق عليك إعراضهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن، وأحببت أن تجيبهم إلى ما سألوه فإن قدرت أن تتخذ منفذا فيه إلى جوف الأرض، أو مصعدا ترتقي فيه إلى السماء فتأتيهم بآية مما اقترحوه عليك من تحت الأرض أو من فوق السماء فلتفعل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في نفر من قريش فقالوا: يا محمد ائتنا بآية من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل فإنا نصدق بك.
فأبى الله أن يأتيهم بآية مما اقترحوه فأعرضوا عنه صلّى الله عليه وسلّم فشق ذلك عليه لشدة حرصه على إيمان قومه، فنزلت هذه الآية. والمقصود من هذا الكلام أن يقطع الرسول طمعه عن إيمانهم وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر وهذا دليل على مبالغة حرصه صلّى الله عليه وسلّم على إسلام قومه إلى حيث لو قدر على أن يأتي بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لفعل رجاء لإيمانهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أي ولو شاء الله تعالى جمعهم على الهدى لجمعهم عليه بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ لعدم صرف اختيارهم إلى جانب الهدى مع تمكنهم التام منه في مشاهدتهم للآيات الداعية إليه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) أي فلا تكونن
روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قتل عصفورا عبثا جاء يوم القيامة يعج إلى الله يقول: يا رب إن هذا قتلني عبثا لم ينتفع بي ولم يدعني آكل من خشاش الأرض»
«١»
وروي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يقتص للجماء من القرناء»
«٢». والمقصود من هذه الآية الدلالة على كمال قدرته تعالى وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أي ما تركنا في القرآن شيئا من الأشياء المهمة أي أن القرآن واف ببيان جميع الأحكام فليس لله على الخلق بعد ذلك تكليف آخر وأن القرآن دل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس
(٢) رواه أحمد في (م ٢/ ص ٢٣٥).
روي أن ابن مسعود كان يقول: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه! فقرأت امرأة جميع القرآن فأتته فقالت: يا ابن أم عبد تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة، فقال: لو تلوتيه لوجدتيه، قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: ٧] وإن مما أتانا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه
قال: «لعن الله الواشمة والمستوشمة»
«١». وذكر أن الشافعي كان جالسا في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى، فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: لا شيء عليه، فقال: أين هذا من كتاب الله؟
فقال: قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: ٧]
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي»
«٢». وقال عمر رضي الله عنه: للمحرم وقتل الزنبور.
وروي أن أبا العسيف قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اقض بيننا بكتاب الله فقال صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله»
«٣» ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف وبالرجم على المرأة، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو عين كتاب الله لأنه ليس في نص الكتاب ذكر الجلد والتغريب ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) فإن الله تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة بمجرد الإرادة ومقتضى الإلهية.
وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة
(٢) رواه ابن ماجة في المقدمة، باب: اتباع سنّة الخلفاء الراشدين المهديين، والدارمي في المقدمة، باب: اتباع السنّة، وأبو داود في كتاب السنّة، باب: في لزوم السنّة، والترمذي في كتاب العلم، باب: ١٦، وأحمد في (م ٤/ ص ١٢٦).
(٣) رواه البخاري في كتاب الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ومسلم في كتاب الحدود، باب: ٢٥، وأبو داود في كتاب الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي في كتاب الأحكام، باب: ٣، والنسائي في كتاب القضاة، باب:
صون النساء عن مجلس الحكم، وابن ماجة في كتاب الحدود، باب: حدّ الزنا، والدارمي في المقدمة، باب: الفتية وما فيه من الشدة، والموطأ في كتاب الحدود، باب: ما جاء في الرجم، وأحمد في (م ٤/ ص ١١٥).
«١». قال المفسرون: إنه تعالى بعد توفير العوض عليها يجعلها ترابا وعند هذاقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: ٤٠]. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا التي هي من القرآن صُمٌّ لا يسمعونها سمع تدبر وفهم فلذلك يسمونها أساطير الأولين وَبُكْمٌ لا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوة الرسول بها فِي الظُّلُماتِ أي في ضلالات الكفر والجهل والعناد فلا يهتدون سبيلا مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أي من يشاء الله إضلاله يخلق الله الضلال فيه ويمته على الكفر فيضل يوم القيامة عن طريق الجنة وعن وجدان الثواب وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) أي ومن يشأ أن يجعله على طريق يرضاه وهو الإسلام يجعله عليه ويهده إليه ويمته عليه فلا يضل من مشى إليه ولا يزل من ثبت قدمه عليه قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) أي قل يا أكرم الرسل لكفار مكة: يا أهل مكة أخبروني إن أتاكم عذاب الله في الدنيا كالغرق أو الخسف أو المسخ، أو نحو ذلك أو أتاكم العذاب عند قيام الساعة أترجعون إلى غير الله في دفع ذلك البلاء؟ أو ترجعون فيه إلى الله تعالى إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة فأجيبوا سؤالي؟ أو المعنى إن كنتم قوما صادقين فأخبروني أإلها غير الله تدعون إلخ
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ أي إنكم لا ترجعون في طلب دفع البلية إلا إلى الله تعالى فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم بمحض مشيئته وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) أي وتتركون الأصنام ولا تدعونهم لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ أي وبالله لقد أرسلنا إلى أمم كثيرة كائنة من زمان قبل زمانك رسلا فخالفوهم فعاقبناهم بشدة الفقر والخوف من بعضهم والأمراض والأوجاع لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) أي لكي يدعوا الله تعالى في كشفها بالتذلل ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم فَلَوْلا أي فهلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) من الكفر والمعاصي أي فلم يؤمنوا حين جاءهم عذابنا ولكن ظهر منهم الكفر ووسوس لهم الشيطان إن حال الدنيا هكذا تكون شدة ثم نعمة فلم يخطروا ببالهم أن ما أصابهم من الشدائد ما أصابهم إلا لأجل عملهم الفاسد فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ أي فلما انهمكوا في المعاصي وتركوا ما وعظوا به من الشدائد فتحنا عليهم فنون النعماء على منهاج الاستدراج حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي حتى إذا اطمأنوا بما فتح لهم وبطروا بأن ظنوا أن الذي نزل بهم من الشدائد ليس على سبيل الانتقام من الله وأن تلك الخيرات باستحقاقهم نزل بهم عذابنا فجأة ليكون عليهم أشد وقعا فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) أي متحزنون غاية الحزن منقطع رجاؤهم من كل خير فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي قطع غابر المشركين أي
واعلم أن الكفار طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يوسع خيرات الدنيا وأن يخبر عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار، وطعنوا فيه في أكل الطعام والمشي في السوق، وفي تزوجه للنساء فأمر الله تعالى أن ينفي عن نفسه أمورا ثلاثة تواضعا لله تعالى واعترافا له بالعبودية وأن يقول لهم: إنما بعثت مبشرا ومنذرا ولا أدعي كوني موصوفا بالقدرة اللائقة بالله تعالى، وأن خزائن الله مفوّضة إليّ أتصرف فيها كيفما أشاء، وأعطيكم منها ما تريدون. ولا أدعي كوني موصوفا بعلم الله تعالى فأخبركم بما تريدون، ولا أدعي أني ملك حتى تكلفوني من الخوارق للعادات ما لا يطيق به البشر وحتى تعدوا عدم اتصافي بصفات الملائكة قادحا في أمري فتنكرون قولي، وتجحدون أمري، وما أخبركم من غيب إلا بوحي من الله أنزله علي قُلْ لهم: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى
أي هل يكونان سواء من غير مزية فإن قالوا: نعم، كابروا الحس وإن قالوا: لا، قيل:
فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير ومن أعرض فهو الأعمى أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) أي ألا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيه، نزلت هذه الآية من قوله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ في أبي جهل وأصحابه الحرث وعيينة
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) أي وأنذر يا أشرف الرسل بما أوحي إليك من يجوزون الحشر ويرجى منهم التأثر بالتخويف غير منصورين بقريب ولا مشفوعا لهم من جهة أنصارهم على زعمهم من غير الله تعالى سواء كانوا جازمين بأصل الحشر كالمؤمنين العاصين وأهل الكتاب المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة الأصنام، أو مترددين في أصل الحشر وفي
شفاعة الآباء والأصنام معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقا فيهلكوا لكي ينتهوا عن الكفر والمعاصي، وأما المنكرون للحشر بالكلية والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي الذين يعبدون ربهم بالصلوات الخمس أو يذكرون ربهم طرفي النهار يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدون بذلك محبة الله تعالى ورضاه أي مخلصين في ذلك.
روي أنه جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، وعباس بن مرداس وهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جالسا مع ناس من ضعفاء المؤمنين كعمار بن ياسر وصهيب، وبلال وخباب وابن مسعود، وسلمان الفارسي ومهجع، وعامر بن فهيرة فلما رأوهم حوله حقروهم وقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وأبعدت عنك هؤلاء ورائحة جبابهم لجالسناك وأخذنا عنك، فقال النبي: «ما أنا بطارد المؤمنين»، قالوا: فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: «نعم»، قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا فأتى بالصحيفة ودعا عليا ليكتب، فنزل جبريل بهذه الآية فألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصحيفة، وقال مجاهد: قالت قريش: لولا بلال وابن أم عبد لبايعنا محمدا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروي أن ناسا من الفقراء كانوا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ناس من الأشراف له صلّى الله عليه وسلّم إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا؟ فنزلت هذه الآية: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) أي ما عليك من حساب رزق هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي شيء فتملهم وتبعدهم، ولا من حساب رزقك عليهم شيء وإنما الرازق لهم ولك
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) لنعمه حتى تستبعدوا إنعامه عليهم. وفي هذا الاستفهام التقريري إشارة إلى أن الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن وفي التوفيق للإيمان شاكرون له تعالى على ذلك وتعريض بأن القائلين بتلك المقالة بمعزل من ذلك كله وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قيل: نزلت هذه الآية في أهل الصفة الذين سأل المشركون رسول الله عليه السلام طردهم فأكرمهم الله تعالى بهذا الإكرام فإن الله تعالى نهى رسوله أولا عن إبعادهم، ثم أمره بتبشيرهم بالسلامة عن كل مكروه في الدنيا والرحمة في الآخرة كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجب على ذاته المقدسة الرحمة بطريق الفضل والكرم تبشيرا لهم بسعة رحمته تعالى وبنيل المطالب أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً أي ذنبا بِجَهالَةٍ بتعمد بسبب الشهوة وكان جاهلا بمقدار ما يستحقه من العقاب وما يفوته من الثواب ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أي ندم من بعد عمل المعصية وَأَصْلَحَ عمله بالتوبة منه تداركا وعزما على أن لا يعود إليه أبدا فَأَنَّهُ أي الله غَفُورٌ بسبب إزالة العقاب رَحِيمٌ (٥٤) بسبب إيصال الثواب الذي هو النهاية في الرحمة وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد
قرأ نافع «لتستبين» بالتاء خطاب للنبي و «سبيل» بالنصب. أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المشركين فتعاملهم بما يليق بهم. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «ليستبين» بالياء و «سبيل» بالرفع. والباقون بالتاء و «سبيل» بالرفع. وقوله و «ليستبين» عطف على المعنى كأنه قيل:
ليظهر الحق وليتضح سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل. قُلْ يا أشرف الخلق للمصرّين على الشرك إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي إني نهيت في القرآن عن عبادة ما تعبدونه من دون الله وهو الأصنام قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ في عبادة الأحجار وهي أخس مرتبة من الإنسان بكثير فإنهم كانوا ينحتون تلك الأصنام وإنما يعبدونها بناء على محض الهوى لا على سبيل الحجة فإن اشتغال الأشرف بعبادة الأخس أمر يدفعه صريح العقل قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) أي ما أنا في شيء من الهدى حين أكون في عدادهم قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ أي حجة واضحة تفصل بين الحق والباطل وهي الوحي مِنْ رَبِّي في أنه لا معبود سواه وَكَذَّبْتُمْ بِهِ أي بربي حيث أشركتم به غيره ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي من العذاب أي ليس أمره بمفوض إلى ف «ما» الأولى نافية، و «ما» الثانية موصولة، وسبب نزول هذه الآية أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك، وكان النضر بن الحرث وأصحابه يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين بطريق الاستهزاء أو بطريق الإلزام على زعمهم فقال تعالى: قل يا أشرف الخلق ليس ما تستحلونه من العذاب الموعود في القرآن وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيبه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به وأظهر لكم صدقه إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ما الحكم في نزول العذاب تعجيلا وتأخيرا إلا الله يَقُصُّ الْحَقَّ.
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم «يقص» بالصاد المشددة، وضم القاف، أي ينبئ الحق ويقول الحق لأن كل ما أخبر الله به فهو حق. وقرأ الباقون «يقض» بسكون القاف وكسر الضاد بغير ياء لسقوطها في اللفظ. أي يقضي القضاء الحق أو يصنع الحق لأن كل شيء صنعه الله فهو حق وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) أي أفضل القاضين قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي قل يا أكرم الرسل لو أن في قدرتي ما تطلبون به قبل وقته من العذاب الذي ورد به الوعيد بأن يكون أمره مفوضا إلي من الله تعالى لفصل ما بيني وبينكم بأن نزل عليكم ذلك عقب استعجالكم بقولكم: متى هذا الوعد واسترحت وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) أي أعلم بحال المشركين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج فوقع بالنضر بن الحرث العذاب الذي سأل فقتل صبرا يوم بدر وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ أي علم الغيب لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن فمن علم كيف يفتح بها ويتوصل بها إلى ما فيها فهو عالم. أو المعنى وعنده
إِلَّا هُوَ.
وقيل: المراد بالكتاب المبين هو اللوح المحفوظ إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ، لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات فيكون في ذلك عبرة تامة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقا له وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي ينيمكم في الليل وإنما صح إطلاق لفظ الوفاة على النوم لأن ظاهر الجسد صار معطلا عن بعض الأعمال عند النوم كما أن جملة البدن صارت معطلة عن كل الأعمال عند الموت فحصل بين النوم والموت مشابهة من هذا الاعتبار وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أي يعلم ما كسبتم من أعمال الجوارح في النهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يوقظكم في النهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي لكي يتم أجل معين عند الله لكل فرد فرد بحيث لا يكاد يتجاوز أحد ما لا عين له طرفة عين ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم بالموت ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) أي يخبركم بمجازاة أعمالكم التي كنتم تعملونها في الليل والنهار من الخير والشر
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ أي وهو الغالب المتصرف في أمور عباده يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا إلى غير ذلك فالممكنات كلها مقهورة تحت قهر الله تعالى مسخرة تحت تسخير الله تعالى وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً أي ملائكة يحفظون أعمالكم ويكتبونها في صحائف تقرأ عليكم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أي حتى إذا انتهت مدة أحدكم وانتهى حفظ الحفظة وجاءه أسباب الموت قبضه ملك الموت وأعوانه وَهُمْ أي هؤلاء الرسل لا يُفَرِّطُونَ (٦١) أي لا يؤخرون الميت طرفة عين.
وفي الحديث: «إن الله تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة»
«١» أي وذلك لأنه تعالى لا يحتاج إلى فكر وعد. قُلْ يا أكرم الخلق لكفار مكة: مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي من شدائدهما الهائلة التي تبطل الحواس وتدهش العقول تَدْعُونَهُ والضمير عائد لمن وهذه الجملة في محل نصب على الحال إما من مفعول ينجيكم أي من ينجيكم منها داعين إياه، وإما من فاعله أي من ينجيكم منها مدعوا من جهتكم تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي تدعونه دعاء إعلان وإخفاء، أو تدعونه متضرعين ومخلصين بقلوبكم قائلين لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ أي الأهوال والشدائد لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) أي من المؤمنين المداومين على الشكر لأجل هذه النعمة.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «خفية» بكسر الخاء. والباقون بالضم وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف. وقرأ الأعمش و «خيفة» بكسر الخاء فبعده الياء الساكنة من الخوف أي مستكينا أو دعاء خوف والآية تدل على أن الإنسان يأتي عند حصول الشدائد بأمور.
أحدها: الدعاء.
وثانيها: التضرع.
وثالثها: الإخلاص بالقلب وهو المراد من قوله وخفية.
ورابعها: التزام الشدائد بالشكر وهو المراد من قوله: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «لئن أنجانا» على المغايبة وينجيكم بالتشديد في الموضعين. والباقون «لئن أنجيتنا» على الخطاب و «ينجيكم» بالتشديد والتخفيف وحجة من قرأ على المغايبة أن ما قبل لفظ أنجانا وهو «تدعونه» وما بعده وهو «قل الله ينجيكم منها» مذكور بلفظ المغايبة ولا يحتاج في هذه القراءة إلى إضمار نحو تقولون، فالإضمار خلاف الأصل وحجة من قرأ على المخاطبة قوله تعالى في آية أخرى لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها
قال ابن عباس: قال المسلمون لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا عنهم لما قدرنا على أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت، فنزلت هذه الآية. أي ما على الذين يتقون قبائح الخائضين مما يحاسبون عليه من آثامهم شيء ولكن تذكرة لهم عما هم عليه من القبائح بما أمكن من التذكير لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو نحوه. وقوله تعالى: ذِكْرى معطوف على محل شَيْءٍ وهو رفع على أنه مبتدأ مؤخر أو اسم «ما» ومن مزيدة للاستغراق ومن حسابهم حال مِنْ شَيْءٍ. وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي أعرض عن الذين نصروا الدين ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة، وغلبة الخصم وجمع الأموال ولا
عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها
أي وإن تفد تلك النفس بكل فداء لا يقبل منها حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) أي أولئك المتخذون دينهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة الدنيا هم الذين حبسوا في جهنم بما كسبوا في الدنيا لهم شراب من ماء مغلي يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم وعذاب أليم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم المستمر في الدنيا
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ أي قل يا أكرم الرسل لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى دين آبائهم كعيينة وأصحابه أنعبد متجاوزين عبادة الله الجامع لجميع صفات الألوهية ما لا يقدر على نفعنا في الدنيا والآخرة إن عبدناه، ولا على ضرنا فيهما إذا تركناه ونرد إلى الشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام وأنقذنا من الشرك، وإنما يقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل:
إنه رجع إلى خلف ورجع على عقبيه لأن الأصل في الإنسان هو الجهل ثم إذا تكامل حصل له العلم فإذا يرجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى فكأنه رجع إلى أول مرة كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا أي فيكون مثلنا كالذي استنزلته الشياطين من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة في قعر الأرض تائها عن الجادة لا يدري ما يصنع وللنازل إلى الوهدة المظلمة عينية وأصحابه رفقة وهم أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدعونه إلى الطريق المستقيم يقولون: ائتنا إلى الجادة والغيلان ينزلونه إلى السافلة المظلمة فبقي متحيرا أين يذهب. وهذا المثل في غاية الحسن وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه كما أن الحجر حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة، وذلك يدل على كمال التردد والتحير فعند نزوله لا يعرف أنه يسقط على موضع يكثر بلاؤه بسبب سقوطه أو يقل فإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال علمت أنك لا تجد مثالا للمتحير المتردد الخائف أحسن ولا أكمل من هذا المثال قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هدانا إليه هو الإسلام هُوَ الْهُدى الكامل النافع الشريف وما عداه ضلال محض، وغي بحت وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ أي قل وأمرنا بأن نخلص العبادة لرب العالمين لأنه
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) أي تجمعون يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وما فيهما بِالْحَقِّ أي قائما بالحق لا عابثا وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ أي وأمره المتعلق بكل شيء يريد خلقه حين تعلقه به هو المعروف بالحقية. والمراد من هذا الأمر التنبيه على نفاذ قدرته ومشيئته في تكوين الكائنات وهذا بيان أن خلقه تعالى للسموات والأرض ليس مما يتوقف على مادة ولا مدة بل يتم بمحض الأمر التكويني من غير توقف على شيء آخر أصلا. والمراد بالقول كلمة «كن» تمثيل لأن سرعة قدرته تعالى أقل زمنا من زمن النطق بكن وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إنما أخبر الله عن ملكه يومئذ لأنه لا منازع له يومئذ فإن الملوك اعترفوا بأن الملك لله الواحد القهار، والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين نفخة الصعق أي الموت، ونفخة البعث للحساب عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي عالم ما غاب عن العباد وما عمله العباد وقوله تعالى: وَلَهُ الْمُلْكُ يدل على كمال القدرة وقوله: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يدل على كمال العلم وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣) فالحكيم هو المصيب في أفعاله والخبير هو العالم بحقائق الأشياء من غير اشتباه وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ وهو في التوراة تارح فلأبي إبراهيم اسمان آزر وتارح بن ناحور.
واعلم أن جميع نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطهر من عبادة الأصنام ما دام النور المحمدي في أصلابهم أما بعد انتقاله منهم فتجوز عليهم عبادة الأصنام وغيرها من سائر أنواع الكفر أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً أي أتجعل لنفسك أصناما آلهة فتعبد أصناما شتى صغيرا وكبيرا ذكرا وأنثى إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) أي إني أراك يا أبت وقومك في ضلال عن الحق بين في الاتفاق على عبادة الأصنام وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) أي كما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه والحق في خلاف ما كان قومه عليه من عبادة الأصنام نريه ملكوت السماوات والأرض من وقت طفوليته ليراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه، وعلوه وعظمته وليصير زمان بلوغه من البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى، لأن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات والصفات فهي غير متناهية من جهات دلالتها على الذوات والصفات كما نقل عن إمام الحرمين أنه يقول معلومات الله تعالى غير متناهية ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات غير متناهية أيضا وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل، وكل تلك
اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان وهو نمروذ بن كنعان رأى رؤيا كأن كوكبا قد طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء، وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد في هذه السنة فحبلت أم إبراهيم به وما أظهرت حبلها للناس فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر، فجاء جبريل عليه السلام ووضع إصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه، وكان يتعهده جبريل عليه السلام فكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له ربا فسأل الأم فقال لها: من ربي؟ فقالت: أنا، فقال: ومن ربك؟ قالت: أبوك، فلما أتاه أبوه آزر فقال: يا أبتا من ربي؟ قال: أمك، قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا، قال: فمن ربك؟ قال: ملك البلد نمروذ، فعرف إبراهيم جهلهما بربهما فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئا يستدل به على وجود الرب تعالى فرأى النجم الذي هو أضوء النجوم في السماء فقال: هذا ربي إلى آخر القصة. ولما تبرأ إبراهيم من المشركين توجه إلى منشئ هذه المصنوعات فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي إني وجهت طاعتي وصرفت وجه قلبي للذي أخرج السموات والأرض إلى الوجود حَنِيفاً أي مائلا عن كل معبود دون الله تعالى وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) في شيء من الأفعال والأقوال وَحاجَّهُ قَوْمُهُ أي خاصموه في آلهتهم وخوفوه بها.
أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي أتخاصمونني في وحدانية الله وَقَدْ هَدانِ لدينه فكيف ألتفت إلى حجتكم العليلة وكلماتكم الباطلة وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ من الأصنام لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر والأصنام جمادات لا قدرة لها على النفع والضر فكيف يحصل الخوف منها إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً أي لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة إلا أن يشاء ربي شيئا من المكروه يصيبني من جهتها كأن يحييها ويمكنها من إيصال المنفعة والمضرة إلي، أو من نزع المعرفة من قلبي فأخاف ممن تخافون وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فإنه علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح والحكمة فبتقدير أن يحدث من مكاره الدنيا فذاك لأنه تعالى عرف وجه الصلاح والخير فيه لا لأجل أنه عقوبة على الطعن في إلهية الأصنام أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) أن نفي الشركاء عن الله تعالى لا يوجب نزول العذاب وإثبات التوحيد له تعالى لا يوجب استحقاق العقاب.
أو المعنى أتعرضون عن التأمل في أن آلهتكم جمادات لا تضر ولا تنفع فلا تتذكرون أنها غير قادرة ولا تتعظون فيما أقول لكم من النهي
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي وكيف أخاف الأصنام التي لا قدرة لها على النفع والضر وأنتم لا تخافون من الله إشراككم بالله ما يمتنع حصول الحجة فيه، أو ما لم يرد الأمر به أي وكيف أخاف أنا ما ليس في حيز الخوف أصلا، وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوّفات وهو إشراككم بالله الذي لا يماثل ذاته وصفاته شيء في الأرض ولا في السماء ما هو من جملة مخلوقاته فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أي ما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف فأي الفريقين من الموحدين والمشركين أحق بالأمن من معبود أحد الفريقين إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) من أحق بذلك فأخبروني فلم يجيبوا فأجاب الله ما سأل عنهم فقال الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ أي الفريق الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك بأن لم يثبتوا لله شريكا في المعبودية أولئك لهم الأمن من العذاب وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) إلى الصواب ومن عداهم في ضلال ظاهر والله تعالى شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم أي عدم النفاق بالإيمان.
وأما الفاسق فهو مؤمن فوعيد الفاسق من أهل الصلاة يحتمل أن يعذبه الله وأن يعفو عنه فالأمن زائل والخوف حاصل فلم يلزم من عدم الأمن القطع بحصول العذاب والله أعلم وَتِلْكَ أي ما احتج به إبراهيم على قومه حُجَّتُنا آتَيْناها أي ألهمناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ متعلق بحجتنا نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ.
وقد فسره النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
«١». وَزَكَرِيَّا ابن أذن وَيَحْيى ابنه وَعِيسى ابن مريم بنت عمران وَإِلْياسَ بن ياسين بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران كُلٌّ أي كل واحد من أولئك المذكورين مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) أي من الكاملين في الصلاح. وهو الإتيان بما ينبغي والتحرز عمّا لا ينبغي وَإِسْماعِيلَ بن إبراهيم وَالْيَسَعَ بن أخطوب بن العجوز.
قرأ حمزة والكسائي واليسع بتشديد اللام وسكون الياء. والباقون واليسع بلام واحدة ساكنة وبفتح الياء وَيُونُسَ بن متى وَلُوطاً بن هاران أخي إبراهيم وَكلًّا من هؤلاء الأنبياء فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) فهم يفضلون على الملائكة والأولياء.
واعلم أن الله تعالى خصّ كل طائفة من الأنبياء بنوع من الكرامة والفضل فمنهم أصول الأنبياء وإليهم يرجع حسبهم جميعا وهم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب، ثم المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق بعد النبوة الملك والسلطان والقدرة، وقد أعطى الله داود وسليمان من هذا الباب نصيبا عظيما، ثم المرتبة الثالثة البلاء الشديد، والمحنة العظيمة، وقد خصّ الله أيوب بهذه الخاصية، والمرتبة الرابعة من كان مستجمعا لهاتين الحالتين وهو يوسف فإنه نال البلاء الكثير في أول الأمر، ثم أعطاه الله النبوة مع ملك مصر، والمرتبة الخامسة من فضائل الأنبياء: قوة المعجزات وكثرة البراهين والمهابة العظيمة والصولة الشديدة وذلك في حق موسى وهارون.
روي أن مالك بن الصيف- وهو من أحبار اليهود- ورؤسائهم جاء في مكة يخاصم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان رجلا سمينا، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين» فقال: نعم- وكان يحب إخفاء ذلك لكن أقر لإقسام النبي عليه- فقال له النبي: «أنت حبر سمين وقد سمنت من الأشياء التي تطعمك اليهود» «١». فضحك القوم، فغضب مالك بن الصيف ثم التفت إلى عمر فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك، ولا على موسى. فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فلما سمع قومه تلك المقالة قالوا: ويلك. ما هذا الذي بلغنا عنك أليس الله أنزل التوراة على موسى فلم قلت هذا قال؟!: أغضبني محمد فقلته، فقالوا: وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق. فعزلوه من الحبرية وعن رئاستهم لأجل هذا الكلام وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.
قُلْ لهم: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ أي حال كون الكتاب ظاهرا جليا في نفسه وهاديا للناس من الضلالة تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً أي تضعون الكتاب في ورقات مفرقة فجعلوه أجزاء نحو نيف وثمانين جزءا، وفعلوا ذلك ليتمكنوا من إخفاء ما أرادوا إخفاءه، فيجعلون ما يريدون إخفاءه على حدى ليتمكنوا من إخفائه.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة في الأفعال الثلاثة. والباقون بتاء الخطاب وَعُلِّمْتُمْ أيها اليهود من الأحكام وغيرها ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ من قبل نزول التوراة. وقيل: المراد من قوله تعالى: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ أن التوراة كانت مشتملة على البشارة بمقدم محمد واليهود قبل مقدمه صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقرءون تلك الآيات وما كانوا يفهمون معانيها فلما بعث محمدا ظهر أن المراد من تلك الآيات هو مبعثه صلّى الله عليه وسلّم قُلِ اللَّهُ أي قل يا أكرم الرسل المنزل لهذا الكتاب هو الله تعالى ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) أي ثم اتركهم في باطلهم الذين يخوضون فيه يسخرون فإنك إذا أقمت الحجة لم يبق عليك من أمرهم شيء ألبتة وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ أي وهذا القرآن كتاب أنزلناه بالوحي على لسان جبريل مُبارَكٌ أي كثير خيره دائم منفعته يبشر بالمغفرة يزجر عن المعصية مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي موافق للكتب التي قبله في التوحيد وتنزيه الله، والدلالة على البشارة والنذارة وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر»
«١» وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً نزل هذا في مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة وفي الأسود العنسي صاحب صنعاء فإنهما كانا يدّعيان النبوة والرسالة من عند الله تعالى على سبيل الكذب أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ.
روي أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما نزل قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: ١٢] أملاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما بلغ قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: ١٤] عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال:
فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا نزلت الآية اكتبها كذلك» «٢» فشك عبد الله وقال: إن كان محمدا صادقا فقد أوحي إليّ مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة حين نزول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمر الظهران
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ كما ادعى النضر بن الحرث معارضة القرآن فإنه قال في شأن القرآن: إنه من أساطير الأولين وكل أحد يمكنه الإتيان بمثله، وقال: لو نشاء لقلنا مثل هذا.
قال العلماء: وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذبا في ذلك الزمان وبعده لأن خصوص السبب لا يمنع عموم الحكم وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) أي ولو ترى يا أشرف الخلق الظالمين وقت كونهم في شدائد الموت
(٢) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٦٢).
قرأ نافع وحفص عن عاصم والكسائي بالنصب. أي لقد تقطعت الشركة بينكم. والباقون بالرفع أي لقد تقطع وصلكم ف «البين» اسم يستعمل للوصل والفراق فهو مشترك بينهما كالجون للأسود والأبيض وَضَلَّ أي ضاع عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤) إن الأصنام شفعاؤكم إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ أي شاق جميع الحبوب من الحنطة وغيرها وَالنَّوى وهي التي في داخل الثمار أي فإذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مرّ عليها مدة أظهر الله تعالى في تلك الحبة أو النواة من أعلاها شقا ومن أسفلها شقا آخر فيخرج من الحبة ورق أخضر ومن النواة شجرة صاعدة في الهواء ويخرج منها عروق هابطة في الأرض يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ أي يخرج من النطفة بشرا حيا، ومن البيضة فروخا حية، ومن الحب اليابس نباتا غضا، ومن الكافر مؤمنا، ومن العاصي مطيعا وبالعكس ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) أي ذلكم الله المدبر الخالق، النافع الضار، المحيي المميت فمن أين تكذبون في إثبات القول بعبادة الأصنام؟ وقيل:
المظلم بأن أجرى جدولا من النور فيه وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً أي يستريح فيه الخلق من التعب الحاصل في النهار.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقر» بكسر القاف. والباقون بفتحها وأما مستودع فهو بفتح الدال لا غير بالمعنى على الأول فمنكم مستقر ومنكم شيء مودع في الصلب وهو النطفة وعلى الثاني فلكم مكان استقرار وهو الأرحام، ومكان استيداع وهو نفس الأصلاب. والفرق بين المستقر والمستودع أن المستقر ما لم يكن على قرب الزوال والمستودع ما كان على قرب الزوال فإن النطفة تبقى في صلب الأب زمانا قصيرا والجنين يبقى في رحم الأم زمانا طويلا ولما كان المكث في بطن الأم أكثر من المكث في صلب الأب حمل المستقر على الرحم والمستودع على الصلب.
وقيل: إن المستقر صلب الأب والمستودع: رحم الأم، لأن النطفة حصلت في صلب الأب قبل حصولها في رحم الأم. فحصول النطفة في الرحم من فعل الرجل مشبه بالوديعة وحصولها في الصلب لا من جهة الغير.
وقال أبو مسلم الأصبهاني: إن تقدير الآية هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمنكم ذكر ومنكم أنثى، وإنما عبر عن الذكر بالمستقر لأن النطفة إنما تنشأ في صلبه وتستقر فيه. وإنما عبر عن الأنثى بالمستودع لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أي قد بينا العلامات الدالة على قدرتنا من تفاصيل خلق البشر لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) أي يدققون النظر فإن
قرأ عاصم بالرفع وهي قراءة علي، أي ومن الكرم جنات من أعناب. والباقون بالنصب والتقدير وأخرجنا بالماء بساتين من أعناب وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ أي شجرهما والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أي إن هذه الفواكه قد تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذة، وقد تكون مختلفة في اللون والشكل مع أنها تكون متشابهة في الطعم واللذة، وأيضا بعض حبات العنقود من العنب متشابهة وبعضها غير متشابه فإنك إذا أخذت العنقود ترى حباته نضجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة منها بقيت على أول حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة. انْظُرُوا أيها المخاطبون. نظر اعتبار إِلى ثَمَرِهِ أي ثمر كل واحد مما ذكر.
قرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم. وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم. والباقون بفتح الثاء والميم إِذا أَثْمَرَ أي إذا خرج ثمره فتجدوه ضئيلا لا يكاد ينتفع به. وَيَنْعِهِ أي وانظروا إلى حال نضجه وكماله فتجدوه قد صار قويا جامعا لمنافع جمة إِنَّ فِي ذلِكُمْ أي في اختلاف الألوان وهو ما أمر بالنظر إليه لَآياتٍ أي عظيمة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) أي لمن سبق في حقه قضاء الله بالإيمان، فأما من سبق له قضاء الله بالكفر لم ينتفع بهذه الدلالة ألبتة أصلا. وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ أي قال المجوس: إن الله تعالى وإبليس أخوان شريكان فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب، وقالوا: كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن، وهو المسمى بإبليس في شرعنا. وَخَلَقَهُمْ أي وقد علموا أن الله خلقهم فإن أكثر المجوس معترفون بأن إبليس ليس بقديم بل هو حادث، وإنما كان إبليس أصلا لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح وقد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل
قرأ نافع و «خرقوا» بتشديد الراء والجمهور بتخفيفها، وقرأه ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء، وابن عمر كذلك إلا أنه شدد الراء أي كذبوا في الله حيث وصفوه تعالى بثبوت البنين والبنات مصاحبين لجهل حقيقة ما وصفوه فالذين أثبتوا لبنين النصارى وقوم من اليهود حيث قال النصارى: المسيح ابن الله، واليهود: عزير ابن الله والذين أثبتوا البنات العرب الذين يقولون: الملائكة بنات الله، فلو عرفوا أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته لامتنعوا أن يثبتوا له تعالى البنين والبنات، فإن الولد دال على كونه منفصلا من جزء من أجزاء الوالد وذلك إنما يكون في مركب يمكن انفصال بعض أجزائه وذلك في حق الفرد الواجب لذاته محال فمن عرف حقيقة الإله استحال أن يقول له تعالى ولد سُبْحانَهُ نزه الله ذاته بنفسه عمّا لا يليق به وَتَعالى أي تقدس عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بأن له تعالى شريكا وولدا. فالتسبيح يرجع إلى ذات المسبح والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له تعالى سواء سبحه تعالى مسبح أم لا؟
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. والمعنى أن الله تعالى أخرج عيسى إلى الوجود من غير سبق الأب والنطفة كما أنه تعالى خلق السموات والأرض من غير سبق مادة ومدة، فلو لزم من مجرد كونه تعالى مبدعا لإحداث عيسى كونه تعالى والدا له عليه السلام لزم من كونه تعالى مبدعا للسموات والأرض كونه تعالى والدا لهما وذلك باطل بالاتفاق، فثبت أن مجرد كونه تعالى مبدعا لعيسى لا يقتضي كونه والدا له أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ أي من أين يكون له تعالى ولد والحال ليس له زوجة؟ أي لأن الولد لا يصح إلا ممن كانت له زوجة وشهوة وينفصل عنه جزء ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الزوجة، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والشهوة واللذة وكل ذلك محال على خالق العالم وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي من أين يكون له ولد والحال أنه تعالى خلق جميع الأشياء؟ فإن تحصيل الولد بطريق الولادة إنما يصح في حق من لا يقدر على التكوين دفعة واحدة فمن كان قادرا على تكوين المحدثات فإذا أراد إحداث شيء قال له: كن، فيكون. ومن كان صفته هكذا امتنع إحداث شخص منه بطريق الولادة وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) أي فإن علم الله أن في تحصيل الولد نفعا له تعالى وكمالا وجب
حصول الولد قبل ذلك، وهذا يوجب كون ذلك الولد أزليا وهو محال. وإن علم أنه ليس له تعالى في تحصيل الولد ازدياد مرتبة في الإلهية ولا كمال حال فيها
الأول: أن يقال الصانع الواحد كاف في كونه إلها للعالم ومدبرا له، وما زاد على الواحد فالقول فيه متكافئ لأنه لم يدل الدليل على ثبوته لأنه يلزم إما إثبات آلهة لا نهاية لها وهو محال، أو إثبات عدد معين مع أنه ليس ذلك العدد أولى من سائر الأعداد وهو محال أيضا، وإذا كان القسمان باطلين لم يبق إلا القول بالتوحيد.
والثاني: أن يقال إن الإله القادر على كل الممكنات، العالم بكل المعلومات كاف في تدبير العالم. فلو قدرنا إلها ثانيا فإما أن يكون فاعلا أو لا، فإن كان فاعلا صار مانعا للآخر عن تحصيل مقدوره وذلك يوجب كون كل واحد منهما سببا لعجز الآخر وهو محال، وإن لم يكن فاعلا كان ناقصا معطلا وذلك لا يصلح للإلهية.
والثالث: أن يقال أن الإله الواحد لا بدّ وأن يكون كاملا في صفات الإلهية فلو فرضنا إلها ثانيا فإما أن يكون مشاركا للأول في جميع صفات الكمال أو لا فإن كان مشاركا في ذلك فإما أن يكون متميزا عن الأول أو لا، فإن لم يكن متميزا عنه بأمر من الأمور لم تحصل الإثنينية، وإن امتاز بصفات الكمال لم تكن جميع صفاته مشتركة بينهما وإن امتاز بغير صفات الكمال، فلذلك نقصان. فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الإله الواحد كاف في تدبير العالم وإيجاده وأن الزائد يجب نفيه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) أي حافظ فيجب أن يعلم كل مكلف أنه لا حافظ إلا الله ولا مصلح للمهمات إلا الله فحينئذ ينقطع طمعه عن كل ما سواه ولا يرجع في مهم من المهمات إلا إليه ويقال: أي كفيل بأرزاق خلقه لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أي لا تراه الأبصار في الدنيا وهو تعالى يراه المؤمنون في الآخرة
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في
«١» فالتشبيه واقع في تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح لا في تشبيه المرئي بالمرئي، واتفق الجمهور أنه صلّى الله عليه وسلّم قرأ قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
فقال: «الحسنى هي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله».
وروي أن الصحابة اختلفوا في أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هل رأى الله تعالى ليلة المعراج أو لا، ولم يكفر بعضهم بعضا بهذا السبب وما نسبه إلى الضلالة وهذا يدل على أنهم كانوا مجمعين على أنه لا امتناع عقلا في رؤية الله تعالى. وقيل: المعنى لا تحيط به تعالى الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة لعدم انحصاره وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أي والله تعالى مدرك لحقيقة الأبصار وَهُوَ اللَّطِيفُ فيلطف عن أن تدركه الأبصار الْخَبِيرُ (١٠٣) أي العالم بكل لطيف فلا يلطف شيء عن إدراكه.
وقيل: إنه تعالى لطيف بعباده حيث يثني عليهم عند الطاعة ويأمرهم بالتوبة عند المعصية، ولا يقطع عنهم كثرة رحمته سواء كانوا مطيعين أو عصاة. وقيل: إنه تعالى لطيف بهم بحيث لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم بما هو فوق استحقاقهم قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي جاءكم آيات القرآن كائنة من ربكم وسميت تلك الآيات بصائر لأنها أسباب لحصول الأنوار للقلوب.
وقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ الآية استئناف وارد على لسان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أي فمن اهتدى بآيات القرآن فآمن فنفع إهدائه لنفسه وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها أي ومن ضل عنها بأن كفر بها فمضرة ضلالته وكفره على نفسه وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) أي لأعمالكم وإنما أنا منذر والله تعالى هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي مثل ذلك الإتيان البديع نأتي بالآيات متواترة حالا بعد حال لتلزمهم الحجة وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالألف وفتح التاء. أي ليقول بعضهم ذاكرت يا محمد أهل الأخبار الماضية فيزداد كفرا على كفر وتثبيتا لبعضهم فيزداد إيمانا على إيمان. وذلك لأن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يظهر آيات القرآن نجما نجما، والكفار كانوا يقولون: إن محمدا يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض يتفكر فيها ويصلحها آية فآية، ثم يظهرها ولو كان هذا بوحي نازل إليه من السماء فلم لم يأت بهذا القرآن دفعة واحدة. كما أن موسى عليه السلام أتى بالتوراة دفعة واحدة أي فإن تكرير هذه الآيات حالا بعد حال هي التي أوقعت الشك للقوم في أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم إنما يأتي بهذا القرآن على سبيل المدارسة مع التفكر والمذاكرة مع أقوام آخرين.
وقرأ ابن عامر «درست» بفتح السين وسكون التاء أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا قديمة قد انمحت وتكررت على الأسماع، كقولهم: أساطير الأولين. وقرأ الباقون «درست» بدون
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ أي ولا تسبوا أيها المؤمنون من يعبدون الأصنام من حيث عبادتهم لآلهتهم كأن تقولوا: تبا لكم ولما تعبدون من الأصنام مثلا فيسبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تجاوزا عن الحق إلى الباطل بجهالة منهم بما يجب عليهم، فإن الصحابة متى شتموهم كانوا يشتمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالله تعالى أجرى شتم الرسول مجرى الله تعالى، لأن الكفار كانوا مقربين بالله تعالى وكانوا يقولون: إنما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند الله تعالى. أو المعنى ولا تسبوا الأصنام الذين كان المشركون يعبدونهم فيسبوا الله للظلم بغير علم لأنهم جهلة بالله تعالى لأن بعضهم كان قائلا بالدهر ونفي الصانع.
قال قتادة: كان المؤمنون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله عن ذلك لئلا يسبوا الله فإنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله عز وجل اه. وإنما نهوا عن سب الأصنام، وإن كان مباحا لما ينشأ عن ذلك من المفاسد وهو سب الله وسب رسوله. فظاهر الآية كان نهيا عن سب الأصنام وحقيقتها النهي عن سب الله تعالى لأنه سبب لذلك وفي ذلك دلالة على أن الطاعة إذا أدّت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شرّ كَذلِكَ أي مثل تزيين عبادة الأصنام للمشركين زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ أي لأمم
الكفرة عَمَلَهُمْ أي شرّهم وفسادهم بإحداث ما يحملهم عليه فإن المعاصي سموم قاتلة قد برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة، وكذا الطاعات فإنها مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصورة مكروهة ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلّم: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»
«١» وفي هذه الآية دلالة على تكذيب القدرية
فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقية بالإخبار بها لما أن كلا منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هي وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي قسم كفار مكة بالله غاية أيمانهم لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ أي معجزة كما طلبوا لَيُؤْمِنُنَّ بِها أي قالوا لسيدنا رسول الله: إن هذا القرآن كان أمره فليس من جنس المعجزات ألبتة، ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة قاهرة لآمنا بك وحلفوا على ذلك.
وقال محمد بن كعب القرظي: قالت قريش: يا محمد إنك تخبرنا أن موسى ضرب الحجر بالعصا فانفجر الماء وأن عيسى أحيا الميت وأن صالحا أخرج الناقة من الجبل فأتنا بآية لنصدقك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما الذي تحبون؟» فقالوا: أن تجعل لنا الصفا ذهبا، وحلفوا لئن فعل ليتبعونه أجمعون فقام صلّى الله عليه وسلّم يدعو فجاءه جبريل فقال: إن شئت كان ذلك ولئن كان فلم يصدقوك ليعذبهم الله، وإن تركتهم تاب الله على بعضهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل يتوب على بعضهم» فأنزل الله تعالى هذه الآية
قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي إنه تعالى هو مختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات دون غيره وَما يُشْعِرُكُمْ أي أيّ شيء يعلمكم أيها المؤمنون بإيمانهم أي لا تعلمون ذلك أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو «إنها» بكسر الهمزة على الاستئناف. والباقون بالفتح فهي بمعنى لعل ويقوي هذا الوجه قراءة أبي لعلها إذا جاءتهم لا يؤمنون وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفهمونه ونقلب أبصارهم عن اجتلاء الحق فلا يبصرونه كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي بما جاء صلّى الله عليه وسلّم من الآيات أَوَّلَ مَرَّةٍ أي فلا يؤمنون عند نزول مقترحهم لو نزل كما لم يؤمنوا عند نزول الآيات السابقة على اقتراحهم كانشقاق القمر وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) أي نتركهم في ضلالهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ كما طلبوا فشهدوا على ما أنكروا وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى من القبور كما طلبوا بأن محمدا رسول الله والقرآن كلام الله وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا. قرأ عاصم وحمزة الكسائي بضمتين أي وجمعنا على المستهزئين زيادة على ما اقترحوه كل شيء من أصناف المخلوقات
وقرأ نافع وابن عامر «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء أي حال كون الكفار معاينين للأصناف ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بمحمد والقرآن إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إيمانهم. أي ولو أظهر الله جميع تلك الأشياء العجيبة الغريبة لهؤلاء الكفار فإنهم لا يؤمنون في حال من الأحوال الداعية إلى الإيمان إلا في حال مشيئته تعالى لإيمانهم. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) أي إن الكفار لو أتوا بكل آية لم يؤمنوا ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون.
قال ابن عباس: المستهزؤون بالقرآن كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب، والحرث بن حنظلة، ثم إنهم أتوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم في رهط من أهل مكة وقالوا له: أرنا الملائكة يشهدوا بأنك رسول الله وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقوله أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا أي كفيلا على صحة ما تدعيه فنزلت هذه الآية وَكَذلِكَ أي كما جعلنا المستهزئين عدوا لك جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أي جعلنا لكل نبي تقدمك عدوا مردة من الإنس والجن. فشياطين الإنس أشد تمردا من شياطين الجن، لأن شيطان الجن إذا عجز عن إغواء المؤمن الصالح استعان على إغوائه بشيطان الإنس ليفتنه، وإضافة شياطين بمعنى من البيانية وهي بدل من «عدوا» وهو مفعول أول قدم على الثاني مسارعة إلى بيان العداوة يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً أي يلقي شياطين الجن إلى شياطين الإنس تزيين القول بالباطل لكي يغروا به الإنس وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ عدم تزيين القوم لأجل الغرور ما فَعَلُوهُ أي تزيين القول المتعلق بأمرك خاصة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) أي اترك الكفرة المستهزئين وافتراءهم بأنواع المكايد فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي ولكي تميل إلى هذا الزخرف قلوب الذين لا يؤمنون بالبعث بعد الموت وَلِيَرْضَوْهُ أي هذا الزخرف لأنفسهم وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أي وليكتسبوا بسبب ارتضائهم له ما هم مكتسبون من الأيام فيعاقبوا عليها أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا أي قل لهم أأميل إلى زخارف الشياطين فأطلب حكما غير الله يحكم بيننا. والحال أنه تعالى هو الذي أنزل إليكم القرآن وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون مبينا فيه الحق والباطل فلم يبق في أمور الدين شيء من الإبهام، فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم وهو والحاكم عند أهل اللغة واحد لكن بعض أهل التأويل قال: الحكم أكمل من الحاكم لأن
قرأ ابن عامر وحفص «منزل» بتشديد الزاي. والباقون بسكون النون فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) أي من الشاكين في أن علماء أهل الكتاب يلعمون أن هذا القرآن حق وأنه منزل من عند الله وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا أي كفى القرآن من جهة صدقه في أخباره ومن جهة عدله في أحكامه، وكفى في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى قيام القيامة علما وعملا وفي كونها معجزة دالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي «كلمت» على التوحيد دون ألف. والباقون بألف على الجمع و «ترسم» بالتاء المجرورة على كل من قراءة الجمع وقراءة الإفراد، وكذا كل موضع اختلف فيه القراء جمعا وإفرادا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي لا أحد يبدل شيئا من القرآن بما هو أصدق وأعدل ولا بما هو مثله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) بالمقال والأعمال وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي وإن تطع يا أشرف الخلق كفار الناس فيما يعتقدونه من إحقاق الباطل وإبطال الحق يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن الطريق
الموصل إلى الله إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون في إثبات مذهبهم إلا رجوعهم إلى تقليد أسلافهم وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق فهم على آثارهم مقتدون وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (١١٦) أي يكذبون فإن رؤساء أهل مكة- منهم أبو الأحوص مالك بن عوف الجشمي، وبديل بن ورقاء الخزاعي وجليس بن ورقاء الخزاعي- قالوا للمؤمنين: إن ما ذبح الله خير مما تذبحون أنتم بسكاكينكم.
وروي أن المشركين قالوا للنبيّ: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: «الله قتلها» «١». قالوا: أنت تزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتلها الكلب والصقر حلال وما قتله الله حرام
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) أي فإن هؤلاء الكفار كاذبون في ادعاء اليقين والله عالم بكونهم متحيرين في سبيل الضلال تائهين في أودية الجهل، أي فإنك إذا عرفت ذلك ففوّض أمرهم إلى خالقهم لأنه عالم بالمهتدى والضلال فيجازي كل واحد بما يليق بعمله فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وهذا أمر متفرع من النهي عن اتباع المضلين، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتموه أنتم. فقال الله للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ببناء «فصل» و «حرم» للمفعول. ونافع وحفص عن عاصم ببنائهما للفاعل. وحمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم ببناء الفعل الأول للفاعل وبناء الثاني للمفعول وَإِنَّ كَثِيراً من الذين يناظرونكم في إحلال الميتة ويقولون لما حل ما تذبحونه أنتم فبأن يحل ما يذبحه الله أولى وهم أبو الأحوص وأصحابه، أو ممن اتخذ البحائر والسوائب وهو عمرو بن لحي فمن دونه من أضرابه فإنه أول من غير دين إسماعيل لَيُضِلُّونَ.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء. والباقون بفتحها بِأَهْوائِهِمْ أي بسبب اتباعهم شهواتهم بِغَيْرِ عِلْمٍ أي ملتبسين بغير علم مأخوذ من الشريعة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) أي الذين تجاوزوا الحق إلى الباطل وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ أي اتركوا الإعلان بالزنا والاستسرار به وأهل الجاهلية يعتقدون حل السر منه.
وقال ابن الأنباري أي وذروا الإثم من جميع جهاته إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ في الدنيا سَيُجْزَوْنَ في الآخرة بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) أي يكسبون إن لم يتوبوا وأراد الله عقابهم. أما إذا تاب المذنب من الذنب توبة صحيحة لم يعاقب وإذا لم يتب فهو في مشيئة الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه بفضله.
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وهو الميتة وما ذبح على ذكر الأصنام وَإِنَّهُ أي الأكل مما لم يذكر اسم الله بغير ضرورة أو إن ما ذكر عليه اسم غير الله لَفِسْقٌ أي خروج عما يحل وأجمع العلماء على أن أكل ذبيحة المسلم التي ترك التسمية عليها لا يفسق.
وروي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنه قال: «ذكر الله مع المسلم سواء قال: أو لم يقل ويحمل هذا الذكر على ذكر القلب».
وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ أي إن إبليس وجنوده وسوسوا إلى المشركين. أو المعنى أن مردة المجوس من أهل فارس كتبوا إلى مشركي قريش، وذلك لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس فكتبوا إلى قريش أن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله
قال الزجاج: وهذا دليل على أن كل من أجل شيئا مما حرم الله تعالى أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى فهو مشرك وإنما سمي مشركا لأنه أثبت حاكما سوى الله تعالى وهذا هو الشرك أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ أي أو من كان كافرا فهديناه إلى الإيمان وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً عظيما وهو نور الوحي الإلهي يَمْشِي بِهِ أي بسببه فِي النَّاسِ أي فيما بين الناس آمنا من جهتهم كَمَنْ مَثَلُهُ أي صفته فِي الظُّلُماتِ أي ظلمات الكفر والطغيان وعمى البصيرة لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها أي من تلك الظلمات. فإذا دام الكافر في ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت تلك الظلمات كالصفة الذاتية يعسر إزالتها عنه، وإنما جعل الكفر موتا لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة، فهو كالموت الذي يوجب السكون، والكافر ميتا لأنه لا يهتدي إلى شيء كالجاهل كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) أي مثل تزيين المؤمنين بالإيمان والنور زين من جهة الله بطريق الخلق ومن جهة الشياطين بطريق الزخرفة للكافرين ما استمروا على عمله.
قال زيد ابن أسلم والضحاك: نزلت هذه الآية في عمر بن الخطاب وأبي جهل. وقال عكرمة: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل. وقال ابن عباس: إن أبا جهل رمى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بفرث فأخبر بذلك حمزة عند قدومه من صيد والقوس بيده وهو لم يؤمن يومئذ فعمد إلى أبي جهل وجعل يضرب رأسه بالقوس، فقال له أبو جهل وقد تضرع إليه: يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا! فقال حمزة: أنتم أسفه الناس تعبدون الحجارة من دون الله.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. فأسلم حمزة يومئذ فنزلت هذه الآية وَكَذلِكَ أي وكما جعلنا في مكة صناديدها رؤساء ليمكروا فيها جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ من سائر القرى أَكابِرَ مُجْرِمِيها و «أكابر» مفعول ثان و «مجرميها» مفعول أول والظرف لغو وهو متعلق بنفس الفعل قبله أي جعلنا في كل بدة فساقها عظماء لِيَمْكُرُوا فِيها أي ليفعلوا المكر فيها وهذا دليل على أن الخير والشر بإرادة الله، وإنما جعل المجرمين أكابر لأنهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الباطل على الناس من غيرهم، وإنما حصل ذلك لأجل رئاستهم وذلك سنة الله أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم وجعل فساقهم أكابرهم.
وقال مجاهد: جلس على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر يصرفون الناس عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ويقولون لكل من يقدم: هو كذاب ساحر كاهن، فكان هذا مكرهم وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ أي وما يحيق شر مكرهم إلا بهم وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) بذلك أصلا بل يزعمون أنهم
إنه تعالى يعلم من يستحق الرسالة فيشرفه بها، ويعلم من لا يستحقها وأنتم لستم أهلا لها، ولأن النبوة لا تحصل لمن يطلبها خصوصا لمن عنده حسد ومكر وغدر.
وقرأ حفص وابن كثير رسالته على التوحيد. والباقون على الجمع ويستجاب الدعاء بين هاتين الجلالتين، وهذا دعاء عظيم يدعى به بينهما وهو: «اللهم من الذي دعاك فلم تجبه، ومن الذي استجارك فلم تجره ومن الذي استعان بك فلم تعنه ومن الذي توكل عليك فلم تكفه، يا غوثاه يا غوثاه يا غوثاه، بك أستغيث أغثني يا مغيث، واهدني هداية من عندك، واقض حوائجنا واشف مرضانا، واقض ديوننا، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا بحق القرآن العظيم والرسول الكريم برحمتك يا أرحم الراحمين» سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي أشركوا. وليدا أو أصحابه بقولهم:
لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله صَغارٌ أي حقارة عِنْدَ اللَّهِ أي في الآخرة فلا حاكم فيها ينفذ حكمه سواه وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) أي بسبب مكرهم بقولهم ذلك وحسدهم للنبي وتكذيبهم له فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أي يرشده لدينه يَشْرَحْ صَدْرَهُ أي قلبه لِلْإِسْلامِ أي لقبول الإسلام وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أي يتركه كافرا يَجْعَلْ صَدْرَهُ أي قلبه ضَيِّقاً كضيق الزج في الرمح.
قرأه ابن كثير ساكنة الياء. والباقون مشددة الياء مكسورة حَرَجاً. قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم بكسر الراء أي شديد الضيق. والباقون بفتحها أي مثل المواضع الكثيرة الأشجار المشتبكة التي لا طريق فيها فلا يصل إليها راعية ولا وحشية كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ أي كأنه يكلف الصعود إلى السماء. قرأه ابن كثير ساكنة الصاد، وقرأه أبو بكر عن عاصم بتشديد الصاد وبالألف. والباقون بتشديد الصاد والعين بغير ألف ومعنى الآية فمن يرد الله أن يهديه قوّى قلبه في ما يدعوه إلى الإيمان، بأن اعتقد أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر، فمال طبعه إليه وقويت رغبته في حصوله، وحصل في القلب استعداد شديد لتحصيله، ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر، بأن اعتقد أن شر الإيمان زائد وضرره راجح فعظمت النفرة
وقرأ حفص بالياء أي يوم يحشر الله الخلق جميعا يقول: يا جماعة الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي قد أكثرتم من إغواء الإنس وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي وقال الذين أطاعوا الشياطين الذين هم الإنس: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ فاستمتاع الإنس بالشياطين هو أن الشياطين كانوا يدلون الإنس على أنواع الشهوات واللذات والطيبات، ويسهّلون تلك الأمور عليهم واستمتاع الشياطين بالإنس هو أن الإنس كانوا يطيعون الشياطين فيما يأمرونهم به وينقادون لحكمهم وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي أدركنا وقت موتنا الذي عينته لنا قالَ تعالى: النَّارُ مَثْواكُمْ أي منزلكم يا جماعة الجن والإنس خالِدِينَ فِيها أي في النار منذ تبعثون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من مقدار حشرهم من قبورهم ومن مقدار محاسبتهم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) أي فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة وَكَذلِكَ أي مثل تمكين الشياطين من إضلال الإنس نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ من الإنس بَعْضاً آخر منهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) أي بسبب كون ذلك البعض مكتسبا للظلم.
قال علي رضي الله عنه: لا يصلح للناس إلا أمير عادل أو جائر فأنكروا قوله: أو جائز.
فقال: نعم، يؤمن السبيل ويمكن من إقامة الصلوات وحج البيت.
وروي عن ابن عباس أنه قال: إن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شر ولّى أمرهم شرارهم.
وروي أن أبا ذر سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإمارة فقال له: إنك ضعيف وإنها لأمانة وهي في القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها.
مَعْشَرَ
والصحيح أن الرسل إنما كانت من الإنس خاصة وقد قام الإجماع على أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسل للإنس والجن. والمراد برسل الجن هم الذين سمعوا القرآن من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم ولوا إلى قومهم منذرين. فالمراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، فالله تعالى إنما بكّت الكفار بهذه الآية لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة يقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي أي يتلونها عليكم مع التوضيح ويُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
أي ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم الحشر الذي عاينوا فيه ما أعد لهم من أفانين العقوبات الهائلة قالُوا
عند ذلك التوبيخ الشديد شهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا أن الرسل أتونا قد بلغوا الرسالة وأنذرونا عذاب يومنا هذا وَإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي اغتروا من الدنيا بما في الزهرة والنعيم وشَهِدُوا في الآخرة على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا في الدنيا كافِرِينَ (١٣٠) فيهم وإن بالغوا في عداوة الأنبياء والطعن في شرائعهم ومعجزاتهم أقروا على أنفسهم بالكفر في عاقبة أمرهم
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) أي شهادتهم على أنفسهم بالكفر ثابت لانتفاء كون ربك مهلك القرى بسبب ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه برسول وكتاب. أو المعنى إرسال الرسل ثابت لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى ملتبسين بظلم وهم غافلون عن تبليغ الرسل وعن أمرهم ونهيهم وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي ولكل عامل من الجن والإنس مراتب من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) أي فلا يترك شيئا مما يستحق كل عامل من الفريقين من الجزاء فيجزي كلا بما يليق به من ثواب أو عقاب.
وقرأ ابن عامر وحده «تعملون» على الخطاب وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ أي إن تخصيص الله المطيعين بالثواب والمذنبين بالعذاب ليس لأجل أنه تعالى محتاج إلى طاعة المطيعين أو ناقص بمعصية المذنبين فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين ومع كونه تعالى غنيا فإن رحمته عامة كاملة. ومن رحمته تعالى على الخلق ترتيب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. ومن رحمته تعالى إرسال الرسل وعدم استئصالهم بالهلاك بذنوبهم في وقت واحد إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيها العصاة وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ أي ويوجد من بعد إذهابكم خلقا آخر مخالفا للجن والإنس فتخصيص الرحمة بهؤلاء ليس لأجل أنه لا يمكنه إظهار رحمته إلا بخلق هؤلاء كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) أي وينشئ الله إنشاء كائنا كإنشائكم من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم في العصيان. أي فكما أن الله تعالى قادر على تصوير هذه الأجسام بهذه الصورة الخاصة كذلك قادر على تصويرهم بصورة مخالفة لها إِنَّ ما تُوعَدُونَ من مجيء الساعة لَآتٍ أي لواقع لا بد لأنهم كانوا ينكرون القيامة
وقرأ حمزة والكسائي «من يكون» بالياء إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) أي لا يفوز الكافرون بمطالبهم ألبتة فلا ينجون من عذاب الله تعالى وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ أي عين كفار مكة لله مما خلقه من الحرث والأنعام، وكذا من الثمار وسائر أموالهم نصيبا يصرفونه إلى الضيفان والمساكين ونصيبا من ذلك لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحون ذبائح عندها فقالوا: هذا لله بكذبهم في جهة أنه تعالى يستحق ذلك من جهتهم لا في وجه التقرب به إليه وهذا لآلهتنا، ثم إن رأوا ما عينوه لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم فأعطوا نصيب الله لسدنة الأصنام، وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها فلم يصرفوه للمساكين بل يصرفونه للسدنة وكان إذا أصابهم قحط استعانوا بما جعلوه وأكلوا منه ووفروا ما جعلوه لآلهتهم ولم يأكلوا منه فإذا هلك ما جعلوه لها أخذوا بدله مما جعلوه لله ولا يفعلون كذلك فيما جعلوه لها وإن سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا: إن الله غني عن هذا وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله أخذوه وردوه إلى نصيب الصنم وقالوا: إنه فقير ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) أي بئس الذي يحكمون حكمهم من أنهم رجحوا جانب الأصنام على جانب الله ومن أنهم جعلوا شيئا لغير الله تعالى مع أن الله تعالى الخالق للجميع ومن أنهم أحدثوا الحكم من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة الأموال بين الله والآلهة زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بوأد إناثهم ونحر ذكورهم شُرَكاؤُهُمْ أي أولياؤهم من الشياطين ومن السدنة.
قرأ العامة زين مبنيا للفاعل. وقتل نصبا على المفعولية وأولادهم خفضا بالإضافة وشركاؤهم رفعا على الفاعل. أي وهكذا زين لهم شياطينهم قتل أولادهم فأمروا بأن يئدوا بناتهم خشية الفقر والسبي وبأن ينحروا ذكورهم لآلهتهم، فكان الرجل في الجاهلية يقوم فيحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور لينحرن أحدهم. كما حلف عبد المطلب لينحرن عبد الله. وقرأ ابن
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ أي وهو الذي خلق بساتين مرفوعات على ما يحملها من العروش والساق وملقيات على وجه الأرض ويقال: معروشات أي وهو ما غرسه الناس في البساتين وغير معروشات وهو ما أنبته الله في الجبال والبراري وَأنشأ النَّخْلَ وَالزَّرْعَ أي جميع الحبوب التي يقتات بها مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أي مختلف المأكول من كل منهما في الهيئة والطعم وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ أي أنشأ شجرهما مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في اللون أو الطعم كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أي ثمر كل واحد من ذلك إِذا أَثْمَرَ ولو قبل النضج.
وقرأ حمزة والكسائي برفع الثاء والميم من ثمره وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم بفتح الحاء أي اعزموا على إيتاء الزكاة لكل من الزروع والثمار يوم الحصاد، ولا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء وإنما يجب إخراج الزكاة بعد التصفية والجفاف والأمر بإيتائها يوم الحصاد لئلا يؤخر عن وقت إمكان الأداء وليعلم أن وجوبها بالإدراك ولو في البعض لا بالتصفية. والمعنى آتوا حق كل ما وجب يوم الحصاد بعد التصفية وفائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب بنفس الزرع وإدراكه وإنما يجب يوم حصاده وحصوله في يد مالكه لا فيما يتلف من الزرع قبل حصوله في يد مالكه وهذا يقتضي وجوب الزكاة في الثمار كما قاله أبو حنيفة ويقتضي ثبوت حق في القليل والكثير فالعشر واجب في القليل والكثير كما قاله أبو حنيفة وَلا تُسْرِفُوا أي لا تجاوزوا الحد في الإعطاء والبخل حتى تمنعوا الواجب من الصدقة وتعطوا كله.
وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئا فأنزل الله هذه الآية ولا تسرفوا وقد جاء
في الخبر: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول»
«١» إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) فكل مكلف لا يحبه الله تعالى فهو من أهل النار وَأنشأ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً أي ما يحمل الأثقال وَفَرْشاً أي ما يفرش للذبح أو ما ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي كلوا بعض ما رزقكم الله وهو
قال المحققون: إذا ثبت أن من افترى على الله الكذب في تحريم مباح استحقّ هذا الوعيد الشديد فمن افترى على الله الكذب في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والنبوات والملائكة ومباحث المعاد كان وعيده أشد وأشق لِيُضِلَّ النَّاسَ عن دين الله بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من فاعل يضل أي ملتبسا بغير علم بما يؤدي بهم إليه أو حال من فاعل افترى. أي افترى عليه تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى. أي فمن افترى عليه تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى مع احتمال الصدور عنه كان أظلم ظالم فما ظنك بمن افترى عليه تعالى وهو يعلم أنه لم يصدر عنه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) أي لا يهدي أولئك المشركين أي لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أي قل يا أشرف الخلق لهؤلاء الجهلة الذين يحكمون بالحلال والحرام من عند أنفسهم لا أجد في القرآن طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها على آكل بأكله من ذكر أو أنثى إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً.
قرأ ابن كثير وحمزة «تكون» بالتأنيث «ميتة» بالنصب على تقدير إلا أن تكون المحرمة ميتة. وقرأ ابن عامر «تكون» بالتأنيث «ميتة» بالرفع على معنى إلا أن توجد ميتة أو إلا أن تكون
وعلى قراءة ابن عامر يكون ما بعد هذا معطوفا على أن يكون الواقعة مستثناة أي إلا حدوث ميتة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أي جاريا كالدماء التي في العروق لا كالطحال والكبد أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ أي الخنزير رِجْسٌ أي نجس فكل نجس يحرم أكله أَوْ فِسْقاً أي ذبيحة خارجة عن الحلال أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي ذبح على اسم الأصنام فَمَنِ اضْطُرَّ أي فمن أصابه الضرورة الداعية إلى أكل الميتة غَيْرَ باغٍ في ذلك على مضطر مثله وَلا عادٍ أي متجاوز قدر الضرورة وهو الذي يسد الرمق فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) أي فلا يؤاخذه ربك بالأكل من ذلك لأنه مبالغ في المغفرة والرحمة وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ أي وحرمنا على اليهود كل ذي مخلب وبرثن وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما وهو شحم الكرش والكلى إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي إلا الشحم الذي حملته ظهورهما أَوِ الْحَوايا أي أو إلا الشحم الذي حملته المباعر أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ أي أو إلا شحما مختلطا بعظم مثل شحم الألية فإنه متصل بالعصعص فتلخص أن الذي حرم عليهم من الشحوم هو شحم الكرش والكلى وأن ما عدا ذلك حلال لهم ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ أي ذلك التحريم عاقبناهم بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) في الإخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم وهم كاذبون في قولهم حرم ذلك إسرائيل على نفسه بلا ذنب منا فنحن مقتدون به فَإِنْ كَذَّبُوكَ أي فإن كذبك اليهود في الحكم المذكور، أو كذبك المشركون في ادعاء النبوة والرسالة وفي تبليغ هذه الأحكام فَقُلْ لهم: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ فلذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ أي عقابه إذا جاء وقته عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) الذين كذبوك فيما تقول. وقيل: المعنى ذو رحمة واسعة للمطيعين وذو بأس شديد للمجرمين سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عنادا لا اعتذارا عن ارتكاب هذه القبائح لَوْ شاءَ اللَّهُ عدم إشراكنا وعدم تحريمنا ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ففعلنا حق مرضى عند الله تعالى ولولا أنه تعالى رضي ما نحن فيه لحال بيننا وبينه كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مثل ما كذبك هؤلاء في أن الله منع من الشرك ولم يحرم ما حرموه كذب كفار الأمم الماضية أنبياءهم، فكل من كذب نبيا قال الكل بمشيئة الله تعالى فهذا الذي أنا فيه من الكفر إنما حصل بمشيئة الله تعالى فلم يمنعني منه، وفي قراءة بتخفيف كذب أي مثل كذبهم في قولهم: إن ما فعلوه حق مرضي عند الله تعالى كذب من قبلهم في ذلك حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي عذابنا الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم الرسل وبكذبهم في قولهم إن الله أمرنا بالشرك قُلْ لهؤلاء المشركين: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ أي بيان على ما تقولون من تحريم ما حرمتم ومن أن الله راض بشرككم فَتُخْرِجُوهُ أي فتظهروه لَنا كما بينا لكم خطأ قولكم وفعلكم
قُلْ يا أكرم الرسل لمن سألك أي شيء حرم الله وهم مالك بن عوف وأصحابه: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ في الكتاب الذي أنزل، «على» مفسرة لفعل التلاوة أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ أي بربكم شَيْئاً من الإشراك وَبِالْوالِدَيْنِ أي وأحسنوا بهما إِحْساناً ولم يقل الله ولا تسيئوا الوالدين لأن مجرد عدم تلك الإساءة إليهما غير كاف في قضاء حقوقهما وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أي من خوف الفقر وكانوا يدفنون البنات أحياء فبعضهم للغيرة وبعضهم لخوف الفقر وهذا هو السبب الغالب فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ أي أولادكم وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ أي الزنا ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم، وجمع الفواحش للنهي عن أنواعها ولذلك ذكر ما أبدل عنها بدل اشتمال، وتوسيط النهي عن الزنا بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن القتل مطلقا، لأنه في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات. وقد
قال صلّى الله عليه وسلّم في حق العزل: «ذاك وأد خفي»
«١». وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها بكونها معصومة بالإسلام أو بالعهد إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا قتلا ملتبسا بالحق وهو أن يكون القتل للقصاص أو للردة أو للزنا بشرطه ذلِكُمْ أي التكاليف الخمسة وَصَّاكُمْ بِهِ أي أمركم به ربكم أمرا مؤكدا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) أي لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف في الدين والدنيا وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
أي إلا بالخصلة التي هي أحسن لليتيم كحفظه وتحصيل الربح به حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
أي قوته مع الرشد
أي أتموا الكيل بالمكيال والوزن بالميزان بالعدل من غير نقصان من المعطي ومن غير طلب الزيادة من صاحب الحق لا نُكَلِّفُ نَفْساً
عند الكيل والوزن إِلَّا وُسْعَها
أي إلا طاقتها في الإيفاء والعدل فإن الواجب في إيفاء الكيل والوزن هو القدر الممكن في إيفائهما أما التحقيق فغير واجب وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
أي ولو كان القول على ذي قرابة منكم فإذا دعا شخص إلى الدين وأقام الدليل عليه ذكر الدليل ملخصا عن الزيادة بألفاظ معتادة، وإذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فلا ينقص عن القدر الواجب ولا يزيد في الإيذاء والإيحاش، وإذا حكى الحكايات فلا يزيد فيها ولا ينقص عنها، وإذا بلغ الرسالات عن الناس فيجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان، وإذا حكم فيجب أن يحكم بالعدل وأن يسوى في القول بين القريب والبعيد وذلك لطلب رضا الله تعالى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
أي أتموا ما عاهدتم الله عليه من الأيمان والنذور وغيرهما ذلِكُمْ
أي التكاليف الأربعة وَصَّاكُمْ بِهِ
أي أمركم به أمرا مؤكدا لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(١٥٢) ولما كانت التكاليف الخمسة في الآية الأولى أمورا ظاهرة مما يجب تفهمها ختمت بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ولما كانت هذه التكاليف الأربعة غامضة لا بدّ فيها من الاجتهاد في الفكر حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
وحصل ما ذكر في هاتين الآيتين من المحرمات تسعة أشياء خمسة بصيغ النهي وأربعة بصيغ الأمر وتؤول الأوامر بالنهي لأجل التناسب وهذه الأحكام لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار وَأَنَّ هذا أي الذي بيّنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم من دين الإسلام صِراطِي أي ديني مُسْتَقِيماً أي لا اعوجاج فيه.
قرأ ابن عامر و «أن هذا» بفتح الهمزة وسكون النون، فأصلها وأنه هذا فالهاء ضمير الشأن والحديث وهو اسم إن والجملة التي بعده خبره. وقرأ حمزة والكسائي و «إن» بكسر الهمزة وتشديد النون فالتقدير اتل ما حرم واتل إن هذا بمعنى قل. وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد النون والتقدير واتل عليهم إن هذا صراطي مستقيما فَاتَّبِعُوهُ أي هذا الصراط وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ المخالفة لدين الإسلام فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أي فتميل بكم هذه السبل عن سبيل الله الذي لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام.
وعن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما خطا ثم قال:
«هذا سبيل الله» ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: «هذه سبل على كل منها شيطان يدعو إليها»
«١» ذلِكُمْ أي اتباع دين الله وَصَّاكُمْ بِهِ في الكتاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) اتباع الكفر والضلالات ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي ثم بعد تعديد المحرمات وغيرها من
وقرأ حمزة والكسائي على التذكير أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي بحسب ما اقترحوا بقولهم لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا. وهم كانوا كفارا، واعتقاد الكافر ليس بحجة. وقيل: المراد بالملائكة ملائكة الموت لقبض أرواحهم وبإتيان الله تعالى إتيان كل آياته بمعنى آيات القيامة كلها. وقيل: أو يأتي ربك يوم القيامة بلا كيف أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أي بعض علامات ربك الدالة على قرب الساعة وهي عشرة وهي العلامات الكبرى وهي الدجّال، والدابة، وخسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونار تخرج مني عدن تسوق إلى المحشر يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وهو طلوع الشمس من مغربها لا يَنْفَعُ نَفْساً كافرة إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أي قبل
روي عن ابن عباس أنه قال: لا تزال الشمس تجري من مطلعها إلى مغربها حتى يأتي الوقت الذي جعله الله غاية لتوبة عباده، فتستأذن الشمس من أين تطلع ويستأذن القمر من أين يطلع، فلا يؤذن لهما، فيحبسان مقدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر فلا يعرف مقدار حبسهما إلا قليل من الناس، وهم أهل الأوراد وحملة القرآن فينادي بعضهم بعضا فيجتمعون في مساجدهم بالتضرع والبكاء والصراخ بقية تلك الليلة، فبينما الناس كذلك إذ نادى مناد ألا أن باب التوبة قد أغلق والشمس والقمر قد طلعا من مغاربهما ويتصايح أهل الدنيا وتذهل الأمهات عن أولادها، وتضع كل ذات حمل حملها، فأما الصالحون والأبرار فإنهم ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب لهم عبادة وأما الفاسقون والفجار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب عليهم حسرة.
قال عمر بن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم: وما باب التوبة يا رسول الله؟ فقال: «يا عمر خلق الله بابا للتوبة جهة المغرب فهو من أبواب الجنة له مصراعان من ذهب مكللان بالدر والجواهر ما بين المصراع إلى المصراع مسيرة أربعين عاما للراكب المسرع فذلك الباب مفتوح منذ خلقه الله تعالى إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحا من لدن آدم إلى ذلك اليوم إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب». قال أبي بن كعب: يا رسول الله فكيف بالشمس والقمر بعد ذلك! وكيف بالناس والدنيا؟ فقال: «يا أبي إن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك ضوء النار، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك، وأما الناس بعد ذلك فيحلون على الدنيا ويعمرونها ويجرون فيها الأنهار ويغرسون فيها الأشجار، ويبنون فيها البنيان، ثم تمكث الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة السنة منها بقدر شهر، والشهر بقدر جمعة، والجمعة بقدر يوم واليوم بقدر ساعة. ويتمتع المؤمنون بعد ذلك أربعين سنة لا يتمنون شيئا إلا أعطوه حتى تتم أربعون سنة بعد الدابة، ثم يعود فيهم الموت ويسرع فلا يبقى مؤمن ويبقى الكفار يتهارجون في الطرق كالبهائم حتى ينكح الرجل المرأة في وسط الطريق يقوم واحد عنها وينزل واحد وأفضلهم من يقول لو تنحيتم عن الطريق لكان أحسن»
«١».
وروي عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صبيحة تطلع الشمس من مغربها يصير في
«١» قُلِ انْتَظِرُوا ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) لذلك لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة.
والمراد بهذا إن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان وحلّت بهم العقوبة اللازمة أبدا إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً أي أحزابا في الضلالة لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي لست من البحث في تفريقهم فأنت منهم بريء وهم منك برآء، ولست من قتالهم في هذا الوقت في شيء إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ أي يدبره كيف يشاء يؤاخذهم في الدنيا متى شاء ويأمركم بقتالهم إذا أراد ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) أي ثم يظهر الله لهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ويعلمهم أيّ شيء شنيع كانوا يفعلونه في الدنيا، ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء. والمراد بهؤلاء المفرقين الخوارج كما
أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي أمامة: «أو هم أصحاب البدع والأهواء» كما أخرجه الطبراني من حديث عائشة.
وقال قتادة: هم اليهود والنصارى كما أخرجه عبد الرزاق وكما أخرج ابن أبي حاتم عن السدي وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة، وافترقت النصارى اثنين وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة واستثناء الواحدة من فرق أهل الكتابين إنما هو باعتبار ما قبل النسخ وأما بعده فالكل في الهاوية وإن اختلفت أسباب دخولهم وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة» «٢». رواه أبو داود والترمذي والحاكم.
وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا» بالألف أي باينوا بأن تركوا بعض دين آبائهم. والباقون فرقوا بالتشديد أي اختلفوا في دينهم كما اختلف المشركون بعضهم يعبدون الملائكة ويزعمون أنهم بنات الله وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله وبعضهم يعبدون الكواكب مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة من المؤمنين فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أي فله جزاء عشر أمثالها وهذا أقل ما وعد من الأضعاف فالمراد بالعشرة الأضعاف.
مطلقا لا بالتحديد وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل: المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ أي بالأعمال السيئة فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها أي الأجزاء السيئة الواحدة إن جوزي وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) أي لا ينقصون من ثواب
(٢) رواه أبو داود في كتاب السنّة، باب: شرح السنّة، والترمذي في كتاب الإيمان، باب: ١٨، وابن ماجة في كتاب الفتن، باب: افتراق الأمم، وأحمد في (م ٢/ ص ٣٣٢).
قُلْ يا أشرف الخلق للمشركين الذين يدعون أنهم على ملة إبراهيم من أهل مكة واليهود والنصارى: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي أرشدني ربي بالوحي وبما نصب من الآيات التكوينية في الأنفس وفي السموات والأرض إلى طريق حق دِيناً قِيَماً أي لا عوج فيه.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح القاف وكسر الياء مشددة. والباقون بكسر القاف وفتح الياء مخففة، وهو مصدر كالصغر والكبر والحول والشبع أي دينا ذا قيم أي صدق مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي مائلا عن الضلالة إلى الاستقامة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) وقوله تعالى: دِيناً بدل من محل صراط لأن محله النصب على أنه مفعول ثان أو مفعول لفعل مقدر والتقدير ألزموا دينا وقوله تعالى: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان ل «دينا» وحَنِيفاً حال من «إبراهيم» وكذا «وما كان» فهو عطف حال على أخرى قُلْ إِنَّ صَلاتِي أي الصلوات الخمس وَنُسُكِي أي ذبيحتي وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: ٢]. أو المعنى وكل ما تقربت به إلى الله تعالى فإن معنى الناسك من صفّا نفسه من دنس الآثام وَمَحْيايَ وَمَماتِي أي وما أنا عليه في حياتي وما أكون عليه عند موتي من الإيمان والطاعة لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) أي إن صلاتي وسائر عبادتي وحياتي ومماتي كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضائه وحكمه لا شَرِيكَ لَهُ في الخلق والتقدير وَبِذلِكَ أي وبهذا التوحيد أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) أي المستسلمين لقضاء الله وقدره فإنه صلّى الله عليه وسلّم أول من أجاب ببلى يوم العهد لسؤال الله تعالى ألست بربكم، أو المعنى وأنا أول المنقادين لله من أهل ملتي وهذا بيان لمسارعته صلّى الله عليه وسلّم إلى الامتثال بأمر الله. قُلْ يا أشرف الرسل للكفار الذين قالوا لك ارجع إلى ديننا أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا أي أأعبد ربا غير الله وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ أي والحال أن الله رب كل شيء مع أن الذين اتخذوا ربا غير الله أقروا بأن الله خالق الأشياء كما قال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤] وأصناف المشركين أربعة عبدة الأصنام فهم معترفون بأن الله هو الخالق للسموات والأرض وللأصنام بأسرها وعبدة الكواكب فهم معترفون بأن الله خالقها، والقائلون بيزدان وأهرمن فهم معترفون بأن الشيطان محدث وأن محدثه هو الله والقائلون: بأن المسيح ابن الله والملائكة بناته فهم معترفون بأن الله خالق الكل، وإذا ثبت هذا فنقول: العقل الخالص يشهد بأنه لا يجوز جعل المربوب شريكا للرب وجعل المخلوق شريكا للخالق وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ذنبا إِلَّا عَلَيْها أي الإحالة كونه مستعليا عليها بالمضرة أو حالة كونه مكتوبا عليها لا على غيرها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي ولا تحمل نفس آثمة ولا غير آثمة إثم نفس أخرى، فلا تحمل نفس طائعة أو عاصية ذنب غيرها، وإنما قيد في الآيات بالوازرة موافقة لسبب النزول وهو أن الوليد بن المغيرة كان يقول للمؤمنين: اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ أي إلى مالك أموركم
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة يتبعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلّى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة»
«١».