تفسير سورة المدّثر

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة المدثر
هذه السورة مكية، قال ابن عطية بإجماع. وفي التحرير، قال مقاتل : إلا آية وهي :﴿ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً ﴾.
ومناسبتها لما قبلها أن في ما قبلها ﴿ ذَرْنِي وَالْمُكَذّبِينَ ﴾، وفيه ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ ﴾ فناسب ﴿ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ﴾، وناسب ذكر يوم القيامة بعد، وذكر بعض المكذبين في قوله :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾.
قال الجمهور : لما فزع من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض ورعب منه، رجع إلى خديجة فقال : زملوني دثروني، نزلت ﴿ يا أيها المدثر ﴾.

سورة المدّثر
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١ الى ٥٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤)
إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ (٢٧) لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩)
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤)
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩)
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤)
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)
322
تَدَثَّرَ: لَبِسَ الدِّثَارَ، وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي فَوْقَ الشِّعَارِ، وَالشِّعَارُ: الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي الْجَسَدَ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ».
النَّقْرُ: الصَّوْتُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أُخَفِّضُهُ بِالنَّقْرِ لَمَّا عَلَوْتُهُ وَيَرْفَعُ طَرْفًا غَيْرَ خَافٍ غَضِيضِ
وَقَالَ الرَّاجِزُ:
أَنَا ابْنُ مَاوِيَّةَ إِذْ جَدَّ النَّقْرُ يُرِيدُ النَّقْرَ، فَنَقَلَ الْحَرَكَةَ، فَالنَّاقُورُ فَاعُولٌ مِنْهُ، كَالْجَاسُوسِ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّجَسُّسِ.
عَبَسَ يَعْبِسُ عَبْسًا وَعُبُوسًا: قَطَّبَ، وَالْعَبْسُ: مَا تَعَلَّقَ بِأَذْنَابِ الْإِبِلِ مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا.
قَالَ أَبُو النَّجْمِ:
كَأَنَّ فِي أَذْنَابِهِنَّ الشُّوَّلِ مِنْ عبس الضيف قرون الإبل
بَسَرَ: قَبَضَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَارْبَدَّ وَجْهُهُ، قَالَ:
صَحِبْنَا تَمِيمًا غَدَاةَ الْجِفَارِ بِشَهْبَا مَلُومَةً بَاسِرَهْ
وَأَهْلُ الْيَمَنِ يَقُولُونَ: بَسَرَ الْمَرْكَبُ وَأَبْسَرَ إِذَا وَقَفَ، وَقَدْ أَبْسَرْنَا، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: وَجْهٌ بَاسِرٌ بَيِّنُ الْبُسُورِ، إِذَا تَغَيَّرَ وَاسْوَدَّ، لَاحَهُ الْبَسْرُ: غَيَّرَ خِلْقَتَهُ، قَالَ:
تَقُولُ مَا لَاحَكَ يَا مُسَافِرُ يَا ابْنَةَ عَمِّي لَاحَنِي الْهَوَاجِرُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَتَعْجَبُ هِنْدٌ إِنْ رَأَتْنِي شَاحِبًا تَقُولُ لِشَيْءٍ لَوَّحَتْهُ السَّمَائِمُ
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: اللُّوحُ: شِدَّةُ الْعَطَشِ، لَاحَهُ الْعَطَشُ وَلَوَّحَهُ غَيَّرَهُ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
323
وَيُقَالُ: الْتَاحَ، أَيْ عَطِشَ. الْقَسْوَرَةُ: الرُّمَاةُ وَالصَّيَّادُونَ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ أَوِ الْأَسَدُ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ، قَالَ:
سَقَتْنِي عَلَى لُوحٍ مِنَ الْمَاءِ شَرْبَةً سَقَاهَا بِهِ اللَّهُ الرِّهَامَ الْغَوَادِيَا
مُضْمَرٌ تَحَدَّرَهُ الْأَبْطَالُ كَأَنَّهُ الْقَسْوَرَةُ الرِّيبَالُ
أَوِ الرِّجَالُ الشِّدَادُ، قَالَ لَبِيدٌ:
إِذَا مَا هَتَفْنَا هَتْفَةً فِي نَدِيِّنَا أَتَانَا الرِّجَالُ الصَّائِدُونَ الْقَسَاوِرُ
أَوْ ظُلْمَةُ أَوَّلِ اللَّيْلِ لَا ظُلْمَةُ آخِرِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَثَعْلَبٌ.
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ، فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ، ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ، وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِإِجْمَاعٍ. وَفِي التَّحْرِيرِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا آيَةً وَهِيَ:
وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ فِي مَا قَبْلَهَا ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ «١»، وَفِيهِ إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ «٢»، فَنَاسَبَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ، وَنَاسَبْ ذِكْرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَعْدُ، وَذَكَرَ بَعْضَ الْمُكَذِّبِينَ فِي قَوْلِهِ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.
قَالَ الْجُمْهُورُ: لَمَّا فَزِعَ مِنْ رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَرُعِبَ مِنْهُ، رَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: زَمِّلُونِي دَثِّرُونِي، نَزَلَتْ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.
قَالَ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وعائشة: نُودِيَ وَهُوَ فِي حَالٍ تَدَثُّرِهِ، فَدُعِيَ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ تَدَثَّرَ فِي قَطِيفَةٍ. قِيلَ: وَكَانَ يَسْمَعُ مِنْ قُرَيْشٍ مَا كَرِهَهُ، فَاغْتَمَّ وَتَغَطَّى بِثَوْبِهِ مُفَكِّرًا، فَأُمِرَ أَنْ لَا يَدَعَ إِنْذَارَهُمْ وَإِنْ أَسْمَعُوهُ وَآذَوْهُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ مَعْنَاهُ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ لِلنُّبُوَّةِ وَأَثْقَالِهَا، كَمَا قَالَ فِي
(١) سُورَةِ المزمل: ٧٣/ ١١.
(٢) سورة المزمل: ٧٣/ ١٩. [.....]
324
الْمُزَّمِّلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُدَّثِّرُ بِشَدِّ الدَّالِ. وَأَصْلُهُ الْمُتَدَثِّرُ فَأُدْغِمَ، وَكَذَا هُوَ فِي حِرَفِ أُبَيٍّ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، كما قرىء بِتَخْفِيفِ الزَّايِ فِي الْمُزَّمِّلِ، أَيْ دَثَّرَ نَفْسَهُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا: فَتْحُ التَّاءِ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَقَالَ: دَثَّرْتُ هَذَا الْأَمْرَ وَعُصِبَ بِكَ.
قُمْ فَأَنْذِرْ: أَيْ قُمْ مِنْ مَضْجَعِكَ، أَوْ قُمْ بِمَعْنَى الْأَخْذِ فِي الشَّيْءِ، كَمَا تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ يَضْرِبُ عَمْرًا، أَيْ أَخَذَ، وَكَمَا قَالَ:
عَلَامَ قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ أَيْ أَخَذَ، وَالْمَعْنَى قُمْ قِيَامَ تَصْمِيمٍ وَجِدٍّ، فَأَنْذِرْ: أَيْ حَذِّرْ عَذَابَ اللَّهِ وَوَقَائِعَهُ، وَالْإِنْذَارُ عَامٌّ بِجَمِيعِ النَّاسِ وَبَعَثَهُ إِلَى الْخَلْقِ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ: أَيْ فَعَظِّمْ كِبْرِيَاءَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاخْتَصَّ رَبُّكَ بِالتَّكْبِيرِ، وَهُوَ الْوَصْفُ بِالْكِبْرِيَاءِ، وَأَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. انْتَهَى.
وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، قَالَ: وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَعْنَى الشَّرْطِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا كَانَ فَلَا تَدَعْ تَكْبِيرَهُ. انْتَهَى. وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَدَّرَهُ النُّحَاةُ فِي قَوْلِكَ: زَيْدًا فَاضْرِبْ، قَالُوا تَقْدِيرُهُ: تَنَبَّهْ فَاضْرِبْ زَيْدًا، فَالْفَاءُ هِيَ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَهَذَا الْأَمْرُ إِمَّا مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَإِمَّا الشَّرْطُ بَعْدَهُ مَحْذُوفٌ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِيهِ عِنْدَ النُّحَاةِ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، لِأَنَّ طَهَارَةَ الثِّيَابِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَيَقْبُحُ أَنْ تَكُونَ ثِيَابُ الْمُؤْمِنِ نَجِسَةً، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا الثِّيَابُ حَقِيقَةً هُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى وُجُوبِ غَسْلِ النَّجَاسَةِ مِنْ ثِيَابِ الْمُصَلِّي. وَقِيلَ: تَطْهِيرُهَا: تَقْصِيرُهَا، وَمُخَالَفَةُ الْعَرَبِ فِي تَطْوِيلِ الثِّيَابِ وَجَرِّهِمُ الذُّيُولَ عَلَى سَبِيلِ الْفَخْرِ وَالتَّكَبُّرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
ثُمَّ رَاحُوا عَبِقَ الْمِسْكُ بِهِمْ يُلْحِفُونَ الْأَرْضَ هُدَّابِ الْأُزُرِ
وَلَا يُؤْمَنُ مِنْ إِصَابَتِهَا النَّجَاسَةُ
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، لَا جَنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ».
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الثِّيَابَ هُنَا مَجَازٌ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: تَطْهِيرُهَا أَنْ لَا تَكُونَ تَتَلَبَّسُ بِالْقَذَرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا: كَنَّى بِالثِّيَابِ عَنِ الْقَلْبِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تنسلي أَيْ قَلْبِي مِنْ قَلْبِكِ وَعَلَى الطَّهَارَةِ مِنَ الْقَذَرِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ:
325
وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنْ طَهَارَةِ الْعَمَلِ، الْمَعْنَى: وَعَمَلَكَ فَأَصْلِحْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ خَبِيثَ الْعَمَلِ قَالُوا: فُلَانٌ خَبِيثُ الثِّيَابِ وَإِذَا كَانَ حَسَنَ الْعَمَلِ قَالُوا: فُلَانٌ طَاهِرٌ الثِّيَابِ، وَنَحْوُ هَذَا عَنِ السُّدِّيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ غَادِرٍ لَبِسْتُ وَلَا مِنْ خِزْيَةٍ أَتَقَنَّعُ
لاهم إِنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ أَوْ ذَمَّ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ
أَيْ: دَنَّسَهُ بِالْمَعَاصِي، وَقِيلَ: كَنَّى عَنِ النَّفْسِ بِالثِّيَابِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ ثِيَابَهُ وَقَالَ آخَرُ:
ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طُهَارَى نَقِيَّةٌ وَأَوْجُهُهُمْ بِيضٌ سَافِرٌ غِرَّانِ
أَيْ: أَنْفُسُهُمْ. وَقِيلَ: كَنَّى بِهَا عَنِ الْجِسْمِ. قَالَتْ لَيْلَى وَقَدْ ذَكَرَتْ إِبِلًا:
رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ فَلَا نَرَى لَهَا شَبَهًا إِلَّا النَّعَامَ الْمُنَفَّرَا
أَيْ: رَكِبُوهَا فَرَمَوْهَا بِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنِ الْأَهْلِ، قَالَ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ «١»، وَالتَّطَهُّرُ فِيهِنَّ اخْتِيَارُ المؤمنات العفائف. وقيل: ووطئهن فِي الْقُبُلِ لَا فِي الدُّبُرِ، فِي الطُّهْرِ لَا فِي الْحَيْضِ، حَكَاهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنِ الْخُلُقِ، أَيْ وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَيَحْيَى مَا يُلَائِمُ سوء خُلْقٍ وَيَحْيَى طَاهِرُ الْأَثْوَابِ حُرُّ
أَيْ: حَسَنُ الْأَخْلَاقِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالرِّجْزَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّلَمِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو شَيْبَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ وَثَّابٍ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْرَجُ وَحَفْصٌ: بِضَمِّهَا، فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، يُرَادُ بِهِمَا الْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ.
وَقِيلَ: الْكَسْرُ لِلْبَيْنِ وَالنَّقَائِصِ وَالْفُجُورِ، وَالضَّمُّ لِصَنَمَيْنِ أَسَافٌ وَنَائِلَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ: لِلْأَصْنَامِ عُمُومًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّجْزُ: السُّخْطُ، أَيِ اهْجُرْ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ، وَالْمَعْنَى فِي الْأَمْرِ: اثْبُتْ وَدُمْ عَلَى هَجْرِهِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الرُّجْزُ: الْإِثْمُ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: الْعَذَابُ، أَيِ اهْجُرْ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تَمْنُنْ، بِفَكِّ التَّضْعِيفِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِشَدِّ النُّونِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَا تُعْطِ عَطَاءً لِتُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهُ، كَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنَّ إذا أعطى. قال
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨٧.
326
الضَّحَّاكُ: هَذَا خَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُبَاحٌ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ، لَكِنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا:
لَا تَقُلْ دَعَوْتُ فَلَمْ أُجَبْ. وَعَنْ قَتَادَةَ: لَا تُدْلِ بِعَمَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: لَا تَمْنُنْ بِنُبُوَّتِكَ، تَسْتَكْثِرُ بِأَجْرٍ أَوْ كَسْبٍ تَطْلُبُهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَمْنُنْ عَلَى اللَّهِ بِجِدِّكَ، تَسْتَكْثِرُ أَعْمَالَكَ وَيَقَعُ لَكَ بِهَا إِعْجَابٌ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مِنَ الْمَنِّ تَعْدَادُ الْيَدِ وَذِكْرُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ مَا حَمَّلْنَاكَ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، أَوْ تَسْتَكْثِرُ مِنَ الْخَيْرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: حَبْلٌ مَتِينٌ:
أَيْ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: وَلَا تُعْطِ مُسْتَكْثِرًا رَائِيًا لِمَا تُعْطِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَسْتَكْثِرُ بِرَفْعِ الرَّاءِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ مُسْتَكْثِرًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِي الرَّفْعِ أَنْ تُحْذَفَ أن وَيَبْطُلُ عَمَلُهَا، كَمَا رُوِيَ: أَحْضَرُ الْوَغَى بِالرَّفْعِ. انْتَهَى، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَلَنَا مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ مَعَ صِحَّةِ الْحَالِ، أَيْ مُسْتَكْثِرًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِجَزْمِ الرَّاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ تَمْنُنْ، أَيْ لَا تَسْتَكْثِرُ، كَقَوْلِهِ:
يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ «١» فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَزَمَ، بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: يَلْقَ»
، وَكَقَوْلِهِ:
مَتَّى تَأْتِنَا تُلَمِّمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا
وَيَكُونُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى «٣»، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَانِّ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مَا يعطي أن تراه كَثِيرًا وَيَعْتَدَّ بِهِ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ تشبه ثرو بعضد فَتُسَكَّنُ تَخْفِيفًا وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ الْوَقْفِ، يَعْنِي فَيَجْرِي الْوَصْلُ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَهَذَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمَا مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ رَاجِحٌ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ الْمُبْدَلُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَالْأَعْمَشُ: تَسْتَكْثِرَ بِنَصْبِ الرَّاءِ، أَيْ لَنْ تُحَقِّرَهَا.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْ تَسْتَكْثِرَ، بِإِظْهَارِ أَنْ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ: أَيْ لِوَجْهِ رَبِّكَ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ، فَيَتَنَاوَلُ الصَّبْرَ عَلَى تَكَالِيفِ النُّبُوَّةِ، وَعَلَى أَدَاءِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَلَى أَذَى الْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، فَكُلٌّ مَصْبُورٌ عَلَيْهِ وَمَصْبُورٌ عَنْهُ يَنْدَرِجُ فِي الصَّبْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا نُقِرَ لِلتَّسَبُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ، فَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَوْمٌ عَسِيرٌ يَلْقَوْنَ فِيهِ عَاقِبَةَ أَذَاهُمْ وَتَلْقَى عَاقِبَةَ صَبْرِكَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاءُ فِي فَذلِكَ لِلْجَزَاءِ. فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ انْتَصَبَ إِذَا، وَكَيْفَ صَحَّ أَنْ يَقَعَ يَوْمئِذٍ ظَرْفًا ليوم عَسِيرٌ؟ قُلْتُ: انْتَصَبَ إِذَا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، عَسَرَ الْأَمْرُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالَّذِي أَجَازَ وقوع يومئذ ظرفا ليوم عَسِيرٌ أَنَّ الْمَعْنَى: فَذَلِكَ وقت النقر
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٩.
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٨.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٤.
327
وُقُوعُ يَوْمٍ عَسِيرٍ، لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِي وَيَقَعُ حِينَ يُنْقَرُ فِي النَّاقُورِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ مَبْنِيًّا مَرْفُوعَ الْمَحَلِّ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، وَيَوْمٌ عَسِيرٌ خَبَرٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَيَوْمُ النَّقْرِ يَوْمٌ عَسِيرٌ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: غَيْرُ يَسِيرٍ، وَعَسِيرٌ مُغْنٍ عَنْهُ؟ قُلْتُ: لَمَّا قَالَ عَلَى الْكافِرِينَ فَقَصَرَ الْعُسْرَ عَلَيْهِمْ، قَالَ غَيْرُ يَسِيرٍ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ كَمَا يَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَسِيرًا هَيِّنًا، فَيَجْمَعُ بَيْنَ وَعِيدِ الْكَافِرِينَ وَزِيَادَةِ غَيْظِهِمْ وَبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَسْلِيَتِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عَسِيرٌ لَا يُرْجَى أَنْ يَرْجِعَ يَسِيرًا، كَمَا يُرْجَى بِيَسِيرٍ الْعَسِيرُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا. انْتَهَى.
وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: فَإِذا، إذا متعلقة بأنذر، أَيْ فَأَنْذِرْهُمْ إِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورَةِ، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
يَجْرِي عَلَى الْقَوْلِ الْأَخْفَشُ أَنْ تَكُونَ إِذَا مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ فَذَلِكَ وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ. فَأَمَّا يَوْمئِذٍ فَظَرْفٌ لِذَلِكَ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَى الْكَافِرِينَ بيسير، أَيْ غَيْرُ يَسِيرٍ، أَيْ غَيْرُ سَهْلٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ مَعْمُولِ الْعَامِلِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ غَيْرُ عَلَى الْعَامِلِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَدْ أَجَازَهُ بَعْضُهُمْ فَيَقُولُ: أَنَا بِزَيْدٍ غَيْرُ رَاضٍ.
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً: لَا خِلَافَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، فَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُلَقَّبُ بِالْوَحِيدِ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي مَالِهِ وَشَرَفِهِ فِي بَيْتِهِ. وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُ وَحِيدًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ الْعَائِدِ عَلَى مَنْ، أَيْ خَلَقْتُهُ مُنْفَرِدًا ذَلِيلًا قَلِيلًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدٌ، فَآتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَالَ وَالْوَلَدَ، فَكَفَرَ نِعْمَتَهُ وَأَشْرَكَ بِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِدِينِهِ.
وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي ذَرْنِي، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَيْ ذَرْنِي وَحْدِي مَعَهُ، فَأَنَا أَجْزِيكَ فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُ أَوْ حَالٌ مِنَ التَّاءِ فِي خَلَقْتُ، أَيْ خَلَقْتُهُ وَحْدِي لَمْ يُشْرِكْنِي فِي خَلْقِي أَحَدٌ، فَأَنَا أُهْلِكُهُ لَا أَحْتَاجُ إِلَى نَاصِرٍ فِي إِهْلَاكِهِ. وَقِيلَ: وَحِيدًا لَا يُتَبَيَّنُ أَبُوهُ. وَكَانَ الْوَلِيدُ مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ دَعِيٌّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «١»، وَإِذَا كَانَ يُدْعَى وَحِيدًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الذَّمِّ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّهُ وَحِيدًا لَا نَظِيرَ لَهُ.
وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمَّا لُقِّبَ بِذَلِكَ صَارَ عَلَمًا، وَالْعَلَمُ لَا يُفِيدُ فِي الْمُسَمَّى صِفَةً، وأَيْضًا فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ وَحِيدٌ فِي الْكُفْرِ وَالْخُبْثِ وَالدَّنَاءَةِ.
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ له بين مكة والطائف إِبِلٌ وَحُجُورٌ وَنِعَمٌ وَجِنَانٌ وعبيد وَجَوَارٍ. وَقِيلَ: كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ وَضَرْعٍ وَتِجَارَةٍ. وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ:
الْمَالُ الْمُدُودُ هُوَ الْأَرْضُ لِأَنَّهَا مُدَّتْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ الرَّيْعُ الْمُسْتَغَلُّ مُشَاهَرَةً، فَهُوَ مَدٌّ فِي الزَّمَانِ لَا يَنْقَطِعُ. وَقِيلَ: هُوَ مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ وَاضْطَرَبُوا فِي
(١) سورة القلم: ٦٨/ ١٣.
328
تعيينه. فما قِيلَ: أَلْفُ دِينَارٍ، وَقِيلَ: أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكُلُّ هَذَا تَحَكُّمٌ. وَبَنِينَ شُهُوداً:
أي حضورا معه بمكة لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ لِغِنَاهُمْ فَهُوَ مُسْتَأْنِسٌ بِهِمْ، أَوْ شُهُودًا: أَيْ رِجَالًا يَشْهَدُونَ مَعَهُ الْمَجَامِعَ وَالْمَحَافِلَ، أَوْ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا يُتَحَاكَمُ فِيهِ وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِهِمْ، فَذُكِرَ مِنْهُمْ: خَالِدٌ وَهِشَامٌ وَعِمَارَةُ، وَقَدْ أَسْلَمُوا وَالْوَلِيدُ وَالْعَاصِي وَقَيْسٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَمَا زَالَ الْوَلِيدُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَعْدَ نُزُولِهَا فِي نَقْصٍ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى هَلَكَ.
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً: أَيْ وَطَّأْتُ وَهَيَّأْتُ وَبَسَطْتُ لَهُ بِسَاطًا حَتَّى أَقَامَ بِبَلْدَتِهِ مُطْمَئِنًّا يُرْجَعُ إِلَى رَأْيِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَسَّعْتُ لَهُ مَا بَيْنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَهَّدْتُ لَهُ الْمَالَ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا يُمَهَّدُ الْفِرَاشُ. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ: أَيْ عَلَى مَا أَعْطَيْتُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ. كَلَّا: أَيْ لَيْسَ يَكُونُ كَذَلِكَ مَعَ كُفْرِهِ بِالنِّعَمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إن كان محمدا صَادِقًا فَمَا خُلِقَتِ الْجَنَّةُ إِلَّا لِي.
ثُمَّ يَطْمَعُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْتِبْعَادٌ لِطَمَعِهِ وَاسْتِنْكَارٌ، أَيْ لَا مَزِيدَ عَلَى مَا أُوتِيَ كَثْرَةً وَسَعَةً، كَلَّا: قَطْعٌ لِرَجَائِهِ وَرَدْعٌ. انْتَهَى. وَطَمَعُهُ فِي الزِّيَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَبْشَعِهِ وَحُبِّهِ لِلدُّنْيَا. إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً: تَعْلِيلٌ لِلرَّدْعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ لَا يُزَادُ؟ فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ يُعَانِدُ آيَاتِ الْمُنْعِمِ وَكَفَرَ بِذَلِكَ، وَالْكَافِرُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَزِيدَ وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْآيَاتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً إِلَى آخِرِ مَا آتَاهُ اللَّهُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ لِحَدِيثِهِ فِي الْقُرْآنِ وَزَعْمِهِ أَنَّهُ سِحْرٌ.
سَأُرْهِقُهُ: أَيْ سَأُكَلِّفُهُ وَأُعْنِتُهُ بِمَشَقَّةٍ وَعُسْرٍ، صَعُوداً: عَقَبَةً فِي جَهَنَّمَ، كُلَّمَا وُضِعَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْإِنْسَانِ ذَابَ ثُمَّ يَعُودُ، وَالصَّعُودُ فِي اللُّغَةِ: الْعَقَبَةُ الشَّاقَّةُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ عَنِيدٍ فِي سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ:
رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ حَاجَّ أَبَا جَهْلٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَمْرِ الْقُرْآنِ وَقَالَ: إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، فَخَالَفُوهُ وَقَالُوا: هُوَ شِعْرٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ، قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ هَزَجَهُ وَبَسِيطَهُ، قَالُوا: فَهُوَ كَاهِنٌ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ، قَالُوا: هُوَ مَجْنُونٌ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْمَجْنُونَ وَخَنْقَهُ، قَالُوا: هُوَ سِحْرٌ، قَالَ: أَمَّا هَذَا فَيُشْبِهُ أَنَّهُ سِحْرٌ وَيَقُولُ أَقْوَالَ نَفْسِهِ.
وَرُوِيَ هَذَا بِأَلْفَاظٍ غَيْرِ هذا وَيَقْرُبُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى،
وَفِيهِ: وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْكَذِبِ؟ فَقَالُوا: فِي
329
كُلِّ ذَلِكَ اللَّهُمَّ لَا، ثُمَّ قَالُوا: فَمَا هُوَ؟ فَفَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا سَاحِرٌ. أَمَا رَأَيْتُمُوهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَمَوَالِيهِ؟ وَمَا الَّذِي يَقُولُهُ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثِرُهُ عَنْ مِثْلِ مُسَيْلِمَةَ وَعَنْ أَهْلِ بَابِلَ، فَارْتَجَّ النَّادِي فَرَحًا وَتَفَرَّقُوا مُتَعَجِّبِينَ مِنْهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ سَمِعَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا أَعْجَبَهُ وَمَدَحَهُ، ثُمَّ سَمِعَ كَذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى كَادَ أَنْ يُقَارِبَ الْإِسْلَامَ. وَدَخَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِرَارًا، فَجَاءَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا وَلِيدُ، أَشَعَرْتَ أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ ذَمَّتْكَ بِدُخُولِكَ إِلَى ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَزَعَمَتْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَقْصِدُ أَنْ تَأْكُلَ طَعَامَهُ؟ وَقَدْ أَبْغَضَتْكَ لِمُقَارَبَتِكَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ، وَمَا يُخَلِّصُكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَنْ تَقُولَ فِي هَذَا الْكَلَامِ قَوْلًا يُرْضِيهِمْ، فَفَتَنَهُ أَبُو جَهْلٍ فَافْتَتَنَ وَقَالَ: أَفْعَلُ. إِنَّهُ فَكَّرَ: تَعْلِيلٌ لِلْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. قِيلَ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنَّهُ فَكَّرَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً، بَيَانًا لِكُنْهِ عِنَادُهُ وَفَكَّرَ، أَيْ فِي الْقُرْآنِ وَمَنْ أَتَى بِهِ، وقَدَّرَ: أَيْ فِي نَفْسِهِ مَا يَقُولُ فِيهِ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، قُتِلَ: لُعِنَ، وَقِيلَ: غُلِبَ وَقُهِرَ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ:
لسهميك في أعسار قَلْبٍ مُقَتَّلِ أَيْ مُذَلَّلٌ مَقْهُورٌ بِالْحُبِّ، فَلُعِنَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ وَغُلِبَ، وَذَلِكَ إِخْبَارٌ بِقَهْرِهِ وَذِلَّتِهِ، وكَيْفَ قَدَّرَ مَعْنَاهُ: كَيْفَ قَدَّرَ مَا لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ وَمَا لَا يَسُوغُ أَنْ يُقَدِّرَهُ عَاقِلٌ؟
وَقِيلَ: دُعَاءٌ مُقْتَضَاهُ الِاسْتِحْسَانُ وَالتَّعَجُّبُ. فَقِيلَ ذَلِكَ لِمَنْزَعِهِ الْأَوَّلِ فِي مَدْحِهِ الْقُرْآنَ، وَفِي نَفْيِهِ الشِّعْرَ وَالْكَهَانَةَ وَالْجُنُونَ عَنْهُ، فَيَجْرِي مَجْرَى قَوْلِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: قَاتَلَ اللَّهُ كُثَيِّرًا، كَأَنَّهُ رَآنَا حِينَ قَالَ كَذَا. وَقِيلَ: ذَلِكَ لِإِصَابَتِهِ مَا طَلَبَتْ قُرَيْشٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: ذَلِكَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ حِكَايَةٌ لِمَا كَرَّرُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، تَهَكُّمًا بِهِمْ وَبِإِعْجَابِهِمْ بِتَقْدِيرِهِ وَاسْتِعْظَامِهِمْ لِقَوْلِهِ، وَهَذَا فِيهِ بَعْدُ. وَقَوْلُهُمْ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّهُ يُقَالُ عِنْدَ اسْتِعْظَامِ الْأَمْرِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْهُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ الْمَبْلَغَ الَّذِي يُحْسَدُ عَلَيْهِ وَيُدْعَى عَلَيْهِ مِنْ حُسَّادِهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي كَيْفَ قَدَّرَ فِي مَعْنَى: مَا أَعْجَبَ تَقْدِيرَهُ وَمَا أَغْرَبَهُ، كَقَوْلِهِمْ: أَيُّ رَجُلٍ زَيْدٌ؟ أَيْ مَا أَعْظَمَهُ.
وَجَاءَ التَّكْرَارُ بِثُمَّ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَةَ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى لِلتَّرَاخِي الَّذِي بَيْنَهُمَا، كَأَنَّهُ دَعَى عَلَيْهِ أَوَّلًا وَرَجَى أَنْ يُقْلِعَ عَنْ مَا كَانَ يَرُومُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَدَعَى عَلَيْهِ ثَانِيًا، ثُمَّ نَظَرَ:
أَيْ فَكَّرَ ثَانِيًا. وَقِيلَ: نَظَرَ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ: أَيْ قَطَّبَ وَكَلَحَ لَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ وَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ. وَقِيلَ: قَطَّبَ فِي وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَدْبَرَ: رَجَعَ مُدْبِرًا، وَقِيلَ: أَدْبَرَ عَنِ الْحَقِّ، وَاسْتَكْبَرَ، قِيلَ: تَشَارَسَ مُسْتَكْبِرًا، وَقِيلَ: اسْتَكْبَرَ عَنِ
330
الْحَقِّ، وَصَفَهُ بِالْهَيْئَاتِ الَّتِي تُشْكِلُ بِهَا حِينَ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: مَا قَالَ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَأَنَّ مَا يَقُولُهُ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، إِذْ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا، لَكَانَ لَهُ هَيْئَاتٌ غَيْرُ هَذِهِ مِنْ فَرَحِ الْقَلْبِ وَظُهُورِ السُّرُورِ وَالْجَذَلِ وَالْبِشْرِ فِي وَجْهِهِ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذَا الْفِكْرِ لِأَنَّ الْحَقَّ أَبْلَجُ يَتَّضِحُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِكْدَادِ فِكْرٍ وَلَا إِبْطَاءِ تَأَمُّلٍ. أَلَا تَرَى إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَقَوْلِهِ حِينَ رَأَى رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلِمْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَأَسْلَمَ مِنْ فَوْرِهِ. وَقِيلَ: ثُمَّ نَظَرَ فِيمَا يَحْتَجُّ بِهِ لِلْقُرْآنِ، فَرَأَى مَا فِيهِ مِنَ الْإِعْجَازِ وَالْإِعْلَامِ بِمَرْتَبَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَامَ نَظَرُهُ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، دَلَالَةً عَلَى تَأَنِّيهِ وَتَمَهُّلِهِ فِي تَأَمُّلِهِ، إِذْ بَيْنَ ذَلِكَ تَرَاخٍ وَتَبَاعُدٌ.
وَكَانَ الْعَطْفُ فِي وَبَسَرَ وَفِي وَاسْتَكْبَرَ، لِأَنَّ الْبُسُورَ قَرِيبٌ مِنَ الْعُبُوسِ، فَهُوَ كَأَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالِاسْتِكْبَارِ يَظْهَرُ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْإِدْبَارِ، إِذِ الِاسْتِكْبَارُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ، وَالْإِدْبَارُ حَقِيقَةٌ مِنْ فِعْلِ الْجِسْمِ، فَهُمَا سَبَبٌ وَمُسَبِّبٌ، فَلَا يُعْطَفُ بِثُمَّ وَقَدَّمَ الْمُسَبِّبَ عَلَى السَّبَبِ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ لِلَعَيْنِ، وَنَاسَبَ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ وَكَانَ الْعَطْفُ فِي فَقَالَ بِالْفَاءِ دَلَالَةً عَلَى التَّعْقِيبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا خَطَرَ بِبَالِهِ هَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ تَطَلُّبِهِ، لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ نَطَقَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَمَهُّلٍ.
وَمَعْنَى يُؤْثَرُ: يُرْوَى وَيُنْقَلُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَقُلْتُ مِنَ الْقَوْلِ مَا لَا يَزَا لُ يُؤْثَرُ عَنِّي بِهِ الْمُسْنَدُ
وَقِيلَ: يُؤْثَرُ أَيْ يُخْتَارُ وَيُرَجَّحُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ السِّحْرِ فَيَكُونُ مِنَ الْإِيثَارِ، وَمَعْنَى إِلَّا سِحْرٌ: أَيْ شَبِيهٌ بِالسِّحْرِ. إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ: تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ يُلْتَقَطُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ كُفْرَ الْوَلِيدِ إِنَّمَا هُوَ عِنَادً. أَلَا تَرَى ثَنَاءَهُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَنَفْيَهُ عَنْهُ جَمِيعَ مَا نَسَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الشِّعْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالْجُنُونِ، وَقِصَّتُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَرَأَ عَلَيْهِ أَوَائِلَ سُورَةِ فُصِّلَتْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ «١»، وَكَيْفَ نَاشَدَهُ اللَّهَ بِالرَّحِمِ أَنْ يَسْكُتَ؟ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلٌ مِنْ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. انْتَهَى. وَيَظْهَرُ أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ اعْتَقَبَتْ كل واحدة، منهما فتوعد عَلَى سَبِيلِ التَّوَعُّدِ الْعِصْيَانَ الَّذِي قَبْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَتَوَعَّدَ عَلَى كَوْنِهِ عَنِيدًا لِآيَاتِ اللَّهِ بِإِرْهَاقِ صَعُودٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ يُؤْثَرُ بِإِصْلَائِهِ سَقَرَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَقَرَ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْقَمَرِ. وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ: تَعْظِيمٌ لِهَوْلِهَا وَشِدَّتِهَا، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ:
أَيْ لَا تُبْقِي عَلَى مَنْ أُلْقِيَ فِيهَا، وَلَا تَذْرُ غَايَةً مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا أَوْصَلَتْهُ إِلَيْهِ.
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو رَزِينٍ وَالْجُمْهُورُ: معناه مغيرة
(١) سورة فصلت: ٤١/ ١٣.
331
لِلْبَشَرَاتِ مُحْرِقَةٌ لِلْجُلُودِ مُسَوِّدَةً لَهَا، وَالْبَشَرُ جَمْعُ بَشَرَةٍ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: لَاحَتِ النَّارُ الشَّيْءَ إِذَا أَحْرَقَتْهُ وَسَوَّدَتْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: لَوَّاحَةٌ بِنَاءُ مُبَالِغَةٍ مِنْ لَاحَ إِذَا ظَهَرَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَظْهَرُ لِلنَّاسِ، وَهُمُ الْبَشَرُ، مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَذَلِكَ لِعِظَمِهَا وَهَوْلِهَا وَزَجْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ «١»، وَقَوْلِهِ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى «٢». وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَوَّاحَةٌ بِالرَّفْعِ، أَيْ هِيَ لَوَّاحَةٌ. وَقَرَأَ الْعَوْفِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: لِوَاحَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدَةِ، لِأَنَّ النَّارَ الَّتِي لَا تُبْقِي وَلَا تَذْرُ لَا تَكُونُ إِلَّا مُغَيِّرَةً لِلْأَبْشَارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَصْبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ لِلتَّهْوِيلِ.
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ: التَّمْيِيزُ مَحْذُوفٌ، وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُ مَلَكٌ. أَلَا تَرَى الْعَرَبَ وَهُمُ الْفُصَحَاءُ كَيْفَ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ مَلَكٌ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لِقُرَيْشٍ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، أَسْمَعُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمُ الدُّهْمُ، أَيَعْجِزُ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْكُمْ أَنْ يَبْطِشُوا بِرَجُلٍ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ أَبُو الْأَشَدِّ بْنُ أُسَيْدٍ بْنِ كَلْدَةَ الْجُمَحِيُّ، وَكَانَ شَدِيدَ الْبَطْشِ: أَنَا أَكْفِيكُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ فَاكْفُونِي أَنْتُمُ اثْنَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أَيْ مَا جَعَلْنَاهُمْ رِجَالًا مِنْ جِنْسِكُمْ يُطَاقُونَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبِي جَهْلٍ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «٣». وَقِيلَ: التَّمْيِيزُ الْمَحْذُوفُ صِنْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: نَقِيبًا، وَمَعْنَى عَلَيْهَا يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَهَا وَإِلَيْهِمْ جِمَاعُ زَبَانِيَتهَا، فَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْعَدَدِ وَمِنَ الْآيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَمِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ النُّقَبَاءُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ،
وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» ؟
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ نُعُوتِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَخَلْقِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَمَا أَقْدَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ حُكْمًا عَلَى زَعْمِهِ فِي كَوْنِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تِسْعَةَ عَشَرَ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى الْفَتْحِ عَلَى مَشْهُورِ اللُّغَةِ فِي هَذَا الْعَدَدِ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ: بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ، كَرَاهَةَ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ. وَقَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ قُطَيْبٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ قُنَّةَ: بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ حَرَكَةُ بِنَاءٍ عُدِلَ إِلَيْهَا عَنِ الْفَتْحِ لِتَوَالِي خَمْسِ فَتَحَاتٍ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا حَرَكَةُ إِعْرَابٍ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حركة إعراب
(١) سورة التكاثر: ١٠٢/ ٦.
(٢) سورة النازعات: ٧٩/ ٣٦.
(٣) سورة القيامة: ٧٥/ ٣٤.
332
لَأَعْرَبَ عَشَرَ. وَقَرَأَ أَنَسٌ أَيْضًا: تِسْعَةُ بِالضَّمِّ، أَعْشُرَ بِالْفَتْحِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَيَجُوزُ أَنَّهُ جَمَعَ الْعَشْرَةَ عَلَى أَعْشُرٍ ثُمَّ أَجْرَاهُ مَجْرَى تِسْعَةَ عَشَرَ، وَعَنْهُ أَيْضًا تِسْعَةٌ وَعَشْرٌ بِالضَّمِّ، وَقَلَبَ الْهَمْزَةَ مِنْ أَعْشُرٍ وَاوًا خَالِصَةً تَخْفِيفًا، وَالْبَاءُ فِيهِمَا مَضْمُومَةٌ ضَمَّةُ بِنَاءٍ لِأَنَّهَا مُعَاقِبَةٌ لِلْفَتْحَةِ، فِرَارًا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ خَمْسِ حَرَكَاتٍ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قُنَّةَ، وَهُوَ أَخُو إِبْرَاهِيمَ: أَنَّهُ قَرَأَ تِسْعَةُ أَعْشُرٍ بِضَمِّ التَّاءِ ضَمَّةَ إِعْرَابٍ وَإِضَافَتِهِ إلى أعشر، وأعشر مَجْرُورٌ مُنَوَّنٌ وَذَلِكَ عَلَى فَكِّ التَّرْكِيبِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجِيءُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ أَعْشُرٍ مَبْنِيًّا أَوْ مُعْرَبًا مِنْ حَيْثُ هُوَ جَمْعٌ، أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى النَّارِ تِسْعُونَ مَلَكًا. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. قال الزمخشري: وقرىء تِسْعَةُ أَعْشُرٍ جَمْعُ عَشِيرٍ، مِثْلُ يَمِينٍ وَأَيْمُنٍ. انْتَهَى. وَسُلَيْمَانُ بْنُ قُنَّةَ هَذَا هُوَ الَّذِي مَدَحَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْقَائِلُ:
مَرَرْتُ عَلَى أَبْيَاتِ آلِ مُحَمَّدٍ فَلَمْ أَرَ أَمْثَالًا لَهَا يَوْمَ حَلَّتِ
وَكَانُوا ثِمَالًا ثُمَّ عَادُوا رَزِيَّةً لَقَدْ عَظُمَتْ تِلْكَ الرَّزَايَا وَجَلَّتِ
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ خَلْقًا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِهِمْ، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: أي سبب فتنة، وفتنة مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَعَلْنَا، أَيْ جَعَلْنَا تِلْكَ الْعِدَّةَ، وَهِيَ تِسْعَةَ عَشَرَ، سَبَبًا لِفِتْنَةِ الْكُفَّارِ، فَلَيْسَ فِتْنَةٌ مَفْعُولًا من أجله، وفتنتهم هِيَ كَوْنُهُمْ أَظْهَرُوا مُقَاوَمَتَهُمْ فِي مُغَالَبَتِهِمْ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. فَإِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ وَبِالنَّارِ وَبِخَزَنَتِهَا. لِيَسْتَيْقِنَ: هَذَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلْنَا لَا بِفِتْنَةٍ. فَلَيْسَتِ الْفِتْنَةُ مَعْلُولَةً لِلِاسْتِيقَانِ، بَلِ الْمَعْلُولُ جَعَلَ العدّة سببا لفتنة الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ هُمْ يَجِدُونَ هَذِهِ الْعِدَّةَ فِي كُتُبِهِمُ الْمُنَزَّلَةِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَقْرَأْهَا وَلَا قَرَأَهَا عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّ كِتَابَهُ يُصَدِّقُ كُتُبَ الْأَنْبِيَاءِ، إِذْ كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ يَتَعَاضَدُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَبِوُرُودِ الْحَقَائِقِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى يَزْدَادُ كُلُّ ذِي إِيمَانٍ إِيمَانًا، وَيَزُولُ الرَّيْبُ عَنِ الْمُصَدِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا صَارَ جَعْلُهَا فِتْنَةً لِأَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ وَيَقُولُونَ: لِمَ لَمْ يَكُونُوا عِشْرِينَ؟ وَمَا الْمُقْتَضَى لِتَخْصِيصِ هَذَا الْعَدَدِ بِالْوُجُودِ؟
وَيَقُولُونَ هَذَا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ، يَقْوُونَ بِتَعْذِيبِ أَكْثَرِ الْعَالَمِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِنْ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ جَعَلَ افْتِتَانَ الْكَافِرِينَ بِعِدَّةِ الزَّبَانِيَةِ سَبَبًا لِاسْتِيقَانِ
333
أَهْلِ الْكِتَابِ وَزِيَادَةِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِهْزَاءِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ ذَلِكَ؟
قُلْتُ: مَا جَعَلَ افْتِتَانِهُمْ بِالْعِدَّةِ سَبَبًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْعِدَّةُ نَفْسُهَا هِيَ الَّتِي جُعِلَتْ سَبَبًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا تِسْعَةَ عَشَرَ فَوَضَعَ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَوْضِعَ تِسْعَةَ عَشَرَ، لِأَنَّ حَالَ هَذِهِ الْعِدَّةِ النَّاقِصَةِ وَاحِدًا مِنْ عَقْدِ الْعِشْرِينَ، أَنْ يَفْتَتِنَ بِهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِحِكْمَتِهِ وَيَعْتَرِضُ ويستهزىء وَلَا يُذْعِنُ إِذْعَانَ الْمُؤْمِنِ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَقَدْ جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ عِدَّةً مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُفْتَتَنَ بِهَا لِأَجْلِ اسْتِيقَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَيْرَةِ الْكَافِرِينَ. انْتَهَى، وَهُوَ سُؤَالٌ عَجِيبٌ وَجَوَابٌ فِيهِ تَحْرِيفُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِلَّا تِسْعَةَ عَشَرَ، وَهَذَا لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ عَاقِلٌ وَلَا مِنْ لَهُ أَدْنَى ذَكَاءٍ وَكَفَى ردًّا عَلَيْهِ تَحْرِيفُ كِتَابِ اللَّهِ وَوَضْعِ أَلْفَاظٍ مُخَالِفَةٍ لِأَلْفَاظٍ وَمَعْنًى مُخَالِفٍ لِمَعْنًى. وَقِيلَ: لِيَسْتَيْقِنَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِيَسْتَيْقِنَ. وَلا يَرْتابَ: تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ لِيَسْتَيْقِنَ، إِذْ إِثْبَاتُ الْيَقِينِ وَنَفْيُ الِارْتِيَابِ أَبْلَغُ وَآكَدُ فِي الْوَصْفِ لِسُكُونِ النَّفْسِ السُّكُونِ التَّامِّ.
والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: السُّورَةُ مكية، ولم يكن بمكة نِفَاقٌ، وَإِنَّمَا الْمَرَضُ فِي الْآيَةِ: الِاضْطِرَابُ وَضَعْفُ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، أَيْ وَلِيَقُولَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُنَجِّمُونَ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ بالمدينة بَعْدَ الْهِجْرَةِ:
مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا. لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْعَدَدَ لَمْ يَهْتَدُوا وَحَارُوا، فَاسْتَفْهَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ اسْتِبْعَادًا أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَسَمَّوْهُ مَثَلًا اسْتِعَارَةً مِنَ الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ اسْتِغْرَابًا مِنْهُمْ لِهَذَا الْعَدَدِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْعَدَدِ الْعَجِيبِ؟ وَمُرَادُهُمْ إِنْكَارُ أَصْلِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ إِعْرَابِ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ.
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ، كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ، كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ، فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ، فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ، فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً، كَلَّا بَلْ
334
لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ، كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ.
الْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ مَعْنَى الْإِضْلَالِ وَالْهُدَى، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِضْلَالِ وَالْهُدَى، يُضِلُّ الْكَافِرِينَ فَيَشُكُّونَ فَيَزِيدُهُمْ كُفْرًا وَضَلَالًا، وَيَهْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَيَزِيدُهُمْ إِيمَانًا. وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ: إِعْلَامٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ فَوْقَ مَا يُتَوَهَّمُ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ بَعْضِ الْقُدْرَةِ لَا عَنْ كُلِّهَا، وَالسَّمَاءُ عَامِرَةٌ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ لِلَّهِ سَاجِدًا».
وَما هِيَ: أَيِ النَّارُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ الْمُخَاطَبَةُ وَالنِّذَارَةُ، أَوْ نَارُ الدُّنْيَا، أَوِ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ، أَوِ الْعِدَّةُ التِسْعَةَ عَشَرَ، أَوِ الْجُنُودُ، أَقْوَالٌ رَاجِحُهَا الْأَوَّلُ وَهِيَ سَقَرُ، ذَكَّرَ بِهَا الْبَشَرَ لِيَخَافُوا وَيُطِيعُوا. وَقَدْ جَرَى ذِكْرُ النَّارِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَمَا جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً. إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ: أَيِ الَّذِينَ أُهِّلُوا لِلتَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ.
كَلَّا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَلَّا إِنْكَارٌ بَعْدَ أَنْ جَعَلَهَا ذِكْرَى، أَنْ يَكُونَ لَهُمْ ذِكْرَى لِأَنَّهُمْ لَا يَتَذَكَّرُونَ. انْتَهَى. وَلَا يَسُوغُ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهَا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ، ثُمَّ يُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ ذِكْرَى، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ: لِلْبَشَرِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ رَدْعٌ لِمَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ إِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا. وَقِيلَ: رَدْعٌ لِقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى مُقَاوَمَةِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: رَدْعٌ عَنِ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْعِدَّةِ الْمَخْصُوصَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ صِلَةٌ لِلْقَسَمِ، وَقَدَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِحَقًّا، وَبَعْضُهُمْ بِأَلَا الِاسْتِفْتَاحِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي آخِرِ سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ.
وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ: أَيْ وَلَّى، وَيُقَالُ دَبَرَ وَأَدْبَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. أَقْسَمَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا يَظْهَرُ بِهَا وَفِيهَا مِنْ عَجَائِبِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقِوَامُ الْوُجُودِ بِإِيجَادِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ يَعْمُرَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَأَبُو الزناد وقتادة وَعُمَرُ بْنُ الْعَزِيزُ وَالْحَسَنُ وطلحة والنحويان والابنان وأبوبكر: إِذَا ظَرْفُ زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ دَبَرَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُمْ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْأَعْرَجُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو شَيْخٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ: إِذْ ظَرْفُ زَمَانٍ مَاضٍ، أَدْبَرَ رُبَاعِيًّا وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَأَبُو رَزِينٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ يَعْمُرَ أيضا والسلمي أيضا وطلحة أَيْضًا وَالْأَعْمَشُ وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ وَمَطَرٌ: إِذَا بِالْأَلْفِ، أَدْبَرَ بِالْهَمْزِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: إِذا أَسْفَرَ، وَيُقَالُ: كَأَمْسُ الدَّابِرِ وَأَمْسُ الْمُدْبِرُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ.
335
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: دَبَرَ: انْقَضَى، وَأَدْبَرَ: تَوَلَّى. وَقَالَ قَتَادَةُ: دَبَرَ اللَّيْلُ: وَلَّى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَدَبَرَ بمعنى أدبر، كقبل بِمَعْنَى أَقْبَلَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ دَبَرَ اللَّيْلُ النَّهَارَ: أَخْلَفَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَسْفَرَ رباعيا وَابْنُ السَّمَيْفَعِ وَعِيسَى بْنُ الْفَضْلِ: سَفَرَ ثُلَاثِيًّا، وَالْمَعْنَى:
طَرَحَ الظُّلْمَةَ عَنْ وَجْهِهِ.
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهَا عَائِدٌ عَلَى النَّارِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلنِّذَارَةِ، وَأَمْرُ الْآخِرَةِ فَهُوَ لِلْحَالِ وَالْقِصَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ لَإِحْدَى الْكُبَرِ، فَعَادَ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَمَعْنَى إِحْدَى الْكُبَرِ: الدَّوَاهِي الْكُبَرِ، أَيْ لَا نَظِيرَ لَهَا، كَمَا تَقُولُ:
هُوَ أَحَدُ الرِّجَالِ، وَهِيَ إِحْدَى النِّسَاءِ، وَالْكُبَرُ: الْعَظَائِمُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ.
وَقَالَ الرَّاجِزُ:
يَا ابْنَ الْمُعَلَّى نَزَلَتْ إِحْدَى الْكُبَرِ دَاهِيَةُ الدَّهْرِ وَصْمَاءُ الْغِيَرِ
وَالْكُبَرُ جَمْعُ الْكُبْرَى، طُرِحَتْ أَلِفُ التَّأْنِيثِ فِي الْجَمْعِ، كَمَا طُرِحَتْ هَمْزَتُهُ فِي قَاصِعَاءَ فَقَالُوا قَوَاصِعُ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَالْكُبَرُ جَمْعُ كَبِيرَةٍ، وَلَعَلَّهُ مِنْ وَهْمِ النَّاسِخِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَإِحْدَى بِالْهَمْزِ، وَهِيَ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ أَصْلُهُ لَوِحْدَى، وَهُوَ بَدَلٌ لَازِمٌ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ حَذْفٌ لَا يَنْقَاسُ، وَتَخْفِيفُ مِثْلِ هَذِهِ الْهَمْزَةِ أَنْ تُجْعَلَ بَيْنَ بَيْنَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أو تعليل لكلا، وَالْقَسَمُ مُعْتَرِضٌ لِلتَّوْكِيدِ. انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَذِيراً، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، كَالنَّكِيرِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، فَيَكُونُ تَمْيِيزًا: أَيْ لَإِحْدَى الْكُبَرِ إِنْذَارًا، كَمَا تَقُولُ: هِيَ إِحْدَى النِّسَاءِ عَفَافًا. كَمَا ضُمِّنَ إِحْدَى مَعْنَى أَعْظَمَ، جَاءَ عَنْهُ التَّمْيِيزُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَصْدَرٌ نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيِ أَنْذِرْ إِنْذَارًا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ بِمَعْنَى مُنْذِرٍ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي إِنَّهَا. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي إِحْدَى، وَمَنْ جَعَلَهُ متصلا بقم فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، أَوْ بفأنذر فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، أَوْ حَالًا مِنْ الْكُبَرِ، أَوْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْكُبَرِ، فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الصَّوَابِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ تَقْدِيرُهُ: عَظُمَتْ نَذِيرًا. انْتَهَى، وَهُوَ قَوْلٌ لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ نَذِيرًا، وَإِنْ كَانَ لِلنَّارِ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ، يَعْنِي ذَاتَ الْإِنْذَارِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَعْنِي نَذِيرًا. وَقَالَ الْحَسَنُ:
لِأُنْذِرَ، إِذْ هِيَ مِنَ النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَنَّ نَذِيرًا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي
336
إِنَّهَا، أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: لَإِحْدَى. قَالَ أَبُو رَزِينٍ: نَذِيرٌ هُنَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ ادْعُوا نَذِيرًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَذِيرٌ هُنَا هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ نَادِ، أَوْ بَلِّغْ، أَوْ أَعْلِنْ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: نَذِيرٌ بِالرَّفْعِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ وَصْفِ النَّارِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَخَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ نَذِيرٌ. وَإِنْ كَانَ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ أَوِ الرَّسُولِ، فَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِمَنْ بَدَلٌ مِنَ الْبَشَرِ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَأَنْ يَتَقَدَّمَ منصوب بشاء ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ. وَقِيلَ: الْفَاعِلَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لِمَنْ شَاءَ هُوَ، أَيِ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ وَعِيدٌ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «١». قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ بَيَانٌ فِي النِّذَارَةِ وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَسْلُكُ طَرِيقَ الْهُدَى وَالْحَقِّ إِذَا حَقَّقَ النَّظَرَ، إِذْ هُوَ بِعَيْنِهِ يَتَأَخَّرُ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ بِغَفْلَتِهِ وَسُوءِ نَظَرِهِ. ثُمَّ قَوَّى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِ الرفع بالابتداء، ولِمَنْ شاءَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، كَقَوْلِكَ لِمَنْ تَوَضَّأَ: أَنْ يُصَلِّيَ، وَمَعْنَاهُ مُطْلَقٌ لِمَنْ شَاءَ التَّقَدُّمَ أَوِ التَّأَخُّرَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ. وَالْمُرَادُ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ: السَّبْقُ إِلَى الْخَيْرِ وَالتَّخَلُّفُ عَنْهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ. انْتَهَى، وَهُوَ مَعْنَى لَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ وَفِيهِ حَذْفٌ. قِيلَ:
وَالتَّقَدُّمُ: الْإِيمَانُ، وَالتَّأَخُّرُ: الْكُفْرُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى النَّارِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْمَأْمُورَاتِ، أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ نَفْسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ نَفْسٍ حَقِيقٌ عَلَيْهَا الْعَذَابُ، وَلَا يَرْتَهِنُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَرَهِينَةٌ بِمَعْنَى رَهْنٍ، كَالشَّتِيمَةِ بِمَعْنَى الشَّتْمِ، وَلَيْسَتْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهَا بِغَيْرِ تَاءٍ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، نَحْوُ: رَجُلٌ قَتِيلٌ وَامْرَأَةٌ قَتِيلٌ، فَالْمَعْنَى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهْنٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَبْعَدَ الَّذِي بِالنَّعْفِ نَعِفِ كُوَيْكِبٍ رَهِينَةُ رَمْسٍ ذِي تُرَابٍ وَجَنْدَلِ
أَيْ: رَمْسُ رَهْنٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ رَهْنٌ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مَفْكُوكٍ. وَقِيلَ: الْهَاءُ فِي رَهِينَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ: عَلَى تَأْنِيثِ اللَّفْظِ لَا عَلَى الْإِنْسَانِ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهَا مِمَّا دَخَلَتْ فِيهِ التَّاءُ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فِي الْأَصْلِ كَالنَّطِيحَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَبَرًا عَنِ الْمُذَكَّرِ كَانَ بِغَيْرِ هَاءٍ، قَالَ تَعَالَى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ «٢». فَأَنْتَ تَرَى حَيْثُ كَانَ
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٢٩.
(٢) سورة الطور: ٥٢/ ٢١.
337
خَبَرًا عَنِ الْمُذَكَّرِ أَتَى بِغَيْرِ تَاءٍ، وَحَيْثُ كَانَ خَبَرًا عَنِ الْمُؤَنَّثِ أَتَى بِالتَّاءِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فَأَمَّا الَّذِي فِي الْبَيْتِ فَأُنِّثَ عَلَى مَعْنَى النَّفْسِ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ الْمَلَائِكَةُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: هُمْ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ.
فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، أَيْ لَكِنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: هُمُ الْمُسْلِمُونَ الْمُخْلِصُونَ، لَيْسُوا بِمُرْتَهَنِينَ لِأَنَّهُمْ أَدُّوا مَا كَانَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِ الضَّحَّاكِ الَّذِي تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُمْ فَكُّوا عَنْهُ رِقَابَهُمْ بِمَا أَطَابُوهُ مِنْ كَسْبِهِمْ، كَمَا يُخَلِّصُ الرَّاهِنُ رَهْنَهُ بِأَدَاءِ الْحَقِّ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ فِي جَنَّاتٍ، أَيْ هُمْ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ: أَيْ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ يَكُونُ يَتَسَاءَلُ بِمَعْنَى يَسْأَلُ، أَيْ يَسْأَلُونَ عَنْهُمْ غَيْرَهُمْ، كَمَا يُقَالُ: دَعَوْتُهُ وَتَدَاعَوْتُهُ بِمَعْنَاهُ. وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ كَيْفَ جَاءَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بِالْخِطَابِ لِلْمُجْرِمِينَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، الْمَعْنَى: أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ يَسْأَلُونَ غَيْرَهُمْ عَنْ مَنْ غَابَ مِنْ مَعَارِفِهِمْ، فَإِذَا عَرَفُوا أَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ فِي النَّارِ قَالُوا لَهُمْ، أَوْ قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: هَكَذَا قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ قَائِلِينَ لَهُمْ بَعْدَ التَّسَاؤُلِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ قَوْلُهُ: مَا سَلَكَكُمْ؟ وَهُوَ سُؤَالٌ لِلْمُجْرِمِينَ، قَوْلَهُ: يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ؟ وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يُطَابِقُ ذَلِكَ لَوْ قِيلَ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ؟ قُلْتُ: مَا سَلَكَكُمْ لَيْسَ بِبَيَانٍ لِلتَّسَاؤُلِ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمَسْئُولِينَ عَنْهُمْ، لِأَنَّ الْمَسْئُولِينَ يُلْقُونَ إِلَى السَّائِلِينَ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُجْرِمِينَ فَيَقُولُونَ: قُلْنَا لَهُمْ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ جِيءَ بِهِ عَلَى الْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ، كَمَا هُوَ نَهْجُ التَّنْزِيلِ فِي غَرَابَةِ نَظْمِهِ.
انْتَهَى، وَفِيهِ تَعَسُّفٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السَّائِلِينَ هُمُ الْمُتَسَائِلُونَ، وَمَا سَلَكَكُمْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَسُؤَالُهُمْ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ لَهُمْ وَتَحْقِيرٍ، وَإِلَّا فَهِمَ عَالِمُونَ مَا الَّذِي أَدْخَلَهُمُ النَّارَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِخَصَائِلِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ ارْتَقَوْا مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِمْ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ «١»، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «٢». وَالْيَقِينُ: أَيْ يَقِينًا عَلَى إِنْكَارِ يَوْمِ الْجَزَاءِ، أَيْ وَقْتَ الْمَوْتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْيَقِينُ عِنْدِي صِحَّةُ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْيَقِينُ: الْمَوْتُ، وَذَلِكَ عِنْدِي هُنَا متعقب، لأن نفس
(١) سورة البلد: ٩٠/ ١١.
(٢) سورة البلد: ٩٠/ ١٧.
338
الْمَوْتِ يَقِينٌ عِنْدَ الْكَافِرِ وَهُوَ حَيٌّ. وَإِنَّمَا الْيَقِينُ الَّذِي عَنَوْا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّيْءُ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الدُّنْيَا فَتَيَقَّنُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يَتَفَسَّرُ الْيَقِينُ بِالْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «١». فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ: لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُشْفَعُ لَهُمْ فَلَا تَنْفَعُ شَفَاعَةُ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى نَفْيُ الشَّفَاعَةِ فَانْتَفَى النَّفْعُ، أَيْ لَا شَفَاعَةَ شَافِعِينَ لَهُمْ فَتَنْفَعُهُمْ مِنْ بَابِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ: لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ. وَتَخْصِيصُهُمْ بِانْتِفَاءِ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ شَفَاعَاتٌ وَيُنْتَفَعُ بِهَا، وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ. فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ:
وَهِيَ مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ الَّتِي تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ، مُعْرِضِينَ: أَيْ وَالْحَالُ الْمُنْتَظَرَةُ هَذِهِ الْمَوْصُوفَةُ.
ثُمَّ شَبَّهَهُمْ بِالْحُمُرِ الْمُسْتَنْفِرَةِ فِي شِدَّةِ إِعْرَاضِهِمْ وَنِفَارِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُمُرٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْأَعْمَشُ: بِإِسْكَانِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ، شَبَّهَهُمْ تَعَالَى بِالْحُمُرِ مَذَمَّةً وَتَهْجِينًا لَهُمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: مُسْتَنْفِرَةٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَالْمَعْنَى: اسْتَنْفَرَهَا: فَزَعُهَا مِنَ الْقَسْوَرَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ:
بِكَسْرِهَا، أَيْ نَافِرَةٌ نَفَرَ، وَاسْتَنْفَرَ بمعنى عجب واستعجب وسر وَاسْتَسْخَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَمْسِكْ حِمَارَكَ إِنَّهُ مُسْتَنْفِرٌ فِي إِثْرِ أَحْمِرَةٍ عَهِدْنَ لَعُرَّبِ
وَيُنَاسِبُ الْكَسْرَ قَوْلُهُ: فَرَّتْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ: سَأَلْتُ أَبَا سِرَارٍ العتوي، وَكَانَ أَعْرَابِيًّا فَصِيحًا، فَقُلْتُ: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مَاذَا مُسْتَنْفِرَةٌ طَرَدَهَا قَسْوَرَةٌ؟ فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ، قَالَ: أَفَرَّتْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمُسْتَنْفِرَةٌ إِذَنْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: الْقَسْوَرَةُ: الرُّمَاةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ: الْأَسَدُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: رِجَالُ الْقَنْصِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْقَسْوَرَةُ أَوَّلُ اللَّيْلِ، وَالْمَعْنَى: فَرَّتْ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَلَا شَيْءَ أَشَدُّ نِفَارًا مِنْ حُمُرِ الْوَحْشِ، وَلِذَلِكَ شَبَّهَتْ بِهَا الْعَرَبُ الْإِبِلَ فِي سُرْعَةِ سَيْرِهَا وَخِفَّتِهَا.
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ: أَيْ مِنَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ عِظَاتِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ،
(١) سورة الحجر: ١٥/ ٩٩. [.....]
339
أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً: أَيْ مَنْشُورَةٌ غَيْرُ مَطْوِيَّةٍ تُقْرَأُ كَالْكُتُبِ الَّتِي يُتَكَاتَبُ بِهَا، أَوْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاءِ نَزَلَتْ بِهَا الْمَلَائِكَةُ سَاعَةَ كُتِبَتْ رَطْبَةً لَمْ تُطْوَ بَعْدُ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ نَتَّبِعَكَ حَتَّى يُؤْتَى كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَّا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ عُنْوَانُهُ: مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، يُؤْمَرُ فِيهَا بِاتِّبَاعِكَ، وَنَحْوُهُ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «١». وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنْ كَانَ يُكْتَبُ فِي صُحُفٍ مَا يَعْمَلُ كُلُّ إِنْسَانٍ، فَلْتُعْرَضْ تِلْكَ الصُّحُفُ عَلَيْنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صُحُفاً بِضَمِّ الصَّادِ وَالْحَاءِ، مُنَشَّرَةً مُشَدَّدًا وَابْنُ جُبَيْرٍ: بِإِسْكَانِهَا مُنْشَرَةً مُخَفَّفًا، وَنَشَرَ وَأَنْشَرَ مِثْلَ نَزَلَ وَأَنْزَلُ. شَبَّهَ نَشْرَ الصَّحِيفَةِ بِإِنْشَارِ اللَّهِ الموتى، فعبر عنه بمنشرة مِنْ أَنُشِرَتْ، وَالْمَحْفُوظُ فِي الصَّحِيفَةِ وَالثَّوْبِ نُشِرَ مُخَفَفًّا ثُلَاثِيًّا، وَيُقَالُ فِي الْمَيِّتِ: أَنْشَرَهُ اللَّهُ فَنُشِرَ هُوَ، أَيْ أَحْيَاهُ فَحَيِيَ.
كَلَّا: رَدْعٌ عَنْ إِرَادَتِهِمْ تِلْكَ وَزَجْرٌ لَهُمْ عَنِ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ، بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ، وَلِذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنِ التَّذْكِرَةِ لَا لِامْتِنَاعِ إِيتَاءِ الصُّحُفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
يَخافُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِتَاءِ الْخِطَابِ الْتَفَاتًا. كَلَّا: رَدْعٌ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ، إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ: ذِكْرٌ فِي إِنَّهِ وَفِي ذِكْرِهِ، لِأَنَّ التَّذْكِرَةَ ذِكْرٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَسَلَّامٌ وَيَعْقُوبُ: تَذْكِرَةٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ سَاكِنَةِ الذَّالِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وعيسى وَالْأَعْرَجُ: بِالْيَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ: يَذَّكَّرُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَشَدِّ الذَّالِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: تَذَّكَّرُونَ بِالتَّاءِ وَإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الذَّالِ. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى: أَيْ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى وَيُخَافَ، وَأَهْلٌ أَنْ يَغْفِرَ.
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: «يَقُولُ لَكُمْ رَبُّكُمْ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَعَظَمَتُهُ: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى، فَلَا يُجْعَلُ يُتَّقَى إِلَهٌ غَيْرِي، وَمَنِ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِيَ إِلَهًا غَيْرِي فَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ».
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، يَعْنِي: إِلَّا أَنْ يُقْسِرَهُمْ عَلَى الذِّكْرِ وَيُلْجِئَهُمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ مَطْبُوعٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ اخْتِيَارًا.
(١) سُورَةُ الإسراء: ١٧/ ٩٣.
340
Icon