ﰡ
مكية. وآيها ست- أو خمس- وأربعون. ومناسبتها لما قبلها: أن صدرها استدلال على عظم ذاته، وباهر قدرته، وتحقيق رسالة نبيه، بجعل الملائكة رسلا إليه، ففيها إزاحة للشك، وقلع للريب، الواقع فى قلوب الكفرة، الذي ختمت به السورة، فكأنه تعالى حمد نفسه على إظهار شأنه، وإن لم يحمده عتاة خلقه.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)قلت: (أولِي) : اسم جمع، كذُو، وهو بدل من «رسلاً»، أو نعت له، ومَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: نعوت لأجنحة، وهو غير منصرف لأنه معدول عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وهو باعتبار الأشخاص، أي: منهم مَن له اثنان، ومنهم مَن له ثلاثة، هذا ظاهر الكشاف.
يقول الحق جلّ جلاله: الْحَمْدُ لِلَّهِ، حمد نفسه تعليماً وتعظيماً، فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبديهما ومبدعهما. قال ابن عباس رضي الله عنه: «ما كنت أدري معنى فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها». قال البيضاوي: من الفطر، بمعنى الشق، كأنه شق العدم بإخراجهما منه. قلت:
وكأنه شق النور الكثيف من النور اللطيف، فنور السموات والأرض من نوره الأزلي، وسره الخفي. جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى عباده، أي: وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده، فيُبلغون إليهم رسالاته بالوحي، والإلهام، والرؤيا الصادقة. أُولِي أَجْنِحَةٍ متعددة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي: منهم ملائكة لهم اثنان لكل واحد جناحان، ومنهم مَن له ثلاثة، ومنهم مَن له أربعة، بتفاوت ما لهم من المراتب، ينزلون بها، ويعرجون، أو: يُسرعون نحو ما وكلهم الله عليه، يتصرفون فيه على ما أمرهم به، ولعله تعالى لم يرد الحصر ونفى ما زاد عليها، لِمَا رُوي أنه ﷺ رأى جبريل ليلة المعراج، وله ستمائة جناح «١». وَرُويَ أنه طلب منه أن يريه
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي: يزيد في خَلْق الأجنحة وغيره ما يريد. وقيل: هو الوجه الحسن، والشَعْر الحسن، والصوت الحسن، والحظّ الحسن، والملاحة في العينين. والآية مطلقة تتناول كلَّ زيادة في الخلق، من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة العقل، وجزالة في الرأي، وفصاحة في اللسان، وحُسن خلق في المعاشرة، ومحبة في قلوب المؤمنين وغير ذلك. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على ما يشاء، من زيادةٍ في الخلق، ونقصان فيها، على حسب المشيئة السابقة.
الإشارة: الحمدُ في القرآن وقع على أربعة أقسام: حمد مطلق، وهو الواقع على عظمة ذاته، من غير أن يكون في مقابلة شيء، وهو قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى «٢»، الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «٣»، وحمدٌ وقع في مقابلة تنزيه ذاته عن النقائص، وهو قوله: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً... «٤» الآية. وحمدٌ وقع في مقابلد نعمة الإيجاد، وهو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. «٥»، وحمدٌ وقع في مقابلة نعمة الإمداد الحسي، كقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ «٦»، فإن التربية تقتضي وصول ما يحتاج إليه المربّي، أو الإمداد المعنوي، وهو إمداد القلوب والأرواح بالهداية، وهو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ «٧» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا.. «٨» فهذه أربعة: حمد مطلق، أو مقيد بشأن التنزيه، أو بنعمة الإيجاد، أو الإمداد، وما وقع هنا في إظهار تجلياته، من أرضه وسماواته، ولطائف ملائكته، فإن ذلك كله من نور جبروته.
وقوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قال القشيري: يقال: هو الفهم عن الله، أو السخاء والجود، أو:
الرضا بالتقدير، أو: علو الهمة، أو: التواضع في الشرف، أو: العفة في الفقر، أو: الظَرفُ- أي: الظرافة- في الشمائل، أو: أن يكون مُحَبباً في القلوب، أو: خفة الروح، أو: تحرُّر القلب عن رِقِّ الحرمان- أي: بالوقوف مع الأكوان- أو: ألا يطْلُب لنفسه منزلةً في الدارين- أي: بأن يكون عبد الله حقيقة-. هـ. ملخصا.
(٢) من الآية ٥٩ من سورة النمل.
(٣) من الآية ٧٥ من سورة النحل.
(٤) الآية ١١١ من سورة الإسراء.
(٥) من الآية الأولى من سورة الأنعام.
(٦) الآية ٣٦ من سورة الجاثية.
(٧) الآية الأولى من سورة الكهف.
(٨) من الآية ٤٣ من سورة الأعراف.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٢]
مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)
يقول الحق جلّ جلاله: مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ أي: ما يطلق ويرسل من رحمة، كنعمة، ومطر، وأمن، وعافية، ورزق، وعلم، ومعرفة، ونبوة، وغيرها، فَلا مُمْسِكَ لَها فلا أحد يقدر على إمساكها وردها، واستعير الفتح للإطلاق لأنه مسبب عنه. ونكّر الرحمة للإشاعة والإبهام، كأنه قال: من أيّ رحمة كانت، فتشمل نعمة الدفع والجلب، كدفع المحن وجلب المنن. والاعترافُ بالمنعم من تمام النعمة، والأمران مدرجان في الفتح والإمساك، وَما يُمْسِكْ أي: يمنع ويحبس من ذلك فَلا مُرْسِلَ لَهُ فلا مُطلق له مِنْ بَعْدِهِ من بعد إمساكه. وأنث الضمير الراجع إلى الاسم المتضمِّن معنى الشرط على معنى الرحمة، وذكّره حملاً على لفظ المرجوع إليه إذ لا تأنيث فيه لأن الأول فسّر بالرحمة، فحسن اتباع الضمير التفسير، ولم يفسر الثاني فتُرك على أصل التذكير.
وعن معاذ رضي الله عنه مرفوعاً: «لا تزال يدُ الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفُقْ خيارُهم بشرارهم، ويُعظّمْ بَرُّهُم فاجرهم، وتعن قراؤهم على أمراءهم على معصية الله. فإذا فعلوا ذلك نزع الله يده عنهم» «١» قال ابن عرفة: يُؤخذ من قوله تعالى: وَما يُمْسِكْ.. أن العدم السابق الإضافي متعلق للقدرة، وجعله بعض الأصوليين متعلقاً للإرادة أيضاً، وذلك لأن المصحح للتعلُّق الإمكان. هـ. قال الأُبي: لا دليل في الآية لاحتمال أن يكون التقدير: وما يريد إمساكه، فيكون من متعلقات الإرادة، ويحتمل: وما يُمسك عن الإرسال بعد وجوده، كإمساك الماء عن النزول بعد خلقه في السحاب. هـ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب، القادر على الإرسال والإمساك. الْحَكِيمُ الذي يُرسل ويُمسك، بما تقتضي الحكمة إرساله، أو إمساكه.
الإشارة: ما يفتح الله لقلوب عباده من نفحات، وواردات، وإلهامات، وعلوم لدنية، وحِكَم ربانية، وتعرفات جمالية وجلالية، فلا ممسك لها، بل الله يفتح على مَن يشاء، ويسد الباب في وجه مَن شاء. وسدُّ الباب في وجه العبد عن معرفته الخاصة، علامته: عدم إيصاله إلى أوليائه. فكل مَن وصله إليهم، وصَحِبهم، وعظَّمهم، وخدمهم،
ثم ذكّرهم بالنعم لأن تذكر النعم سبب الفتح، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣ الى ٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)
قلت: «غيرُ الله» : من رفعه فنعت للمحل، أي: هل خالق غير الله، ومن جره: فنعت للفظ. و «يرزقكم» : إما استئناف، أو: صفة ثانية لخالق، و «لاَ إله إِلاَّ هُوَ» : مستأنفة، لا محل لها.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ باللسان والقلب، وهي التي تقدمت، من بسط الأرض كالمهاد، ورفع السماء بلا عماد، وإرسال الرسل للهداية والإرشاد، والزيادة في الخلق، وفتح أبواب الرزق. ثم نبَّه على أصل النعم، وهو توحيد المُنْعم، فقال: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات، بل لا خالق يرزق غيره، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فمن أيِّ وجه تُصرفون عن التوحيد إِلى الشرك.
ثم سلَّى نبيه عن صدف قومه عن شكر المُنعم بقوله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فلك فيهم أُسوة، فاصبر كما صبروا. وتنكير «رسل» للتعظيم، المقتضي لزيادة التسلية، والحث على المصابرة، أي: فقد
وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل قبلك لأن الجزاء يعقب الشرط، ولو أجري على الظاهر، لكان الجزاء مقدماً على الشرط لأن تكذيب الرسل سابق، فَوضعَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ موضع فتأسّ، استغناءً بالسبب عن المسبب. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، وهو كلامٌ مشتمل على الوعد والوعيد، من رجوع الأمور إلى حكمه، ومجازاة المكذِّب والمكذَّب بكل ما يستحقه في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والعز لأهل الحق، وبالذل والإهانة لأهل التكذيب، وفي الآخرة معلوم، فالإطلاق أحسن من التقييد بالآخرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ذكر النعمة هو أن ينظر العبد، ويتفكر في نفسه، فيجد نفسه مغروقة في النعم الظاهرة والباطنة. وقد تقدّم تعدادها في لقمان «١». وليتفكر في حالته الماضية، فقد كان جاهلاً، فعلَّمه الله، ضالاًّ، فهداه الله، غافلاً، فأيقظه الله، عاصياً، فوفقه الله، إلى غير ذلك من الأحوال السنية. ولينظر أيضاً إلى مَن تحته مِن العباد، فيجد كثيراً مَن هو أسوأ منه حالاً ومقاماً، فيحمد الله ويشكره. قال صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى مَن هو تحتكم ولا تنظروا إلى مَن فوقَكم فهو أَجْدَرُ ألا تَزْدَرُوا نعمةَ الله عليكم» «٢». وحمله المحققون على العموم في الدين والدنيا. ذكره ابن عباد في الرسائل وغيره.
وقال عمرُ بنُ عبد العزيز رضي الله عنه: تذاكروا النعم فإن ذكرها شكر. هـ. وقال القشيري: مَنْ ذَكَرَ نعمَته فصاحبُ عبادةٍ، ونائِلُ زيادة، ومَن ذَكَرَ المُنْعِمَ فصاحبُ إرادة، ونائل زيادة، ولكنْ فرقٌ بين زيادة وزيادةً، هذا زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته لقاؤه، اليومَ سِرًّاً بِسِرٍّ، من حيث المشاهدة، وغداً جَهْراً بِجَهْرٍ، من حيث المعاينة. هـ.
قلت: مَن تحقق بغاية الشهود لم يبقَ له فرق بين شهود الدارين إذا المتجلي واحد. ثم قال: والنعمة على قسمين:
ما دَفَعَ من المِحَن، وما وضع من المِنَن، فَذِكْرُه لما دَفَعَ عنه يوجب دوامَ العصمة، وذكره لما نَفَعَه به يوجب تمام النعمة، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ.. ؟ فائدة هذا التعريف بوحدانيته، فإذا عَرَفَ أنه لا رازق غيره لم يُعلِّق قلبَه بأحدٍ في طلب شيءٍ. وتَوَهم شيء من أمثاله وأشكاله، ويستريح لشهود تقديره، ولا محالة يُخْلِصُ في توكله وتفويضه. هـ.
(٢) أخرجه مسلم فى (الزهد والرقائق ٤/ ٢٢٧٥، ح ٢٩٦٣) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
ثم حذّر من الدنيا لأنها تنسى النّعم والشكر، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٥ الى ٧]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والجزاء حَقٌّ، أي: كائن لا محالة، فاستعدُّوا للقائه، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا لا تخدعنكم زخارف الدنيا الغرارة، ولا يُذهلنكم التمتُّع بها، والتلذُّذ بملاذها، والاشتغال بجمعها واحتكارها، عن التأهُّب للقاء الله، وطلب ما عنده. وفي الحديث: «فلا تخدعنكم زخارف دنيا دنية، عن مراتب جنات علية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب، ولاقى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه». وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي: الشيطان، فإنه يُمنِّيكم الأماني الكاذبة، ويقول: إن الله غني عن عبادتك وعن تكذيبك. أو: إن الله غفور لمَن عصاه.
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ظاهر العداوة، فعل بأبيكم ما فعل، وأنتم تعاملونه معاملة الحبيب الناصح، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا فلا تقبلوا غروره في عقائدكم وأفعالكم، وكُونوا على حذر منه في جميع أحوالكم إذ لا يوجد منه إلا ما يدل على عداوته في سركم وجهركم.
قال الورتجبي: إنه عدو لأنه من عالم القهر خُلق، ونحن من عالم اللطف خُلقنا. والطبعان متخالفان أبداً، لأن القهر واللطف تسابقا في الأزل، فسبق اللطفُ القهر، فعداوته من جهة الطبع الأول، والجهل بالعصمة، وأنوار التأييد والنصرة، ومَن لا يعرفه بما وصفنا، كيف يتخذه عدواً؟ وهو لا يعرف مكائده، ولا يعرف مكائده إلا وليّ أو صدِّيق. هـ.
ثم بيَّن مآل مَن اتبعه ومَن عاداه، فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي: فمَن أجابه إلى ما دعي فله عذاب شديد لأنه صار من حزبه وأتباعه، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ولم يجيبوه، ولم يصيروا من حزبه، بل عادوه، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ لكبر جهاده ودوامه.
الإشارة: وَعْد الله هنا عام، وكله حق، واجب الوقوع، لا يتخلّف، فيصدق بوعد الرزق، وكفاية مَن انقطع إليه عن الخلق، لقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «١» وتولى مَن أصلح حالَه لقوله: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ «٢»، ويصدق بإثابة المطيع، وعتاب العاصي، أو: حلمه عنه، وغير ذلك من المواعد كلها، فيجب على العبد كفه عن الاهتمام بالرزق، وخوف الخلق، والتشمير في الطاعة، والفرار من المعصية، إِنْ كان له ثقة بوعد ربه، وإلا فالخلل في إيمانه.
وقوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ... الخ، قوم فهموا من الخطاب أنهم أُمروا بعداوة الشيطان، فاشتغلوا بعداوته ومحاربته، فشغلهم ذلك عن محبة الحبيب، وقوم فهموا من سر الخطاب: إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ، وأنا لكم حبيب، فاشْتَغلُوا بمحبة الحبيب، فكفاهم عداوة العدو. قيل لبعضهم: كيف صُنعك مع الشيطان؟ فقال: نحن قوم صرفنا هِممنا إلى الله، فكفانا مَن دونه. فالشيطان كالكلب إن اشتغلت بدفعه مزّق الثياب، أو قطع الإهاب، وإن رفعته إلى مولاه كفاك شره. وكذلك النفس إن اشتغلت بتصفيتها ومجاهدتها على الدوام شغلتك عن ذكر الله، والفناء فيه، ولكن الدواء هو الغيبة عنها، والاشتغال بالله دائماً، فإذا أظهرتْ رأسها بقيام شهوتها، دُقّه، بعكس مرادها، وغِبْ عنها في ذكر الله. ومن حِكم شيخنا البوزيدى رضي الله عنه: «انس نفسك بالله، واعتمد على فضل الله، وامتثل شيئاً ما، وينوب الله». «٣» وفي الحكم العطائية: «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده». وقال أيضاً: «وحرّك عليك النفس ليدوم إقبالك عليه». وقال: «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً. ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه، غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَكَ بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليك» «٤».
(٢) من الآية ١٩٦ من سورة الأعراف.
(٣) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص/ ٢٣، حكمة/ ٢٣٦).
(٤) (ص/ ٣١، حكمة ١٣٠).
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٨]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)
قلت: «أفمن» : مبتدأ حُذف خبره، أي: كمن هداه الله، أو ذهبت نفسك عليه حسرات. و «حسرات» : مفعول له.
وجَمعها لتضاعف اغتمامه، أو تعدُّد مساوئهم. و «عليهم» : صلة لتذهب، كما تقول: هلك عليه حُبًّا، ومات عليه حُزناً. ولا يتعلق بحسرات لأن المصدر لا يتقدَّم عليه صلته، إلا أن يُتَسَامحَ في الجار والمجرور.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ بأنْ غلَب هواه على عقله، وجهله على علمه، حتى انعكس رأيه، فَرَآهُ حَسَناً فرأى الباطل حقًّا، والقبيح حسناً، كمَن هداه الله واستبصر، فرأى الحق حقًّا، والباطل باطلاً، فتبع الحق، وأعرض عن الباطل، ليس الأمر كذلك، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ، فمَن أضله رأى الباطل حقًّا، فتبعه، ومَن هداه رأى الباطل باطلاً، فاجتنبه، والحق حقًّا فاتبعه.
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي: فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب، فإن أمرهم بيدي، وأنا أرحم بهم منك، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه، وهو وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.
الإشارة: إذا أراد الله إبعاد قوم غطّى نور بصيرتهم بظلمة الهوى، فيُزيّن في عينهم القبيح، ويستقبح المليح، فيرون القبيح حسناً، والحسن قبيحاً، كما قال الشاعر:
يُغمى على المرء في أيام مِحنته | حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن |
قلت: وكذلك مَن وقف مع الكرامات والمقامات، وحلاوة الطاعات، دون درجة المشاهدة، فقد زُين له سُوء عمله. والحاصل: كل مَن وقف مع شيء، دون تحقيق الفناء في الذات، فهو مُزيَّن له سوء عمله. وكل مَن لم يصحب الرجال فهو غالط، يظن أنه واصل، وهو منقطع في أول البدايات. وبالله التوفيق. وقوله تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، كذلك يقال للواعظ، إذا رأى إدبار الخلق، وعدم تأثير الوعظ فيهم، فليكتفِ بعلم الله فيهم، ولا يتأسّف على أحد، فإن التوفيق بيد الله.
وربما يحييهم بعد حين، كما يُحيي الأرضَ بعد موتها، كما أشار إلى ذلك بقوله:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٩]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩)
قلت: «كذلك» : خبر مقدّم، و «النشور» : مبتدأ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، وفي قراءة بالإفراد، للجنس «١»، فَتُثِيرُ سَحاباً أي: تزعجه، وعبَّر بالمضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة، التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، الدالة على كمال القدرة وباهر الحكمة. فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ لا نبات فيه، فَأَحْيَيْنا بِهِ أي: بالمطر النازل منه الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها. وعدل من الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل في الاختصاص لِمَا فيه من مزيد بديع الصنع، كَذلِكَ النُّشُورُ أي: مثل إحياء الموات نشور الأموات. وقيل: يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش، كمنيّ الرجال، فتنبت به الأجسادُ في قبورها، ثم يرسل الأرواح فتدخل في أشباحها «٢». قال أبو رزين: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: «هل مررت بواد أهلك مَحْلاً؟ - أي: جدباً- قلت: نعم، قال: فكذلك يُحيي الله الموتى، وتلك آية الله في خلقه» «٣».
(٢) ذكره الطبري (٢٢/ ١١٩).
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (٤/ ١١) والطبراني فى الكبير (١٩/ ٢٠٨ ح ٤٧٠) والطيالسي (ص ١٤٧ ح ١٠٨٩) عن أبى رزين العقيلي. قال الهيثمي فى المجمع (١/ ٨٥) : رجاله ثقات.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٠]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)
يقول الحق جلّ جلاله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ أي: الشرف والمنعة على الدوام، في الدنيا والآخرة، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً فليطلبها من عنده، بالتقوى، والعلم، والعمل الصالح، كالزهد في الدنيا، والتبتُّل إلى الله، أي: فالعزة كلها مختصة بالله، عز الدنيا وعز الآخرة. وكان الكفار يتعززون بالأصنام، كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا «١»، والمنافقون كانوا يتعزّزون بالمشركين، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً.. «٢»، فبيَّن أن العزة إنما هي لله بقوله: «فإن العزة لله» فليطلبها مَن أرادها من عنده. فوضع قوله: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ موضعه، استغناء به عنه لدلالته لأن الشيءَ لا يُطلب إلا من عند صاحبه ومالكه. ونظيره قولك: مَنْ أراد النصيحة فهي عند الأبرار، أي:
فليطلبها من عندهم. وفي الحديث: «إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز، فمَن أراد عزّ الدارين فليُطِعِ العزيز» «٣».
ثم ذكر ما يطلب به العز، وهو العمل المقبول، بقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ كلمة التوحية: لا إله إلا الله، وما يلحقها من الأذكار، والدعاء، والقراءة. وعنه صلى الله عليه وسلم: «هو سُبحان الله والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبرُ. إذا قالها العبدُ عَرَجَ بها الملكُ إلى السماء، فحَيّا بها وَجْهَ الرحمن «٤». وكان القياس: الطيبة، ولكن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا التاء يُذكّر ويؤنّث. ومعنى الصعود: القبول والرضا، وكل ما اتصف بالقبول وُصف بالرفعة والصعود.
(٢) الآية ١٣٩ من سورة النساء.
(٣) ذكره ابن الجوزي فى الموضوعات (١/ ١٢٠) عن أنس رضي الله عنه. وقال ابن الجوزي: وهذا من تلصيص سعيد بن هبيرة العامري، قال ابن عدى: كان يحدث الموضوعات.
(٤) أخرجه بنحوه الطبري (٢٢/ ١٢٠) والحاكم- وصححه ووافقه الذهبي (٢/ ٤٢٥) - وأخرجه البيهقي فى الأسماء والصفات (٢/ ٣٤) والبغوي فى التفسير (٦/ ٤١٤- ٤١٥) من حديث ابن مسعود، موقوفا. [.....]
ثم ذكر سبب الذل في الدارين، فقال: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ المكرات السَّيِّئاتِ، فالسيئات: صفة لمصدر محذوف لأن «مكر» لا يتعدى بنفسه. والمراد: مكر قريش برسول الله ﷺ حين اجتمعوا في دار الندوة كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا... «١» الآية. لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة، وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي: يفسد ويبطل، دون مكر الله بهم، فالضمير يفيد الاختصاص.
الإشارة: العز على قسمين: عز الظاهر، وعز الباطن، فعز الظاهر هو تعظيم الجاه وبُعد الصيت، واحترام الناس لصاحبه، ولمَن تعلّق به، وسببه: التقوى، والعلم، والعمل، ومكارم الأخلاق كالسخاء، والتواضع، وحسن الخلق، والإحسان إلى عباد الله. وعز الباطن: هو الغنى بالله، وبمعرفته، والتحرُّر من رق الطمع، والتحلّي بحلية الورع. وسببه الذل لله، يُظهر ذلك بين أقرانه، كما قال الشاعر:
تَذَلَّلْ لمَن تَهْوَى لِتَكْسِبَ عِزةً | فكم عزة قد نالها المَرْءُ بِالذُّلِّ |
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً وَلَمْ تَكُنْ | ذَلِيلاً لَهُ فَاقْرَ السلامَ على الوَصْلِ |
قال القشيري: وقال في آية أخرى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «٢» فأثبت العزة لغيره، والجمع بينهما:
أن عِزَّة الربوبية لله وَصْفاً، وعزَّة الرسول والمؤمنين لله فضْلاً، ومنه لطفاً، فإذاً العزة لله جميعا. والكم الطيب هو الذي يصدر عن عقيدة طيبة، وقلب طيب، لا كدر فيه ولا أغيار، وقيل: ما ليس فيه حظ للعبد، وقيل: ما يستخرج من العبد، وهو فيه مفقود، وقيل: ما ليس فيه حاجة، ولا يطلب عليه عوض، وقيل: ما يشهد بصحته الإذن والتوقيف. انظر القشيري.
ويؤخذ من قوله: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أن العمل إذا بقي بين عين العبد يلحظه، وينظر إليه، فهو علامة على عدم قبوله، إذ لو قُبل لرفع عن نظره، فلا عمل أرجى للقلوب من عمل يغيب عنك شهوده، ويختفي لديك وجوده. والذين يمكرون بالأولياء، المكرات السيئات، لهم عذاب شديد، وهو البُعد من الله، ومكر أولئك هو يبور. وأما الأولياء فهم في حجاب مستور، من كل مكر وخداع وغرور.
ثم ذكر أصل نشأتهم ليتحققوا ضعفهم ووهنهم، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١١]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أي: أباكم مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ أنشأكم مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أصنافاً، أو: ذكراناً وإناثاً، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ إلا معلومة له، وقتاً وكيفية، وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي: وما يمد في عمر أحد فيكون طويلاً. وإنما سمّاه معمّراً لِمَا هو صائر
(٢) من الآية ٨ من سورة المنافقون.
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ... «٢» إلخ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: إحصاء الأعمار، أو زيادتها ونقصانها، سهل على علم الله وقدرته.
الإشارة: أصل نشأة الأشباح من الصلصال، وأصل نشأة الأرواح من نور الكبير المتعال، فمَن غلبت طينته على روحانيته، وهواه على عقله، التحق بالبهائم، ومَن غلبت روحانيته على بشريته، وعقله على هواه، التحق بالملائكة الكرام.
وقوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ.. الآية، طول العمر وقصره عند الحكماء، ليس هو بكثرة آماده، وإنما هو بكثرة أمداده. وفي الحِكَم: «رُبّ عمر اتسعت آماده، وقَلَّْتْ أمداده، ورُبّ عمر قليلةٌ آماده، كثيرة أمداده».
والأمداد: ما يجد القلب من معارف الله، وعلومه، وأنواره، وأسراره. فرُبّ قلب استمد في زمان قليل، من العلوم والمعارف والأسرار، ما لم يستمده غيره في أزمنة متطاولة. وقال أيضاً: «مَن بورك له في عمره، أدرك في يسيرٍ من الزمان مِنْ مِنَن الله تعالى، ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة» «٣». والغالب أن هذه الأمداد إنما تُنال بصحبة الرجال العارفين بالله، فإن المدد الذي يحصل له معهم في ساعة واحدة لا يحصل في أزمنة طويلة مع غيرهم، ولو كثرت صلاتهم وصيامهم.
وقال في القوت: فإن البركة في العمر أن تدرك في عمرك القصير، بيقظتك، ما فات غيرك في عمره الطويل بعْد، فيرتفع لك في السنة ما لا يرتفع لغيرك في عشرين سنة. وللخصوص من المقربين في مقامات القرب عند التجلي بصفات الرب إلحاق برفع الدرجات، وتدارُكٌ بما فات عند أذكارهم، وأعمال قلوبهم، اليسيرة، في هذه الأوقات. فكل ذرة من تسبيح، أو تهليل، أو حمد، أو تدبُّر، أو تبصرة، أو تفكُّر وتذكرة، لمشاهدة قرب، ووجد برب، ونظرة إلى حبيب، ودنو من قريب، أفضل من أمثال الجبال من أعمال الغافلين، الذين هم لنفوسهم واجدون، وللخلق مشاهدون. ومثال العارفين، فيما ذكرناه من قيامهم بشهادتهم ورعايتهم لأماناتهم وعهدهم، في وقت
(٢) الآية ٤٠ من سورة الرعد.
(٣) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص ٢٨، حكمة ٢٥٩، ٢٦٠).
كل ليلة للعارف بمنزلة ليلة القدر. هـ. منه.
ثم ذكر دلائل قدرته تتميما لقوله: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٢]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ في العذوبة والملوحة، بل هما مختلفان، والماء واحد، هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي: شديد العذوبة. وقيل: هو الذي يَكْسر العطش لشدة برودته، سائِغٌ شَرابُهُ أي:
سهل الانحدار، مريء، لعذوبته، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ شديد الملوحة، وقيل: الذي تُحرِق ملوحته. وَمِنْ كُلٍّ أي: من كل واحد منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا، وهو السمك، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً وهي اللؤلؤ والمرجان. قيل: من الملح فقط. وقيل: منهما. قال بعضهم: نسب استخراج الحلية إليهما لأنه تكون في البحر عيون عذبة، تمتزج بماء الملح، فيكون اللؤلؤ من ذلك هـ. تَلْبَسُونَها أي: نساؤكم لأن القصد بالتزيُّن هو الرجال.
وَتَرَى الْفُلْكَ السفن، فِيهِ مَواخِرَ شواقّ للماء بجريها، يقال: مخرت السفينة الماء: شَقَّته، وهي جمع ماخرة، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ من فضل الله، ولم يتقدم له ذكر في الآية ولكن فيما قبلها، ولو لم يجرِ له ذكر، لم يشكل لدلالة المعنى عليه. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله على ما أولاكم من فضله.
وقيل: هو ضرب مثل للكافر والمؤمن، فالمؤمن، يجري عذب فُرات، والكافر ملحٌ أُجاج. ثم ذكر- على سبيل الاستطراد- ما يتعلق بالبحرين من نِعَم الله وعطائه. ويحتملُ أن يكون على غير الاستطراد، وهو أن يشبّه الجنسيْن، ثم يفضّل البحر الأجاج على الكافر، وهو ما خصّ به من المنافع، كاستخراج اللؤلؤ، والمرجان، والسمك، وجري الفلك فيه، وغير ذلك. والكافر خلوّ من المنافع بالكلية، فهو على طريقة قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ثم قال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ.. «١».
قال القشيري: وما يستوي الوقتان، هذا بسط، وصاحبه في رَوْح، وهذا قبضٌ، وصاحبه في نَوْح. هذا خوفٌ وصاحبه في اجتياح، وهذا رجاءٌ وصاحبه في ارتياح. قلت: الرجاء عذب، والخوف ملح، خلاف ما يقتضي كلامه. ثم قال: هذا فرق، وصاحبه بوصف العبودية، وهذا جمع، وصاحبه بشهود الربوبية.
ثم ذكر دليلاً آخر، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٣ الى ١٤]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
يقول الحق جلّ جلاله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي: يُدخل من ساعات أحدهما في الآخر، حتى يصير الزائدُ منهما خمس عشرة ساعة، والناقص تسعاً. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذللها لِمَا يُراد منهما، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي: يوم القيامة، فينقطع جريهما، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، الإشارة إلى فاعل هذه الأشياء، وهي: مبتدأ، و «الله» وما بعده: أخبار، لَهُ الْمُلْكُ له التصرف التام. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام، أي: تعبدونهم، ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ وهي القشرة الرقيقة الملتفة على النواة، كما أن النقير: النقطة في ظهره. وهما كنايتان عن حقارة الشيء وتصغيره.
الإشارة: قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي الله عنه: يولج الليل في النهار، ويُولج النهارَ في الليل. يُولج المعصية في الطاعة، ويُولج الطاعة في المعصية. يعمل العبد الطاعة فيُعجب بها، ويعتمد عليها، ويستصغر مَن لم يفعلها، ويطلب من الله العوض عليها، فهذه حسنات أحاطت بها سيئات. ويُذنب العبدُ الذنبَ، فيلتجأ إلى الله فيه، ويعتذر منه، ويستصغر نفسه، ويُعظم مَن لم يفعله، فهذه سيئة أحاطت بها حسنات، فأيتهما الطاعة، وأيتهما المعصية؟ هـ.
أو: يولج ليلَ القبض في نهار البسط، وبالعكس، أو: يولج ليلَ الحجبة في نهار الكشف، ونهارَ الكشف في ليل القطيعة، يتواردان إلى حال طلوع شمس العرفان، فلا غروب لها، كما قال الشاعر:
طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بلَيلٍ | واستنَارَت فمَا تَلاها غُرُوبُ |
إنَّ شَمْسَ النهارِ تَغْربُ باللي | ل وشَمْسَ القلوب ليست تغيب «٢». |
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٥ الى ١٧]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧)
(٢) البيت من الخفيف، وهو للحلاج. انظر ديوانه ص ٢٣، وصلة تاريخ الطبري ١١/ ٨٧.
وقال ذون النون رضي الله عنه: الخلقُ محتاجون إليه في كل نَفَسٍ، وطرفة، ولحظة، وكيف لا، ووجودهم به، وبقاؤهم به؟، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن الأشياء كلها، الْحَمِيدُ أي: المجمود بكل لسان. ولم يَسمِّهم بالفقر للتحقير، بل للتعظيم لأن العبد إذا أظهر فقره لسيده الغني أغناه عن أشكاله وأمثاله. وذكر «الحميد» ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خَلْقه، والجواد المنعم عليهم إذ ليس كلّ غنيّ نافعاً بغناه، إلا إذا كان الغنيُّ جواداً منعماً، وإذا جاد وأنعم، حمده المُنعَم عليهم.
ولمّا ذكر افتقارهم إلى نعمة الإيجاد، ذكر افتقارهم إلى نعمة الإمداد، بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي: إن يشأ يُفنيكم كلكم، ويردكم إلى العدم فإنَّ غناه بذاته، لا بكم، وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يكون أطوع منكم، أو بعالَم آخر غير ما تعرفون. وَما ذلِكَ أي: الإفناء والإنشاء عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بممتنع. وعن ابن عباس: يخلق بعدكم مَن يعبده، لا يشرك به شيئاً. قال القشيري: فقر الخِلْقَة عام لكلِّ أحدٍ، في أول حال وجوده ليُبديه وينْشيه، وفي ثاني حال بقائه ليُديمَه ويُبقيَه. هـ. قلت: وإليه أشار في الحِكَم بقوله: «نعمتان ما خلا موجود عنهما، ولا بد لكل موجود منهما: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، أنعم أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد».
الإشارة: الفقر على أربعة أقسام: فقر من الدين، وفقر من اليقين، وفقر من المال، وفقر مما سوى الله.
فالأولان مذمومان، وصاحبهما موسوم بالإفلاس والهلع، ومنهما وقع التعوُّذ في الحديث. والثالث: إن صحبه الرضا فممدوح، وفيه وردت الأحاديث النبوية، وإلاَّ فمذموم، ويشمله التعوُّذ في الحديث. الرابع: هو مطلب القاصدين والعارفين، وهو الغيبة عما سوى الله، والغنى بالله، كما قال الشيخ أبو الحسن: «أسألك الفقر عما سواك، والغنى بك، حتى لا نشهد إلا إياك» وهو ينشأ عن التحقُّق بالفقر ظاهراً وباطناً لأن الفقر من وصف العبد، والغنى
وقال القشيري- بعد كلام-: والفقراءُ على أقسام فقير إلى الله، وفقير إلى شيء هو من الله معلوم وموسوم.
ومَن افتقر إلى شيءٍ استغنى بوجود ذلك الشيء، فالفقير إلى الله هو الغني بالله، فالافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله. فالفقير إليه مُسْتَغْنٍ به، والمستغنى به فقيرٌ إليه. ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخشوع، ومن آفات الغنى امتزاجُه بالتكبُّر. وشَرَفُ العبد وعزه في فقره، وذُلُّه وصغاره في توهمه الغنى، وأنشدوا.
وإذا تذلّلَت الرقابُ [تَقَرُّباً] «٢» | منَّا إليكَ فعِزُّها في ذُلِّها |
قال الورتجبي: فطرة الإنسانية وقعت من الغيب مضطربة متحركة إلى الأزل، بنعت الافتقار إليه، كانجذاب الحديد إلى المغناطيس لأنها وقعت بنعت العشق، والعاشق مفتقر إلى معشوقه، انفعالاً، فمَن عرفه بالأزلية والأبدية يفتقر إليه افتقاراً قطعيًّا لأن بقاءه لا يكون إلا به. وإذا كان كذلك صار غنيًّا بالله، متصفاً بغناه، غنيًّا به عن غيره، مفتقراً إليه. فإذا كان في محل الصحو يكون مفتقراً إليه، وإذا كان في محل السكر بقي في رؤية غناه عنه، فصار محجوباً عنه، ولا يدري. هـ.
وقال سهل رضي الله عنه: لَمَّا خلق الله الخلقَ حَكَمَ لنفسه بالغِنى، ولهم بالفقر، فمَن ادّعى الغِنى، حُجب عن الله، ومَن أظهر فقره أوصله فَقْرُه إليه. فينبغي للعبد أن يكون مفتقراً بالسرّ إليه، ومنقطعاً عن الغير إليه، حتى يكون عبوديّته لله محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع. هـ.
وقال الواسطي: مَن استغنى بالله لا يفتقر، ومَن يتعزّز بالله لا يَذل. وقال يحيى بن معاذ: الفقرُ خير للعبد من الغِنى لأن الذلة في الفقر، والكبر في الغِنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بكثرة الأعمال. وقيل: صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء.
(٢) انظر الحكم (ص ٣١، حكمة/ ١٧٨).
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٨]
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨)
قلت: «وازرة» : صفة لمحذوف، أي: نفس آثمة. و «إن تدع» : شرط، و «لا يُحمل» : جواب، و «لا» النافية لا تمنع الجواب من الجزم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي: ولا تحمل نفس آثمة إثمَ نَفْسٍ أخرى، والوزر والوِقر أخوان، ووزَر الشيء: حمله. والمعنى: أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته، فلا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى، كما تأخذ جبابرةُ الدنيا الظلمةُ الجارَ بجريمة الجار، والقريبَ بالقريب، فذلك ظلم محض.
وأما قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «١» ففي الضالّين المضلّين، فإنهم يحملون أثقال إضلالهم وأثقال ضلالهم، وكل ذلك أوزارهم، ليس فيها شيء من أوزار غيرهم. ألا ترى كيف كذّبهم الله تعالى في قوله:
اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «٢».
قال ابن عطية: مَن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة- كفعل [زياد ونحوه] «٣»، فإن ذلك، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة، أو مواصلة، أو اطلاع على حاله، أو تقرير له، فهذا قد أخذ من الجُرم بنصيب. وهذا هو المعنى بقوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ... الآية لأنهم أغروهم، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن سنَّ سُنةَ حَسَنةٌ..» «٤» الحديث، فراجعه. قلت: لا يجوز الإقدام على ظلم أحد بمجرد الظن، فالصواب حسم هذا الباب، والتصريح بتحريمه لكثرة جور الحُكام.
ثم قال تعالى: وَإِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ بالذنب أحداً إِلى حِمْلِها أي: إلى حمل ثِقل ذنوبها، ليتحمل عنها بعض ذلك، لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ المدعو، المفهوم من قوله: وَإِنْ تَدْعُ، ذا قُرْبى
(٢) الآية ١٢ من سورة العنكبوت. [.....]
(٣) فى الأصول [كفعل زاد] والمثبت هو الذى فى تفسير ابن عطية. قلت: قال أبو حيّان فى البحر المحيط، تعقيبا على كلام ابن عطية: «وكأن ابن عطية تأوّل أفعال زياد، وما فعل فى الإسلام، وكانت سيرته قريبة من سيرة الحجّاج»
(٤) الحديث أخرجه كاملا مسلم فى (الزكاة، باب الحث على الصدقة، ٢/ ٧٠٥، ح ١٠١٧) من حديث جرير بن عبد الله.
ثم بيّن مَن ينتفع به بقوله: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي: إنما ينتفع بإنذارك مَن خشي ربه بِالْغَيْبِ أي: يخشون ربهم غائبين عنه، أو: يخشون عذابه غائباً عنهم، فهو حال، إما من الفاعل أو المفعول المحذوف. أو: يخشون ربهم في حال الغيب، حيث لا اطلاع للغير عليهم، فيتقون الله في السر، كما يتقون في العلانية. وَأَقامُوا الصَّلاةَ أتقنوها في مواقيتها، وَمَنْ تَزَكَّى أي: تطهّر بفعل الطاعات، وترك المنهيات، فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذا نفعه يعود لها، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم، وإقامتهم الصلاة لأنها من جملة التزكي. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المرجع، فيجازيهم على تزكيتهم، وهو وعد للمتزكِّين بالثواب.
الإشارة: وبال الوزر خاص بصاحبه، إلا إذا كان مقتدى به، فإنَّ عيبه أو نقصه يسري في أصحابه، حتى يطهر منه لأن الصحبة صيرت الجسدين واحداً. وراجع ما تقدم عند قوله: وَاتَّقُوا فِتْنَةً... «١» الآية. قال القشيري: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: كلٌّ مُطَالَبٌ بعمله، ومحاسبٌ عن ديوانه. ولكلٍّ معه شأن، وله مع كلِّ أحدٍ شأن، ومن العبادات ما تجري فيها النيابة، ولكن في المعارف لا تجري النيابة ولو أن عبداً عاصياً منهمكاً في غوايته فاتته صلاةٌ مفروضةٌ، فلو قضى عنه ألفُ وليٍّ، وألفُ صَفِيٍّ، تلك الصلاة الواحدة، عن كل ركعةٍ ألف ركعةٍ لم تُقْبَلْ. هـ. وقال في قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ... الخ: الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة. والخشيةُ هي المخافة، فمعنى الآية: لا ينتفع بالتخويف إلا صَاحِبُ الخوف- طيرُ السماء على إلا فها تقع. هـ.
ثم ضرب المثل لمن تزكى، ومن لم يتزك، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين، أبلغ من الأول، ولذلك كرر الفعل، وقيل: للعلماء والجهال. وزيادة «لا» في الجميع للتأكيد، وهذه الواوات بعضها ضمت شفعاً إلى شفع، وبعضها وترأً إلى وتر. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ بهدايته وتوفيقه لفهم آياته والاتعاظ بها. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، شبّه الكفار بالموتى، حيث لا ينتفعون بمسموعهم، مبالغة في تصاممهم، يعني أنه تعالى عَلِمَ مَن يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيهدي مَن يشاء هدايته، وأما أنت فخفي عليك أمرهم، فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين، فإنذار هم كإنذار مَن في القبور من الموتى.
قال ابن عطية: الآية تمثيل بما يحسّه البشر، ويعهده جميعنا من أنَّ الميت الذي في القبر لا يسمع، وأما الأرواح فلا نقول: إنها في القبر، بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش، وفي قناديل وغير ذلك «١»، وأن أرواح الكفرة في سجِّين، ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور، فربما سمعت، وكذلك أهل قليب بدر، إنما سمعت أرواحهم، فلا تعارض بين الآية وحديث القليب. هـ «٢».
ثم قال تعالى: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي: ما عليك إلا التبليغ والإنذار، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفعه، وإن كان من المصريين فلا عليك.
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي: محقاً، أو: محقين، أو: إرسالاً مصحوباً بالحق، فهو حال من الفاعل، أو المفعول، أو صفة لمصدر محذوف، بَشِيراً لمَن آمن وَنَذِيراً لمَن كفر، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي:
ما من أُمة من الأمم الماضية، قبل أمتك، إلا فيها نذير نبيّ، أو عالم، يخوفهم. ويقال لأهل كل عصر: أمة.
والمراد هنا: أهل العصر. قال ابن عطية: معناه: أن دعوة الله تعالى قد عمَّت جميع الخلق، وإن كان فيهم مَن لم تباشره النِّذارة، فهو ممن بَلَغَته الدعوة، لأن آدم بُعث إلى بنيه، ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم. والآية
(٢) النقل باختصار.
وذكر في الإحياء، في باب التوبة: أنه يشبه أن يكون مَن لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، وعاشوا [على البله] «١» وعدم المعرفة، فلم تكن لهم معرفة، ولا جحود، ولا طاعة، ولا معصية، هم أهل الأعراف لأنه لا وسيلة تقربهم، ولا جناية تُبعدهم، فما هم من أهل الجنة، ولا من أهل النار، ويُتركون في منزلة بين المنزلتين، ومقام بين المقامين. هـ. وقال ابن مرزوق في شرح حديث [هرَقْل] «٢» : الدين الحق هو الإسلام، وما سواه باطل، عقلاً ونقلاً، فلا عذر لمنتحيله بالإجماع، كان متأولاً مجتهداً، أو مقلداً جاهلاً لأن أدلة الإسلام واضحة قطعية، ومخالف مقتضاها مخطئ قطعاً. هـ.
وقال ابن عطية أيضاً، ما نصه: آدم عليه السلام فمن بعده، دعا إلى توحيد الله تعالى دعاءً عاماً، واستمر ذلك على العالم، فواجب على الآدمي أن يبحث عن الشرع، الآمر بتوحيد الله تعالى، وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك، بحسب إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن، ولا يعبد غير الله، فمَن فرضناه لم يجد سبيلاً إلى العلم فأولئك أهل الفترات، الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة، وهم بمنزلة الأطفال والمجانين، ومن قصر في النظر والبحث، فَعَبَد صنماً أو غيره، وكفر، فهذا ترك الواجب عليه، مستوجب للعقاب بالنار. هـ. وقال أيضاً: إنما صاحب الفترة بفرض أنه آدمي، لم يصل إليه: أن الله بعث رسولاً، ولا دعا إلى دين- وهذا قليل الوجود- إلا إن شذ في أطراف الأرض، والمواضع المنقطعة عن العمران. هـ.
والحاصل: أن مَن بلغه خبر الشرائع السابقة، والدعاء إلى توحيد الله، لا عذر له، وإنما بُعثت الرسل بعد ذلك تجديداً، ومبالغة في إزاحة العذر، وإكمال البيان. قاله المحشي.
الإشارة: وما يستوي الأعمى، الذي لا يرى إلا حس الكائنات، والبصير، الذي فتحت بصيرته، فشاهد المكوّن، ولم يقف مع حس الكون، ولا الظلمات: المعاصي والغفلة ودائرة الحس، ونور اليقظة والعفة والمعرفة، ولا ظل برد الرضا والتسليم، وحرور التدبير والاختيار، وما يستوي الأحياء، وهم العارفون بالله، الذاكرون الله، والأموات الجاهلون، أو الغافلون. قال القشيري: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ.. الآية، كذلك لا يستوي الموصول بنا والمشغول عنَّا، والمجذوبُ إلينا والمحجوبُ عنَّا، ومَن أشهدناه حقَّنا، ومَن أغفلنا قلبَه عن ذِكْرِنا. هـ.
(٢) ما بين المعقوفتين أثبته من النسخة التيمورية، وهو مطموس فى النسخ الأخرى. قلت: وحديث هرقل أخرجه البخاري فى (بدء الوحى، باب ٦، ح ٧) ومسلم فى (الجهاد، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام ٣/ ١٣٩٣- ١٣٩٧، ح ١٧٧٣) عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
ثم سلّى نبيه لأنه لمّا أنذر قومه قابلوه بالتكذيب، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ أي: قومك فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم، حال كونهم قد جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحة، وَبِالزُّبُرِ وبالصحف وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي: التوراة، والإنجيل، والزبور. ولَمَّا كانت هذه الأشياء من جنسهم، أسند المجيء بها إليهمْ إسناداً مطلقاً، وإن كان بعضُها في جميعهم، وهي البينات، وبعضها في بعضهم، وهي الزُبُر والكتاب. ويجوز أن يراد بالزُبر والكتاب واحد، والعطف لتغاير الوصفين، فكونها زُبُر باعتبار ما فيها من المواعظ التي تزير القلوب، وكونها كتباً منيرة لِمَا فيها من الأحكام والبراهين النيِّرة. ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: ثم عاقبتُ الكفرة بأنواع العقاب، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري عليهم، وتعذيبي لهم؟ والاستفهام للتهويل.
الإشارة: تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية. فأولياء كل زمان يتسلُّون بمَن سلف قبلهم، فقد قُتل بعضهم، وسُجن بعضهم، وأُجلي بعضهم، إلى غير ذلك زيادة في مقامهم وترقية بأسرارهم. والله عليم حكيم.
ثم ذكر دلائل قدرته على إهلاك من خالف أمره، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٢٧]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء فَأَخْرَجْنا بِهِ بالماء ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أي: أجناسها، كالرمان، والتفاح، والتين، والعنب، وغيرها مما لا يُحصى، أو: ألوانها: هيئاتها من الحُمرة والصفرة ونحوهما. وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ طُرق مختلفة اللون. جمع: جُدَّة، كمُدَّةٍ ومُدَدٍ. والجُدة: الطريقة والخطة، تكون في الجبل، تخالف لون ما يليها. وكل طريقة من سواد أو بياض فهي جُدة. قاله الهروي. وهي مبتدأ وخبر، أي: وطرق بِيضٌ وَحُمْرٌ كائنة من الجبال.
وَغَرابِيبُ سُودٌ أي: ومنها غرابيب سود، أي: ومن الطرق سود غرابيب جمع: غربيب، وهي الذي أبعد في السواد وأغرب، ومنه: الغراب. قال الهروي: هي الجواد ذوات الصخور السود، والغربيب: شديدة السواد. هـ.
وفي الصحاح: تقول هذا أَسود غربيب، أي: شديد السواد، وإذا قلت: غرابيب سود تجعل السود بدلاً من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم. هـ. تقول: أصفر فاقع، وأسود حالك، ولا يتقدم الوصف، ونقل الكواشي عن أبي عبيد:
أن في الآية تقديماً وتأخيراً، تقديره: وسود غرابيب. وفائدته: أن يكون المؤكد مضمراً، والمظهر تفسيراً له، فيدل على الاعتناء به، لكونهما معاً يدلان على معنىً واحد هـ. ولا بد من تقدير حذف مضاف في قوله: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ أي: من الجبال ذو جدد بيض، وحمر، وسود غرابيب حتى يؤول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال: ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٢٨]
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، أي: ومنهم صنفٌ مختلف ألوانه بالحمرة والصفرة والبياض والسواد. كَذلِكَ أي: كاختلاف الثمرات والجبال. قال القشيري: تخصيص الفعل بهيئته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه. فإتقان الفعل وإحكامه شواهد الصنع وإعلامه. وكذلك أيضاً الناس والدواب والأنعام، بل جميع المخلوقات، متجانس الأعيان، مختلف الصفات، وهو دليل ثبوت منشئها بنعت الجلال هـ.
الإشارة: ألم تر أن الله أنزل من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية، فأخرجنا به ثمرات، وهي العلوم والأذواق والوجدان، مختلف ألوانها، فمنها علوم الشرائع، وتحقيق مسائلها، ومنها علم العقائد، وتشييد أدلتها وبراهينها، ومنها علوم اللسان بإتقان قواعدها، ومنها علم القلوب وتصفيتها من العيوب، وهو علم الطريقة، ومنها علم الأسرار، وهي أسرار الذات والصفات، وهو علم الحقيقة. ومن جبال العقل طُرق بيض، وحمر، وسود، فالبيض: طرق الكشف والبيان، وحلاوة الذوق والوجدان، والحُمر: طُرق الدليل والبرهان لأنها قد تظهر وتخفى، والسود الغرابيب: عقول
ولمّا كان النظر في هذه المصنوعات إنما يكون بالعلم، ذكر أهله، فقال:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ...
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ أي: يخافه مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ لأنهم هم الذين يتفكرون في عجائب مصنوعاته، ودلائل قدرته، فيعرفون عظمته وكبرياءه، وجلاله وجماله، ويتفكرون فيما أعد الله لمَن عصاه من العذاب ومناقشة الحساب، وفيما أعد لمَن خافه وأطاعه من الثواب، وحسن المآب، فيزدادون خشية، ورهبة، ومحبة، ورغبة في طاعته، وموجب رضوانه، دون مَن عداهم من الجهّال. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
«أعلمكم بالله أشدكم له خشية» «١» وقال صلى الله عليه وسلم: «رأس الحكمة مخافة الله» «٢».
وقال الربيع بن أنس: مَن لم يَخشَ الله فليس بعالم، وقال ابن عباس في تفسير الآية: كفى بالزهد عِلماً، وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله عِلماً، وبالاعتذار جهلاً. وفي الحِكَم: «خيرُ علم ما كانت الخشية معه». وقال في التنوير: اعلم أن العلم حيثما تكرر في الكتاب والسُنَّة فإنما المراد به العلم النافع، الذي تٌقارنه الخشية، وتكتنفه المخافة. قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ. بيّن سبحانه أن الخشية تلازم العلم، وفهم من هذا أن العلماء إنما هم أهل الخشية. هـ.
وقال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه: واعلم أن العلم النافع، المتفق عليه فيما سلف وخلف، إنما هو العلم الذي يؤدي بصاحبه إلى الخوف والخشية، وملازمة التواضع والذلة، والتخلُّق بأخلاق الإيمان، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا والزهادة فيها، وإيثار الآخرة عليها، ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى، إلى غير ذلك من الصفات العلية، والمناحى السنية. هـ.
(٢) أخرجه البيهقي فى الشعب (١/ ٤٧١/ ح ٧٤٣، ٧٤٤) عن ابن مسعود، موقوفا ومرفوعا. قال العراقي فى المغني: رواه أبو بكر بن لال الفقيه فى مكارم الأخلاق، والبيهقي فى الشعب، وضعّفه من حديث ابن مسعود، ورواه فى دلائل النبوة، من حديث عقبة بن عامر، ولا يصح أيضا.
وتقديم اسم الله تعالى، وتأخير العلماء، يُؤذِن أن معناه: إن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم.
ولو عكس، بأن قال: إنما يخشى العلماءُ الله، لكان المعنى: أنهم لا يخشون إلا الله.
وقرأ أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز: بنصب «العلماء» ورفع «الله». والخشية في هذه القراءة بمعنى التعظيم.
والمعنى: إنما يعظم الله من عباده العلماء. وعنه صلى الله عليه وسلم: «يقول الله للعلماء يوم القيامة- إِذا قَعَدَ على كُرسيِّه، يفصل قضاء عباده: إني لم أجعلْ عِلْمي وحِلْمي فِيكُمْ إلا وأنا أُريدُ أن أغفرَ لكم، على ما كان فيكم، ولا أبالي» «١»، قال المنذري: انظر إلى قوله: «علمي وحلمي» يتضح لك بإضافته إليه أنه لم يرد به علم أكثر أهل الزمان المجرّد عن العمل به والإخلاص. وفي رواية: «لم أجعل حكمتي فيكم إلا لخير أُريده بكم، ادخلوا الجنة بما فيكم». وقال- عليه الصلاة والسلام-: «يُوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء، فيرجع مداد العلماء على دماء الشهداء» «٢».
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ، هو تعليل لوجوب الخشية لدلالته على عقوبة العصاة لعزته وغلبته، وإثابة أهل الطاعة، والعفو عنهم لعظيم غفرانه، والمعاقب والمثيب حقه أن يُخشى.
الإشارة: العلماء على قسمين علماء بأحكام الله، وعلماء بالله، العلماء بالأحكام يخشون غضبه وعقابه، والعلماء بالله يخشون إبعاده واحتجابه، العلماء بالأحكام يتقون مواطن الآثام، والعلماء بالله يتقون سوء الأدب في حضرة الملك العلاّم. فخشية العلماء بالله أرق وأشد. العلماء بالله أخذوا علمهم من الله، والعلماء بالأحكام أخذوا علمهم عن الأموات. قال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه: في علماء أهل الرواية: مساكين أخذوا علمهم ميت عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. هـ.
(٢) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح/ ١٠٠٢٦) للمرهبى، عن عمران بن حصين، وابن عبد البر، فى العلم، عن أبى الدرداء، وابن الجوزي فى العلل، عن النعمان بن بشير، وضعّفه.
قال الورتجبي: الخوف عموم، والخشية خصوص. وقد قرن سبحانه الخشية بالعلم، أي: العلم بالله وجلاله وقدره وربوبيته وعبوديته له. وحقيقة الخشية: وقوع إجلال الحق في قلوب العارفين، ممزوجاً بسنا التعظيم، ورؤية الكبرياء والعظمة، ولا يحصل ذلك إلا لمَن شاهد القدم، والأزل، والبقاء، والأبد، فمَن زاد علمه بالله زاد خشية، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعرفكم بالله وأخشاكم منه». هـ. وفي الحديث: قيل يا رسول الله: أيُّ الأَعْمَال أَفْضَلُ؟ قال: «العلم» قيل: أيُّ العلم؟ قال: «العلم بالله سبحانه» «٢». وقال صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعُه؟ والله إني لأعلمُكم بالله، وأشدُّكم له خشيةً» «٣».
ثم قال «٤» : عن جعفر الصادق: العلم أمْرُ تركِ الحرمة في العبادات، وترك الحرمة في الحياء من الحق، وترك الحرمة في متابعة الرسول، وترك الحرمة في خدمة الأولياء الصدّيقين. هـ. ومعى كلامه: أن العلم الحقيقي هو الذي يأمن صاحِبُه من انتهاك حرمة العبادات، ومِن هتْك حرمة الاحتشام من الله ورسوله وأوليائه. ومَن أراد من العلماء السلامة من الاغترار بالعلم فليطالع شرح ابن عباد، في قول الحِكَم: «العلم إن قارنته الخشية فلك، وإلا، فعليك». وبالله التوفيق.
(٢) ذكره ابن عراق فى تنزيه الشريعة (كتاب العلم، ١/ ٢٧٨، القسم الثالث) وعزاه لابن حبان، والديلمي عن أنس، عن طريق عباد ابن عبد الصمد. قال فى تنزيه الشريعة (١/ ٧٠) :«عباد بن عبد الصمد عن أنس، بنسخة، أكثرها موضوع. قاله ابن حبان».
قلت: معني الحديث صحيح.
(٣) أخرجه البخاري فى (الاعتصام، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو فى الدين والبدع، ح ٧٣٠١)، ومسلم فى (الفضائل، باب علمه ﷺ بالله وشدة خشيته، ٤/ ١٨٢٩، ح ٢٣٥٦) من حديث السيدة عائشة بلفظ: «... لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية». [.....]
(٤) أي: الورتجبي.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي: يُداومون على تلاوة القرآن وَأَقامُوا الصَّلاةَ أتقنوها في أوقاتها، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ فرضاً ونفلاً سِرًّا وَعَلانِيَةً مسرّين النفل، ومعلنين الفرض، ولم يقنعوا بتلاوته عن العمل به. وخبر «إن» : قوله: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ لن تكسد، وهو ثواب أعمالهم، يعني: يطلبون تجارة ينتفي عنها الكسد، وتنفق عند الله.
لِيُوَفِّيَهُمْ متعلق ب: «تبور»، أي: ليوفيَهم بإنفاقها عند الله أُجُورَهُمْ ثواب أعمالهم وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بتفسيح القبور، أو: تشفيعهم في أهلهم، ومَنْ أحسن إليهم، أو: تضعيف حسناتهم، أو: بتحقيق وعد لقائه.
أخرج ابن أبي شيبة عن بريدة، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة، حين ينشق عنه القبر، كالرجل الشاحب، يقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلتك، فإنَّ كل تاجر وراء تجارته. قال: فيُعطى المُلك بيمينه، والخُلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويُكسى والداه حُلَّتين، لا تُقوّم لهما الدنيا، فيقولان: بِمَ كُسِينَا هذا؟ فيقال لهما: بأخْذِ وَلَدِكُما القرآنَ. ثم يقال له: اقرأ، واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود مادام يقرأ» «١».
وذُكر في بعض الأخبار: أن حملة القرآن يُحشرون يوم القيامة على كثبان المسك، وأنوارُ وجوههم تغشى النظار، فإذا أتوا إلى الصراط تلقتهم الملائكة الذين وُكلوا بحملة القرآن، فتأخذ بأيديهم، وتُوضع التيجان على
إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ، غفور لهفواتهم، شكور لأعمالهم، يُعطي الجزيل، على العمل القليل.
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي: القرآن، و «مِن» : للتبيين، هُوَ الْحَقُّ لا مرية فيه، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما تقدمه من الكتب، إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ عالم بالظواهر والبواطن، فعلِمَك وأبصر أحوالك، ورآك أهلاً لأن يُوحي إليك هذا الكتاب المعجز، الذي هو عِيار على سائر الكتب.
الإشارة: كل ما ورد في فضل أهل القرآن، فالمراد به في حق مَن عَمِلَ به، وأخلص في قراءته، وحافظ على حدوده، ورعاه حق رعايته. وقد ورد فيمن لم يعمل به، أو قرأه لغير الله، وعيد كبير، وورد أنهم أول مَن يدخل جهنم. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرَّحمن الفاسي، بعد ذكر الحديثين في فضل حامل القرآن: وهذا مقيد بالعمل، أي: فإنَّ منزلتك عند آخر آية مما عملتَ، لا مما تلوت بلسانك وخالفتَ بعملك لأنه لو كان كذلك لا نخرقت أصول الدين، ويؤدي إلى أن مَن حفظ سرد القرآن اليوم، يكون أفضل من كثير من الصحابة الأخيار، والصالحين الأبرار فإن كثيراً من خيارهم مات قبل حفظ جميعه. هـ.
ثم فصّل أحوالهم، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)
ثم رتَّبهم مراتب، فقال: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالتقصير في العمل به، وهو المرجأ لأمر الله، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ، بأن جمع بين علمه والعمل به، وإرشاد العباد إلى اتباعه. وهذا أوفق بالحديث، فقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر- بعد قراءة هذه الآية:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» «١» وعنه ﷺ أنه قال: «السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة، والظالمُ يُحبس، حتى يظن أنه لن ينجو، ثم تناله الرحمة، فيدخل الجنة» رواه [أبو الدرداء] «٢». وقال ابن عباس رضي الله عنه: السابق، المخلص، والمقتصد: المرائي، والظالم: الكافر النعمة غير الجاحد له، لأنه حَكَمَ للثلاثة بدخول الجنة. وقال الربيع بن أنس: الظالم: صاحب الكبائر، والمقتصد: صاحب الصغائر، والسابق: المجتنب لهما. وقال الحسن: الظالم: مَن رجحت سيئاته، والسابق:
مَن رجحت حسناته، والمقتصد: مَن استوت حسناته وسيئاته. وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال: كلهم مؤمنون.
وأما صفة الكفار فبعد هذا، وهو قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ «٣». وأما الطبقات الثلاث فهم من الذين اصطفى من عباده لأنه قال: فمنهم، ومنهم، ومنهم، والكل راجع إلى قوله: الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فهم أهلُ الإيمان، وعليه الجمهور.
وإنما قدّم الظالم للإيذان بكثرتهم، وأنّ المقتصد: قليلٌ بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل. وقال ابن عطاء: إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله. وقيل: إنما قدّمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربِّه. وقيل: لأن أول
(٢) فى الأصول: [أبو داود] والصواب ما أثبت، قلت: والحديث أخرجه أحمد فى المسند (٥/ ١٩٤، ١٩٨ و ٦/ ٤٤٤)، قال الهثيمى فى المجمع (٧/ ٩٦) :«رواه أحمد بأسانيد، رجال أحدها رجال الصحيح». وأخرجه الحاكم (٢/ ٤٢٦) والطبري (٢٢/ ١٣٧) والبغوي فى التفسير (٦/ ٤٢١) كلهم من حديث أبى الدرداء رضي الله عنه.
(٣) الآية ٣٦ من سورة فاطر.
السابق: الذي اشتغل بمعاده، والمقتصد: الذي اشتغل بمعاشه ومعاده، والظالم: الذي اشتغل بمعاشه عن معاده.
وقيل: الظالم: الذي يعبده على الغفلة والعادة، والمقتصد: الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق: الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق. وقيل: الظالم: مَن أخذ الدنيا حلالاً وحراماً، والمقتصد: المجتهد ألا يأخذها إلا من حلال، والسابق: مَن أعرض عنها جملة.
وقيل: الظالم: طالب الدنيا، والمقتصد: طالب الآخرة، والسابق: طالب الحق لا يبغي به بدلاً. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. وقال عكرمة والحسن وقتادة: الأقسام الثلاثة في جميع العباد فالظالم لنفسه: الكافر، والمقتصد:
المؤمن العاصي، والسابق: التقي على الإطلاق. وقالوا هذه الآية نظير قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً «١» والتحقيق ما تقدّم.
وقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بأمره، أو: بتوفيقه وهدايته ذلِكَ أي: إيراث الكتاب والاصطفائية. أو السبق إلى الخيرات هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي لا أكبر منه، وهو جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها أي: الفرق الثلاث لأنها ميراث، والعاق والبار في الميراث سواء، إذا كانوا مقرين في النسب. وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول.
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ جمع أَسورة، جمع سوار، مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً أي: من ذهب مرصَّع باللؤلؤ. وقرأ نافع بالنصب «٢»، عطف على محل أساور، أي: يحلون أساور ولؤلؤاً. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ لِمَا فيه من اللذة والليونة والزينة.
وَقالُوا بعد دخولهم الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ خوف النار، أو: خوف الموت، أو:
الخاتمة، أو: هَم الرزق. والتحقيق: أنه يعم جميع الأحزان والهموم، دنيوية أو أخروية، وعن ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على أهل لا إلا الله وحشة، في قبورهم، ولا في محشرهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم، وهم ينفضون التراب عن وجوههم، فيقولون: الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عنا الحزن» «٣». إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، يغفر الجنايات، وإن كثرت، ويقبل الطاعات، ويشكر عاملها، وإن قلَّت. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ
(٢) وهى أيضا قراءة عاصم. وقرأ الباقون بالجر عطفا على «ذهب». انظر الإتحاف (٢/ ٣٩٣).
(٣) أخرجه البغوي فى تفسيره (٦/ ٤٢٤) وعزاه الحافظ ابن حجر، فى الكافي الشاف (ص ١٣٩) لأبى يعلى، وابن أبى حاتم، والبيهقي فى أول الشعب، والطبراني فى الأوسط.
وأخرج البيهقي: أن رجلاً قال يا رسول الله: إن النوم مما يُقِرُّ الله به أعيننا، فهل في الجنة من نوم؟ فقال: «إن النوم شريك الموت- أو أخو الموت- وإن أهل الجنة لا ينامون- أو: ليس في الجنة موت». وفي رواية أخرى، قال: فما راحتهم؟ قال: «ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة» «١»، فالنوم ينشأ من نصب الأبدان، ومِن ثِقل الطعام، وكلاهما منتفيان في الجنة.
قال الضحاك: إِذَا دَخَلَ أَهْلَ الجَنَّة الجنة، استقبلهم الولدان والخدم، كأنهم اللؤلؤ المكنون، فيبعث الله ملَكاً من الملائكة، معه هدية من رب العالمين، وكسوة من كسوة الجنة، فيلبسه، فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك: كما أنت، فيقف، ومعه عشرة خواتم، فيضعها في أصابعه، مكتوب: طبتم فادخلوها خالدين، وفي الثانية: ادخلوها بسلام، ذلك يوم الخلود، وفي الثالثة: رُفعت عنكم الأحزان والهموم، وفي الرابعة: وزوجناهم بحور عين، وفي الخامسة: ادخلوها بسلام آمنين، وفي السادسة: إني جزيتهم اليوم بما صبروا، وفي السابعة: أنهم هم الفائزون. وفي الثامنة: صرتم آمنين لا تخافون أبداً، وفي التاسعة: رفقتم النبيين والصديقين والشهداء، وفي العاشرة: سكنتم في جوار مَن لا يؤذي الجيران. فلما دخلوا قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.. إلى: لُغُوبٌ. هـ.
الإشارة: قال الورتجبي: الاصطفائية تقدمت الوراثة لمحبته ومشاهدته، ثم خاطبهم بما له عندهم وما لهم عنده. وهذا الميراث الذي أورثهم من جهة نسب معرفتهم به، واصطفائيته إياهم، وهو محل القرب والانبساط، لذلك قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا، ثم قسمهم على ثلاثة أقسام: ظالم، ومقتصد، وسابق. والحمد لله الذي جعل الظالم من أهل الاصطفائية. ثم قال: فالظالم عندي- والله أعلم- الذي وازى القدم بشرط إرادة حمل وارد جميع الذات والصفات، وطلب كنه الأزلية بنعت إدراكه، فأي ظالم أعظم منه؟ إذ طلب شيئاً مستحيلاً، ألا ترى كيف وصف سبحانه آدم بهذا الظلم بقوله: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا «٢»، وهذا من كمال شوقه إلى حقيقة الحق، وكمال عشقه، ومحبة جلاله. هـ.
(٢) الآية ٧٢ من سورة الأحزاب.
فالأقسام الثلاثة تجري في المتوجهين فالظالم لنفسه: مَن غلب سُكْره على صحوه في بدايته، والمقتصد مَن غلب صحوه على سُكْره في بداية سيره، والسابق مَن اعتدل سُكره مع صحوه في نهايته أو سيره.
أو الظالم: السالك المحض، والمقتصد: المجذوب المحض، والسابق: الجامع بينهما إذ هو الذي يصلح للتربية. أو الظالم: الذي ظاهره خيرٌ من باطنه، والمقتصد: الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق: هو الذي باطنه خير من ظاهره.
وعن عليّ- كرّم الله وجهه-: الظالم: الآخذ بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والمقتصد: الآخذ بأقواله وأفعاله، والسابق:
الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه. وقال القشيري: ويقال: الظالم: مَن غلبت زلاَّته، والمقتصد: مَن استوت حالاته، والسابقُ: مَن زادت حسناته. أو: الظالمُ: مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ: مَن رغب في عقباه، والسابق: مَن آثر على الدارين مولاه. أو: الظالم: مَن نَجَمَ كوكبُ عقله، والمقتصد: مَن طَلَعَ بدرُ عِلْمه، والسابق: مَن ذَرَّت شمسُ معرفته.
أو: الظالم: مَن طلبه، والمقتصد: مَن وجده، والسابق: مَن بقي معه. أو: الظالم: مَن ترك الزلة، والمقتصد: مَن ترك الغفلة، والسابق: مَن ترك العلاقة. أو: الظالم: مَن جاد بنفسه، والمقتصد: مَن لم يبخل بقلبه، والسابق: مَن جاد بروحه. أو: الظالم: مَن له علم اليقين، والمقتصد: مَن له عين اليقين، والسابق: مَن له حق اليقين. أو: الظالم.
بترك الحرام، والمقتصد: بترك الشُّبهة، والسابق: بترك الفضل في الجملة.
أو: الظالم: صاحب سخاء، والمقتصد: صاحب جود، والسابق: صاحب إيثار. أو: الظالم: صاحب رجاء، والمقتصد: صاحب بسط، والسابق: صاحب أُنس. أو: الظالم: صاحب خوف، والمقتصد: صاحب خشية، والسابق:
صاحب هيبة. أو: الظالم له المغفرة، والمقتصد: له الرحمة، والسابق: له القُربة، أو: الظالم: طالب النجاة، والمقتصد: طالب الدرجات، والسابق: طالب المناجاة. أو: الظالم: أمن من العقوبة، والمقتصد: طالب المثوبة، والسابق: متحقق بالقربة. أو: الظالم: صاحب التوكُّل، والمقتصد: صاحب التسليم، والسابق: صاحب التفويض، أو:
الظالم: صاحب تواجد، والمقتصد: صاحب وجد، والسابق: صاحب وجود- غير محجوب عنه البتة-. أو: الظالم:
مجذوب إلى فعله، والمقصد مكاشفٌ بوصفه، والسابق: مستهلك في حقه، الذي هو وُجُودُه. أو: الظالم: صاحب
والتحقيق: أن الأقسام الثلاثة تجري في كل من العارفين، والسائرين، والعلماء، والعُبّاد، والزهّاد، والصالحين.
إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية. ذلك السبق إلى الله هو الفضل الكبير، جنات المعارف يدخلونها، يُحلَّون فيها فيها من أساورَ من ذهب، وهي الأحوال، ولُؤلؤاً، وهي المقامات، ولباسهم فيها حرير، وهي خالص أعمال الشريعة ولُبها. وقالوا: الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عنا الحزَن إذ لا حزن مع العيان، ولا أغيار مع الأنوار، ولا أكدار مع الأسرار، ما تجده القلوب من الأحزان فلما مُنعت من العيان. ولابن الفارض رضي الله عنه في وصف الخمرة:
وإِنْ خَطَرَتْ يوما علَى خاطر امرئ | أقامتْ بها الأفراحُ وارْتحَلَ الهَمُّ |
فما سكَنتْ والهمَ يوماً بموضِعٍ، | كذلك لم يسكُنْ مع النَّغَم الغَم «١» |
ثم ذكر أضدادهم، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ، يُخلدون فيها، لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي: لا يحكم بموت ثان فيستريحوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ساعة، بل كلما خبت زِيد إسعارها، وهذا مثل قوله: لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ «١»، وذكر عياض انعقاد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يُثابون عليها. ولا تخفيف عذاب. وقد ورد في الصحيح سؤال عائشة عن ابن جدعان، وأنه كان يصل الرحم، ويطعم المساكين، فهل ذلك نافعُه، فقال عليه السلام: «لا، فإنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يومَ الدين». ثم قال عياض: ولكن بعضهم يكون أشد عذاباً، بحسب جرائمهم.
وذكر أبو بكر البيهقي: أنه يجوز أن يراد بما ورد في الآيات والأخبار من بطلان خيرات الكفار: أنهم لا يتخلصون بها من النار، ولكن يُخفف عنهم ما يستوجبونه بجناية سوى الكفر، ودافعه المازري. قال شارح الصغاني بعد هذا النقل: وعلى ما قاله عياض، فما ورد في أبي طالب من النفع بشفاعته صلى الله عليه وسلم، بسبب ذبِّه عنه ونصرته له، مختص به. هـ. ويرد عليه ما ورد من التخفيف في حاتم بكرمه، فالظاهر ما قاله البيهقي. والله أعلم.
ومثل ما قاله في أبي طالب، قيل في انتفاع أبي لهب بعتق ثويبة، كما في الصحيح «٢».
والحاصل: أن التخفيف يقع في بعض الكفار، لبره في الدنيا، تفضلاً منه تعالى، لا في مقابلة عملهم لعدم شرط قبوله. انظر الحاشية.
كَذلِكَ أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع، نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ مبالغ في الكفران وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها: يستغيثون، فهو يفتعلون، من: الصراخ، وهو الصياح بجهد ومشقة. فاستعمل في الاستغاثة لجهر صوت المستغيث. يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا منها، ورُدنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، فنؤمن بعد
(٢) كانت السيدة (ثويبة) مولاة لأبى لهب، عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعتقها حين بشرته بمولد النبي صلى الله عليه وسلم- على أصح الأقوال- حين قالت لأبى لهب:
أشعرت أن آمنة قد ولدت غلاما لأخيك عبد الله، فقال لها: اذهبي فأنت حرة. ويؤكد ذلك ما أخرجه الإمام البخاري فى (النكاح، باب وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ح ٥١٠١) عن عروة بن الزبير «أن ثوبية مولاة أبى لهب، وكان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب، أريه بعض أهله بشر حيبة. قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم [راحة- رخاء] غير أنى سقيت فى هذه بعتقي ثويبة» وأشار إلى النقيرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع.
وقد نظم شمس الدين محمد بن ناصر فى هذا المعنى شعرا، قال فيه:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه | وتبت يداه فى الجحيم مخلدا |
أتى أنه فى يوم الاثنين دائما | يخفف عنه للسرور بأحمدا |
فما الظن بالعبد الذي كان عمره | بأحمد مسرورا ومات موحدا |
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي: الرسول عليه السلام، أو: الكتاب، وقيل: الشيخوخة، وزوال السن، وقيل: الشيب. قال ابن عزيز: وليس هذا شيء لأن الحجة تلحق كل بالغ وإن لم يشب. وإن كانت العرب تسمي الشيب النذير. هـ. ولقوله تعالى بعدُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ، فإنه يتعين كونه الرسول، وهو عطف على معنى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ لأن لفظه استخبار، كأنه قيل: قد عمَّرناكم وجاءكم النذير. قال قتادة: احتج عليهم بطول العمر، وبالرسول، فانقطعت حجتهم. قال تعالى: فَذُوقُوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ يدفع العذاب عنهم.
الإشارة: الذين كفروا بطريق الخصوصية، وأنكروا وجود التربية بالاصطلاح، فبقوا مع نفوسهم، لهم نار القطيعة ولو دخلوا الجنة الحسية، لا يُقضى عليهم فيموتوا، ويرجعوا إلى الاستعداد بدخول الحضرة، ولا يُخفف عنهم من عذاب حجاب الغفلة، بل يزيد الحجاب بتراكم الحظوظ، ونسج الأكنة على القلوب، كذلك نجزي كل كفور وجحود لطريق التربية. وهم يصطرخون فيها، بلسان حالهم، قائلين: ربنا أخرجنا، ورُدّنا إلى دار الفناء، نعمل صالحاً غيرَ الذي كنا نعملُ، حتى ندخل، كما دخلها أهل العزم واليقظة؟ فيقال لهم: أو لم نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تذكر، وجاءكم النذير، مَن ينذركم وبال القطيعة، ويُعرفكم بطريق الحضرة، فأنكرتموه، فذُوقوا وبال القطيعة، فما للظالمين من نصير.
ولمّا كان الكفر والإيمان من أعمال القلوب، قد يخفى على الناس، أخبر أن الله هو مطلع على ما فيها، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩)
(٢) أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه فى العمر، ح ٦٤١٩) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
أي: ما غاب فيهما عنكم، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
، تعليل لِمَا قبله لأنه إذا عَلِمَ ما في الصدور، وهي أخفى ما يكون، فقد عَلِمَ كل غيب في العالم. وذات الصدور: مضمراتها ووساوسها. وهي تأنيث «ذو»، بمعنى: صاحب الوساوس والخطرات، تصحب الصدور وتُلازمها في الغالب، أي: عليم بما في القلوب، أو بحقائقها، على أن «ذات» بمعنى الحقيقة.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي: جعلكم خلفاء عنه في التصرُّف في الأرض، قد ملككم مقاليد التصرُّف فيها، وسلطكم على ما فيها، وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة. فَمَنْ كَفَرَ منكم، وغمط مثل هذه النعمة السنيّة، فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ فوبالُ كفره راجعٌ عليه، وهو مقتُ الله، وخسران الآخرة، كما قال تعالى: وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً، وهو أشد البغض، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً: هلاكاً وخسراناً.
الإشارة: إن الله عالم بما غاب في سموات الأرواح، من أسرار العلوم والمكاشفات، والاطلاع على أسرار الذات، وأنوار الصفات، وما غاب في أرض النفوس من الموافقات أو المخالفات، إنه عليم بحقائق القلوب، من صفائها وكدرها، وما فيها من اليقين والمعرفة، وضدهما.
قال القشيري: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
، بإخلاص المخلصين، وصدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وجحد الكافرين، ومَن يريد بالناس شرًّا، ومَن يُحْسِن بالله ظَنًّا. هـ.
وقال في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ: أهل كلِّ عصرٍ خليفة عصر تقدمهم، فَمِنْ قومِ هم أنفسهم جَمال، ومن قوم أراذل وأنذال، والأفاضلُ زمانهم لهم محنة، والأراذلُ هم لزمانهم محنة. وحاصل كلامه:
أن قوماً عرفوا حق الخلافة، فقاموا بحقها، وشكروا الله عليها، بالقيام بطاعته، فكانوا في زمانهم جمالاً لأنفسهم، ولأهل عصرهم، لكنهم لَمَّا تحمّلوا مشاق الطاعات، وترادف الأزمات، كان زمانهم لهم محنة. وقوماً لم يعرفوا حق الخلافة، فاشتغلوا بالعصيان، فانتحس الزمان بهم، فكانوا محنة لزمانهم.
ثم ردّ على مَن كفر بالشرك، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ أي: أخبروني عن آلهتكم التي أشركتموها في العبادة مع الله، الَّذِينَ تَدْعُونَ أي: تعبدونهم مِنْ دُونِ اللَّهِ، ما سندكم في عبادتهم؟ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أي: جزء من الأرض، استبدُّوا بخلقه حتى استحقُّوا العبادة بسبب ذلك، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي: أم لهم مع الله شركة في خَلْق السموات حتى استحقُّوا أن يُعبدوا؟ بل لا شيء من ذلك، فبطل استحقاقها للعبادة. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه، فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب؟ قال ابن عرفة: هذا إشارة إلى الدليل السمعي، والأول إشارة إلى الدليل العقلي، فهم لم يستندوا في عبادتهم الأصنام إلى دليل عقلي ولا سمعي، بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ أي:
ما يَعِد الظالمون، وهم الرؤساء بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً باطلاً وتمويهاً، وهو قولهم: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «١». لَمَّا نفى أنواع الحجج العقلية والسمعية، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تقرير الأسلاف الأخلاف، والرؤساء الأتباع بأنهم شفعاء عند الله تُقربهم إليه. هذا هو التقليد الردئ، والعياذ بالله.
الإشارة: كل مَن ركن إلى مخلوق، أو اعتمد عليه، يُتلى عليه: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ.. الآية. وفي الحِكَم: «كما لا يقبل العمل المشترك، لا يحب القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يُقبل عليه».
ثم ذكر من يستحق العبادة وحده، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)
وَلَئِنْ زالَتا، على سبيل الفرض، إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، من بعد إمساكه. و «من» الأولى:
مزيدة، لتأكيد النفي، والثانية: ابتدائية، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً، غير معاجل بالعقوبة، حيث أمسكهما على مَن يشرك به ويعصيه، وكانتا جديرتين بأن تهدّ هدّاً، كما قال: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ.. «٢» الآية.
الإشارة: الوجود قائم بين سماء القدرة وأرض الحكمة، بين سماء الأرواح وأرض الأشباح، بين سماء المعاني وأرض الحس، فلو زال أحدهما لاختل نظام الوجود، وبطلت حكمة الحكيم العليم. الأول: عالم التعريف، والثاني:
عالم التكليف. الأول: محل التنزيه، والثاني: محل التشبيه، الأول: محل أسرار الذات، والثاني: محل أنوار الصفات، مع اتحاد المظهر إذ الصفات لا تفارق الموصوف، فافهم. وفي بعض الأثر: «إن العبد إذا عصى الله استأذت السماء أن تسقط عليه من فوقه، والأرض أن تخسف من تحته، فيمسكهما الله تعالى بحلمه وعفوه، ثم تلى الآية: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا إلى قوله: كانَ حَلِيماً غَفُوراً» هـ. بالمعنى.
ثم ذكر عناد قريش وعتوهم، تتميماً لقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ.. إلخ، فقال:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤)
(٢) الآية ٩٠ من سورة مريم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي: إقساماً وثيقاً، أو: جاهدين في أيمانهم:
لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ رسول لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ المهتدية، بدليل قوله: (أهدى) وقوله في سورة الأنعام: لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ «١» وذلك أن قريشاً قالوا قبل مبعث النبي ﷺ لَمَّا بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم: لعن الله اليهود والنصارى، أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم «٢»، أي: من الأمة التي يقال فيها: هي أهدى الأمم، تفضيلاً لها على غيرها في الهُدى والاستقامة. كما يقال للداهية العظيمة: هي أهدى الدواهي. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً أي: ما زادهم مجيء الرسول ﷺ إلا تباعداً عن الحق، وهو إسنادٌ مجازيّ إذ لا فاعل غيره.
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي: ما زادهم إلا تهورا للاستكبار ومكر السيّء. أو: مستكبرين وماكرين برسول الله ﷺ والمؤمنين، المكر القبيح، وهو إجماعهم على قتله. عليه الصلاة والسلام، وإذاية مَن تبعه.
وأصل قوله: (ومكر السيئ) : وأن مكروا المكر السيّء، فحذف الموصوف استغناء بوصفه، ثم أبدل «أن» مع الفعل بالمصدر، ثم أضيف إلى صفته اتساعاً، كصلاة الأولى، ومسجد الجامع. وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي: لا يحيط وينزل المكر السيّء إلا بمَن مكره، وقد حاق بهم يوم بدر. وفي المثل: مَن حفر حفرة وقع فيها.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ: ما ينتظرون إلا أن ينزل بهم ما نزل بالمكذبين الأولين، من العذاب المستأصل، كما هي سُنَّة الله فيمن كذّب الرسل. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا، بيّن أن سُنَّته- التي هي الانتقام من مكذِّبي الرسل- سُنَّة ماضية، لا يبدلها في ذاتها، ولا يحوّلها عن وقتها، وأنَّ ذلك مفعول لا محالة.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ممن كذَبوا رسلهم، كيف أهلكهم الله ودمرهم، كعاد، وثمود، وقرى قوم لوط. استشهد عليهم بما كانوا يُشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق، من آثار الماضين، وعلامات هلاكهم ودمارهم. وَقد كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً واقتداراً، فلم يتمكنوا من الفرار، وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ ليسبقه ويفوته مِنْ شَيْءٍ أيَّ شيء كان فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بأحوالهم قَدِيراً على أخذهم. وبالله التوفيق.
(٢) قاله الضحاك، فيما ذكره ابن كثير فى تفسيره (٣/ ٥٦٢).
ثم قال في قوله: أَوَلَمْ يَسِيرُوا.. الخ: ما خاب له وليٌّ، وما ربح له عدو، ولا تنال الحقيقةُ بمَن انعكس قَصْدُه، وارتدَ عليه كيدُه، دَمّر على أعدائه تدميراً، وأوسع لأوليائه فضلاً كبيراً. هـ.
ثم تمّم قوله: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً بقوله:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤٥]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا بما اقترفوا من المعاصي مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها على ظهر الأرض لأنه جرى ذكرها في قوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ «١»، مِنْ دَابَّةٍ من نسمة تدبُّ عليها. قيل: أهل المعاصي فقط من الناس، وقيل: من الجن والإنس.
والمشهور: أنه عام في كل ما يدب لأن الكل خُلق للآدمي. وعن ابن مسعود: (إِن الجُعل «٢» ليُعذب في جُحره بذنب ابن آدم) «٣»، يعني ما يصيبه من القحط، بشؤم معاصيه. وقال أبو هريرة: إن الحبارى «٤» لتموت هزالاً في وكرها بظلم الظالم. هـ.
(٢) الجعل: حيوان معروف كالخنفساء. انظر النهاية فى غريب الحديث (جعل ١/ ٢٧٧).
(٣) عزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٤٨٠) للفريابى، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم، وصححه.
(٤) الحبارى: طائر معروف، وهو على شكل الإوزة، برأسه وبطنه غبرة، ولون ظهره وجناحيه كلون السمانى غالبا. والجمع حبابير، وحباريات. انظر اللسان (حبر) مع تعليق محققه.
وقال: ابن الأثير فى النهاية (١/ ٣٢٨) :
وإنما خصها بالذكر لأنها أبعد الطير نجعة، فربما تذيح بالبصرة، ويوجد فى حوصلتها الحبة الخضراء، وبين البصرة وبين منابتها مسيرة أيام.
الإشارة: تعجيل العقوبة في دار الدنيا للمؤمن إحسان، وتأخيرها لدار الدوام استدراج وخذلان. فكل مَن له عناية سابقة عاتبه الله في الدنيا، بمصيبة في بدنه، أو ماله، أو في أهله، ومَن لا عناية له أُخرت عقوباته كلها لدار الجزاء. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه، وبسيدنا محمد نبيه- صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه.