تفسير سورة الإنشقاق

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ١ وَأَذِنَتْ» سمعت وأجابت وأذعنت وخضعت «لِرَبِّها» في ذلك الانشقاق، وهو مثل انفطرت في السورة المارة من حيث المعنى. وأعلم أن انشقاق السماء وإن ثبت في هذه الآية نصا إلا أن موضعه وكيفيته غير معلومة على القطع، وقد عثرنا على ما أخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله وجهه أنها تنشق من المجرّة، وقد جاء بالآثار أن المجرة باب السماء، وقال بعضهم إنها وسط السماء، وقال أهل الهيئة إنها نجوم صغار متقاربة بعضها من بعض، وقولهم هذا لا ينافي كونها باب السماء ووسطه، وان مصعد الملائكة ومهبطهم منها والله أعلم. وما قيل إن النبي صلّى الله عليه وسلم حين أرسل معاذا إلى اليمن وقال له إنهم سائلوك عن المجرة فقل لهم إنها لعاب حية تحت العرش لا يصح، وليس هو من متعلقات الدين حتى يوصيه به. وأذن بمعنى سمع وارد في كلام العرب، قال قغيد:
إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا وما هم أذنوا من صالح دفنوا
وقال الآخر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
أي سمعوا وصاروا كلهم آذانا وسماعها انقيادها لأمر الله بما يراد منها.
«وَحُقَّتْ» ٢ أي وحق لها إطاعة ربها، وليس لها أن تأباه أو تمتنع عنه لأنها مخلوقة له، ولا على المخلوق إلا إطاعة خالقه «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ» ٣ بسطت وسوّيت باندكاك جبالها وبنائها في أوديتها وبحورها «وَأَلْقَتْ ما فِيها» من الأموات المكفوتين بها «وَتَخَلَّتْ» ٤ عن كل ما فيها «وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» ٥ وحق لها أن تنقاد لأمره في ذلك كله لأنه هو الذي صنعها وأودع مكوناته فيها. أخرج أبو القاسم الجيلي في الديباج عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأجلس جالسا في قبري، وان الأرض تحرك بي، فقلت لها مالك؟ فقالت إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت، إذ لا شيء فيّ وذلك قوله تعالى (وَأَلْقَتْ) الآية. ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى لما يتعلق بالسماء، وهذه
430
تفسير سورة الفتح عدد ٢٥- ١١١ و ٦٣
نزلت بالمدينة بعد الجمعة عدا الآيات من ١٠ إلى ٢٧ فإنها نزلت في الطّريق عند الانصراف من الحديبية فتعد مدنية أيضا، لأن إقامة الرّسول كانت في المدينة وكلّ ما نزل بعد الهجرة يعد مدنيا وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وستون كلمة والفان وأربعمائة حرف، وقد بينا السّورة المبدوءة بما بدئت به في سورة الكوثر ج ١ ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ومثلها في عدد الآي التكوير والحديد فقط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ» يا سيد الرّسل بما أمرناك به من مجاهدة أعدائك بعد حادثة الحديبية وقبول الصّلح فيها لأنها مقدمة لافتتاح مكة والبلاد المقدر فتحها على يديك حيث تلاها فتح خيبر وأعقبها بحادثة الأحزاب والفتوحات الأخرى من بلاد قريظة وبني النّضير وغيرها، ومن هذا يعلم أن مقدمة الفتوح هو صلح الحديبية الذي صعب وتعذر واشتد الضّيق فيه على المسلمين حتى يسره الله تعالى بمنه وكرمه وسهله والهم رسوله قبول الشّروط المجحفة التي اقترحها المشركون وكرهها أصحاب رسول الله إذ كان ظاهرها الغبن والحيف على المؤمنين، ولم يعلموا أنها باطنا تنطوي على الرّيح والفوز لهم، إذ سبب اختلاط المشركين بالمسلمين فاطلعوا على محاسن الإسلام ومكارم الدّين الحنيف وما يأمر به من مكارم الأخلاق وفواضل الآداب فملأ قلوبهم حبه، وشارفوا على مزايا حضرة الرسول فرغبوا في صحبته ودخل منهم في دينه خلق كثير قبل الفتح. والمراد بهذا الفتح المشار إليه في هذه السّورة فتح مكة شرفها الله وأعزها كما روى عن أنس رضي الله عنه. وقال مجاهد هو فتح خيبر الواقع عقب الحديبية.
مطلب قصة الفتح وأعني بالفتح فتح مكة لا غير وبيان الّذين هدر دمهم رسول الله وما وقع فيه وسببه:
ومن قال بأن الفتح هو صلح الحديبية تكلف بأن يعدل إلى خلاف الظّاهر فضلا عن أن صلح الحديبية كان سنة ستّ وهذه السّورة نزلت في السّنة الثامنة إذ وقع فيها فتح مكة كما سيأتي، ومما يؤيد أن المراد بهذا الفتح فتح مكة قوله تعالى «فَتْحاً مُبِيناً» (١) ظاهرا
264
واضحا ولم يكن فتح الحديبية بغاية الظّهور المشار إليه في هذه الآية، ولا فتح خيبر، ولا غيرها أيضا ولا يصح إطلاقه إلّا على فتح مكة، لأن كلّ فتح دونها ليس بشيء إذ ذاك، ولأن كلمة الإسلام إنما علت بفتحها وما رفع شأن المؤمنين إلّا بعد فتحها الذي صار قاطعا للكفر، ما حيا آثاره، معلنا كلمة الإسلام، معظما أهله، خضعت فهى صناديد قريش وطلبوا الأمان من سيد الأكوان، واستسلموا لحكمه خاشعين خاضعين. ومن قال إن المراد بهذا الفتح فتح بلاد الرّوم إذا غلبت فارس فليس بشيء أيضا وهو خلاف الظّاهر ولا علاقة لفتح الرّوم بظهور الإسلام، وكذلك القول إن المراد بالفتح فتح الإسلام بالحجة والبرهان والسّيف والعنان، لأن هذا تابع للفتح الفعلي لمكة، وقد كان والحمد لله مصداقا لقوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ) الآية الخامسة من سورة الحديد، وقوله (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الآية ١٣٩ من آل عمران المارتين، وخلاصة هذه القصة هو أنه لما صالح رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية كما تقدم في الآية ١٠ من سورة الممتحنة دخلت بنو بكر في عهد قريش وخزاعة فيه عهد محمد صلّى الله عليه وسلم. ثم إن بني بكر عدت على خزاعة وهم على ماء لهم يسمى الوتير وأصابوا منهم رجلا وتحاربوا فيما بينهم، وكان من قريش أنها ردفت بني بكر بالسلاح وقاتلت معهم، وبهذا انتقض ما كان بين قريش وحضرة الرّسول من الميثاق بسبب ما استحلوه من خزاعة حليفته، ولهذا قدم عميدهم عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله في المسجد وخاطبه على ملأ من النّاس بقوله...
يا رب إني ناشد محمدا:
خلف أبينا وأبيه الأتلدا... قد كنتم ولدا وكنا ولدا
ثمة أسلمنا فلم ننزع يدا... فانصر هداك الله نصرا أعتدا
وادع عباد الله يأتوا مددا... فيهم رسول الله قد تجردا
إن تمّ حسنا وجهه تريدا... في فيلق كالبحر يجري مزيدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا... وزعموا أن لست أدعوا أحدا
وهم أذل وأقل عددا... هم بيتوتا في الوتير هجدا
265
وقتلونا ركعا وسجدا... فانصر هداك الله نصرا أيدا
فقال صلّى الله عليه وسلم قد نصرت. وعرض صلّى الله عليه وسلم إلى عنان السّماء وقال مشيرا إليه لتشهد بنصر بني كعب رهط عمرو بن سالم، ثم جاء بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة وعرضوا لرسول الله بما أصابهم من مظاهرة قريش بني بكر، فقال صلّى الله عليه وسلم للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشدّد في العقد ويزيد في المدة رهبا من الذي صنعوا فلم يحسوا إلّا وأبو سفيان بالمدينة، وهذا من معجزاته صلّى الله عليه وسلم ومن الغيب الذي أطلعه الله عليه، وقد دخل على بنته أم حبيبة رضي الله عنها فأراد أن يجلس على فراش رسول الله فطرته من أمامه وقالت له أنت رجل نجس لا أحب أن تجلس على فراش رسول الله الطّاهر المطهر، فقال لها والله لقد أصابك بعدي شرّ، فتركها ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه، فذهب إلى أبي بكر وكلمه بأن يكلم له محمدا، فقال ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر فكلمه بذلك فقال أنا أشفع لك لا والله، لو لم أجد إلّا الذي لجاهدتكم بها ثم اتى عليا وعنده فاطمة والحسن يدب بين يديهما واسترحمه أن يشفع له فقال ويحك يا أبا سفيان لقد أدى عزم الرسول على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة واستشفعها وقال تأمري بينك هذا فيجيرني بين النّاس فيكون سيد العرب إلى آخر الدّهر، فقالت ما يجير أحد على رسول الله. فقام أبو سفيان في المسجد بمشورة من علي وقال أيها الناس إني قد أجرت بين النّاس وانما فعل هذا وهو لم يجره أحد ليعلم النّاس أنه قد أجير فلا يتعدى عليه أحد وإنما أمره علي بذلك لما رأى- كرم الله وجهه- من تلبّكه، فأرشده إلى ذلك ليأمن على نفسه إذ رأى ممن أراد أن يستجير بهم قلب الجن، فاعتراه خوف ورعب وذل وهوان، الجأه إلى فعل ما فعل، ولأنه استجار بابنه الحسن وهو طفل فأبت مروءته إن لم يجره ان يدله على ما إذا قاله ظن النّاس أنه قد أجير، وكان ذلك، ثم رجع إلى مكة آيسا مما كان يتوخاه مبلسا مما رآه. ولما وصل قصّ على قومه ما لا قاه، ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس بالجهاد، وأعلمهم بأنه سائر إلى مكة، وقال اللهم خذ العيون والأخبار من قريش حتى نبغتها في بلادها، وإذ ذاك كتب حاطب بن أبي بلتعة الكتاب إلى
266
قريش يعلمهم بمقدم رسول الله وأصحابه، كما تقدمت قصته أول سورة الممتحنة المارة واستخلف رسول الله على المدينة أبا دهم كلثوم بن حصين بن عيبنة بن خلف الغفاري، وخرج صلّى الله عليه وسلم في عشرة آلاف، وقيل اثنى عشر الفا، ولم يتخلف عنه أحد من المهاجرين والأنصار لعشر يقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة، حتى نزل بحر الظهران، وقد أعمى الله الأخبار عن قريش، ولقى العباس مهاجرا بأهله في الطريق وهو آخر من هاجر، فحمله رسول الله على بغلته وقال ووا صباح قريش والله لئن دخل رسول الله مكة عنوة ليكون إهلاكا لقريش إلى آخر الدّهر.
قال العباس فجئت الأراك لعلي أجد من يخبر أهل مكة بمكان رسول الله ليستأمنوه إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، فقلت أبا حنظلة: فقال أبا الفضل فقلت نعم، قال ما بالك فداك أبي وأمي؟ فقلت ويحك يا أبا سفيان جاءك رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما لا قبل لكم به، والله ليضربن عنقك، قال فما الحيلة؟ قلت اركب عجز هذه البغلة حتى آتيك به فاستأمنه لك، فركب، قال العباس فدخلت به على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقلت هذا أبو سفيان، فجاء عمر وقال دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال له العباس قد أجزته، فقال صلّى الله عليه وسلم ويحك يا أبا سفيان، قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك يا رسول الله وأكرمك، قال ألم يأن لك أن تعلم إني رسول الله حقا، وإن الله وحده لا شريك له، وإن البعث حق، قال بأبي وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك الرّحم. أما هذه فإن في النّفس منها حتى الآن شيئا، فقال له العباس قلها قبل أن يضرب عنقك فقالها وأسلم. ثم قال العباس يا رسول الله انه يحب الفخر فاجعل له شيئا قال فليناد عند دخول الجيش المبارك مكة شرفها الله من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أعلق عليه ببابه فهو آمن. ثم قال يا عباس احبسه بمضيق الوادي حتى يرى جنود الله، قال فخرجت به حتى وقفت به حيث أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصارت تمر القبائل، فجعل يقول كلما تمر واحدة مالي ولهؤلاء! حتى مر رسول الله في كتيبته الخضراء، وإنما سميت خضراء لكثرة الحديد فيها فلا يرى منهم إلا الحدق، فقال سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت هذا رسول الله في المهاجرين
267
والأنصار، فقال ما لأحد ولهؤلاء من قبل ولا طاقة، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، قلت ويحك إنها النّبوة، قال نعم. ثم تركه فلحق بقومه، ولما قرب منهم صاح بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم، قالوا فمه، أي بماذا تأمرنا وماذا نفعل؟ قال من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا وما تغني عنّا دارك؟ قال من أغلق بابه فهو آمن، فتفرق الناس إلى المسجد وإلى دورهم، فجاء حكيم بن خزام وبديل بن ورقاء رفيقاه وأسلما وعمدا إلى مكة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أثرهما الزبير وأمره على خيل المهاجرين والأنصار، وأمره أن يركز رأيته بأعلى مكة بالحجون، وقال له لا تبرح مكانك، وأمر خالد بن الوليد فيمن اسلم من قضاعه وبني سليم وأمرهم أن يدخلوا من أسفل مكة، وقال الزبير وخالد لا تقاتلا إلّا من قاتلكما وأمر سعد ابن عبادة أن يدخل في بعض النّاس من كدى، فقال سعد اليوم يوم الملحمة يوم تحل تدخل، وأمره أن لا يقاتل أيضا إلّا من قاتله، ما عدا نفر سماهم وأمر بقتلهم المحرمة، فقال صلّى الله عليه وسلم لعلي عليه السّلام أدركه وخذ الرّأية منه وكن أنت الذي تدخل، وأمره أن لا يقاتل أيضا إلّا من قاتله، ما عدا نفر سماهم وأمر بقتلهم وان تعلفوا بأستار الكعبة. وقيل قال لسعد بل اليوم يوم المرحمة. ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم متواضعا لربه الذي أكرمه بالفتح المبين، حتى أن رأسه الشّريف يكاد يمس واسطة رحله، ولم يقع قتال إلّا في جهة خالد، إذ عارضه المشركون بالدخول من حيث أمره الرّسول، فقتل منهم بضعة عشر رجلا، وقيل سبعين، وإن حضرة الرّسول أنبه على ذلك إن كان على ما قيل إنه أرسل إليه من قال له ضع السّلاح عنهم، وإن هذا يقول إلى خالد يأمرك رسول الله أن تضع السّلاح فيهم. وان جبريل عليه السّلام قال لرسول الله لماذا تعاقب خالدا وهو إنما فعل لإبرار قسمك، وذلك أن صلّى الله عليه وسلم لما رأي حمزة ممثلا به في واقعة أحد أخذته الحدة وقال والله لأمثلن بسبعين منهم، وهناك أنزلت الآيات من آخر سورة النّحل التي أولها (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا) إلخ كما المعنا إليه في الآية ١٢٢ من آل عمران المارة فراجعها. وقتل من المسلمين ثلاثة: سلمة بن الميلاد الجهني وكرز بن جابر وخنيس ابن
خالد بن الوليد. أما الّذين هدر دمهم رسول الله فهم: عبد الله بن سعد بن
268
أبي سرح لارتداده عن الإسلام فاستاء منه أخوه من الرّضاع عثمان بن عفان وعبد الله بن حنظلة لأنه قتل مولاه المسلم واتخذ مغنيتين تهجوان حضرة الرّسول قتلت إحداهما واستأمنت الأخرى رسول الله فأمتها، والحويرث بن فضيل بن وهب لشدة إيذائه حضرة الرّسول، ومقيس بن خبابة لقتله الأنصاري وارتداده، وسارة مولاه بني عبد المطلب لأنها كانت مبالغة في إيذائه بلسانها فاستأمنت الرّسول فأمنها وعكرمة بن أبي جهل، وقد استأمنت له حضرة الرّسول زوجته أم حكيم بن الحارث فأمنها، ثم جاءت أم هاني لنستأمن رسول الله على رجلين أراد على قتلهما فقال مرحبا وأهلا قد أجرنا من آجرت. ثم دخل صلّى الله عليه وسلم البيت المكرم فطاف به وصلّى وأخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة وفتحها، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها وطرحها ثم وقف على بابها فقال: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كلّ مأثرة أو دم أو ما يدعى فهو تحت قدمي هذين، إلا سدانة البيت (التي ألمعنا إليها في الآية ٥٨ من آل عمران فراجعها) وسقاية الحاج، الا وقتل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدّية مغلظة مئة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها.
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الآية ١٣ من سورة الحجرات المارة يا معشر قريش ما ترون إني فاعل بكم؟ قالوا خير أخ كريم وابن أخ كريم، قال فاذهبوا فأنتم الطّلقاء. فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم جلس فبايعه النّاس على الإسلام والنّصرة، وثم له الفتح على هذه الصّورة. ثم ظنت الأنصار أنه يقيم بمكة بعد أن أتم الله له وعده ويتركهم فنظر فرآهم يتنابسون بذلك، فقال لهم ما معناه كلا إن الحياة معكم والموت معكم، فاطمأنت نفوسهم وامر على مكة أسيدا وعاد إلى المدينة ومن أراد زيادة إيضاح قصة الفتح فعليه بمراجعة السّير. وهذا الفتح الواقع من طريق الغزو والجهاد «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» إذ رتب عليه هذا الأجر العظيم لك يا سيد الرّسل، لأن ثواب الجهاد أعظم ثواب، فأجدر أن يكون سببا لمحو ما فرط
269
منك قبله وانطماس ما سيفرط منك بعده من كلّ ما تعده ذنبا بالنسبة لمقامك الكريم وإلّا فإن الله قادر على أن يفتح لك البلاد ويخضع لك العباد دون غزو أو جهاد ولكن ليكون سنة لمن بعدك ويكون ثوابه كفارة للذنوب لهم أيضا. وقد بينا ما يتعلق في ذنوب الأنبياء في الآية ١٦ من سورة البقرة المارة. وفيها ما يرشدك إلى المواقع الأخرى التي فيها هذا البحث «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ» بفتح البلاد الأخرى وينصرك على كلّ من يناوئك، ويظهر دينك على سائر الأديان، ويمكنك في البلاد والعباد «وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (٢) في جميع أمورك الحاضرة والمستقبلة كما هي الحال فيما مضى من أمرك لتكون ظاهرا دائما «وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً» (٣) لم يسبق له مثيل وحيد في نوعه فريد في بابه لا ذلّ ولا خذلان بعده أبدا «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» فملأها طمأنينة وثباتا ووقارا حتى ساروا معك جميعهم فلم يتخلف عنك إلّا من أذنته بالتخلف، إذ لم يقع في هذه الغزوة معارضة ما من أحد، بل كان كل منهم منقادا عن شوق ورغبة وحزم «لِيَزْدادُوا إِيماناً» ويقينا وصبرا وطاعة «مَعَ إِيمانِهِمْ» الذي هم عليه. وكأن قائلا يقول كيف نصره الله مع قلة عدده وعدده بالنسبة إلى أعدائه؟ فقال تعالى جل قوله «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لا يكاثر ولا يغالب ولا يقابل إذ يجعلهم عونا للمؤمنين على أعدائهم ويكثر سوادهم ويقلل أعدائهم بأعينهم «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بجنوده الموجودين فيهما وكثرتهم وقوتهم «حَكِيماً» (٤) في نصر نبيه وأصحابه على أعدائهم بإراءتهم القليل كثيرا لإيقاع الرّعب والخوف والذل في قلوب أعدائه، وإذا أراد أرسل صاعقة تدمرهم أو صيحة من أحد ملائكته تقصف قلوبهم فتميتهم حالا، أو يخسف بهم الأرض أو يغرقهم في الماء فيهلكهم عن آخرهم، كما فعل بالأمم السّابقة، وهو القادر على إلقاء الرّعب في قلوب أعدائه والجبن والخوف من أوليائه، ويلقي الثبات في قلوب المؤمنين فيبيدوا أعداءهم مهما كانوا، وهو القادر على إبادة الكفار بما أراد من عذاب دون سبب، ولكنه أراد أن يقهرهم ويهلكهم بصورة ظاهرة بواسطة جيشه المبارك الذي تسلح بقوة اليقين ومتانة الايمان ووقاية العزم وحماية الحزم.
270
وقاية الله أغنت عن مضاعفة من الدّروع وعن عال من الأطم
«لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» الّذين جاهدوا معه «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» بسبب طاعتهم وثباتهم وبذل أموالهم وأنفسهم فى إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله ويجعلهم «خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» قبل دخولها، ثم بدخلهم فيها طاهرين مطهرين «وَكانَ ذلِكَ» التكفير والتخليد في تلك الجنّات «عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً» (٥) لهم لا أعظم منه، ولهذا جعل النصر والفتح على ما كان من بروزهم وجهادهم طائفين مختارين، ولا يخفى أن العطف بالواو لا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا، ولهذا جاءت جملة (وَيُكَفِّرَ) بعد جملة ليدخل. روى البخاري ومسلم عن أنس، وأخرج الترمذي، عن قتادة عن أنس قال أنزلت على النّبي صلّى الله عليه وسلم (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) إلخ مرجعه من الحديبية، فقال صلّى الله عليه وسلم لقد أنزلت علي اللّيلة آية أحب إلي مما في الأرض، ثم قرأ صلّى الله عليه وسلم، فقالوا أصحابه هنيئا مريئا
يا رسول الله، لقد بين لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا فنزلت (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) وليس المراد نزول السّورة كلها، لأن نزولها كان بعد ذلك كما ذكرنا، وأن المراد بهذه الآية آية المبايعة الآتية وما يتعلق بواقعة الحديبية المارة في الآية ١٠ من سورة الممتحنة بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم (أنزلت علي اللّيلة آية) ولو كان كذلك لقول سورة لهذا يحتمل أنه سمعها بعد ذلك تدبّر «وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ» وقدم المنافقين هنا وفي أمكنة أخرى، لأنهم أشد بلاء على المؤمنين من الكافرين لاختلاطهم معهم واطلاعهم على أسرارهم باعتبار أنهم مؤمنون ظاهرا لا يحترز منهم، أما الكافرون فيحترز منهم ويتحاشى عن إفشاء السّرّ بينهم لظاهر عداوتهم، ولذلك فإن عذابهم يكون أشدّ من عذاب الكافرين، قال تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) بعد قوله (إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) كما أشرنا اليه في هاتين الآيتين ١٤٠ و ١٤٥ من سورة النّساء المارة، ثم وصفهم بما هم متلبسون به بقوله «الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ» أي بان الله لا ينصر رسوله وأصحابه ولا يرجعهم إلى المدينة في غزوتهم هذه «عَلَيْهِمْ» جزاء ظنهم هذا «دائِرَةُ السَّوْءِ»
271
والهلاك والعذاب الذي يتوخون أن يصيب المؤمنين «وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» لما يحقدون على المؤمنين «وَلَعَنَهُمْ» زيادة على لعنهم الأوّل «وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (٦) ومنقلبا قبيحا لأملها «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (٧) كررت هذه الآية تأكيدا، ولأن جنود السّموات والأرض منهم للرحمة قد مرّ ذكرهم في الآية الأولى قبل ذكر إدخال المؤمنين الجنّة ليكونوا معهم فيثبتوهم على الصّراط وعند الميزان، فإذا دخلوها الفوا إلى جوار الله ورحمته، فلا يحتاجون بعدها إلى شيء، ولذلك ختم تلك الآية بقوله عَلِيماً (حَكِيماً) ومنهم للعذاب فأخر ذكرهم في هذه الآية بعد ذكر تعذيب الكافرين والمنافقين ليكونوا معهم فلا يفارقوهم أبدا، ولذلك ختم هذه الآية بقوله (عَزِيزاً حَكِيماً) كقوله (أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) الآية ٢٠ من سورة الزمر ج ٢ وقوله (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) الآية ٤٣ من سورة القمر في ج ١ «يا أيها النبي إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً» على الأنبياء قبلك وأممهم وأمتك ومن توالد منهم إلى يوم القيامة «وَمُبَشِّراً» أهل الخير بالجنة دائمة النّعيم «وَنَذِيراً» ٨ لأهل الشّر بالنار دائمة الجحيم، وإنما جعلنا نبيّكم أيها العرب مخصوصا بهذه المزية «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ» تنصروه نصرا مؤزرا مع التعظيم والتبجيل «وَتُوَقِّرُوهُ» تحترموه مع الإجلال والتكريم «وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (٩) وهذه الضّمائر كلها لله تعالى. وما قيل إن ضمير تعزروه فما بعده لحضرة الرّسول وضمير تسبحوه لجلالة الإله لا يصح إلّا أن يجعل الوقف على وتوقروه وقفا تاما ثم يبتدأ مستأنفا بما بعده، وهذا بعيد، لذلك جرينا على خلافه وهو الأولى والأحسن بدليل التعليل أول الآية واجراء نسق العطف على ما هو عليه وقرئت هذه الأفعال كلها بالتاء دلالة على ذلك، ويجوز قراءتها بالياء على التبعة بطريق الالتفات والمعنى على ما هما عليه. وهذه الآيات التي نزلت بالطريق بعد منصرف رسول الله من الحديبية كما أشرنا إليه أول السّورة. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» أي المبايعين والمبايع له، واعلموا أيها المؤمنون انكم ألزمتم أنفسكم في هذه المبايعة الشّريفة النّصرة
272
بالأرض، وتكرير إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة، وجواب إذا محذوف تقديره وقع من الهول ما تقصر عنه عبارة الفقهاء الفصحاء ويكل عنه لسان العلماء البلغاء. قال تعالى «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» المراد به الجنس فيدخل فيه كل إنسان «إِنَّكَ كادِحٌ» جاهد وساع مدافع في عملك وسائر فيه «إِلى رَبِّكَ كَدْحاً» عظيما، الكدح عمل الإنسان جهده في الخير والشر وهو مفعول لكادح «فَمُلاقِيهِ» ٦ أي مواجه ربك يوم الجزاء فتقف أمامه فيجازيك على عملك الخير بأحسن منه والشر بمثله «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» ٧ في ذلك اليوم الذي وعدكم به الرسل «فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» ٨ وينال الثواب المترتب عليه «وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ» المعدين له في الجنة من أهل الجنة ومن المؤمنين المتصلين به أهل الدنيا «مَسْرُوراً» ٩ بما أوتي من الخير والكرامة وهذا الكتاب الذي يأخذه يفرح به، راجع الآية ١٩ فما بعدها من سورة الحاقة، وحق له أن يسر لأنها مؤديه إلى جنة ربه ورضاه، فمن ينجح بأعلى شهادة بالدنيا عبارة عن أنها تخوله مزاولة الطب والمحاماة أو الهندسة والزراعة أو السياسة أو القضاء من مناصب الدنيا الفانية وفي نهايتها التعب والعناء، تراه يطير فرحا، فكيف بمن يفوز بالدار الباقية وما فيها من حور وولدان ومآكل ومشارب وملابس وسرور لا يفنى، وشتان بين المسرورين كما بين الدنيا والآخرة «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» ١٠ إهانة له وكراهية لرؤيته وبعضا لإمساكه
«فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً» ١١ يصيح يا ويلاه يا هلاكاه، وهذا أشد حسرة وأكثر تأثرا وأعظم حزنا ممن يسقط في آخر دورة من أدوار تعليمه إذ يرجى له أن يمهل ليكمل أو يؤذن له بما دون ذلك، وأما هذا فيلاقي العذاب الأليم ويخلد في الجحيم ولا يجاب دعاؤه ولا يسمع نداؤه «وَيَصْلى سَعِيراً» ١٢ نارا تأجج يحرق فيها لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة طيبة «إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ» بدار الدنيا «مَسْرُوراً» ١٣ باتباع هواه وركوب شهوته والعكوف على ملاذه «إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» ١٤ يرجع إلى ربه ولن يحيى بعد موته وليس كما ظن «بَلى» إنه يعود إلى ربه ويبعث من قبره ويحاسب على فعله «إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً» ١٥ من يوم خلقه إلى يوم حشره إلى
431
ما بعد ذلك، والبصير لا يخفى عليه شيء، وهو مبالغة من باصر، وهو من يدرك الأمور المحسوسة والمعقولة يبصره وبصيرته، ولما كان الله تعالى عالما بأحواله كلها فلا يجوز في حكمته إهماله، بل لا بد من إثابته على صالح عمله ومعاقبته على سيئه.
روى البخاري ومسلم عن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وان النبي صلّى الله عليه وسلم قال من حوسب عذّب، قالت فقلت أو ليس يقول الله عز وجل (يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قالت فقال ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذّب. قال تعالى «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ» ١٦ الحمرة التي تبقى بالأفق بعد غروب الشمس وتظهر قبل طلوعها بعد البياض «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» ١٧ جمع وضمّ ما كان منتشرا في النهار من الناس والدواب والهوام والحيتان والطير، لأن ما كان طوره الانتشار في النهار، قد يجتمع في الليل، وبالعكس فإن ما كان منضما بالنهار قد ينتشر بالليل، ويقال طعام موسوق أي مجموع ومستوسقة مجتمعة، قال الشاعر:
إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لم يجدن سائقا
ويأتي وسق بمعنى عمل أي وما عمل فيه وعليه قوله:
فيوما ترانا صالحين وتارة تقوم بنا كالواسق المتلبّب
وما جاء بأن يحور بمعنى يرجع قوله:
وما المرء إلا كالشهاب ووضوءه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
والشفق مأخوذ من الرقة يقال شيء شفق أي لا يتماسك لوقته، ومنه أشفق عليه خاف عليه ورق له، والشفقة من الإشفاق والشفق، قال الشاعر:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم
والوسق في العرف ستون صاعا أو حمل بعير، وهذا مما يدل على أن الصاع المستعمل الآن في بعض البلاد غيره قبلا، لأن ستين منه الآن لا يحملها جملان، راجع الآية ١٤١ من سورة الأنعام المارة تعلم تفصيل هذا، ويأتي وسق بمعنى طرد أي وما أطرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها، ومن ضوء النهار، ومنه الوسيقة قال في القاموس وهي من الإبل كالرفقة من الناس، فإذا سرقت طردت معا،
432
ولا حاجة هنا لتقدير لفظ (رب) أي أقسم برب الشفق كما قاله بعض المفسرين، لأن الله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه جمادا كان أو ناميا، وحكم لا في هذا القسم حكمها في (لا أقسم بيوم القيامة) المارة في ج ١ فراجعها. قال تعالى «وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» ١٨ ثمّ نوره وجمع وكملت استدارته فصار بدرا «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» ١٩ أي لتداولنّ أيها الناس في حياتكم ومماتكم حالا بعد حال مماثلة ومطابقة وموافقة لأحتها في الشدة والهول، قال الأعرج بن جابس:
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقي طبق منه إلى طبق
وقد تأتي عن التي معناها المجاوزة بمعنى بعد كما في قولهم: سادرك كابرا عن كابر، أي بعد كابر، وعليه قوله:
ما زلت أقطع منها منهلا عن منهل حتى أنخت بباب عبد الواحد
لأن المجاوزة والبعد متقاربان، واللام في لتركبن واقعة في جواب القسم، وجاء لفظ الطبق بمعنى عشرين عاما أخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها، أي قبلها.
وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه، وعلى هذا المعنى ما جاء في القاموس من جملة معاني الطبق، ويأتي بمعنى القرآن، قال العباس بن عبد المطلب يمدح حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم:
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاء بنورك الأفق
تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق
وعليه يكون المعنى لتركبن سنن من قبلكم قرنا بعد قرن، إلا أن هذين المعنيين الآخرين خلاف الظاهر، والمعول على الأول، وهو ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، وما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم وأحوالهم شبرا بعد شبر وذراعا بعد ذراع حتى لو دخلوا جحرضب لتبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟
قال فمن؟ أي فمن دونهم أو من قبلهم أو هم أنفسهم، وهو حديث صحيح ولكن لا يراد أنه جاء مفسرا لهذه الآية، تدبر ومن خصّ هذا الخطاب لسيد المخاطبين
433
لحضرة الرّسول بصورة المعاهدة والمواثقة «فَمَنْ نَكَثَ» فيها ونقض عهده الذي أعطاه لك يا سيد الرّسل «فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» ولن يضرّ الله شيئا بل يعود ضرره على نفسه «وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ» في هذه البيعة والعهد «فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (١٠) في الآخرة وفخرا كبيرا في الدنيا. واعلم أن الهاء في عليه المارة في هذه الآية تقرأ بالضمّ، ولا يوجد في القرآن غير هذه الهاء مضمومة بعد على تفخيما للفظة الجلالة، وأجمعت القراء عليه بالتلقي من حضرة الرّسول وأصحابه من بعده، ويوجد في الآية ٦٩ من سورة الفرقان في ج ١ (فِيهِ) تقرأ بإشباع الهاء كسرا، كذلك وردت بالتلقي أيضا فلا يجوز كسر الأوّل ولا تخفيف الثاني تبعا لقواعد الإعراب والنّطق لأنهما مستقاة من القرآن والمنزل عليه. واعلم أن هذه البيعة هي الواقعة تحت الشّجرة في الحديبية المشار إليها في الآية ١٧ من سورة الممتحنة المارة، ومعنى المبايعة هي العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل طاعته
للسلطان ويلزمه الوفاء بها وبكل عهد ألزم نفسه به، راجع الآية ٩٢ من سورة النّحل في ج ٢ وما ترشدك إليه.
وتسمى هذه البيعة بيعة الرّضوان لابتداء الآية بقوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ) إلخ كما سيأتي بعد في هذه السّورة، والمبايعة مع الرّسول مبايعة مع الله تعالى، كما أن المبايعة مع السّلطان المسلم مبايعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
قال تعالى «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ» من غفار ومزينه وجهينة وأشجع وأسلم، وذلك حين رجوعه من غزوته هذه إلى المدينة، أي غزوة الحديبية معتذرين من تخلفهم عن الذهاب معه، وهذا من الإخبار بالغيب أيضا لأن هذه الآيات نزلت في الطّريق قبل وصوله المدينة وتقدم المعتذرين لحضرته بالاعتذار وهو قولهم لك إنا لم نتخلف عنك كلا ولا جبنا ولا لأمر آخر وإنما «شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا» عن استصحابك إذ ليس لنا من يخلفنا عليهم ويقوم بأمورهم فيكون خليفتنا فيهم «فَاسْتَغْفِرْ لَنا» يا رسول الله، لانا معترفون بالإساءة والتقصير مع عذرنا هذا راجع الآية ٦٤ من سورة النّساء المارة، فأكذبهم الله بقوله «يَقُولُونَ» لك يا أكمل الرّسل هذا القول «بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي
273
قُلُوبِهِمْ»
من حقيقة التخلف لأنهم أرادوا به تقليل سواد جيش المؤمنين وخذلانهم وأن يبينوا لأهل مكة أنهم ليسوا مع الرّسول بسبب ما هو كامن في قلوبهم من النّفاق والعداء للرسول وأصحابه، فهذا هو سبب تخلفهم لا ما اختلقوه من العوز الكاذب، وان طلبهم الاستغفار صورة، لأنهم لا يعتقدون منفعته وحقيقته «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء الكاذبين إذا كان الأهل والمال عائقين عن الذهاب للجهاد أو لمجرد استصحابك «فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا» القتل أو الهزيمة أو خلل بالمال والأهل أو مجرد عقوبة على تخلفكم هذا «أَوْ أَرادَ بِكُمْ» ما يضاد ذلك من كلّ أنواع الخير مما يعدّ رزقا تنتفعون به «نَفْعاً» هل ينفعكم غير الله، وهل يكشف الضّر عنكم غيره؟ فسيقولون لك كلا لا أحد البتة، ولذلك فلا محل لقبول عذرهم «بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (١١) وقد أخبر الله رسوله بأنكم ستعتذرون في هذه الأعذار الواهية بألسنتكم وتخفون ضدها، والأمر ليس كما ذكرتم بل كما قلت لكم «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً» وقلتم إن أهل مكة سيستأصلونهم جميعا فلا يرجعون إلى المدينة «وَزُيِّنَ ذلِكَ» الظن من قبل الشّيطان «فِي قُلُوبِكُمْ» وقطعتم بصدقه «وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ» بأن الله تعالى مخلف وعده لرسوله فينهزم ويغلب «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» (١٢) بائرين هالكين «وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» ويظن بهما هذا الظّن السّيء الذي يؤدي إلى كفره «فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ» سماهم كافرين هنا لأنهم ظنوا بالله اخلاف وعده لرسوله، ومن يظن هذا الظّن فهو كافر ويكون مأواه «سَعِيراً» (١٣) نارا متأججة، لأنه لم يصدق قول الله ورسوله ولو صدق لما ظن هذا الظّن، ثم إن الله تعالى لم يقطع أمل المنافقين منه إذا تابوا وأنابوا ونصحوا، وقد فسح لهم الأمل بقوله جل قوله «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يقيم فيهما من يشاء من خلقه وكلّ من وما فيهما ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، ويختار طائعهم وعاصيهم «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (١٥) بخلقه لا يزال يقبلهم
274
إذا رجعوا إليه مخلصين، ثم ان حضرة الرّسول بعد أن وصلوا المدينة صار يعرض بغزو خيبر لأن الله فتحها وتخصيص غنائمها بالّذين شهدوا الحديبية وأخبره الله بما سيقول الّذين لم يشهدوها معه بقوله «سَيَقُولُ» لك «الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ» وقد أظهر الله تعالى كذب عذرهم في قولهم هذا لأنهم لم يحتجّوا بأشغالهم وأموالهم وأهليهم كما ذكروا قبل عند طلبهم الاستغفار لما في هذه الغزوة من أمل الغنيمة، بخلاف الحديبية لأنها كانت للزيارة فقط، وبان بهذا أن مبنى حالهم على الطّمع ليس إلا «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا» بطلبهم هذا الالتحاق معكم «كَلامَ اللَّهِ» الأزلي القاضي بعدم ذهابهم وباختصاص غنائم خبير لأهل الحديبية، فإذا قبلتم طلبهم فينبغي أن تشركوهم بالغنائم، والله تعالى لم يرد ذلك، فكأنهم غيروا كلام الله، وهذا هو قصدهم ليس إلّا فيا سيد الرّسل «قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا» أبدا ما دمتم على نفاقكم لا مطلقا لمنافاته لما يأتي بعد «كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ» وأوحى إلى نبيه به «مِنْ قَبْلُ» وصول المدينة أثناء رجوعه من الحديبية لا الآن «فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا» على ما يصيبنا مما تعنونه. قال تعالى «بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (١٥) من كلام الله مما فيه نفع لهم فقط وهذا هو الذي سبب حرمانهم لا من كون المؤمنين يحمدونهم. فيا أكمل الرّسل «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى» قتال «قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» وعزم قوي، فإن أطعتم «داعيكم إلى قتالهم كنتم مؤمنين حقا ولكم الأجر من الله
والنّعمة والمغفرة كما سبق من ذنوبكم كلها إلى يوم تلبيتكم هذه الدّعوة، وإذا أعرضتم وثبّتم على نفاقكم فلكم العذاب الأليم على ما اقترفتموه وهؤلاء الّذين ستدعون إلى قتالهم «تُقاتِلُونَهُمْ»
فتقتلونهم «أَوْ يُسْلِمُونَ» فيسلمون لكم ويؤمنون بالله ورسوله ولكم بذلك الثواب الذي ما فوقه ثواب، لا يقاس بكل الغنائم، قال صلّى الله عليه وسلم لأن يهدبك الله رجلا خير لك من حمر النّعم. وفي هذه الآية بشارة لتحقيق أحد الأمرين النّصر والظّفر أو الإسلام والإيمان «فَإِنْ تُطِيعُوا» من يدعوكم لقتالهم «يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً لقاء إطاعتكم هذه وكذلك كلّ طاعة لرسولكم وإمامكم وأميركم
275
يكون لكم فيها الأجر الحسن والثواب الجليل «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ» عن واقعة الحديبية «يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً» (١٦) لا تطيقه أجسامكم، وهؤلاء القوم الّذين وصفهم الله بالحزم البالغ هم هوازن وثقيف لأنهم من أشد العرب بأسا، وقد نزلت هذه الآية فيهم، والله أعلم، والدّاعي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا التفسير والتأويل أنسب بالمقام لأنه بمعرض الامتحان للمنافقين المذكورين، وان قوله تعالى (لَنْ تَتَّبِعُونا) مقيد بأمرين في غزوة خيبر لما سبق من أن الله تعالى خصص غنائمها لأهل الحديبية، واستمرارهم على النّفاق، وعليه فإنهم إذا آمنوا وصدقوا بقلبهم ولسانهم ونصحوا الله ورسوله فلا مانع من اتباعهم لحضرة الرّسول في غزواته الأخر. وما قاله بعض المفسرين من أن المراد بهم فارس والرّوم حينما دعاهم إلى حربهما عمر رضي الله عنه زمن خلافته وإن هذه من قبيل الأخبار بالغيب بعيد عن المعنى المراد بسياق الكلام وسياقه، وأبعد منه القول بأنهم بنو حنيفية أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب حينما دعاهم لحربهم أبو بكر رضي الله عنه في خلافته، لأن ما نحن فيه ينافي هذين الأمرين لما فيه من عود الكلام إلى غير مذكور، ولا يوجد ما يدل عليه، ولا هو معلوم أو مشهور راجع الآية ٢٢ من سورة ص في ج ١ وما هو في معناها مما رمزنا إليه في تفسيرها وإن عود الكلام إلى ما سبق له ذكر كما جرينا عليه أولى بالمقام وأنسب للمعنى المراد وأحسن، ولأن هاتين الحادثتين وقعتا بعد نزول هذه الآية بسنتين وكونها من الأخبار بالغيب جائز ككثير من أمثالها، ولكن مناسبتها لما قبلها يبعد ذلك والله أعلم، واعلم أن كلّ من تخلف عن دعوة الإمام إلى الحرب دون عذر شرعي فهو منافق يدخل دخولا أوليا في هذه الآية، لأن تخلفه دليل على عدم نصحه لامامه، وإن ما في قلبه مخالف لما في لسانه، وإن حضرة الرّسول لو لم يدعهم إلى جهاد هوازن وثقيف حينما استنفر النّاس لحرب حنين وبني المصطلق الآتي ذكرهما بعد في سورة التوبة الآتية التي قصد بها اختبارهم وإظهار رجوع من رجع منهم عن نفاقه لما جاز، بل لا متنع أبو بكر وعمر من الاذن لهم بالخروج معهم إلى الجهاد كما امتنعا من أخذ الزكاة من ثعلبة لا متناع رسول الله من أخذها منه، وكما
276
امتنعا من إعادة مروان بن الحكم من منفاه لأن حضرة الرّسول طرده من المدينة لأنهم لا يخالفون رسولهم قيد شعرة قولا ولا فعلا حيا كان أو ميتا، وهذا مما يدل على صحة ما ذكرناه وعلى أن الدّاعي هو حضرة الرّسول لا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما. واعلم أن من قال أن الدّاعيين أبو بكر وعمر استدل على صحة خلافتهما، إذ وعد المدعوين بالثواب على طاعة الدّاعين وليس بشيء، وخلافتهما لا يمتري فيها إلّا منافق أو حسود فاسق. ولما سمع الزمنى والمرضى والعرج والعميان هذه الآية قالوا كيف حالنا يا رسول الله؟ فأنزل الله جل شأنه «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» في التخلف عن الجهاد لعدم قدرتهم على الكر والفر ويدخل في هذه الآية الفقير الذي لا يمكنه استصحاب ما يلزمه من أدوات الجهاد ولم يمنحه الإمام أو الأمير شيئا يكفيه لذلك ويدخل في هذه الآية من يمرض المريض كما سيأتي في الآيتين ٩٣ و ٩٤ من سورة التوبة الآتية، أما ما جاء في آية النّور ٦٢ المارة المضاهية لهذه الآيات من حيث اللّفظ فهي في حق الأكل لا في حق الجهاد إذ كلّ منها جاءت لمناسبة ما قبلها «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ» عن
أمرهما ويعرض عنهما «يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً» (١٧) في الدنيا والآخرة. قال تعالى «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ» من الصّدق والإخلاص في بيعتهم لك والوفاء بما عاهدوك به وواثقوك عليه، لأنهم صرحوا بالموت وعدم الفرار في مبايعتهم وما بعد هذا من وفاء كما علم ما في قلوب المنافقين من الشّك والنّفاق والظّن السّيء «فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ» وثبتهم واطمأنت نفوسهم «وَأَثابَهُمْ» على ذلك «فَتْحاً قَرِيباً» (١٨) لأراضي خيبر وقراهم «وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها» منها ومن غيرها فيما يأتي من الزمن إلى يوم القيامة إن شاء الله «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (١٩) ولم يزل كذلك على الدّوام والاستمرار «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ» مغانم خيبر لتسدوا حاجتكم فيها، وهي في جنب ما يأتيكم بعد قليل من كثير، وفيها إشارة إلى كثرة
277
فقط من المفسرين أراد لتركبن سماء بعد سماء إذ يطلق على السماء طبق أيضا، لكون الواحدة فوق الأخرى، قال تعالى (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) الآية ٣ من سورة الملك المارة، وقد أوله بما يشير إلى المعراج، على أن المعراج وقع قبل هذا بأكثر من سنتين، وذكرنا آنفا بما يشعر إلى التعميم، وهو المناسب بسياق التنزيل وسباق الآي. قال تعالى «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» ٢٠ بك يا سيد الرسل أي شيء جرى لهم، وما منع هؤلاء الكفرة عن الإيمان بك وقد آتيناهم من دواعيه ما يسمعون ويبصرون ويعون إن كان لهم سمع وبصر وعقل ينتفعون بها، وما آتيناهم هذه الجوارح والحواس إلا ليستدلوا بها على وحدانيتنا ويصدقوا رسلنا
«وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ» الذي أنزلناه عليك لصلاحهم ورشدهم، فمابالهم «لا يَسْجُدُونَ» ٢١ لنا ولا يخضعون لقدرتنا ولا يخشون هيبتنا؟ ثم انتقل من عدم سجودهم إلى تكذيبهم فقال «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ» ٢٢ بك وبكتابك «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ» ٢٣ في صدورهم ويجمعون فيها من التكذيب والبغض لك والحقد عليك، والإيعاء هو جعل الشيء في وعاء وعليه قوله:
الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وأريد به هنا الإضمار وهو ما يضمرونه لحضرة الرسول من العداء. وما قيل إن المراد بهم المنافقون لا يصح وإنما هم قريش الذين كانوا يحيكون لحضرة الرسول المكايد، والسورة هذه كلها مكية إجماعا، ومكة لا يوجد فيها منافقون إذ ذاك، لأن النفاق وقع بعد الهجرة في المدينة، حتى ان لفظته لم تعرف إذ ذاك. قال تعالى تهكما بهم «فَبَشِّرْهُمْ» يا سيد الرسل على سبيل التبكيت والتقريع «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ٢٤ لا تطيقه قواهم ويظهر على بشرتهم سوءه «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» هذا استثناء منقطع من ضمير بشرهم المنصوب، فتكون البشارة في ذلك العذاب الفظيع خاصة بالمكذبين، أما المؤمنون العاملون صالحا ف «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» ٢٥ منقوص ولا مقطوع. وهذه الجملة تدحض قول من قال إن الاستثناء متصل على أن يراد بالمستثنى من آمن وعمل صالحا من آمن وعمل بعد منهم أي أولئك الكفرة، لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم
434
الفتوحات والغنائم التي يعطيهم الله تعالى إيّاها في المستقبل «وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» أي أهل خيبر إذ وقع في قلوبهم الرّعب فلم يجرؤا على قتالكم، وكذلك حلفاؤهم أسد وغطفان كفّهم عنكم وألقى في قلوبهم الرّعب فمالوا إلى الصّلح كما سيلقيه في قلوب أهل مكة فيستسلمون لكم «وَلِتَكُونَ» هذه الفتوحات والغنائم «آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» وعبرة يعرفون بها مكانتهم عند الله وضمانة لهم بالنصر والفتح وعظة لأعدائكم كي لا يجرءوا على مقابلتكم، ودلالة على صدق ما وعد الرّسول بذلك وإيقانا بأن إخباره بالغيب حق وصدق ثابت واقع لا مرية فيه، فيزدادوا إيمانا ويقينا بما يخبر «وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (٢٠) بمنه وفضله
«وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها» فهي مؤخرة تأتيكم بعد «قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها» وحفظها لكم ومنع الغير من تناولها حتى وإن فتحها من قبلكم أيها المؤمنون فتأخذونها أيضا قال ابن عباس هي فارس والرّوم، لأن العرب كانت لا تقدر على قتالهما، وكان ذلك زمن الخلفاء الرّاشدين. وهذا من الإخبار بالغيب فيدخل فيه كلّ ما وقع من الفتوحات والغنائم بعد نزول هذه الآية، سواء الذي زمن الرّسول صلّى الله عليه وسلم أو زمن الخلفاء الرّاشدين فمن بعدهم «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» (٢١) بذل لعظمته كلّ شيء ولا يعجزه شيء فتشمل هذه الآية كلّ فتح وغنيمة حازها المسلمون مما وقع ويقع إلى آخر الدّوران، فنسأل الله أن يقدرهم على إعادة عزّهم وعلو كلمتهم، ويجمع شملهم، ويوحد خطتهم، إنه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير، وما شيء على الله بعزيز. قال تعالى «وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أسد وغطفان حلفاء خيبر، وذلك لنهم قالوا لبعضهم إذا اشتغل المسلمون بحرب حلفائنا أهل خيبر نميل عليهم فنسبي ذراريهم فمنعهم الله بإلقاء الخوف في قلوبهم ولذلك قال «لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ» منهزمين «ثُمَّ لا يَجِدُونَ» لو أقدموا على قتالكم «وَلِيًّا» يواليهم عليكم «وَلا نَصِيراً» (٢٢) ينصرهم أبدا. واعلموا أن ما يفعله الله لأوليائه من النّصر خذلان لأعدائه، وليس هذا بأمر مبتدع بل هو «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ» في نصرة أحبابه وكبح أعدائه الجارية قبل للأنبياء وأتباعهم جارية لك ولأصحابك يا محمد «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
278
اللَّهِ تَبْدِيلًا»
(٢٣) ولا تغييرا بل تبقى مستمرة للرسل وأتباعهم إذا ساروا على سنتهم مادام الملوان، وإن الله كما أنجز وعده لمن قبلك منجزه لك، لا يحول دون ما يريده حائل البتة. ثم شرع يذكر حضرة الرّسول وأصحابه نعمته في صلح الحديبية، فقال «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ» في حرمها، لأن قسما من الحديبية داخل فيه ولو وقع الحرب فيها لامتد إلى نفس البيت حتما «مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ» أي مكنكم منهم بالمبايعة الحقيقة الواقعة عن رغبة شديدة في القتال «وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» (٢٤) لا يخفى عليه شيء ولا يفلت منه شيء ولا يغفل عن شيء. أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه أن ثمانين رجلا من أهل مكة (يوم الحديبية) هبطوا على رسول الله من جبل النّعيم مسلحين يريدون الغدر برسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سبايا فاستحياهم وقال عبد الله بن معقل المزني هم ثلاثون شابا، فدعا عليهم رسول الله فأخذ الله أبصارهم وأخذناهم ثم خلى سبيلهم رسول الله، فنزلت هذه الآية بمعرض المن على رسول الله من ربه عزّ وجل قال تعالى «هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ومنعوكم من دخوله «وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً» محبوسا وممنوعا عن «أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ» الذي يذبح فيه تقربا إلى الله «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ» ستضعفون عند أهل مكة «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» أثناء القتال لو فرض إيقاعه فيوشك «أَنْ تَطَؤُهُمْ» فتوقعوا بهم القتل لعدم معرفتكم بهم بسبب اختلاطهم مع أعدائكم أو تتسببوا بقتلهم من قبل أعدائكم انتقاما «فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ» اثم عظيم بسبب قتلهم وتغريمكم دينهم والزامكم الكفارات بسبب قتلكم إياهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» منكم بأنهم مؤمنون لاختلاطهم مع الكفار، فلولا هذا لما القى في قلوبهم قبول الصّلح الذي فيه اجحاف عليكم فقبلتموه على علاته، والا لأذن لكم بالقتال في بطن مكة ليس في حرمها فقط، ولدخلتم مكة عنوة بإذن الله وحاربتموهم في عقر دارهم وتوفقتم عليهم وأديتم الزيارة التي جئتم لأجلها رغما عنهم، ولكن لم بأذن الله لكم في ذلك وحال دون هذه الواقعة المنصورة خوف إضرار أولئك
279
المساكين وعدم تأثيمكم، ولوجود أناس من الكفار علم الله أنهم سيؤمنون بعد، إذ لم يحن الوقت المقدر لإيمانهم، كما أن فتح مكة لم يأت أجله ولم يفعل الله تعالى ذلك إلا «لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» من أهل مكة الّذين ما نعوكم من دخولها فيهديهم للأسلام، وقد كان ذلك، أما إنهم «لَوْ تَزَيَّلُوا» تفرقوا وامتازوا المؤمن من الكافر وأمن ذلك المحذور «لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (٢٥) بأن هديناكم للقتال ومنعناكم من قبول الصّلح ونصرناكم عليهم سبيا وجلاء وقتالا، ولكن لم يرد الله هذا لما ذكر. ثم ذم الله الكفرة على ما وقع منهم أثناء كتابة
الصّحيفة بما اتفق عليه من الصّلح بقوله «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ» الأنفه والاستكبار، إذ لم يقروا بسم الله الرّحمن الرّحيم، ولا محمد رسول الله محتجين بعدم اعترافهم بهما، مع أنهما حق صريح لأن الله أنزل البسمة على رسوله وشرفه بالرسالة، وقد أخبرهم بذلك، ولكن تعاظمهم أبى عليهم قبول الحق حتى في الكتابة ثم أنهم لم يتركوهم ليزوروا البيت ويذبحوا هديهم فيه لئلا يقال أنهم غبنوا في ذلك ورغموا عليه ثم انهم اشترطوا على محمد أن يرد من جاءه منهم ولم يردوا من جاءهم من أصحابه. فكانت هذه الشروط المجحفة «حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ» استولت عليهم فأخذت على قلوبهم بها ليس إلا، وإلّا فماذا يضرهم لو تركوهم يزورون ويذبحون نسكهم ويكتبون اسم الله ورسوله ويقابلونهم بالمثل فيمن يأتي من الطّرفين، ولهذا اغتاظ المؤمنون وأبو ألا أن يكون ما رفضوه أو يقاتلونهم «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» طمأنيته ووقاره وانائته «عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» فأزال غضبهم وحنقهم ووسع صدورهم حتى خضعوا لذلك وعصمهم الله من أن يداخل قلوبهم شيء من الأنفة التي أخذت سهيلا ورفاقه الّذين تولوا تدوين شروط المعاهدة المشار إليها في الآية ١٠ من سورة الممتحنة المارة وقبولها مع الكراهة. قال تعالى (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) الآية ١٨ من سورة النّساء المارة، وكان كذلك كما ذكرناه في الآية ٧٥ من سورة النّساء أيضا فراجعها «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى» المندرج تحتها السّمع والطّاعة والإخلاص والثبات والصّبر والوفاء وكل
280
خير «وَكانُوا» أصحاب محمد أهل بيعة الرّضوان «أَحَقَّ بِها» بتلك الكلمة المنطوية على فروع كثيرة من كفار المتلبسين بكلمة الكفر «وَأَهْلَها» المؤمنون المتلبسون بها، لأنهم الموحدون الله المتصفون بتقواه فهم أولى بالتّسربل بها، لأن الله كتبها لهم في علمه الأزلي «وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (٢٦) ومن جملتها علمه بأن هذا الصّلح الذي يراه المؤمنون مجحفا فيهم خير لهم لما فيه من الفوائد التي سيطلعهم الله عليها بعد، والنّوائب للكافرين التي سيريهم إياها. هذا وكان صلّى الله عليه وسلم قبل أن يخرج إلى الحديبية رأى في المنام أنه دخل المسجد الحرام وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، فقصها على أصحابه، فلما كان الصّلح ورجعوا دون أن يدخلوها قال المنافقون أين رؤياه التي رآها؟ فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله على طريق الحكاية عن رسوله صلّى الله عليه وسلم قوله عز قوله «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» الذي لا مرية فيه، ثم أقسم جل شأنه تأكيدا لإنجاز وعده هذا لنبيه صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ» لا يقوتكم وإرادتكم ولتكونن «آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» منها «لا تَخافُونَ» أحدا أبدا، وهذا الاستثناء في قوله تعالى مع أن وعده حق واخباره صدق لا شبهة فيه عبارة عن تعليم عباده الأدب لئلا يجزموا بشيء مهما كان محققا ومهما كان عزمهم فيه جازما بإنجازه، لأنهم لا يعلمون ما يقدر الله من الحوائل دون تنفيذ ما صمموا على إجرائه، ولذلك أراد منهم الاستثناء في كلّ أمورهم بان لا يقسموا على فعل شيء أو يجزموا على اجرائه إلّا أن يقرنوا مشيئه الله معه، ولهذا أمرهم بقوله جل قوله (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) الآية ٢٤ من سورة الكهف في ج ٢ «فَعَلِمَ» الله تعالى من الخير في هذا الصّلح لكم «ما لَمْ تَعْلَمُوا» أنتم ولا غيركم عاقبته الحسنة، ولو علم أعداؤكم نتيجته كما وقعت لما فعلوه، لأن الله كادهم فيه «فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ» قبل نهاية أجل تلك المعاهدة «فَتْحاً قَرِيباً» (٢٧) عظيما هو فتح مكة المذكور في الآية ٧٥ من سورة النّساء المارة، وقد شرح فيه صدور المؤمنين وروج ما فيها من الاغبرار، ثم رجعوا من العام
281
المقبل ودخلوا مكة محلقين ومقصرين، وأعقبه الله بفتح مكة قبل مرور سنتين على ذلك الصّلح، وقد مر سبب نقضه وكيفيته في قصة الحديبية في الآية ١٠ من سورة الممتحنة المارة، وقصة خيبر وقصة الفتح مرتا آنفا، وإلى هنا تنتهي الآيات النازلة في الطّريق، وإنما كانت متوالية وموضحة للحادثة، ولم تكن بالاشارة والتعريض كغيرها لازالة ما في قلوب المؤمنين من الغيظ الذي لحقهم بسبب تلك الشروط التي أدرجت في صك المعاهدة، لأنهم رأوها منقصة لقدرهم وضارة بهم لعدم علمهم بعاقبتها، إذ وقع الخسار
والخيبة والذل لأعدائهم فيها مما لم يتصوروه ولهذا قال بعض المفسرين إن هذه السّورة نزلت كلها في الطّريق تسامحا لنزول هذه الآيات.
مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء:
قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ» دين الإسلام دين ابراهيم عليه السّلام «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» بحيث لا يبقى على وجه الأرض غيره، وسيكون هذا بعد نزول عيسى عليه السّلام فعلا إن شاء الله، أما بالقوة فقد ظهرت تعاليمه وعمت وجه الأرض ودان به أهلها من حيث لا يعرفونه، وهذه شهادة من الله تعالى لهذا الدّين الحنيف «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (٢٨) على ذلك فلا قيمة لإنكار المنكرين وتكذيب المكذبين مع هذه الشّهادة القيمة. ثم صرح باسم هذا الرّسول الذي أظهره دينه على الأديان، فقال عز قوله «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» كما صرح باسمه الشّريف في الآية ١٤٤ من آل عمران والآية ٢ من سورته المارات أي أن هذا الرّسول العظيم صلّى الله عليه وسلم «وَالَّذِينَ مَعَهُ» من أصحابه الكرام والمؤمنين الصّادقين «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» أوداء رؤفاء بعضهم على بعض بمثابة الوالد على الولد، لا يثنيهم عن مقاتلة الكفار أحد لشدة إيمانهم بالله ومتانة عزمهم وقوة شكيمتهم واتفاق كلمتهم، وبمقابلة هذه الأوصاف الرّقيقة يقابلون أعداءهم بتلك الأوصاف الغليظة، ومع هذا فإنك «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً» لمرضات ربهم «يَبْتَغُونَ» بتواددهم بعضهم وعبادتهم
282
لربهم جل وعلا «فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً» لا سمعة ولا رياء ولا غرضا ولا عوضا «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ» نورا ساطعا يوم القيامة «مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» غرّة في جباههم وتجميلا في أيديهم وأرجلهم، يسطع نورا أيضا من آثار الوضوء فإنهم يحشرون غرا محجّلين كما جاء في الحديث الصّحيح، لأعضائهم بريق ولمعان يعرفون بهما بين النّاس «ذلِكَ» المثل الموصوف به محمد وأتباعه في هذا القرآن هو «مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» أيضا، وقد تم الكلام هنا فينبغي أن يوقف عليه ثم يبتدأ القارئ مستأنفا بقوله تعالى «وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ» فراخه وما تفرع عنه في جوانبه أي شواطئه «فَآزَرَهُ» عضده وقواه ومكنّه «فَاسْتَغْلَظَ» ذلك الزرع وقوي وتمكن «فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ» أصوله وقصبه وجذوعه وصار «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ» بادي الرّأي لحسن نباته وكثرة فروعه وقوة جذوره، وهذا مثل ضربه الله تعالى إلى سيدنا محمد وأصحابه في الإنجيل بان قوما يخرجون بعد فينبتون نبات الزرع أي يكونون قليلين ثم يكثرون، فالزرع محمد والفروع أصحابه والمؤمنون به، وإنما جعلهم الله كذلك «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» ويوقع في قلوبهم الرّعب منهم بسبب اتحادهم ومحبتهم بعضهم لبعض، وتعاونهم على عدوهم، وبذلك «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً» لذنوبهم وسترا لعيوبهم في الدّنيا «وَأَجْراً عَظِيماً» (٢٩) في الآخرة، وهذا مما يزيد غيظ الكافرين فضلا عن أنه تعالى وعدهم النصر في الدّنيا والعزة في العقبى. وفي هذه الآية ردّ لقول الرّوافض بأنهم كفروا بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم فحاشا ثم حاشا، وهل يعد الله هذه المغفرة والأجر إلّا لأوليائه الّذين ثبتوا على ما عاهدوا الله عليه وماتوا على ما واثقوا رسوله به، راجع الآية ١٠ من سورة الحشر المارة تقف على ما يتعلق في هذا البحث. أما ارتداد من لم يتمكن الإيمان في قلوبهم ولم تتشربه جوارحهم عند وفاته صلّى الله عليه وسلم ولا يكون دليلا لقولهم، كيف وقد أخبر رسول الله عنهم فيما أخرجه الترمذي عن عبد الرحمن بن عرف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال أبو بكر في الجنّة وعمر في الجنّة وعثمان بن عفان في الجنّة وعلي بن أبي طالب في الجنّة وطلحة في الجنّة والزبير في الجنّة وعبد الرّحمن
283
ابن عوف في الجنّة وسعد بن أبي وقاص في الجنّة وسعد بن زيد في الجنّة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنّة. وأخرج عن سعيد بن زيد مثله وقال هذا أصح من الأوّل وعن أنس بن مالك قال قال صلّى الله عليه وسلم أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرأهم أبيّ بن كعب، ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة عبيدة بن الجراح، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى في ورعه، قال عمر فتعرف له ذلك يا رسول الله؟ قال نعم- أخرجه الترمذي في موضعين- وروى البخاري عن أنس أن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال أثبت أحد (قال أنس أراه ضربه برجله) فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان وهذا من الإخبار بالغيب ومن جملة معجزاته صلّى الله عليه وسلم لأن عمر وعثمان ماتا شهيدين وقضية قنلهما معروفة ومشهودة رضي الله عنهما وأرضاهما راجع الآية عشرة من سورة الحشر تجد ما يتعلق بهذا- وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه فبعد هذا أيها النّاس أيليق بمسلم أن يذكر أصحاب محمد بسوء، وهل يجوز أن يقال فلان منهم أخطأ وفلان أصاب ولو فعل كذا لكان كذا وقد جفت الصّحف ورفعت الأقلام بما وقع منهم، وهم أعلم النّاس وأحسنهم وأرضاهم لله بعد رسوله، فعلى العاقل أن يكف لسانه وسمعه عن ذكرهم إلّا بخير، ويعتقد أن ما وقع منهم مجرد اجتهاد تحروا فيه الحق، وإن ساحتهم براءة مطهرة من كلّ ما هو خلاف الأولى بحسب اجتهادهم رضي الله عنهم وأرضاهم وحشرنا في زمرتهم، والله يتولى المغالين بعد له وينصر المؤمنين بفضله، ويمكنهم من أعدائهم بقوته، ويعلي كلمتهم برحمته آمين.
هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين، ومن تبعهم بإحسان آمين.
284
Icon